فتح القدير للشوكاني

الشوكاني

الجزء الأول

الجزء الأول التعريف بالمؤلف والكتاب آ- التعريف بالمؤلف 1- اسمه ونسبه: هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني «1» . والشوكاني: نسبة إلى «عدني شوكان» أو إلى «هجرة شوكان» «2» ، وهما اسمان لقرية واحدة بينها وبين صنعاء دون مسافة يوم، وإليها نسب والده، وهي نسبة على غير قياس لأن النسب إلى المضاف يكون إلى صدره، ونسبة غير حقيقية «3» كما صرّح به أحد تلاميذه. والصنعاني: نسبة إلى صنعاء، إذ فيها نشأ، وفيها توفي ودفن، رحمه الله تعالى. 2- مولده ونشأته: ولد بهجرة شوكان «4» في وسط نهار الإثنين 28 من شهر ذي القعدة سنة 1173 هـ. ولا التفات إلى غير هذا التاريخ الذي وصلنا موثقا بخطه وخط ولده. ونشأ في حجر والده بصنعاء، وكان أبوه قاضيا وعالما، ومعروفا بالطيبة والصلاح، فتربّى الابن على العفاف والطهارة، والتفرّغ لطلب العلم، مكفيّا في بيت أبيه من جميع أسباب الحياة ووسائل الرزق.

_ (1) . الإمام الشوكاني من أعلام المسلمين الكبار، وكتابه «فتح القدير» أشهر من أن يعرّف، ولكننا أردنا أن نضع بين يدي القارئ حقائق تاريخية ودقائق علمية تزيده معرفة وتبصرة، وتملؤه حماسة ونشاطا. (2) . قال عنها في البدر الطالع (1/ 481) : «وهذه الهجرة معمورة بأهل الفضل والصلاح والدين من قديم الأزمان..» . (3) . يقول العلّامة حسين بن محسن السبعي الأنصاري، وهو تلميذ الإمام الشوكاني ونسبة صاحب الترجمة إلى شوكان ليست حقيقية، لأن وطنه ووطن سلفه وقرابته، بمكان عدني شوكان، بينه وبينها جبل كبير مستطيل، يقال له «هجرة شوكان» فمن هذه الحيثية كان انتساب أهله إلى شوكان. والله أعلم. (4) . كانت ولادته أثناء رحلة قام بها الأبوان إلى موطنهما الأصلي، وكانا قد استوطنا صنعاء من قبل.

3 - حياته العلمية ومناصبه:

وقد ابتدأ تحصيله العلميّ الواسع بقراءة القرآن وحفظه على جماعة من المعلمين، وختمه على الفقيه حسن ابن عبد الله الهبل، وجوّده على جماعة من مشايخ القرآن بصنعاء، ثم انتقل إلى حفظ كثير من المتون، «كالأزهار» للإمام مهدي في الفقه، و «مختصر الفرائض» للعصيفري، و «الملحة» للحريري، و «الكافية» و «الشافية» لابن الحاجب، و «التهذيب» للتفتازاني، و «التخليص» في علوم البلاغة للقزويني ... وغيرها. وقرأ عدة كتب في التاريخ والأدب، ثم شرع بالسّماع والطلب على العلماء البارزين في اليمن حتى استوفى كلّ ما عندهم من كتب، تشمل العلوم الدينية واللسانية والعقلية والرياضية والفلكية، وكان في هذه المرحلة يجمع بين التحصيل العلميّ والتدريس، فهو يلقي على تلاميذه ما تلقّاه بدوره عن مشايخه، حتى إذا استوفى كل ما عرفه أو سمع عنه من كتب تفرّغ لإفادة طلّاب العلم، فكانت دروسه اليومية تزيد على عشرة دروس في اليوم في فنون متعدّدة مثل التفسير، والحديث، والأصول، والمعاني، والبيان، والمنطق، وتقدّم للإفتاء وهو في نحو العشرين من عمره، ولم يعترض عليه شيوخه في ذلك. 3- حياته العلمية ومناصبه: تمتاز حياة الشوكاني العلمية بالجد والمثابرة، والحيوية والنشاط، والذكاء الفطريّ، وقد ظهر هذا في اتّساع ثقافته، وعمق تفكيره، وتصدّيه للإصلاح والاجتهاد، وقد لمسنا هذا من خلال نشأته حيث جمع بين الدراسة والتدريس، كما وفّق بين إلقاء الدروس اليومية العديدة والتأليف. ومن الثابت أنه لم يرحل في طلب العلم، وكان تحصيله مقتصرا على علماء صنعاء لعدم إذن أبويه له في السفر منها، وقد عوّض عن ذلك بالسّماع والإجازة والقراءة لكل ما وقعت عليه يده من الكتب، وفي مختلف العلوم، كما استوفى كلّ ما عند علماء اليمن من كتب ومعارف، وزاد في قراءته الخاصة على ما ليس عندهم. ولم يقتصر الشوكاني رحمه الله تعالى في حياته العلمية منذ شبابه وحتى وفاته على الجمع والمحاكاة، مثل الكثير من علماء عصره، بل دعا إلى ثورة عارمة في نبذ التعصب والتقليد، والنظر في الأدلة، والعودة إلى هدي الكتاب والسّنة. وهذا الموقف العلمي المتميّز أكسبه تحفزا زائدا واستحضارا دائما في مواجهة تحدّي الشانئين له من المقلدين والحاسدين، وجعله في طليعة المجدّدين المجتهدين، الذين أسهموا في إيقاظ الأمّة الإسلامية من سباتها العميق، في العصر الحديث. ورغم زهده في المناصب، وانعزاله عن طلّاب الدنيا ورجال الحكم والسياسة، وتفرغه للعلم، فإن الدنيا جاءته صاغرة، واختير للقضاء العام في صنعاء، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، ثم جمع بين القضاء والوزارة، فأصبح متوليا شؤون اليمن الداخلية والخارجية، وسار في الناس بأحسن سيرة، ممتعا بشخصية قوية، وسمعة طيبة، مضيفا إلى أمجاد أمته المسلمة تجربة فريدة فذة، تجمع بين العلم والعمل، والحكم والعدالة.

4 - مذهبه وعقيدته:

4- مذهبه وعقيدته: كان مذهب الشوكاني في مطلع حياته العلمية المذهب الزيديّ، وقد حفظ أشهر كتب المذهب، وألّف فيه كتبا، وبرع في مسائله وأحكامه حتى أصبح قدوة، ثم طلب الحديث وفاق فيه أهل زمانه من الزيدية وغيرهم، مما جعله يخلع ربقة التقليد، ويدعو إلى الاجتهاد ومعرفة الأدلة من الكتاب والسّنّة. ويظهر هذا الموقف الاجتهاديّ المتميز في رسالة سمّاها: «القول المفيد في حكم التقليد» وفي كتاب فقهيّ كبير سمّاه: «السيل الجرّار المتدفق على حدائق الأزهار» تكلّم فيه عن عيون المسائل الفقهية عند الزيدية، وصحّح ما هو مقيّد بالأدلة، وزيّف ما لم يكن عليه دليل. فقام عليه المقلدون والمتعصبون، يجادلونه ويصاولونه، ويتهمونه بهدم مذهب أهل البيت. ولكنه بقي ثابتا على موقفه لا يتزحزح عنه، وألّف كتابا جمع فيه محاسن أهل البيت سمّاه «درّ السّحابة في مناقب القرابة والصحابة» وأظهر فيه وجوب محبّة أهل البيت، ولزوم موالاتهم ومودّتهم مما دفع عنه تهمة التعصب حيال مذهب بعينه، وأنّ دعوته إلى الاجتهاد تشمل أهل المذاهب جميعا. أما عقيدة الشوكانيّ- رحمه الله تعالى- فكانت عقيدة السّلف، من حمل صفات الله تعالى الواردة في القرآن والسّنة الصحيحة على ظاهرها من غير تأويل ولا تحريف، وله رسالة في بيان ذلك اسمها: «التحف بمذهب السّلف» . وقد دعا إلى جانب ذلك إلى نبذ كلام المتكلمين، وتطهير عقيدة التوحيد من مظاهر الشرك، وتخليص ما دخل على حياة الناس وتدينهم من البدع والخرافات. ويظهر هذا جليا في كثير من كتبه، وبخاصة كتابه: «قطر الوليّ «1» على حديث الوليّ» . 5- مشايخه وتلاميذه: لقد كفانا الشوكاني رحمه الله تعالى مؤونة هذا البحث، وألّف كتابا في مشايخه وتلاميذه سمّاه: «الإعلام بالمشايخ الأعلام والتلاميذ الكرام» ، وترجم لبعضهم في كتابه: «البدر الطالع» ومن أبرز مشايخه. 1- والده علي بن محمد الشوكاني، المتوفى سنة 1211 هـ. 2- السيد عبد الرحمن بن قاسم المداني، المتوفى سنة 1211 هـ. 3- العلامة أحمد بن عامر الحدائي، المتوفى سنة 1197 هـ. 4- السيد العلامة إسماعيل بن الحسن بن أحمد ابن الإمام القاسم بن محمد، المتوفى سنة 1206 هـ. 5- العلامة القاسم بن يحيى الخولاني، المتوفى سنة 1209 هـ. 6- العلامة عبد بن إسماعيل النهمي، المتوفى سنة 1208 هـ.

_ (1) . الوليّ: قال في القاموس: الولي: المطر بعد المطر، والوليّ: اسم منه.

ومن أبرز تلاميذه:

7- العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي، المتوفى سنة 1208 هـ. 8- السيد الإمام عبد القادر بن أحمد الكوكبائي، المتوفى سنة 1207 هـ. 9- السيد العلامة علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن أحمد بن عامر، المتوفى سنة 1207 هـ. 10- السيد العارف يحيى بن محمد الحوتي، المتوفى سنة 1247 هـ. 11- القاضي عبد الرحمن بن حسن الأكوع، المتوفى سنة 1206 هـ. ومن أبرز تلاميذه: 1- السيد محمد بن محمد بن زبارة الحسني اليمني الصنعاني، المتوفى سنة 1281 هـ. 2- محمد بن أحمد السودي، المتوفى سنة 1226 هـ. 3- محمد بن أحمد مشحم الصعدي الصنعاني، المتوفى سنة 1223 هـ. 4- السيد أحمد بن علي بن محسن بن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم، المتوفى سنة 1223 هـ. 5- السيد محمد بن محمد بن هاشم بن يحيى الشامي ثم الصنعاني، المتوفى سنة 1251 هـ. 6- عبد الرحمن بن أحمد البهكلي الضمدي الصبياني، المتوفى سنة 1227 هـ. 7- أحمد بن عبد الله الضمدي، المتوفى سنة 1222 هـ. 8- علي بن أحمد هاجر الصنعاني، المتوفى سنة 1235 هـ. 9- عبد الله بن محسن الحيمي ثم الصنعاني، المتوفى سنة 1240 هـ. 10- القاضي محمد بن حسن الشجني الذماري، المتوفى سنة 1286 هـ. 11- ابنه القاضي أحمد بن محمد الشوكاني، المتوفى سنة 1281 هـ. 6- كتبه ومؤلفاته: جمع الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى في شخصيته العلمية الفذّة ثلاثة أمور «1» ، رشحته إلى أن يعدّ من أعلام المسلمين، ومن المجددين، الذين يبعث الله على رأس كل قرن واحدا منهم، يحفظ للأمة دينها، ويجدد روح العزة والمجد فيها، وهذه الأمور الثلاثة هي: سعة التبحر في العلوم على اختلاف أجناسها. كثرة التلاميذ المحققين الذين يحيطون به، ويسجلون كلامه، ويتناقلون كتبه وأفكاره. سعة التأليف في مختلف العلوم والفنون. ويهمنا في هذه الفقرة أن نتعرف على الكتب المطبوعة، التي تركها الشوكاني تراثا خالدا للأمة الإسلامية، تنهل منها العلم والمعرفة، وتجد فيها الفكر الصائب المستنير وسط ظلام الجمود والتعصب والتقليد، مما يؤكد

_ (1) . انظر كتاب «أبجد العلوم» (3/ 201) .

أن الله تعالى يحفظ دينه ويعلي كلمته، في كل الأمصار وفي جميع العصور على ألسنة العلماء العاملين، وبأقلام المؤلفين النابهين. وهذه الكتب هي: 1- «إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات» تحقيق إبراهيم إبراهيم هلال- دار النهضة العربية- القاهرة، سنة 1395 هـ. 2- «أمناء الشريعة» - مع مجموعة رسائل، تحقيق إبراهيم هلال- دار النهضة العربية- القاهرة- سنة 1395 هـ. 3- «القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد» - تصحيح إبراهيم حسن- طبعة مصطفى البابي الحلبي- القاهرة 1347 هـ. 4- «السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار» - تحقيق قاسم غالب أحمد وآخرون- طبعة مصطفى البابي الحلبي- القاهرة 1390 هـ. 5- «إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول» - المطبعة المنيرية- القاهرة سنة 1347 هـ. 6- «البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع» القاهرة- مطبعة السعادة- سنة 1348 هـ. 7- «تحفة الذاكرين في شرح عدة الحصن الحصين للإمام الجزري» طبعة مصطفى الحلبي- سنة 1350 هـ. 8- «الدراري المضيئة في شرح الدرر البهية» - القاهرة- مطبعة المعاهد سنة 1340 هـ. 9- «الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد» - المطبعة المنيرية- القاهرة سنة 1343 هـ. وطبعة المنار- سنة 1340 هـ. 10- «شرح الصدور بتحريم رفع القبور» و «رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة» و «الدواء العاجل في دفع العدو الصائل» القاهرة- المطبعة المنيرية- سنة 1343 هـ. ومطبعة السنة المحمدية- القاهرة- 1366 هـ. 11- «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» - القاهرة- مطبعة السنة المحمدية- سنة 1380 هـ. 12- «فَتْحُ الْقَدِيرِ الْجَامِعُ بَيْنَ فَنَّيِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ من التفسير» مطبعة مصطفى البابي الحلبي- القاهرة- سنة 1349 هـ. 13- «نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار» مطبعة مصطفى البابي الحلبي- القاهرة سنة 1347 هـ. 14- «قطر الولي على حديث الولي» القاهرة- دار الكتب العربية- سنة 1979 م. 15- «درّ السحابة في مناقب القرابة والصحابة» مطبوع بتحقيق د. حسين العمري. دار الفكر- دمشق- 1984. وهذا ما رأيناه مطبوعا واطلعنا عليه، وهو غيض من فيض، فهناك كتب لا تزال مخطوطة، ورسائل

7 - وفاته:

وفتاوى، وأبحاث وأجزاء، ذكرها تلاميذ الشوكاني، والعلماء والمؤلفون ممن ترجم له، وبعضها أشار إليها المؤلف نفسه في بعض كتبه، وقد أوصلها السيد محمد صديق حسن خان في «أبجد العلوم» إلى عدد سور القرآن (114) . 7- وفاته: توفي الشوكانيّ في 26 جمادى الآخرة من سنة 1250 هـ- ودفن بصنعاء، وقد كان توفي قبله بشهر واحد ابنه: عليّ بن محمد، وهو في العشرين من عمره، وكان نابغة، وعبقريا فذا كأبيه، فاحتسب الأب وتصبّر، ولم يظهر جزعا ولا حزنا. رحمهما الله تعالى، وأسكنهما فسيح جنّاته، وجمعنا بهما تحت لواء سيدنا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَنَّهُ سبحانه وتعالى أكرم مسؤول.

ب - التعريف بالكتاب

ب- التعريف بالكتاب 1- الكتاب هو «فَتْحُ الْقَدِيرِ الْجَامِعُ بَيْنَ فَنَّيِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ من علم التفسير» . 2- معنى فني الرواية والدراية عند المفسرين: التفسير بالرواية: هو التفسير بالمأثور، وهو ما جاء في القرآن، أو السنة، أو كلام الصحابة بيانا لمراد الله تعالى من كتابه. والتفسير بالدراية: هو التفسير بالرأي والاجتهاد، ويكون جائزا وموفقا ومحمودا إذا استند إلى أربعة أمور: أ- النقل عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ب- الأخذ بقول الصحابي. ج- الأخذ بمطلق اللغة. د- الأخذ بما يقتضيه الكلام، ويدل عليه قانون الشرع. وهذا يكشف لنا بسهولة ويسر منهج الشوكاني رحمه الله تعالى في تفسيره، وكيف جاءت تسميته نتيجة حتمية لخطته وطريقته، وهذا واضح في المقدمة، حيث قسّم المفسرين الذين سبقوه في التأليف إلى فريقين: فريق اقتصروا على الرواية. وفريق اعتمدوا على مقتضيات اللغة وما تفيده العلوم الآلية، ولم يرفعوا للرواية رأسا البتة. وقال: لا بد من الجمع بين الأمرين، وعدم الاقتصار على أحد الفريقين. 3- مميزات فتح القدير: 1- الشخصية العلمية الفذة للمؤلف فقد توافرت للشوكاني أنواع العلوم التي اشترطها العلماء في المفسر لكتاب الله تعالى، لتحقيق أعلى مراتب التفسير، وهي اللغة والنحو والصرف، وعلوم البلاغة، وعلم أصول الفقه، وعلم التوحيد، ومعرفة أسباب النزول، والقصص، والناسخ والمنسوخ، والأحاديث المبينة للمجمل والمبهم، وعلم الموهبة الشرعية، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، ولا يناله من في قلبه بدعة، أو كبر، أو حبّ دنيا، أو ميل إلى المعاصي، قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 146] . وقد سبق في التعريف بالشوكاني رحمه الله أنه جمع هذه العلوم وزاد عليها، حتى وصل مرتبة الاجتهاد. 2- الجمع بَيْنَ فَنَّيِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وقد ذكر السيد محمد صديق حسن خان في كتابه «أبجد العلوم» أن هذا الجمع بين الرواية والدراية سبقه إليه العلّامة محمد بن يحيى بن بهران، وقال:

4 - موارده:

«لكن تفسير الشوكاني أبسط وأجمع وأحسن ترتيبا وترصيفا» «1» . 3- حجمه الوسط بين كتب التفسير المطولة والمختصرة، فهو خمسة أجزاء مجلدة من الحجم المتوسط، وقد أشار رحمه الله تعالى في مواطن كثيرة من تفسيره إلى ترك الإطالة والاستقصاء، والإحالة إلى كتب الحديث أو كتب الفقه وغيرها، مما جعل هذا التفسير حقّا «لبّ اللّباب، وذخرا من الذخائر التي ليس لها انقطاع» «2» ومرجعا مقررا في المراكز العلمية والجامعات، ومصدرا وافيا لطلاب العلم في الجوانب الحديثية والفقهية واللغوية. 4- موارده: استفاد الشوكاني من كتب التفسير المتقدمة، وانتقد اقتصار بعضها على الرواية، وبعضها الآخر على الدراية، كما شنّع على أصحاب الآراء المذمومة، وأتباع الأهواء الضالّة، وكان من أبرز العلماء الذين ورد كتبهم ونهل منها، وأورد عنهم نصوصا وأقوالا في تفسيره تدل على حسن الاختيار وجودة الانتقاء، هم: 1- النّحاس: أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي المصري، مفسّر، كان من نظراء نفطويه وابن الأنباري، زار العراق واجتمع بعلمائه، وصنّف في تفسير القرآن الكريم وإعرابه ومعانيه. توفي سنة 338 هـ. 2- ابن عطية (المتقدّم) : عبد الله بن عطية بن عبد الله بن حبيب، أبو محمد، عالم بالتفسير، مقرئ، من أهل دمشق، كان يحفظ خمسين ألف بيت للاستشهاد على معاني القرآن، له «تفسير ابن عطية» مخطوط- توفي سنة 383 هـ. 3- ابن عطية (المتأخّر) : عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي، من محارب قيس، الغرناطي، أبو محمد: مفسر، فقيه، أندلسي، من أهل غرناطة. له كتاب «المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» في عشرة مجلدات، مخطوط. توفي سنة 542 هـ. 4- القرطبي: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري القرطبي المالكي، أبو عبد الله، مفسّر، صاحب تصانيف، من أشهر كتبه «تفسير القرطبي» مطبوع في عشرين مجلدا وهو التفسير المشهور، قال الذهبي عنه: عمل التفسير الكبير، وتعب عليه، وحشّاه بكل فريدة. توفي سنة 673 هـ. 5- السيوطي: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري السيوطي، جلال الدين، إمام حافظ مؤرخ أديب، صاحب التصانيف الكثيرة، من أشهر كتبه «الدر المنثور في التفسير بالمأثور» مطبوع في ثماني مجلدات. توفي سنة 911 هـ.

_ (1) . أبجد العلوم (3/ 202) . (2) . مقدمة فتح القدير (1/ 15) .

مقدمة المؤلف

بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدّمة المؤلف كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] . يروي المفتقر إلى رحمة الله سبحانه وتعالى محمد بن محمد بن يحيى زبارة الحسني اليمني- غفر الله له وللمؤمنين- للقاضي الحافظ الشهير محمد بن علي بن محمد الشوكاني الصنعاني، المتوفى سنة 1250 هجرية، عن المولى الجهبذ الكبير سيف الإسلام أحمد بن قاسم بن عبد الله حميد الدين أبقاه الله تعالى، عن السيد الحافظ عبد الكريم بن عبد الله أبي طالب الحسني اليمني، المتوفى سنة 1309 هـ، عن القاضي الحافظ أحمد بن محمد بن علي الشوكاني، المتوفى سنة 1281 هـ، عن أبيه المؤلف. قال رحمه الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جعل كتابه المبين كافلا ببيان الأحكام، شاملا لما شرعه لعباده من الحلال والحرام، مرجعا للأعلام عند تفاوت الأفهام وتباين الأقدام وتخالف الكلام، قاطعا للخصام شافيا للسقام مرهما للأوهام. فهو العروة الوثقى التي من تمسك بها فاز بدرك الحق القويم، والجادّة الواضحة التي من سلكها فقد هدي إلى الصراط المستقيم. فأيّ عبارة تبلغ أدنى ما يستحقه كلام الحكيم من التعظيم؟، وأيّ لفظ يقوم ببعض ما يليق به من التكريم والتفخيم؟. كلا والله إن بلاغات البلغاء المصاقع، وفصاحات الفصحاء البواقع، وإن طالت ذيولها، وسالت سيولها، واستنت بميادينها خيولها، تتقاصر عن الوفاء بأوصافه، وتتصاغر عن التشبث بأدنى أطرافه، فيعود جيدها عنه عاطلا، وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا، فهو كلام من لا تحيط به العقول علما، ولا تدرك كنهه الطباع البشرية فهما، فالاعتراف بالعجز عن القيام بما يستحقه من الأوصاف العظام أولى بالمقام، وأوفق بما تقتضيه الحال من الإجلال والإعظام. والصلاة والسلام على من نزل إليه الروح الأمين، بكلام ربّ العالمين، محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله المطهرين، وصحبه المكرّمين. وبعد: فإن أشرف العلوم على الإطلاق، وأولاها بالتفضيل على الاستحقاق، وأرفعها قدرا بالاتفاق، هو علم التفسير لكلام القويّ القدير، إذا كان على الوجه المعتبر في الورود والصدر، غير مشوب بشيء من التفسير بالرأي الذي هو من أعظم الخطر، وهذه الأشرفية لهذا العلم غنية عن البرهان، قريبة إلى الأفهام والأذهان، يعرفها من يعرف الفرق بين كلام الخلق والحق، ويدري بها من يميز بين كلام البشر، وكلام

خالق القوى والقدر، فمن فهم هذا استغنى عن التطويل، ومن لم يفهمه فليس بمتأهل للتحصيل، ولقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم حيث يقول فيما أخرجه عنه الترمذي وحسّنه مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» . ولما كان هذا العلم بهذه المنزلة الشامخة الأركان، العالية البنيان، المرتفعة المكان، رغبت إلى الدخول من أبوابه، ونشطت إلى القعود في محرابه، والكون من أحزابه، ووطنت النفس على سلوك طريقة، هي بالقبول عند الفحول حقيقة، وها أنا أوضح لك منارها، وأبيّن لك إيرادها وإصدارها فأقول: إن غالب المفسرين تفرّقوا فريقين، وسلكوا طريقين: الفريق الأول اقتصروا في تفاسيرهم على مجرّد الرواية، وقنعوا برفع هذه الراية. والفريق الآخر جرّدوا أنظارهم إلى ما تقتضيه اللغة العربية، وما تفيده العلوم الآلية، ولم يرفعوا إلى الرواية رأسا، وإن جاءوا بها لم يصحّحوا لها أساسا، وكلا الفريقين قد أصاب، وأطال وأطاب، وإن رفع عماد بيت تصنيفه على بعض الأطناب، وترك منها ما لا يتمّ بدونه كمال الانتصاب، فإن ما كان من التَّفْسِيرِ ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان المصير إليه متعينا، وتقديمه متحتما، غير أن الذي صحّ عنه من ذلك إنما هو تفسير آيات قليلة بالنسبة إلى جميع القرآن، ولا يختلف في مثل ذلك من أئمة هذا الشأن اثنان. وأما ما كان منها ثابتا عن الصحابة رضي الله عنهم، فإن كان من الألفاظ التي قد نقلها الشرع إلى معنى مغاير للمعنى اللغوي بوجه من الوجوه فهو مقدّم على غيره، وإن كان من الألفاظ التي لم ينقلها الشرع فهو كواحد من أهل اللغة الموثوق بعربيتهم. فإذا خالف المشهور المستفيض لم تقم الحجة علينا بتفسيره الذي قاله على مقتضى لغة العرب، فبالأولى تفاسير من بعدهم من التابعين وتابعيهم وسائر الأئمة. وأيضا كثيرا ما يقتصر الصحابي ومن بعده من السلف على وجه واحد مما يقتضيه النظم القرآني باعتبار المعنى اللغوي، ومعلوم أن ذلك لا يستلزم إهمال سائر المعاني التي تفيدها اللغة العربية، ولا إهمال ما يستفاد من العلوم التي تتبيّن بها دقائق العربية وأسرارها كعلم المعاني والبيان، فإن التفسير بذلك هو تفسير باللغة، لا تفسير بمحض الرأي المنهيّ عنه. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وابن المنذر والبيهقي في كتاب الرؤية، عن سفيان قال: ليس في تفسير القرآن اختلاف، إنما هو كلام جامع يراد منه هذا وهذا. وأخرج ابن سعد في الطبقات، وأبو نعيم في الحلية، عن أبي قلابة قال: قال أبو الدرداء: لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها. وأخرج ابن سعد أن عليا قال لابن عباس: اذهب إليهم- يعني الخوارج- ولا تخاصمهم بالقرآن فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة فقال له: أنا أعلم بكتاب الله منهم، فقال: صدقت، ولكن القرآن حمّال ذو وجوه. وأيضا لا يتيسر في كل تركيب من التراكيب القرآنية تفسير ثابت عن السلف، بل قد يخلو عن ذلك كثير من القرآن، ولا اعتبار بما لم يصح كالتفسير بإسناد ضعيف، ولا بتفسير من ليس بثقة منهم وإن صحّ إسناده إليه. وبهذا تعرف أنه لا بد من الجمع بين الأمرين، وعدم الاقتصار على مسلك أحد الفريقين، وهذا هو المقصد الذي وطنت نفسي عليه، والمسلك الذي عزمت على سلوكه إن شاء الله مع تعرّضي للترجيح بين التفاسير المتعارضة مهما أمكن واتضح لي وجهه، وأخذي من بيان المعنى العربي

"فتح القدير""الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير"

والإعرابي والبياني بأوفر نصيب، والحرص على إيراد ما ثبت من التَّفْسِيرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو الصحابة أو التابعين أو تابعيهم، أو الأئمة المعتبرين. وقد أذكر ما في إسناده ضعف، إما لكونه في المقام ما يقوّيه، أو لموافقته للمعنى العربي، وقد أذكر الحديث معزوّا إلى راويه من غير بيان حال الإسناد، لأني أجده في الأصول التي نقلت عنها كذلك كما يقع في تفسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير والسيوطي وغيرهم، ويبعد كل البعد أن يعلموا في الحديث ضعفا ولا يبيّنونه، ولا ينبغي أن يقال فيما أطلقوه إنهم قد علموا ثبوته، فإن من الجائز أن ينقلوه من دون كشف عن حال الإسناد، بل هذا هو الذي يغلب به الظن، لأنهم لو كشفوا عنه فثبتت عندهم صحته لم يتركوا بيان ذلك، كما يقع منهم كثيرا التصريح بالصحة أو الحسن، فمن وجد الأصول التي يروون عنها ويعزون ما في تفاسيرهم إليها فلينظر في أسانيدها موفقا إن شاء الله. واعلم أن تفسير السيوطي المسمى ب «الدرّ المنثور» قد اشتمل على غالب ما في تفاسير السلف من التفاسير المرفوعة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وتفاسير الصحابة ومن بعدهم، وما فاته إلا القليل النادر. وقد اشتمل هذا التفسير على جميع ما تدعو إليه الحاجة منه مما يتعلق بالتفسير، مع اختصار لما تكرّر لفظا واتحد معنى بقولي: ومثله أو نحوه، وضممت إلى ذلك فوائد لم يشتمل عليها وجدتها في غيره من تفاسير علماء الرواية، أو من الفوائد التي لاحت لي من تصحيح أو تحسين أو تضعيف، أو تعقب أو جمع أو ترجيح. فهذا التفسير وإن كبر حجمه، فقد كثر علمه، وتوفر من التحقيق قسمه، وأصاب غرض الحق سهمه، واشتمل على ما في كتب التفاسير من بدائع الفوائد، مع زوائد فوائد وقواعد شوارد، فإن أحببت أن تعتبر صحة هذا فهذه كتب التفسير على ظهر البسيطة، انظر تفاسير المعتمدين على الرواية، ثم ارجع إلى تفاسير المعتمدين على الدراية، ثم انظر في هذا التفسير بعد النظرين، فعند ذلك يسفر الصبح لذي عينين، ويتبيّن لك أن هذا الكتاب هو لبّ اللباب، وعجب العجاب، وذخيرة الطلاب، ونهاية مأرب الألباب. وقد سميته: «فَتْحُ الْقَدِيرِ» «الْجَامِعُ بَيْنَ فَنَّيِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ من علم التفسير» مستمدا من الله سبحانه بلوغ الغاية، والوصول بعد هذه البداية إلى النهاية، راجيا منه جلّ جلاله أن يديم به الانتفاع ويجعله من الذخائر التي ليس لها انقطاع. واعلم أن الأحاديث في فضائل القرآن كثيرة جدا، ولا يتم لصاحب القرآن ما يطلبه من الأجر الموعود به في الأحاديث الصحيحة حتى يفهم معانيه، فإن ذلك هو الثمرة من قراءته. قال القرطبي: ينبغي له أن يتعلّم أحكام القرآن فيفهم عن الله مراده وما فرض عليه، فينتفع بما يقرأ ويعمل بما يتلو فما أقبح بحامل القرآن أن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر قلب وهو لا يفهم معنى ما يتلوه، فكيف يعمل بما لا يفهم معناه، وما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلوه ولا يدريه! فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارا. وينبغي له أن يعرف المكّي من المدنيّ، ليفرّق بين ما خاطب الله به عباده في أوّل الإسلام،

وما ندبهم إليه في آخر الإسلام، وما فرض في أوّل الإسلام وما زاد عليهم من الفرائض في آخره، فالمدنيّ هو الناسخ للمكّي في أكثر القرآن: وقال أيضا: قال علماؤنا: وأما ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة والتابعين. فمن ذلك أن عليّ بن أبي طالب ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداك، تصف جابرا بالعلم وأنت أنت؟ فقال: إنه كان يعرف تفسير قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85] . وقال مجاهد: أحبّ الخلق إلى الله أعلمهم بما أنزل الله. وقال الحسن: والله ما أنزل الله آية إلا أحبّ أن يعلم فيمن نزلت وما يعني بها. وقال الشعبي: رحل مسروق في تفسير آية إلى البصرة، فقيل له إن الذي يفسرها رحل إلى الشام، فتجهّز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها. وقال عكرمة في قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء: 100] طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته. قال ابن عبد البرّ: هو ضميرة بن حبيب. وقال ابن عباس: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يمنعني إلا مهابته، فسألته فقال: هي حفصة وعائشة. وقال إياس بن معاوية: مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من عند مليكهم ليلا وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب. ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب. وذكر ابن أبي الحواري أن فضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخذوا عنه العلم: لو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون، فقالوا: قد تعلّمنا القرآن، فقال: إن في تعلّمكم القرآن شغلا لأعماركم وأعمار أولادكم، فقالوا: كيف يا أبا عليّ؟ قال: لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه ومحكمه ومتشابهه وناسخه من منسوخه، فإذا عرفتم استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة. وللسلف رحمهم الله من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر.

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة مَعْنَى الْفَاتِحَةِ فِي الْأَصْلِ أَوَّلُ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفْتَتَحَ بِهِ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى أَوَّلِ كُلِّ شَيْءٍ كَالْكَلَامِ، وَالتَّاءُ لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ، فَسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ «فَاتِحَةَ الْكِتَابِ» لِكَوْنِهِ افْتُتِحَ بِهَا، إِذْ هِيَ أَوَّلُ مَا يَكْتُبُهُ الْكَاتِبُ مِنَ الْمُصْحَفِ، وَأَوَّلُ مَا يَتْلُوهُ التَّالِي مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدِ اشْتَهَرَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الشَّرِيفَةُ بِهَذَا الِاسْمِ فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ. قِيلَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ، وَقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَالثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ بِمَكَّةَ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي دَلَائِلَ النبوّة، والثعلبيّ والواحديّ من حديث عمرو بْنِ شُرَحْبِيلَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا شَكَا إِلَى خَدِيجَةَ مَا يَجِدُهُ عِنْدَ أَوَائِلِ الْوَحْيِ، فَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى وَرَقَةَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ: «إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً خَلْفِي: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ! فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، إِذَا أَتَاكَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي فَلَمَّا خَلَا نَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حَتَّى بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سلمة قال: لما أسلم فِتْيَانُ بَنِي سَلِمَةَ وَأَسْلَمَ وَلَدُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ قَالَتِ امْرَأَةُ عَمْرٍو لَهُ: هَلْ لَكَ أن تسمع من ابنك مَا رُوِيَ عَنْهُ؟ فَسَأَلَهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ عَنْ عُبَادَةَ قَالَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. فَهَذَا جُمْلَةُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدِ عن أَبِي هُرَيْرَةَ: رَنَّ «1» إِبْلِيسُ حِينَ أُنْزِلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَأُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَزَلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِمَكَّةَ وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ. وَتُسَمَّى «أُمَّ الْكِتَابِ» قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ: وَسُمِّيَتْ أُمَّ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ أُمُّ الْكِتَابِ وَيَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ «2» وَلَكِنْ يَقُولُ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَيُقَالُ لَهَا الْفَاتِحَةُ لِأَنَّهَا يُفْتَتَحُ بِهَا الْقِرَاءَةُ، وَافْتَتَحَتِ الصَّحَابَةُ بِهَا كِتَابَةَ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تفسيره:

_ (1) . رنّ: صاح. (2) . الرعد: 39.

وَصَحَّ تَسْمِيَتُهَا بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي، قَالُوا: لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ فَتُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في أُمُّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَهِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أبي هريرة أيضا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ، وَقَالَ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «1» بِالْفَاتِحَةِ. وَمِنْ جُمْلَةِ أَسْمَائِهَا كَمَا حَكَاهُ فِي الْكَشَّافِ سُورَةُ الْكَنْزِ، وَالْوَافِيَةُ، وَسُورَةُ الْحَمْدِ، وَسُورَةُ الصَّلَاةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عيينة كان يسمي فاتحة الكتاب: الوافية. وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَقَالَ: عَنِ الْكَافِيَةِ تَسْألُ؟ قَالَ السَّائِلُ: وَمَا الْكَافِيَةُ؟ قَالَ: الْفَاتِحَةُ، أَمَّا عَلِمْتَ أَنَّهَا تَكْفِي عَنْ سِوَاهَا وَلَا يَكْفِي سِوَاهَا عَنْهَا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا اشْتَكَى إِلَيْهِ وَجَعَ الْخَاصِرَةِ، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِأَسَاسِ الْقُرْآنِ، قَالَ: وَمَا أَسَاسُ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي فِيمَا مَنَّ بِهِ عَلَيَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَقَالَ: هِيَ مِنْ كُنُوزِ عَرْشِي» وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. وَقَدْ ذَكَرَ القرطبي فِي تَفْسِيرِهِ لِلْفَاتِحَةِ اثْنَيْ عَشَرَ اسْمًا. وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ بِلَا خِلَافٍ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعُ آيَاتٍ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ حُسَيْنٍ الْجُعْفِيِّ أَنَّهَا سِتٌّ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَإِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ جَعَلَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ آيَةً، فَهِيَ عِنْدُهُ ثَمَانٍ، وَهُوَ شَاذٌّ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْبَسْمَلَةِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَا يَكْتُبَانِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَلَمْ يَكْتُبِ ابْنُ مَسْعُودٍ شَيْئًا مِنْهُنَّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَا يَكْتُبُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فِي الْمُصْحَفِ، وَقَالَ: لَوْ كَتَبْتُهَا لَكَتَبْتُ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَحَادِيثُ، مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ قُلْتَ: لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: نَعَمْ- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ له: «أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا؟ ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهَا الْفَاتِحَةُ» . وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لَهُ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَخْيَرِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: اقْرَأِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى تَخْتِمَهَا» وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ عَقِيلٍ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ كِبَارُ الْأَئِمَّةِ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جابر هذا هو العبدي كما

_ (1) . الحجر: 87.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقِيلَ الْأَنْصَارِيُّ الْبَيَاضِيُّ كَمَا قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا أَخْبَرُوهُ بِأَنَّ رَجُلًا رَقَى سَلِيمًا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ: وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَوْقَهُ، فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قَطُّ، قَالَ: فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ قَدْ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتَهُ» وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ- ثَلَاثًا- غَيْرُ تَامَّةٍ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِذَا وَضَعْتَ جَنْبَكَ عَلَى الْفِرَاشِ وَقَرَأْتَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَدْ أَمِنْتَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْمَوْتَ» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ- وَكَانَ لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ فِجَاجِ الْمَدِينَةِ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَتَهَجَّدُ وَيَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعَ حَتَّى خَتَمَهَا ثُمَّ قَالَ: «مَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ سَقَمٍ» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِهِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ «شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ التَّمِيمِيِّ عَنْ عَمِّهِ: أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَقْبَلَ رَاجِعًا مِنْ عِنْدِهِ، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَعِنْدَهُمْ رَجُلٌ مَجْنُونٌ مُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ أَهْلُهُ: أَعِنْدَكَ مَا تُدَاوِي بِهِ هَذَا؟ فَإِنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ جَاءَ بِخَيْرٍ، قَالَ: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، أَجْمَعُ بُزَاقِي ثُمَّ أَتْفُلُ فَبَرَأَ، فَأَعْطَانِي مِائَةَ شَاةٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فقال: «كل، فلعمري من أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ فَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ثُلُثُ الْقُرْآنِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ تَعْدِلُ بِثُلُثَيِ الْقُرْآنِ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ فِي فَضَائِلِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَنَزَلَ فَمَشَى رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى جَنْبِهِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ الْقُرْآنِ؟، فَتَلَا عَلَيْهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ تَجْزِي مَا لَا يَجْزِي شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَوْ أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ جُعِلَتْ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَجُعِلَ الْقُرْآنُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى لَفَضَلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ سَبْعَ مَرَّاتٍ» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان» .

[سورة الفاتحة (1) : آية 1]

[سورة الفاتحة (1) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ هِيَ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كُتِبَتْ فِي أَوَّلِهَا؟ أَوْ هِيَ بَعْضُ آيَةٍ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، أَوْ هِيَ كَذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهَا، أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ فِي الْجَمِيعِ وَإِنَّمَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ؟ وَالْأَقْوَالُ وَأَدِلَّتُهَا مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا بَعْضُ آيَةٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَقَدْ جَزَمَ قُرَّاءُ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ بِأَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ. وَخَالَفَهُمْ قُرَّاءُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ فَلَمْ يَجْعَلُوهَا آيَةً لَا مِنَ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ وَالتَّبَرُّكِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا آيَةً. وَفِي إِسْنَادِهِ عَمْرُو بْنُ هَارُونَ الْبَلْخِيُّ وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَرَوَى نَحْوَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَرْفُوعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَكَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي إِثْبَاتِهَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْجَهْرِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى فَجَهَرَ فِي قِرَاءَتِهِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَقَالَ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْخَطِيبُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر ب: بسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَانَتْ قِرَاءَتُهُ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ الرَّحِيمِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا يُجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ بِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلِمُسْلِمٍ: لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ أَهْلُ السُّنَنِ نَحْوَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَحَادِيثُ التَّرْكِ وَإِنْ كَانَتْ أَصَحَّ وَلَكِنَّ الْإِثْبَاتَ أَرْجَحُ، مَعَ كَوْنِهِ خَارِجًا مِنْ مَخْرَجٍ صَحِيحٍ، فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى وَلَا سِيَّمَا مَعَ إِمْكَانِ تَأْوِيلِ التَّرْكِ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْإِثْبَاتَ

الذَّاتِيَّ، أَعْنِي: كَوْنَهَا قُرْآنًا وَالْوَصْفِيَّ أَعْنِي: الْجَهْرَ بِهَا عِنْدَ الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ مَا يُفْتَتَحُ بِهَا مِنَ السُّوَرِ فِي الصَّلَاةِ. وَلِتَنْقِيحِ الْبَحْثِ وَالْكَلَامِ عَلَى أَطْرَافِهِ اسْتِدْلَالًا وَرَدًّا وَتَعَقُّبًا وَدَفْعًا وَرِوَايَةً وَدِرَايَةً، مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَمُتَعَلِّقُ الْبَاءِ مَحْذُوفٌ وَهُوَ أَقْرَأُ أَوْ أَتْلُو لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِمَا جُعِلَتِ الْبَسْمَلَةُ مَبْدَأً لَهُ فَمَنْ قَدَّرَهُ مُتَقَدِّمًا كَانَ غَرَضُهُ الدَّلَالَةَ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْفِعْلِ، وَمَنْ قَدَّرَهُ مُتَأَخِّرًا كَانَ غَرَضُهُ الدَّلَالَةَ بِتَأْخِيرِهِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ مَعَ مَا يَحْصُلُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ مِنَ الْعِنَايَةِ بِشَأْنِ الِاسْمِ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْبِدَايَةَ بِهِ أَهَمُّ لِكَوْنِ التَّبَرُّكِ حَصَلَ بِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ تَقْدِيرِ الْفِعْلِ مُتَأَخِّرًا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «1» لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ مَقَامُ الْقِرَاءَةِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِهَا أَهَمَّ، وَأَمَّا الْخِلَافُ بَيْنَ أَئِمَّةِ النَّحْوِ فِي كَوْنِ الْمُقَدَّرِ اسْمًا أَوْ فِعْلًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ أَوْ المصاحبة، وَرَجَّحَ الثَّانِي الزَّمَخْشَرِيُّ. وَاسْمٌ أَصْلُهُ سَمَوٌ حُذِفَتْ لَامُهُ، وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي بَنَوْا أَوَائِلَهَا عَلَى السُّكُونِ زَادُوا فِي أَوَّلِهِ الْهَمْزَةَ إِذَا نَطَقُوا بِهِ لِئَلَّا يَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِالسَّاكِنِ، وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُسَمَّى وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى كَمَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَسِيبَوَيْهِ وَالْبَاقِلَّانِيُّ وَابْنُ فُورَكٍ، وَحَكَاهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْحَشْوِيَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا، وَجَاءَ بِمَا لَا يُعْقَلُ، مَعَ عَدَمِ وُرُودِ مَا يُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ لِلْعَقْلِ لَا مِنَ الْكِتَابِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، بَلِ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ الِاسْمَ الَّذِي هُوَ أَصْوَاتٌ مُقَطَّعَةٌ وَحُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ غَيْرُ الْمُسَمَّى الَّذِي هُوَ مَدْلُولُهُ، وَالْبَحْثُ مَبْسُوطٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها «2» وَقَالَ تَعَالَى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. وَاللَّهُ عَلَمٌ لِذَاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَصْلُهُ إِلَهٌ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَعُوِّضَتْ عَنْهَا أَدَاةُ التَّعْرِيفِ فَلَزِمَتْ. وَكَانَ قَبْلَ الْحَذْفِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَعْبُودٍ بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ، كَالنَّجْمِ وَالصَّعْقِ، فَهُوَ قَبْلَ الْحَذْفِ مِنَ الْأَعْلَامِ الْغَالِبَةِ، وَبَعْدَهُ مِنَ الْأَعْلَامِ الْمُخْتَصَّةِ. والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، وَرَحْمَنُ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنْ رَحِيمٍ. وَفِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ مَا يُفْهِمُ حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا: رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرَحِيمُ الدُّنْيَا. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ زِيَادَةَ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّ الرَّحْمَنَ عِبْرَانِيٌّ وَالرَّحِيمَ عَرَبِيٌّ وَخَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا. وَالرَّحْمَنُ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا قَوْلُ بني حنيفة في مسيلمة: رحمان الْيَمَامَةِ، فَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ بَابٌ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ يَخْتَصُّ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَالرَّحِيمُ إِنَّمَا هُوَ فِي جِهَةِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «3» وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَحَادِيثُ. مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ الْبَسْمَلَةِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَرَقَ الشَّيْطَانُ مِنَ النَّاسِ أَعْظَمَ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وأخرج نحوه أبو عبيد وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْهُ أيضا. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ جِبْرِيلُ إِذَا جَاءَنِي بِالْوَحْيِ أَوَّلَ مَا يُلْقِي عَلَيَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ

_ (1) . العلق: 1. (2) . الأعراف: 180. (3) . الإسراء: 110. [.....]

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ: «هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ اللَّهِ الْأَكْبَرِ إِلَّا كَمَا بَيْنَ سَوَادِ الْعَيْنِ وَبَيَاضِهَا مِنَ الْقُرْبِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ، وَالثَّعْلَبِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى الْكُتَّابِ لِتُعَلِّمَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ: اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: وَمَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ قَالَ الْمُعَلِّمُ: لَا أَدْرِي، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: الْبَاءُ بَهَاءُ اللَّهِ، وَالسِّينُ سَنَاهُ، وَالْمِيمُ مَمْلَكَتُهُ، وَاللَّهُ إِلَهُ الْآلِهَةِ، وَالرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةُ» وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ كَذَّابٌ. وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالثَّعْلَبِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هَرَبَ الْغَيْمُ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَسَكَنَتِ الرِّيحُ، وَهَاجَ الْبَحْرُ، وَأَصْغَتِ الْبَهَائِمُ بِآذَانِهَا، وَرُجِمَتِ الشَّيَاطِينُ مِنَ السَّمَاءِ، وَحَلَفَ اللَّهُ بِعِزَّتِهِ وَجَلَالِهِ أَنْ لَا تُسَمَّى عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بَارَكَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ضَجَّتِ الْجِبَالُ حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ مَكَّةَ دَوِيَّهَا، فَقَالُوا: سَحَرَ مُحَمَّدٌ الْجِبَالَ، فَبَعَثَ اللَّهُ دُخَانًا حَتَّى أَظَلَّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُوقِنًا سَبَّحَتْ مَعَهُ الْجِبَالُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهَا» . وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ دَرَجَةٍ» . وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِفْتَاحُ كُلِّ كِتَابٍ» . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ يَنْبَغِي الْبَحْثُ عَنْ أَسَانِيدِهَا وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا بِمَا يَتَبَيَّنُ بَعْدَ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ شُرِعَتِ التَّسْمِيَةُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ قَدْ بَيَّنَهَا الشَّارِعُ مِنْهَا: عِنْدَ الْوُضُوءِ، وَعِنْدَ الذَّبِيحَةِ، وَعِنْدَ الْأَكْلِ، وَعِنْدَ الْجِمَاعِ، وَغَيْرِ ذلك.

[سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 إلى 7]

[سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 الى 7] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمْدُ: هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَبِقَيْدِ الاختياري فَارَقَ الْمَدْحَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْجَمِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَمْدُوحُ مُخْتَارًا، كَمَدْحِ الرَّجُلِ عَلَى جَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّهُمَا أَخَوَانِ. وَالْحَمْدُ أَخَصُّ مِنَ الشُّكْرِ مَوْرِدًا وَأَعَمُّ مِنْهُ مُتَعَلَّقًا. فَمَوْرِدُ الْحَمْدِ اللِّسَانُ فَقَطْ، وَمُتَعَلِّقُهُ النِّعْمَةُ وَغَيْرُهَا. وَمَوْرِدُ الشُّكْرِ اللِّسَانُ وَالْجَنَانُ وَالْأَرْكَانُ، وَمُتَعَلِّقُهُ النِّعْمَةُ. وَقِيلَ إِنَّ مَوْرِدَ الْحَمْدِ كَمَوْرِدِ الشُّكْرِ، لِأَنَّ كُلَّ ثَنَاءٍ بِاللِّسَانِ لَا يَكُونُ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ مَعَ مُوَافَقَةِ الْجَوَارِحِ لَيْسَ بِحَمْدٍ بَلْ سُخْرِيَةٌ وَاسْتِهْزَاءٌ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ اعْتِبَارَ مُوَافَقَةِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فِي الْحَمْدِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدًا لَهُ بَلْ شَرْطًا- وَفَرْقٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالشَّطْرِ- وَتَعْرِيفُهُ: لِاسْتِغْرَاقِ أَفْرَادِ الْحَمْدِ وَأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ حَمْدَ غَيْرِهِ لَا اعْتِدَادَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُنْعِمَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ عَلَى أَنَّ حَمْدَهُ هُوَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ فَيَكُونُ الْحَصْرُ ادِّعَائِيًّا. وَرَجَّحَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّ التَّعْرِيفَ هُنَا هُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لَا الِاسْتِغْرَاقُ، وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ» وَهُوَ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ وَهُوَ لله. وَأَصْلُهُ النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِإِضْمَارِ فِعْلِهِ كَسَائِرِ الْمَصَادِرِ الَّتِي تَنْصِبُهَا الْعَرَبُ، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الرَّفْعِ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ دُونَ الْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ اللَّذَيْنِ تُفِيدُهُمَا الْجُمَلُ الْفِعْلِيَّةُ، وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ هِيَ لَامُ الِاخْتِصَاصِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْحَمْدُ ثَنَاءٌ أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي ضِمْنِهِ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ رَجَّحَ اتِّحَادَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ يُوقِعُونَ كُلًّا مِنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ مَكَانَ الْآخَرِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ اشْتَهَرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْحَمْدَ هُوَ الثَّنَاءُ بِالْقَوْلِ عَلَى الْمَحْمُودِ بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ. وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْمُتَعَدِّيَةِ، وَيَكُونُ بِالْجَنَانِ وَاللِّسَانِ وَالْأَرْكَانِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى مَعْنَى الْحَمْدِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا إِلَى مَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُرَدُّ عَلَى ابْنِ جَرِيرٍ، وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ هَذَا إِذَا لَمْ يَثْبُتْ لِلْحَمْدِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ، فَإِنْ ثَبَتَتَ وَجَبَ تَقْدِيمُهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْنَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَا الْحَمْدُ لِلَّهِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةٌ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةُ الشُّكْرِ، وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ: شَكَرَنِي عَبْدِي. وَرَوَى هُوَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قال: الحمد لله هو الشكر لله والاستخذاء لَهُ وَالْإِقْرَارُ لَهُ بِنِعَمِهِ وَهِدَايَتِهِ وَابْتِدَائِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قُلْتَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَدْ شَكَرْتَ اللَّهَ فَزَادَكَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالْخَطَّابِيُّ فِي الْغَرِيبِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَالدَّيْلَمِيُّ في

مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْحَمْدُ رَأَسُ الشُّكْرِ، مَا شَكَرَ اللَّهَ عَبْدٌ لَا يَحْمَدُهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرحمن الحلبي قال: الصلاة شكر والصيام شكر، وَكُلُّ خَيْرٍ تَفْعَلُهُ شُكْرٌ، وَأَفْضَلُ الشُّكْرِ الْحَمْدُ. وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: سُرِقَتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَئِنْ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيَّ لَأَشْكُرَنَّ رَبِّي فَرَجَعَتْ، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَانْتَظَرُوا هَلْ يُحْدِثُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ نَسِيَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ كُنْتَ قُلْتَ: لَئِنْ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيَّ لَأَشْكُرَنَّ رَبِّي، قَالَ: أَلَمْ أَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ؟» . وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْحَمْدِ أَحَادِيثُ. مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا أَنْشُدَكَ مَحَامِدَ حَمَدْتُ بِهَا رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى؟ فَقَالَ: أَمَا إِنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ الْحَمْدَ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي أَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا بِحَذَافِيرِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَكَانَ الْحَمْدُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ لَكَانَ إِلْهَامُهُ الْحَمْدَ أَكْبَرَ نِعْمَةٍ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ ثَوَابَ الْحَمْدِ لَا يَفْنَى، وَنَعِيمَ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُنْعَمُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ إِلَّا كَانَ الْحَمْدُ أَفْضَلَ مِنْهَا» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ نَحْوَهُ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالطَّهُورُ نِصْفُ الْإِيمَانِ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَؤُهُ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَيْسَ لَهَا دُونَ اللَّهِ حِجَابٌ حَتَّى تَخْلُصَ إِلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَا شَيْءٌ أَكْثَرُ مَعَاذِيرَ مِنَ اللَّهِ، وَمَا شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْحَمْدِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِي السُّنَّةِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبَانَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «التَّوْحِيدُ ثَمَنُ الْجَنَّةِ، وَالْحَمْدُ ثَمَنُ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَيَتَقَاسَمُونَ الْجَنَّةَ بِأَعْمَالِهِمْ» . وَأَخْرَجَ أَهْلُ السُّنَنِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَالَ: يَا رَبِّ! لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكِ، فَلَمْ يَدْرِ الْمَلَكَانِ كَيْفَ يَكْتُبَانِهَا، فَصَعِدَا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَا: يَا رَبَّنَا إِنَّ عَبْدًا قَدْ قَالَ مَقَالَةً لَا نَدْرِي كَيْفَ نَكْتُبُهَا، قَالَ اللَّهُ- وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ عَبْدُهُ-: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟

قَالَا يَا رَبِّ إِنَّهُ قَالَ: لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمَا: اكْتُبَاهَا كَمَا قَالَ عَبْدِي حَتَّى يَلْقَانِي وَأَجْزِيهِ بِهَا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» . رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الرَّبُّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُقَالُ فِي غَيْرِهِ إِلَّا بِالْإِضَافَةِ، وَقَدْ قَالُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِلْمَلِكِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الرَّبُّ الْمَالِكُ. وَمِنْهُ قَوْلُ صَفْوَانَ لِأَبِي سُفْيَانَ: لَأَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ كَلَامِ الصِّحَاحِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالرَّبُّ السَّيِّدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وَفِي الْحَدِيثِ «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّهَا» ، وَالرَّبُّ: المصلح وَالْجَابِرُ وَالْقَائِمُ قَالَ: وَالرَّبُّ: الْمَعْبُودُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ ... لَقَدْ هَانَ «1» من بالت عليه الثّعالب والعالمين: جَمْعُ الْعَالَمِ، وَهُوَ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ أَهْلُ كُلِّ زَمَانٍ عَالَمٌ، قَالَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَالَمُونَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: الْعَالَمُ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يَعْقِلُ وَهُمْ أَرْبَعَةُ أُمَمٍ: الْإِنْسُ، وَالْجِنُّ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَالشَّيَاطِينُ. وَلَا يُقَالُ لِلْبَهَائِمِ عَالَمٌ، لِأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ إِنَّمَا هُوَ جَمْعُ مَا يَعْقِلُ. حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَذَكَرَ أَدِلَّتَهَا وَقَالَ: إِنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لِأَنَّهُ شَامِلٌ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ وَمَوْجُودٍ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا «2» وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَلَامَةِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مُوجِدِهِ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ: الْعَالَمُ: كُلُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَمْعُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا لِلْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: سَاغَ ذَلِكَ لِمَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ فِيهِ، وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنَى الْعِلْمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ الْعالَمِينَ قال: إله الخلق كله، السموات كُلُّهُنَّ وَمَنْ فِيهِنَّ. وَالْأَرَضُونَ كُلُّهُنَّ وَمِنْ فِيهِنَّ، وَمَنْ بَيْنَهُنَّ مِمَّا يُعْلَمُ وَمِمَّا لَا يُعْلَمُ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قد تقدم تفسيرهما. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بَعْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَنَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي اتِّصَافِهِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ تَرْهِيبٌ قَرَنَهُ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِمَا تَضَمَّنَ مِنَ التَّرْغِيبِ، لِيَجْمَعَ فِي صِفَاتِهِ بَيْنَ الرَّهْبَةِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، فَيَكُونَ أَعُونَ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَمْنَعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:

_ (1) . في القرطبي «ذلّ» . (2) . الشعراء: 23- 24.

نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «1» . وَقَالَ: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ «2» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ فِي جَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنِطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ» انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ: مَا وُصِفَ مِنْ خَلْقِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قَالَ: مَدَحَ نَفْسَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْفَاتِحَةِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قُرِئَ مَلِكِ وَمَالِكَ وَمَلْكِ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَمَلَكَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَبْلَغُ مَلِكِ أَوْ مَالِكِ؟ فَقِيلَ إِنَّ مَلِكَ أَعَمُّ وَأَبْلَغُ مِنْ مَالِكٍ، إِذْ كُلُّ مَلِكٍ مَالِكٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَالِكٍ مَلِكًا، وَلِأَنَّ أَمْرَ الْمَلِكِ نَافِذٌ عَلَى الْمَالِكِ فِي ملكه حتى لا يتصرف إلا بتدبير الْمَلِكِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ وَرَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ مَالِكٌ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَالِكًا لِلنَّاسِ وَغَيْرِهِمْ، فَالْمَالِكُ أَبْلَغُ تَصَرُّفًا وَأَعْظَمُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّ مَالِكًا أَبْلَغُ فِي مَدْحِ الْخَالِقِ مِنْ مَلِكٍ. وَمَلِكٌ أَبْلَغُ فِي مَدْحِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ مَالِكٍ، لِأَنَّ الْمَالِكَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَلِكٍ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَالِكًا كَانَ مَلِكًا. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَالْحَقُّ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ نَوْعَ أَخَصِّيَّةٍ لَا يُوجَدُ فِي الآخر فالمالك يقدر على ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَلِكُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِمَا هُوَ مَالِكٌ لَهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهَا، وَالْمَلِكُ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَالِكُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْعَائِدَةِ إِلَى تَدْبِيرِ الْمَلِكِ وَحِيَاطَتِهِ وَرِعَايَةِ مَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ فَالْمَالِكُ أَقْوَى مِنَ الْمَلِكِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَالْمَلِكُ أَقْوَى مِنَ الْمَالِكِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَلِكَ صِفَةٌ لَذَّاتِهِ، والمالك صفة لفعله. ويوم الدِّينِ: يَوْمُ الْجَزَاءِ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ كَمَا قَالَ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ- ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ- يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «3» وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إِلَى الظَّرْفِ عَلَى طَرِيقِ الِاتِّسَاعِ، كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار ويوم الدِّينِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فَقَدْ يُضَافُ اسْمُ الْفَاعِلِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِكَ: هَذَا ضَارِبٌ زَيْدًا غَدًا. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ مَلِكِ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يَقْرَءُونَ مَالِكِ بِالْأَلِفِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا وَكِيعٌ فِي تَفْسِيرِهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ يَرْفَعُهُ مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، فَهُوَ أَرْجَحُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا يَوْمَ الدِّينِ بِيَوْمِ الْحِسَابِ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَوْمِ الدِّينِ: يَوْمَ يدين الله العباد بأعمالهم.

_ (1) . الحجر: 49- 50. (2) . غافر: 3. (3) . الانفطار: 17- 19.

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قِرَاءَةُ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ عَمْرُو بن فائد بِتَخْفِيفِهَا مَعَ الْكَسْرِ وَقَرَأَ الْفَضْلُ وَالرَّقَاشِيُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَقَرَأَ أَبُو السَّوَّارِ الْغَنَوِيُّ «هَيَّاكَ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَالضَّمِيرُ الْمُنْفَصِلُ هُوَ «إِيَّا» وَمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْكَافِ وَالْهَاءِ وَالْيَاءِ هِيَ حُرُوفٌ لِبَيَانِ الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ وَالتَّكَلُّمِ، وَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْفِعْلِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ، وَقِيلَ لِلِاهْتِمَامِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَهُمَا وَلَا تَزَاحُمَ بَيْنَ الْمُقْتَضَيَاتِ. وَالْمَعْنَى: نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ وَنَخُصُّكَ بِالِاسْتِعَانَةِ، لَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ وَلَا نَسْتَعِينُهُ، وَالْعِبَادَةُ أَقْصَى غَايَاتِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَجْمَعُ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخَوْفِ، وَعَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِقَصْدِ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا نُقِلَ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ كَانَ أَحْسَنَ تَطْرِيَةً لِنَشَاطِ السَّامِعِ، وَأَكْثَرَ إِيقَاظًا لَهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. وَالْمَجِيءُ بِالنُّونِ فِي الْفِعْلَيْنِ لِقَصْدِ الْإِخْبَارِ مِنَ الدَّاعِي عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ جِنْسِهِ مِنَ الْعِبَادِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَقَامَ لَمَّا كَانَ عَظِيًما لَمْ يَسْتَقِلَّ بِهِ الْوَاحِدُ اسْتِقْصَارًا لِنَفْسِهِ وَاسْتِصْغَارًا لَهَا، فَالْمَجِيءُ بِالنُّونِ لِقَصْدِ التَّوَاضُعِ لَا لِتَعْظِيمِ النَّفْسِ وَقُدِّمَتِ الْعِبَادَةُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ لِكَوْنِ الْأُولَى وَسِيلَةً إِلَى الثَّانِيَةِ، وَتَقْدِيمُ الْوَسَائِلِ سَبَبٌ لِتَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ، وَإِطْلَاقُ الِاسْتِعَانَةِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ: يَعْنِي إِيَّاكَ نُوَحِّدُ وَنَخَافُ يَا رَبَّنَا لَا غَيْرَكَ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى طَاعَتِكَ وَعَلَى أُمُورِنَا كُلِّهَا. وَحَكَى ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ وَأَنْ تَسْتَعِينُوهُ عَلَى أَمْرِكُمْ. وَفِي صَحِيحِ مسلم من حديث المعلّى ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» . وَأَخْرَجَ أبو القاسم البغوي والماوردي مَعًا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غَزَاةٍ فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الرِّجَالَ تُصْرَعُ فَتَضْرِبُهَا الْمَلَائِكَةُ مِنْ بين يديها ومن خلفها. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قرأه الجمهور بالصاد، وقرئ «السراط» بالسين، و «الزراط» بالزاي، والهداية قد يتعدى فِعْلُهَا بِنَفْسِهِ كَمَا هُنَا، وَكَقَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1» ، وقد يتعدى بإلى كقوله: اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «2» فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «3» وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «4» وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «5» إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «6» ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ أَوْ بِإِلَى انْتَهَى. وَهِيَ الْإِرْشَادُ أَوِ التَّوْفِيقُ أَوِ الْإِلْهَامُ أَوِ الدَّلَالَةُ. وَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ مَعْنَى الْمُتَعَدِّي بِنَفَسِهِ وَغَيْرِ الْمُتَعَدِّي فَقَالُوا: معنى الأوّل الدلالة، والثاني

_ (1) . البلد: 10. (2) . النحل: 121. (3) . الصافات: 23. (4) . الشورى: 52. (5) . الأعراف: 43. (6) . الإسراء: 9.

الْإِيصَالُ. وَطَلَبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْمُهْتَدِي مَعْنَاهُ طَلَبُ الزِّيَادَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «1» وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» . والصراط: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ: هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي لُغَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ. قَالَ: ثُمَّ تَسْتَعِيرُ الْعَرَبُ الصِّرَاطَ فَتَسْتَعْمِلُهُ فَتَصِفُ الْمُسْتَقِيمَ بِاسْتِقَامَتِهِ وَالْمُعْوَجَّ بِاعْوِجَاجِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالصَّادِ. وَأَخْرَجَ سعيد ابن مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ الصِّرَاطَ بِالسِّينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ السِّرَاطَ بِالسِّينِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ حَمْزَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الزِّرَاطَ بِالزَّايِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهِيَ لُغَةٌ لِعُذْرَةَ وَكَلْبٍ وَبَنِي الْقَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يَقُولُ: أَلْهِمْنَا دِينَكَ الْحَقَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ فَالصِّرَاطُ: الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقٍ: وَاعِظُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: وَهُوَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ «هُوَ كِتَابُ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ طَرِيقُ الْحَجِّ، قَالَ: وَهَذَا خَاصٌّ وَالْعُمُومُ أَوْلَى انْتَهَى. وَجَمِيعُ مَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا عَدَا هَذَا الْمَرْوِيَّ عَنِ الْفُضَيْلِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْإِسْلَامَ أَوِ الْقُرْآنَ أَوِ النبيّ قد اتَّبَعَ الْحَقَّ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَ هَذَا فَقَالَ وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الآية عندي أن يكون مَعْنِيًّا بِهِ: وَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا ارْتَضَيْتَهُ، وَوَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِكَ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَذَلِكَ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، لِأَنَّ مَنْ وُفِّقَ إِلَيْهِ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَقَدْ وُفِّقَ لِلْإِسْلَامِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ، وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَالِانْزِجَارِ عَمَّا زَجَرَهُ عَنْهُ، وَاتِّبَاعِ مِنْهَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَاجِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَكُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ، وكل ذلك من الصراط المستقيم. انتهى.

_ (1) . محمد: 17. (2) . العنكبوت: 69.

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ انْتَصَبَ صِرَاطَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَفَائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّثْنِيَةِ وَالتَّكْرِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ، وَفَائِدَتُهُ الْإِيضَاحُ، وَالَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً «1» وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام وغير الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، على معنى: أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال، أو صفة له عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ نِعْمَةَ الْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَصَحَّ جَعْلُهُ صِفَةً لِلْمَعْرِفَةِ مَعَ كَوْنِ غَيْرِ لَا تَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعَارِفِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِبْهَامِ، لِأَنَّهَا هُنَا غَيْرُ مُبْهَمَةٍ لِاشْتِهَارِ الْمُغَايِرَةِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ. وَالْغَضَبُ فِي اللُّغَةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الشِّدَّةُ، وَرَجُلٌ غَضُوبٌ: أَيْ شَدِيدُ الْخُلُقِ، وَالْغَضُوبُ: الْحَيَّةُ الْخَبِيثَةُ لِشِدَّتِهَا. قَالَ: وَمَعْنَى الْغَضَبِ فِي صِفَةِ اللَّهِ: إِرَادَةُ الْعُقُوبَةِ فَهُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ، أَوْ نَفْسُ الْعُقُوبَةِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ» فَهُوَ صِفَةُ فِعْلِهِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: هُوَ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ مِنَ الْعُصَاةِ وَإِنْزَالُ الْعُقُوبَةِ بِهِمْ، وَأَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا يَفْعَلُهُ الْمَلِكُ إِذَا غَضِبَ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ عَلَيْهِمُ الْأُولَى وَعَلَيْهِمُ الثَّانِيَةِ، أَنَّ الْأُولَى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالثَّانِيَةَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ. وَ «لا» في قوله ولا الضّالّين تأكيد النفي الْمَفْهُومِ مِنْ غَيْرِ وَالضَّلَالُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ الذَّهَابُ عَنْ سَنَنِ الْقَصْدِ وَطَرِيقِ الْحَقِّ، وَمِنْهُ ضَلَّ اللَّبَنُ فِي الْمَاءِ: أي غاب، ومنه أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «2» أَيْ غِبْنَا بِالْمَوْتِ وَصِرْنَا تُرَابًا. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وأبو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ «صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم وغير الضّالّين» وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَرَأَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابن الْأَنْبَارِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ «عَلَيْهِمِي» بِكَسْرِ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَإِثْبَاتِ الْيَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ الْأَعْرَجِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ «عَلَيْهُمُو» بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَإِلْحَاقِ الْوَاوِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ «عَلَيْهِمُو» بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ مَعَ إِلْحَاقِ الْوَاوِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَرَأَ «عَلَيْهِمْ» بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ غَيْرِ إِلْحَاقِ واو. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْأَسْوَدِ أنهما كانا يقرءان كَقِرَاءَةِ عُمَرَ السَّابِقَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يَقُولُ: طَرِيقُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ أَطَاعُوكَ وَعَبَدُوكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قَالَ: النَّبِيُّونَ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قَالَ: الْيَهُودُ. وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ: النَّصَارَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: «أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى عَلَى فَرَسٍ لَهُ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ فَقَالَ: مَنِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْيَهُودُ، قَالَ: فَمَنِ الضَّالُّونَ؟ قَالَ: النَّصَارَى» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أبي ذرّ

_ (1) . النساء: 69- 70. [.....] (2) . السجدة: 10.

قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ وَكِيعٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَاصِرُ أَهْلَ وَادِي الْقُرَى فَقَالَ لَهُ رَجُل.. إِلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَخْبَرَنِي من سمع النبي صلّى الله عليه وسلم كَالْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ عَنِ ابْنِ عَمٍّ لَهُ أَنَّهُ قَالَ: أتيت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي تفسيره، وسعيد بن المنصور عَنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ: الْيَهُودُ، وَالضَّالُّونَ: النَّصَارَى» . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ في صحيحه عن عدي ابن حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ هُمُ الْيَهُودُ، وَإِنَّ الضَّالِّينَ: النَّصَارَى» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الشَّرِيدِ قَالَ: «مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا، وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِي الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي فَقَالَ: أَتَقْعُدُ قَعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ؟!» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَدِيٍّ هَذَا مِنْ طُرُقٍ، وَلَهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا. انْتَهَى. وَالْمَصِيرُ إِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ النَّبَوِيِّ مُتَعَيِّنٌ، وَهُوَ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ مِنَ السَّلَفِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِالْيَهُودِ، وَالضَّالِّينَ بِالنَّصَارَى. وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّفْسِيرِ النَّبَوِيِّ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ «1» وَقَالَ فِي الْمَائِدَةِ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ «2» وَفِي السِّيرَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الشَّامِ يَطْلُبُونَ الدِّينَ الْحَنِيفَ، قَالَ الْيَهُودُ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ الدُّخُولَ مَعَنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، فَقَالَ: أَنَا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ أَفِرُّ، وَقَالَتْ لَهُ النَّصَارَى: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ الدُّخُولَ مَعَنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُهُ، فَاسْتَمَرَّ عَلَى فِطْرَتِهِ وَجَانَبَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ. [فَائِدَةٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّأْمِينِ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ] اعْلَمْ أَنَّ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الثَّابِتَةَ تَوَاتُرًا، قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. فَقَالَ: آمِينْ. مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ» وَلِأَبِي دَاوُدَ «رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ» وَقَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَفِي لَفْظٍ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ «رَبِّ اغْفِرْ لِي آمِينْ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ: «آمِينْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: «لَمَّا أَقْرَأَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَبَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ: قُلْ آمِينْ، فَقَالَ آمِينْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ آمِينْ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَرَأَ» يَعْنِي الْإِمَامَ «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَقُولُوا: آمِينْ يحبّكم الله» .

_ (1) . البقرة: 90. (2) . المائدة: 60.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ قَالَ السُّيُوطِيُّ: صَحِيحٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ حُسَّدٌ، حَسَدُوكُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ: إِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِقَامَةِ الصَّفِّ، وَآمِينْ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى آمِينْ، فَأَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ آمِينْ» . وَوَجْهُ ضَعْفِهِ: أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ طَلْحَةَ بْنَ عَمْرٍو وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَالَ آمِينْ، لَمْ يَبْقَ مَلَكٌ فِي السَّمَاءِ مُقَرَّبٌ إِلَّا اسْتَغْفَرَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينْ» وَمَعْنَى آمِينْ: اسْتَجِبْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: مَعْنَى آمِينْ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ: اللهم اسْتَجِبْ لَنَا، وُضِعَ مَوْضِعَ الدُّعَاءِ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ مَعْنَى آمِينْ: كَذَلِكَ فَلْيَكُنْ. وَأَخْرَجَ جُوَيْبِرٌ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا مَعْنَى آمِينْ؟ قَالَ: رَبِّ افْعَلْ» . وَأَخْرَجَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أبي صالح عن أبي عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ وَمُجَاهِدٍ قَالَا: آمِينْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا. وَفِيهِ لُغَتَانِ، الْمَدُّ عَلَى وَزْنِ فَاعِيلَ كَيَاسِينَ. وَالْقَصْرُ عَلَى وَزْنِ يَمِينٍ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي الْمَدِّ: يَا رَبُّ لَا تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدًا ... وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ آمِينَا وَقَالَ آخَرُ: آمِينْ آمِينْ لَا أَرْضَى بِوَاحِدَةٍ ... حَتَّى أُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَتَشْدِيدُ الْمِيمِ خَطَأٌ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ وَالْحُسَيْنِ بْنِ فَضْلٍ التَّشْدِيدُ، مِنْ أَمَّ إِذَا قَصَدَ: أَيْ نَحْنُ قَاصِدُونَ نَحْوَكَ، حَكَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ مِثْلُ أَيْنَ وَكَيْفَ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنِينَ، وَتَقُولُ مِنْهُ: أَمَّنَ فُلَانٌ تَأْمِينًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْجَهْرِ بِهَا، وَفِي أَنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا أَمْ لَا؟ وذلك مبيّن في مواطنه.

سورة البقرة

سورة البقرة ترتيبها 2 آياتها 286 قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي مُدَدٍ شَتَّى. وَقِيلَ هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «1» فَإِنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ، وَنَزَلَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى، وَآيَاتُ الرِّبَا أَيْضًا مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ انْتَهَى. وَأَخْرَجَ أَبُو الضُّرَيْسِ فِي فَضَائِلِهِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَحَادِيثُ، مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا تَقَدَّمُهُمْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ» قَالَ: وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قَالَ: «كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أَوْ كَأَنَّهُمَا ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَّافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» ، ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: «تَعْلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ تُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَّافَّ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَحْمَدُ وَحُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ ومسلم وابن حبان وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا الْبَزَّارُ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِهِ بِنَحْوِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا، وَسَنَامُ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، مَنْ قَرَأَهَا فِي بَيْتِهِ نَهَارًا لَمْ يَدْخُلْهُ الشَّيْطَانُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي بَيْتِهِ لَيْلًا لَمْ يَدْخُلْهُ الشَّيْطَانُ ثَلَاثَ لَيَالٍ» . وأخرج أحمد ومحمد ابن نَصْرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَقَرَةُ سَنَامُ الْقُرْآنِ وَذُرْوَتُهُ، نَزَلَ مَعَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا ثَمَانُونَ مَلَكًا وَاسْتُخْرِجَتْ- اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ- من تحت العرش فوصلت

_ (1) . البقرة: 281.

بِهَا» . وَأَخْرَجَ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ وَابْنُ عساكر في تاريخه عن ربيعة الجرشي قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ، قِيلَ فَأَيُّ الْبَقَرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ: «بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ فَانْصَرَفَ إِلَى ابْنِهِ يَحْيَى وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ، فَلَمَّا أَخَذَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِمِثْلِ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ عَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟ قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهَا النَّاسُ لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ» وَلِهَذَا الْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا فَاسْتَقْرَأَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ» يَعْنِي مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ «فَأَتَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ: مَا مَعَكَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: مَعِي كَذَا وَكَذَا وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ، قَالَ: أَمَعَكَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: «اسْتَعْمَلَنِي رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَيْهِ مِنْ ثَقِيفٍ، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْتُ قَرَأْتُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عن الصلصال بن الدلهمس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَجْعَلُوهَا قُبُورًا» قَالَ: «وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ تُوِّجَ بِتَاجٍ فِي الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عَمِّهِ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَشْيَاخَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَدَّثُوا عَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قِيلَ لَهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ لَمْ تَزَلْ دَارُهُ الْبَارِحَةَ تَزْهَرُ مَصَابِيحَ، قَالَ: فَلَعَلَّهُ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، قَالَ: فَسُئِلَ ثَابِتٌ فَقَالَ: قَرَأْتُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِبْهَامًا ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ. وَقَدْ رَوَى أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ فِي فَضَائِلِهَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً وَآثَارًا عَنِ الصَّحَابَةِ وَاسِعَةً، وَمِنْ فَضَائِلِهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَمَا هُوَ خَاصٌّ بِخَوَاتِمِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ ذَلِكَ، وَمَا هُوَ فِي فَضْلِهَا وَفَضْلِ آلِ عِمْرَانَ، وَقَدْ سَبَقَ أَيْضًا بَعْضٌ مِنْ ذَلِكَ وَمَا هُوَ فِي فَضْلِ السَّبْعِ الطِّوَالِ، كَمَا أَخْرَجَ أَبُو عبيد عن واثلة ابن الأسقع عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ السَّبْعَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأُعْطِيتُ الْمِئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ، وَأُعْطِيتُ الْمَثَانِي مَكَانَ الزَّبُورِ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ» وَفِي إِسْنَادِهِ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ وَفِيهِ لِينٌ، وَقَدْ رَوَاهُ بِسَنَدٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَخَذَ السَّبْعَ فَهُوَ خَيْرٌ» . وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهَا أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ بِاللَّفْظِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَخَذَ السَّبْعَ الْأُوَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ خَيْرٌ» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ سعيد ابن جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «1» قَالَ: هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءُ وَالْمَائِدَةُ وَالْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ وَيُونُسُ، وَبِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَمَكْحُولٌ وَعَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ وَأَبُو مُحَمَّدٍ القاري شدّاد ابن عبد الله ويحيى بن الحارث الذماري.

_ (1) . الحجر: 87.

[سورة البقرة (2) : آية 1]

وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَلَا سُورَةُ آلِ عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله. فَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَا تَقُولُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَلَا سُورَةَ آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كُلُّهُ، وَلَكِنْ قُولُوا السُّورَةَ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ، وَالسُّورَةَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ، وَكَذَا الْقُرْآنُ كُلُّهُ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ، وَفِي إِسْنَادِهِ يَحْيَى بْنُ مَيْمُونٍ الْخَوَّاصُّ وَهُوَ ضَعِيفُ الرِّوَايَةِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَا تَقُولُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَكِنْ قُولُوا السُّورَةَ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافَ هَذَا. فَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَمَى الْجَمْرَةَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ رَمَضَانَ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا مُتَرَسِّلًا. الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ الضُّرَيْسِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْتُ أَقُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْلِ فَيَقْرَأُ بِالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: «قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ» الْحَدِيثَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البقرة (2) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) الم قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ: هِيَ سِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَلِلَّهِ فِي كُلِّ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ سِرٌّ، فَهِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهَا وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِهَا، وَتُمَدُّ كَمَا جَاءَتْ. وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ مِنَ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَمْ نَجِدِ الْحُرُوفَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَلَا نَدْرِي مَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَثِيرٌ: بَلْ نُحِبُّ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهَا وَنَلْتَمِسَ الْفَوَائِدَ الَّتِي تَحْتَهَا، وَالْمَعَانِيَ الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ عَدِيدَةٍ، فَرُوِيَ عن ابن عباس وعليّ أيضا عن الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي الْقُرْآنِ: اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِفُ تَأْلِيفَهُ مِنْهَا. وَقَالَ قُطْرُبٌ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ أَعْلَمَ اللَّهُ بِهَا الْعَرَبَ حِينَ تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُؤْتَلِفٌ مِنْ حُرُوفٍ هِيَ الَّتِي بِنَاءُ كَلَامِهِمْ عَلَيْهَا لِيَكُونَ عَجْزُهُمْ عَنْهُ أَبْلَغَ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَخْرُجُ عَنْ كلامهم. قال قطرب: كانوا يَنْفِرُونَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا نَزَلَ الم والمص اسْتَنْكَرُوا هَذَا اللَّفْظَ، فَلَمَّا أَنْصَتُوا لَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ الْمُؤْتَلِفِ لِيُثْبِتَهُ فِي أَسْمَاعِهِمْ وَآذَانِهِمْ وَيُقِيمَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ بمكة وقالوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «1» فأنزلها استغربوها، فيفتحون أسماعهم،

_ (1) . فصلت: 26.

فيسمعون بالقرآن بَعْدَهَا، فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هِيَ حُرُوفٌ دَالَّةٌ عَلَى أَسْمَاءٍ أُخِذَتْ مِنْهَا وَحُذِفَتْ بَقِيَّتُهَا، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: الْأَلِفُ مِنَ اللَّهِ وَاللَّامُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالْمِيمُ مِنْ مُحَمَّدٍ. وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الزَّجَّاجُ فَقَالَ: أَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا يُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى. وَقَدْ تَكَلَّمَتِ الْعَرَبُ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ كَقَوْلِهِ: فَقُلْتُ لَهَا قِفِي، فَقَالَتْ قَافِ أَيْ: وَقَفْتُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ» قَالَ شَقِيقٌ: هُوَ أَنْ يَقُولَ فِي اقْتُلْ اقْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَى بِالسَّيْفِ شَا» أَيْ شَافِيًا، وَفِي نُسْخَةٍ شَاهِدًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هِيَ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ أَقْسَامٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا وَهِيَ مِنْ أَسْمَائِهِ. وَمِنْ أَدَقِّ مَا أَبْرَزَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْحُرُوفِ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ مَا أَوْرَدَهُ اللَّهُ عَزَّ سُلْطَانُهُ فِي الْفَوَاتِحِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَجَدْتَهَا نِصْفَ أَسَامِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَوَاءً: وَهِيَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ وَالصَّادُ وَالرَّاءُ وَالْكَافُ وَالْهَاءُ وَالْيَاءُ وَالْعَيْنُ وَالطَّاءُ وَالسِّينُ وَالْحَاءُ وَالْقَافُ وَالنُّونُ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً عَلَى عَدَدِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، ثُمَّ إِذَا نَظَرْتَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَجَدْتَهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى أَنْصَافِ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ. بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهَا مِنَ الْمَهْمُوسَةِ نِصْفَهَا الصَّادَ وَالْكَافَ وَالْهَاءَ والسين والحاء، ومن الجهورة نِصْفَهَا الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَالْمِيمَ وَالرَّاءَ وَالْعَيْنَ وَالطَّاءَ وَالْقَافَ وَالْيَاءَ وَالنُّونَ، وَمِنَ الشَّدِيدَةِ نِصْفَهَا الْأَلِفَ والكاف والطاء والقاف، وَمِنَ الرِّخْوَةِ نِصْفَهَا اللَّامَ وَالْمِيمَ وَالرَّاءَ وَالصَّادَ وَالْهَاءَ وَالْعَيْنَ وَالسِّينَ وَالْحَاءَ وَالْيَاءَ وَالنُّونَ، وَمِنَ الْمُطْبَقَةِ نِصْفَهَا الصَّادَ وَالطَّاءَ، وَمِنَ الْمُنْفَتِحَةِ نِصْفَهَا الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَالْمِيمَ وَالرَّاءَ وَالْكَافَ وَالْهَاءَ وَالْعَيْنَ وَالسِّينَ وَالْحَاءَ وَالْقَافَ وَالْيَاءَ وَالنُّونَ، وَمِنَ الْمُسْتَعْلِيَةِ نِصْفَهَا الْقَافَ وَالصَّادَ وَالطَّاءَ، وَمِنَ الْمُنْخَفِضَةِ نِصْفَهَا الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَالْمِيمَ وَالرَّاءَ وَالْكَافَ وَالْهَاءَ وَالتَّاءَ وَالْعَيْنَ وَالسِّينَ وَالْحَاءَ وَالنُّونَ، وَمِنْ حُرُوفِ الْقَلْقَلَةِ نَصْفَهَا الْقَافَ وَالطَّاءَ. ثُمَّ إِذَا اسْتَقْرَيْتَ الْكَلِمَ وَتَرَاكِيبَهَا رَأَيْتَ الْحُرُوفَ الَّتِي أَلْغَى اللَّهُ ذِكْرَهَا مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْمَعْدُودَةِ مَكْنُوزَةً بِالْمَذْكُورَةِ مِنْهَا، فَسُبْحَانَ الَّذِي دَقَّتْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حِكْمَتُهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مُعْظَمَ الشَّيْءِ وَجُلَّهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ كُلِّهِ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلَطَائِفِ التَّنْزِيلِ وَاخْتِصَارَاتِهِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ اسْمُهُ عَدَّدَ عَلَى الْعَرَبِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي مِنْهَا تَرَاكِيبُ كَلَامِهِمْ إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْتُ مِنَ التَّبْكِيتِ لَهُمْ وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ إِيَّاهُمْ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَمَّدَ بِالذِّكْرِ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ أَكْثَرَهَا وُقُوعًا فِي تَرَاكِيبِ الْكَلِمِ، أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَمَّا تَكَاثَرَ وُقُوعُهُمَا فِيهَا جَاءَتَا فِي مُعْظَمِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ مُكَرَّرَتَيْنِ، وَهِيَ فَوَاتِحُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالرُّومِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَلُقْمَانَ وَالسَّجْدَةِ وَالْأَعْرَافِ وَالرَّعْدِ وَيُونُسَ وَإِبْرَاهِيمَ وَهُودٍ وَيُوسُفَ وَالْحِجْرِ انْتَهَى. وَأَقُولُ: هَذَا التَّدْقِيقُ لَا يَأْتِي بِفَائِدَةٍ يُعْتَدُّ بِهَا، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلْزَامَ الْحُجَّةِ وَالتَّبْكِيتِ كَمَا قَالَ، فَهَذَا مُتَيَسِّرٌ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ: هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي تَتَكَلَّمُونَ بِهَا لَيْسَ هُوَ مِنْ حُرُوفٍ مُغَايِرَةٍ لَهَا، فَيَكُونُ هَذَا تَبْكِيتًا وَإِلْزَامًا يَفْهَمُهُ كُلُّ سَامِعٍ مِنْهُمْ مِنْ دُونِ إِلْغَازٍ وَتَعْمِيَةٍ وَتَفْرِيقٍ لِهَذِهِ الْحُرُوفِ فِي فَوَاتِحِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً، فَإِنَّ هَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّطْوِيلِ الَّذِي لَا يَسْتَوْفِيهِ سَامِعُهُ إِلَّا بِسَمَاعِ جَمِيعِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ، هُوَ أَيْضًا مِمَّا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ مِنَ السَّامِعِينَ وَلَا يَتَعَقَّلُ شَيْئًا مِنْهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ تَبْكِيتًا لَهُ وَإِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ أَيًّا كَانَ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ أَمْرٌ وَرَاءَ الْفَهْمِ، مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْهَمِ السَّامِعُ هَذَا، وَلَا ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَنْ فَرْدٍ مِنْ أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لَهُمْ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ بَلَغَ

فَهْمُهُ إِلَى بَعْضِ هَذَا فَضْلًا عَنْ كُلِّهِ. ثُمَّ كَوْنُ هَذِهِ الْحُرُوفِ مُشْتَمِلَةً عَلَى النِّصْفِ مِنْ جَمِيعِ الْحُرُوفِ الَّتِي تَرَكَّبَتْ لُغَةُ الْعَرَبِ مِنْهَا، وَذَلِكَ النِّصْفُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْصَافِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ هُوَ أَمْرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ لِجَاهِلِيٍّ وَلَا إِسْلَامِيٍّ وَلَا مُقِرٍّ وَلَا مُنْكِرٍ وَلَا مُسَلِّمٍ وَلَا مُعَارِضٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْصِدًا مِنْ مَقَاصِدِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، الَّذِي أَنْزَلَ كِتَابَهُ لِلْإِرْشَادِ إِلَى شَرَائِعِهِ وَالْهِدَايَةِ بِهِ. وَهَبْ أَنَّ هَذِهِ صِنَاعَةٌ عَجِيبَةٌ وَنُكْتَةٌ غَرِيبَةٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّصِفُ بِفَصَاحَةٍ وَلَا بَلَاغَةٍ حَتَّى يَكُونَ مُفِيدًا أَنَّهُ كَلَامٌ بَلِيغٌ أَوْ فَصِيحٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ الْوَاقِعَةَ فِي الْفَوَاتِحِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْعَرَبِ حَتَّى يَتَّصِفَ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَغَايَةُ مَا هُنَاكَ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ وَلَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ. وأَيْضًا لَوْ فُرِضَ أَنَّهَا كَلِمَاتٌ مُتَرَكِّبَةٌ بِتَقْدِيرِ شَيْءٍ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا لَمْ يَصِحَّ وَصْفُهَا بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا تَعْمِيَةٌ غَيْرُ مَفْهُومَةٍ لِلسَّامِعِ إِلَّا بِأَنْ يَأْتِيَ مَنْ يُرِيدُ بَيَانَهَا بِمِثْلِ مَا يَأْتِي بِهِ مَنْ أَرَادَ بَيَانَ الْأَلْغَازِ وَالتَّعْمِيَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ، بَلْ مِنْ عَكْسِهِمَا وَضِدِّ رَسْمِهِمَا، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْحُرُوفِ جَازِمًا بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَدْ غَلِطَ أَقْبَحَ الْغَلَطِ، وَرَكِبَ فِي فَهْمِهِ وَدَعْوَاهُ أَعْظَمَ الشَّطَطِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُ لَهَا بِمَا فَسَّرَهَا بِهِ رَاجِعًا إِلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَعُلُومِهَا فَهُوَ كَذِبٌ بَحْتٌ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا سَمِعَهُ السَّامِعُ مِنْهُمْ كَانَ مَعْدُودًا عِنْدَهُ مِنَ الرَّطَانَةِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى أَحْرُفٍ أَوْ حُرُوفٍ مِنَ الْكَلِمَةِ الَّتِي يُرِيدُونَ النُّطْقَ بِهَا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيُفِيدُ مَعْنَاهُ، بِحَيْثُ لَا يَلْتَبِسُ عَلَى سَامِعِهِ كَمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ التَّرْخِيمِ، وَأَيْنَ هَذِهِ الْفَوَاتِحُ الْوَاقِعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مِنْ هَذَا؟ وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِفَادَةُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَعُلُومِهَا لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ التَّفْسِيرُ بِمَحْضِ الرَّأْيِ الَّذِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَجَنُّبِهِ وَالصَّدِّ عَنْهُ وَالتَّنَكُّبِ عَنْ طَرِيقِهِ، وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوا كِتَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِلْعَبَةً لَهُمْ يَتَلَاعَبُونَ بِهِ وَيَضَعُونَ حَمَاقَاتِ أَنْظَارِهِمْ وَخُزَعْبَلَاتِ أَفْكَارِهِمْ عَلَيْهِ. الثَّانِي التَّفْسِيرُ بِتَوْقِيفٍ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَهَذَا هُوَ الْمَهْيَعُ «1» الْوَاضِحُ وَالسَّبِيلُ الْقَوِيمُ، بَلِ الْجَادَّةُ الَّتِي مَا سِوَاهَا مَرْدُومٌ، وَالطَّرِيقَةُ الْعَامِرَةُ الَّتِي مَا عَدَاهَا مَعْدُومٌ، فَمَنْ وَجَدَ شيئا من هذا فغير ملوم أَنْ يَقُولَ بِمِلْءِ فِيهِ وَيَتَكَلَّمَ بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ لَا أَدْرِي، أَوِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ طَلَبِ فَهْمِ الْمُتَشَابِهِ وَمُحَاوَلَةِ الْوُقُوفِ عَلَى عِلْمِهِ مَعَ كَوْنِهِ أَلْفَاظًا عَرَبِيَّةً وَتَرَاكِيبَ مَفْهُومَةً، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَتَبُّعَ ذَلِكَ صَنِيعَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَكَيْفَ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ؟ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِيهِ إِنَّهُ مُتَشَابِهُ الْمُتَشَابِهِ عَلَى فَرْضِ أَنَّ لِلْفَهْمِ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَلِكَلَامِ الْعَرَبِ فِيهِ مَدْخَلًا، فَكَيْفَ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَانْظُرْ كَيْفَ فَهِمَ الْيَهُودُ عِنْدَ سَمَاعِ الم فَإِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَجِدُوهَا عَلَى نَمَطِ لُغَةِ الْعَرَبِ فَهِمُوا أَنَّ الْحُرُوفَ الْمَذْكُورَةَ رَمْزٌ إِلَى مَا يَصْطَلِحُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ لَهَا، كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قال: «مرّ أبو ياسر ابن أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنْ يَهُودَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الم- ذلِكَ الْكِتابُ لا

_ (1) . المهيع: الطريق الواسع البيّن.

فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ محمدا يتلوا فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الم ذَلِكَ الْكِتَابُ، فَقَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ نَعَمْ، فَمَشَى حُيَيٌّ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! أَلَمْ تَذْكُرْ أَنَّكَ تتلوا فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ الم- ذلِكَ الْكِتابُ قَالَ: بَلَى، قَالُوا: أَجَاءَكَ بِهَذَا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ قَبْلَكَ الْأَنْبِيَاءَ مَا نَعْلُمُهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مِنْهُمْ مَا مُدَّةُ مُلْكِهِ وَمَا أَجَلُ أُمَّتِهِ غَيْرَكَ، فَقَالَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ: وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ: الْأَلِفُ وَاحِدٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً، أَفَتَدْخُلُونَ فِي دِينِ نَبِيٍّ إِنَّمَا مُدَّةُ مُلْكِهِ وَأَجَلُ أُمَّتِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً؟ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: المص، قَالَ: هَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أربعون والصاد تسعون، فهذا إِحْدَى وَسِتُّونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، هَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ غَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَا ذلك؟ قَالَ- الر- قَالَ: هَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ وَالرَّاءُ مِائَتَانِ، هَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَمِائَتَانِ، فَهَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ؟ قَالَ نَعَمْ- المر- قَالَ: فَهَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ الألف واحدة وثلاثون وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالرَّاءُ مِائَتَانِ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سنة ومائتان، ثم قال: فقد لُبِّسَ عَلَيْنَا أَمْرُكَ يَا مُحَمَّدُ حَتَّى مَا نَدْرِي قَلِيلًا أُعْطِيتَ أَمْ كَثِيرًا ثُمَّ قَامُوا، فَقَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ حُيَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْبَارِ: مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا لِمُحَمَّدٍ كُلِّهِ: إِحْدَى وَسَبْعُونَ، وَإِحْدَى وَسِتُّونَ وَمِائَةٌ، وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَانِ، وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ، فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، فَقَالُوا: لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِمْ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ «1» » فَانْظُرْ مَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ مِنْ عَدَدِ الْحُرُوفِ مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ فِي شَيْءٍ، وَتَأَمَّلْ أَيَّ مَوْضِعٍ أَحَقُّ بِالْبَيَانِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينَ قَدْ جَعَلُوا مَا فَهِمُوهُ عِنْدَ سَمَاعِ الم- ذلِكَ الْكِتابُ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ مُوجِبًا لِلتَّثْبِيطِ عَنِ الْإِجَابَةِ لَهُ وَالدُّخُولِ فِي شَرِيعَتِهِ، فَلَوْ كَانَ لِذَلِكَ مَعْنًى يُعْقَلُ وَمَدْلُولٌ يُفْهَمُ، لَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ظَنُّوهُ بَادِئَ بَدْءٍ حَتَّى لَا يَتَأَثَّرَ عَنْهُ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ التَّشْكِيكِ عَلَى مَنْ مَعَهُمْ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ شَيْءٌ يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ؟ قُلْتُ: لَا أَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهَا، بَلْ غَايَةُ مَا ثَبَتَ عَنْهُ هُوَ مُجَرَّدُ عَدَدِ حُرُوفِهَا، فَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» وَلَهُ طُرُقٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عوف بن مالك الأشجعي نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ بِقَائِلِهِ أَمْ لَيْسَ إِلَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ الْقُرْطُبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ؟ قُلْتُ: قَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: الم أحرف اشْتُقَّتْ مِنْ حُرُوفِ اسْمِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مردويه

_ (1) . آل عمران: 7.

[سورة البقرة (2) : آية 2]

عن ابن عباس في قوله الم وحم ون قَالَ: اسْمٌ مُقَطَّعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا في قوله، الم، والمص، والر، والمر، وكهيعص، وطه، وطسم، وطس، ويس، وص، وحم، وق، ون، قَالَ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ الم قَالَ: هِيَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ الم قَالَ: أَلِفٌ مِفْتَاحُ اسْمِهِ اللَّهِ، وَلَامٌ مِفْتَاحُ اسْمِهِ لَطِيفٍ، وَمِيمٌ مِفْتَاحُ اسْمِهِ مَجِيدٍ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ فِيهِمْ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ قَوْلًا صَحَّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ؟ قُلْتُ: لَا، لِمَا قَدَّمْنَا، إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ أَخَذَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا مِمَّا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَلَا مَدْخَلَ لِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَلِمَ لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ؟ قُلْتُ: تَنْزِيلُ هَذَا مَنْزِلَةَ الْمَرْفُوعِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَيْسَ مِمَّا يَنْشَرِحُ لَهُ صُدُورُ الْمُنْصِفِينَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَهُوَ التَّفْسِيرُ لِكَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ دُخُولٌ فِي أَعْظَمِ الْخَطَرِ بِمَا لَا بُرْهَانَ عَلَيْهِ صَحِيحٌ إِلَّا مُجَرَّدَ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ يَبْعُدُ مِنَ الصَّحَابِيِّ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يَقُولَ بِمَحْضِ رَأْيِهِ فِيمَا لَا مَجَالَ فِيهِ لِلِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ هَذَا الِاسْتِبْعَادِ مُسَوِّغًا لِلْوُقُوعِ فِي خَطَرِ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِلَى تَفْسِيرِ بَعْضِ الْمُتَشَابِهِ كَمَا تَجِدُهُ كَثِيرًا فِي تَفَاسِيرِهِمُ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمْ، وَيَجْعَلَ هَذِهِ الْفَوَاتِحَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَشَابِهِ، ثُمَّ هَاهُنَا مَانِعٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا مُخْتَلِفٌ مُتَنَاقِضٌ، فَإِنْ عَمِلْنَا بِمَا قَالَهُ أَحَدُهُمْ دُونَ الْآخَرِ كَانَ تَحَكُّمًا لَا وَجْهَ لَهُ، وَإِنْ عَمِلْنَا بِالْجَمِيعِ كَانَ عَمَلًا بِمَا هُوَ مُخْتَلِفٌ مُتَنَاقِضٌ وَلَا يَجُوزُ. ثُمَّ هَاهُنَا مَانِعٌ غَيْرُ هَذَا المانع، وهو: أنه لو كان شيء مما قَالُوهُ مَأْخُوذًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا كَسَائِرِ مَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْهُ، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِي هَذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْخُوذًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا لَمَا تَرَكُوا حِكَايَتَهُ عَنْهُ وَرَفْعَهُ إِلَيْهِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ وَاضْطِرَابِ أَقْوَالِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلُغَةِ الْعَرَبِ فِيهِ وَلَا مَدْخَلَ لَهَا. وَالَّذِي أَرَاهُ لِنَفْسِي وَلِكُلِّ مَنْ أَحَبَّ السَّلَامَةَ وَاقْتَدَى بِسَلَفِ الْأُمَّةِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ فِي إِنْزَالِهَا حكمة لله عزّ وجلّ لا تَبْلُغُهَا عُقُولُنَا وَلَا تَهْتَدِي إِلَيْهَا أَفْهَامُنَا، وَإِذَا انْتَهَيْتَ إِلَى السَّلَامَةِ فِي مَدَاكَ فَلَا تُجَاوِزْهُ، وَسَيَأْتِي لَنَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ «1» كَلَامٌ طَوِيلُ الذُّيُولِ، وَتَحْقِيقُ تَقَبُّلِهِ صَحِيحَاتُ الْأَفْهَامِ وسليمات العقول. [سورة البقرة (2) : آية 2] ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذلِكَ الْكِتابُ هَذَا الْكِتَابُ وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَحَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَالْعَرَبُ قَدْ تَسْتَعْمِلُ الْإِشَارَةَ إِلَى الْبَعِيدِ الْغَائِبِ مَكَانَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْقَرِيبِ الْحَاضِرِ كَمَا قَالَ خُفَافٌ: أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ ... تأمّل خفافا أنّني أنا ذلكا

_ (1) . آل عمران: 7.

أَيْ أَنَا هَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ «1» - وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ «2» - تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ «3» - ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ «4» وَقِيلَ إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى غَائِبٍ وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ الْغَائِبِ، فَقِيلَ: هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ عَلَى الْخَلَائِقِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْأَجَلِ وَالرِّزْقِ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ لَا مُبَدِّلَ لَهُ، وَقِيلَ ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْأَزَلِ أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» . وَفِي رِوَايَةٍ «سَبَقَتْ» . وَقِيلَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا قَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ، وَقِيلَ إِلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَقِيلَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ قَبْلَهُ الم، وَرَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ إِلَى تَمَامِ عَشْرَةِ أَقْوَالٍ حَسْبَمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَأَرْجَحُهَا مَا صَدَّرْنَاهُ، وَاسْمُ الإشارة مبتدأ، والكتاب صِفَتُهُ، وَالْخَبَرُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَمَنْ جَوَّزَ الابتداء بالم جَعَلَ ذَلِكَ مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَخَبَرُهُ الْكِتَابُ أَوْ هُوَ صِفَتُهُ، وَالْخَبَرُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَالْجُمْلَةُ خبر المبتدأ. ويجوز أن يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ مُقَدَّرًا وَخَبَرُهُ الم وَمَا بَعْدَهُ. وَالرَّيْبُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ قَلَقُ النَّفْسِ وَاضْطِرَابُهَا، وَقِيلَ إِنَّ الرَّيْبَ: الشَّكُّ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الرَّيْبُ فِي التُّهْمَةِ وَالْحَاجَةِ، حَكَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ. وَمَعْنَى هَذَا النَّفْيِ الْعَامِّ أَنَّ الْكِتَابَ لَيْسَ بِمَظِنَّةٍ لِلرَّيْبِ لِوُضُوحِ دَلَالَتِهِ وُضُوحًا يَقُومُ مَقَامَ الْبُرْهَانِ الْمُقْتَضِي، لِكَوْنِهِ لَا يَنْبَغِي الِارْتِيَابُ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَالْوَقْفُ عَلَى فِيهِ هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ الْوَقْفُ عَلَى لَا رَيْبَ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَلَا بُدَّ لِلْوَاقِفِ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ خَبَرًا وَنَظِيرُهُ قوله تعالى: قالُوا لا ضَيْرَ «5» وَقَوْلُ الْعَرَبِ: لَا بَأْسَ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي لِسَانِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا رَيْبَ فِيهِ، فِيهِ هُدًى. وَالْهُدَى مَصْدَرٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ الدَّلَالَةُ الْمُوصِلَةُ إِلَى الْبُغْيَةِ بِدَلِيلِ وُقُوعِ الضَّلَالِ فِي مُقَابَلَتِهِ انْتَهَى. وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ عَلَى مَا سَبَقَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْهُدَى هُدَيَانِ: هُدَى دَلَالَةٍ وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ قَالَ اللَّهُ تعالى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «6» وقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «7» فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي مَعْنَاهُ الدَّلَالَةُ وَالدَّعْوَةُ وَالتَّنْبِيهُ، وَتَفَرَّدَ سُبْحَانَهُ بِالْهُدَى الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْيِيدُ والتوفيق، فقال لنبيه صلّى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «8» فَالْهُدَى عَلَى هَذَا يَجِيءُ بِمَعْنَى خَلْقِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ «9» وَقَوْلِهِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «10» انْتَهَى. وَالْمُتَّقِينَ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُمُ التَّقْوَى. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ قِلَّةُ الْكَلَامِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْمُتَّقِي فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَاهُ فَاتَّقَى، وَالْوِقَايَةُ: الصِّيَانَةُ، وَمِنْهُ: فَرَسٌ وَاقٍ، وَهَذِهِ الدَّابَّةُ تقي من وجاها: إِذَا أَصَابَهَا ضَلَعٌ مِنْ غِلَظِ الْأَرْضِ وَرِقَّةِ الْحَافِرِ، فَهُوَ يَقِي حَافِرَهُ أَنْ يُصِيبَهُ أَدْنَى شَيْءٍ يُؤْلِمُهُ. وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ: الَّذِي يَقِي نَفْسَهُ تَعَاطِيَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ انْتَهَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْكِتَابُ: الْقُرْآنُ، لَا رَيْبَ فِيهِ: لَا شَكَّ فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ قَالَ: لَا شَكَّ فِيهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: الرَّيْبُ: الشَّكُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَكَذَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ

_ (1) . السجدة: 6. (2) . الأنعام: 83. (3) . البقرة: 252. (4) . الممتحنة: 10. (5) . الشعراء: 50. [.....] (6) . الرعد: 7. (7) . الشورى: 52. (8) . القصص: 56. (9) . البقرة: 5. (10) . القصص: 56.

ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ قَالَ: نُورٌ لِلْمُتَّقِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أَيِ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ فِي التَّصْدِيقِ مِمَّا جَاءَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَنِ الْمُتَّقُونَ؟ فَقَالَ: قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَأَخْلَصُوا لِلَّهِ الْعِبَادَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: مَا التَّقْوَى؟ قَالَ: هَلْ وَجَدْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعْتَ؟ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُ الشَّوْكَ عَدَلْتُ عَنْهُ أَوْ جَاوَزْتُهُ أَوْ قَصَّرْتُ عَنْهُ، قَالَ: ذَاكَ التَّقْوَى. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: تَمَامُ التَّقْوَى أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ الْعَبْدُ حَتَّى يَتَّقِيَهُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ حِينِ يَتْرُكُ بَعْضَ مَا يَرَى أَنَّهُ حَلَالٌ خَشْيَةَ أَنْ يكون حراما يَكُونَ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ مَا قَالَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ» فَالْمَصِيرُ إِلَى مَا أَفَادَهُ هَذَا الْحَدِيثُ وَاجِبٌ، وَيَكُونُ هَذَا مَعْنًى شرعيا للمتقي أخصّ من المعنى الذي قدمنا عَنْ صَاحِبِ الْكَشَّافِ زَاعِمًا أَنَّهُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وهو وَصْفٌ لِلْمُتَّقِينَ كَاشِفٌ. وَالْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ، وَفِي الشَّرْعِ مَا سَيَأْتِي. وَالْغَيْبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: كُلُّ مَا غَابَ عَنْكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ الْغَيْبِ هُنَا، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْغَيْبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَضَعَفَّهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقَضَاءُ وَالْقَدْرُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقُرْآنُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْغُيُوبِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْغَيْبُ كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا لَا تَهْتَدِي إِلَيْهِ الْعُقُولُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَا تَتَعَارَضُ بَلْ يَقَعُ الْغَيْبُ عَلَى جَمِيعِهَا، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ حِينَ قَالَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ» انْتَهَى. وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ بِلَفْظِ «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ كِلَاهُمَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ، عَنْ تَوِيلَةَ بِنْتِ أَسْلَمَ قَالَتْ: «صَلَّيْتُ الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ فِي مَسْجِدِ بَنِي حَارِثَةَ، فَاسْتَقْبَلْنَا مَسْجِدَ إِيلِيَا فَصَلَّيْنَا سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَنَا مَنْ يُخْبِرُنَا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ، فَتَحَوَّلَ الرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ وَالنِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ، فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ وَنَحْنُ مُسْتَقْبِلُونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أُولَئِكَ قَوْمٌ آمَنُوا بِالْغَيْبِ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنْبِئُونِي بِأَفْضَلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ إِيمَانًا؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْمَلَائِكَةُ، قَالَ: هُمْ كَذَلِكَ وَيَحِقُّ لَهُمْ، وَمَا يَمْنَعُهُمْ وَقَدْ أَنْزَلَهُمُ اللَّهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي أَنْزَلَهُمْ بِهَا؟ قَالُوا: يَا رسول الله!

الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَالنُّبُوَّةِ، قَالَ: هُمْ كَذَلِكَ وَيَحِقُّ لَهُمْ، وَمَا يَمْنَعُهُمْ وَقَدْ أَنْزَلَهُمُ اللَّهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي أَنْزَلَهُمْ بِهَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ اسْتَشْهَدُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ: هُمْ كَذَلِكَ، وَمَا يَمْنَعُهُمْ وَقَدْ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ؟ قَالُوا: فَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي وَيُصَدِّقُونِي وَلَمْ يَرَوْنِي، يَجِدُونَ الْوَرَقَ الْمُعَلَّقَ فَيَعْمَلُونَ بِمَا فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا» في إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ وَفِيهِ ضَعْفٌ، وأخرج الحسن بن عرفة في جزئه الْمَشْهُورِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَفِي إِسْنَادِهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ قَيْسٍ الْبَصَرِيُّ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أَيْضًا، وَالْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ عن عوف ابن مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا لَيْتَنِي قَدْ لَقِيتُ إِخْوَانِي. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ قَوْمٌ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي إِيمَانَكُمْ وَيُصَدِّقُونِي تَصْدِيقَكُمْ وَيَنْصُرُونِي نَصْرَكُمْ، فَيَا لَيْتَنِي قَدْ لَقِيتُ إِخْوَانِي» وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي الْأَرْبَعِينَ السُّبَاعِيَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو هُدْبَةَ وَهُوَ كَذَّابٌ، وَزَادَ فِيهِ «ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ «1» الآية» . وأخرج أحمد والدارمي والباوردي وَابْنُ قَانِعٍ مَعًا فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي جُمُعَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ مِنْ قَوْمٍ أَعْظَمَ مِنَّا أَجْرًا، آمَنَّا بِكَ وَاتَّبَعْنَاكَ؟ قَالَ: مَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يَأْتِيكُمْ بِالْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ؟ بَلْ قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يَأْتِيهِمْ كِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ لَوْحَيْنِ، فَيُؤْمِنُونَ بِي وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ، أُولَئِكَ أَعْظَمُ مِنْكُمْ أَجْرًا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طَلَعَ رَاكِبَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كِنْدِيَّانِ أَوْ مَذْحَجِيَّانِ. حَتَّى أَتَيَا، فَإِذَا رَجُلَانِ مِنْ مَذْحِجٍ، فَدَنَا أَحَدُهُمَا لِيُبَايِعَهُ، فَلَمَّا أَخَذَ بِيَدِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ جَاءَكَ فَآمَنَ بِكَ وَاتَّبَعَكَ وَصَدَّقَكَ، فَمَاذَا لَهُ؟ قَالَ: طُوبَى لَهُ. فَمَسَحَ عَلَى زَنْدِهِ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ حَتَّى أَخَذَ بِيَدِهِ لِيُبَايِعَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ آمَنَ بِكَ وَصَدَّقَكَ وَاتَّبَعَكَ وَلَمْ يَرَكَ؟ قَالَ: طُوبَى لَهُ ثُمَّ طُوبَى لَهُ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى زَنْدِهِ وَانْصَرَفَ» . وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، وَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي، سَبْعَ مَرَّاتٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! طُوبَى لِمَنْ رَآكَ وَآمَنَ بِكَ؟ قَالَ: طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، وَطُوبَى ثُمَّ طُوبَى ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي» وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ الْمُتَقَدِّمِ. وَأَخْرَجَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الضُّبَارِيِّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ الم- ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ «2» . وَلِلتَّابِعِينَ أَقْوَالٌ، وَالرَّاجِحُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ الشَّرْعِيَّ يَصْدُقُ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ هنا.

_ (1) . البقرة: 3. (2) . البقرة: 1- 5.

[سورة البقرة (2) : آية 3]

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا وَعَمَلًا. قَالَ: وَتَدْخُلُ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ تَصْدِيقُ الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ. وَالْإِيمَانُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِلْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَتَصْدِيقُ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ الْإِيمَانَ الشَّرْعِيَّ الْمَطْلُوبَ لَا يَكُونُ إِلَّا اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا، هَكَذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ. بَلْ قَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعًا أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وقد ورد فيه آيات كثيرة، انتهى. [سورة البقرة (2) : آية 3] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «يُؤْمِنُونَ» وَالْإِقَامَةُ فِي الْأَصْلِ: الدَّوَامُ وَالثَّبَاتُ. يُقَالُ قَامَ الشَّيْءُ: أَيْ دَامَ وَثَبَتَ. وَلَيْسَ مِنَ الْقِيَامِ عَلَى الرِّجْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِكَ قَامَ الْحَقُّ: أَيْ ظَهَرَ وَثَبَتَ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى ساق وقال آخر: وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ... حَتَّى تُقِيمَ الْخَيْلُ سُوقَ طِعَانِ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ أَدَاؤُهَا بِأَرْكَانِهَا وَسُنَنِهَا وَهَيْئَاتِهَا فِي أَوْقَاتِهَا. وَالصَّلَاةُ أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ مِنْ صَلَّى يُصَلِّي إِذَا دَعَا. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الصَّلَا، وَهُوَ عِرْقٌ فِي وَسَطِ الظَّهْرِ وَيَفْتَرِقُ عِنْدَ الْعَجْبِ. وَمِنْهُ أَخَذَ الْمُصَلِّي فِي سَبْقِ الْخَيْلِ، لِأَنَّهُ يأتي في الحلبة ورأسه عند صلا السَّابِقِ، فَاشْتُقَّتْ مِنْهُ الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا ثَانِيَةٌ لِلْإِيمَانِ فَشُبِّهَتْ بِالْمُصَلِّي مِنَ الْخَيْلِ. وَإِمَّا لِأَنَّ الرَّاكِعَ يُثْنِي صَلْوَيْهِ، وَالصَّلَا مَغْرِزُ الذَّنَبِ مِنَ الْفَرَسِ وَالِاثْنَانِ صَلْوَانِ، وَالْمُصَلِّي تَالِي السَّابِقِ لِأَنَّ رَأْسَهُ عِنْدَ صَلْوِهِ. ذَكَرَ هَذَا الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ الْمَعْنَى الثَّانِي فِي الْكَشَّافِ، هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ. وَأَمَّا الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ: فَهُوَ هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ ذَاتُ الْأَرْكَانِ وَالْأَذْكَارِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ هِيَ مُبْقَاةٌ عَلَى أَصْلِهَا اللُّغَوِيِّ أَوْ مَوْضُوعَةٌ وَضْعًا شَرْعِيًّا ابْتِدَائِيًّا. فَقِيلَ بِالْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الشَّرْعُ بِزِيَادَاتٍ هِيَ الشُّرُوطُ وَالْفُرُوضُ الثَّابِتَةُ فِيهَا. وَقَالَ قَوْمٌ بِالثَّانِي. وَالرِّزْقُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَا صَلَحَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. فَقَالُوا: إِنَّ الْحَرَامَ لَيْسَ بِرِزْقٍ، وَلِلْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَالْإِنْفَاقُ: إِخْرَاجُ الْمَالِ مِنَ الْيَدِ، وَفِي الْمَجِيءِ بِمِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ هَاهُنَا نُكْتَةٌ سَرِيَّةٌ هِيَ الْإِرْشَادُ إِلَى تَرْكِ الْإِسْرَافِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ قَالَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قَالَ: زَكَاةُ أَمْوَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَوُضُوئِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قَالَ: أَنْفَقُوا فِي فَرَائِضِ اللَّهِ الَّتِي افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي طَاعَتِهِ وَسَبِيلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قَالَ: هِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَتِ النَّفَقَاتُ قُرُبَاتٍ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قَدْرِ

[سورة البقرة (2) : آية 4]

مَيْسُورِهِمْ وَجُهْدِهِمْ حَتَّى نَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ هُنَّ النَّاسِخَاتُ الْمُبَيِّنَاتُ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الزَّكَاةِ وَالنَّفَقَاتِ، وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ، وَصَدَقَةِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، وَعَدَمُ التَّصْرِيحِ بِنَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهَا مسمّى الإنفاق يشعر أتمّ إشعار بالتعميم. [سورة البقرة (2) : آية 4] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) قيل هُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ. وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَنَقَلَهُ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مسعود وأناس من الصحابة، واستشهد له ابْنُ جَرِيرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ «1» وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ «2» الْآيَةَ. وَالْآيَةُ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي الْعَرَبِ. وَقِيلَ الْآيَتَانِ جَمِيعًا فِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْعُمُومِ. وَعَلَى هَذَا فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى صِفَةً لِلْمُتَّقِينَ بَعْدَ صِفَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ. وَالْمُرَادُ بِمَا أُنْزِلَ إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ: هُوَ الْكُتُبُ السَّالِفَةُ. وَالْإِيقَانُ: إِيقَانُ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ عَنْهُ، قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَسَائِرِ أُمُورِ الْآخِرَةِ مِنْ دُونِ شَكٍّ. وَالْآخِرَةُ تَأْنِيثُ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْأَوَّلِ، وَهِيَ صِفَةُ الدَّارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً «3» وَفِي تَقْدِيمِ الظَّرْفِ مَعَ بِنَاءِ الْفِعْلِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَذْكُورِ إِشْعَارٌ بِالْحَصْرِ، وَأَنَّ مَا عَدَا هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ الْإِيمَانِ وَرَأْسُهُ لَيْسَ بِمُسْتَأْهِلٍ لِلْإِيقَانِ بِهِ وَالْقَطْعِ بِوُقُوعِهِ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ إِذْ ذَاكَ إِلَّا الْبَعْضُ لَا الْكُلُّ تَغْلِيبًا لِلْمَوْجُودِ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ، أَوْ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ كَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّازِلِ قَبْلَ نُزُولِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ أَيْ يُصَدِّقُونَكَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ قَبْلِكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ، وَلَا يجحدون ما جاءوهم به مِنْ رَبِّهِمْ، وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِيمَانًا بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ: أَيْ لَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا كَانَ قَبْلَكَ وَيَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَ مِنْ رَبِّكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُؤْمِنِينَ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ ذِكْرِ الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ بِمُقْتَضٍ لِجَعْلِ ذَلِكَ وَصْفًا لِمُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَأْتِ مَا يُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ لِهَذَا، وَلَا فِي النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ الثَّنَاءُ عَلَى مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَيْرِ آيَةٍ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ «4» وَكَقَوْلِهِ: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ «5» وقوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ

_ (1) . آل عمران: 119. (2) . القصص: 52- 54. (3) . القصص: 83. (4) . النساء: 136. (5) . العنكبوت: 46.

[سورة البقرة (2) : آية 5]

مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1» وَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ «2» . [سورة البقرة (2) : آية 5] أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ حَالُ هَؤُلَاءِ الْجَامِعِينَ بَيْنَ التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَالْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ وَالْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى من قبله من الأنبياء عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقِيلَ: أُولئِكَ عَلى هُدىً وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إِلَخْ، فَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ فِي قَوْلِهِ: عَلى هُدىً مَثَلٌ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْهُدَى وَاسْتِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ وتمسكهم به، شبهت حالهم بحال مَنِ اعْتَلَى الشَّيْءَ وَرَكِبَهُ، وَنَحْوَهُ: هُوَ عَلَى الْحَقِّ وَعَلَى الْبَاطِلِ. وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ الْغَوَايَةَ مَرْكَبًا، وَامْتَطَى الْجَهْلَ، وَاقْتَعَدَ غارب الْهَوَى، انْتَهَى. وَقَدْ أَطَالَ الْمُحَقِّقُونَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا بِمَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ الْمَقَامُ، وَاشْتُهِرَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُحَقِّقِ السَّعْدِ وَالْمُحَقِّقِ الشَّرِيفِ. وَاخْتَلَفَ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَرْجِيحِ الرَّاجِحِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَقَدْ جَمَعْتُ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً سَمَّيْتُهَا «الطَّوْدُ الْمُنِيفُ فِي تَرْجِيحٍ مَا قَالَهُ السَّعْدُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّرِيفُ» فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّضِحَ لَهُ الْمَقَامُ، وَيَجْمَعَ بين أطراف الكلام على التمام. قال ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ مَعْنَى أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَبُرْهَانٍ وَاسْتِقَامَةٍ وَسَدَادٍ بِتَسْدِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَتَوْفِيقِهِ لَهُمْ، والْمُفْلِحُونَ أي المنجحون المدركون مَا طَلَبُوا عِنْدَ اللَّهِ بِأَعْمَالِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ. وَالْفَلَاحُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الشَّقُّ وَالْقَطْعُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ: ويقال للذي شُقَّتْ شَفَتُهُ: أَفْلَحُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَكَّارُ فَلَّاحًا لِأَنَّهُ شَقَّ الْأَرْضَ بِالْحَرْثِ، فَكَأَنَّ الْمُفْلِحَ قَدْ قَطَعَ الْمَصَاعِبَ حَتَّى نَالَ مَطْلُوبَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَوْزِ وَالْبَقَاءِ وَهُوَ أَصْلُهُ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ، فَمَعْنَى أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الْفَائِزُونَ بِالْجَنَّةِ وَالْبَاقُونَ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْمُفْلِحُ الْفَائِزُ بِالْبُغْيَةِ، كَأَنَّهُ الَّذِي انْفَتَحَتْ لَهُ وُجُوهُ الظَّفَرِ وَلَمْ تَسْتَغْلِقْ عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْفَلَاحُ فِي السُّحُورِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ: «حَتَّى كَادَ يَفُوتُنَا الْفَلَاحُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السُّحُورُ» . فَكَأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ السُّحُورَ بِهِ بَقَاءُ الصَّوْمِ، فَلِهَذَا سُمِّيَ فَلَاحًا. وَفِي تَكْرِيرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ مُسْتَقِلٌّ بِتَمَيُّزِهِمْ بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، بِحَيْثُ لَوِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا لَكَفَى تَمَيُّزًا عَلَى حِيَالِهِ. وَفَائِدَةُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ الدَّلَالَةُ عَلَى اخْتِصَاصُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أَنَّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ: هُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَى هَذَا وَإِلَى مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ، كَمَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَرْجُو، وَنَقْرَأُ فَنَكَادُ أَنْ

_ (1) . البقرة: 285. (2) . النساء: 152. [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 6 إلى 7]

نَيْأَسَ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إِلَى قَوْلِهِ: الْمُفْلِحُونَ هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجَنَّةِ، قَالُوا: إِنَّا نَرْجُو أَنْ نَكُونَ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: عَظِيمٌ هَؤُلَاءِ أَهْلُ النَّارِ، قَالُوا: أَلَسْنَا هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: أَجَلْ» «1» . وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ أَحَادِيثُ، مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنَّ لِي أَخًا وَبِهِ وَجَعٌ فَقَالَ: وَمَا وَجَعُهُ؟ قَالَ: بِهِ لَمَمٌ، قَالَ: فَائْتِنِي بِهِ. فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَوَّذَهُ النَّبِيُّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأَرْبَعِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَاتَيْنِ الآيتين: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَآيَةٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وآية من الأعراف إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ، وَآخِرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، وَآيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا، وَعَشْرِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الصَّافَّاتِ، وَثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَقَامَ الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَكِ قَطُّ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي يَعْلَى عَنْ رَجُلٍ عَنْ أُبَيٍّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ الضُّرَيْسِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ أَرْبَعَ آيَاتٍ مَنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَآيَتَيْنِ بَعْدَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَثَلَاثًا مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَمْ يَقْرَبْهُ وَلَا أَهْلَهُ يَوْمَئِذٍ شَيْطَانٌ، وَلَا شَيْءٌ يَكْرَهُهُ فِي أَهْلِهِ وَلَا مَالِهِ، وَلَا تُقْرَأُ عَلَى مَجْنُونٍ إِلَّا أَفَاقَ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يَدْخُلْ ذَلِكَ الْبَيْتَ شَيْطَانٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى يُصْبِحَ: أَرْبَعٌ مِنْ أَوَّلِهَا، وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ، وَآيَتَانِ بعدها، وثلاث خواتمها وأوّلها لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سُبَيْعٍ، وكان من أصحاب عبد الله ابن مَسْعُودٍ بِنَحْوِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ، وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ، وَلْيُقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِهِ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ» . وَقَدْ ورد في ذلك غير هذا. [سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فَرِيقَ الشَّرِّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ فَرِيقِ الْخَيْرِ قَاطِعًا لِهَذَا الْكَلَامِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، مُعَنْوِنًا لَهُ بِمَا يُفِيدُ أَنَّ شَأْنَ جِنْسِ الْكَفَرَةِ عَدَمُ إِجْدَاءِ الْإِنْذَارِ لَهُمْ، وَأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ وُجُودَ ذلك كعدمه. وسَواءٌ اسْمٌ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وُصِفَ بِهِ كَمَا يُوصَفُ بِالْمَصَادِرِ، وَالْهَمْزَةُ وَأَمْ مُجَرَّدَتَانِ لِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِمَا مَا هُوَ أَصْلُهُمَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، وَصَحَّ الِابْتِدَاءُ بِالْفِعْلِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: سَوَاءٌ،

_ (1) . الإجابة ب «أجل» تثبت النفي، فيكون المعنى: لستم هم.

هَجْرًا لِجَانِبِ اللَّفْظِ إِلَى جَانِبِ الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قَالَ: الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، كَقَوْلِهِمْ: تَسْمَعُ بِالْمُعِيدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ: أَيْ سَمَاعُكَ. وَأَصْلُ الْكُفْرِ فِي اللُّغَةِ: السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ: فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا أَيْ سَتَرَهَا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْكَافِرُ كَافِرًا لِأَنَّهُ يُغَطِّي بِكُفْرِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ. وَالْإِنْذَارُ: الْإِبْلَاغُ وَالْإِعْلَامُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ وَمَعْنَاهَا الْخُصُوصُ فِيمَنْ سَبَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَسَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى كُفْرِهِ. أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعْلِمَ النَّاسَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هَذَا حَالُهُ دُونَ أَنْ يُعَيِّنَ أَحَدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَنُظَرَائِهِمَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَزَلَتْ فِيمَنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ قَادَةِ الْأَحْزَابِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّ مَنْ عَيَّنَ أَحَدًا فَإِنَّمَا مَثَّلَ بِمَنْ كُشِفَ الْغَيْبُ بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هؤلاء الذين اسْتَوَى حَالُهُمْ مَعَ الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ مَاذَا يَكُونُ مِنْهُمْ؟ فَقِيلَ لَا يُؤْمِنُونَ: أَيْ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهَا جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَوْ خَبَرٌ لِأَنَّ وَالْجُمْلَةُ قَبْلَهَا اعْتِرَاضٌ. انْتَهَى. وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ عَنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِنْذَارِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يُجْدِي شَيْئًا بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هي التي وقعت خبرا ل (إن) ، وَمَا بَعْدَهَا مِنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ مُتَسَبِّبٌ عَنْهَا لَا أَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَقَدْ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّ خَبَرَ إِنَّ: سَوَاءٌ، وَمَا بَعْدَهُ يَقُومُ مَقَامَ الصِّلَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: سَوَاءٌ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. وَالْخَتْمُ: مَصْدَرُ خَتَمْتُ الشَّيْءَ، وَمَعْنَاهُ: التَّغْطِيَةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالِاسْتِيثَاقُ مِنْهُ حَتَّى لَا يَدْخُلَهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُ خَتْمُ الْكِتَابِ وَالْبَابِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُوصَلَ إِلَى مَا فِيهِ وَلَا يُوضَعَ فِيهِ غَيْرُهُ. وَالْغِشَاوَةُ: الْغِطَاءُ، وَمِنْهُ غَاشِيَةُ السَّرْجِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَتْمِ وَالْغِشَاوَةِ هُنَا هُمَا الْمَعْنَوِيَّانِ لَا الْحِسِّيَّانِ أَيْ لَمَّا كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَيْرَ وَاعِيَةٍ لِمَا وَصَلَ إِلَيْهَا، وَالْأَسْمَاعُ غَيْرَ مُؤَدِّيَةٍ لِمَا يَطْرُقُهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ إِلَى الْعَقْلِ عَلَى وَجْهٍ مَفْهُومٍ، وَالْأَبْصَارُ غَيْرَ مَهْدِيَّةٍ لِلنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَعَجَائِبِ مَصْنُوعَاتِهِ جُعِلَتْ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْيَاءِ الْمَخْتُومِ عَلَيْهَا خَتْمًا حِسِّيًّا، وَالْمُسْتَوْثَقِ مِنْهَا اسْتِيثَاقًا حَقِيقِيًّا، وَالْمُغَطَّاةِ بِغِطَاءٍ مُدْرَكٍ اسْتِعَارَةً أَوْ تَمْثِيلًا، وَإِسْنَادُ الْخَتْمِ إِلَى اللَّهِ قَدِ احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَحَاوَلُوا دَفْعَ هَذِهِ الْحُجَّةِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَالْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا مُتَقَرِّرٌ فِي مَوَاطِنِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلى سَمْعِهِمْ هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْخَتْمِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْقُلُوبِ أَوْ فِي حُكْمِ التَّغْشِيَةِ، فَقِيلَ: إِنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلى سَمْعِهِمْ تَامٌّ، وَمَا بَعْدَهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ، فَيَكُونُ الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ، وَالْغِشَاوَةُ عَلَى الْأَبْصَارِ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَدْ قُرِئَ «غِشَاوَةً» بِالنَّصْبِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَصَبَهَا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهَا

عَلَى الْإِتْبَاعِ عَلَى مَحَلِّ وَعَلَى سَمْعِهِمْ، كَقَوْلِهِ تعالى: وَحُورٌ عِينٌ «1» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَإِنَّمَا وَحَّدَ السَّمْعَ مَعَ جَمْعِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَالْعَذَابُ: هُوَ مَا يُؤْلِمُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَبْسِ وَالْمَنْعِ، يُقَالُ فِي اللُّغَةِ أَعْذَبَهُ عَنْ كَذَا: حَبَسَهُ وَمَنَعَهُ، وَمِنْهُ عُذُوبَةُ الْمَاءِ لِأَنَّهَا حُبِسَتْ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى صَفَتْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرِصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ وَيُتَابِعُوهُ عَلَى الْهُدَى، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَضِلُّ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الشَّقَاوَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذِكْرِكَ، وَجَحَدُوا مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، فَكَيْفَ يَسْمَعُونَ مِنْكَ إِنْذَارًا وَتَحْذِيرًا، وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِكَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً» قَالَ: فَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْقَادَةُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا رَجُلَانِ: أَبُو سفيان، والحكم ابن الْعَاصِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ قَالَ: أَوَعَظْتَهُمْ أَمْ لَمْ تَعِظْهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى، وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْخَتْمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَالْغِشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ فَلَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ. وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ: يَعْنِي أَعْيُنَهُمْ غِشَاوَةً فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ. وَرَوَى ذَلِكَ السُّدِّيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: الْخَتْمُ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةُ عَلَى الْبَصَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «3» وَقَالَ: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «4» . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي مَعْنَى الْخَتْمِ: وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي ذَلِكَ مَا صَحَّ نَظِيرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ إِسْنَادًا مُتَّصِلًا بِأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَ نُكْتَةً سَوْدَاءَ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَعْتَبَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تُغْلِقَ قَلْبَهُ» فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ «5» . وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَتَابَعَتْ عَلَى الْقُلُوبِ أَغْلَقَتْهَا، وَإِذَا أَغْلَقَتْهَا أَتَاهَا حِينَئِذٍ الْخَتْمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالطَّبْعُ، فَلَا يَكُونُ إِلَيْهَا مَسْلَكٌ وَلَا لِلْكُفْرِ مِنْهَا مَخْلَصٌ، فَذَلِكَ هُوَ الْخَتْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ نَظِيرُ الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى مَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ مِنَ الْأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ الَّتِي لَا يُوصَلُ إِلَى مَا فِيهَا إلا بفضّ ذلك عنها ثم حلّها، فلذلك لَا يَصِلُ الْإِيمَانُ إِلَى قُلُوبِ مَنْ وَصَفَ اللَّهُ أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ إِلَّا بَعْدَ فضّ

_ (1) . الواقعة: 22. (2) . إبراهيم: 28. (3) . الشورى: 24. (4) . الجاثية: 23. (5) . المطففين: 14.

[سورة البقرة (2) : الآيات 8 إلى 9]

خاتمه، وحلّ رباطه عنها. [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 9] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) ذكر سبحانه فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْخُلَّصَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُمُ الْكَفَرَةَ الْخُلَّصَ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَالِثًا الْمُنَافِقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، بَلْ صَارُوا فِرْقَةً ثَالِثَةً لِأَنَّهُمْ وَافَقُوا فِي الظَّاهِرِ الطَّائِفَةَ الْأُولَى وَفِي الْبَاطِنِ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمْ أَهْلُ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من النار. وأصل ناس أناس حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ تَخْفِيفًا، وَهُوَ مِنَ النَّوْسِ وَهُوَ الْحَرَكَةُ، يُقَالُ: نَاسَ يَنُوسُ: أَيْ تَحَرَّكَ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ جَمْعُ إِنْسَانٍ وَإِنْسَانَةٍ عَلَى غير لفظه، واللام الداخلة عليه للجنس، ومن تبعيضية: أي بعض الناس، ومن مَوْصُوفَةٌ: أَيْ وَمِنَ النَّاسِ نَاسٌ يَقُولُ. وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ: الْوَقْتُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، بَلْ هُوَ دَائِمٌ أَبَدًا. وَالْخِدَاعُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْفَسَادُ، حَكَاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَأَنْشَدَ: أبيض اللّون رقيق «1» طَعْمُهُ ... طَيِّبَ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ مَخْدَعُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْرَزُ فِيهِ الشَّيْءُ، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ. وَالْمُرَادُ مِنْ مُخَادَعَتِهِمْ لِلَّهِ أَنَّهُمْ صَنَعُوا مَعَهُ صُنْعَ الْمُخَادِعِينَ، وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لَا يُخْدَعُ. وَصِيغَةُ فَاعِلٍ تُفِيدُ الِاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ، فَكَوْنُهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا يُخَادِعُونَهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْمُخَادَعَةِ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ لَمَّا أَجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، فَكَأَنَّهُ خَادَعَهُمْ بِذَلِكَ كَمَا خَادَعُوهُ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَإِبِطَانِ الْكُفْرِ مُشَاكَلَةً لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ بِمَا وَقَعَ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِمُخَادَعَةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ: هُوَ أَنَّهُمْ أَجْرَوْا عَلَيْهِمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فَسَادَ بَوَاطِنِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ خَادَعُوهُمْ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَإِبِطَانِ الْكُفْرِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ الْإِشْعَارُ بِأَنَّهُمْ لَمَّا خَادَعُوا مَنْ لَا يُخْدَعُ كانوا مخادعين أنفسهم، لِأَنَّ الْخِدَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْبَوَاطِنَ. وَأَمَّا مَنْ عَرَفَ الْبَوَاطِنَ فَمَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الْخِدَاعِ فَإِنَّمَا يَخْدَعُ نَفْسَهُ وَمَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَنْ خَادَعْتَهُ فَانْخَدَعَ لَكَ فَقَدْ خَدَعَكَ. وَقَدْ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يُخادِعُونَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ فِي الثَّانِي يَخْدَعُونَ. وَالْمُرَادُ بِمُخَادَعَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ: أَنَّهُمْ يُمَنُّونَهَا الْأَمَانِيَّ الْبَاطِلَةَ وَهِيَ كَذَلِكَ تمنيهم. وَما يَشْعُرُونَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: شَعَرْتُ بِالشَّيْءِ فَطِنْتُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالشُّعُورُ عِلْمُ الشَّيْءِ عِلْمَ حَسٍّ، مِنَ الشِّعَارِ. وَمَشَاعِرُ الْإِنْسَانِ: حَوَاسُّهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لُحُوقَ ضَرَرِ ذَلِكَ لَهُمْ كَالْمَحْسُوسِ، وَهُمْ لِتَمَادِي غَفْلَتِهِمْ كَالَّذِي لَا حِسَّ لَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ هنا ذواتهم، لا

_ (1) . في القرطبي «لذيذ» والبيت قاله سويد بن أبي كاهل يصف ثغر امرأة.

[سورة البقرة (2) : آية 10]

سَائِرُ الْمَعَانِي الَّتِي تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى النَّفْسِ، كَالرُّوحِ وَالدَّمِ وَالْقَلْبِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُنَافِقُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ أَخْوَفَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَا النِّفَاقُ؟ قَالَ: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ وَلَا يَعْمَلَ بِهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أَنَّ قَائِلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا النَّجَاةُ غَدًا؟ قَالَ: لَا تُخَادِعِ اللَّهَ. قَالَ: وَكَيْفَ نُخَادِعُ اللَّهَ؟ قَالَ: أَنْ تَعْمَلَ بِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ تُرِيدُ بِهِ غَيْرَهُ، فَاتَّقُوا الرِّيَاءَ فَإِنَّهُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، فإن المرائي ينادى يوم القيامة على رؤوس الْخَلَائِقِ بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ: يَا كَافِرُ، يَا فَاجِرُ، يَا خَاسِرُ، يَا غَادِرُ، ضَلَّ عَمَلُكَ وَبَطَلَ أَجْرُكَ، فَلَا خَلَاقَ لَكَ الْيَوْمَ عِنْدَ اللَّهِ، فَالْتَمِسْ أَجْرَكَ مِمَّنْ كُنْتَ تَعْمَلُ لَهُ يَا مُخَادِعُ، وَقَرَأَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً «1» الآية، وإِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ «2» الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِهِ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يُخَادِعُونَ الله ورسوله، والذين آمنوا: أنهم مؤمنون بِمَا أَظْهَرُوهُ. وَعَنْ قَوْلِهِ: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ. أَنَّهُمْ ضَرُّوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا أَضْمَرُوا مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: يُخادِعُونَ اللَّهَ قَالَ: يُظْهِرُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُرِيدُونَ أَنْ يُحْرِزُوا بِذَلِكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَفِي أنفسهم غير ذلك. [سورة البقرة (2) : آية 10] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) الْمَرَضُ: كُلُّ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ من علة أو نفاق أَوْ تَقْصِيرٍ فِي أَمْرٍ، قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ. وَقِيلَ: هُوَ الْأَلَمُ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مُسْتَعَارًا لِلْفَسَادِ الَّذِي فِي عَقَائِدِهِمْ إِمَّا شَكًّا وَنِفَاقًا، أَوْ جَحْدًا وَتَكْذِيبًا وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ المرض مختص بها، مبالغة فِي تَعَلُّقِ هَذَا الدَّاءِ بِتِلْكَ الْقُلُوبِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَسَدِ وَفَرْطِ الْعَدَاوَةِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ كَذَلِكَ بِمَا يَتَجَدَّدُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النِّعَمِ، وَيَتَكَرَّرُ لَهُ مِنْ مِنَنِ اللَّهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً عَلَيْهِمْ بِزِيَادَةِ الشَّكِّ وَتَرَادُفِ الْحَسْرَةِ وَفَرْطِ النِّفَاقِ. وَالْأَلِيمُ الْمُؤْلِمُ: أَيِ الْمُوجِعِ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ بِتَكْذِيبِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ والقرّاء مجمعون على فتح الراء في قَوْلِهِ: مَرَضٌ، إِلَّا مَا رَوَاهُ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ يَكْذِبُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَالَ: شَكٌّ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً قَالَ: شَكًّا. وَأَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

_ (1) . الكهف: 110. (2) . النساء: 142.

[سورة البقرة (2) : الآيات 11 إلى 12]

قَالَ: النِّفَاقُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قَالَ: نَكَالٌ مُوجِعٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ قَالَ: يُبَدِّلُونَ وَيُحَرِّفُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوَّلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ أَلِيمٌ فَهُوَ الْمُوجِعُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَيْ رِيبَةٌ وَشَكٌّ فِي أَمْرِ اللَّهِ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً رِيبَةً وَشَكًّا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ بَابُ النِّفَاقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: هَذَا مَرَضٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَ مَرَضًا فِي الْأَجْسَادِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، والمرض: الشك الذي دخلهم فِي الْإِسْلَامِ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ أَنَّ المرض: الرياء. [سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 12] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَامِلُ فِيهِ قَالُوا الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ. وَفِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَالْفَسَادُ ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَحَقِيقَتُهُ الْعُدُولُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ إِلَى ضِدِّهَا. فَسَدَ الشَّيْءُ يَفْسُدُ فَسَادًا وَفُسُودًا فَهُوَ فَاسِدٌ وَفَسِيدٌ. وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ: لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِالنِّفَاقِ وَمُوَالَاةِ الْكَفَرَةِ وَتَفْرِيقِ النَّاسِ عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَسَدَ مَا فِي الْأَرْضِ بِهَلَاكِ الْأَبْدَانِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ وَبُطْلَانِ الذَّرَائِعِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ عِنْدَ ثَوَرَانِ الفتن والتنازع. وإِنَّما مِنْ أَدَوَاتِ الْقَصْرِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. وَالصَّلَاحُ ضِدُّ الْفَسَادِ. لِمَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنِ الْفَسَادِ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُمْ أَجَابُوا بِهَذِهِ الدَّعْوَى الْعَرِيضَةِ، وَنَقَلُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الِاتِّصَافِ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَهُوَ الْفَسَادُ، إِلَى الِاتِّصَافِ بِمَا هُوَ ضِدٌّ لِذَلِكَ وَهُوَ الصَّلَاحُ، وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ هَذَا الْكَذِبِ الْبَحْتِ وَالزُّورِ الْمَحْضِ، حَتَّى جَعَلُوا صِفَةَ الصَّلَاحِ مُخْتَصَّةً بِهِمْ خَالِصَةً لَهُمْ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَبْلَغَ رَدٍّ لِمَا يُفِيدُهُ حَرْفُ التَّنْبِيهِ مِنْ تَحَقُّقِ مَا بَعْدَهُ، وَلِمَا فِي إِنَّ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَمَا فِي تَعْرِيفِ الْخَبَرِ مَعَ تَوْسِيطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ مِنَ الْحَصْرِ الْمُبَالَغِ فِيهِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُفِيدَةِ لَهُ، وَرَدَّهُمْ إِلَى صفة الفساد التي هم مُتَّصِفُونَ بِهَا فِي الْحَقِيقَةِ رَدًّا مُؤَكَّدًا مُبَالَغًا فِيهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ دَعْوَاهُمُ الْكَاذِبَةُ مِنْ مُجَرَّدِ الْحَصْرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ إِنَّمَا. وَأَمَّا نَفْيُ الشُّعُورِ عَنْهُمْ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يُظْهِرُونَ الصَّلَاحَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْفَسَادِ الْخَالِصِ، ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَنْفُقُ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَيَنْكَتِمُ عَنْهُ بُطْلَانُ مَا أَضْمَرُوهُ، وَلَمْ يَشْعُرُوا بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ يَأْتِيهِ بِذَلِكَ مِنَ السَّمَاءِ، فَكَانَ نَفْيُ الشُّعُورِ عَنْهُمْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْفَسَادِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ فَسَادَهُمْ كَانَ عِنْدَهُمْ صَلَاحًا لِمَا اسْتَقَرَّ فِي عُقُولِهِمْ مِنْ مَحَبَّةِ الْكُفْرِ وَعَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: الْفَسَادُ هُنَا: هُوَ الْكُفْرُ وَالْعَمَلُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَيْ إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: إِذَا رَكِبُوا مَعْصِيَةً فَقِيلَ لَهُمْ لَا تَفْعَلُوا كَذَا، قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ عَلَى الْهُدَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ

[سورة البقرة (2) : آية 13]

عَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: لم يجيء أَهْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّ سَلْمَانَ أَرَادَ بِهَذَا أَنَّ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا أَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ مِمَّنْ تِلْكَ صِفَتُهُ أَحَدٌ. انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ سَلْمَانَ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، بَلْ يَحْمِلُهَا عَلَى مِثْلِ أَهْلِ الْفِتَنِ الَّتِي يَدِينُ أَهْلُهَا بِوَضْعِ السَّيْفِ فِي الْمُسْلِمِينَ كَالْخَوَارِجِ وَسَائِرِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي فَسَادِهِ أَنَّهُ صَلَاحٌ لِمَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ. [سورة البقرة (2) : آية 13] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) أي: وإذا قِيلَ لِلْمُنَافِقِينَ آمِنُوا كَمَا آمَنَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَجَابُوا بِأَحْمَقِ جَوَابٍ وَأَبْعَدِهِ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، فَنَسَبُوا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ السَّفَهَ اسْتِهْزَاءً وَاسْتِخْفَافًا، فَتَسَبَّبُوا بِذَلِكَ إِلَى تَسْجِيلِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالسَّفَهِ بِأَبْلَغِ عِبَارَةٍ وَآكَدِ قَوْلٍ. وَحَصَرَ السَّفَاهَةَ وَهِيَ رِقَّةُ الْحُلُومِ وَفَسَادُ الْبَصَائِرِ وسخافة العقول فيهم، مع كونهم لا يعملون أَنَّهُمْ كَذَلِكَ إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، تَنْزِيلًا لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى السَّفَهِ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِهِ وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ هُنَا السَّفَهَ نَاسَبَهُ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَافَهُ إِلَّا جَاهِلٌ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ إِيمَانًا كَإِيمَانِ النَّاسِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ أَيْ صَدِّقُوا كَمَا صَدَّقَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَأَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ حَقٌّ، قالُوا: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ يَعْنُونَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ يَقُولُ: الْجُهَّالُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ يَقُولُ: لَا يَعْقِلُونَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ بِسَنَدٍ وَاهٍ أَنَّهُ قَالَ: آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: كَما آمَنَ السُّفَهاءُ قَالَ: يعنون أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَنِ الرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ. وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ: أَيْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ- يَعْنِي الْيَهُودَ-: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ. [سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 15] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) لَقُوا أَصْلُهُ لَقْيُوا، نُقِلَتِ الضَّمَّةُ إِلَى الْقَافِ وَحُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَمَعْنَى لَقِيتُهُ وَلَاقَيْتُهُ: استقبلته قريبا. وقرأ محمد بن السّميقع الْيَمَانِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَاقُوا: وَأَصْلُهُ لَاقَيُوا تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَانْقَلَبَتْ أَلِفًا، ثُمَّ حُذِفَتِ الْأَلِفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَخَلَوْتُ بِفُلَانٍ وَإِلَيْهِ: إِذَا انْفَرَدْتُ بِهِ. وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِإِلَى

وَهُوَ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ فَيُقَالُ: خَلَوْتُ بِهِ لَا خَلَوْتُ إِلَيْهِ، لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى ذَهَبُوا وَانْصَرَفُوا. وَالشَّيَاطِينُ جَمْعُ شَيْطَانٍ عَلَى التَّكْسِيرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ فِي نُونِ الشَّيْطَانِ فَجَعَلَهَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَصْلِيَّةً وَفِي آخِرَ زَائِدَةً، فَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ مِنْ شَطَنَ أَيْ بَعُدَ عَنِ الْحَقِّ، وَعَلَى الثَّانِي مِنْ شَطَّ: أَيْ بَعُدَ. أَوْ شَاطَ: أَيْ بَطَلَ، وَشَاطَ: أَيِ احْتَرَقَ، وَأَشَاطَ: إِذَا هَلَكَ قَالَ: وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ أَيْ يَهْلِكُ. وَقَالَ آخَرُ: وَأَبْيَضَ ذِي تَاجٍ أَشَاطَتْ رِمَاحُنَا ... لِمُعْتَرَكٍ بَيْنَ الْفَوَارِسِ أَقْتَمَا أَيْ أَهْلَكَتْ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: تَشَيْطَنَ فُلَانٌ: إِذَا فَعَلَ أَفْعَالَ الشَّيَاطِينِ. وَلَوْ كَانَ مِنْ شَاطَ لَقَالُوا: تَشَيَّطَ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: أَيُّمَا شَاطِنٌ عصاه عكاه ... ثم يلقى فِي السِّجْنِ وَالْأَغْلَالِ وَقَوْلُهُ: إِنَّا مَعَكُمْ مَعْنَاهُ مصاحبوكم في دينكم وموافقوكم عليه. والهزء: السُّخْرِيَةُ وَاللَّعِبُ. قَالَ الرَّاجِزُ: قَدْ هَزِئَتْ مِنِّي أُمُّ طَيْسَلَهْ ... قَالَتْ أَرَاهُ مُعْدَمًا لَا مَالَ لَهْ قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَأَصْلُ الْبَابِ الْخِفَّةُ مِنَ الْهَزْءِ وَهُوَ الْقَتْلُ السَّرِيعُ، وَهَزَأَ يَهْزَأُ: مَاتَ عَلَى الْمَكَانِ. عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ: مَشَيْتُ فَلَغِبْتُ فَظَنَنْتُ لَأَهْزَأَنَّ عَلَى مَكَانِي، وَنَاقَتُهُ تَهْزَأُ بِهِ: أَيْ تُسْرِعُ وَتَخَفُّ. انْتَهَى. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِانْتِقَامُ، قَالَ الشَّاعِرُ: قَدِ اسْتَهْزَءُوا مِنْهُمْ بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمْ وَسْطَ الصَّحَاصِحِ جُثَّمِ فَأَفَادَ قَوْلُهُمْ: إِنَّا مَعَكُمْ أَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَفَادَ قولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ردّهم للإسلام ودفعهم لِلْحَقِّ، وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ نَاشِئٍ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ: أَيْ إِذَا كُنْتُمْ مَعَنَا فَمَا بَالُكُمْ إِذَا لَقِيتُمُ الْمُسْلِمِينَ وَافَقْتُمُوهُمْ؟ فَقَالُوا: إنما نحن مستهزئون بِهِمْ فِي تِلْكَ الْمُوَافَقَةِ، وَلَمْ تَكُنْ بَوَاطِنُنَا مُوَافِقَةً لَهُمْ وَلَا مَائِلَةً إِلَيْهِمْ، فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أَيْ يُنْزِلُ بِهِمُ الْهَوَانَ وَالْحَقَارَةَ وَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ وَيَسْتَخِفُّ بِهِمُ انْتِصَافًا مِنْهُمْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا جَعَلَ سُبْحَانَهُ مَا وَقَعَ مِنْهُ اسْتِهْزَاءً مَعَ كَوْنِهِ عُقُوبَةً وَمُكَافَأَةً مُشَاكَلَةً. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا وضعت لفظا بإزاء لفظ جوابا وَجَزَاءً ذَكَرَتْهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ مخالفا له في معناه. وورد ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَمِنْهُ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «2» وَالْجَزَاءُ لَا يَكُونُ سَيِّئَةً. وَالْقَصَاصُ لَا يَكُونُ اعْتِدَاءً لِأَنَّهُ حَقٌّ، وَمِنْهُ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «3» وإِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً «4» يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا «5» يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ «6» تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ «7» . وهو في السنة كثير كقوله

_ (1) . الشورى: 40. (2) . البقرة: 194. (3) . آل عمران: 54. (4) . الطارق: 15- 16. (5) . البقرة: 9. [.....] (6) . النساء: 142. (7) . المائدة: 116.

صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» . وَإِنَّمَا قَالَ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ لِأَنَّهُ يُفِيدُ التَّجَدُّدَ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، وَهُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ، وَأَنْكَأُ لِقُلُوبِهِمْ، وَأَوْجَعُ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ الدَّائِمِ الثَّابِتِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، لِمَا هُوَ مَحْسُوسٌ مِنْ أَنَّ الْعُقُوبَةَ الْحَادِثَةَ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، وَالْمُتَجَدِّدَةَ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، أَشُدُّ عَلَى مَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ لِأَنَّهُ يَأْلَفُهُ وَيُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ. وَالْمَدُّ: الزِّيَادَةُ قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: يُقَالُ مَدَّ فِي الشَّرِّ وَأَمَدَّ فِي الْخَيْرِ، وَمِنْهُ: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «1» وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ «2» . وقال الأخفش: مددت له: إذا تركته، وأمددته: إِذَا أَعْطَيْتُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَاللِّحْيَانِيُّ: مَدَدْتُ فِيمَا كَانَتْ زِيَادَتُهُ مِنْ مِثْلِهِ، يُقَالُ: مَدَّ النَّهْرُ، وَمِنْهُ: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ «3» وَأَمْدَدْتُ فِيمَا كَانَتْ زِيَادَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ «4» وَالطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالْغُلُوُّ فِي الْكُفْرِ وَمِنْهُ: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ «5» أَيْ تَجَاوَزَ الْمِقْدَارَ الَّذِي قَدَّرْتُهُ الْخُزَّانُ. وَقَوْلُهُ في فرعون: إِنَّهُ طَغى «6» أَيْ أَسْرَفَ فِي الدَّعْوَى حَيْثُ قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «7» . وَالْعَمِهُ وَالْعَامِهُ: الْحَائِرُ الْمُتَرَدِّدُ، وَذَهَبَتْ إِبِلُهُ الْعُمَّهَى: إِذَا لَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَتْ، وَالْعَمَهُ فِي الْقَلْبِ كَالْعَمَى فِي الْعَيْنِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْعَمَهُ مِثْلُ الْعَمَى. إِلَّا أَنَّ الْعَمَى فِي الْبَصَرِ وَالرَّأْيِ، وَالْعَمَهُ فِي الرَّأْيِ خَاصَّةً. انْتَهَى. وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُطِيلُ لَهُمُ الْمُدَّةَ وَيُمْهِلُهُمْ كَمَا قَالَ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «8» . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمُ الَّذِي قَدْ غَمَرَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ حَيَارَى ضُلَّالًا لَا يَجِدُونَ إِلَى الْمَخْرِجِ مِنْهُ سَبِيلًا، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَخَتَمَ عَلَيْهَا، وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْهُدَى وَأَغْشَاهَا، فَلَا يُبْصِرُونَ رُشْدًا وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. وَقَدْ أَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ بِسَنَدٍ وَاهٍ- لِأَنَّ فِيهِ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، وَذَكَرَ قِصَّةً وَقَعَتْ لَهُمْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْيَهُودِ إِذَا لقوا أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَوْ بَعْضَهُمْ قَالُوا: إِنَّا عَلَى دِينِكُمْ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ وَهُمْ إِخْوَانُهُمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ قَالَ: يَسْخَرُ بِهِمْ لِلنِّقْمَةِ مِنْهُمْ: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ قَالَ: فِي كُفْرِهِمْ، يَعْمَهُونَ قَالَ: يَتَرَدَّدُونَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ وَأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ بِنَحْوِ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قَالَ: رُؤَسَائِهِمْ فِي الْكُفْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: وَإِذا خَلَوْا أَيْ مَضَوْا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَ مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَمُدُّهُمْ قَالَ: يُمْلِي لَهُمْ. فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قَالَ: فِي كُفْرِهِمْ يَتَمَادُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ يَعْمَهُونَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وابن

_ (1) . الإسراء: 6. (2) . الطور: 22. (3) . لقمان: 27. (4) . آل عمران: 125. (5) . الحاقة: 11. (6) . النازعات: 17. (7) . النازعات: 24. (8) . آل عمران: 178.

[سورة البقرة (2) : آية 16]

الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ يَمُدُّهُمْ يَزِيدُهُمْ. فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قَالَ يَلْعَبُونَ وَيَتَرَدَّدُونَ فِي الضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَلِلْإِنْسِ شَيَاطِينٌ؟ قَالَ: نَعَمْ» . [سورة البقرة (2) : آية 16] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) قال سيبويه: ضمّت الْوَاوُ فِي: اشْتَرَوُا فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَاوِ الأصلية في نحو: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا «1» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حُرِّكَتْ بِالضَّمِّ كَمَا يُفْعَلُ فِي نَحْنُ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ بِكَسْرِ الْوَاوِ على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أبو السّمّال الْعَدَوِيُّ بِفَتْحِهَا لِخِفَّةِ الْفَتْحَةِ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ هَمْزَ الْوَاوِ. وَالشِّرَاءُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِبْدَالِ: أَيِ اسْتَبْدَلُوا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «2» فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الشِّرَاءِ الْمُعَاوَضَةَ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ حَقِيقَةً فَلَا، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَيَبِيعُوا إِيمَانَهُمْ، وَالْعَرَبُ قَدْ تَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنِ اسْتَبْدَلَ شَيْئًا بِشَيْءٍ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: فَإِنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهَلُ فيكم ... فَإِنِّي شَرَيْتُ «3» الْحِلْمَ بَعْدَكِ بِالْجَهْلِ وَأَصْلُ الضَّلَالَةِ الْحَيْرَةُ وَالْجَوْرُ عَنِ الْقَصْدِ وَفَقْدِ الِاهْتِدَاءِ، وَتُطْلَقُ عَلَى النِّسْيَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ «4» ، وَعَلَى الْهَلَاكِ كَقَوْلِهِ: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «5» وَأَصْلُ الرِّبْحِ الْفَضْلُ. وَالتِّجَارَةُ: صِنَاعَةُ التَّاجِرِ، وَأَسْنَدَ الرِّبْحَ إِلَيْهَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: رَبِحَ بَيْعُكَ وَخَسِرَتْ صَفْقَتُكَ، وَهُوَ مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى مُلَابِسٍ لِلْفَاعِلِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. وَالْمُرَادُ: رَبِحُوا وَخَسِرُوا. وَالِاهْتِدَاءُ قَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ: أَيْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي شِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ وَقِيلَ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أَيِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حاتم عن مجاهد قال: آمنوا ثم كفروا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْتُمُوهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ، وَمِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الْفِرْقَةِ، وَمِنَ الْأَمْنِ إِلَى الْخَوْفِ، وَمِنَ السّنّة إلى البدعة. [سورة البقرة (2) : الآيات 18 الى 17] مَثَلُهُمْ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ إِمَّا الْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ لِأَنَّهَا اسْمٌ: أَيْ مَثَلُ مَثَلٍ كما في

_ (1) . الجن: 16. (2) . فصلت: 17. (3) . ويروى «اشتريت» كما في ديوان أبي ذؤيب. (4) . الشعراء: 20. [.....] (5) . السجدة: 10.

قول الأعشى: أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفَتْلُ وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَرُحْنَا بِكَابِنِ الْمَاءِ يُجْنَبُ وَسْطَنَا ... تُصَوَّبُ فِيهِ الْعَيْنُ طَوْرًا وَتَرْتَقِي أَرَادَ مِثْلَ الطَّعْنِ، وَبِمِثْلِ ابْنِ الْمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا: أَيْ مَثَلُهُمْ مُسْتَنِيرٌ كَمَثَلِ، فَالْكَافُ عَلَى هَذَا حَرْفٌ. وَالْمَثَلُ: الشَّبَهُ، وَالْمِثْلَانِ: المتشابهان والَّذِي موضوع موضع الذين: أي كمثل الَّذِينَ، أَيْ كَمَثَلِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلَجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ وَمِنْهُ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «1» وَمِنْهُ: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ «2» . ووقود النار: سطوعها وارتفاع لهبها، واسْتَوْقَدَ بِمَعْنَى أَوْقَدَ مِثْلُ اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ زَائِدَتَانِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ أَيْ يُجِبْهُ. وَالْإِضَاءَةُ فَرْطُ الْإِنَارَةِ، وَفِعْلُهَا يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِيًّا. وما حَوْلَهُ قِيلَ مَا زَائِدَةٌ، وَقِيلَ هِيَ مَوْصُولَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولُ أَضَاءَتْ، وَحَوْلَهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وذَهَبَ مِنَ الذَّهَابِ، وهو زوال الشيء. ووَ تَرَكَهُمْ أَيْ أَبْقَاهُمْ فِي ظُلُماتٍ جَمْعُ ظُلْمَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ أَشْهَبُ العقيلي بفتح اللام، وهي عدم النور. وصُمٌّ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا بِالنَّصْبِ عَلَى الذَّمِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِقَوْلِهِ تَرَكَهُمْ. وَالصَّمَمُ: الِانْسِدَادُ، يُقَالُ قَنَاةٌ صَمَّاءُ: إِذَا لَمْ تَكُنْ مُجَوَّفَةً، وَصَمَمْتُ الْقَارُورَةَ: إِذَا سَدَدْتُهَا، وَفُلَانٌ أَصَمُّ: إِذَا انْسَدَّتْ خُرُوقُ مَسَامِعِهِ. وَالْأَبْكَمُ: الَّذِي لَا يَنْطِقُ وَلَا يَفْهَمُ، فَإِذَا فَهِمَ فَهُوَ الْأَخْرَسُ. وَقِيلَ الْأَخْرَسُ وَالْأَبْكَمُ وَاحِدٌ. وَالْعَمَى: ذَهَابُ الْبَصَرِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَيْ إِلَى الْحَقِّ، وَجَوَابُ لَمَّا فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا أَضَاءَتْ، قِيلَ هُوَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: طَفِئَتْ فَبَقُوا حَائِرِينَ. وَعَلَى الثَّانِي فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا أَوْ بَدَلًا مِنَ الْمُقَدَّرِ. ضَرَبَ اللَّهُ هَذَا الْمَثَلَ لِلْمُنَافِقِينَ لِبَيَانِ أَنَّ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِيمَانِ مَعَ مَا يُبْطِنُونَهُ مِنَ النِّفَاقِ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ بِهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، كَمَثَلِ الْمُسْتَوْقِدِ الَّذِي أَضَاءَتْ نَارُهُ ثُمَّ طَفِئَتْ، فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الظُّلْمَةِ وَلَا تَنْفَعُهُ تِلْكَ الْإِضَاءَةُ الْيَسِيرَةُ، فَكَانَ بَقَاءُ الْمُسْتَوْقِدِ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُ كَبَقَاءِ الْمُنَافِقِ فِي حَيْرَتِهِ وَتَرَدُّدِهِ. وَإِنَّمَا وُصِفَتْ هَذِهِ النَّارُ بِالْإِضَاءَةِ مَعَ كَوْنِهَا نَارَ بَاطِلٍ لِأَنَّ الْبَاطِلَ كَذَلِكَ تَسْطَعُ ذَوَائِبُ لَهَبِ نَارِهِ لَحْظَةً ثُمَّ تَخْفُتُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: «لِلْبَاطِلِ صَوْلَةٌ ثُمَّ يَضْمَحِلُّ» وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ شَأْنًا عَظِيمًا فِي إِبْرَازِ خفيات المعاني،

_ (1) . التوبة: 69. (2) . الزمر: 33.

[سورة البقرة (2) : الآيات 19 إلى 20]

ورفع أستار محجبات الدقائق، ولهذا استكثر الله مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ فِي مُخَاطَبَاتِهِ وَمَوَاعِظِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَضْرُوبَ لَهُمُ الْمَثَلُ هَاهُنَا لَمْ يُؤْمِنُوا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «1» . وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْهُمْ فِي حَالِ نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنَّهُ كَانَ حَصَلَ لَهُمْ إِيمَانٌ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سُلِبُوهُ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ كما يفيده قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ «2» . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَصَحَّ ضَرْبُ مَثَلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ كَمَا قَالَ: رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ «3» أَيْ كَدَوَرَانِ عَيْنَيِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، وَقَالَ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «4» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ، كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ، فَيُنَاكِحُهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَيُوَارِثُونَهُمْ وَيُقَاسِمُونَهُمُ الْفَيْءَ، فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبَهُمُ اللَّهُ الْعِزَّ كَمَا سَلَبَ صَاحِبَ النَّارِ ضَوْءَهُ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ يَقُولُ: فِي عَذَابٍ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ الْهُدَى وَلَا يُبْصِرُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا قَالُوا: إِنَّ نَاسًا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ عِنْدَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ نَافَقُوا، فَكَانَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ فِي ظُلْمَةٍ فَأَوْقَدَ نَارًا فَأَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ مِنْ قَذًى وَأَذًى، فَأَبْصَرَهُ حَتَّى عَرَفَ مَا يَتَّقِي، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ طَفِئَتْ نَارُهُ فَأَقْبَلَ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي مِنْ أَذًى. فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ كَانَ فِي ظُلْمَةِ الشِّرْكِ فَأَسْلَمَ فَعَرَفَ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ وَالْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ كَفَرَ فَصَارَ لَا يَعْرِفُ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ وَلَا الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ. فَهُمْ صُمٌّ بُكْمٌ هُمُ الْخُرْسُ، فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا قَالَ: ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُنَافِقِ، وَقَوْلُهُ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ قَالَ: أَمَّا النُّورُ فَهُوَ إِيمَانُهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ، وَأَمَّا الظُّلْمَةُ فَهُوَ ضَلَالُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 19 الى 20] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) عَطَفَ هَذَا الْمَثَلَ عَلَى الْمَثَلِ الْأَوَّلِ بِحَرْفِ الشَّكِّ لِقَصْدِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمَثَلَيْنِ: أي مثلوهم بهذا أو هذا، وهي

_ (1) . البقرة: 8. (2) . المنافقون: 3. (3) . الأحزاب: 19. (4) . الجمعة: 5.

وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ لِلشَّكِّ فَقَدْ تَوَسَّعَ فِيهَا حَتَّى صَارَتْ لِمُجَرَّدِ التَّسَاوِي مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَقِيلَ إِنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ، وَأَنْشَدَ: وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا وَقَالَ آخَرُ: نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ وَالْمُرَادُ بِالصَّيِّبِ: الْمَطَرُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ صَابَ يَصُوبُ: إِذَا نَزَلَ. قَالَ عَلْقَمَةُ: فَلَا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرٍ ... سقتك روايا المزن حَيْثُ تَصُوبُ وَأَصْلُهُ صَيُّوبٌ، اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغَمَتْ، كَمَا فَعَلُوا فِي مَيِّتٍ وَسَيِّدٍ. وَالسَّمَاءُ فِي الْأَصْلِ: كُلُّ مَا عَلَاكَ فَأَظَلَّكَ. وَمِنْهُ قِيلَ لِسَقْفِ الْبَيْتِ سَمَاءٌ. وَالسَّمَاءُ أَيْضًا: الْمَطَرُ سُمِّيَ بِهَا لِنُزُولِهِ مِنْهَا، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ نُزُولُهُ بِجَانِبٍ مِنْهَا دُونَ جانب، وإطلاق السماء على المطر واقع كثير فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانٍ: دِيَارٌ من بني الحسحاس قفر ... تعفّيها الرّوامس وَالسَّمَاءُ وَقَالَ آخَرُ: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ..... وَالظُّلُمَاتُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَإِنَّمَا جَمَعَهَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ انْضَمَّ إِلَى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ ظُلْمَةُ الْغَيْمِ. وَالرَّعْدُ: اسْمٌ لِصَوْتِ الْمَلَكِ الَّذِي يَزْجُرُ السَّحَابَ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «سَأَلَتِ الْيَهُودُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الرَّعْدِ مَا هُوَ؟ قَالَ: مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِيَدِهِ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، قَالُوا: فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي نَسْمَعُ؟ قَالَ: زَجْرَهُ بِالسَّحَابِ إِذَا زَجَرَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَيْثُ أُمِرَ. قَالَتْ: صَدَقْتَ» الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ اضْطِرَابُ أَجْرَامِ السَّحَابِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ مِنْهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ تَبَعًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَجَهَلَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْبَرْقُ مِخْرَاقُ حَدِيدٍ بِيَدِ الْمَلَكِ الَّذِي يَسُوقُ السَّحَابَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ تَبَعًا لِلْفَلَاسِفَةِ: إِنَّ الْبَرْقَ مَا يَنْقَدِحُ مِنَ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِ السَّحَابِ الْمُتَرَاكِمَةِ مِنَ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَعِّدَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى جُزْءٍ نَارِيٍّ يَتَلَهَّبُ عِنْدَ الِاصْطِكَاكِ. وَقَوْلُهُ: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: فَكَيْفَ حَالُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ الرَّعْدِ؟ فَقِيلَ: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ. وَإِطْلَاقُ الْأُصْبُعِ عَلَى بَعْضِهَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ، وَالْعَلَاقَةُ الْجُزْئِيَّةُ وَالْكُلِّيَّةُ لِأَنَّ الَّذِي يُجْعَلُ فِي الْأُذُنِ إِنَّمَا هُوَ رَأْسُ الْأُصْبُعِ لا كُلِّهَا. وَالصَّوَاعِقُ وَيُقَالُ الصَّوَاقِعُ: هِيَ قِطْعَةُ نَارٍ

تَنْفَصِلُ مِنْ مِخْرَاقِ الْمَلَكِ الَّذِي يَزْجُرُ السَّحَابَ عِنْدَ غَضَبِهِ وَشِدَّةِ ضَرْبِهِ لَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَا بَعْضَهُ قَرِيبًا، وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ الْمَلَكِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: هِيَ الْوَاقِعَةُ الشَّدِيدَةُ مِنْ صَوْتِ الرَّعْدِ، يَكُونُ مَعَهَا أَحْيَانًا قِطْعَةُ نَارٍ تَحْرِقُ مَا أَتَتْ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الصَّاعِقَةُ: نَارٌ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ فِي رَعْدٍ شَدِيدٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ تَبَعًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهَا نَارٌ لَطِيفَةٌ تَنْقَدِحُ مِنَ السَّحَابِ إِذَا اصْطَكَّتْ أَجْرَامُهَا. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الرَّعْدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ مَا لَهُ مَزِيدُ فَائِدَةٍ وَإِيضَاحٍ. وَنَصَبَ: حَذَرَ الْمَوْتِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَالْمَوْتُ: ضِدُّ الْحَيَاةِ. وَالْإِحَاطَةُ: الْأَخْذُ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ حَتَّى لَا تَفُوتَ الْمُحَاطَ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَقَوْلُهُ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْبَرْقِ؟ وَيَكَادُ: يُقَارِبُ. وَالْخَطْفُ: الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الطَّيْرُ خَطَّافًا لِسُرْعَتِهِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: يَخْطَفُ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ. وَقَوْلُهُ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي تَارَتَيْ خُفُوقِ الْبَرْقِ وَسُكُونِهِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِشِدَّتِهِ عَلَى أَهْلِ الصَّيِّبِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ بِالزِّيَادَةِ فِي الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَقْدُورَاتِهِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوْ كَصَيِّبٍ هُوَ الْمَطَرُ ضُرِبَ مَثَلُهُ فِي الْقُرْآنِ: فِيهِ ظُلُماتٌ يَقُولُ ابْتِلَاءٌ: وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ تَخْوِيفٌ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ يَقُولُ: يَكَادُ مُحْكَمُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُنَافِقِينَ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ يَقُولُ: كُلَّمَا أَصَابَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ عزّا اطمأنوا، فإن أصاب الإسلام نكبة قالوا ارجعوا إلى الكفر [يقول وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا] «1» كَقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ «2» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: كَانَ رَجُلَانِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَرَبَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَصَابَهُمَا هَذَا الْمَطَرُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِيهِ رَعْدٌ شَدِيدٌ وَصَوَاعِقُ وَبَرْقٌ، فجعلا كلما أصابتهما الصَّوَاعِقُ يَجْعَلَانِ أَصَابِعَهُمَا فِي آذَانِهِمَا مِنَ الْفَرَقِ أَنْ تَدْخُلَ الصَّوَاعِقُ فِي مَسَامِعِهِمَا فَتَقْتُلُهُمَا، وَإِذَا لَمَعَ الْبَرْقُ مَشَيَا فِي ضَوْئِهِ وَإِذَا لَمْ يَلْمَعْ لَمْ يُبْصِرَا قَامَا مَكَانَهُمَا لَا يَمْشِيَانِ، فَجَعَلَا يَقُولَانِ: لَيْتَنَا قَدْ أَصْبَحْنَا فَنَأْتِيَ مُحَمَّدًا فَنَضَعَ أَيْدِيَنَا فِي يَدِهِ، فَأَصْبَحَا فَأَتَيَاهُ فَأَسْلَمَا وَوَضَعَا أَيْدِيَهُمَا فِي يَدِهِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمَا، فَضَرَبَ اللَّهُ شَأْنَ هَذَيْنِ الْمُنَافِقَيْنِ الْخَارِجَيْنِ مَثَلًا لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ إِذَا حَضَرُوا مَجْلِسَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ فَرَقًا مِنْ كلام النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَزِّلَ فِيهِمْ شَيْءٌ أَوْ يُذْكَرُوا بِشَيْءٍ فَيُقْتَلُوا، كَمَا كَانَ ذَلِكَ الْمُنَافِقَانِ الْخَارِجَانِ يَجْعَلَانِ أَصَابِعَهُمَا فِي آذَانِهِمَا، وَإِذَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ: أَيْ فَإِذَا كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ وَأَصَابُوا غَنِيمَةً وَفَتْحًا مَشَوْا فِيهِ وَقَالُوا: إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلّم دين صَدَقَ وَاسْتَقَامُوا عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ ذَانِكَ الْمُنَافِقَانِ

_ (1) . مستدرك من تفسير الطبري (1/ 120) . (2) . الحج: 11.

[سورة البقرة (2) : الآيات 22 إلى 21]

يَمْشِيَانِ إِذَا أَضَاءَ لَهُمُ الْبَرْقُ، وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا فَكَانُوا إِذَا هَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ وَأَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ قَالُوا: هَذَا مِنْ أَجْلِ دِينِ محمد صلّى الله عليه وسلم، وارتدوا كفارا كَمَا قَامَ الْمُنَافِقَانِ حِينَ أَظْلَمَ الْبَرْقُ عَلَيْهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوْ كَصَيِّبٍ قَالَ: هُوَ الْمَطَرُ وَهُوَ مَثَلٌ لِلْمُنَافِقِ فِي ضَوْئِهِ يَتَكَلَّمُ بِمَا مَعَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مُرَاءَاةَ النَّاسِ، فَإِذَا خَلَا وَحْدَهُ عَمِلَ بِغَيْرِهِ فَهُوَ فِي ظُلْمَةٍ مَا أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا الظُّلُمَاتُ: فَالضَّلَالَاتُ. وَأَمَّا الْبَرْقُ: فَالْإِيمَانُ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ: فَهُوَ رَجُلٌ يَأْخُذُ بِطَرَفِ الْحَقِّ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُجَاوِزَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا نَحْوَ مَا سَلَفَ. وَقَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُهُ بِنَحْوِ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَصْنَافٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» وَوَرَدَ بِلَفْظِ أَرْبَعٌ وَزَادَ «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» . وَوَرَدَ بِلَفْظِ «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ» . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هذين المثلين لصنف واحد من المنافقين. [سورة البقرة (2) : الآيات 22 الى 21] لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ الْتَفَاتًا لِلنُّكْتَةِ السَّابِقَةِ فِي الْفَاتِحَةِ، وَيَا: حَرْفُ نِدَاءٍ، وَالْمُنَادَى أَيُّ، وَهُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ وَهَا حَرْفُ تَنْبِيهٍ مُقْحَمٌ بَيْنَ الْمُنَادَى وَصِفَتِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: كَأَنَّكَ كَرَّرْتَ: «يَا» مَرَّتَيْنِ، وَصَارَ الِاسْمُ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالُوا: هَا هُوَ ذَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ النَّاسِ وَالْعِبَادَةِ. وَإِنَّمَا خَصَّ نِعْمَةَ الْخَلْقِ وَامْتَنَّ بِهَا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهَا. وَهِيَ أَصْلُهَا الَّذِي لَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْهَا بِدُونِهَا. وَأَيْضًا فَالْكُفَّارُ مُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» فَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ وَلَا يُنْكِرُونَهُ. وَفِي أَصْلِ مَعْنَى الْخَلْقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا التَّقْدِيرُ. يُقَالُ خَلَقْتُ الْأَدِيمَ لِلسِّقَاءِ: إِذَا قَدَّرْتُهُ قَبْلَ الْقَطْعِ. قَالَ زُهَيْرٌ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ... ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي الثَّانِي: الْإِنْشَاءُ وَالِاخْتِرَاعُ وَالْإِبْدَاعُ. وَلَعَلَّ: أَصْلَهَا التَّرَجِّي وَالطَّمَعُ وَالتَّوَقُّعُ وَالْإِشْفَاقُ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْمُخَاطَبَةُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ للبشر كانت بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَهُمْ: افْعَلُوا ذَلِكَ عَلَى الرَّجَاءِ مِنْكُمْ وَالطَّمَعِ، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهُمْ سِيبَوَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلَتْ لَعَلَّ مُجَرَّدَةً مِنَ الشَّكِّ بِمَعْنَى لَامِ كَيْ. وَالْمَعْنَى هُنَا: لِتَتَّقُوا، وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ هَذَا الموقع، ومنه قول الشاعر:

_ (1) . الزخرف: 87.

وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثِقْتُمْ لَنَا كُلَّ مُوَثَّقِ فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ ... كَشِبْهِ «1» سَرَابٍ فِي الْمَلَا مُتَأَلِّقِ أَيْ كُفُّوا عَنِ الْحَرْبِ لِنَكُفَّ، وَلَوْ كَانَتْ لَعَلَّ لِلشَّكِّ لَمْ يُوثِقُوا لَهُمْ كُلَّ مُوَثَّقٍ، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ قُطْرُبٌ. وَقِيلَ إِنَّهَا بِمَعْنَى التَّعَرُّضِ لِلشَّيْءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مُتَعَرِّضِينَ لِلتَّقْوَى. وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ لِتَعَدِّيهِ إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَقَدْ جَعَلْتُ أَرَى الْإِثْنَيْنِ أَرْبَعَةً ... والواحد اثنين لمّا هدّني الكبر وفِراشاً أَيْ وَطَاءٌ يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا. لَمَّا قَدَّمَ نِعْمَةَ خَلْقِهِمْ أَتْبَعَهُ بِنِعْمَةِ خَلْقِ الْأَرْضِ فِرَاشًا لَهُمْ، لَمَّا كَانَتِ الْأَرْضُ الَّتِي هِيَ مَسْكَنُهُمْ وَمَحَلُّ اسْتِقْرَارِهِمْ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَتُهُمْ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ جَعْلِ السَّمَاءِ كَالْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَيْهِمْ، وَالسَّقْفِ لِلْبَيْتِ الَّذِي يَسْكُنُونَهُ كَمَا قال: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً «2» . وَأَصْلُ الْبِنَاءِ: وَضْعُ لَبِنَةٍ عَلَى أُخْرَى، ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ. وَأَصْلُ مَاءٍ مَوَهٌ، قُلِبَتِ الْوَاوُ لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا أَلِفًا فَصَارَ مَاهٌ، فَاجْتَمَعَ حَرْفَانِ خَفِيفَانِ فقلبت الهاء همزة. والثمرات جمع ثمرة. أَخْرَجْنَا لَكُمْ أَلْوَانًا مِنَ الثَّمَرَاتِ وَأَنْوَاعًا مِنَ النَّبَاتِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَتَاعًا لَكُمْ إِلَى حِينٍ. وَالْأَنْدَادُ جَمْعُ نِدٍّ، وَهُوَ الْمِثْلُ وَالنَّظِيرُ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَصَفَهَمْ بِالْعِلْمِ وَقَدْ نَعَتَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ. وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ. وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. فَيُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ جَهْلَهُمْ وَعَدَمَ شُعُورِهِمْ لَا يَتَنَاوَلُ هَذَا: أَيْ كَوْنُهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْمُنْعِمُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ هَذَا وَلَا يُنْكِرُونَهُ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ آيَةٍ. وَقَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَحْدَانِيَّتَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْإِمْكَانِ لَوْ تَدَبَّرْتُمْ وَنَظَرْتُمْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْحُجَجِ وَتَرْكِ التَّقْلِيدِ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: الْمُرَادُ وَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَنْدَادًا بَعْدَ عِلْمِكُمُ الَّذِي هُوَ نَفْيُ الْجَهْلِ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ انْتَهَى. وَحَذَفَ مَفْعُولَ تَعْلَمُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّوْحِيدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا كَانَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَهُوَ أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا كَانَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَهُوَ أُنْزِلَ بِمَكَّةَ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ قَوْلِ عَلْقَمَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَكَذَا أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُرْوَةَ وَعِكْرِمَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَالَ: هِيَ لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ يعني كي. وأخرج ابن أبي

_ (1) . في القرطبي: كلمع. (2) . الأنبياء: 32.

حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: لَعَلَّ، مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً أَيْ تَمْشُونَ عَلَيْهَا وَهِيَ الْمِهَادُ وَالْقَرَارُ: وَالسَّماءَ بِناءً قَالَ كَهَيْئَةِ الْقُبَّةِ وَهِيَ سَقْفُ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سُئِلَ: الْمَطَرُ مِنَ السَّمَاءِ أَمْ مِنَ السَّحَابِ؟ قَالَ: مِنَ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: السَّحَابُ غِرْبَالُ الْمَطَرِ، وَلَوْلَا السَّحَابُ حِينَ يَنْزِلُ الْمَاءُ مِنَ السَّمَاءِ لَأَفْسَدَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: الْمَطَرُ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فَيَنْزِلُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْأَبْزَمُ، فَتَجِيءُ السَّحَابُ السُّودُ فَتَدْخُلُهُ فَتَشْرَبُهُ مِثْلَ شُرْبِ الْإِسْفَنْجَةِ فَيَسُوقُهَا اللَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: يَنْزِلُ الْمَاءُ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَتَقَعُ الْقَطْرَةُ مِنْهُ على السحاب مِثْلَ الْبَعِيرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: الْمَطَرُ مِنْهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْهُ مَا يَسْتَقِيهِ الْغَيْمُ مِنَ الْبَحْرِ فَيُعْذِبُهُ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَطَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا جَاءَ الْقَطْرُ مِنَ السَّمَاءِ تَفَتَّحَتْ لَهُ الْأَصْدَافُ فَكَانَ لُؤْلُؤًا. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَطَرِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ إِلَّا وَالسَّمَاءُ تُمْطِرُ فِيهَا يُصَرِّفُهُ اللَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا نَزَلَ مَطَرٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا وَمَعَهُ الْبَذْرُ، أَمَا لَوْ أَنَّكُمْ بَسَطْتُمْ نِطْعًا لَرَأَيْتُمُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَطَرُ مِزَاجَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَإِذَا كَثُرَ الْمِزَاجُ عَظُمَتِ الْبَرَكَةُ وَإِنْ قَلَّ الْمَطَرُ، وَإِذَا قَلَّ الْمِزَاجُ قَلَّتِ الْبَرَكَةُ وَإِنْ كَثُرَ الْمَطَرُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَا مِنْ عَامٍ بِأَمْطَرَ مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَيَنْزِلُ مَعَ الْمَطَرِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَكْتُبُونَ حَيْثُ يَقَعُ ذَلِكَ الْمَطَرُ، وَمَنْ يُرْزَقُهُ وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْهُ مَعَ كُلِّ قَطْرَةٍ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أَيْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَكُمْ يَرْزُقُكُمْ غَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْداداً قَالَ: أَشْبَاهًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنْداداً قَالَ: أَكْفَاءً مِنَ الرِّجَالِ يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنْداداً قَالَ: شُرَكَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، قَالَ: جَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ قُتَيْلَةَ بِنْتِ صَيْفِيٍّ قَالَتْ: «جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْأَحْبَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ، لَوْلَا أَنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: يَقُولُ أَحَدُكُمْ لَا وَالْكَعْبَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِرَبِّ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ نِدًّا، قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يقول أحدكم

_ (1) . ما ورد من أقوال بعضهم حول تشكل المطر لا يستند إلى دليل شرعي، فما خالف منه الحقائق العلمية لا يعتد به.

[سورة البقرة (2) : الآيات 24 إلى 23]

مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: فَمَنْ قَالَ مِنْكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ ثُمَّ شِئْتَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ طُفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ: أَنَّهُ رَأَى فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّهُ مَرَّ بِرَهْطٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: أَنْتُمْ نِعْمَ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تزعمون أنّ عزيزا ابْنُ اللَّهِ، فَقَالُوا: وَأَنْتُمْ نِعْمَ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ. ثُمَّ مَرَّ بِرَهْطٍ مِنَ النَّصَارَى فَقَالَ: أَنْتُمْ نِعْمَ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، قَالُوا: وَأَنْتُمْ نِعْمَ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ. فَلَمَّا أصبح أخبر النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَقَالَ: «إِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا، وَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ فَلَا تَقُولُوهَا، وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَنْدَادُ هُوَ الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفًا سَوْدَاءَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَهُوَ أَنْ تَقُولَ: وَاللَّهِ وَحَيَاتِكَ يَا فُلَانُ وَحَيَاتِي، وَتَقُولَ: لَوْلَا كَلْبُهُ هَذَا لَأَتَانَا اللُّصُوصُ، وَلَوْلَا الْقِطُّ فِي الدَّارِ لَأَتَى اللُّصُوصُ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ، مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ لَوْلَا اللَّهُ وَفُلَانٌ، هَذَا كُلُّهُ شِرْكٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» الحديث. [سورة البقرة (2) : الآيات 24 الى 23] فِي رَيْبٍ أَيْ شَكٍّ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا أَيِ الْقُرْآنُ أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَالْعَبْدُ: مَأْخُوذٌ مِنَ التَّعَبُّدِ وَهُوَ التَّذَلُّلُ. وَالتَّنْزِيلُ: التَّدْرِيجُ وَالتَّنْجِيمُ. وَقَوْلُهُ: فَأْتُوا الْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ التَّعْجِيزُ. لِمَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يُثْبِتُ الْوَحْدَانِيَّةَ وَيُبْطِلُ الشِّرْكَ عَقَّبَهُ بِمَا هُوَ الْحُجَّةُ عَلَى إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَا يَدْفَعُ الشُّبْهَةَ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً، فَتَحَدَّاهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ سُوَرِهِ. وَالسُّورَةُ: الطَّائِفَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُسَمَّاةُ بِاسْمٍ خَاصٍّ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَلِمَاتِهَا كَاشْتِمَالِ سور البلد عليها. و «من» فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْلِهِ زَائِدَةٌ لِقَوْلِهِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَالضَّمِيرُ فِي مِثْلِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقِيلَ عَائِدٌ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ كِتَابٍ مِثْلِهِ فَإِنَّهَا تُصَدِّقُ مَا فِيهِ. وَقِيلَ يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: مِنْ بَشَرٍ مِثْلِ مُحَمَّدٍ: أَيْ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ. وَالشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ بِمَعْنَى الْحَاضِرِ أَوِ الْقَائِمِ بِالشَّهَادَةِ أَوِ الْمُعَاوِنِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْآلِهَةُ. وَمَعْنَى دُونِ: أَدْنَى مَكَانٍ مِنَ الشَّيْءِ وَاتَّسَعَ فِيهِ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي تَخَطِّي الشَّيْءِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَمِنْهُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ «1» وَلَهُ مَعَانٍ أُخَرُ، مِنْهَا التَّقْصِيرُ عَنِ الْغَايَةِ وَالْحَقَارَةِ، يُقَالُ: هَذَا الشَّيْءُ دُونٌ، أَيْ حَقِيرٌ، ومنه: إذا ما علا المرء رام العلاء ... ويقنع بالدّون من كان دونا

_ (1) . آل عمران: 28. [.....]

وَالْقُرْبُ، يُقَالُ: هَذَا دُونَ ذَاكَ، أَيْ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَيَكُونُ إِغْرَاءً، تَقُولُ: دُونَكَ زَيْدًا: أَيْ خُذْهُ مِنْ أَدْنَى مَكَانٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِادْعُوا: أَيِ ادْعُوا الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا قُلْتُمْ مِنْ أَنَّكُمْ تَقْدِرُونَ عَلَى الْمُعَارَضَةِ، وَهَذَا تَعْجِيزٌ لَهُمْ وَبَيَانٌ لِانْقِطَاعِهِمْ. وَالصِّدْقُ: خِلَافُ الْكَذِبِ، وَهُوَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ أَوْ لِلِاعْتِقَادِ أَوْ لَهُمَا، عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا يَعْنِي فِيمَا مَضَى وَلَنْ تَفْعَلُوا أَيْ تُطِيقُوا ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي وَتَبَيَّنَ لَكُمْ عَجْزُكُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فَاتَّقُوا النَّارَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْقِيَامِ بِفَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ، وَجُمْلَةُ لَنْ تَفْعَلُوا: لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهَا اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَلَنْ لِلنَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنَ الْغُيُوبِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا الْقُرْآنُ قَبْلَ وُقُوعِهَا، لِأَنَّهَا لم تقع المعارضة من أحد من الْكَفَرَةِ فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ وَفِيمَا بَعْدَهَا وَإِلَى الْآنِ. وَالْوَقُودُ بِالْفَتْحِ: الْحَطَبُ، وَبِالضَّمِّ: التَّوَقُّدُ، أَيِ المصدر، وقد جاء فيه الْفَتْحِ. وَالْمُرَادُ بِالْحِجَارَةِ: الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا لِأَنَّهُمْ قَرَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا فَجُعِلَتْ وَقُودًا لِلنَّارِ مَعَهُمْ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» أَيْ: حَطَبُ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّهْوِيلِ مَا لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ النَّارِ تَتَّقِدُ بِالنَّاسِ وَالْحِجَارَةِ، فَأُوقِدَتْ بِنَفْسِ مَا يُرَادُ إِحْرَاقُهُ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أُعِدَّتْ جُعِلَتْ عُدَّةً لِعَذَابِهِمْ وَهُيِّئَتْ لِذَلِكَ. وَقَدْ كَرَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَحَدِّي الْكَفَّارِ بِهَذَا فِي مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا هَذَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2» وَقَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «3» وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «4» وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «5» . وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ هَلْ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِي الْقُرْآنِ هُوَ كَوْنُهُ فِي الرُّتْبَةِ الْعَلِيَّةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ، أَوْ كَانَ الْعَجْزُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ لِلصِّرْفَةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ عَنْ أَنْ يُعَارِضُوهُ، وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاطِنِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ قَالَ: هَذَا قَوْلُ اللَّهِ لِمَنْ شَكَّ مِنَ الْكَفَّارِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ قَالَ: فِي شَكٍّ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ قَالَ: مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ حَقًّا وَصِدْقًا لَا بَاطِلَ فِيهِ وَلَا كذب. وأخرج ابن

_ (1) . الأنبياء: 98. (2) . القصص: 49. (3) . الإسراء: 88. (4) . هود: 13. (5) . يونس: 37- 38.

[سورة البقرة (2) : آية 25]

جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ قَالَ: مِثْلِ الْقُرْآنِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ قَالَ: نَاسٌ يَشْهَدُونَ لَكُمْ إِذَا أَتَيْتُمْ بِهَا أَنَّهَا مِثْلُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: شُهَداءَكُمْ قَالَ: أَعْوَانَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَقَدْ بَيَّنَ لَكُمُ الْحَقَّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا يَقُولُ: لَنْ تَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَنْ تُطِيقُوهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ وُقُودُهَا بِرَفْعِ الْوَاوِ الْأُولَى، إِلَّا الَّتِي فِي السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ «1» بِنَصْبِ الْوَاوِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ الْحِجَارَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي قوله: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ خَلَقَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ كَيْفَ شَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ وقال: أَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، وَأَلْفَ عَامٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، وَأَلْفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ لَا يُطْفَأُ لَهَبُهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً؟ قَالَ فَإِنَّهَا قَدْ فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَرَوْنَهَا حَمْرَاءَ مِثْلَ نَارِكُمْ هَذِهِ الَّتِي تُوقِدُونَ، إِنَّهَا لَأَشَدُّ سَوَادًا مِنَ الْقَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ قَالَ: أَيْ لِمَنْ كَانَ مِثْلَ ما أنتم عليه من الكفر. [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) لَمَّا ذكر تعالى جزاء الكافرين عقّب بِجَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، كَمَا هِيَ عَادَتُهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَنْشِيطِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِطَاعَاتِهِ، وَتَثْبِيطِ عِبَادِهِ الْكَافِرِينَ عَنْ مَعَاصِيهِ. وَالتَّبْشِيرُ: الْإِخْبَارُ بِمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ عَلَى الْبَشَرَةِ، وَهِيَ الْجِلْدَةُ الظَّاهِرَةُ، مِنَ الْبِشْرِ وَالسُّرُورِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا قَالَ: مَنْ بَشَّرَنِي مِنْ عَبِيدِي فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِهِ فَأَكْثَرُ، فَإِنَّ أَوَّلَهُمْ يَكُونُ حُرًّا دُونَ الثَّانِي، وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ: مَنْ أَخْبَرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ، فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَعُمُّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إنما قصد خبرا يكون بشارة،

_ (1) . البروج: 5.

وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْأَوَّلِ. انْتَهَى. وَالْحَقُّ أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ مَدْلُولَ الْخَبَرِ عُتِقُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَرَادَ الْخَبَرَ الْمُقَيَّدَ بِكَوْنِهِ بِشَارَةً عُتِقَ الْأَوَّلُ، فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ. وَالْمَأْمُورُ بِالتَّبْشِيرِ قِيلَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ هُوَ كُلُّ أَحَدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ» وَهَذِهِ الْجُمَلُ وَإِنْ كَانَتْ مُصَدَّرَةً بِالْإِنْشَاءِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عَطْفِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ الْمُرَادَ عَطْفُ جُمْلَةِ وَصْفِ ثَوَابِ الْمُطِيعِينَ عَلَى جُمْلَةِ وَصْفِ عِقَابِ الْعَاصِينَ مِنْ دُونِ نَظَرٍ إِلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْوَصْفَانِ مِنَ الْأَفْرَادِ الْمُتَخَالِفَةِ خَبَرًا وَإِنْشَاءً. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ وَبَشِّرِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا النَّارَ، وليس هذا بجيد. والصَّالِحاتِ الْأَعْمَالَ الْمُسْتَقِيمَةَ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْأَعْمَالُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُمُ الْمُفْتَرَضَةُ عَلَيْهِمْ- وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْإِيمَانَ بِمُجَرَّدِهِ يَكْفِي، فَالْجَنَّةُ تُنَالُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَالْجَنَّاتُ: الْبَسَاتِينُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ جَنَّاتٍ لأنها تجنّ من فِيهَا: أَيْ تَسْتُرُهُ بِشَجَرِهَا، وَهُوَ اسْمٌ لِدَارِ الثَّوَابِ كُلِّهَا وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَنَّاتٍ كَثِيرَةٍ. وَالْأَنْهَارُ: جَمْعُ نَهْرٍ، وَهُوَ الْمَجْرَى الْوَاسِعُ فَوْقَ الْجَدْوَلِ وَدُونَ الْبَحْرِ، وَالْمُرَادُ: الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي فِيهَا، وَأَسْنَدَ الْجَرْيَ إِلَيْهَا مَجَازًا، وَالْجَارِي حَقِيقَةً هو الماء كما في قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ أي أهلها وكما قال الشاعر: نبّئت أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ ... وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ الْمَجْلِسُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ تَحْتِهَا عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّاتِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَشْجَارِ: أَيْ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا. وَقَوْلُهُ: كُلَّما رُزِقُوا وَصْفٌ آخَرُ لِلْجَنَّاتِ، أَوْ هُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّ سائلا قال: كيف ثمارها؟ ومِنْ ثَمَرَةٍ فِي مَعْنَى: مِنْ أَيِّ ثَمَرَةٍ، أَيْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ شَبِيهُهُ وَنَظِيرُهُ، لَا أَنَّهُ هُوَ، لِأَنَّ ذَاتَ الْحَاضِرِ لَا تَكُونُ عَيْنَ ذَاتِ الْغَائِبِ لِاخْتِلَافِهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّوْنَ يُشْبِهُ اللَّوْنَ وَإِنْ كَانَ الْحَجْمُ وَالطَّعْمُ وَالرَّائِحَةُ وَالْمَاوِيَّةُ مُتَخَالِفَةً. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ إِلَى الرِّزْقِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِمَا يُرْزَقُونَهُ فِي الْجَنَّةِ مُتَشَابِهًا فَمَا يَأْتِيهِمْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يُشَابِهُ الَّذِي يَأْتِيهِمْ فِي آخِرِهِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ، فَإِذَا أَكَلُوا وَجَدُوا لَهُ طَعْمًا غَيْرَ طَعْمِ الْأَوَّلِ. ومُتَشابِهاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالْمُرَادُ بِتَطْهِيرِ الْأَزْوَاجِ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُنَّ مَا يُصِيبُ النِّسَاءَ مِنْ قَذَرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَسَائِرِ الْأَدْنَاسِ الَّتِي لَا يَمْتَنِعُ تَعَلُّقُهَا بِنِسَاءِ الدُّنْيَا. وَالْخُلُودُ: الْبَقَاءُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِيمَا يَطُولُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا هَلْ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، وَمَقَامٌ فِي أَبَدٍ، فِي دَارٍ سَلِيمَةٍ، وَفَاكِهَةٍ خَضْرَاءَ» الْحَدِيثَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي وَصْفِ الْجَنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تَفَجَّرُ مِنْ تَحْتِ جِبَالِ مِسْكٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قَالَ: يَعْنِي المساكن

[سورة البقرة (2) : الآيات 26 إلى 27]

تَجْرِي أَسْفَلَهَا أَنْهَارُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالَ: أُتُوا بِالثَّمَرَةِ فِي الْجَنَّةِ فَنَظَرُوا إِلَيْهَا قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً فِي اللَّوْنِ وَالْمَرْأَى، وَلَيْسَ يُشْبِهُ الطَّعْمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ وَقَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ إِلَّا الْأَسْمَاءَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَوْلُهُمْ: (مِنْ قَبْلُ) مَعْنَاهُ: هَذَا مِثْلُ الَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ مُتَشابِهاً فِي اللَّوْنِ مُخْتَلِفًا فِي الطَّعْمِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: مُتَشابِهاً قَالَ: خِيَارٌ كُلُّهُ، يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا رَذْلَ فِيهِ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى ثِمَارِ الدُّنْيَا كَيْفَ تَرْذُلُونَ بَعْضَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ قَالَ: مِنَ الْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالْبُزَاقِ وَالنُّخَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنَ الْقَذَرِ وَالْأَذَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَا يَحِضْنَ وَلَا يُحْدِثْنَ وَلَا يَتَنَخَّمْنَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَبْصُقُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ. وَثَبَتَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ صِفَاتِ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَا لَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لِبَسْطِهِ، فَلْيُنْظَرْ فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ أَيْ خَالِدُونَ أَبَدًا، يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الثَّوَابَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مُقِيمٌ عَلَى أَهْلِهِ أَبَدًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ يَعْنِي لَا يَمُوتُونَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ: يَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، كُلٌّ هُوَ خَالِدٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قِيلَ لِأَهْلِ النَّارِ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ فِي النَّارِ عَدَدَ كُلِّ حَصَاةٍ فِي الدُّنْيَا لَفَرِحُوا بِهَا، وَلَوْ قِيلَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ عَدَدَ كُلِّ حَصَاةٍ لَحَزِنُوا، وَلَكِنْ جَعَلَ لَهُمُ الْأَبَدَ» . [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27] إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ لَمَّا أَنْكَرُوا مَا ضَرَبَهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْأَمْثَالِ كَقَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي

اسْتَوْقَدَ ناراً «1» وقوله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ «2» فَقَالُوا: اللَّهُ أَجَلُّ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا أَوْرَدَ هَاهُنَا شُبْهَةً أَوْرَدَهَا الْكُفَّارُ قَدْحًا فِي ذَلِكَ وَأَجَابَ عَنْهَا، وَتَقْرِيرُ الشُّبْهَةِ: أَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ النَّحْلِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالنَّمْلِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهَا بِكَلَامِ الْفُصَحَاءِ، فَاشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا يَقْدَحُ فِي فَصَاحَتِهِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا. وَأَجَابَ الله عنها بأن أصغر هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا تَقْدَحُ فِي الْفَصَاحَةِ إِذَا كَانَ ذِكْرُهَا مُشْتَمِلًا عَلَى حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ تَقْرِيرَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِرْجَاعَ الْإِنْكَارِ إِلَى مُجَرَّدِ الْفَصَاحَةِ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا لِكَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها، وَلَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِنْكَارُهُمْ لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِالْأَشْيَاءِ الْمُحَقَّرَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَادِحًا فِي الْفَصَاحَةِ وَالْإِعْجَازِ. وَالْحَيَاءُ: تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ تَخَوِّفِ مَا يُعَابُ بِهِ وَيُذَمُّ، كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَتَبِعَهُ الرَّازِيُّ فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَصْلُ الِاسْتِحْيَاءِ الِانْقِبَاضُ عَنِ الشَّيْءِ وَالِامْتِنَاعُ مِنْهُ خَوْفًا مِنْ مُوَاقَعَةِ الْقَبِيحِ، وَهَذَا مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ. انْتَهَى، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ذِكْرِ الْحَيَاءِ فَقِيلَ: سَاغَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ وَاقِعًا فِي الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنِ الْكُفَّارِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ هُوَ جَارٍ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: مِثْلُ تَرْكِهِ تَخْيِيبِ الْعَبْدِ وَأَنَّهُ لَا يَرُدُّ يَدَيْهِ صِفْرًا مِنْ عَطَائِهِ لِكَرَمِهِ بِتَرْكِ مَنْ يَتْرُكُ رَدَّ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ حَيَاءً مِنْهُ. انْتَهَى. وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يَسْتَحْيِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، نُقِلَتْ فِيهَا حَرَكَةُ الْيَاءِ الْأُولَى إِلَى الْحَاءِ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الثَّانِيَةِ فَسَكَنَتْ، فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَضَرْبُ الْمَثَلِ: اعتماده وصنعه. و «ما» فِي قَوْلِهِ: مَا بَعُوضَةً إِبْهَامِيَّةٌ، أَيْ مُوجِبَةٌ لِإِبْهَامِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ أَعَمَّ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَأَكْثَرَ شُيُوعًا فِي أَفْرَادِهِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قوله: مَثَلًا وبَعُوضَةً نَعْتٌ لَهَا لِإِبْهَامِهَا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَثَعْلَبٌ، وقيل: إنها زائدة، وبعوضة بَدَلٌ مِنْ مَثَلٍ. وَنَصْبُ بَعُوضَةٍ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ، فَحَذَفَ لَفْظَ بَيْنَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَقِيلَ: إِنْ يَضْرِبْ بِمَعْنَى يَجْعَلُ، فَتَكُونُ بَعُوضَةً الْمَفْعُولَ الثَّانِي. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَرُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ «بَعُوضَةٌ» بِالرَّفْعِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ «مَا» اسْمٌ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي، وَبَعُوضَةٌ رُفِعَ عَلَى إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ «مَا» اسْتِفْهَامِيَّةً كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها حَتَّى لَا يُضْرَبَ الْمَثَلُ بِهِ، بَلْ يُدَانُ لِمَثَلٍ بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، وَالْبَعُوضَةُ فَعُولَةٌ مِنْ بَعَضَ: إِذَا قَطَعَ، يُقَالُ: بَعَضَ وَبَضَعَ بِمَعْنًى، وَالْبَعُوضُ: الْبَقُّ، الْوَاحِدَةُ بَعُوضَةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِصِغَرِهَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ: فَما فَوْقَها قَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمَا: فَمَا فَوْقَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا دُونَهَا: أَيْ أَنَّهَا فَوْقَهَا فِي الصِّغَرِ كَجَنَاحِهَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَهَذَا كَقَوْلِكَ فِي الْكَلَامِ أَتَرَاهُ قَصِيرًا فَيَقُولُ الْقَائِلُ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ أَيْ أَقْصَرُ مِمَّا تَرَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ فَمَا زَادَ عَلَيْهَا فِي الْكِبَرِ. وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ. قَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا أَمَّا حَرْفٌ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَقَدَّرَهُ سِيبَوَيْهِ بِمَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَكَذَا. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّ فائدته في الكلام أنه

_ (1) . البقرة: 17. (2) . البقرة: 19.

يُعْطِيهِ فَضْلَ تَوْكِيدٍ وَجَعَلَ تَقْدِيرَ سِيبَوَيْهِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ. وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى المثل. والْحَقُّ الثَّابِتُ، وَهُوَ الْمُقَابِلُ لِلْبَاطِلِ، وَالْحَقُّ وَاحِدُ الْحُقُوقِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي مَاذَا فَقِيلَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ بِمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ اللَّهُ، فَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَرَادَ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: وَهُوَ الْجَيِّدُ. وَقِيلَ «مَا» اسْمٌ تَامٌّ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بالابتداء، و «ذا» بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَعَ صِلَتِهِ، وَجَوَابُهُ يَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ مَنْصُوبًا وَعَلَى الثَّانِي مَرْفُوعًا. وَالْإِرَادَةُ: نَقِيضُ الْكَرَاهَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِطْلَاقُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَ (مَثَلًا) قَالَ ثَعْلَبٌ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَرَادَ مَثَلًا. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ الَّذِي وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ، وَهَذَا أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً هُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِلْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ الْمُصَدَّرَتَيْنِ بِأَمَّا، فَهُوَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِ الْكَافِرِينَ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا مُرَادُ اللَّهِ بِهَذَا الْمَثَلِ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ النَّاسَ إِلَى ضَلَالَةٍ وَإِلَى هُدًى؟ وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الْكَافِرِينَ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا مِنَ الْهِدَايَةِ، وَلَا يَعْتَرِفُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الضَّلَالَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ مِنْ كَلَامِ الله سبحانه. وقد أطال المتكلمون الخصام في تفسير الضلال المذكور هنا وفي نسبته إلى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ نَقَّحَ الْبَحْثَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَنْقِيحًا نَفِيسًا، وُجَوَّدَهُ وَطَوَّلَهُ وَأَوْضَحَ فُرُوعَهُ وَأُصُولَهُ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ مُفِيدٌ جِدًّا. وَأَمَّا صَاحِبُ الْكَشَّافِ فَقَدِ اعْتَمَدَ هَاهُنَا عَلَى عَصَاهُ الَّتِي يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِهِ، فَجَعَلَ إِسْنَادَ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِكَوْنِهِ سَبَبًا، فَهُوَ مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ إِلَى مُلَابِسٍ لِلْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: يُضِلُّ يَخْذُلُ. وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنِ الشَّيْءِ، يُقَالُ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ: إِذَا خَرَجَتْ عَنْ قِشْرِهَا، وَالْفَأْرَةُ مِنْ جُحْرِهَا، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الْفَرَّاءُ. وَقَدِ اسْتَشْهَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ «الزَّاهِرِ» لَهُ عَلَى مَعْنَى الْفِسْقِ بِقَوْلِ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ: يَهْوِينَ «1» فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرَا ... فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا وَقَدْ زَعَمَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ قَطُّ فِي كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق، وَهَذَا مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، فَقَدْ حَكَى ذَلِكَ عَنِ الْعَرَبِ وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، كَابْنِ فَارِسٍ وَالْجَوْهَرِيِّ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خَمْسُ فَوَاسِقَ» . الْحَدِيثَ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْفِسْقُ الْخُرُوجُ عَنِ الْقَصْدِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَجُزَ بَيْتِ رُؤْبَةَ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْفَاسِقُ فِي الشَّرِيعَةِ: الْخَارِجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْفِسْقُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ: الْخُرُوجُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَدْ يَقَعُ عَلَى مَنْ خَرَجَ بِكُفْرٍ وَعَلَى مَنْ خَرَجَ بِعِصْيَانٍ. انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ أَنْسَبُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلَا وَجْهَ لِقَصْرِهِ عَلَى بَعْضِ الْخَارِجِينَ دُونَ بَعْضٍ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ هَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ؟ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَعِنْدَ الْخَوَارِجِ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا مؤمن ولا كافر، واحتج المخالف

_ (1) . في القرطبي «يذهبن» .

بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ «1» وقوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ «2» وَقَوْلِهِ: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ «3» وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍّ وَصْفًا لِلْفَاسِقِينَ. وَالنَّقْضُ: إِفْسَادُ مَا أُبْرِمَ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ عَهْدٍ، وَالنُّقَاضَةُ: مَا نُقِضَ مِنْ حَبْلِ الشَّعْرِ. وَالْعَهْدُ: قِيلَ هُوَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي آدَمَ حِينَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ وَصِيَّةُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ، وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَنَهْيُهُ إِيَّاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فِي كُتُبِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ، وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ: تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ وَقِيلَ: بَلْ هو نصب الأدلة على وحدانيته بالسموات وَالْأَرْضِ وَسَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَنَقْضُهُ: تَرْكُ النَّظَرِ فِيهِ وَقِيلَ: هُوَ مَا عَهِدَهُ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ. وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ بِالْيَمِينِ، مِفْعَالٌ مِنَ الْوِثَاقَةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ فِي الْعَقْدِ وَالرَّبْطِ، وَالْجَمْعُ الْمَوَاثِيقُ وَالْمَيَاثِيقُ وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: حِمًى لَا يُحَلُّ الدَّهْرَ إِلَّا بِإِذْنِنَا ... وَلَا نَسْأَلُ الْأَقْوَامَ عَهْدَ الْمَيَاثِقِ وَاسْتِعْمَالُ النَّقْضِ فِي إِبْطَالِ الْعَهْدِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَالْقَطْعُ مَعْرُوفٌ، وَالْمَصْدَرُ فِي الرَّحِمِ الْقَطِيعَةُ، وَقَطَعْتُ الْحَبْلَ قَطْعًا، وقطعت النهر قطعا. «وما» فِي قَوْلِهِ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي موضع نصب بيقطعون وأَنْ يُوصَلَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍّ بِأَمَرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا، أَوْ مِنَ الْهَاءِ فِي بِهِ. وَاخْتَلَفُوا مَا هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ فَقِيلَ: الْأَرْحَامُ وَقِيلَ: أَمَرَ أَنْ يُوصَلَ الْقَوْلُ بِالْعَمَلِ وَقِيلَ: أَمَرَ أَنْ يوصل التصديق بجميع أنبيائه فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب البعض الآخر وقيل: المراد به حفظ شَرَائِعِهِ وَحُدُودِهِ الَّتِي أَمَرَ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَعَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَهِيَ عَامَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الْأَفْعَالُ وَالْأَقْوَالُ الْمُخَالِفَةُ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، كَعِبَادَةِ غَيْرِهِ وَالْإِضْرَارِ بِعِبَادِهِ وَتَغْيِيرِ مَا أَمَرَ بِحِفْظِهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا خَالَفَ الصَّلَاحَ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا فَهُوَ فَسَادٌ. وَالْخُسْرَانُ: النُّقْصَانُ، وَالْخَاسِرُ، هُوَ الَّذِي نَقَصَ نَفْسَهُ مِنَ الْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ، وَهَؤُلَاءِ لَمَّا اسْتَبْدَلُوا النَّقْضَ بِالْوَفَاءِ وَالْقَطْعَ بِالْوَصْلِ كَانَ عَمَلُهُمْ فَسَادًا لِمَا نَقَصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْفَلَاحِ وَالرِّبْحِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ قَوْلَهُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ آلِهَةَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً «4» وَذَكَرَ كَيْدَ الْآلِهَةِ فَجَعَلَهُ كَبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ الذُّبَابَ وَالْعَنْكَبُوتَ فِيمَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ يَصْنَعُ بِهَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قَتَادَةَ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ «5» قَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا هَذَا مِنَ الْأَمْثَالِ فَيُضْرَبُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ قَالَ: يُؤْمِنُ بِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ

_ (1) . الحجرات: 11. (2) . التوبة: 67. (3) . الحجرات: 7. (4) . الحج: 73. (5) . الحج: 73. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 28]

رَبِّهِمْ وَيَهْدِيهِمُ اللَّهُ بِهِ، وَيَعْرِفُهُ الْفَاسِقُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَفِي قَوْلِهِ: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ قَالَ: هُوَ مَا عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ فَأَقَرُّوا بِهِ ثُمَّ كَفَرُوا فَنَقَضُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ يَقُولُ: يَعْرِفُهُ الْكَافِرُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابن جرير عن قتادة قال: فسقوا فأضلّهم الله بفسقهم. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ قَالَ: الْحَرُورِيَّةُ «1» هُمُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَكَانَ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَا نَعْلَمُ اللَّهَ أَوْعَدَ فِي ذَنْبٍ مَا أَوْعَدَ فِي نَقْضِ هَذَا الْمِيثَاقِ، فَمَنْ أَعْطَى عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبِهِ فَلْيُوفِ بِهِ اللَّهُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثَ ثَابِتَةٍ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ النَّهْيُ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ قَالَ: الرَّحِمُ وَالْقُرَابَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ قَالَ: يَعْمَلُونَ فِيهَا بِالْمَعْصِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يَقُولُ: هُمْ أَهْلُ النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، مِثْلِ: خَاسِرٍ، وَمُسْرِفٍ، وَظَالِمٍ، وَمُجْرِمٍ، وَفَاسِقٍ، فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْكُفْرَ، وَمَا نَسَبَهُ إِلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الذَّمَّ. [سورة البقرة (2) : آية 28] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) كَيْفَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْفَتْحِ لِخِفَّتِهِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نصب بتكفرون، وَيُسْأَلُ بِهَا عَنِ الْحَالِ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ هُوَ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْوَاوُ فِي وَكُنْتُمْ لِلْحَالِ وَقَدْ مُقَدَّرَةٌ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ، وَإِنَّمَا صَحَّ جَعْلُ هَذَا الْمَاضِي حَالًا لِأَنَّ الْحَالَ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ أَمْواتاً بَلْ هُوَ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى قَوْلِهِ: تُرْجَعُونَ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ كَأَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ؟ وَقِصَّتُكُمْ هَذِهِ: أَيْ وَأَنْتُمْ عَالِمُونَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ وَبِأَوَّلِهَا وَآخِرِهَا. وَالْأَمْوَاتُ جَمْعُ مَيِّتٍ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَرْتِيبِ هَاتَيْنِ الْمَوْتَتَيْنِ وَالْحَيَاتَيْنِ فَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ كُنْتُمْ أَمْواتاً قَبْلَ أَنْ تُخْلَقُوا أَيْ مَعْدُومِينَ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَوْتِ عَلَى الْمَعْدُومِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي عَدَمِ الْإِحْسَاسِ فَأَحْياكُمْ أَيْ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَا مَحِيدَ لِلْكَفَّارِ عَنْهُ، وَإِذَا أَذْعَنَتْ نفوس الكفار بكونهم

_ (1) . الحرورية: فرقة من الخوارج نسبت إلى حروراء وهي قرية بضاحية الكوفة.

[سورة البقرة (2) : آية 29]

كَانُوا مَعْدُومِينَ ثُمَّ أَحْيَاءً فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَمْوَاتًا فِيهَا لَزِمَهُمُ الْإِقْرَارُ بِالْحَيَاةِ الْأُخْرَى. قَالَ غَيْرُهُ: وَالْحَيَاةُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْقَبْرِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي حُكْمِ حَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فِي ظَهْرِ آدَمَ ثُمَّ أَخْرَجَكُمْ مِنْ ظَهْرِهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ مَوْتَ الدُّنْيَا ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ. وَقِيلَ كُنْتُمْ أَمْواتاً أي نطفا في أصلاب الرجال ثُمَّ يُحْيِيكُمْ حَيَاةَ الدُّنْيَا. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فِي الْقُبُورِ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فِي الْقَبْرِ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ الْحَيَاةَ الَّتِي لَيْسَ بَعْدَهَا مَوْتٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هِيَ ثَلَاثُ مَوْتَاتٍ وَثَلَاثُ إِحْيَاءَاتٍ، وَكَوْنُهُمْ مَوْتَى فِي ظَهْرِ آدَمَ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ ظَهْرِهِ وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِمْ غَيْرُ كَوْنِهِمْ نُطَفًا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، فَعَلَى هَذَا يَجِيءُ أَرْبَعُ مَوْتَاتٍ وَأَرْبَعُ إِحْيَاءَاتٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَوَجَدَهُمْ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ كَالْبَهَائِمِ وَأَمَاتَهُمْ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا خَمْسُ مَوْتَاتٍ وَخَمْسُ إِحْيَاءَاتٍ، وَمَوْتَةٌ سَادِسَةٌ لِلْعُصَاةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ إِمَاتَةً، حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أَذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَيَنْبِتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَيْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَيُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. وَقَدْ قَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ ومجاهد وسلام ابن يعقوب بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ، وَقَرَأَ الْجَمَاعَةُ بِضَمِّهِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: عَطَفَ الْأَوَّلَ بِالْفَاءِ وَمَا بَعْدَهُ بثم، لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ قَدْ تَعَقَّبَ الْمَوْتَ بِغَيْرِ تَرَاخٍ، وَأَمَّا الْمَوْتُ فَقَدْ تَرَاخَى عَنِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِحْيَاءُ الثَّانِي كَذَلِكَ مُتَرَاخٍ عَنِ الْمَوْتِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ النُّشُورُ تَرَاخِيًّا ظَاهِرًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ إِحْيَاءُ الْقَبْرِ فَمِنْهُ يُكْتَسَبُ الْعِلْمُ بِتَرَاخِيهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْجَزَاءِ أَيْضًا مُتَرَاخٍ عَنِ النُّشُورِ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إِنَّ الْأَحْيَاءَ الْأَوَّلَ قَدْ تَعَقَّبَ الْمَوْتَ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى مَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْمَوْتِ، فَالْمَوْتُ الْآخَرُ وَقَعَ عَلَى مَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْحَيَاةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ وَقَعَ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ عِنْدَ أَوَّلِ اتِّصَافِهِ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الثَّانِي فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ آخِرِ أَوْقَاتِ مَوْتِهِ كَمَا وَقَعَ الثَّانِي عِنْدَ آخِرِ أَوْقَاتِ حَيَاتِهِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً الْآيَةَ، قَالَ: لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا فَخَلَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فِي الْقَبْرِ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً قَالَ: حِينَ لَمْ يكونوا شَيْئًا، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْحَيَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: خَلَقَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ ثُمَّ أَمَاتَهُمْ، ثُمَّ خَلَقَهُمْ فِي الْأَرْحَامِ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. والصحيح الأوّل. [سورة البقرة (2) : آية 29] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: خَلَقَ لَكُمْ أَيْ مِنْ أَجْلِكُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ الإباحة

حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى النَّقْلِ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَفِي التَّأْكِيدِ بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى هَذَا. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ الطِّينِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ لَنَا مَا فِي الْأَرْضِ دُونَ نَفْسِ الْأَرْضِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ فِي جُمْلَةِ الْأَرْضِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ جَامِعًا لِلْوَصْفَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ المعادن داخلة في تلك، وَكَذَلِكَ عُرُوقُ الْأَرْضِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْبَعْضِ لَهَا وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ. انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ مَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْنَى خَلَقَ لَكُمُ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا وَجْهُ صِحَّةٍ؟ قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ بِالْأَرْضِ الْجِهَاتِ السُّفْلِيَّةَ دُونَ الْغَبْرَاءِ كَمَا تُذْكَرُ السَّمَاءُ وَيُرَادُ الْجِهَاتُ الْعُلْوِيَّةُ جَازَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْغَبْرَاءَ وَمَا فِيهَا وَاقِعَةٌ فِي الْجِهَاتِ السُّفْلِيَّةِ. انْتَهَى. وَأَمَّا التُّرَابُ فَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَحْرِيمُهُ، وَهُوَ أَيْضًا ضَارٌّ فَلَيْسَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ أَكْلًا، وَلَكِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَنَافِعَ أُخْرَى وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْفَعَةً خَاصَّةً كَمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ، بَلْ كُلُّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بوجه من الوجوه، وجميعا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالِاسْتِوَاءُ فِي اللُّغَةِ: الِاعْتِدَالُ وَالِاسْتِقَامَةُ، قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الِارْتِفَاعِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الشَّيْءِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ «1» وقال: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ «2» وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ. وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهَا وَتَرْكِ التَّعَرُّضِ لِتَفْسِيرِهَا، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَسَوَّاهُنَّ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَقَوْلِهِمْ: زَيْدٌ رَجُلًا وَقِيلَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْجِنْسِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَدَلَ خَلْقَهُنَّ فَلَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ. وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي فِي حم السَّجْدَةِ. وَقَالَ فِي النَّازِعَاتِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها «3» فَوَصَفَ خَلْقَهَا ثُمَّ قَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «4» فَكَأَنَّ السَّمَاءَ عَلَى هَذَا خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «5» وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ خَلْقَ جِرْمِ الْأَرْضِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى السَّمَاءِ وَدَحْوُهَا مُتَأَخِّرٌ. وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جَيِّدٌ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ خَلْقُ مَا فِي الْأَرْضِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الدَّحْوِ، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ مَا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَهَذَا يَقْتَضِي بَقَاءَ الْإِشْكَالِ وَعَدَمَ التَّخَلُّصِ عَنْهُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ. وَقَوْلُهُ: سَبْعَ سَماواتٍ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ السَّمَاوَاتِ سَبْعٌ، وَأَمَّا الْأَرْضُ فَلَمْ يَأْتِ فِي ذِكْرِ عَدَدِهَا إِلَّا قَوْلُهُ تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ فَقِيلَ: أَيْ فِي الْعَدَدِ، وَقِيلَ: أَيْ فِي غِلَظِهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنَّ الْأَرْضَ سَبْعٌ، وَلَكِنْ لَمْ يُفْتَقْ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا سَبْعٌ كَالسَّمَاوَاتِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصحيح قوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. وَمَعْنَى قوله تعالى: فَسَوَّاهُنَّ سَوَّى سُطُوحَهُنَّ بِالْإِمْلَاسِ وَقِيلَ: جَعَلَهُنَّ سَوَاءً. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَدُلُّ التَّنْصِيصَ عَلَى سَبْعِ سَمَاوَاتٍ. أَيْ: فَقَطْ؟ قُلْنَا: الْحَقُّ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَدَدِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّائِدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يأتنا عن الله ولا عن رسوله

_ (1) . المؤمنون: 28. (2) . الزخرف: 13. (3) . النازعات: 27. (4) . النازعات: 30. (5) . الأنعام: 1.

إِلَّا السَّبْعُ فَنَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا نَعْمَلُ بِالزِّيَادَةِ إِلَّا إِذَا جَاءَتْ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَأْتِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ خَالِقُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً قَالَ: سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً لِابْنِ آدَمَ وَبُلْغَةً وَمَنْفَعَةً إِلَى أَجَلٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً قَالَ: سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قَالَ: خَلَقَ الْأَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ، فَلَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ ثَارَ مِنْهَا دُخَانٌ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ يَقُولُ: خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْضُهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ، وَسَبْعَ أَرَضِينَ بَعْضُهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وابن مسعود وناس من الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ، قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا قَبْلَ الْمَاءِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَخْرَجَ مِنَ الْمَاءِ دُخَانًا فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ فَسَمَا عَلَيْهِ، فَسَمَّاهُ سَمَاءً ثُمَّ انْبَسَّ الْمَاءُ فَجَعَلَهُ أَرْضًا وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا سَبْعَ أَرَضِينَ فِي يَوْمَيْنِ: الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، فَخَلَقَ الْأَرْضَ عَلَى حُوتٍ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: ن وَالْقَلَمِ وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى ظَهْرِ صَفَاةٍ، وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ وَالصَّخْرَةُ فِي الرِّيحِ، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَ لُقْمَانُ لَيْسَتْ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، فَتَحَرَّكَ الْحُوتُ فَاضْطَرَبَ فَتَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ، فَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَ فَقَرَّتْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «1» وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها، وسخرها وَمَا يَنْبَغِي لَهَا فِي يَوْمَيْنِ، فِي الثُّلَاثَاءِ والأربعاء وذلك قوله: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ «2» إِلَى قَوْلِهِ: وَبارَكَ فِيها يقول: أنبت شجرها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها «3» يَقُولُ: أَقْوَاتَ أَهْلِهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ «4» يَقُولُ: مَنْ سَأَلَ فَهَكَذَا الْأَمْرُ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ «5» وَكَانَ ذَلِكَ الدُّخَانُ مِنْ تَنَفُّسِ الْمَاءِ حِينَ تَنَفَّسَ فَجَعَلَهَا سَمَاءً وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ فِي الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها «6» قَالَ: خَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَلْقِ الَّذِي فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَجِبَالِ الْبَرْدِ وَمَا لَا يُعْلَمُ، ثُمَّ زَيَّنَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِالْكَوَاكِبِ فَجَعَلَهَا زِينَةً وَحِفْظًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ يَعْنِي صَعِدَ أَمْرُهُ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ: يَعْنِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، قَالَ: أَجْرَى النَّارَ عَلَى الْمَاءِ فَبَخَّرَ الْبَحْرَ فَصَعِدَ فِي الْهَوَاءِ فَجَعَلَ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ قال: «أخذ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ» . وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَادِيثُ فِي وَصْفِ السَّمَاوَاتِ، وَأَنَّ غِلَظَ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ

_ (1) . النحل: 15. (2) . فصلت: 9. (3) . فصلت: 10. (4) . فصلت: 10. (5) . فصلت: 11. (6) . فصلت: 12.

[سورة البقرة (2) : آية 30]

عَامٍ، وَمَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَأَنَّهَا سَبْعُ سَمَاوَاتٍ، وَأَنَّ الْأَرْضَ سَبْعُ أَرَضِينَ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي وَصْفِ السَّمَاءِ آثَارٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ بَعْضَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا تَرَكْنَا ذِكْرَهُ هَاهُنَا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا. [سورة البقرة (2) : آية 30] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) إِذْ من الظروف الموضوعة للتوقيت وهي للماضي، وإذا للمستقبل، وَقَدْ تُوضَعُ إِحْدَاهُمَا مَوْضِعَ الْأُخْرَى. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هي مع المستقبل للمضيّ وإذا مع الْمَاضِي لِلِاسْتِقْبَالِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهَا هُنَا زَائِدَةٌ. وَحَكَاهُ الزَّجَّاجُ وَابْنُ النَّحَّاسِ وَقَالَا: هِيَ ظَرْفُ زَمَانٍ لَيْسَتْ مِمَّا يُزَادُ، وَهِيَ هُنَا في موضع نصب بتقدير اذكر أو بقالوا وقيل هو متعلق بخلق لَكُمْ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَالْمَلَائِكَةُ جَمْعُ مَلَكٍ بِوَزْنِ فَعَلٍ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، وَقِيلَ: جَمْعُ مَلْأَكٍ، بِوَزْنِ مَفْعَلٍ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، مِنْ لَأَكَ: إِذَا أَرْسَلَ، وَالْأَلُوكَةُ: الرِّسَالَةُ. قَالَ لَبِيَدٌ: وَغُلَامٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ ... بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلَكًا ... أنه «1» قد طال حبسي وانتظاري وَيُقَالُ أَلِكْنِي: أَيْ أَرْسِلْنِي. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: لَا اشْتِقَاقَ لِمَلَكٍ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَالْهَاءُ فِي الْمَلَائِكَةِ تَأْكِيدٌ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَمِثْلُهُ الصُّلَادِمَةُ، والصلادم: الخيل الشداد واحدها صلدم. وقيل: هي للمبالغة كعلامة ونسابة وجاعِلٌ هُنَا مَنْ جَعَلَ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَذَكَرَ الْمُطَرِّزِيُّ أَنَّهُ بِمَعْنَى خَالِقٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، والْأَرْضِ هُنَا: هِيَ هَذِهِ الْغَبْرَاءُ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. وَقِيلَ إِنَّهَا مَكَّةُ. وَالْخَلِيفَةُ هُنَا مَعْنَاهُ الْخَالِفُ لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَخْلُوفِ: أَيْ يَخْلُفُهُ غَيْرُهُ قِيلَ هُوَ آدَمُ وَقِيلَ كُلُّ مَنْ لَهُ خِلَافَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ قَوْلُهُ خَلِيفَةٌ دون خلائف، واستغنى بآدم عن ذكر من بَعْدَهُ، قِيلَ: خَاطَبَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِهَذَا الْخِطَابِ لَا لِلْمَشُورَةِ، وَلَكِنْ لِاسْتِخْرَاجِ مَا عِنْدَهُمْ وَقِيلَ: خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ السُّؤَالُ فَيُجَابُونَ بِذَلِكَ الْجَوَابِ وَقِيلَ: لِأَجْلِ تَعْلِيمِ عِبَادِهِ مَشْرُوعِيَّةَ الْمُشَاوَرَةِ لَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فَظَاهِرُهُ أَنَّهُمُ اسْتَنْكَرُوا اسْتِخْلَافَ بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ لِكَوْنِهِمْ مَظِنَّةً لِلْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ لَهُمْ مَعْرِفَةً بِبَنِي آدَمَ، بَلْ قَبْلَ وُجُودِ آدَمَ فَضْلًا عَنْ ذُرِّيَّتِهِ، لِعِلْمٍ قَدْ عَلِمُوهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ قَالَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي جَاعِلٌ في الأرض

_ (1) . يروى «إنني» .

خَلِيفَةً يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَقَوْلُهُ: يُفْسِدُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَالْفَسَادُ: ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَسَفْكُ الدَّمِ: صَبُّهُ، قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَالْجَوْهَرِيُّ. وَلَا يُسْتَعْمَلُ السَّفْكُ إِلَّا فِي الدَّمِ، وَوَاحِدُ الدِّمَاءِ دَمٌ، وَأَصْلُهُ دَمِيَ حُذِفَ لَامُهُ، وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ حَالِيَّةٌ. وَالتَّسْبِيحُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّبْعِيدُ مِنَ السُّوءِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ. قَالَ الْأَعْشَى: أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ علقمة الفاخر وبِحَمْدِكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ: أَيْ حَامِدِينَ لَكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْحَمْدِ. وَالتَّقْدِيسُ: التَّطْهِيرُ أَيْ وَنُطَهِّرُكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ مِمَّا نَسَبَهُ إِلَيْكَ الْمُلْحِدُونَ وَافْتَرَاهُ الْجَاحِدُونَ. وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ أَنَّ مَعْنَى التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَاحِدٌ وَهُوَ تَبْعِيدُ اللَّهِ مِنَ السُّوءِ، وَأَنَّهُمَا مِنْ سَبَحَ فِي الْأَرْضِ وَالْمَاءِ، وَقَدَّسَ فِي الْأَرْضِ: إِذَا ذَهَبَ فِيهَا وَأَبْعَدَ. وَفِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ مَا يُرْشِدُ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالتَّأْسِيسُ خَيْرٌ مِنَ التَّأْكِيدِ خُصُوصًا فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَلَمَّا كَانَ سُؤَالُهُمْ وَاقِعًا عَلَى صِفَةٍ تَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ لِأَنْفُسِهِمْ. أَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَفِي هَذَا الْإِجْمَالِ مَا يُغْنِي عَنِ التَّفْصِيلِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ مَا لَا يَعْلَمُ الْمُخَاطِبُ لَهُ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ، وَعَلَى مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنْ يَعْتَرِفَ لِمَنْ يَعْلَمُ بِأَنَّ أَفْعَالَهُ صَادِرَةٌ عَلَى مَا يُوجِبُهُ الْعِلْمُ وَتَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ. وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ قَوْلِهِ تَعْلَمُونَ لِيُفِيدَ التَّعْمِيمَ، وَيَذْهَبَ السَّامِعُ عِنْدَ ذَلِكَ كُلَّ مَذْهَبٍ وَيَعْتَرِفَ بِالْعَجْزِ وَيُقِرَّ بِالْقُصُورِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ ثُمَّ قَرَأَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ وَزَادَ: وَقَدْ كَانَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ بِأَلْفَيْ عَامٍ الْجِنُّ بَنُو الْجَانِّ، فَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، فَلَمَّا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جُنُودًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَضَرَبُوهُمْ حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ كَمَا فَعَلَ أُولَئِكَ الْجَانُّ فَقَالَ اللَّهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فَجَعَلَ إِبْلِيسَ عَلَى مُلْكِ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنَّ لِأَنَّهُمْ خُزَّانُ الْجَنَّةِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ مُلْكِهِ خَازِنًا، فَوَقَعَ فِي صَدْرِهِ كِبْرٌ وَقَالَ: مَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا إِلَّا لِمَزِيَّةٍ لِي، فَاطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا: رَبَّنَا! وَمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ؟ قَالَ: يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَيَتَحَاسَدُونَ، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالُوا: رَبَّنَا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ؟ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَدْ عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ وَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَكْرَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالرَّأْيَ، فَإِنَّ اللَّهَ رَدَّ الرَّأْيَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ

[سورة البقرة (2) : الآيات 31 إلى 33]

فِيها قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي سَابِطٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ مَكَّةَ وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ» فَهِيَ أَوَّلُ مَنْ طَافَ بِهِ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا مُرْسَلٌ فِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، وَفِيهِ مُدْرَجٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ مَكَّةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عن قتادة قال: التسبيح والتقديس فِي الْآيَةِ هُوَ الصَّلَاةُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَنْ لَبَّى الْمَلَائِكَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ قَالَ: فَرَادُّوهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَطَافُوا بِالْعَرْشِ سِتَّ سِنِينَ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ اعْتِذَارًا إِلَيْكَ، لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ نَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إِلَيْكَ» . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ مَا اصْطَفَاهُ لِمَلَائِكَتِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي وَبِحَمْدِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ: نُصَلِّي لَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: التَّقْدِيسُ: التَّطْهِيرُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ: نُعَظِّمُكَ وَنُكَبِّرُكَ. وَأَخْرَجَا عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: نُعَظِّمُكَ وَنُمَجِّدُكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ قَالَ: عَلِمَ مِنْ إِبْلِيسَ الْمَعْصِيَةَ وَخَلَقَهُ لَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِهَا قَالَ: كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْبِيَاءٌ وَرُسُلٌ وَقَوْمٌ صَالِحُونَ وَسَاكِنُو الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ أحمد وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ آدَمَ لَمَّا أَهْبَطَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: أَيْ رَبِّ! أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ الْآيَةَ، قَالُوا رَبَّنَا نَحْنُ أَطْوَعُ لَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ. قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: هَلُمُّوا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ فَنَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلَانِ؟ فَقَالُوا: رَبَّنَا! هَارُوتُ وَمَارُوتُ، قَالَ فَاهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، فَتَمَثَّلَتْ لَهُمَا الزُّهْرَةُ امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ ... » وَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَبَرَةِ أَحَادِيثُ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي صِفَةِ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ لِآدَمَ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فلا نطوّل بذكرها. [سورة البقرة (2) : الآيات 31 الى 33] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) آدَمَ أَصْلُهُ أَأْدَمُ بِهَمْزَتَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمْ لَيَّنُوا الثَّانِيَةَ وإذا حركت قلبت واو، كَمَا قَالُوا فِي الْجَمْعِ أَوَادِمٌ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ فَقِيلَ: مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ وَهُوَ وَجْهُهَا- وَقِيلَ مِنَ الْأُدْمَةِ وَهِيَ السُّمْرَةُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَمَا آدَمُ إِلَّا اسْمٌ عَجَمِيٌّ، وَأَقْرَبُ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى فَاعَلَ كَآزَرَ وَعَازَرَ وَعَابَرَ وَشَالَخَ وَفَالَغَ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. والْأَسْماءَ هِيَ الْعِبَارَاتُ وَالْمُرَادُ: أَسْمَاءُ الْمُسَمَّيَاتِ، قَالَ بِذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْمَعْنَى

الْحَقِيقِيُّ لِلِاسْمِ. وَالتَّأْكِيدُ بِقَوْلِهِ كُلَّها يُفِيدُ أَنَّهُ عَلَّمَهُ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا شَيْءٌ مِنْهَا كَائِنًا مَا كَانَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّهَا أَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ وَأَسْمَاءُ ذَرِّيَّةِ آدَمَ، ثم رجع عن هَذَا وَهُوَ غَيْرُ رَاجِحٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ عَرَضَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُسَمَّيَاتِ أَوِ الْأَسْمَاءَ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ عَرْضَ نَفْسِ الْأَسْمَاءِ غَيْرُ وَاضِحٍ. وَعَرْضُ الشَّيْءِ: إِظْهَارُهُ، وَمِنْهُ عَرْضُ الشَّيْءِ لِلْبَيْعِ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ ضَمِيرُ الْمَعْرُوضِينَ تَغْلِيبًا لِلْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَرَضَهُنَّ وَقَرَأَ أُبَيٌّ عَرَضَهَا وَإِنَّمَا رَجَعَ ضَمِيرُ عَرْضِهِمْ إِلَى مُسَمَّيَاتٍ مَعَ عَدَمِ تَقَدُّمِ ذِكْرِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَهُوَ أَسْمَاؤُهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الْأَجْنَاسَ أَشْخَاصًا، ثُمَّ عَرَضَ تِلْكَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَسَأَلَهُمْ عَنْ أَسْمَاءِ مُسَمَّيَاتِهَا الَّتِي قَدْ تَعَلَّمَهَا آدَمُ، فَقَالَ لَهُمْ آدَمُ: هَذَا اسْمُهُ كَذَا وَهَذَا اسْمُهُ كَذَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَكَانَ الْأَصَحُّ تَوَجُّهَ الْعَرْضِ إِلَى الْمُسَمَّيْنَ. ثُمَّ فِي زَمَنِ عَرْضِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَرَضَهُمْ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُمْ. الثَّانِي أَنَّهُ صَوَّرَهُمْ لِقُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ عَرَضَهُمْ. وَأَمَّا أَمْرُهُ سُبْحَانَهُ لِلْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَهَذَا مِنْهُ تَعَالَى لِقَصْدِ التَّبْكِيتِ لَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَعْجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَأَنْبَئُونِي، كَذَا قَالَ الْمُبَرِّدُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: مَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِذْ كُنْتُمْ، قَالَا: وَهَذَا خَطَأٌ. وَمَعْنَى أَنْبِئُونِي أَخْبَرُونِي. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ اعْتَرَفُوا بِالْعَجْزِ وَالْقُصُورِ ف قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا وَسُبْحَانَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مُنَادَى مُضَافٌ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَالْعَلِيمُ: لِلْمُبَالَغَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ الْمَعْلُومَاتِ. وَالْحَكِيمُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي إِثْبَاتِ الْحِكْمَةِ لَهُ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آدَمَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ بَعْدَ أَنْ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَعَجَزُوا وَاعْتَرَفُوا بِالْقُصُورِ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ الْآيَةَ. قَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ثُمَّ قَالَ هُنَا: أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَدَرُّجًا مِنَ الْمُجْمَلِ إِلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ بَعْضَ بَيَانٍ، وَمَبْسُوطٌ بَعْضَ بَسْطٍ. وَفِي اخْتِصَاصِهِ بِعِلْمِ غيب السموات وَالْأَرْضِ رَدٌّ لِمَا يَتَكَلَّفُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعِبَادِ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، كَالْمُنَجِّمِينَ وَالْكُهَّانِ وَأَهْلِ الرَّمْلِ وَالسِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ. وَالْمُرَادُ بِمَا يُبْدُونَ وَمَا يَكْتُمُونَ: مَا يُظْهِرُونَ وَيُسِرُّونَ كَمَا يُفِيدُهُ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَمَنْ فَسَّرَهُ بِشَيْءٍ خَاصٍّ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ آدَمَ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها قَالَ: عَلَّمَهُ اسم الصحفة وَالْقِدْرِ وَكُلِّ شَيْءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: عَرَضَ عَلَيْهِ أَسْمَاءَ وَلَدِهِ إِنْسَانًا إِنْسَانًا وَالدَّوَابِّ، فَقِيلَ هَذَا الْجَمَلُ، هَذَا الْحِمَارُ، هَذَا الْفَرَسُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ وَالدَّيْلَمِيُّ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ بِشْرٍ مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها قَالَ: عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ فِي تِلْكَ الْأَسْمَاءِ أَلْفَ حِرْفَةٍ مِنَ الْحِرَفِ وَقَالَ لَهُ: قُلْ لِأَوْلَادِكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ إِنْ لَمْ تَصْبِرُوا عَنِ الدُّنْيَا فَاطْلُبُوهَا بِهَذِهِ الْحِرَفِ وَلَا تطلبوها بالدين،

[سورة البقرة (2) : آية 34]

فَإِنَّ الدِّينَ لِي وَحْدِي خَالِصًا، وَيْلٌ لِمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ وَيْلٌ لَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُثِّلَتْ لِي أُمَّتِي فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، وَعُلِّمْتُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا كَمَا عُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ أَجْمَعِينَ ثُمَّ عَرَضَهُمْ قَالَ: أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِهِ. وَأَخْرَجَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ ثُمَّ عَرَضَهُمْ يَعْنِي عَرَضَ أَسْمَاءَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي عَلَّمَهَا آدَمَ مِنْ أَصْنَافِ الْخَلْقِ. فَقالَ: أَنْبِئُونِي يَقُولُ: أَخْبِرُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي لَمْ أَجْعَلْ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا: سُبْحانَكَ تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ أَحَدٌ غَيْرُهُ، تُبْنَا إِلَيْكَ لَا عِلْمَ لَنا تبرؤوا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا كَمَا عَلَّمْتَ آدَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَرَضَ أَصْحَابَ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ: الْعَلِيمُ: الَّذِي قَدْ كَمَلَ فِي عِلْمِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمَلَ فِي حُكْمِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ قَالَ: قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يَعْنِي: مَا أَسَرَّ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا تُبْدُونَ مَا تُظْهِرُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يَقُولُ: أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ. [سورة البقرة (2) : آية 34] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) إِذْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِذْ زَائِدَةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ. السُّجُودُ مَعْنَاهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ. وَغَايَتُهُ وَضْعُ الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: سَجَدَ إِذَا تَطَامَنَ، وَكُلُّ مَا سَجَدَ فَقَدْ ذَلَّ، وَالْإِسْجَادُ: إِدَامَةُ النَّظَرِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَسَجَدَ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فَضِيلَةٌ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَظِيمَةٌ حَيْثُ أَسْجَدَ اللَّهُ لَهُ مَلَائِكَتَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ السُّجُودَ كَانَ لِلَّهِ وَلَمْ يَكُنْ لِآدَمَ، وَإِنَّمَا كَانُوا مُسْتَقْبِلِينَ لَهُ عِنْدَ السُّجُودِ، وَلَا مُلْجِئَ لِهَذَا فَإِنَّ السُّجُودَ لِلْبَشَرِ قَدْ يَكُونُ جَائِزًا فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصَالِحُ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِآدَمَ وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الْأُخْرَى أَعْنِي قَوْلَهُ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «1» وَقَالَ تَعَالَى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً «2» فَلَا يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيمُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ فِي شَرِيعَةِ نبينا محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ. وَمَعْنَى السُّجُودِ هُنَا: هُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُجَرَّدُ التَّذَلُّلِ وَالِانْقِيَادِ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ هَلْ كَانَ السُّجُودُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ قَبْلَ تَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ أَمْ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ أَطَالَ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ الْبِقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ وَقَعَ التَّعْلِيمُ وَتَعَقَّبَهُ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ، وَتَعَقَّبَهُ إِسْكَانُهُ الْجَنَّةَ ثُمَّ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا وَإِسْكَانُهُ الْأَرْضَ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَبَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: كانَ مِنَ الْجِنِّ الذين كانوا في الأرض.

_ (1) . الحجر: 29. [.....] (2) . يوسف: 100.

[سورة البقرة (2) : الآيات 35 إلى 39]

فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُنْقِطَعًا. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ «1» وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ «2» وَالْجِنُّ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْرُجَ إِبْلِيسُ عَنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ، لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ شَقَائِهِ عدلا منه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ «3» وَلَيْسَ فِي خَلْقِهِ مِنْ نَارٍ وَلَا تَرْكِيبِ الشَّهْوَةِ فِيهِ حِينَ غَضِبَ عَلَيْهِ مَا يَدْفَعُ أَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَيْضًا عَلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا تَغْلِيبًا لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ عَلَى إِبْلِيسَ الَّذِي هُوَ فَرْدٌ وَاحِدٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. وَمَعْنَى أَبى امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ. وَالِاسْتِكْبَارُ: الِاسْتِعْظَامُ لِلنَّفْسِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ «إِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» وَفِي رِوَايَةٍ «غَمْصُ» بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ. قِيلَ إِنَّ «كَانَ» هُنَا بِمَعْنَى صَارَ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إِنَّهُ خَطَأٌ تَرُدُّهُ الْأُصُولُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ السَّجْدَةُ لِآدَمَ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَجَدُوا كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ أَكْرَمَ بِهَا آدَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ آدَمَ كَالْكَعْبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ اسْمُهُ عَزَازِيلُ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ ذَوِي الْأَجْنِحَةِ الْأَرْبَعَةِ، ثُمَّ أَبْلَسَ بَعْدُ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ إِبْلِيسَ لِأَنَّ اللَّهَ أَبْلَسَهُ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ. أَيْ آيَسَهُ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَكِبَ الْمَعْصِيَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْمُهُ عَزَازِيلَ، وَكَانَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْمَلَائِكَةِ اجْتِهَادًا وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا، فَذَلِكَ دَعَاهُ إِلَى الْكِبْرِ، وَكَانَ مِنْ حَيٍّ يُسَمَّوْنَ جِنًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ يُدَبِّرُ أَمْرَ سَمَاءِ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ، فَقَالَ: لَكَ الْجَنَّةُ وَلِمَنْ سَجَدَ مِنْ وَلَدِكَ وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ فَأَبَى أَنْ يَسْجُدَ، فَقَالَ: لَكَ النَّارُ وَلِمَنْ أَبَى مِنْ وَلَدِكَ أَنْ يَسْجُدَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قَالَ: جَعَلَهُ اللَّهُ كَافِرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤْمِنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَ إِبْلِيسَ عَلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ، وَعَمِلَ بِعَمَلِ الْمَلَائِكَةِ فَصَيَّرَهُ إِلَى مَا ابْتُدِئَ إِلَيْهِ خَلْقُهُ مِنَ الْكُفْرِ، قَالَ الله: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 35 الى 39] وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) اسْكُنْ أَيِ اتَّخِذِ الْجَنَّةَ مَسْكَنًا وَهُوَ مَحَلُّ السُّكُونِ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ في قوله:

_ (1) . التحريم: 6. (2) . الكهف: 50. (3) . الأنبياء: 23.

اسْكُنْ تَنْبِيهًا عَلَى الْخُرُوجِ لِأَنَّ السُّكْنَى لَا تَكُونُ مِلْكًا وَأُخِذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ أَسْكَنَ رَجُلًا مَنْزِلًا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ، وَإِنَّ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْهُ، فَهُوَ مَعْنًى عُرْفِيٌّ، وَالْوَاجِبُ الأخذ بالمعنى العرفي إِذَا لَمْ تَثْبُتْ فِي اللَّفْظِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ. أَنْتَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْفِعْلِ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَكِنِّ إِلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِهِ بِمُنْفَصِلٍ. وَقَدْ يَجِيءُ العطف نادر بغير تأكيد كقول الشاعر: قلت إذا أَقْبَلَتْ وَزُهْرٌ تَهَادَى ... كَنِعَاجِ الْمَلَا تَعَسَّفْنَ رَمْلَا وَقَوْلُهُ: وَزَوْجُكَ أَيْ حَوَّاءُ وَهَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الفصيحة زوج بغير هاء، وقد جاء بهاء قَلِيلًا، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَ إِحْدَى نِسَائِهِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَدَعَاهُ وَقَالَ: «يَا فُلَانُ هَذِهِ زَوْجَتِي فُلَانَةُ» الْحَدِيثَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي ... كَسَاعٍ إِلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَمِيلُهَا ورَغَداً بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ بِسُكُونِهَا، وَالرَّغَدُ: الْعَيْشُ الْهَنِيءُ الَّذِي لَا عَنَاءَ فِيهِ، وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف. وحَيْثُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ، وَفِيهَا لُغَاتٌ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالْقُرْبُ: الدُّنُوُّ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: قَرُبَ الشَّيْءُ بِالضَّمِّ يَقْرُبُ قُرْبًا: أَيْ دَنَا، وَقَرِبْتُهُ بِالْكَسْرِ أَقْرَبُهُ قُرْبَانًا: أَيْ دَنَوْتُ منه، وقربت أقرب قرابة مثل أَكْتُبُ كِتَابَةً: إِذَا سِرْتَ إِلَى الْمَاءِ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لَيْلَةٌ، وَالِاسْمُ الْقُرْبُ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قُلْتُ لِأَعْرَابِيٍّ مَا الْقُرْبُ؟ قَالَ: سَيْرُ اللَّيْلِ لِوُرُودِ الْغَدِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْقُرْبِ فِيهِ سَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ وَقَطْعٌ لِلْوَسِيلَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ بِهِ عِوَضًا عَنِ الْأَكْلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْقُرْبِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْأَكْلِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرَةِ مَنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْهَا إِذَا يُحْمَلُ إِلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمَنْعُ مِنَ الْأَكْلِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَقَامِ. وَالشَّجَرُ: مَا كَانَ لَهُ سَاقٌ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ وواحده شجرة، وقرئ بكسر الشين والياء الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِ مَكَانِ الْجِيمِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ «هَذِي» بِالْيَاءِ بَدَلَ الْهَاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَقِيلَ: هِيَ الْكَرْمُ، وَقِيلَ: السُّنْبُلَةُ وَقِيلَ: التِّينُ، وَقِيلَ: الْحِنْطَةُ، وَسَيَأْتِي مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَعْيِينِهَا. وَقَوْلُهُ: فَتَكُونا مَعْطُوفٌ عَلَى تَقْرَبا فِي الْكَشَّافِ، أَوْ نُصِبَ فِي جَوَابِ النَّهْيِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَالظُّلْمُ أَصْلُهُ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْأَرْضُ الْمَظْلُومَةُ: الَّتِي لَمْ تُحْفَرْ قَطُّ ثُمَّ حُفِرَتْ، وَرَجُلٌ ظَلِيمٌ: شَدِيدُ الظُّلْمِ. وَالْمُرَادُ هُنَا فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْمَعْصِيَةِ، وَكَلَامُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَاخْتِلَافُ مَذَاهِبِهِمْ فِي ذَلِكَ مُدَوَّنٌ فِي مَوَاطِنِهِ، وَقَدْ أَطَالَ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ فإنه مفيد. فَأَزَلَّهُمَا مِنَ الزَّلَّةِ وَهِيَ الْخَطِيئَةُ أَيِ اسْتَزَلَّهُمَا وَأَوْقَعَهُمَا فِيهَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: فَأَزَالَهُمَا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ، مِنَ الإزالة وهي التنحية: أَيْ نَحَّاهُمَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ مِنَ الزَّوَالِ: أَيْ صَرَفَهُمَا عما كانا عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى، إِلَّا أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى يُقَالُ مِنْهُ: أزللته فزلّ وعَنْها مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ أَزَلَّهُمَا عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى أَصْدَرَ: أَيْ أَصْدَرَ الشَّيْطَانُ زَلَّتَهُمَا

عَنْهَا، أَيْ بِسَبَبِهَا، يَعْنِي الشَّجَرَةَ. وَقِيلَ الضَّمِيرُ لِلْجَنَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَالْفِعْلُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى أَبْعَدَهُمَا: أَيْ أَبْعَدَهُمَا عَنِ الْجَنَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجَهُما تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى: أَيْ أَزَلَّهُمَا إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ زَالَ عَنِ الْمَكَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ كَذَلِكَ فَهُوَ تَأْسِيسٌ، لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ الصَّرْفِ وَالْإِبْعَادِ وَنَحْوِهِمَا، لِأَنَّ الصَّرْفَ عَنِ الشَّجَرَةِ وَالْإِبْعَادَ عَنْهَا قَدْ يَكُونُ مَعَ الْبَقَاءِ فِي الْجَنَّةِ بِخِلَافِ الْإِخْرَاجِ لَهُمَا عَمَّا كَانَا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ الَّذِي تَوَلَّى إِغْوَاءَ آدَمَ حَتَّى أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي فَعَلَهَا الشَّيْطَانُ فِي إِزْلَالِهِمَا، فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِمُشَافَهَةٍ مِنْهُ لَهُمَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «1» وَالْمُقَاسَمَةُ ظَاهِرُهَا الْمُشَافَهَةُ. وَقِيلَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الْوَسْوَسَةِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي فِي الْمَرْوِيِّ عَنِ السَّلَفِ، وَقَوْلُهُ: اهْبِطُوا خِطَابٌ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، وَخُوطِبَا بِمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْجَمْعُ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَقَلُّ الْجَمْعِ عِنْدَ الْبَعْضِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَقِيلَ إِنَّهُ خِطَابٌ لَهُمَا وَلِذُرِّيَّتِهِمَا، لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا أَصْلَ هَذَا النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ جُعِلَا بِمَنْزِلَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ حَالًا مُبَيِّنًا لِلْهَيْئَةِ الثَّابِتَةِ لِلْمَأْمُورِينَ بِالْهُبُوطِ تُفِيدُ ذَلِكَ. وَالْعَدُوُّ خِلَافُ الصَّدِيقِ، وَهُوَ مِنْ عَدَا إِذَا ظَلَمَ وَيُقَالُ ذِئْبٌ عَدَوَانٌ: أَيْ يَعْدُو عَلَى النَّاسِ، وَالْعُدْوَانُ: الظُّلْمُ الصُّرَاحُ وَقِيلَ إِنَّهُ مأخوذ من المجاوزة، يقال عداه: وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، فَإِنَّ مَنْ ظَلَمَ فَقَدْ تَجَاوَزَ. وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ قَوْلِهِ بَعْضُكُمْ بِقَوْلِهِ: عَدُوٌّ مَعَ كَوْنِهِ مُفْرَدًا، لِأَنَّ لَفْظَ بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مُحْتَمِلًا لِلتَّعَدُّدِ فَهُوَ مُفْرَدٌ، فَرُوعِيَ جَانِبُ اللَّفْظِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِالْمُفْرَدِ، وَقَدْ يُرَاعِي الْمَعْنَى فَيُخْبِرُ عَنْهُ بِالْمُتَعَدِّدِ. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ عَدُوٌّ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا فَقَدْ يَقَعُ مَوْقِعَ المتعدد كقوله تعالى: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ «2» وَقَوْلِهِ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ «3» قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْعَدُوُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُسْتَقَرِّ: مَوْضِعُ الِاسْتِقْرَارِ، وَمِنْهُ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «4» وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، وَمِنْهُ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ «5» فَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً «6» وَالْمَتَاعُ: مَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَنَحْوِهَا. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: إِلى حِينٍ فَقِيلَ: إِلَى الْمَوْتِ وَقِيلَ: إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَأَصْلُ مَعْنَى الْحِينِ فِي اللُّغَةِ: الْوَقْتُ الْبَعِيدُ، وَمِنْهُ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ «7» وَالْحِينُ السَّاعَةُ، وَمِنْهُ: أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ «8» وَالْقِطْعَةُ مِنَ الدَّهْرِ، وَمِنْهُ: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ «9» أَيْ حَتَّى تَفْنَى آجَالُهُمْ، وَيُطْلَقُ عَلَى السَّنَةِ وَقِيلَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَمِنْهُ: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ «10» وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، وَمِنْهُ: حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ «11» وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْحِينُ حِينَانِ: حِينٌ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحِينَ الْآخَرَ وَاخْتِلَافُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَقَامَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْحِينُ الْمَجْهُولُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَالْحِينُ الْمَعْلُومُ سَنَةٌ. وَمَعْنَى تَلَقِّي آدَمَ لِلْكَلِمَاتِ: أَخْذُهُ لَهَا وَقَبُولُهُ لِمَا فِيهَا وَعَمَلُهُ بِهَا وقبل فَهْمُهُ لَهَا وَفَطَانَتُهُ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ. وَأَصْلُ مَعْنَى التَّلَقِّي الِاسْتِقْبَالُ: أَيِ اسْتَقْبَلَ الْكَلِمَاتِ الْمُوَحَاةَ إِلَيْهِ وَمَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ آدَمُ جَعَلَ مَعْنَاهُ اسْتَقْبَلَتْهُ الكلمات. وقيل إن معنى تلقّى:

_ (1) . الأعراف: 21. (2) . الكهف: 50. (3) . المنافقون: 4. (4) . الفرقان: 24. (5) . القيامة: 12. (6) . غافر: 64. (7) . الإنسان: 1. (8) . الزمر: 58. (9) . المؤمنون: 54. (10) . إبراهيم: 25. [.....] (11) الروم: 17.

تَلَقَّنَ، وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَسَيَأْتِي. وَالتَّوْبَةُ: الرُّجُوعُ، يُقَالُ تَابَ الْعَبْدُ: إِذَا رَجَعَ إِلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ، وَعَبْدٌ تَوَّابٌ: كَثِيرُ الرُّجُوعِ، فَمَعْنَى تَابَ عَلَيْهِ: رَجَعَ عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ، فَقَبِلَ تَوْبَتَهُ، أَوْ وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ التَّوْبَةِ عَلَى آدَمَ دُونَ حَوَّاءَ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الذَّنْبِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ الْقِصَّةِ مَعَهُ استمر عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَغْنَى بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِ عَنْ ذِكْرِ التَّوْبَةِ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لَهُ، كَمَا اسْتَغْنَى بِنِسْبَةِ الذَّنْبِ إِلَيْهِ عَنْ نِسْبَتِهِ إِلَيْهَا فِي قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «1» . وَأَمَّا قَوْلُهُ: قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْدَ قَوْلِهِ: قُلْنَا اهْبِطُوا فَكَرَّرَهُ لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّغْلِيظِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ غَيْرُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ كَرَّرَهُ وَلَا تَزَاحُمَ بَيْنَ الْمُقْتَضَيَاتِ. فَقَدْ يَكُونُ التَّكْرِيرُ لِلْأَمْرَيْنِ مَعًا. وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً هُوَ الشَّرْطُ الثَّانِي مَعَ جَوَابِهِ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ قَوْلُهُ: فَلا خَوْفٌ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْهُدَى الْمَذْكُورِ فَقِيلَ: هُوَ كِتَابُ اللَّهِ وَقِيلَ التَّوْفِيقُ لِلْهِدَايَةِ. وَالْخَوْفُ: هُوَ الذُّعْرُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عَمَّارٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ: فَلا خَوْفٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَالْحُزْنُ: ضِدُّ السُّرُورِ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: حَزَنَهُ: لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَأَحْزَنَهُ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا. وَصُحْبَةُ أَهْلِ النَّارِ لَهَا بِمَعْنَى الِاقْتِرَانِ وَالْمُلَازَمَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ تَفْسِيرِ الْخُلُودِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ آدَمَ نَبِيًّا كَانَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا، كَلَّمَهُ اللَّهُ قال له: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: «آدَمُ. قُلْتُ: نَبِيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: نُوحٌ، وَبَيْنَهُمَا عَشَرَةُ آبَاءٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا وَزَادَ «كَمْ كَانَ الْمُرْسَلُونَ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَبِيٌّ كَانَ آدَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ؟ قَالَ: عَشَرَةُ قُرُونٍ. قَالَ: كَمْ بَيْنَ نُوحٍ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: عَشَرَةُ قُرُونٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ كَانَتِ الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ نَحْوَهُ، وَصَرَّحَ: بِأَنَّ السَّائِلَ أَبُو ذَرٍّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا سكن آدم الجنّة إلّا ما بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: مَا غَابَتِ الشَّمْسُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَبِثَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، تِلْكَ السَّاعَةُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقَدْ رُوِيَ تَقْدِيرُ اللَّبْثِ فِي الْجَنَّةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالُوا: لَمَّا سَكَنَ آدَمُ الْجَنَّةَ كَانَ يَمْشِي فِيهَا وَحْشًا لَيْسَ لَهُ زَوْجٌ يَسْكُنُ إِلَيْهَا، فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَإِذَا عِنْدَ رَأْسِهِ امرأة قاعدة خلقها

_ (1) . طه: 121.

اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ مِنَ الضِّلْعِ رَأْسُهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ تَرَكْتَهُ وَفِيهِ عِوَجٌ» وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ حَوَّاءَ لِأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَخَلَقَ لَهُ زَوْجَهُ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا وَأَمَرَهُ بِالْجِمَاعِ فَفَعَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ لَهُ حَوَّاءُ: يَا آدَمُ هَذَا طَيِّبٌ زِدْنَا مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: الرَّغَدُ: الْهَنِيءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّغَدُ: سَعَةُ الْمَعِيشَةِ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما قَالَ: لَا حِسَابَ عَلَيْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشَّجَرَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا آدَمَ: السُّنْبُلَةُ، وَفِي لَفْظٍ: الْبُرُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هِيَ الْكَرْمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: هِيَ اللَّوْزُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَالَ: هِيَ التِّينَةُ. وَرَوَى مِثْلَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هِيَ الْبُرُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ قَالَ: هِيَ الْأُتْرُجُّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ قَالَ: هِيَ تُشْبِهُ الْبُرَّ وَتُسَمَّى الدَّعَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَأَزَلَّهُمَا قَالَ: فَأَغْوَاهُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ قَالَ: فَأَزَلَّهُمَا فَنَحَّاهُمَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: قِرَاءَتُنَا فِي الْبَقَرَةِ مَكَانَ فَأَزَلَّهُمَا: فَوَسْوَسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: أَرَادَ إِبْلِيسُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمَا الْجَنَّةَ فَمَنَعَتْهُ الْخَزَنَةُ، فَأَتَى الْحَيَّةَ وَهِيَ دَابَّةٌ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ كَأَنَّهَا الْبَعِيرُ وَهِيَ كَأَحْسَنِ الدَّوَابِّ، فَكَلَّمَهَا أَنْ تُدْخِلَهُ فِي فَمِهَا حَتَّى تَدْخُلَ بِهِ إِلَى آدَمَ، فَأَدْخَلَتْهُ فِي فَمِهَا، فَمَرَّتِ الْحَيَّةُ عَلَى الْخَزَنَةِ فَدَخَلَتْ وَلَا يَعْلَمُونَ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنَ الْأَمْرِ، فَكَلَّمَهُ مِنْ فَمِهَا فَلَمْ يُبَالِ بِكَلَامِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا آدَمُ! هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى؟ «1» وَحَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «2» فَأَبَى آدَمُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، فَتَقَدَّمَتْ حَوَّاءُ فَأَكَلَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا آدَمُ كُلْ، فَإِنِّي قَدْ أَكَلْتُ فَلَمْ يَضُرَّنِي، فَلَمَّا أَكَلَا- بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ «3» وَقَدْ أَخْرَجَ قِصَّةَ الْحَيَّةِ وَدُخُولِ إِبْلِيسَ مَعَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ آدَمَ كَانَ رَجُلًا طُوَالًا كَأَنَّهُ نَخْلَةُ سَحُوقٍ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ، فَلَمَّا رَكِبَ الْخَطِيئَةَ بَدَتْ لَهُ عَوْرَتُهُ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنِيعٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: قَالَ اللَّهُ لِآدَمَ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيْتُكَ عَنْهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ! زَيَّنَتْهُ لِي حَوَّاءُ، قَالَ: فَإِنِّي عَاقَبْتُهَا بِأَنْ لَا تَحْمِلَ إِلَّا كُرْهًا ولا

_ (1) . طه: 120. (2) . القصص: 20. (3) . الأعراف: 22.

تَضَعَ إِلَّا كُرْهًا، وَأَدْمَيْتُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ «1» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لولا بنو إسرائيل لم يحنز اللَّحْمُ، وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا» «2» . وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي مُحَاجَّةِ آدَمَ وَمُوسَى، وَحَجَّ آدَمُ مُوسَى بِقَوْلِهِ: أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ قَالَ: آدَمُ وَحَوَّاءُ وَإِبْلِيسُ وَالْحَيَّةُ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ قَالَ: الْقُبُورُ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ قَالَ: الْحَيَاةُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَقَتَادَةَ، كَمَا أَخْرَجَهُ عَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَبُو الشَّيْخِ، وَعَنِ الثَّالِثِ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ قَالَ: الْقُبُورُ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ قَالَ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالصَّفَا وَحَوَّاءُ بِالْمَرْوَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَوَّلُ مَا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ إلى أرض الهند» وفي لفظ: «بدجناء أرض بالهند» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ: أُهْبِطَ إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عليّ ابن أَبِي طَالِبٍ: أَطْيَبُ رِيحِ الْأَرْضِ الْهِنْدُ، هَبَطَ بِهَا آدَمُ فَعَلِقَ شَجَرُهَا مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالْهِنْدِ وَحَوَّاءُ بِجُدَّةَ، فَجَاءَ فِي طَلَبِهَا حَتَّى أَتَى جَمْعًا، فَازْدَلَفَتْ إِلَيْهِ حَوَّاءُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةَ، وَاجْتَمَعَا بِجَمْعٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْهِنْدِ فَاسْتَوْحَشَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَنَادَى بِالْأَذَانِ، فَلَمَّا سَمِعَ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ قَالَ لَهُ: وَمَنْ مُحَمَّدٌ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آخِرُ وَلَدِكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ آدَمَ أُهْبِطَ إِلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، مِنْهُمْ جَابِرٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الدُّنْيَا لَمْ يَخْلُقْ فِيهَا ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً، فَلَمَّا أَهْبَطَ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَنْزَلَ مَعَهُمَا ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ مَنْفَعَةً لِأَوْلَادِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وجعل ذلك صداق آدم لِحَوَّاءَ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا بِصَدَاقٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «هَبَطَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عُرْيَانَيْنِ جَمِيعًا، عَلَيْهِمْ ورق الجنة، فأصابه الحرّ حتى قَعَدَ يَبْكِي وَيَقُولُ لَهَا: يَا حَوَّاءُ! قَدْ آذَانِي الْحَرُّ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِقُطْنٍ وَأَمَرَهَا أَنْ تَغْزِلَ وَعَلَّمَهَا، وَأَمَرَ آدَمَ بِالْحِيَاكَةِ وَعَلَّمَهُ» . وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «أَوَّلُ مَنْ حَاكَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ حِكَايَاتٌ فِي صِفَةِ هُبُوطِ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَا أُهْبِطَ مَعَهُ وَمَا صَنَعَ عِنْدَ وصوله إلى الأرض، ولا حاجة لنا يبسط جَمِيعِ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ

_ (1) . في تفسير القرطبي 1/ 313 دون كلمة «مرتين» . (2) . الخنز: التغير والنتن. قيل: أصله أن بني إسرائيل ادخروا لحم السلوى فأنتن. وقوله: (لم تخن أنثى زوجها) ليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفاحشة بل المقصود إغراء الزوج بالمخالفة بوجه من الوجوه (فتح الباري 6/ 367- 368) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 40 إلى 42]

قَالَ: أَيْ رَبِّ! أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ! أَلَمْ تَنْفُخْ فِيَّ من رُوحَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ! أَلَمْ تَسْبِقْ إِلَيَّ رَحْمَتُكَ قَبْلَ غَضَبِكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ! أَلَمْ تُسْكِنِّي جَنَّتَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ أَيْ رَبِّ! أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ أَرَاجِعِي أَنْتَ إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى الأرض قام وجاء الْكَعْبَةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» الْحَدِيثَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ أَخْرَجَهُ الْأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ قَالَ: قَوْلُهُ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْهُ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، فِي قَوْلِهِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ: مَا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ؟ قَالَ: عِلْمُ شَأْنِ الْحَجِّ فَهِيَ الْكَلِمَاتُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عملت سوءا وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك رَبِّ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي، فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ هُنَا وَفِي الزُّهْدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي العالية في قَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً قَالَ الْهُدَى: الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْبَيَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فمن تبع هدى بِتَثْقِيلِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني لا يحزنون للموت. [سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 42] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ جَاءُوا بِعِلْمٍ مُتَكَلَّفٍ، وَخَاضُوا فِي بَحْرٍ لَمْ يُكَلَّفُوا سِبَاحَتَهُ، وَاسْتَغْرَقُوا أَوْقَاتَهُمْ فِي فَنٍّ لَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِفَائِدَةٍ، بَلْ أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي التَّكَلُّمِ بِمَحْضِ الرَّأْيِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَذْكُرُوا الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمَسْرُودَةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْمَوْجُودِ في المصاحف، فجاؤوا بِتَكَلُّفَاتٍ وَتَعَسُّفَاتٍ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا الْإِنْصَافُ، وَيَتَنَزَّهُ عَنْهَا كلام البلغاء فضلا عن كلام الرب

_ (1) . الأعراف: 23.

سُبْحَانَهُ، حَتَّى أَفْرَدُوا ذَلِكَ بِالتَّصْنِيفِ، وَجَعَلُوهُ الْمَقْصِدَ الْأَهَمَّ مِنَ التَّأْلِيفِ، كَمَا فَعَلَهُ الْبِقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ حَسْبَمَا ذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَعْجَبِ مَا يَسْمَعُهُ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَا زَالَ يَنْزِلُ مُفَرَّقًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ الْمُقْتَضِيَةِ لِنُزُولِهِ مُنْذُ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ، وَكُلُّ عَاقِلٍ فَضْلًا عَنْ عَالِمٍ لَا يَشُكُّ أَنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ الْمُقْتَضِيَةَ نُزُولَ الْقُرْآنِ مُتَخَالِفَةٌ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهَا، بَلْ قَدْ تَكُونُ مُتَنَاقِضَةً كَتَحْرِيمِ أَمْرٍ كَانَ حَلَالًا، وَتَحْلِيلِ أَمْرٍ كَانَ حراما، وإثبات أمر لشخص يُنَاقِضُ مَا كَانَ قَدْ ثَبَتَ لَهُمْ قَبْلَهُ، وَتَارَةً يَكُونُ الْكَلَامُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَارَةً مَعَ الْكَافِرِينَ، وَتَارَةً مَعَ مَنْ مَضَى، وَتَارَةً مَعَ مَنْ حَضَرَ، وَحِينًا فِي عِبَادَةٍ، وَحِينًا فِي مُعَامَلَةٍ، وَوَقْتًا فِي تَرْغِيبٍ، وَوَقْتًا فِي تَرْهِيبٍ، وَآوِنَةً فِي بِشَارَةٍ، وَآوِنَةً فِي نِذَارَةٍ، وَطَوْرًا فِي أَمْرِ دُنْيَا، وَطَوْرًا فِي أَمْرِ آخِرَةٍ، وَمَرَّةً فِي تَكَالِيفَ آتِيَةٍ، وَمَرَّةً فِي أَقَاصِيصَ مَاضِيَةٍ وَإِذَا كَانَتْ أَسْبَابُ النُّزُولِ مُخْتَلِفَةً هَذَا الِاخْتِلَافَ، وَمُتَبَايِنَةً هَذَا التَّبَايُنَ الَّذِي لَا يَتَيَسَّرُ مَعَهُ الِائْتِلَافُ، فَالْقُرْآنُ النَّازِلُ فِيهَا هُوَ بِاعْتِبَارِهِ نَفْسِهِ مُخْتَلِفٌ كَاخْتِلَافِهَا، فَكَيْفَ يَطْلُبُ الْعَاقِلُ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الضَّبِّ وَالنُّونِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْمَلَّاحِ وَالْحَادِي، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ فَتْحِ أَبْوَابِ الشَّكِّ وَتَوْسِيعِ دَائِرَةِ الرَّيْبِ عَلَى مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، أَوْ كَانَ مَرَضُهُ مُجَرَّدَ الْجَهْلِ وَالْقُصُورِ، فَإِنَّهُ إِذَا وَجَدَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَتَكَلَّمُونَ فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ جَمِيعِ آيِ الْقُرْآنِ وَيُفْرِدُونَ ذَلِكَ بِالتَّصْنِيفِ، تَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا بد منه، وأن لَا يَكُونُ الْقُرْآنُ بَلِيغًا مُعْجِزًا إِلَّا إِذَا ظَهَرَ الْوَجْهُ الْمُقْتَضِي لِلْمُنَاسَبَةِ، وَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ الْمُوجِبُ لِلِارْتِبَاطِ، فَإِنْ وُجِدَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْآيَاتِ فَرَجَعَ إِلَى مَا قَالَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي ذَلِكَ، فَوَجَدَهُ تَكَلُّفًا مَحْضًا، وَتَعَسُّفًا بَيِّنًا انْقَدَحَ فِي قَلْبِهِ مَا كَانَ عَنْهُ فِي عَافِيَةٍ وَسَلَامَةٍ، هَذَا عَلَى فَرْضِ أَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ كَانَ مُتَرَتِّبًا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْكَائِنِ فِي الْمُصْحَفِ فَكَيْفَ وَكُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ بِالْكِتَابِ، وَأَيْسَرُ حَظٍّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ يَعْلَمُ عِلْمًا يَقَينًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَمَنْ شَكَّ فِي هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَشُكُّ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ رَجَعَ إِلَى كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَارِفِينَ بِأَسْبَابِ النُّزُولِ، الْمُطَّلِعِينَ عَلَى حَوَادِثِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ يَنْثَلِجُ صَدْرُهُ، وَيَزُولُ عَنْهُ الرَّيْبُ، بِالنَّظَرِ فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْمُتَوَسِّطَةِ، فَضْلًا عَنِ الْمُطَوَّلَةِ لِأَنَّهُ لَا مَحَالَةَ يَجِدُهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي حَوَادِثَ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ لَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ أَسْبَابِهَا وَمَا نَزَلَ فِيهَا فِي التَّرْتِيبِ، بَلْ يَكْفِي الْمُقَصِّرَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وبعده يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وَيَنْظُرُ أَيْنَ مَوْضِعُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ فِي تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ؟ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا، فأيّ معنى لطلب المناسب بَيْنَ آيَاتٍ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ في ترتيب المصحف ما أنزله اللَّهُ مُتَأَخِّرًا، وَتَأَخُّرَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مُتَقَدِّمًا، فَإِنَّ هَذَا عَمَلٌ لَا يَرْجِعُ إِلَى تَرْتِيبِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، بَلْ إِلَى مَا وَقَعَ مِنَ التَّرْتِيبِ عِنْدَ جَمْعِهِ مِمَّنْ تَصَدَّى لِذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَا أَقَلَّ نَفْعَ مِثْلِ هَذَا وَأَنْزَرَ ثَمَرَتَهُ، وَأَحْقَرَ فَائِدَتَهُ، بَلْ هُوَ عِنْدَ مَنْ يَفْهَمُ مَا يَقُولُ وَمَا يُقَالُ لَهُ مِنْ تَضْيِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَإِنْفَاقِ السَّاعَاتِ فِي أَمْرٍ لَا يَعُودُ بِنَفْعٍ عَلَى فَاعِلِهِ وَلَا عَلَى مَنْ يَقِفُ عَلَيْهِ مِنَ النَّاسِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ تَصَدَّى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَا قَالَهُ رَجُلٌ مِنَ الْبُلَغَاءِ مِنْ خُطَبِهِ وَرَسَائِلِهِ وَإِنْشَاءَاتِهِ، أَوْ إِلَى مَا قَالَهُ شَاعِرٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ مِنَ الْقَصَائِدِ الَّتِي تَكُونُ تَارَةً مَدْحًا وَأُخْرَى هِجَاءً، وَحِينًا نَسِيبًا وَحِينًا رِثَاءً، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْمُتَخَالِفَةِ، فَعَمَدَ هَذَا الْمُتَصَدِّي إِلَى ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ فَنَاسَبَ بَيْنَ فِقَرِهِ وَمَقَاطِعِهِ، ثُمَّ تَكَلَّفَ تَكَلُّفًا آخَرَ فَنَاسَبَ بَيْنَ الْخُطْبَةِ الَّتِي خَطَبَهَا فِي الْجِهَادِ

والخطبة التي خطبها فِي الْحَجِّ وَالْخُطْبَةِ الَّتِي خَطَبَهَا فِي النِّكَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَنَاسَبَ بَيْنَ الْإِنْشَاءِ الْكَائِنِ فِي الْعَزَاءِ وَالْإِنْشَاءِ الْكَائِنِ فِي الْهَنَاءِ وَمَا يُشَابِهُ ذَلِكَ، لَعُدَّ هَذَا الْمُتَصَدِّي لِمِثْلِ هَذَا مُصَابًا فِي عَقْلِهِ، مُتَلَاعِبًا بِأَوْقَاتِهِ، عَابِثًا بِعُمْرِهِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ مَالِهِ وَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَهُوَ رُكُوبُ الْأُحْمُوقَةِ فِي كَلَامِ البشر، فكيف نراه يَكُونُ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّذِي أَعْجَزَتْ بَلَاغَتُهُ بُلَغَاءَ الْعَرَبِ، وَأَبْكَمَتْ فَصَاحَتُهُ فُصَحَاءَ عَدْنَانَ وَقَحْطَانَ. وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ مُقَصِّرٍ وَكَامِلٍ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَصَفَ هَذَا الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ، وَأَنْزَلَهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَسَلَكَ فِيهِ مَسَالِكَهُمْ فِي الْكَلَامِ، وَجَرَى بِهِ مَجَارِيَهُمْ فِي الْخِطَابِ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ خَطِيبَهُمْ كَانَ يَقُومُ الْمَقَامَ الْوَاحِدَ فَيَأْتِي بِفُنُونٍ مُتَخَالِفَةٍ، وَطَرَائِقَ مُتَبَايِنَةٍ فَضْلًا عَنِ الْمَقَامَيْنِ، فَضْلًا عَنِ الْمَقَامَاتِ، فَضْلًا عَنْ جَمِيعِ مَا قَالَهُ مَا دَامَ حَيًّا، وَكَذَلِكَ شَاعِرُهُمْ. وَلْنَكْتَفِ بِهَذَا التَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي تَعَثَّرَ فِي سَاحَاتِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا قَدِ انْتَقَلَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَبْلَهُ مَعَ أَبِي الْبَشَرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا قَالَ مُتَكَلِّفٌ: كَيْفَ نَاسَبَ هَذَا مَا قَبْلَهُ؟ قُلْنَا: لَا كَيْفَ. فَدَعْ عَنْكَ نَهْبًا صِيحَ فِي حُجُرَاتِهِ ... وَهَاتِ حَدِيثًا مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ قَوْلُهُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ إِسْرَائِيلَ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ومعناه عبد الله، لأن إسرا فِي لُغَتِهِمْ: هُوَ الْعَبْدُ وَإِيلُ هُوَ اللَّهُ، قِيلَ: إِنَّ لَهُ اسْمَيْنِ، وَقِيلَ: إِسْرَائِيلُ لَقَبٌ لَهُ، وَهُوَ اسْمٌ عَجَمِيٌّ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَفِيهِ سبع لغات: إسرائيل بزنة إبراهيم، وإسرائيل بِمَدَّةٍ مَهْمُوزَةٍ مُخْتَلَسَةٍ رَوَاهَا ابْنُ شَنَبُوذَ عَنْ وَرْشٍ، وَإِسْرَائِيلُ بِمَدَّةٍ بَعْدَ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا مَدٍّ وإسرائيل بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ. وَإِسْرَاءَلُ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَتَمِيمٌ يَقُولُونَ إِسْرَائِينُ. وَالذِّكْرُ هُوَ ضِدُّ الْإِنْصَاتِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ ذِكْرِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَا كَانَ بِالْقَلْبِ فَهُوَ مَضْمُومُ الذَّالِ، وَمَا كَانَ بِاللِّسَانِ فَهُوَ مَكْسُورُ الذَّالِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: اذْكُرُوا شُكْرَ نِعْمَتِي، فَحَذَفَ الشُّكْرَ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ النِّعْمَةِ، وَهِيَ اسْمُ جِنْسٍ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ جَعَلَ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ وَالْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَأَخْرَجَ لَهُمُ الْمَاءَ مِنَ الْحَجَرِ، وَنَجَّاهُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَالْعَهْدُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْعَهْدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ «1» وَقِيلَ: هُوَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً «2» وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «3» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: هُوَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أَيْ بِمَا ضَمِنْتُ لَكُمْ مِنَ الْجَزَاءِ. وَالرَّهَبُ وَالرَّهْبَةُ: الْخَوْفُ، وَيَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِهِ مَعْنَى التَّهْدِيدِ، وَتَقْدِيمُ مَعْمُولِ الْفِعْلِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ كما تقدّم في إِيَّاكَ نَعْبُدُ «4» وَإِذَا كَانَ التَّقْدِيمُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِضْمَارِ وَالتَّفْسِيرِ مِثْلَ زَيْدًا ضَرَبْتُهُ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ كَانَ أَوْكَدَ فِي إِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَهُوَ أَوْكَدُ فِي إِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ مِنْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَسَقَطَتِ الْيَاءُ مِنْ قَوْلِهِ فَارْهَبُونِ لِأَنَّهَا رَأْسُ آيَةٍ ومُصَدِّقاً حَالٌ مِنْ مَا فِي قوله: بِما أَنْزَلْتُ أَوْ مِنْ ضَمِيرِهَا الْمُقَدَّرِ بَعْدَ الْفِعْلِ أي أنزلته.

_ (1) . البقرة: 63. (2) . المائدة: 12. (3) . آل عمران: 187. (4) . انظر ص: 27.

وَقَوْلُهُ أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ إِنَّمَا جَاءَ بِهِ مفردا، لم يَقُلْ كَافِرِينَ حَتَّى يُطَابِقَ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ مُفْرَدُ اللَّفْظِ، مُتَعَدِّدُ الْمَعْنَى نَحْوَ فَرِيقٍ أَوْ فَوْجٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى الْفِعْلِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: هُوَ أَظْرَفُ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلُهُ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ، فَيَكُونُ هَذَا الْمُفْرَدُ قَائِمًا مَقَامَ الجمع وإنما قال أوّل مع أنه تَقَدَّمَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بِهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ كَافِرٍ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُمُ الْعَارِفُونَ بِمَا يَجِبُ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنَ التَّصْدِيقِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ إِلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَيْ لَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهَذَا النَّبِيِّ مَعَ كَوْنِكُمْ قَدْ وَجَدْتُمُوهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مُبَشَّرًا بِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ حَكَى الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ مِنَ البشارات برسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَقِيلَ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: بِما أَنْزَلْتُ وَقِيلَ عَائِدٌ إِلَى التَّوْرَاةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: لِما مَعَكُمْ وَقَوْلُهُ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي أَيْ بِأَوَامِرِي وَنَوَاهِيَّ ثَمَناً قَلِيلًا أَيْ عَيْشًا نَزْرًا وَرِئَاسَةً لَا خَطَرَ لَهَا. جَعَلَ مَا اعْتَاضُوهُ ثَمَنًا، وَأَوْقَعَ الِاشْتِرَاءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ هُوَ الْمُشْتَرَى بِهِ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاءَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِبْدَالِ: أَيْ لَا تَسْتَبْدِلُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِهِمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تعالى: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، وَمِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الثَّمَنِ عَلَى نَيْلِ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنْ كُنْتَ حاولت ذنبا أو ظفرت به ... فَمَا أَصَبْتَ بِتَرْكِ الْحَجِّ مِنْ ثَمَنِ وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَهْيًا لَهُمْ، فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ أَوْ بِلَحْنِهِ، فَمَنْ أَخَذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رِشْوَةً عَلَى إِبْطَالِ حَقٍّ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، أَوْ إِثْبَاتِ بَاطِلٍ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، أَوِ امْتَنَعَ مِنْ تَعْلِيمِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَكَتَمَ الْبَيَانَ الَّذِي أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُ بِهِ، فَقَدِ اشْتَرَى بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. وَقَوْلُهُ: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَاللَّبْسُ: الْخَلْطُ، يُقَالُ لَبَسْتُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ أُلْبِسُهُ: إِذَا خَلَطْتُ حَقَّهُ بِبَاطِلِهِ وَوَاضِحَهِ بِمُشْكِلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ قَالَتِ الْخَنْسَاءُ: تَرَى الْجَلِيسَ يَقُولُ الْحَقَّ تَحْسَبُهُ ... رُشْدًا وَهَيْهَاتَ فَانْظُرْ مَا بِهِ الْتَبَسَا صَدِّقْ مَقَالَتَهُ وَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ ... وَالْبَسْ عَلَيْهِ أُمُورًا مِثْلَ ما لبسا وقال العجّاج: لمّا لبسن الحقّ بالتجنّي ... غنين فَاسْتَبْدَلْنَ زَيْدًا مِنِّي وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَكَتِيبَةٍ لَبِسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ ... حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّغْطِيَةِ: أَيْ لَا تُغَطُّوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْجَعْدِيِّ:

إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا ... تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فكانت لباسا وقول الأخطل: وقد لبست لهذا الْأَمْرَ أَعْصُرَهُ ... حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ فَاشْتَعَلَا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْبَاطِلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الزَّائِلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ «1» وَبَطَلَ الشَّيْءُ يَبْطُلُ بُطُولًا وَبُطْلًانًا، وَأَبْطَلَهُ غَيْرُهُ. وَيُقَالُ ذَهَبَ دَمُهُ بَطَلًا: أَيْ هَدْرًا، وَالْبَاطِلُ: الشَّيْطَانُ وَسُمِّيَ الشُّجَاعُ بَطَلًا لِأَنَّهُ يُبْطِلُ شَجَاعَةَ صَاحِبِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا خِلَافُ الْحَقِّ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْبَاطِلِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صِلَةً وَأَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعَانَةِ ذَكَرَ مَعْنَاهُ فِي الْكَشَّافِ، وَرَجَّحَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الثَّانِيَ. وَقَوْلُهُ: وَتَكْتُمُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ حُكْمِ النَّهْيِ أَوْ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنَّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَمِنْ هَذَا يَلُوحُ رُجْحَانُ دُخُولِهِ تَحْتَ حُكْمِ النَّهْيِ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى انْفِرَادِهِ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ كَتْمِ حُجَجِ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ تَبْلِيغَهَا وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ بَيَانَهَا، وَمَنْ فَسَّرَ اللَّبْسَ أَوِ الْكِتْمَانَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَمَعْنًى خَاصٍّ فَلَمْ يُصِبْ إِنْ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ دُونَ غَيْرِهِ، لَا إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَفِيهِ أَنَّ كُفْرَهُمْ كُفْرُ عِنَادٍ لَا كُفْرُ جَهْلٍ، وَذَلِكَ أَغْلَظُ لِلذَّنْبِ وَأَوْجَبُ لِلْعُقُوبَةِ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ لَا يُفِيدُ جَوَازَ اللَّبْسِ وَالْكِتْمَانِ مَعَ الْجَهْلِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ بِحُكْمِهِ، خُصُوصًا فِي أُمُورِ الدِّينِ، فَإِنَّ التَّكَلُّمَ فِيهَا وَالتَّصَدِّي لِلْإِصْدَارِ وَالْإِيرَادِ فِي أَبْوَابِهَا إِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ بِهِ لِمَنْ كَانَ رَأْسًا فِي الْعِلْمِ فَرْدًا فِي الْفَهْمِ، وَمَا لِلْجُهَّالِ وَالدُّخُولِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَالْقُعُودِ فِي غَيْرِ مَقَاعِدِهِمْ؟! وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ لِلْأَحْبَارِ مِنَ الْيَهُودِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أَيْ بَلَائِي عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ آبَائِكُمْ، لَمَّا كَانَ نَجَّاهُمْ بِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي الَّذِي أَخَذْتُ فِي أَعْنَاقِكُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَكُمْ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أُنْجِزْ لَكُمْ مَا وَعَدْتُكُمْ عَلَيْهِ بِتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ بِوَضْعِ مَا كَانَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أَنْ أُنْزِلَ بِكُمْ مَا أَنْزَلْتُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ النَّقِمَاتِ وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَعِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِكُمْ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَا تَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِرَسُولِي وَبِمَا جَاءَكُمْ بِهِ وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ فِيمَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيكُمْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قوله أَوْفُوا بِعَهْدِي يقول: ما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره أُوفِ بِعَهْدِكُمْ يَقُولُ: أَرْضَ عَنْكُمْ وَأُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ المنذر

_ (1) . وتمامه: وكل نعيم لا محالة زائل.

[سورة البقرة (2) : الآيات 43 إلى 46]

عن مجاهد في قوله: أَوْفُوا بِعَهْدِي قَالَ: هُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ «1» لآية وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَوْفُوا لِي بِمَا افْتَرَضْتُ عَلَيْكُمْ أُوفِ لَكُمْ بِمَا وَعَدْتُكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عن أبي العالية قَوْلِهِ: إِيَّايَ فَارْهَبُونِ قَالَ: فَاخْشَوْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ قَالَ: الْقُرْآنُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ قَالَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ: أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ قَالَ: بِالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ عَلَى مُحَمَّدٍ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ، لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أَيْ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي يَقُولُ: لَا تَأْخُذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ: وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ: يَا ابْنَ آدَمَ عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: لَا تَأْخُذْ عَلَى مَا عَلَّمْتَ أَجْرًا، إِنَّمَا أَجْرُ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْحُلَمَاءِ عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ قَالَ: لَا تَخْلِطُوا الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ قَالَ: لَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَلْبِسُوا الْآيَةَ، قَالَ: لَا تَلْبَسُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِالْإِسْلَامِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ قَالَ: كَتَمُوا مُحَمَّدًا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: الْحَقُّ: التَّوْرَاةُ، وَالْبَاطِلُ: الذي كتبوه بأيديهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 43 الى 46] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَاشْتِقَاقِهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةُ، وَهِيَ صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْعَهْدِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، وَمِثْلُهَا الزَّكَاةُ. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ، يُقَالُ آتَيْتُهُ: أَيْ أَعْطَيْتُهُ. والزكاة مأخوذة من الزكاء، وَهُوَ النَّمَاءُ، زَكَا الشَّيْءُ: إِذَا نَمَا وَزَادَ، وَرَجُلٌ زَكِيٌّ: أَيْ زَائِدُ الْخَيْرِ وَسُمِّيَ إِخْرَاجُ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ زَكَاةً: أَيْ زِيَادَةً مَعَ أَنَّهُ نَقْصٌ مِنْهُ، لِأَنَّهَا تُكْثِرُ بَرَكَتَهُ بِذَلِكَ، أَوْ تُكْثِرُ أَجْرَ صَاحِبِهِ وَقِيلَ: الزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّطْهِيرِ، كَمَا يُقَالُ: زَكَا فُلَانٌ: أَيْ طَهُرَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا قَدْ نَقَلَهَا الشَّرْعُ إِلَى مَعَانٍ شَرْعِيَّةٍ هِيَ الْمُرَادَةُ بِمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا. وَقَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لِبَسْطِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِالزَّكَاةِ هُنَا، فَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَفْرُوضَةُ لِاقْتِرَانِهَا بِالصَّلَاةِ، وَقِيلَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَالرُّكُوعُ فِي اللُّغَةِ: الِانْحِنَاءُ، وَكُلُّ مُنْحَنٍ رَاكِعٌ، قَالَ لَبِيدٌ: أُخَبِّرُ أَخْبَارَ الْقُرُونِ الَّتِي مَضَتْ ... أَدِبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ

_ (1) . المائدة: 12. [.....]

وَقِيلَ الِانْحِنَاءُ يَعُمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَيُسْتَعَارُ الرُّكُوعُ أَيْضًا لِلِانْحِطَاطِ فِي الْمَنْزِلَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ: لَا تُهِينَ الْفَقِيرَ «1» عَلَّكَ أَنْ ... تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ وَإِنَّمَا خَصَّ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ هُنَا، لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا رُكُوعَ فِي صَلَاتِهِمْ وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ كَانَ ثَقِيلًا عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِالرُّكُوعِ جَمِيعَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. وَالرُّكُوعُ الشَّرْعِيُّ: هُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ الرَّجُلُ وَيَمُدَّ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ وَيَفْتَحَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَيَقْبِضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ذَاكِرًا بِالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ. وَقَوْلُهُ: مَعَ الرَّاكِعِينَ فِيهِ الْإِرْشَادُ إِلَى شُهُودِ الْجَمَاعَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ أَوْجَبَ حُضُورَ الْجَمَاعَةِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي كَوْنِ ذَلِكَ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ الْحَقُّ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَرْدِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً أَوْ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: الَّذِي يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يُصَلِّي وَحْدَهُ ثُمَّ يَنَامُ. وَالْبَحْثُ طَوِيلُ الذُّيُولِ، كَثِيرُ النُّقُولِ. وَالْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ لِلِاسْتِفْهَامِ مَعَ التَّوْبِيخِ لِلْمُخَاطَبِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَوْبِيخَهُمْ عَلَى نَفْسِ الْأَمْرِ بِالْبِرِّ فَإِنَّهُ فِعْلٌ حَسَنٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، بَلْ بِسَبَبِ تَرْكِ فِعْلِ الْبِرِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ مَعَ التَّطَهُّرِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالْقِيَامِ فِي مَقَامِ دُعَاةِ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ إِيهَامًا لِلنَّاسِ وَتَلْبِيسًا عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: وَصَفْتَ التُّقَى حَتَّى كَأَنَّكَ ذُو تُقَى ... وَرِيحُ الْخَطَايَا مِنْ ثيابك تسطع وَالْبِرُّ: الطَّاعَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَالْبِرُّ: سَعَةُ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ، وَالْبِرُّ: الصِّدْقُ، وَالْبِرُّ: وَلَدُ الثَّعْلَبِ، وَالْبِرُّ: سَوْقُ الْغَنَمِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الطَّاعَةِ قَوْلُ الشاعر: لا همّ رَبِّ أَنْ يَكُونُوا «2» دُونَكَا ... يَبَرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا أَيْ يُطِيعُونَكَ وَيَعْصُونَكَ. وَالنِّسْيَانُ بِكَسْرِ النُّونِ هُوَ هُنَا بِمَعْنَى التَّرْكِ: أَيْ وَتَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَفِي الْأَصْلِ خِلَافُ الذِّكْرِ وَالْحِفْظِ: أَيْ زَوَالُ الصُّورَةِ الَّتِي كَانَتْ مَحْفُوظَةً عَنِ الْمُدْرِكَةِ وَالْحَافِظَةِ. وَالنَّفْسُ: الرُّوحُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «3» يُرِيدُ الْأَرْوَاحَ. وَقَالَ أَبُو خِرَاشٍ: نَجَا سَالِمٌ والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا وَالنَّفْسُ أَيْضًا: الدَّمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَالَتْ نَفْسُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: تَسِيلُ عَلَى حَدِّ السُّيُوفِ نُفُوسُنَا ... وليست على غير الظّبات تسيل

_ (1) . في القرطبي «ولا تعاد الضعيف» . (2) . في البحر المحيط لأبي حيان «إن بكرا» . (3) . الزمر: 42.

وَالنَّفْسُ: الْجَسَدُ، وَمِنْهُ: نُبِّئْتُ أَنَّ بَنِي سُحَيْمٍ أَدْخَلُوا ... أَبْيَاتَهُمْ تَأَمُورَ نَفْسِ الْمُنْذِرِ وَالتَّأَمُورُ: الْبَدَنُ. وَقَوْلُهُ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَعْظَمِ تَقْرِيعٍ وَأَشَدِّ تَوْبِيخٍ وَأَبْلَغِ تَبْكِيتٍ: أَيْ كَيْفَ تَتْرُكُونَ الْبِرَّ الَّذِي تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ وَأَنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَارِفِينَ بِقُبْحِ هَذَا الْفِعْلِ وَشِدَّةِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ، كَمَا تَرَوْنَهُ في الكتاب الذي تتلونه والآيات التي تقرؤونها مِنَ التَّوْرَاةِ. وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ، وَهِيَ الْمُرَادُ هُنَا وأصلها الاتباع، يقال: تلوته: إذا تبعته وَسُمِّيَ الْقَارِئُ تَالِيًا وَالْقِرَاءَةُ تِلَاوَةً لِأَنَّهُ يُتْبِعُ بَعْضَ الْكَلَامِ بِبَعْضٍ، عَلَى النَّسَقِ الَّذِي هُوَ عليه. قوله أَفَلا تَعْقِلُونَ اسْتِفْهَامٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالتَّقْرِيعِ لَهُمْ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْأَوَّلِ وَأَشَدُّ، وَأَشَدُّ مَا قَرَّعَ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَلَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ غَيْرُ عَامِلِينَ بِالْعِلْمِ، فَاسْتَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا أَمْرَهُمْ لِلنَّاسِ بِالْبِرِّ مَعَ نِسْيَانِ أَنْفُسِهِمْ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي قَامُوا بِهِ فِي الْمَجَامِعِ وَنَادَوْا بِهِ فِي الْمَجَالِسِ إِيهَامًا لِلنَّاسِ بِأَنَّهُمْ مُبَلِّغُونَ عَنِ اللَّهِ مَا تَحَمَّلُوهُ مِنْ حُجَجِهِ، وَمُبَيِّنُونَ لِعِبَادِهِ مَا أَمَرَهُمْ بِبَيَانِهِ، وَمُوَصِّلُونَ إِلَى خَلْقِهِ مَا اسْتَوْدَعَهُمْ وَائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهِ، وَهُمْ أَتْرَكُ النَّاسِ لِذَلِكَ وَأَبْعَدُهُمْ مِنْ نَفْعِهِ وَأَزْهَدُهُمْ فِيهِ، ثُمَّ رَبَطَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِجُمْلَةٍ أُخْرَى جَعَلَهَا مُبَيِّنَةً لِحَالِهِمْ وَكَاشِفَةً لِعَوَارِهِمْ وَهَاتِكَةً لِأَسْتَارِهِمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا هَذِهِ الْفِعْلَةَ الشَّنِيعَةَ وَالْخَصْلَةَ الْفَظِيعَةَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ وَمَعْرِفَةٍ بِالْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَمُلَازَمَةٍ لِتِلَاوَتِهِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمَعَرِّيُّ: وَإِنَّمَا حَمَلَ التَّوْرَاةَ قَارِئُهَا ... كَسْبَ الْفَوَائِدِ لَا حُبَّ التِّلَاوَاتِ ثُمَّ انْتَقَلَ مَعَهُمْ مِنْ تَقْرِيعٍ إِلَى تَقْرِيعٍ، وَمِنْ تَوْبِيخٍ إِلَى تَوْبِيخٍ فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَوْ لَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْحُجَّةِ وَأَهْلِ الدِّرَاسَةِ لِكُتِبِ اللَّهِ، لَكَانَ مُجَرَّدُ كَوْنِكُمْ مِمَّنْ يَعْقِلُ حَائِلًا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ ذَائِدًا لَكُمْ عَنْهُ زَاجِرًا لَكُمْ مِنْهُ، فَكَيْفَ أَهْمَلْتُمْ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ بَعْدَ إِهْمَالِكُمْ لِمَا يُوجِبُهُ الْعِلْمُ. وَالْعَقْلُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ عِقَالُ الْبَعِيرِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَمِنْهُ الْعَقْلُ فِي الدِّيَةِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ عَنْ قَتْلِ الْجَانِي. وَالْعَقْلُ نَقِيضُ الْجَهْلِ وَيَصِحُّ تَفْسِيرُ مَا فِي الْآيَةِ هُنَا بِمَا هُوَ أَصْلُ مَعْنَى الْعَقْلِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَيْ أَفَلَا تَمْنَعُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ مُوَاقَعَةِ هَذِهِ الْحَالِ الْمُزْرِيَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَفَلَا تَنْظُرُونَ بِعُقُولِكُمُ الَّتِي رَزَقَكُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا حَيْثُ لَمْ تَنْتَفِعُوا بِمَا لَدَيْكُمْ مِنَ الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ الصَّبْرُ فِي اللُّغَةِ: الْحَبْسُ، وَصَبَرْتُ نَفْسِي عَلَى الشَّيْءِ: حَبَسْتُهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: فَصَبَرَتْ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ وَالْمُرَادُ هُنَا: اسْتَعِينُوا بِحَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَقَصْرِهَا عَلَى الطَّاعَاتِ عَلَى دَفْعِ مَا يَرِدُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، وَقِيلَ: الصَّبْرُ هُنَا هُوَ خَاصٌّ بِالصَّبْرِ عَلَى تَكَالِيفِ الصَّلَاةِ. وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «1» وَلَيْسَ فِي هَذَا الصَّبْرِ الْخَاصِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ ما ينفي ما تفيده الألف واللام

_ (1) . طه: 132.

الدَّاخِلَةُ عَلَى الصَّبْرِ مِنَ الشُّمُولِ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا جَمِيعُ مَا تَصْدُقُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي رُجُوعِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ فَقِيلَ إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ فَقَدْ يَجُوزُ إِرْجَاعُ الضَّمِيرِ إِلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا تَحْتَ الْآخَرِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الْأَسْ ... وَدَ مَا لم يعاص كان جنونا ولم يقل ما لم يعاصا بَلْ جَعَلَ الضَّمِيرَ رَاجِعًا إِلَى الشَّبَابِ، لِأَنَّ الشَّعْرَ الْأَسْوَدَ دَاخِلٌ فِيهِ وَقِيلَ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ دُونِ اعْتِبَارِ دُخُولِ الصَّبْرِ تَحْتَهَا لِأَنَّ الصَّبْرَ هُوَ عَلَيْهَا، كَمَا قِيلَ سَابِقًا وَقِيلَ إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ الصَّبْرُ مُرَادًا مَعَهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ آكَدَ وَأَعَمَّ تَكْلِيفًا وَأَكْثَرَ ثَوَابًا كَانَتِ الْكِنَايَةُ بِالضَّمِيرِ عَنْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ «2» كَذَا قِيلَ: وَقِيلَ إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْمَكْنُوزَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «3» فَأَرْجَعَ الضَّمِيرَ هُنَا إِلَى الْفِضَّةِ وَالتِّجَارَةِ لَمَّا كَانَتِ الْفِضَّةُ أَعَمَّ نَفْعًا وَأَكْثَرَ وُجُودًا، وَالتِّجَارَةُ هي الحاملة على الانقضاض، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَبَيْنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الصَّبْرَ هُنَاكَ جُعِلَ دَاخِلًا تَحْتَ الصَّلَاةِ، وَهُنَا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا وَإِنْ كَانَ مُرَادًا وَقِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ الصَّبْرُ وَالصَّلَاةُ، وَلَكِنْ أَرْجَعَ الضَّمِيرَ إِلَى أَحَدِهِمَا اسْتِغْنَاءً بِهِ عَنِ الْآخَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً «4» أَيِ ابْنَ مَرْيَمَ آيَةً وَأُمَّهُ آيَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ وَقَالَ آخَرُ: لِكُلِّ همّ من الهموم سعة ... والصّبح والمسي لَا فَلَاحَ مَعَهْ وَقِيلَ رَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمَا بَعْدَ تَأْوِيلِهِمَا بِالْعِبَادَةِ وَقِيلَ رَجَعَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ وَقِيلَ رَجَعَ إِلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا بنو إسرائيل. والكبيرة: الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَالْكَبِيرَةُ: الَّتِي يَكْبُرُ أَمْرُهَا وَيَتَعَاظَمُ شَأْنُهَا عَلَى حَامِلِهَا لِمَا يَجِدُهُ عِنْدَ تَحَمُّلِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَمِنْهُ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ «5» وَالْخَاشِعُ: هُوَ الْمُتَوَاضِعُ، وَالْخُشُوعُ: التَّوَاضُعُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالْخُشُوعُ: الْإِخْبَاتُ وَالتَّطَامُنُ، وَمِنْهُ الْخُشْعَةُ لِلرَّمْلَةِ الْمُتَطَامِنَةِ وَأَمَّا الْخُضُوعُ: فَاللِّينُ وَالِانْقِيَادُ، وَمِنْهُ خَضَعَتْ بِقَوْلِهَا: إِذَا لَيَّنَتْهُ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْخَاشِعُ الَّذِي يُرَى أَثَرُ الذُّلِّ وَالْخُشُوعِ عَلَيْهِ كَخُشُوعِ الدار بعد الإقواء «6» ، وَمَكَانٌ خَاشِعٌ: لَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ: أَيْ سَكَنَتْ، وَخَشَعَ بِبَصَرِهِ: إِذَا غَضَّهُ، وَالْخُشْعَةُ: قِطْعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ رِخْوَةٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: سَأَلْتُ الْأَعْمَشَ عَنِ الْخُشُوعِ فَقَالَ: يَا ثَوْرِيُّ أنت تريد أن تكون إماما للناس

_ (1) . التوبة: 62. (2) . التوبة: 34. (3) . الجمعة: 11. (4) . المؤمنون: 150. (5) . الشورى: 13. (6) . أقوت الدار: خلت من ساكنيها.

وَلَا تَعْرِفُ الْخُشُوعَ؟ لَيْسَ الْخُشُوعُ بِأَكْلِ الْخَشِنِ وَلُبْسِ الْخَشِنِ وَتُطَأْطِئُ الرَّأْسَ، لَكِنَّ الْخُشُوعَ أَنْ تَرَى الشَّرِيفَ وَالدَّنِيءَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، وَتَخْشَعَ لِلَّهِ فِي كُلِّ فَرْضٍ افْتُرِضَ عَلَيْكَ. انْتَهَى. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهِ: إِنَّهُ هَيْئَةٌ فِي النَّفْسِ يَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْجَوَارِحِ سُكُونٌ وَتَوَاضُعٌ، وَاسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ الْخَاشِعِينَ- مَعَ كَوْنِهِمْ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِ جَوَارِحِهِمْ فِي الصَّلَاةِ، وَمُلَازَمَتِهِمْ لِوَظَائِفِ الْخُشُوعِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الصلاة، وإتعابهم إِتْعَابًا عَظِيمًا فِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُضُورِ وَالْخُضُوعِ- لِأَنَّهُمْ لِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ تَضَاعُفِ الْأَجْرِ وَتَوَفُّرِ الْجَزَاءِ وَالظَّفَرِ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ عَظِيمِ الثَّوَابِ، تَسْهُلُ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْمَتَاعِبُ، وَيَتَذَلَّلُ لَهُمْ مَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الْمَصَاعِبِ، بَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ لَذَّةً لَهُمْ خَالِصَةً وَرَاحَةً عِنْدِهِمْ مَحْضَةً، وَلِأَمْرٍ مَا هَانَ عَلَى قَوْمٍ مَا يُلَاقُونَهُ مِنْ حَرِّ السُّيُوفِ عِنْدَ تَصَادُمِ الصُّفُوفِ، وَكَانَتِ الْأُمْنِيَّةُ عِنْدَهُمْ طَعْمَ الْمَنِيَّةِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي وَالظَّنُّ هُنَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ وقوله: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَمِنْهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: فَقُلْتُ لَهُمْ ظنّوا بألفي مدجّج ... سراتهم في الفارسيّ المسرّد وَقِيلَ: إِنَّ الظَّنَّ فِي الْآيَةِ عَلَى بَابِهِ، وَيُضْمَرُ فِي الْكَلَامِ بِذُنُوبِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ تَوَقَّعُوا لِقَاءَهُ مُذْنِبِينَ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَأَصْلُ الظَّنِّ: الشَّكُّ مَعَ الْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَقَدْ يَقَعُ مَوْقِعَ الْيَقِينِ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا هذه الآية. ومعنى قوله: مُلاقُوا رَبِّهِمْ ملاقو جَزَائِهِ، وَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا، وَلَا أَرَى فِي حَمْلِهِ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ مِنْ دُونِ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ بَأْسًا. وَفِي هَذَا مَعَ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ إِقْرَارٌ بِالْبَعْثِ وَمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَارْكَعُوا قَالَ: صَلُّوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ قَالَ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَرْكَعُوا مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: كُونُوا مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الْآيَةَ، قَالَ: أُولَئِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا فِيهِ. وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي يَهُودِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ لِصِهْرِهِ وَلِذِي قَرَابَتِهِ وَلِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَضَاعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: اثْبُتْ عَلَى الدِّينِ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ وَمَا يَأْمُرُكَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ، يعنون محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَمْرَهُ حَقٌّ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِذَلِكَ وَلَا يَفْعَلُونَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ قَالَ: بِالدُّخُولِ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: تَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْكُفْرِ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْعَهْدِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَأَنْتُمْ تَكْفُرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ عَهْدِي إِلَيْكُمْ فِي تَصْدِيقِ رُسُلِي؟ وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ

وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ» . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ بِهِ أَقْتَابُهُ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ منها عن جابر مرفوعا عن الْخَطِيبِ وَابْنِ النَّجَّارِ، وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَالْخَطِيبِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَمَعْنَاهَا جَمِيعًا: أَنَّهُ يَطْلُعُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ النار فيقولون لهم: بم دَخَلْتُمُ النَّارَ وَإِنَّمَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ بِتَعْلِيمِكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَفْعَلُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْخَطِيبُ فِي الِاقْتِضَاءِ، وَالْأَصْبِهَانِيُّ فِي التَّرْغِيبِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْخَطِيبُ فِي الِاقْتِضَاءِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ قَانِعٍ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْخَطِيبُ فِي الِاقْتِضَاءِ، عَنْ سُلَيْكٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «وَيْلٌ لِلَّذِي لَا يَعْلَمُ مَرَّةً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَعَلَّمَهُ، وَوَيْلٌ لِلَّذِي يَعْلَمُ وَلَا يَعْمَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، قال: أو بلغت ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْجُو، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَخْشَ أَنْ تَفْتَضِحَ بِثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَافْعَلْ، قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: قَوْلُهُ عَزَّ وجلّ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ «1» أَحْكَمْتَ هَذِهِ الْآيَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالْحَرْفُ الثَّانِي، قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ- كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ «2» أَحْكَمْتَ هَذِهِ الْآيَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالْحَرْفُ الثالث، قال: قول العبد الصالح شعيب: ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ «3» أَحْكَمْتَ هَذِهِ الْآيَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قَالَ: إِنَّهُمَا مَعُونَتَانِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَعِينُوا بِهِمَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الصَّبْرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّبْرُ ثَلَاثَةٌ: فَصَبْرٌ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَصَبْرٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ» . وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي مَدْحِ الصَّبْرِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ وَالْجَزَاءِ لِلصَّابِرِينَ، وَلَمْ نَذْكُرْهَا هُنَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَاصَّةٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ هِيَ وَارِدَةٌ فِي مُطْلَقِ الصَّبْرِ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ هَاهُنَا مِنْهَا شَطْرًا صَالِحًا، وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ. وأخرج

_ (1) . البقرة: 44. (2) . الصف: 2- 3. (3) . هود: 88.

[سورة البقرة (2) : الآيات 47 إلى 50]

أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، عَنْ صُهَيْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وكانوا: يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ، يَفْزَعُونَ إِذَا فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا نَحْوَ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ. وَأَخْرَجَ سعيد ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَنُعِيَ إِلَيْهِ ابْنٌ لَهُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ اسْتَرْجَعَ فَقَالَ: فَعَلْنَا كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ فَقَالَ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ نَحْوَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ لَمَّا نُعِيَ إِلَيْهِ أَخُوهُ قُثَمُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ قَالَ: لَثَقِيلَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ قَالَ: الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ قَالَ: الْخَائِفِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قال: كل ظنّ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ يَقِينٌ. وَلَا يَتِمُّ هَذَا في مثل قوله ب إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً وقوله: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ الظَّنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ ظَنِّ الْآخِرَةِ فَهُوَ عِلْمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ قَالَ: يَسْتَيْقِنُونَ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إليه يوم القيامة. [سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 50] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) قوله: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ تَوْكِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَتَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ ترك اتباع محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَرَنَهُ بِالْوَعِيدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً وَقَوْلُهُ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولِ اذْكُرُوا: أَيِ اذْكُرُوا نِعْمَتِي وَتَفْضِيلِي لَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ عَالَمُ زَمَانِهِمْ، وَقِيلَ: عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: عَلَى الْجَمِّ الْغَفِيرِ من الناس كقوله: بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ «1» يُقَالُ: رَأَيْتُ عَالَمًا مِنَ النَّاسِ يُرَادُ الْكَثْرَةُ انْتَهَى. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْعَالَمِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَلَمِ وَهُوَ الدَّلِيلُ، وَكُلُّ مَا كَانَ دَلِيلًا عَلَى اللَّهِ كَانَ عَلَمًا وَكَانَ مِنَ الْعَالَمِ. وَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْعَالَمُ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ. وَعَلَى هَذَا لَا يُمْكِنُ تَخْصِيصُ لَفْظِ الْعَالَمِ بِبَعْضِ الْمُحْدَثَاتِ. انْتَهَى. وَأَقُولُ: هَذَا الِاعْتِرَاضُ سَاقِطٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَدَعْوَى اشْتِقَاقِهِ مِنَ الْعَلَمِ لَا بُرْهَانَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلَوْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ هَذَا الِاشْتِقَاقِ كَانَ الْمَعْنَى مَوْجُودًا بِمَا يَتَحَصَّلُ مَعَهُ مَفْهُومُ الدَّلِيلِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَلَمِ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَائِنٌ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْخَالِقِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ جَمْعَ الْعَالَمِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا مُفَضَّلِينَ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ من المحدثات وأما أنهم مفضلون

_ (1) . الأنبياء: 71. [.....]

عَلَى كُلِّ الْمُحْدَثَاتِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُفِيدُ هَذَا، وَلَا فِي اشْتِقَاقِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْعَالَمَ أَهْلَ الْعَصْرِ، فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونُوا مُفَضَّلِينَ عَلَى أَهْلِ عُصُورٍ لَا عَلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ الَّذِينَ فِيهِمْ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَلَى مَا بَعْدَهُ مِنَ الْعُصُورِ، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «1» وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ «2» وعند قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «3» فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْعَالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى شُمُولِهِ لِكُلِّ عَالَمٍ. قُلْتُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِكَوْنِهِمْ أَفْضَلَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «4» فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَنَحْوَهَا تَكُونُ مُخَصَّصَةً لِتِلْكَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّقْوَى. وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَيْ عَذَابُهُ. وَقَوْلُهُ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةً لِيَوْمٍ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْبَصْرِيُّونَ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ تَقْدِيرُهُ فِيهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هَذَا خَطَأٌ، بَلِ التَّقْدِيرُ: لَا تَجْزِيهِ. لِأَنَّ حَذْفَ الظَّرْفِ لَا يَجُوزُ، وَيَجُوزُ حَذْفُ الضَّمِيرِ وَحْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ. وَمَعْنَى لَا تَجْزِي: لَا تَكْفِي وَتَقْضِي، يقال: جزى عَنِّي هَذَا الْأَمْرَ يَجْزِي: أَيْ قَضَى، وَاجْتَزَأْتُ بالشيء اجتزاء: أَيِ اكْتَفَيْتُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَإِنَّ الْغَدْرَ فِي الْأَقْوَامِ عَارٌ ... وَإِنَّ الْحُرَّ يُجْزَى «5» بِالْكُرَاعِ وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَا تَقْضِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا تَكْفِي عَنْهَا، وَمَعْنَى التَّنْكِيرِ التَّحْقِيرُ: أَيْ شَيْئًا يَسِيرًا حَقِيرًا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ جَزَاءً حَقِيرًا، وَالشَّفَاعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشَّفْعِ وَهُوَ الِاثْنَانِ، تَقُولُ اسْتَشْفَعْتُهُ: أَيْ سَأَلْتُهُ أَنْ يَشْفَعَ لِي: أَيْ يَضُمَّ جَاهَهُ إِلَى جَاهِكَ عِنْدَ الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ لِيَصِلَ النَّفْعُ إلى المشفوع له، وسميت الشفعة شفعة: لِأَنَّكَ تَضُمُّ مِلْكَ شَرِيكِكَ إِلَى مِلْكِكَ. وَقَدْ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: تقبل بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ مُؤَنَّثَةٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الشَّفِيعِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْأَحْسَنُ التَّذْكِيرِ. وَضَمِيرُ مِنْهَا يَرْجِعُ إِلَى النَّفْسِ الْمَذْكُورَةِ ثَانِيًا أَيْ إِنْ جَاءَتْ بِشَفَاعَةِ شَفِيعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى النَّفْسِ الْمَذْكُورَةِ أَوَلًا: أَيْ إِذَا شَفَعَتْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا. وَالْعَدْلُ بفتح العين: الفداء، وبكسرها: المثل. يقال عدل وَعَدِيلٌ، لِلَّذِي مَاثَلَ فِي الْوَزْنِ وَالْقَدْرِ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ فِي الْعَرَبِ مَنْ يَكْسِرُ الْعَيْنَ فِي مَعْنَى الْفِدْيَةِ. وَالنَّصْرُ: الْعَوْنُ، وَالْأَنْصَارُ: الْأَعْوَانُ، وَانْتَصَرَ الرَّجُلُ: انْتَقَمَ، وَالضَّمِيرُ: أَيْ هُمْ يَرْجِعُ إِلَى النُّفُوسِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِالنَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالنَّفْسُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ. وَقَوْلُهُ: إِذْ نَجَّيْناكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: اذْكُرُوا وَالنَّجَاةُ: النَّجْوَةُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ مِنْهَا، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ فَائِزٍ نَاجِيًا. وَآلُ فِرْعَوْنَ: قَوْمُهُ، وَأَصْلُ آلِ: أَهْلٌ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهِ عَلَى أُهَيْلٍ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ يُضَافُ إِلَى ذَوِي الْخَطَرِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا يُقَالُ فِي الرَّئِيسِ الْأَعْظَمِ، نَحْوُ آلِ مُحَمَّدٍ. وَلَا يُضَافُ إِلَى الْبُلْدَانِ فلا يقال من آل

_ (1) . المائدة: 20. (2) . الدخان: 32. (3) . آل عمران: 33. (4) . آل عمران: 110. (5) . في القرطبي «يجزأ» .

الْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: قَدْ سَمِعْنَاهُ فِي الْبُلْدَانِ، قَالُوا: آلِ الْمَدِينَةِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُضَافُ إِلَى الْمُضْمَرِ أَمْ لَا، فَمَنَعَهُ قَوْمٌ وَسَوَّغَهُ آخَرُونَ وَهُوَ الْحَقُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِي ... بِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكَ وَفِرْعَوْنُ: قِيلَ هُوَ اسْمُ ذَلِكَ الْمَلِكِ بِعَيْنِهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْعَمَالِقَةِ، كَمَا يُسَمَّى مَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ: كِسْرَى، وَمَنْ مَلَكَ الرُّومَ: قَيْصَرَ، وَمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ النَّجَاشِيَّ. وَاسْمُ فِرْعَوْنِ مُوسَى الْمَذْكُورِ هُنَا: قَابُوسُ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ وَهْبٌ: اسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ الرَّيَّانِ. قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: لَا يُعْرَفُ لِفِرْعَوْنَ تَفْسِيرٌ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: إِنَّ كُلَّ عَاتٍ يُقَالُ لَهُ فِرْعَوْنُ، وَقَدْ تَفَرْعَنَ وَهُوَ ذُو فَرْعَنَةٍ: أَيْ دَهَاءٍ وَمَكْرٍ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: تَفَرْعَنَ فُلَانٌ: إِذَا عَتَا وَتَجَبَّرَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يَسُومُونَكُمْ يُوَلُّونَكُمْ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقِيلَ يُذِيقُونَكُمْ وَيُلْزِمُونَكُمْ إِيَّاهُ، وَأَصْلُ السَّوْمِ: الدَّوَامُ، وَمِنْهُ سَائِمَةُ الْغَنَمِ لِمُدَاوَمَتِهَا الرَّعْيَ، وَيُقَالُ: سَامَهُ خُطَّةَ خَسْفٍ: إِذَا أَوْلَاهُ إِيَّاهَا. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: أَصْلُهُ مِنْ سَامَ السِّلْعَةَ إِذَا طَلَبَهَا، كَأَنَّهُ بِمَعْنَى: يَبْغُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُرِيدُونَكُمْ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَسُوءُ الْعَذَابِ: أَشَدُّهُ، وَهُوَ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يَسُومُونَكُمْ سَوْمًا سُوءَ الْعَذَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ سَائِمِينَ لَكُمْ. وَقَوْلُهُ يُذَبِّحُونَ وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: يَسُومُونَكُمْ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَقَرَأَهُ الْجَمَاعَةُ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالتَّخْفِيفِ. وَالذَّبْحُ فِي الْأَصْلِ: الشِّقُّ، وَهُوَ فَرْيُ أَوْدَاجِ الْمَذْبُوحِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يَتْرُكُونَهُنَّ أَحْيَاءً لِيَسْتَخْدِمُوهُنَّ وَيَمْتَهِنُوهُنَّ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَبْحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ الْبَنَاتِ لأن الكهنة أخبروه بأنه مَوْلُودٌ يَكُونُ هَلَاكُهُ عَلَى يَدِهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْبَنَاتِ بِاسْمِ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ جِنْسٌ يَصْدُقُ عَلَى الْبَنَاتِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّهُ أَمَرَ بِذَبْحِ الرِّجَالِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: نِساءَكُمْ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ بِشَهَادَةِ السَّبَبِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي قَتْلِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ الْبَنَاتِ لِلْخِدْمَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ إِنْزَالِ الذُّلِّ بِهِمْ وَإِلْصَاقِ الْإِهَانَةِ الشَّدِيدَةِ بِجَمِيعِهِمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْعَارِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَفِي ذلِكُمْ إِلَى جُمْلَةِ الْأَمْرِ. وَالْبَلَاءُ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى الْخَيْرِ، وَتَارَةً عَلَى الشَّرِّ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ هُنَا الشَّرُّ كَانَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ إِلَى مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ النِّقْمَةِ بِالذَّبْحِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْخَيْرُ كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْجَاءِ وَمَا هُوَ مَذْكُورٌ قَبْلَهُ مِنْ تَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي مَرْجِعِ الْإِشَارَةِ، فَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ، وَرَجَّحَ الْآخَرُونَ الْآخَرَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ بَلَوْتُهُ أَبْلُوهُ بَلَاءً، وَفِي الْخَيْرِ أَبْلِيهِ إِبْلَاءً وَبَلَاءً، قَالَ زُهَيْرٌ: جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ ... وَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو قَالَ: فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ فَأَنْعَمَ عَلَيْهِمَا خَيْرَ النِّعَمِ الَّتِي يَخْتَبِرُ بِهَا عِبَادَهُ. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ فَرَقْنا مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: اذْكُرُوا وَفَرَقْنَا: فَلَقْنَا وَأَصْلُ الْفَرْقِ الْفَصْلُ، وَمِنْهُ فَرْقُ الشَّعْرِ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: فَرَّقْنَا بِالتَّشْدِيدِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِكُمُ قِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى اللَّامُ: أَيْ لَكُمْ، وَقِيلَ: هِيَ

الْبَاءُ السَّبَبِيَّةُ: أَيْ فَرَقْنَاهُ بِسَبَبِكُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ: أَيْ فَرَقْنَاهُ مُتَلَبِّسًا بِكُمْ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا: أَنَّ فَرْقَ الْبَحْرِ كَانَ بِهِمْ أَيْ بِسَبَبِ دُخُولِهِمْ فِيهِ، أَيْ لَمَّا صَارُوا بَيْنَ الْمَاءَيْنِ صَارَ الْفَرْقُ بِهِمْ. وَأَصْلُ الْبَحْرِ فِي اللُّغَةِ: الِاتِّسَاعُ، أُطْلِقَ عَلَى الْبَحْرِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الْبَرِّ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاتِّسَاعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّهْرِ وَالْخَلِيجِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَاءِ الْمَالِحِ، وَمِنْهُ أَبْحَرَ الْمَاءُ: إِذَا مَلَحَ، قَالَ نُصَيْبٌ: وَقَدْ عَادَ مَاءُ الْأَرْضِ بَحْرًا فَزَادَنِي ... إِلَى مَرَضِي أَنْ أَبْحَرَ الْمَشْرَبُ الْعَذْبُ وَقَوْلُهُ: فَأَنْجَيْناكُمْ أَيْ أَخْرَجْنَاكُمْ مِنْهُ: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ حَالَ كَوْنِكُمْ نَاظِرِينَ إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِكُمْ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أَيْ يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إِلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ مِنَ السَّالِكِينَ فِي الْبَحْرِ وَقِيلَ: نَظَرُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ يَنْجُونَ وَإِلَى آلِ فِرْعَوْنَ يَغْرَقُونَ. وَالْمُرَادُ بِآلِ فِرْعَوْنَ هُنَا هُوَ وَقَوْمُهُ وَأَتْبَاعُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَلَا: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ قَالَ: مَضَى الْقَوْمُ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ أَنْتُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ هِيَ أَيَادِي اللَّهِ وَأَيَّامُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نِعْمَةُ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا سَمَّى وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ، فَجَّرَ لَهُمُ الْحَجَرَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَأَنْجَاهُمْ مِنْ عُبُودِيَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ قَالَ: فُضِّلُوا عَلَى الْعَالَمِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَلِكُلِّ زَمَانٍ عَالَمٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ قَالَ: بِمَا أُعْطُوا مِنَ الْمُلْكِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ عَلَى مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإِنَّ لِكُلِّ زَمَانٍ عَالَمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً قَالَ: لَا تُغْنِي نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ عَنْ نَفْسٍ كَافِرَةٍ مِنَ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الْعَدْلُ؟ قَالَ: الْعَدْلُ الْفِدْيَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ فِي تَفْسِيرِ الصَّرْفِ وَالْعَدْلِ قَالَ: التَّطَوُّعُ وَالْفَرِيضَةُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ غَرِيبٌ هَاهُنَا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتِ الْكَهَنَةُ لِفِرْعَوْنَ إِنَّهُ يُولَدُ فِي هَذَا الْعَامِ مَوْلُودٌ يَذْهَبُ بِمُلْكِهِ، فَجَعَلَ فِرْعَوْنُ عَلَى كُلِّ أَلْفِ امْرَأَةٍ مِائَةَ رَجُلٍ، وَعَلَى كُلِّ مِائَةٍ عَشْرَةً، وَعَلَى كل عشرة رَجُلًا، فَقَالَ: انْظُرُوا كُلَّ امْرَأَةٍ حَامِلٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَاذْبَحُوهُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَخَلُّوا عَنْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ قَالَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ مَلَكَهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ. فَقَالَتْ لَهُ الْكَهَنَةُ: إِنَّهُ سَيُولَدُ العام بمصر غلام هَلَاكُكَ عَلَى يَدَيْهِ، فَبَعَثَ فِي أَهْلِ مِصْرَ نِسَاءً قَوَابِلَ، فَإِذَا وَلَدَتِ امْرَأَةٌ غُلَامًا أُتِيَ بِهِ فِرْعَوْنَ فَقَتَلَهُ، وَيَسْتَحْيِي الْجَوَارِيَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ يَقُولُ: نِقْمَةٌ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ عَنْ

[سورة البقرة (2) : الآيات 51 إلى 54]

مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ لَفَرَقَ الْبَحْرَ بَيْنَهُمْ حَتَّى صَارَ طَرِيقًا يَبَسًا يَمْشُونَ فِيهِ، فَأَنْجَاهُمُ اللَّهُ وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ عَدُوَّهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: مَا هَذَا الْيَوْمُ؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فِصَامَهُ مُوسَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصَوْمِهِ» . وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ هِرَقْلَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ أُمُورٍ، مِنْهَا عَنِ الْبُقْعَةِ الَّتِي لَمْ تُصِبْهَا الشَّمْسُ إِلَّا سَاعَةً، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَجَابَهُ عَنْ تِلْكَ الْأُمُورِ وَقَالَ: وَأَمَّا الْبُقْعَةُ الَّتِي لَمْ تُصِبْهَا الشَّمْسُ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ: فَالْبَحْرُ الَّذِي أَفْرَجَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَعَلَّهُ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى زِيَادَةٌ عَلَى مَا هُنَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 51 الى 54] وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: وَعَدْنَا بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَرَجَّحَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَنْكَرَ واعَدْنا قَالَ: لِأَنَّ الْمُوَاعَدَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْبَشَرِ، فَأَمَّا مِنَ اللَّهِ فَإِنَّمَا هُوَ التفرّد بالوعد، على هذا ما وجدنا القرآن كقوله: وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ «2» وقوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ «3» وَمِثْلِهِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَمَكِّيٌّ: وَإِنَّمَا قَالُوا هَكَذَا نَظَرًا إِلَى أَصْلِ الْمُفَاعَلَةِ أَنَّهَا تُفِيدُ الِاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ، وَتَكُونُ مِنْ كُلِّ واحد من المتواعدين ونحوهما، لكنها قَدْ تَأْتِي لِلْوَاحِدِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: دَاوَيْتُ الْعَلِيلَ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَطَارَقْتُ النَّعْلَ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: واعَدْنا قَالَ النَّحَّاسُ: وَهِيَ أَجْوَدُ وَأَحْسَنُ وَلَيْسَ قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا «4» مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، لِأَنَّ وَاعَدْنَا مُوسَى إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمُوَافَاةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِكَ: مَوْعِدُكَ يَوْمَ الْجُمْعَةَ، وَمَوْعِدُكَ مَوْضِعَ كَذَا وَالْفَصِيحُ فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ وَاعَدْتُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَاعَدْنَا بِالْأَلِفِ هَاهُنَا جَيِّدٌ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ فِي الْقَبُولِ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَاعَدَةِ، فَمِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَعْدٌ، وَمِنْ مُوسَى قَبُولٌ. قَوْلُهُ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ تَمَامُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَهِيَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ ذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّيَالِيَ بِالذِّكْرِ دُونَ الْأَيَّامِ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ أَسْبَقُ مِنَ الْيَوْمِ فَهِيَ قَبْلَهُ فِي الرُّتْبَةِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أَيْ جَعَلْتُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا مِنْ بَعْدِهِ: أَيْ مِنْ بَعْدِ مُضِيِّ مُوسَى إِلَى الطُّورِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ عَدُّوا عِشْرِينَ يَوْمًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. وَقَالُوا: قَدِ اخْتَلَفَ مَوْعِدُهُ فَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ، وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ مِنْهُمْ، فَقَدْ كَانُوا يَسْلُكُونَ طَرَائِقَ مِنَ التَّعَنُّتِ خَارِجَةً عَنْ قَوَانِينِ الْعَقْلِ مُخَالِفَةً لِمَا يُخَاطَبُونَ بِهِ بَلْ وَيُشَاهِدُونَهُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَلَا يُقَالُ كَيْفَ تَعُدُّونَ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ لهم في الوعد

_ (1) . الشعراء: 63. (2) . إبراهيم: 22. (3) . الأنفال: 7. (4) . المائدة: 9.

بِأَنَّهَا أَرْبَعُونَ لَيْلَةً، وَإِنَّمَا سَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَخَالَفُوا مَوْعِدَ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ مِنْ بَعْدِ عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ، وَسُمِّيَ الْعِجْلُ عِجْلًا لِاسْتِعْجَالِهِمْ عِبَادَتَهُ كَذَا قِيلَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ هَذَا الِاسْمَ عَلَى وَلَدِ الْبَقَرِ. وَقَدْ كَانَ جَعَلَهُ لَهُمُ السَّامِرِيُّ عَلَى صُورَةِ الْعِجْلِ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ لِكَيْ تَشْكُرُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَفْوِ عَنْ ذَنْبِكُمُ الْعَظِيمِ الَّذِي وَقَعْتُمْ فِيهِ. وَأَصْلُ الشُّكْرِ فِي اللُّغَةِ: الظُّهُورُ مِنْ قَوْلِهِمْ: دَابَّةٌ شَكُورٌ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ السِّمَنِ فَوْقَ مَا تُعْطَى مِنَ الْعَلَفِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشُّكْرُ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمُحْسِنِ بِمَا أَوْلَاكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، يُقَالُ شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، وَبِاللَّامِ أَفْصَحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ، وَالشُّكْرَانُ خِلَافُ الْكُفْرَانِ. وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ بِالْإِجْمَاعِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْفُرْقَانِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ: الْمَعْنَى آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ وَمُحَمَّدًا الْفَرْقَانَ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا غَلَطٌ أَوْقَعَهُمَا فِيهِ أَنَّ الْفَرْقَانَ مختص بالقرآن وليس كذلك، فقد قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ «1» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الْكِتَابُ أُعِيدَ ذِكْرُهُ تَأْكِيدًا. وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ وَقِيلَ: إِنَّ الْوَاوَ صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ الْفَرْقَانَ، وَالْوَاوُ قَدْ تُزَادُ فِي النُّعُوتِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْمُنَزَّلَ جَامِعٌ بَيْنَ كَوْنِهِ كِتَابًا وَفَارِقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ «2» وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، أَنْجَى هَؤُلَاءِ وَأَغْرَقَ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْفُرْقَانُ: انْفِرَاقُ الْبَحْرِ وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ: الْفَرَجُ مِنَ الْكَرْبِ وَقِيلَ: إِنَّهُ الْحُجَّةُ وَالْبَيَانُ بِالْآيَاتِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعَصَا وَالْيَدِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا أَوْلَى وَأَرْجَحُ، وَيَكُونُ الْعَطْفُ عَلَى بَابِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ وَالْآيَاتِ الَّتِي أَرْسَلْنَاهُ بِهَا مُعْجِزَةً لَهُ. قَوْلُهُ: يَا قَوْمِ الْقَوْمُ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ «3» ، ثم قال: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ «4» ، ومنه: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ «5» أَرَادَ الرِّجَالَ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْجَمِيعِ كَقَوْلِهِ تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ «6» وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْقَوْمِ عَبَدَةُ الْعِجْلِ. وَالْبَارِئُ: الْخَالِقُ، وقيل إن البارئ هو المبدع المحدث، والخالق هو المقدّر الناقل من حال إلى حال، وفي ذكر الْبَارِئَ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى عَظِيمِ جُرْمِهِمْ: أَيْ فَتُوبُوا إِلَى الَّذِي خَلَقَكُمْ وَقَدْ عَبَدْتُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَتُوبُوا لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ لِتَسَبُّبِ التَّوْبَةِ عَنِ الظُّلْمِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا لِلتَّعْقِيبِ: أَيِ اجْعَلُوا الْقَتْلَ مُتَعَقِّبًا لِلتَّوْبَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَبَدَةِ الْعِجْلِ بِأَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ قِيلَ: قَامُوا صَفَّيْنِ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقِيلَ: وَقَفَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَدَخَلَ الَّذِينَ

_ (1) . الأنبياء: 48. (2) . الأنعام: 154. (3) . الحجر: 11. (4) . الحجر: 11. (5) . الأعراف: 80. [.....] (6) . نوح: 1.

[سورة البقرة (2) : الآيات 55 إلى 57]

لَمْ يَعْبُدُوهُ عَلَيْهِمْ بِالسِّلَاحِ فَقَتَلُوهُمْ. وَقَوْلُهُ: فَتابَ عَلَيْكُمْ قِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ فَقَتَلْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ: أَيْ عَلَى الْبَاقِينَ مِنْكُمْ. وَقِيلَ هُوَ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ تَابَ عَلَيْكُمْ. وَأَمَّا مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَفَعَلْتُمْ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مُوسَى فَتَابَ عَلَيْكُمْ بَارِئكُمْ، فَهُوَ بِعِيدٌ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً قَالَ: ذَا الْقَعْدَةِ وَعَشْرًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ قَالَ: مِنْ بَعْدِ مَا اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ قَالَ: الْكِتَابُ هُوَ الْفُرْقَانُ، فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْفُرْقَانُ جِمَاعُ اسْمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَ مُوسَى قَوْمَهُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، وَاخْتَبَأَ الَّذِينَ عَكَفُوا عَلَى الْعِجْلِ فَجَلَسُوا، وَقَامَ الَّذِينَ لَمْ يَعْكُفُوا عَلَى الْعِجْلِ فَأَخَذُوا الْخَنَاجِرَ بِأَيْدِيهِمْ وَأَصَابَتْهُمْ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَانْجَلَتِ الظُّلْمَةُ عَنْهُمْ عَنْ سَبْعِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ، كُلُّ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةٌ، وَكُلُّ مَنْ بَقِيَ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالُوا لِمُوسَى مَا تَوْبَتُنَا؟ قَالَ: يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَأَخَذُوا السَّكَاكِينَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ أَخَاهُ وَأَبَاهُ وَابْنَهُ لَا يُبَالِي مَنْ قَتَلَ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: مُرْهُمْ فَلْيَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ، وَقَدْ غُفِرَ لِمَنْ قُتِلَ وَتِيبَ عَلَى مَنْ بَقِيَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوًا مِمَّا سَبَقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلى بارِئِكُمْ قَالَ: خَالِقِكُمْ. [سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 57] وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) قَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْتُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ الْقَائِلِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ هُمْ قَوْمُ مُوسَى، وَقِيلَ: هُمُ السَبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ قَالُوا له بَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، ثُمَّ دَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَأَحْيَاهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى هُنَا: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي الْأَعْرَافِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْجَهْرَةُ: الْمُعَايَنَةُ، وَأَصْلُهَا الظُّهُورُ، وَمِنْهُ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ وَالْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي وَرَأَيْتُ الْأَمْرَ جَهْرَةً وَجِهَارًا، أَيْ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ بِشَيْءٍ، وَهِيَ مَصْدَرٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَهَرَةً بِفَتْحِ الْهَاءِ وَهِيَ لُغَتَانِ مِثْلُ زَهْرَةٍ وَزَهَرَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ جَمْعُ جَاهَرٍ. وَالصَّاعِقَةُ: قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَقَرَأَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ: الصَّعْقَةُ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَالْمُرَادُ بِأَخْذِ الصَّاعِقَةِ إِصَابَتُهَا إِيَّاهُمْ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا النَّظَرِ الْكَائِنِ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ نَظَرُوا أَوَائِلَ الصَّاعِقَةِ النَّازِلَةِ بِهِمُ الْوَاقِعَةِ عَلَيْهِمْ لَا آخِرَهَا الَّذِي مَاتُوا عِنْدَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّاعِقَةِ

الْمَوْتُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ وَلَا مُوجِبَ لِلْمَصِيرِ إِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، لِأَنَّ الْمَصْعُوقَ قَدْ يَمُوتُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ يُغْشَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُفِيقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ «1» ومما يوجب بعد ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتِ الصَّاعِقَةُ عِبَارَةً عَنِ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ كَبِيرُ مَعْنًى، بَلْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لا يصح أن ينظروا الْمَوْتَ النَّازِلَ بِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَظَرَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَثِّرَةِ لِلْمَوْتِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ الْإِحْيَاءُ لَهُمْ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَصْلُ الْبَعْثِ: الْإِثَارَةُ لِلشَّيْءِ مِنْ مَحَلِّهِ، يُقَالُ: بَعَثْتُ النَّاقَةَ: أَيْ أَثَرْتُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وفتيان صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ بِسُحْرَةٍ ... فَقَامُوا جَمِيعًا بَيْنَ عاث وَنَشْوَانِ «2» وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَصَحَابَةٍ شُمِّ الْأُنُوفِ بَعَثْتُهُمْ ... لَيْلًا وَقَدْ مَالَ الْكَرَى بِطِلَاهَا وَإِنَّمَا عُوقِبُوا بِأَخْذِ الصَّاعِقَةِ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ ذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ تَابَعَهُمْ إِلَى إِنْكَارِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَهَبَ مَنْ عَدَاهُمْ إِلَى جَوَازِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَوُقُوعِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّ الْعِبَادَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ قَطْعِيَّةُ الدَّلَالَةِ لَا يَنْبَغِي لِمُنْصِفٍ أَنْ يَتَمَسَّكَ فِي مُقَابِلِهَا بِتِلْكَ الْقَوَاعِدِ الْكَلَامِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا قُدَمَاءُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَزَعَمُوا: أَنَّ الْعَقْلَ قَدْ حَكَمَ بِهَا دَعْوَى مَبْنِيَّةٍ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَقَوَاعِدُ لَا يَغْتَرُّ بِهَا إِلَّا مَنْ لَمْ يَحْظَ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ بِنَصِيبٍ، وَسَيَأْتِيكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَيَانُ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَكُلُّهَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ بَعِيدٌ مِنْ مَوْضِعِ الْحُجَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْمَقَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَوْلُهُ: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ أي جعلناه كَالظُّلَّةِ. وَالْغَمَامُ: جَمْعُ غَمَامَةٍ كَسَحَابَةٍ وَسَحَابٍ، قَالَهُ الأخفش. وقال الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ غَمَائِمُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَذَا جَرَى فِي التِّيهِ بَيْنَ مِصْرَ وَالشَّامِ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنْ دُخُولِ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ. وَالْمَنُّ: قِيلَ: هُوَ التَّرَّنْجَبِينُ. قَالَ النَّحَّاسُ: هُوَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ، وَيُقَالُ: الطَّرَّنْجَبِينُ بِالطَّاءِ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ طَلٌّ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ، وَيَحْلُو وَيَنْعَقِدُ عَسَلًا، وَيَجِفُّ جَفَافَ الصَّمْغِ، ذُكِرَ مَعْنَاهُ فِي الْقَامُوسِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَنَّ الْعَسَلُ وَقِيلَ: شَرَابٌ حُلْوٌ وَقِيلَ: خُبْزُ الرُّقَاقِ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا زَرْعٍ وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَنَّ الْكَمْأَةَ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى» . وَقَدْ ثَبَتَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ. وَالسَّلْوَى: قِيلَ هُوَ السُّمَانَى، كَحُبَارَى طَائِرٌ يَذْبَحُونَهُ فَيَأْكُلُونَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: السَّلْوَى طَيْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ غَلِطَ الْهُذَلِيُّ فَقَالَ: وَقَاسَمَهُمَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمَا ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نشورها

_ (1) . الأعراف: 143. (2) . بسحرة: السّحرة: وقت السّحر. العاثي: المتناول للشيء وكثر في استعمال العرب في الفساد.

ظَنَّ أَنَّ السَّلْوَى الْعَسَلُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ. وَقَدْ قَالَ الْمُؤَرِّجُ أَحَدُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ: إِنَّهُ الْعَسَلُ. وَاسْتَدَلَّ بِبَيْتِ الْهُذَلِيِّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَذَلِكَ بِلُغَةِ كِنَانَةَ، وَأَنْشَدَ: لَوْ شَرِبْتُ «1» السَّلْوَى مَا سَلَوْتُ ... ما بي غنى عَنْكِ وَإِنْ غَنِيتُ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالسَّلْوَى الْعَسَلُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: السَّلْوَى لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ مِثْلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهُ سَلْوَى. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَاحِدُهُ سَلْوَاةٌ، وَأَنْشَدَ: وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ سَلْوَةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مَنْ سَلَكَهُ الْقَطْرُ «2» وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّلْوَى وَاحِدَةٌ وَجَمْعُهُ سَلَاوَى. وَقَوْلُهُ: كُلُوا أَيْ قُلْنَا لَهُمْ كُلُوا، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْنَا: كُلُوا فَعَصَوْا وَلَمْ يُقَابِلُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَمَا ظَلَمُونَا، فَحَذَفَ هَذَا لِدَلَالَةِ: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيمُ الْأَنْفُسِ هُنَا يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً قَالَ: عَلَانِيَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: هُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ قَالَ: مَاتُوا ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ قَالَ: فَبُعِثُوا مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لِيَسْتَوْفُوا آجَالَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ قَالَ: غَمَامٌ أَبْرَدُ مِنْ هَذَا وَأَطْيَبُ، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ مَعَهُمْ فِي التِّيهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ قَالَ: كَانَ هَذَا الْغَمَامُ فِي الْبَرِّيَّةِ، ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ مِنَ الشَّمْسِ، وَأَطْعَمَهُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى حِينَ بَرَزُوا إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَكَانَ الْمَنُّ يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ فِي مَحَلَّتِهِمْ سُقُوطَ الثَّلْجِ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشمس، فيأخذ الرجل قدر ما يكفيه ليومه ذَلِكَ، فَإِنْ تَعَدَّى ذَلِكَ فَسَدَ مَا يَبْقَى عِنْدَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ سَادِسِهِ يَوْمَ جُمُعَتِهِ أَخَذَ مَا يَكْفِيهِ لِيَوْمِ سَادِسِهِ وَيَوْمِ سَابِعِهِ فَبَقِيَ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ عِيدٍ لَا يُشْخَصُ فِيهِ لِأَمْرِ الْمَعِيشَةِ وَلَا لِطُلْبَةِ شَيْءٍ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْبَرِّيَّةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْمَنُّ شَيْءٌ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِثْلُ الطَّلِّ، وَالسَّلْوَى طَيْرٌ أَكْبَرُ مِنَ الْعُصْفُورِ. وَأَخْرَجَ وكيع وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَنُّ صَمْغَةٌ، وَالسَّلْوَى طَائِرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالُوا يَا مُوسَى! كَيْفَ لَنَا بِمَا هَاهُنَا، أَيْنَ الطَّعَامُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ فَكَانَ يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرَةِ التَّرَّنْجَبِينُ. وَأَخْرَجُوا عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُ سُئِلَ مَا الْمَنُّ؟ قَالَ: خُبْزُ الرُّقَاقِ مِثْلُ الذُّرَةِ أَوْ مِثْلُ النَّقِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: الْمَنُّ شَرَابٌ كَانَ يُنَزَّلُ عليهم مثل العسل، فيمزجونه

_ (1) . في القرطبي: «لو أشرب السّلوان ما سليت» والبيت لرؤبة. (2) . في معجم العين 7/ 298: وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض السّلواة بلله القطر

[سورة البقرة (2) : الآيات 58 إلى 59]

بِالْمَاءِ ثُمَّ يَشْرَبُونَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ بِاللَّيْلِ عَلَى الْأَشْجَارِ فَيَغْدُونَ إليه فيأكلون منه ما شاؤوا- وَالسَّلْوَى طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ ما شاؤوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي السَّلْوَى مِثْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما ظَلَمُونا قَالَ نَحْنُ أَعَزُّ مِنْ أَنْ نُظْلَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ قال: يضرّون. [سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْقَرْيَةُ: هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَقِيلَ: إِنَّهَا أَرِيحَاءُ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقِيلَ: مِنْ قُرَى الشام. وقوله: فَكُلُوا أمر إباحة- ورَغَداً كَثِيرًا وَاسِعًا، وَهُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ أَكْلًا رَغَدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَالْبَابُ الَّذِي أُمِرُوا بِدُخُولِهِ: هُوَ بَابٌ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِبَابِ حِطَّةٍ وَقِيلَ هُوَ بَابُ الْقُبَّةِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي إِلَيْهَا مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ. وَالسُّجُودُ: قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَقِيلَ: هُوَ هُنَا الِانْحِنَاءُ وَقِيلَ: التَّوَاضُعُ وَالْخُضُوعُ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بأنه لو كان المراد السجود الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ لَامْتَنَعَ الدُّخُولُ الْمَأْمُورُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الدُّخُولُ حَالَ السُّجُودِ الْحَقِيقِيِّ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُمْ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْبَابِ شُكْرًا لِلَّهِ وَتَوَاضُعًا. وَاعْتَرَضَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي النَّهْرِ الْمَادِّ فَقَالَ: لَمْ يُؤْمَرُوا بِالسُّجُودِ، بَلْ هُوَ قَيْدٌ فِي وُقُوعِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ الدُّخُولُ، وَالْأَحْوَالُ نِسَبٌ تَقْيِيدِيَّةٌ، وَالْأَوَامِرُ نِسَبٌ إِسْنَادِيَّةٌ. انْتَهَى. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ أَمْرٌ بِالْقَيْدِ، فَمَنْ قَالَ اخْرُجْ مُسْرِعًا فَهُوَ آمِرٌ بِالْخُرُوجِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، فَلَوْ خَرَجَ غَيْرَ مُسْرِعٍ كَانَ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ. وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنُ الْأَحْوَالِ نِسَبًا تَقْيِيدِيَّةً، فَإِنَّ اتِّصَافَهَا بِكَوْنِهَا قُيُودًا مَأْمُورًا بِهَا هُوَ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ التَّقْيِيدِ. وَقَوْلُهُ: حِطَّةٌ بِالرَّفْعِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَقُرِئَتْ حِطَّةٌ نَصْبًا عَلَى مَعْنَى احْطُطْ عَنَّا ذُنُوبَنَا حِطَّةً وَقِيلَ: مَعْنَاهَا الِاسْتِغْفَارُ، ومنه قول الشاعر: فاز بالحطّة التي جعل الله ... بِهَا ذَنْبُ عَبْدِهِ مَغْفُورَا وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ: حِطَّةٌ كَلِمَةٌ أُمِرُوا بِهَا وَلَوْ قَالُوهَا لَحُطَّتْ أَوْزَارُهُمْ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْبَةَ صِفَةُ الْقَلْبِ فَلَا يَطَّلِعُ الْغَيْرُ عَلَيْهَا، وَإِذَا اشْتَهَرَ وَأُخِذَ بِالذَّنْبِ ثُمَّ تَابَ بَعْدَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَحْكِيَ تَوْبَتَهُ لِمَنْ شَاهَدَ مِنْهُ الذَّنْبَ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ. انْتَهَى، وَكَوْنُ التَّوْبَةِ لَا تُتِمُّ إِلَّا بِذَلِكَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ مُجَرَّدُ عَقْدِ الْقَلْبِ عَلَيْهَا يَكْفِي سَوَاءٌ اطَّلَعَ النَّاسُ عَلَى ذَنْبِهِ أَمْ لَا، وَرُبَّمَا

كَانَ التَّكَتُّمُ بِالتَّوْبَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبَ إِلَى مَغْفِرَتِهِ. وَأَمَّا رَفْعُ مَا عِنْدَ النَّاسِ مِنَ اعْتِقَادِهِمْ بَقَاءَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَذَلِكَ بَابٌ آخَرُ. وَقَوْلُهُ: يُغْفَرْ لَكُمْ قَرَأَهُ نَافِعٌ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ الْمَضْمُومَةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ الْمَضْمُومَةِ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ وَهِيَ أَوْلَى. وَالْخَطَايَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ بِالْهَمْزِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الصَّرْفِ. وَقَوْلُهُ: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ أَيْ نَزِيدُهُمْ إِحْسَانًا عَلَى إِحْسَانِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَحْسَنَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْإِحْسَانِ فَقَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» وَقَوْلُهُ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ قِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا: حِنْطَةٌ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ قَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هُوَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِنُكْتَةٍ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ، وَهِيَ هُنَا تَعْظِيمُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ وَتَقْبِيحُ فِعْلِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا فَكَرَّرَ الْمَوْتَ فِي الْبَيْتِ ثَلَاثًا تَهْوِيلًا لِأَمْرِهِ وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ. وَقَوْلُهُ: رِجْزاً بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي قِرَاءَةِ الْجَمِيعِ إِلَّا ابْنَ مُحَيْصِنٍ فَإِنَّهُ قَرَأَ بِضَمِّ الرَّاءِ. وَالرِّجْزُ: الْعَذَابُ. وَالْفِسْقُ: قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ قَالَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: هِيَ أَرِيحَاءُ قَرْيَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْبابَ قَالَ: بَابٌ ضَيِّقٌ سُجَّداً قَالَ: رُكَّعًا. وَقَوْلُهُ: حِطَّةٌ قَالَ: مَغْفِرَةٌ، فَدَخَلُوا مِنْ قِبَلِ أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا حِنْطَةٌ اسْتِهْزَاءً، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْبَابُ هُوَ أَحَدُ أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ يُدْعَى بَابَ حِطَّةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قِيلَ لهم: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً فدخلوا مقنعي رؤوسهم وَقَالُوا حِنْطَةٌ: حَبَّةٌ حَمْرَاءُ فِيهَا شُعَيْرَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً قال: طأطئوا رؤوسكم وَقُولُوا حِطَّةٌ قَالَ: قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قُولُوا: حِطَّةٌ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ الْبَابُ قِبَلَ الْقِبْلَةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ، فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَخَلُوا الْبَابَ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ سُجَّدًا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسَتَاهِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ حِنْطَةٌ فِي شُعَيْرَةٍ» ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِكَوْنِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مَعَهُمَا مَنْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْآخَرَ: أَعْنِي ابْنَ جَرِيرٍ وَابْنَ الْمُنْذِرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُنَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَسَفِينَةِ نُوحٍ وكباب

[سورة البقرة (2) : الآيات 60 إلى 61]

حِطَّةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الرِّجْزِ يَعْنِي بِهِ الْعَذَابَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْزٌ وَبَقِيَّةُ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ أُنَاسٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا، وَإِذَا بَلَغَكُمْ أَنَّهُ بأرض فلا تدخلوها» . [سورة البقرة (2) : الآيات 60 الى 61] وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) الِاسْتِسْقَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَحَبْسِ الْمَطَرِ. وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ السُّقْيَا. وَفِي الشَّرْعِ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَتِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ. وَالْحَجَرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَجَرًا مُعَيَّنًا فَتَكُونُ اللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مُعَيَّنًا فَتَكُونُ لِلْجِنْسِ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمُعْجِزَةِ وَأَقْوَى لِلْحُجَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَانْفَجَرَتْ الْفَاءُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ، وَالِانْفِجَارُ: الِانْشِقَاقُ، وَانْفَجَرَ الْمَاءُ انْفِجَارًا: تَفتَّحَ، وَالْفُجْرَةُ: مَوْضِعُ تَفَتُّحِ الْمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ كَانَ حَجَرًا مُرَبَّعًا يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ جِهَةِ ثَلَاثُ عُيُونٍ إِذَا ضَرَبَهُ مُوسَى سَالَتِ الْعُيُونُ، وَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَاءِ جَفَّتْ. وَالْمَشْرَبُ: مَوْضِعُ الشُّرْبِ وَقِيلَ هُوَ الْمَشْرُوبُ نَفْسُهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَشْرَبُ مِنْ كُلِّ عَيْنٍ قَوْمٌ مِنْهُمْ لَا يُشَارِكُهُمْ غَيْرُهُمْ. قِيلَ كَانَ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَالْأَسْبَاطُ ذُرِّيَّةُ الِاثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ. وَقَوْلُهُ: كُلُوا أَيْ قُلْنَا لَهُمْ: كُلُوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَاشْرَبُوا الْمَاءَ المتفجر من الحجر. وعثا يعثي عثيا، وعثي يَعْثُو عَثْوًا، وَعَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا، لُغَاتٌ: بِمَعْنَى أَفْسَدَ. وَقَوْلُهُ: مُفْسِدِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ. قَالَ فِي القاموس: عثى كرمى، وسعى ورضي، عثيّا وعثيّا وَعَثَيَانًا، وَعَثَا يَعْثُو عَثْوًا: أَفْسَدَ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْعَثْيُ أَشَدُّ الْفَسَادِ. فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَمَادُوا فِي الْفَسَادِ فِي حَالِ فَسَادِكُمْ، لِأَنَّهُمْ كانوا متمادين فيه. انتهى. وقوله: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ تَضَجُّرٌ مِنْهُمْ بِمَا صَارُوا فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالرِّزْقِ الطَّيِّبِ وَالْعَيْشِ الْمُسْتَلَذِّ، وَنُزُوعٌ إِلَى مَا أَلِفُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ خُشُونَةِ الْعَيْشِ: إِنَّ الشَّقِيَّ بِالشَّقَاءِ مُولَعٌ ... لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ لَهُ إِذَا أَتَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا مِنْهُمْ تَشَوُّقًا إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ، وَنَظَرًا لِمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعِيشَةِ الرَّافِهَةِ، بَلْ هُوَ بَابٌ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ، وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ تَعَجْرُفِهِمْ كَمَا هُوَ دَأْبُهُمْ، وَهِجِّيرَاهُمْ «1» فِي غَالِبِ مَا قُصَّ علينا من أخبارهم

_ (1) . الهجّيرى: الدأب والعادة، يقال: هذا هجّيراه: أي: دأبه وعادته.

وقال الحسن البصري: إنهم كانوا أهل كرّات وَأَبْصَالٍ وَأَعْدَاسٍ، فَنَزَعُوا إِلَى عِكْرِهِمْ: أَيْ أَصْلِهِمْ عِكْرِ السُّوءِ، وَاشْتَاقَتْ طِبَاعُهُمْ إِلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ فَقَالُوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ وَالْمُرَادُ بِالطَّعَامِ الْوَاحِدِ هُوَ: الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، وَهَمَّا وَإِنْ كَانَا طَعَامَيْنِ لَكِنْ لَمَّا كَانُوا يَأْكُلُونَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ جَعَلُوهُمَا طَعَامًا وَاحِدًا. وَقِيلَ: لِتَكَرُّرِهِمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِمَا مَعَهُمَا وَلَا تَبْدِلَةَ بِهِمَا. وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ تُخْرِجُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: زَائِدَةٌ، وَخَالَفَهُ سِيبَوَيْهِ لِكَوْنِهَا لَا تُزَادُ فِي الْكَلَامِ الْمُوجِبِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَإِنَّمَا دَعَا الْأَخْفَشُ إِلَى هَذَا لأنه لم يجد مفعولا ليخرج فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مَا مَفْعُولًا وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، أَيْ: تُخْرِجُ لَنَا مَأْكُولًا. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَقْلِها بَدَلٌ مِنْ مَا بِإِعَادَةِ الْحَرْفِ، وَالْبَقْلُ: كُلُّ نَبَاتٍ لَيْسَ لَهُ سَاقٌ، وَالشَّجَرُ: مَا لَهُ سَاقٌ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْبَقْلُ مَا أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ مِنَ الْخُضَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَطَايِبُ الْبُقُولِ الَّتِي يَأْكُلُهَا النَّاسُ كَالنَّعْنَاعِ وَالْكَرَفْسِ وَالْكُرَّاثِ وَأَشْبَاهِهَا. انْتَهَى. وَالْقِثَّاءُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا. وَالْأَوْلَى قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَالثَّانِيَةُ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ. وَالْفُومُ: قِيلَ هُوَ الثَّوْمُ، وَقَدْ قَرَأَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِالثَّاءِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: الْفُومُ: الْحِنْطَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا ابْنُ النَّحَّاسِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْفُومُ الْحِنْطَةُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الزَّجَّاجُ والأخفش، وأنشد: قد كنت أحسبني كأغنى واجد ... نزل الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ وَقَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْكِسَائِيُّ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظاهرة ... فيها الفراديس والفومان وَالْبَصَلُ أَيِ الثُّومُ، وَقَالَ حَسَّانُ: وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الْأُصُولِ ... طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ يَعْنِي الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَقِيلَ الْفُومُ: السُّنْبُلَةُ وَقِيلَ الْحِمَّصُ، وَقِيلَ الْفُومُ كُلُّ حَبٍّ يُخْبَزُ. وَالْعَدَسُ وَالْبَصَلُ مَعْرُوفَانِ. وَالِاسْتِبْدَالُ: وَضْعُ الشَّيْءِ مَوْضِعَ الْآخَرِ وأَدْنى قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الدُّنُوِّ: أَيِ الْقُرْبِ وَالْمُرَادُ: أَتَضَعُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي هِيَ دُونَ مَوْضِعِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى اللَّذَيْنِ هُمَا خَيْرٌ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ الِاسْتِلْذَاذِ وَالْوُصُولِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْحِلُّ الَّذِي لَا تَطْرُقُهُ الشُّبْهَةُ وَعَدَمُ الْكُلْفَةِ بِالسَّعْيِ لَهُ وَالتَّعَبِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَقَوْلُهُ: اهْبِطُوا مِصْراً أَيِ انْزِلُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُبُوطِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ مِصْرَ وَقِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ لِلتَّعْجِيزِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي التِّيهِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً «1» ، وصرف مصر هنا مع اجتمع العلمية والتأنيث لأنه ثلاثي ساكن في الْوَسَطِ، وَهُوَ يَجُوزُ صَرْفُهُ مَعَ حُصُولِ السَّبَبَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَالَا: إِنَّهُ لَا عَلَمِيَّةَ هُنَا لِأَنَّهُ أَرَادَ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ، وَلَمْ يُرِدِ الْمَدِينَةَ الْمَعْرُوفَةَ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وقرأ الحسن وأبان ابن تَغْلِبَ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَمَعْنَى ضرب الذلة

_ (1) . الإسراء: 50.

وَالْمَسْكَنَةِ إِلْزَامُهُمْ بِذَلِكَ وَالْقَضَاءُ بِهِ عَلَيْهِمْ قَضَاءً مُسْتَمِرًّا لَا يُفَارِقُهُمْ وَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهُمْ، مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِمُ اشْتِمَالَ الْقِبَابِ عَلَى مَنْ فِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ يهجو جريرا: ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْهِجَاءِ بَلِيغٌ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْمَدِيحِ كَانَ فِي مَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ الْمُرُوءَةَ وَالشَّجَاعَةَ وَالنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ وَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِهِ هُوَ مَعْلُومٌ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ أَقْمَاهُمُ اللَّهُ أَذَلُّ الْفِرَقِ وَأَشُدُّهُمْ مَسْكَنَةً وَأَكْثَرُهُمْ تَصَاغُرًا، لَمْ يَنْتَظِمْ لهم جمع ولا خفقت على رؤوسهم رَايَةٌ، وَلَا ثَبَتَتْ لَهُمْ وِلَايَةٌ، بَلْ مَا زَالُوا عَبِيدَ الْعَصَى فِي كُلِّ زَمَنٍ، وَطَرُوقَةَ كُلِّ فَحْلٍ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَمَنْ تَمَسَّكَ منهم بنصيب من المال وإن بلغ فِي الْكَثْرَةِ أَيَّ مَبْلَغٍ، فَهُوَ مُتَظَاهِرٌ بِالْفَقْرِ مُتَرَدٍّ بِأَثْوَابِ الْمَسْكَنَةِ، لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ أَطْمَاعَ الطَّامِعِينَ فِي مَالِهِ، إِمَّا بِحَقٍّ كَتَوْفِيرِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْجِزْيَةِ، أَوْ بِبَاطِلٍ كَمَا يَفْعَلُهُ كثير من الظلمة من التجري عَلَى اللَّهِ بِظُلْمِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الدَّفْعَ عن نفسه. ومعنى: باؤُ رَجَعُوا، يُقَالُ بَاءَ بِكَذَا، أَيْ رَجَعَ بِهِ، وَبَاءَ إِلَى الْمَبَاءَةِ: أَيْ رَجَعَ إِلَى الْمَنْزِلِ، وَالْبَوَاءُ: الرُّجُوعُ، وَيُقَالُ: هُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَوَاءٌ: أَيْ سَوَاءٌ: يَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَبَاءَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ: إِذَا كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يَقْبَلَ بِهِ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر: ألا تنتهي عنّا ملوك وتتّقي ... محارمنا لا يبوؤ الدَّمُ بِالدَّمِ وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمْ رَجَعُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ صَارُوا أَحِقَّاءَ بِغَضَبِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغَضَبِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الذِّلَّةِ وَمَا بَعْدَهُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَقَتْلِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ يَحِقُّ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ هَذَا مَخْرَجَ التَّقْيِيدِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ بِحَقٍّ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لِمَكَانِ الْعِصْمَةِ، بَلِ الْمُرَادُ نَعْيُ هَذَا الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ وَتَعْظِيمُهُ، وَأَنَّهُ ظُلْمٌ بَحْتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ فِي اعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلِ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ لَمْ يُعَارِضُوهُمْ فِي مَالٍ وَلَا جَاهٍ، بَلْ أَرْشَدُوهُمْ إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، كَمَا كَانَ مِنْ شَعْيَا وَزَكَرِيَّا ويحيى، فإنهم قتلوهم وهم يعملون وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ. وَتَكْرِيرُ الْإِشَارَةِ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَتَعْظِيمِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ وَتَهْوِيلِهِ، وَمَجْمُوعُ مَا بَعْدَ الْإِشَارَةِ الْأُولَى وَالْإِشَارَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ السَّبَبُ لِضَرْبِ الذِّلَّةِ وَمَا بَعْدَهُ، وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ الثَّانِيَةُ إِلَى الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا سَبَبًا لِلسَّبَبِ وَهُوَ بِعِيدٌ جِدًّا. وَالِاعْتِدَاءُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ قَالَ ذَلِكَ فِي التِّيهِ، ضَرَبَ لَهُمْ مُوسَى الْحَجَرَ فَصَارَ فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا مِنْ مَاءٍ، لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ يَشْرَبُونَ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ نَحْوَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ قَالَ: لَا تَسْعَوْا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: يَعْنِي وَلَا تَمْشُوا بِالْمَعَاصِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:

[سورة البقرة (2) : آية 62]

لَا تَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ قَالَ: الْمَنُّ وَالسَّلْوَى اسْتَبْدَلُوا بِهِ الْبَقْلَ وَمَا حَكَى مَعَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَفُومِها قَالَ: الْخُبْزُ، وَفِي لَفْظٍ: الْبُرُّ، وَفِي لَفْظٍ: الْحِنْطَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْفُومُ: الثَّوْمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَثُومِهَا وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قِرَاءَتِي قِرَاءَةُ زَيْدٍ، وَأَنَا آخُذُ بِبِضْعَةَ عَشَرَ حَرْفًا مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا أَحَدُهَا مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَثُومِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي هُوَ أَدْنى قَالَ: أَرْدَأُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً قَالَ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّهُ مِصْرُ فِرْعَوْنَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ الْأَعْمَشِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ الْجِزْيَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ قَالَ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، أَيْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: الْمَسْكَنَةُ: الْفَاقَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ قَالَ: اسْتَحَقُّوا الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: وَباؤُ قال: انقلبوا. وأخرج أبو داود والطيالسي وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْيَوْمِ تَقْتُلُ ثَلَاثَمِائَةِ نَبِيٍّ ثُمَّ يُقِيمُونَ سُوقَ بَقْلِهِمْ فِي آخِرِ النهار. [سورة البقرة (2) : آية 62] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ آمَنُوا: الْمُنَافِقُونَ، بِدَلَالَةِ جَعْلِهِمْ مُقْتَرِنِينَ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، أَيْ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ صَدَّقُوا النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَصَارُوا مِنْ جُمْلَةِ أَتْبَاعِهِ، وَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ حَالَ هَذِهِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَحَالَ مَنْ قَبْلَهَا مِنْ سَائِرِ الْمِلَلِ يَرْجِعُ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا اسْتَحَقَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرِ، وَمَنْ فَاتَهُ ذَلِكَ فَاتَهُ الْخَيْرُ كُلُّهُ وَالْأَجْرُ دِقُّهُ وَجِلُّهُ. وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هَاهُنَا هُوَ مَا بَيَّنَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» وَلَا يَتَّصِفُ بِهَذَا الْإِيمَانِ إِلَّا مَنْ دَخَلَ فِي الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَمَنْ لَمْ يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلَا بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَمَنْ آمَنَ بِهِمَا صَارَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا وَلَمْ يَبْقَ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا مَجُوسِيًّا. وَقَوْلُهُ: هادُوا مَعْنَاهُ صَارُوا يَهُودًا، قِيلَ هُوَ نِسْبَةٌ لَهُمْ إِلَى يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَقَلَبَتْهَا الْعَرَبُ دَالًا مُهْمَلَةً وَقِيلَ: مَعْنَى هَادُوا: تَابُوا لِتَوْبَتِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ «1» أَيْ تُبْنَا- وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ السُّكُونُ وَالْمُوَادَعَةُ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ مَعْنَاهُ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ. وَالنَّصَارَى: قَالَ سِيبَوَيْهِ: مُفْرَدُهُ نَصْرَانُ وَنَصْرَانَةُ كَنَدْمَانَ وَنَدْمَانَةَ، وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ

_ (1) . الأعراف: 156.

الشاعر: تراه إذا دار العشا متحنّفا ... وَيُضْحِي لَدَيْهِ وَهُوَ نَصْرَانُ شَامِسُ وَقَالَ الْآخَرُ: فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها ... كما أسجدت نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ قَالَ: وَلَكِنْ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا بِيَاءِ النَّسَبِ فَيُقَالُ: رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ وَامْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَاحِدُ النَّصَارَى نَصْرِيٌّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَنَصْرَانُ قَرْيَةٌ بِالشَّامِ تُنْسَبُ إِلَيْهَا النَّصَارَى، وَيُقَالُ نَاصِرَةُ، وَعَلَى هَذَا فَالْيَاءُ لِلنَّسَبِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ الْيَاءَ لِلْمُبَالَغَةِ كَالَّتِي فِي أحمريّ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح. والصابئين: جمع صابئ، وَقِيلَ: صَابٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْقُرَّاءُ فَهَمَزُوهُ جَمِيعًا إِلَّا نَافِعًا، فَمَنْ هَمَزَهُ جَعَلَهُ مِنْ صَبَأَتِ النُّجُومُ: إِذَا طَلَعَتْ، وَصَبَأَتْ ثَنِيَّةُ الْغُلَامِ: إِذَا خَرَجَتْ. وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْهُ جَعَلَهُ مِنْ صَبَا يَصْبُو: إِذَا مَالَ وَالصَّابِئُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ خَرَجَ وَمَالَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ أَسْلَمَ قَدْ صَبَأَ، وَسَمَّوْا هَذِهِ الْفِرْقَةَ صَابِئَةً، لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ. وَقَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَمَا بَعْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِيمَانِ، وَيَكُونُ خَبَرُ إِنَّ قَوْلَهُ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ وَهُمَا جَمِيعًا خَبَرُ إِنَّ، وَالْعَائِدُ مُقَدَّرٌ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى: أَيْ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَلْمَانَ قال: سألت النبيّ عَنْ أَهْلِ دِينٍ كُنْتُ مَعَهُمْ فَذَكَرْتُ مِنْ صَلَاتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي ذِكْرِ السَّبَبِ بِنَحْوِ مَا سَبَقَ، وَحَكَى قِصَّةً طَوِيلَةً. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَهُودَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قال: نحن أعلم من أين سميت اليهودية؟ مِنْ كَلِمَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ وَلِمَ تَسَمَّتِ النَّصَارَى بِالنَّصْرَانِيَّةِ؟ مِنْ كَلِمَةِ عيسى عليه السلام: كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ نَحْوَهُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: إِنَّمَا تَسَمَّوْا نَصَارَى بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ النَّصَارَى لِأَنَّ قَرْيَةَ عِيسَى كَانَتْ تُسَمَّى نَاصِرَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الصَّابِئُونَ: فِرْقَةٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسِ لَيْسَ لَهُمْ دِينٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ الصَّابِئِينَ غَيْرُ هَذَا.

_ (1) . آل عمران: 85.

[سورة البقرة (2) : الآيات 63 إلى 66]

[سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 66] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذْنا هُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِعَامِلٍ مُقَدَّرٍ هُوَ اذْكُرُوا، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمِيثَاقِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَخَذَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، بِأَنْ يَعْمَلُوا بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَبِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَخَصُّ. وَالطُّورُ اسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ فِيهِ وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ جَبَلٍ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْأَلْوَاحِ قَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَالْتَزِمُوهَا، فَقَالُوا: لَا إِلَّا أَنْ يُكَلِّمَنَا اللَّهُ بِهَا كَمَا كَلَّمَكَ، فَصُعِقُوا ثُمَّ أُحْيُوا، فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَالْتَزِمُوهَا، فَقَالُوا: لَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ فَاقْتَلَعَتْ جَبَلًا مِنْ جِبَالِ فِلَسْطِينَ طُولُهُ فَرْسَخٌ فِي مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ عَسْكَرُهُمْ، فَجُعِلَ عَلَيْهِمْ مِثْلَ الظُّلَّةِ، وَأُتُوا بِبَحْرٍ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَنَارٍ مِنْ قِبَلِ وُجُوهِهِمْ، وَقِيلَ: لَهُمْ خُذُوهَا وَعَلَيْكُمُ الْمِيثَاقُ أَنْ لَا تُضَيِّعُوهَا، وَإِلَّا سَقَطَ عَلَيْكُمُ الْجَبَلُ، فَسَجَدُوا تَوْبَةً لِلَّهِ وَأَخَذُوا التَّوْرَاةَ بِالْمِيثَاقِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: لَوْ أَخَذُوهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي لَا يَصِحُّ سِوَاهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَرَعَ وَقْتَ سُجُودِهِمُ الْإِيمَانَ «1» ، لَا أَنَّهُمْ آمَنُوا كُرْهًا وَقُلُوبُهُمْ غَيْرُ مطمئنة. انتهى. وهذا تكلف ساقط حمله عليه الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَا قَدِ ارْتَسَمَ لَدَيْهِ مِنْ قَوَاعِدَ مَذْهَبِيَّةٍ قَدْ سَكَنَ قَلْبُهُ إِلَيْهَا كَغَيْرِهِ، وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا سَبَبَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِكْرَاهِ أَقْوَى مِنْ هَذَا أَوْ أَشَدُّ مِنْهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: أَكْرَهَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ فَآمَنُوا مُكْرَهِينَ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بِهَذَا الْإِيمَانِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا ثَبَتَ فِي شَرْعِنَا مِنْ رَفْعِ السَّيْفِ عَنْ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَالسَّيْفُ مُصَلَّتٌ قَدْ هَزَّهُ حَامِلُهُ عَلَى رَأْسِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ قَتَلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ مُعْتَذِرًا عَنْ قَتْلِهِ بِأَنَّهُ قَالَهَا تَقِيَّةً وَلَمْ تَكُنْ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ: «أَأَنْتَ فَتَّشْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟» . وَقَالَ: «لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ» وَقَوْلُهُ: خُذُوا أَيْ وَقُلْنَا لَكُمْ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَالْقُوَّةُ: الْجِدُّ والاجتهاد. والمراد: ب (ذكر ما فيه) : من أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا عِنْدَهُمْ لِيَعْمَلُوا بِهِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أَصْلُ التَّوَلِّي الْإِدْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ وَالْإِعْرَاضُ بِالْجِسْمِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأُمُورِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ اتِّسَاعًا وَمَجَازًا، وَالْمُرَادُ هُنَا: إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ مِنْ بَعْدِ الْبُرْهَانِ لَهُمْ، وَالتَّرْهِيبِ بِأَشَدِّ مَا يَكُونُ وَأَعْظَمُ مَا تُجَوِّزُهُ الْعُقُولُ وَتُقَدِّرُهُ الْأَفْهَامُ، وَهُوَ رَفْعُ الْجَبَلِ فَوْقَ رؤوسهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِأَنْ تَدَارَكَكُمْ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ حَتَّى أَظْهَرْتُمُ التَّوْبَةَ لَخَسِرْتُمْ. وَالْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ في المجمل: الفضل: الزيادة والخير، والإفضال:

_ (1) . في تفسير ابن عطية زيادة هنا هي: (في قلوبهم) .

الْإِحْسَانُ. انْتَهَى. وَالْخُسْرَانُ: النُّقْصَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَالسَّبْتُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْقَطْعُ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تَمَّتْ فِيهِ وَانْقَطَعَ الْعَمَلُ وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّبُوتِ، وَهُوَ الرَّاحَةُ وَالدَّعَةُ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: السَّبْتُ: مَصْدَرُ سَبَتَتِ الْيَهُودُ، إِذَا عَظَّمَتْ يَوْمَ السَّبْتِ. انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْيَهُودَ افْتَرَقَتْ فِرْقَتَيْنِ: فَفِرْقَةٌ اعْتَدَتْ فِي السَّبْتِ: أَيْ جَاوَزَتْ مَا أَمَرَهَا اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِ فَصَادُوا السَّمَكَ الَّذِي نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ صَيْدِهِ فِيهِ وَالْفِرْقَةُ الْأُخْرَى انْقَسَمَتْ إِلَى فِرْقَتَيْنِ: فَفِرْقَةٌ جَاهَرَتْ بِالنَّهْيِ وَاعْتَزَلَتْ وَفِرْقَةٌ لَمْ تُوَافِقِ الْمُعْتَدِينَ وَلَا صَادُوا مَعَهُمْ لَكِنَّهُمْ جَالَسُوهُمْ وَلَمْ يُجَاهِرُوهُمْ بِالنَّهْيِ وَلَا اعْتَزَلُوا عَنْهُمْ فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا وَلَمْ تَنْجُ إِلَّا الْفِرْقَةُ الْأُولَى فَقَطْ، وَهَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمِحَنِ الَّتِي امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَالَغُوا فِي الْعَجْرَفَةِ وَعَانَدُوا أَنْبِيَاءَهُمْ، وَمَا زَالُوا فِي كُلِّ مَوْطِنٍ يُظْهِرُونَ مِنْ حَمَاقَاتِهِمْ وَسُخْفِ عُقُولِهِمْ وتعنتهم نوعا من أنواع التعسف، وشعبة مِنْ شُعَبِ التَّكَلُّفِ فَإِنَّ الْحِيتَانَ كَانَتْ فِي يَوْمِ السَّبْتِ كَمَا وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ «1» فَاحْتَالُوا لِصَيْدِهَا، وَحَفَرُوا الْحَفَائِرَ وَشَقُّوا الْجَدَاوِلَ، فَكَانَتِ الْحِيتَانُ تَدْخُلُهَا يَوْمَ السَّبْتِ فَيَصِيدُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَذِهِ الْحِيلَةِ الْبَاطِلَةِ. وَالْخَاسِئُ: الْمُبْعَدُ، يُقَالُ: خَسَأْتُهُ فَخَسَأَ وَخُسِئَ وَانْخَسَأَ: أَبْعَدْتُهُ فَبَعُدَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً «2» أَيْ مبعدا. وقوله: اخْسَؤُا فِيها «3» أَيْ تَبَاعَدُوا تَبَاعُدَ سُخْطٍ، وَيَكُونُ الْخَاسِئُ بمعنى الصاغر. والمراد هنا. كونوا [جامعين] «4» بين المصير إلى أشكال القردة مع كونكم مطرودين صاغرين، فقردة خبر الكون. وخاسئين خَبَرٌ آخَرُ وَقِيلَ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِقِرَدَةٍ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَاخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَجَعَلْناها وَفِي قَوْلِهِ: لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها فَقِيلَ: الْعُقُوبَةُ، وَقِيلَ: الْأُمَّةُ، وَقِيلَ: الْقَرْيَةُ، وَقِيلَ: الْقِرَدَةُ، وَقِيلَ: الْحِيتَانُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَالنَّكَالُ: الزَّجْرُ وَالْعِقَابُ، وَالنِّكْلُ: الْقَيْدُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ وَيُقَالُ لِلِجَامِ الدَّابَّةِ: نِكْلٌ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهَا، وَالْمَوْعِظَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الِاتِّعَاظِ وَالِانْزِجَارِ، وَالْوَعْظُ: التَّخْوِيفُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْوَعْظُ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الطُّورُ: الْجَبَلُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَسْفَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الطُّورُ مَا أَنْبَتَ مِنَ الْجِبَالِ، وَمَا لَمْ يُنْبِتْ فَلَيْسَ بِطُورٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ قال: أي بجد. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ قَالَ: اقْرَءُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَاعْمَلُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَنْزِعُونَ عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عنه قال: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ أي عرفتم الَّذِينَ اعْتَدَوْا يَقُولُ: اجْتَرَءُوا فِي السَّبْتِ بِصَيْدِ السَّمَكِ، فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً بِمَعْصِيَتِهِمْ، وَلَمْ يَعِشْ مَسِيخٌ قَطُّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَنْسِلْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ مِنْ نَسْلِ الَّذِينَ مُسِخُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: انْقَطَعَ ذَلِكَ النَّسْلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ

_ (1) . الأعراف: 163. (2) . الملك: 4. (3) . المؤمنون: 108. (4) . من الكشاف 1/ 286. [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 67 إلى 71]

لَهُمْ كَقَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أُحِلَّتْ لَهُمُ الْحِيتَانُ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ فَكَانَ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَارَ شَبَابُ الْقَوْمِ قِرَدَةً، وَالْمَشْيَخَةُ صَارُوا خَنَازِيرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خاسِئِينَ قَالَ: ذَلِيلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: خاسِئِينَ قَالَ: صَاغِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها مِنَ الْقُرَى وَما خَلْفَها مِنَ الْقُرَى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فَجَعَلْناها يَعْنِي الْحِيتَانَ نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي عَمِلُوا قَبْلُ وَبَعْدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فَجَعَلْناها قَالَ: جَعَلْنَا تِلْكَ الْعُقُوبَةَ وَهِيَ الْمِسْخَةُ نَكالًا عُقُوبَةً لِما بَيْنَ يَدَيْها يَقُولُ: لِيَحْذَرَ مَنْ بَعْدَهُمْ عُقُوبَتِي وَما خَلْفَها يَقُولُ: لِلَّذِينِ كَانُوا معهم وَمَوْعِظَةً قال: تذكرة وعبرة للمتقين. [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 71] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) قِيلَ: إِنَّ قِصَّةَ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمَذْكُورَةَ هُنَا مُقَدَّمٌ فِي التِّلَاوَةِ وَمُؤَخَّرٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قَتَلْتُمْ مُقَدَّمًا فِي النُّزُولِ، وَيَكُونَ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ مُؤَخَّرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ نُزُولِهَا عَلَى حَسَبِ تِلَاوَتِهَا، فَكَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ حَتَّى ذبحوها، ثم وقع ما وَقَعَ مِنْ أَمْرِ الْقَتْلِ فَأُمِرُوا أَنْ يَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا هَذَا عَلَى فَرْضِ أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ مِنْ دُونِ تَرْتِيبٍ وَلَا مَعِيَّةٍ، وَسَيَأْتِي فِي قِصَّةِ الْقَتْلِ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَالْبَقَرَةُ: اسْمٌ لِلْأُنْثَى، وَيُقَالُ لِلذَّكَرِ: ثَوْرٌ وَقِيلَ إِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَيْهِمَا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَقْرِ وَهُوَ الشَّقُّ لِأَنَّهَا تَشُقُّ الْأَرْضَ بِالْحَرْثِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْبَقَرُ اسْمُ جِنْسٍ، وَجَمْعُهُ بَاقِرٌ. وَقَدْ قَرَأَ عِكْرِمَةُ ويحيى بن يعمر: إنّ الباقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَقَوْلُهُ: هُزُواً الْهُزُوُ هُنَا: اللَّعِبُ وَالسُّخْرِيَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ أَهْلُ الْجَهْلِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْعَبَثِ الَّذِي لَا يَفْعَلُهُ الْعُقَلَاءُ، وَلِهَذَا أَجَابَهُمْ مُوسَى بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْجَهْلِ. وَقَوْلُهُ: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ هَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ تَعَنُّتِهِمُ الْمَأْلُوفَةِ، فَقَدْ كَانُوا يَسْلُكُونَ هَذِهِ الْمَسَالِكَ فِي غَالِبِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَوْ تَرَكُوا التعنت وَالْأَسْئِلَةَ الْمُتَكَلَّفَةَ لَأَجْزَأَهُمْ ذَبْحُ بِقَرَةٍ مِنْ عَرَضِ الْبَقَرِ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَالْفَارِضُ: الْمُسِنَّةُ،

وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْوَاسِعُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ فَارِضًا لِأَنَّهَا فَرَضَتْ سِنَّهَا: أَيْ قَطَعَتْهَا وَبَلَغَتْ آخِرَهَا. انْتَهَى. وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الْقَدِيمِ: فَارِضٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: يَا رَبِّ ذِي ضغن عليّ فارض ... له قروء كقروء الْحَائِضِ أَيْ قَدِيمٌ وَقِيلَ الْفَارِضُ: الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ بُطُونًا كَثِيرَةً فَيَتَّسِعُ جَوْفُهَا. وَالْبِكْرُ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَحْمَلْ، وَتُطْلَقُ فِي إِنَاثِ الْبَهَائِمِ وَبَنِي آدَمَ عَلَى مَا لَمْ يَفْتَحِلْهُ الْفَحْلُ، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْأَوَّلِ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَمِنْهُ قول الراجز: يا بكر بكرين ويا خلب الْكَبِدِ ... أَصْبَحْتَ مِنِّي كَذِرِاعٍ مِنْ عَضُدِ وَالْعَوَانُ: الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ سِنِيِّ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، وَهِيَ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ بَطْنًا أَوْ بَطْنَيْنِ وَيُقَالُ هِيَ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: بَيْنَ ذلِكَ إِلَى الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَتَا مُؤَنَّثَتَيْنِ فَقَدْ أُشِيرَ إِلَيْهِمَا بِمَا هُوَ لِلْمُذَكَّرِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَيْنَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ وَجَازَ دُخُولُ بَيْنَ الْمُقْتَضِيَةِ لشيئين [على المفرد] «1» لِأَنَّ الْمَذْكُورَ مُتَعَدِّدٌ. وَقَوْلُهُ: فَافْعَلُوا تَجْدِيدٌ لِلْأَمْرِ، وَتَأْكِيدٌ لَهُ، وَزَجْرٌ لَهُمْ عَنِ التَّعَنُّتِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ وَلَا نَجَعَ فِيهِمْ، بَلْ رَجَعُوا إِلَى طَبِيعَتِهِمْ، وَعَادُوا إِلَى مَكْرِهِمْ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى عادتهم المألوفة، ف قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ. وَاللَّوْنُ: وَاحِدُ الْأَلْوَانِ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ جَمِيعُهَا صَفْرَاءَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: حَتَّى قَرْنُهَا وَظِلْفُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهَا كَانَتْ صَفْرَاءَ الْقَرْنِ وَالظِّلْفِ فَقَطْ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَالْمُرَادُ بِالصُّفْرَةِ هُنَا الصُّفْرَةُ الْمَعْرُوفَةُ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ صَفْرَاءَ مَعْنَاهُ سَوْدَاءُ، وَهَذَا مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ وَمُنْكَرَاتِهَا، وَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يَصْدُقُ عَلَى اللَّوْنِ الْأَسْوَدِ الَّذِي هُوَ أَقْبَحُ الْأَلْوَانِ أَنَّهُ يَسُرُّ النَّاظِرِينَ، وَكَيْفَ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْفُقُوعِ الَّذِي يَعْلَمُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ لُغَةَ الْعَرَبِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى الْأَسْوَدِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي وَصْفِ الْأَسْوَدِ: حَالِكٌ وَحَلْكُوكٌ وَدَجُوجِيٌّ وَغِرْبِيبٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ فَقَعَ لَوْنُهَا يَفْقَعُ فُقُوعًا: إِذَا خَلَصَتْ صُفْرَتُهُ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْفُقُوعُ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الصُّفْرَةِ وَأَنْصَعُهُ. وَمَعْنَى تَسُرُّ النَّاظِرِينَ تُدْخِلُ عَلَيْهِمُ السُّرُورَ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهَا إِعْجَابًا بِهَا وَاسْتِحْسَانًا لِلَوْنِهَا. قَالَ وَهْبٌ: كَانَتْ كَأَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا، ثُمَّ لَمْ يَنْزِعُوا عَنْ غِوَايَتِهِمْ وَلَا ارْعَوَوْا مِنْ سَفَهِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، بَلْ عَادُوا إِلَى تَعَنُّتِهِمْ فقال: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا أَيْ أَنَّ جِنْسَ الْبَقَرِ يَتَشَابَهُ عَلَيْهِمْ لِكَثْرَةِ مَا يَتَّصِفُ مِنْهَا بِالْعَوَانِ الصَّفْرَاءِ الْفَاقِعَةِ، وَوَعَدُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِاهْتِدَاءِ إِلَى مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَالِامْتِثَالِ لِمَا أُمِرُوا به. لا ذَلُولٌ الَّتِي لَمْ يُذَلِّلْهَا الْعَمَلُ: أَيْ هِيَ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ بِالْعَمَلِ وَلَا رَيِّضَةٍ بِهِ. وَقَوْلُهُ: تُثِيرُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الصِّفَةِ لِبَقَرَةٍ: أَيْ هِيَ بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ لِأَنَّهُ وَصْفٌ لَهَا: أَيْ لَيْسَتْ مِنَ النَّوَاضِحِ الَّتِي يُسْنَى عَلَيْهَا لِسَقْيِ الزُّرُوعِ، وَحَرْفُ النَّفْيِ الْآخَرُ تَوْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ: أَيْ هِيَ بَقَرَةٌ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ بِالْحَرْثِ وَلَا بِالنَّضْحِ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: كَانَتِ البقرة

_ (1) . ما بين حاصرتين: زيادة يقتضيها السياق.

وَحْشِيَّةً. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ قَوْلَهُ: تُثِيرُ فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَالْمَعْنَى: إِيجَابُ الْحَرْثِ لَهَا وَالنَّضْحِ بِهَا. وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُثِيرَةً سَاقِيَةً لَكَانَتْ مُذَلَّلَةً رَيِّضَةً، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهَا. وَقَوْلُهُ: مُسَلَّمَةٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أوصاف البقرة، ويجوز أن يكون مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هِيَ مُسَلَّمَةٌ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ، وَالْمُسَلَّمَةُ: هِيَ الَّتِي لَا عَيْبَ فِيهَا وَقِيلَ مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعَمَلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ نَفَى ذَلِكَ عَنْهَا، وَالتَّأْسِيسُ خَيْرٌ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَالْإِفَادَةُ أَوْلَى مِنَ الْإِعَادَةِ. وَالشِّيَةُ أَصْلُهَا وَشِيَةٌ، حُذِفَتِ الْوَاوُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ يَشِي، وَأَصْلُهُ يَوْشِي، وَنَظِيرُهُ الزِّنَةُ وَالْعِدَةُ وَالصِّلَةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَشِيَ الثَّوْبُ: إِذَا نُسِجَ عَلَى لَوْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَثَوْرٌ مُوَشًّى: فِي وجهه وقوائمه سواد. وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَةَ خَالِصَةُ الصُّفْرَةِ لَيْسَ فِي جِسْمِهَا لَمْعَةٌ مِنْ لَوْنٍ آخَرَ. فَلَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْأَوْصَافَ الَّتِي لَا يَبْقَى بَعْدَهَا رَيْبٌ وَلَا يُخَالِجُ سَامِعَهَا شَكٌّ، وَلَا تَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، أَقْصَرُوا مِنْ غِوَايَتِهِمْ، وانتبهوا من رقدتهم وعرفوا بمقدار مَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ تَعَنُّتُهُمْ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أَيْ أَوْضَحْتَ لَنَا الْوَصْفَ، وَبَيَّنْتَ لَنَا الْحَقِيقَةَ الَّتِي يَجِبُ الْوُقُوفُ عندها، فحصلوا على تِلْكَ الْبَقَرَةَ الْمَوْصُوفَةَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَذَبَحُوها وَامْتَثَلُوا الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ يُسْرًا فَعَسَّرُوهُ، وَكَانَ وَاسِعًا فَضَيَّقُوهُ وَما كادُوا يَفْعَلُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ التَّثَبُّطِ وَالتَّعَنُّتِ وَعَدَمِ الْمُبَادَرَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةً لِلِاسْتِبْعَادِ، وَمَحَلًّا لِلْمَجِيءِ بِعِبَارَةٍ مُشْعِرَةٍ بِالتَّثَبُّطِ الْكَائِنِ مِنْهُمْ، وَقِيلَ إِنَّهُمْ مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ لِعَدَمِ وِجْدَانِ الْبَقَرَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَقِيلَ لِارْتِفَاعِ ثَمَنِهَا، وَقِيلَ لِخَوْفِ انْكِشَافِ أَمْرِ الْمَقْتُولِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ إِمْكَانِ الْفِعْلِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي بِصَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْمَزِيدَةَ بِسَبَبِ تَكَرُّرِ السُّؤَالِ هِيَ مِنْ بَابِ التَّقْيِيدِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ، وَبَيْنَ الْبَابَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. الثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ لَا مِنْ بَابِ التَّقْيِيدِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالُوهُ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ بَعْدَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَنْ يَعْمِدُوا إِلَى بَقَرَةٍ مِنْ عَرَضِ الْبَقَرِ فَيَذْبَحُوهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ بَعْدَ الْوَصْفِ بِكَوْنِهَا جَامِعَةً بَيْنَ الْوَصْفِ بِالْعَوَانِ وَالصَّفْرَاءِ، وَلَا دليل يدل على هَذِهِ الْمُحَاوَرَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاقِعَةٌ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطؤون عَلَيْهَا، وَيُدِيرُونَ الرَّأْيَ بَيْنَهُمْ فِي أَمْرِهَا ثُمَّ يُورِدُونَهَا، وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ الِاحْتِمَالُ الْقَادِحُ فِي الِاسْتِدْلَالِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ وَكَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ ابْنُ أَخِيهِ وَارِثَهُ، فَقَتَلَهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ لَيْلًا فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَدَّعِيهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَسَلَّحُوا، وَرَكِبَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ ذُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: عَلَامَ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ فِيكُمْ؟ فَأَتَوْا مُوسَى فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً الآية، قال: فَلَوْ لَمْ يَعْتَرِضُوا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ أَدْنَى بَقَرَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا، فَوَجَدُوهَا عِنْدَ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ بَقَرَةٌ غَيْرُهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 72 إلى 74]

لَا أَنْقُصُهَا مِنْ مَلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا، فَأَخَذُوهَا بِمَلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا، فَذَبَحُوهَا فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا، فَقَامَ، فَقَالُوا: مَنْ قَتَلَكَ؟ فَقَالَ: هَذَا، لِابْنِ أَخِيهِ، ثُمَّ مَالَ مَيِّتًا، فَلَمْ يُعْطَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، وَلَمْ يُورَّثْ قَاتِلٌ بَعْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ «مَنْ عَاشَ بَعْدَ الْمَوْتِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْقَتِيلَ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ وَأَنَّ الْبَقَرَةَ كَانَتْ لِرَجُلٍ كَانَ يَبِرُّ أَبَاهُ فَاشْتَرَوْهَا بِوَزْنِهَا ذَهَبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا قَصَصٌ مُخْتَلِفَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلُ لَوْ أَخَذُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ لَأَجْزَأَهُمْ أَوْ لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ مَا أُعْطَوْا أَبَدًا، وَلَوْ أَنَّهُمُ اعْتَرَضُوا بَقَرَةً مِنَ الْبَقَرِ فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ يَرْفَعُهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ يَرْفَعُهُ أَيْضًا، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مُرْسَلَةٌ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْفَارِضُ: الْهَرِمَةُ، وَالْبِكْرُ: الصَّغِيرَةُ، وَالْعَوَانُ: النِّصْفُ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ قَالَ: بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَهِيَ أَقْوَى مَا يَكُونُ وَأَحْسَنُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها قَالَ: شَدِيدَةُ الصُّفْرَةِ تَكَادُ مِنْ صُفْرَتِهَا تَبْيَضُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: صَفْراءُ قَالَ: صَفْرَاءُ الظِّلْفِ فاقِعٌ لَوْنُها قَالَ: صافي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: فاقِعٌ لَوْنُها أَيْ صَافٍ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ أَيْ تُعْجِبُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها قَالَ: سَوْدَاءُ شَدِيدَةُ السَّوَادِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا ذَلُولٌ أَيْ لَمْ يَذِلَّهَا الْعَمَلُ تُثِيرُ الْأَرْضَ يَعْنِي ليس بِذَلُولٍ فَتُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ يَقُولُ: وَلَا تَعْمَلُ فِي الْحَرْثِ مُسَلَّمَةٌ قَالَ: مِنَ الْعُيُوبِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ: لَا شِيَةَ فِيها لَا بَيَاضَ فِيهَا وَلَا سَوَادَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُسَلَّمَةٌ لَا عَوَارَ فِيهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: قالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ قَالُوا: الْآنَ بَيَّنْتَ لَنَا: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ لِغَلَاءِ ثَمَنِهَا. [سورة البقرة (2) : الآيات 72 الى 74] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

قَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِصَّةِ ذَبْحِ البقرة، فيكون تقدير الكلام: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً إِلَى آخَرِ الْقِصَّةِ، وَبَعْدَهَا: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها الْآيَةَ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: اعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ الْقَتْلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لِأَمْرِهِ تَعَالَى بِالذَّبْحِ، فَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ الْقَتْلِ، وَعَنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ، فَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْقِصَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً فِي التِّلَاوَةِ عَلَى الْأُولَى خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي نَفْسِهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأُولَى فِي الْوُجُودِ، فَأَمَّا التَّقَدُّمُ فِي الذِّكْرِ فَغَيْرُ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ تَارَةً يُقَدَّمُ ذِكْرُ السَّبَبِ عَلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ، وَأُخْرَى عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا وَقَعَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا ذَبَحُوهَا قَالَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا مِنْ قَبْلُ، وَنَسَبَ الْقَتْلَ إِلَيْهِمْ بِكَوْنِ الْقَاتِلِ مِنْهُمْ، وَأَصْلُ ادَّارَأْتُمْ تَدَارَأْتُمْ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ، وَلَمَّا كَانَ الِابْتِدَاءُ بِالْمُدْغَمِ السَّاكِنِ لَا يَجُوزُ زَادُوا أَلِفَ الْوَصْلِ وَمَعْنَى ادَّارَأْتُمْ: اخْتَلَفْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ، لِأَنَّ الْمُتَنَازِعِينَ يَدْرَأُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: أَيْ يَدْفَعُهُ، وَمَعْنَى مُخْرِجٌ مُظْهِرٌ: أَيْ مَا كَتَمْتُمْ بَيْنَكُمْ مِنْ أَمْرِ الْقَتْلِ فَاللَّهُ مُظْهِرُهُ لِعِبَادِهِ وَمُبَيِّنُهُ لَهُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ: أَيْ فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا فَقُلْنَا. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْبَعْضِ الَّذِي أُمِرُوا بِأَنْ يَضْرِبُوا الْقَتِيلَ بِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَكْفِينَا أَنْ نَقُولَ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ يَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، فَأَيَّ بَعْضٍ ضَرَبُوا بِهِ فَقَدْ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ فُضُولِ الْعِلْمِ إِذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ بُرْهَانٌ. قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها فأحياه الله كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى أَيْ إِحْيَاءٌ كَمِثْلِ هَذَا الْإِحْيَاءِ. وَيُرِيكُمْ آياتِهِ أَيْ عَلَامَاتِهِ وَدَلَائِلَهُ الدَّالَّةَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِمَنْ حَضَرَ الْقِصَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمَوْجُودِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَالْقَسْوَةُ: الصَّلَابَةُ وَالْيُبْسُ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ خُلُوِّهَا مِنَ الْإِنَابَةِ وَالْإِذْعَانِ لِآيَاتِ اللَّهِ مَعَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي خِلَافَ هَذِهِ الْقَسْوَةِ مِنْ إِحْيَاءِ الْقَتِيلِ وَتَكَلُّمِهِ وَتَعْيِينِهِ لِقَاتِلِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلِينِ الْقُلُوبِ وَرِقَّتِهَا. قِيلَ: أَوْ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آثِماً أَوْ كَفُوراً «1» وَقِيلَ هِيَ بِمَعْنَى بَلْ، وَعَلَى أَنَّ «أَوْ» عَلَى أَصْلِهَا أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَالْعَطْفُ عَلَى قَوْلِهِ: كَالْحِجارَةِ أَيْ هَذِهِ الْقُلُوبُ هِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنْهَا، فَشَبِّهُوهَا بِأَيِّ الْأَمْرَيْنِ شِئْتُمْ فَإِنَّكُمْ مُصِيبُونَ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ. وَقَدْ أَجَابَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ وُقُوعِ «أَوْ» هَاهُنَا مَعَ كَوْنِهَا للترديد- وهو لَا يَلِيقُ لِعَلَّامِ الْغُيُوبِ- بِثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ. وَإِنَّمَا توصل إلى أفعل التفضيل بأشدّ مَعَ كَوْنِهِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ وَأَقْسَى مِنَ الْحِجَارَةِ، لِكَوْنِهِ أَبْيَنَ وَأَدَلَّ عَلَى فَرْطِ الْقَسْوَةِ، كَمَا قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «أَوْ أَشَدَّ» بِنَصْبِ الدَّالِ، وَكَأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى الْحِجَارَةِ، فَيَكُونُ أَشَدُّ مَجْرُورًا بِالْفَتْحَةِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ إِلَى آخِرِهِ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ بَيَانٌ لِفَضْلِ قُلُوبِهِمْ عَلَى الْحِجَارَةِ فِي شِدَّةِ الْقَسْوَةِ وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ مَجِيءَ الْبَيَانِ بِالْوَاوِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَلَا مَأْلُوفٍ، وَالْأَوْلَى جَعْلُ مَا بَعْدَ الْوَاوِ تَذْيِيلًا أَوْ حَالًا. التَّفَجُّرُ: التَّفَتُّحُ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ. وَأَصْلُ يَشَّقَّقُ يَتَشَقَّقُ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الشين،

_ (1) . الإنسان: 24.

وَقَدْ قَرَأَ الْأَعْمَشُ يَتَشَقَّقُ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ يَنْشَقُّ بِالنُّونِ، وَالشَّقُّ: وَاحِدُ الشُّقُوقِ، وَهُوَ يَكُونُ بِالطُّولِ أَوْ بِالْعَرْضِ، بِخِلَافِ الِانْفِجَارِ، فَهُوَ الِانْفِتَاحُ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مَعَ اتِّسَاعِ الْخَرْقِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنَ الْحِجَارَةِ مِنْ مَوَاضِعِ الِانْفِجَارِ وَالِانْشِقَاقِ، وَمِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَهْبِطُ: أَيْ يَنْحَطُّ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إِلَى أَسْفَلَ مِنْهُ مِنَ الْخَشْيَةِ لِلَّهِ الَّتِي تُدَاخِلُهُ وَتَحِلُّ بِهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْهُبُوطَ مَجَازٌ عَنِ الْخُشُوعِ مِنْهَا، وَالتَّوَاضُعِ الْكَائِنِ فِيهَا انْقِيَادًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «1» وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ فِرْقَةٍ: أَنَّ الْخَشْيَةَ لِلْحِجَارَةِ مُسْتَعَارَةٌ كَمَا اسْتُعِيرَتِ الْإِرَادَةُ لِلْجِدَارِ «2» ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ وَذَكَرَ الْجَاحِظُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْها رَاجِعٌ إِلَى الْقُلُوبِ لَا إِلَى الْحِجَارَةِ، وَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْ سِيَاقِ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ قُلُوبَ هَؤُلَاءِ بَلَغَتْ فِي الْقَسْوَةِ وَفَرْطِ الْيُبْسِ الْمُوجِبَيْنِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْحَقِّ وَالتَّأَثُّرِ لِلْمَوَاعِظِ إِلَى مَكَانٍ لَمْ تَبْلُغْ إِلَيْهِ الْحِجَارَةُ، الَّتِي هِيَ أَشَدُّ الْأَجْسَامِ صَلَابَةً وَأَعْظَمُهَا صَلَادَةً، فَإِنَّهَا ترجع إلى نوع من اللين، وهي تَفَجُّرُهَا بِالْمَاءِ وَتَشَقُّقُهَا عَنْهُ وَقَبُولُهَا لِمَا تُوجِبُهُ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالِانْقِيَادِ بِخِلَافِ تِلْكَ الْقُلُوبِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ مِنَ التَّهْدِيدِ وَتَشْدِيدِ الْوَعِيدِ مَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَا يَعْمَلُونَهُ مُطَّلِعًا عَلَيْهِ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْهُ كَانَ لِمُجَازَاتِهِمْ بِالْمِرْصَادِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ قَالَ: اخْتَلَفْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قَالَ: مَا تُغَيِّبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: مَا عَمِلَ رَجُلٌ حَسَنَةً فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ، وَمَا عَمِلَ رِجْلٌ سَيِّئَةً فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ إِلَّا أظهرها، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ عَمَلًا فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَا بَابَ لَهَا وَلَا كُوَّةَ خَرَجَ عَمَلُهُ إِلَى النَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ» وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ سَرِيرَةٌ صَالِحَةٌ أَوْ سَيِّئَةٌ أَظْهَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا رِدَاءً يُعْرَفُ بِهِ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِنَحْوِهِ مِنْ قَوْلِ عُثْمَانَ قَالَ: وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا حَدِيثًا طَوِيلًا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ يُلْبِسُ كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ حَتَّى يَتَحَدَّثَ بِهِ النَّاسُ وَيَزِيدُونَ، وَلَوْ عَمِلَهُ فِي جَوْفِ بَيْتٍ إِلَى سَبْعِينَ بَيْتًا عَلَى كُلِّ بَيْتٍ بَابٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللَّهَ مُرْدٍ كُلَّ امْرِئٍ رِدَاءَ عَمَلِهِ» . وَلِجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَلِمَاتٌ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها قال: ضرب

_ (1) . الحشر: 21. (2) . في هذا إشارة إلى قوله تعالى في سورة الكهف [الآية: 77] : فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ....

[سورة البقرة (2) : الآيات 75 إلى 77]

بِالْعَظْمِ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُمْ ضَرَبُوهُ بِفَخِذِهَا. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ضُرِبَ بِالْبِضْعَةِ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قِصَّةً طَوِيلَةً فِي ذِكْرِ الْبَقَرَةِ وَصَاحِبِهَا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهَا، وَقَدِ اسْتَوْفَاهَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ قَالَ: مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاهُمُ اللَّهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَمِنْ بَعْدِ مَا أَرَاهُمْ مِنْ أَمْرِ الْقَتِيلِ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ثُمَّ عَذَرَ اللَّهُ الْحِجَارَةَ وَلَمْ يَعْذِرْ شَقِيَّ بَنِي آدَمَ فَقَالَ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: أي مِنَ الْحِجَارَةِ لَأَلْيَنَ مِنْ قُلُوبِكُمْ عَمَّا تُدْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الْحَجَرَ لَيَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ مَا استطاعوه، وإنّه ليهبط من خشية الله. [سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 77] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وقوله: أَفَتَطْمَعُونَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، كَأَنَّهُ آيَسَهُمْ مِنْ إِيمَانِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ مِنَ الْيَهُودِ. وَالْخِطَابُ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوله ولهم. ويُؤْمِنُوا لَكُمْ أَيْ لِأَجْلِكُمْ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ آمَنَ مَعْنَى اسْتَجَابَ: أَيْ أَتَطْمَعُونَ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ. وَالْفَرِيقُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لفظه. وكَلامَ اللَّهِ أَيِ التَّوْرَاةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ سَمِعُوا خِطَابَ اللَّهِ لِمُوسَى حِينَ كَلَّمَهُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْفَرِيقُ هُمُ السَبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: «كَلِمَ اللَّهِ» . وَالْمُرَادُ مِنَ التَّحْرِيفِ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى مَا سَمِعُوهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَجَعَلُوا حَلَالَهُ حَرَامًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مُوَافَقَةٌ لِأَهْوَائِهِمْ، كَتَحْرِيفِهِمْ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِسْقَاطِ الْحُدُودِ عَنْ أَشْرَافِهِمْ، أَوْ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ لِمُوسَى فَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَإِنْكَارٌ عَلَى مَنْ طَمِعَ فِي إِيمَانِهِمْ وَحَالُهُمْ هَذِهِ الْحَالُ: أَيْ وَلَهُمْ سَلَفٌ حَرَّفُوا كَلَامَ اللَّهِ وَغَيَّرُوا شَرَائِعَهُ وَهُمْ مُقْتَدُونَ بِهِمْ مُتَّبِعُونَ سَبِيلَهُمْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا فَهِمُوهُ بِعُقُولِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلُوهُ تَحْرِيفٌ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ شَرَائِعِهِ كَمَا هِيَ، فَهُمْ وَقَعُوا فِي الْمَعْصِيَةِ عَالِمِينَ بِهَا، وَذَلِكَ أَشَدُّ لِعُقُوبَتِهِمْ وَأَبْيَنُ لِضَلَالِهِمْ. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا يَعْنِي أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أَيْ إِذَا خَلَا الَّذِينَ لَمْ يُنَافِقُوا بِالْمُنَافِقِينَ قَالُوا لَهُمْ عَاتِبِينَ عَلَيْهِمْ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَيْ حكم عليكم من العذاب، وذلك أن ناسا مِنَ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا ثُمَّ نَافَقُوا، فَكَانُوا يُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِمَا عُذِّبَ بِهِ آبَاؤُهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ،

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى خَلَا. وَالْفَتْحُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ، وَالْفَتَّاحُ: الْقَاضِي بِلُغَةِ الْيَمَنِ، وَالْفَتْحُ: النَّصْرُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا «1» وَقَوْلُهُ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ «2» وَمِنَ الْأَوَّلِ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ «3» وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ «4» أَيِ الْحَاكِمِينَ، وَيَكُونُ الْفَتْحُ بِمَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالْمُحَاجَّةُ: إِبْرَازُ الْحُجَّةِ، أَيْ لَا تُخْبِرُوهُمْ بِمَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَذَابِ فَيَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً لَهُمْ عَلَيْكُمْ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ وَأَحَقُّ بِالْخَيْرِ مِنْهُ. وَالْحُجَّةُ، الْكَلَامُ الْمُسْتَقِيمُ، وَحَاجَجْتُ فُلَانًا فَحَجَجْتُهُ أَيْ غَلَبْتُهُ بِالْحُجَّةِ. أَفَلا تَعْقِلُونَ مَا فِيهِ الضَّرَرُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا التَّحَدُّثِ الْوَاقِعِ مِنْكُمْ لَهُمْ. ثُمَّ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِسْرَارِ وَأَنْوَاعِ الْإِعْلَانِ، وَمِنْ ذَلِكَ إِسْرَارُهُمُ الْكُفْرَ وَإِعْلَانُهُمُ الْإِيمَانَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُؤْيِسُهُمْ مِنْهُمْ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ وَلَيْسَ قَوْلُهُ: يَسْمَعُونَ التَّوْرَاةَ كُلُّهُمْ قَدْ سَمِعَهَا، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا مُوسَى رُؤْيَةَ رَبِّهِمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فِيهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ الْآيَةَ. قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ كانوا يسمعون كلام الله يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا سَمِعُوهُ وَوَعَوْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ الْآيَةَ، قَالَ: الَّذِينَ يُحَرِّفُونَهُ وَالَّذِينَ يَكْتُبُونَهُ هُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، وَالَّذِينَ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَهُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ قَالَ: هِيَ التَّوْرَاةُ حَرَّفُوهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا أَيْ: بِصَاحِبِكُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قَالُوا: لَا تُحَدِّثُوا الْعَرَبَ بِهَذَا فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَيْ تُقِرُّونَ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قَدْ أُخِذَ عَلَيْكُمُ الْمِيثَاقُ بِاتِّبَاعِهِ، وَهُوَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي كَانَ يُنْتَظَرُ، وَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا: اجْحَدُوهُ وَلَا تُقِرُّوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَقَوْلُهُ: بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يَعْنِي بِمَا أَكْرَمَكُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي نَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا، وَكَانُوا يُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِمَا عُذِّبُوا بِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَذَابِ لِتَقُولُوا نَحْنُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْكُمْ وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْنَا قَصَبَةَ الْمَدِينَةِ إِلَّا مُؤْمِنٌ، فَكَانَ الْيَهُودُ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ فَيَدْخُلُونَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمِهِمْ بِالْأَخْبَارِ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ لَهُمْ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ كَذَا وَكَذَا؟» فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ قالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لِقَوْمِ قُرَيْظَةَ تَحْتَ حُصُونِهِمْ فَقَالَ: يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَيَا عَبَدَةَ الطَّاغُوتِ، فَقَالُوا: مَنْ أَخْبَرَ هَذَا الْأَمْرَ مُحَمَّدًا؟ مَا خَرَجَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا مِنْكُمْ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» أي بما حكم الله ليكون

_ (1) . البقرة: 89. (2) . الأنفال: 19. (3) . سبأ: 26. (4) . الأعراف: 89.

[سورة البقرة (2) : الآيات 78 إلى 82]

لَهُمْ حُجَّةً عَلَيْكُمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ السَّبَبَ فِي نُزُولِ الْآيَةِ: «أنّ امرأة من اليهود أصابت فاحشة، فجاؤوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَغُونَ مِنْهُ الْحُكْمَ رَجَاءَ الرُّخْصَةِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَالِمَهُمْ وَهُوَ ابْنُ صُورِيَا فَقَالَ لَهُ: احْكُمْ ... قَالَ: فَجَبَوْهُ، وَالتَّجْبِيَةُ: يَحْمِلُونَهُ عَلَى حِمَارٍ وَيَجْعَلُونَ وَجْهَهُ إِلَى ذَنَبِ الْحِمَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبِحُكْمِ اللَّهِ حَكَمْتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ نِسَاءَنَا كُنَّ حِسَانًا فَأَسْرَعَ فِيهِنَّ رِجَالُنَا فَغَيَّرْنَا الْحُكْمَ، وَفِيهِ نَزَلَ: وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْآيَةَ» وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا فَصَانَعُوهُمْ بِذَلِكَ لِيَرْضَوْا عَنْهُمْ وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ نَهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَنْ يُحَدِّثُوا بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَقَالُوا: إِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ احْتَجُّوا بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ قَالَ: مَا يُعْلِنُونَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَكَلَامِهِمْ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا، وَمَا يُسِرُّونَ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنْ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبِهِمْ بِهِ وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ يَعْنِي مِنْ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِكَذِبِهِمْ، وَمَا يُعْلِنُونَ حِينَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا، وَقَدْ قَالَ بِمِثْلِ هذا جماعة من السلف. [سورة البقرة (2) : الآيات 78 الى 82] وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ أَيْ مِنَ الْيَهُودِ. وَالْأُمِّيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ الَّتِي هِيَ عَلَى أَصْلِ وِلَادَتِهَا مِنْ أُمَّهَاتِهَا لَمْ تَتَعَلَّمِ الْكِتَابَةَ وَلَا تُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ لِلْمَكْتُوبِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ «إِنَّا أُمَّةٌ أمية لا تكتب ولا تحسب» وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ أُمِّيُّونَ لِنُزُولِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ كَأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: هم نصارى العرب وقيل: هم قوم كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لذنوب ارتكبوها وَقِيلَ: هُمُ الْمَجُوسُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ. وَمَعْنَى لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ إِلَّا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمَانِيِّ الَّتِي يَتَمَنَّوْنَهَا وَيُعَلِّلُونَ بِهَا أَنْفُسَهُمْ. وَالْأَمَانِيُّ: جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ وَهِيَ مَا يَتَمَنَّاهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ، فَهَؤُلَاءِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ من كونهم لا يكتبون ولا يقرءون المكتوب، والاستثناء منقطع: أي لكن الأمانيّ ثابتة لهم مِنْ كَوْنِهِمْ مَغْفُورًا لَهُمْ بِمَا يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، أَوْ بِمَا لَهُمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَقِيلَ الْأَمَانِيُّ الْأَكَاذِيبُ كَمَا سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ عثمان بن

عَفَّانَ: مَا تَمَنَّيْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ: أَيْ مَا كَذَبْتُ، حَكَاهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقِيلَ: الْأَمَانِيُّ: التِّلَاوَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «1» أَيْ إِذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ، أَيْ لَا عِلْمَ لَهُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ مِنْ دُونِ تَفَهُّمٍ وَتَدَبُّرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ وَقَالَ آخَرُ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلَةٍ ... تَمَنِّي دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رُسْلِ وَقِيلَ: الْأَمَانِيُّ: التَّقْدِيرُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ: مُنِّيَ لَهُ: أَيْ قُدِّرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا تَأْمَنَنَّ وَإِنْ أَمْسَيْتَ فِي حَرَمٍ ... حَتَّى تُلَاقِيَ مَا يُمَنِّي لَكَ الْمَانِي أَيْ يُقَدِّرُ لَكَ الْمُقَدِّرُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالِاشْتِقَاقُ مِنْ مُنِّيَ إِذَا قُدِّرَ، لِأَنَّ الْمُتَمَنِّيَ يُقَدِّرُ فِي نَفْسِهِ ويجوّز ما يتمناه، وكذلك المختلق والقارئ يقدران كلمة كذا بعد كذا. انتهى. وَإِنْ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ نَافِيَةٌ: أَيْ مَا هُمْ، وَالظَّنُّ: هُوَ التَّرَدُّدُ الرَّاجِحُ بَيْنَ طَرَفَيِ الِاعْتِقَادِ الْغَيْرِ الْجَازِمِ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، أَيْ مَا هُمْ إِلَّا يَتَرَدَّدُونَ بِغَيْرِ جَزْمٍ وَلَا يَقِينٍ وَقِيلَ: الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْكَذِبِ وَقِيلَ: هُوَ مُجَرَّدُ الْحَدْسِ. لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ عَامِلِينَ بَلْ يُحَرِّفُونَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، ذَكَرَ أَهْلَ الْجَهْلِ منهم بأنهم يتكلمون عَلَى الْأَمَانِيِّ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى الظَّنِّ الَّذِي لَا يَقِفُونَ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَظْفَرُونَ بِسِوَاهُ. وَالْوَيْلُ: الْهَلَاكُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَصْلُ فِي الْوَيْلِ وَيْ: أَيْ حُزْنٌ، كَمَا تَقُولُ: وَيْ لِفُلَانٍ: أَيْ حُزْنٌ لَهُ، فَوَصَلَتْهُ الْعَرَبُ بِاللَّامِ، قَالَ الْخَلِيلُ: وَلَمْ نَسْمَعْ عَلَى بِنَائِهِ إِلَّا وَيْحَ، وَوَيْسَ، ووَيْهَ، وَوَيْكَ، وَوَيْبَ، وَكُلُّهُ مُتَقَارِبٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهَا قَوْمٌ وَهِيَ مَصَادِرُ لَمْ يَنْطِقِ الْعَرَبُ بِأَفْعَالِهَا، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ به وإن كان نكرة لأن فِيهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ. وَالْكِتَابَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ الْمُحَرَّفَ وَلَا يُبَيِّنُونَ وَلَا يُنْكِرُونَهُ عَلَى فَاعِلِهِ. وَقَوْلُهُ: بِأَيْدِيهِمْ تَأْكِيدٌ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْيَدِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «2» قوله: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ وقال ابن السراج: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُ مِنْ تِلْقَائِهِمْ دُونَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ. وَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تِلْقَائِهِمْ قَوْلُهُ: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ فَإِسْنَادُ الْكِتَابَةِ إِلَيْهِمْ يُفِيدُ ذَلِكَ. وَالِاشْتِرَاءُ: الِاسْتِبْدَالُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَوَصَفَهُ بِالْقِلَّةِ لِكَوْنِهِ فَانِيًا لَا ثَوَابَ فِيهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ حَرَامًا لَا تَحِلُّ بِهِ الْبَرَكَةُ، فَهَؤُلَاءِ الْكَتَبَةُ لَمْ يَكْتَفُوا بِالتَّحْرِيفِ وَلَا بِالْكِتَابَةِ لِذَلِكَ الْمُحَرَّفِ حَتَّى نَادَوْا فِي الْمَحَافِلِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لينالوا بهذه المعاصي المتكرّرة هذا الغرض النَّزِيرَ وَالْعِوَضَ الْحَقِيرَ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَكْسِبُونَ قِيلَ: مِنَ الرِّشَا وَنَحْوِهَا وَقِيلَ: مِنَ الْمَعَاصِي، وَكَرَّرَ الْوَيْلَ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ وَتَعْظِيمًا لِفِعْلِهِمْ وَهَتْكًا لِأَسْتَارِهِمْ وَقالُوا أَيِ الْيَهُودُ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ الْآيَةَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ لِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ أَنَّهَا لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً: أَيْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَكُمْ مَعَ اللَّهِ عَهْدٌ بِهَذَا، وَلَا أَسْلَفْتُمْ من الأعمال الصالحة ما يصدق هذه

_ (1) . الحج: 52. (2) . الأنعام: 38.

الدَّعْوَى حَتَّى يَتَعَيَّنَ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ وَعَدَمُ إِخْلَافِ الْعَهْدِ: أَيْ إِنِ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَ «أَمْ» إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعَادِلَةً بِمَعْنَى أَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَائِنٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ وَاقِعٌ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً. انْتَهَى، وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ شَدِيدٌ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الْعَهْدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجْرِي مَجْرَى الْوَعْدِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَبَرُهُ سُبْحَانَهُ عَهْدًا لِأَنَّ خَبَرَهُ أَوْكَدُ مِنَ الْعُهُودِ الْمُؤَكَّدَةِ. وَقَوْلُهُ: بَلى إِثْبَاتٌ بَعْدَ النَّفْيِ: أَيْ بَلَى تَمَسُّكُمْ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ مِنْ كَوْنِهِ أَيَّامًا مَعْدُودَةً. وَالسَّيِّئَةُ: الْمُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ هُنَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ثُمَّ أَوْضَحَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مُجَرَّدَ كَسْبِ السَّيِّئَةِ لَا يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، بَلْ لَا بُدَّ أن تكون سيئته مُحِيطَةً بِهِ قِيلَ هِيَ الشِّرْكُ وَقِيلَ الْكَبِيرَةُ. وَتَفْسِيرُهَا بِالشِّرْكِ أَوْلَى لِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ تَوَاتُرًا مِنْ خُرُوجِ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَوْنُهَا نَازِلَةً فِي الْيَهُودِ وَإِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وقد قرأ نافع (خطيئاته) بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ قَالَ: لَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ قَالَ: وَهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّتَكَ بِالظَّنِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: الْأُمِّيُّونَ قَوْمٌ لَمْ يُصَدِّقُوا رَسُولًا أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَلَا كِتَابًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فَكَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا لِقَوْمٍ سَفَلَةٍ جُهَّالٍ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ سَمَّاهُمْ أُمِّيِّينَ لِجُحُودِهِمْ كُتُبَ اللَّهِ وَرُسُلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَمانِيَّ قَالَ: الْأَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهَا الكذب. وكذا روى مثله عبد ابن حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَزَادَ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ قَالَ: إِلَّا يَكْذِبُونَ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَيْلٌ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ مَرْفُوعًا قَالَ: «الْوَيْلُ: جَبَلٌ فِي النَّارِ» وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا أَنَّهُ حَجَرٌ فِي النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ قَالَ: هُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، وَجَدُوا صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْتُوبَةً فِي التَّوْرَاةِ أَكْحَلَ أَعْيَنَ رَبْعَةً جَعْدَ الشَّعَرِ حَسَنَ الْوَجْهِ، فَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي التَّوْرَاةِ مَحَوْهُ حَسَدًا وَبَغْيًا، فَأَتَاهُمْ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ نَبِيًّا أُمِّيًّا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ نَجِدُهُ طَوِيلًا أَزْرَقَ سِبْطَ الشَّعَرِ، فَأَنْكَرَتْ قُرَيْشٌ وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا مِنَّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ثَمَناً قَلِيلًا قَالَ: عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا فَوَيْلٌ لَهُمْ قَالَ: فَالْعَذَابُ عَلَيْهِمْ مِنَ الَّذِي كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ يقول: مما يأكلون به، النَّاسِ السَّفَلَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ آثَارًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَرِهُوا بَيْعَ الْمَصَاحِفِ مُسْتَدِلِّينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ آثَارًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَكْرَهُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ

أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ مُدَّةُ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نُعَذَّبُ بِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَقالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: وَجَدَ أَهْلُ الْكِتَابِ مَسِيرَةَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ فَقَالُوا: لن يعذب أَهْلُ النَّارِ إِلَّا قَدْرَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُلْجِمُوا فِي النَّارِ فَسَارُوا فِيهَا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى سَقَرَ، وَفِيهَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِلَى آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَةِ، فَقَالَ لَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ! زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ لَنْ تُعَذَّبُوا فِي النَّارِ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، فَقَدِ انْقَضَى الْعَدَدُ وَبَقِيَ الْأَبَدُ، فَيَؤْخُذُونَ فِي الصُّعُودِ يُرْهَقُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مُدَّةَ عِبَادَةِ الْعِجْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: اجْتَمَعَتْ يَهُودُ يَوْمًا فَخَاصَمُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. ثُمَّ يَخْلُفُنَا فِيهَا نَاسٌ، وَأَشَارُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ: «كَذَبْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ خَالِدُونَ مُخَلَّدُونَ فِيهَا، لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَبَدًا. فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ الْيَهُودَ فِي خَيْبَرَ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخسئوا، والله لا نخلقكم فِيهَا أَبَدًا» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً أَيْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَمَا تَقُولُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ الْعَهْدَ هُنَا بِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَمْ يشركوا به ولم يكفروا. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قَالَ: قَالَ الْقَوْمُ: الْكَذِبَ وَالْبَاطِلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً قَالَ: الشِّرْكُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قَالَ: أَحَاطَ بِهِ شِرْكُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً أَيْ مَنْ عَمِلَ مِثْلَ أَعْمَالِكُمْ وَكَفَرَ بِمِثْلِ مَا كَفَرْتُمْ حَتَّى يُحِيطَ كُفْرُهُ بِمَا لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ مَنْ آمَنَ بِمَا كَفَرْتُمْ بِهِ وَعَمِلَ بِمَا تَرَكْتُمْ مِنْ دِينِهِ فَلَهُمُ الْجَنَّةُ خَالِدِينَ فِيهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قَالَ: هِيَ الْكَبِيرَةُ الْمُوجِبَةُ لِأَهْلِهَا النَّارَ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ فَهُوَ الْخَطِيئَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابن جرير عن الربيع بن خثيم قَالَ: هُوَ الَّذِي يَمُوتُ عَلَى خَطِيئَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الأعمش.

[سورة البقرة (2) : الآيات 83 إلى 86]

[سورة البقرة (2) : الآيات 83 الى 86] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُنَا هُوَ: مَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ عَلَى أَلْسُنِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَعِبَادَةُ اللَّهِ: إِثْبَاتُ تَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقُ رُسُلِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا أَنْزَلَ فِي كُتُبِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ قَوْلَهُ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ هُوَ جَوَابُ قَسَمٍ، وَالْمَعْنَى، اسْتَحْلَفْنَاهُمْ: وَاللَّهِ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: لَا تَعْبُدُوا عَلَى النَّهْيِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقُولُوا وَأَقِيمُوا وَآتُوا وَقَالَ قُطْرُبٌ وَالْمُبَرِّدُ: إِنَّ قَوْلَهُ: لَا تَعْبُدُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ: أَيْ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ مُوَحِّدِينَ أَوْ غَيْرَ مُعَانِدِينَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا إِنَّمَا يَتَّجِهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ يَعْبُدُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَبِأَنْ تُحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ، وَبِأَنْ لَا تَسْفِكُوا الدِّمَاءَ: ثُمَّ حُذِفَ أَنْ فَارْتَفَعَ الْفِعْلُ لِزَوَالِهَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا أُضْمِرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَهُ مُظْهَرًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَيْسَ بِخَطَأٍ بَلْ هُمَا وَجْهَانِ صَحِيحَانِ وَعَلَيْهِمَا أَنْشَدَ: أَلَا أَيَهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي بِالنَّصْبِ لِقَوْلِهِ أَحْضُرَ وَبِالرَّفْعِ. وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ: مُعَاشَرَتُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ وَالتَّوَاضُعُ لَهُمَا وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمَا، وَسَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ. وَالْقُرْبَى: مَصْدَرٌ كَالرُّجْعَى وَالْعُقْبَى، هُمُ الْقَرَابَةُ- وَالْإِحْسَانُ بهم: صِلَتُهُمْ وَالْقِيَامُ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ وَبِقَدْرِ مَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ الْقُدْرَةُ. وَالْيَتَامَى: جَمْعُ يَتِيمٍ، وَالْيَتِيمُ فِي بَنِي آدَمَ: مَنْ فَقَدَ أبوه. وفي سائر الحيوانات: من فقدت أُمَّهُ. وَأَصْلُهُ الِانْفِرَادُ- يُقَالُ: صَبِيٌّ يَتِيمٌ: أَيْ مُنْفَرِدٌ مِنْ أَبِيهِ. وَالْمَسَاكِينُ: جَمْعُ مِسْكِينٍ، وَهُوَ مَنْ أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ وَذَلَّلَتْهُ، وَهُوَ أَشَدُّ فَقْرًا مِنَ الْفَقِيرِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ لِهَذَا الْبَحْثِ أَدِلَّةً مُسْتَوْفَاةً فِي مَوَاطِنِهَا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أَيْ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا حَسَنًا، فَهُوَ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ كَبُشْرَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: حُسْناً بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلُ الْبُخْلِ وَالْبَخَلِ، وَالرُّشْدِ وَالرَّشَدِ وَحَكَى الْأَخْفَشُ أَيْضًا حُسْنَى بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى فُعْلَى. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، لَا يُقَالُ مِنْ هَذَا شَيْءٌ إِلَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، نَحْوَ الْفُضْلَى وَالْكُبْرَى وَالْحُسْنَى

وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ حُسُنًا بِضَمَّتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ كُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَسَنٌ شَرْعًا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ هُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَقِيلَ: الصِّدْقُ، وَقِيلَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَهُوَ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالْمُرَادُ الصَّلَاةُ الَّتِي كَانُوا يُصَلُّونَهَا، وَالزَّكَاةُ الَّتِي كَانُوا يُخْرِجُونَهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَزَكَاتُهُمْ هِيَ الَّتِي كَانُوا يَضَعُونَهَا فَتَنْزِلُ النَّارُ عَلَى مَا يُقْبَلُ، وَلَا تَنْزِلُ عَلَى مَا لَا يُقْبَلُ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ قِيلَ: الْخِطَابُ لِلْحَاضِرِينَ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ مِثْلُ سَلَفِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالْإِعْرَاضُ وَالتَّوَلِّي بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقِيلَ: التَّوَلِّي بِالْجِسْمِ، وَالْإِعْرَاضُ بِالْقَلْبِ. وَقَوْلُهُ: لَا تَسْفِكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي: لَا تَعْبُدُونَ، وَقَدْ سَبَقَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ بضم التاء وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَفَتْحِ السِّينِ. وَالسَّفْكُ: الصَّبُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. وَالدَّارُ: الْمَنْزِلُ الَّذِي فِيهِ أَبْنِيَةُ الْمُقَامِ، بِخِلَافِ مَنْزِلِ الِارْتِحَالِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: كُلُّ مَوْضِعٍ حَلَّهُ قَوْمٌ فَهُوَ دَارٌ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَبْنِيَةٌ وَقِيلَ سُمِّيَتْ دَارًا لِدَوْرِهَا عَلَى سُكَّانِهَا، كَمَا يُسَمَّى الْحَائِطُ حَائِطًا لِإِحَاطَتِهِ عَلَى مَا يَحْوِيهِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ مِنَ الْإِقْرَارِ: أَيْ حَصَلَ مِنْكُمُ الِاعْتِرَافُ بِهَذَا الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَيْكُمْ فِي حَالِ شَهَادَتِكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِذَلِكَ قِيلَ: الشَّهَادَةُ هُنَا بِالْقُلُوبِ وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْحُضُورِ. أَيْ أَنَّكُمُ الْآنَ تَشْهَدُونَ عَلَى أَسْلَافِكُمْ بِذَلِكَ، وَكَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخَذَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لَا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا يَنْفِيَهِ وَلَا يَسْتَرِقَّهُ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ أَيْ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ الْمُشَاهَدُونَ الْحَاضِرُونَ تُخَالِفُونَ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي التَّوْرَاةِ فَتَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَقِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَعْنِي وَيُمْكِنُ أن يقال: منصوب بالذم أو الاختصاص: أذمّ أو أخص. وقال القتبي: إِنَّ التَّقْدِيرَ يَا هَؤُلَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا خَطَأٌ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَؤُلَاءِ بِمَعْنَى الَّذِينَ، أَيْ ثُمَّ أَنْتُمُ الذين تقتلون. وقيل: هؤلاء مبتدأ وأنتم: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: (تُقَتِّلُونَ) مُشَدَّدًا، فَمَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: أَنْتُمْ هؤُلاءِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا جَعَلَ قَوْلَهَ: تَقْتُلُونَ بَيَانًا لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْتُمْ هؤُلاءِ أَنَّهُمْ عَلَى حَالَةٍ كَحَالَةِ أَسْلَافِهِمْ مِنْ نَقْضِ الْمِيثَاقِ. وَمَنْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ مُنَادًى أَوْ مَنْصُوبًا بِمَا ذَكَرْنَا جَعَلَ الْخَبَرَ تَقْتُلُونَ وَمَا بَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ: تَظَّاهَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَصْلُهُ تَتَظَاهَرُونَ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الظَّاءِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا فِي الْمَخْرَجِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: تَظاهَرُونَ مُخَفَّفًا بِحَذْفِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ، لِدَلَالَةِ الْأُولَى عَلَيْهَا. وَأَصِلُ الْمُظَاهَرَةِ: الْمُعَاوَنَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الظَّهْرِ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَوِّي بَعْضًا فَيَكُونُ لَهُ كَالظَّهْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَظَاهَرْتُمْ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ وَوِجْهَةٍ ... عَلَى وَاحِدٍ لَا زِلْتُمْ قِرْنَ وَاحِدِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً «1» وقوله: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ «2» . وأُسارى حَالٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو يَقُولُ: مَا صَارَ فِي أَيْدِيهِمْ فَهُوَ أُسَارَى، وما جاء مستأسرا

_ (1) . الفرقان: 55. (2) . التحريم: 4.

فَهُوَ الْأَسْرَى. وَلَا يَعْرِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ مَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو. وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا تَقُولُ سَكَارَى وَسَكْرَى. وَقَدْ قَرَأَ حَمْزَةُ أَسْرَى. وَقَرَأَ الباقون أُسارى والأسرى جمع أسير كالقتلى جَمْعُ قَتِيلٍ وَالْجَرْحَى جَمْعُ جَرِيحٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا يَجُوزُ أُسَارَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ: أُسَارَى كَمَا يُقَالُ: سُكَارَى. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: يُقَالُ فِي جَمْعِ أَسِيرٍ أَسْرَى وَأُسَارَى انْتَهَى. فَالْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَاتِمٍ حَيْثُ يُنْكِرُ مَا ثَبَتَ فِي التَّنْزِيلِ. وَقَرَأَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَالْأَسِيرُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّيْرِ، وَهُوَ الْقَيْدُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْمَحْمَلُ، فَسُمِّيَ أَسِيرًا لِأَنَّهُ يُشَدُّ وَثَاقُهُ، والعرب تقول: قد أسر قتبه: أَيْ شَدَّهُ، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ أَخِيذٍ أَسِيرًا وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ. وَقَوْلُهُ: تُفادُوهُمْ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَنَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ تَفْدُوهُمْ. وَالْفِدَاءُ: هُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأَسِيرِ لِيَفُكَّ بِهِ أَسْرَهُ، يُقَالُ فَدَاهُ وَفَادَاهُ: إِذَا أَعْطَاهُ فِدَاءَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إِنَّ قَوْمِي ... وَقَوْمَكِ مَا أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، وقيل: مبهم تفسيره الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ، وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ عِمَادٌ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْعِمَادَ لَا يكون في أوّل الكلام. وإِخْراجُهُمْ مُرْتَفِعٌ بِقَوْلِهِ: مُحَرَّمٌ سَادٌّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَقِيلَ بل مرتفع بالابتداء ومحرّم خَبَرُهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعَةَ عُهُودٍ: تَرْكُ الْقَتْلِ، وَتَرْكُ الْإِخْرَاجِ، وَتَرْكُ الْمُظَاهَرَةِ، وَفِدَاءُ أَسْرَاهُمْ فَأَعْرَضُوا عَنْ كُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ إِلَّا الْفِدَاءَ، فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. وَالْخِزْيُ: الْهَوَانُ. قَالَ الجوهري: وخزي بِالْكَسْرِ يَخْزَى خِزْيًا: إِذَا ذَلَّ وَهَانَ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْجَزَاءُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمَلَاعِينَ الْيَهُودَ مُوَفَّرًا، فَصَارُوا فِي خِزْيٍ عَظِيمٍ بِمَا أُلْصِقَ بِهِمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ وَالْجَلَاءِ، وَإِنَّمَا رَدَّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا بِذَنْبٍ شَدِيدٍ وَمَعْصِيَةٍ فَظِيعَةٍ. وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ يرودن بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا وَقَوْلُهُ: فَلا يُخَفَّفُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الْيَهُودَ لَا يَزَالُونَ فِي عَذَابٍ مُوَفَّرٍ لَازِمٍ لَهُمْ بِالْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ، فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ذَلِكَ أَبْدًا مَا دَامُوا، وَلَا يُوجَدُ لَهُمْ نَاصِرٌ يَدْفَعُ عَنْهُمْ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ نَصْرٌ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: يُؤَنِّبُهُمْ، أَيْ مِيثَاقَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً قَالَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً قَالَ: يَعْنِي النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَمِثْلَهُ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ قَالَ: أَيْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ أَعْرَضْتُمْ عَنْ طَاعَتِي إلا قليلا منكم وهم الذي اخْتَرْتُهُمْ لِطَاعَتِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ لَا يُخْرِجُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنَ الدِّيَارِ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بِهَذَا الْمِيثَاقِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ وَأَنْتُمْ شهود.

[سورة البقرة (2) : الآيات 87 إلى 88]

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ أَنَّ هَذَا حَقٌّ مِنْ مِيثَاقِي عَلَيْكُمْ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أَي أَهْلَ الشِّرْكِ حَتَّى تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ مَعَهُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ قال: تخرجونهم من دياركم مَعَهُمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فَكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حَرْبٌ خَرَجَتْ مَعَهُمْ بَنُو قَيْنُقَاعَ مَعَ الْخَزْرَجِ، وَالنَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ وَظَاهَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حُلَفَاءَهُ عَلَى إِخْوَانِهِ حَتَّى يُسَافِكُوا دِمَاءَهُمْ، فَإِذَا وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا افْتَدَوْا أَسْرَاهُمْ تَصْدِيقًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ فِي دِينِكُمْ «1» وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ في كتابكم إِخْراجُهُمْ، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أَتُفَادُونَهُمْ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وَتُخْرِجُونَهُمْ كُفْرًا بِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ قَالَ: اسْتَحَبُّوا قَلِيلَ الدُّنْيَا على كثير الآخرة. [سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 88] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (88) الْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، وَالتَّقْفِيَةُ: الْإِتْبَاعُ وَالْإِرْدَافُ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْقَفَا وَهُوَ مُؤَخَّرُ الْعُنُقِ، تَقُولُ: اسْتَقْفَيْتُهُ: إِذَا جِئْتَ مِنْ خَلْفِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ قَافِيَةُ الشِّعْرِ لِأَنَّهَا تَتْلُو سَائِرَ الْكَلَامِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ عَلَى أَثَرِهِ رُسُلًا جَعَلَهُمْ تَابِعِينَ لَهُ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ بَنِي إسرائيل المبعوثون من بعده. والْبَيِّناتِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْمَائِدَةِ. وَالتَّأْيِيدُ: التَّقْوِيَةُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ آيّدناه بِالْمَدِّ وَهُمَا لُغَتَانِ. وَرُوحُ الْقُدُسِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ: أَيِ الرُّوحِ الْمُقَدَّسَةِ. وَالْقُدُسُ: الطَّهَارَةُ، وَالْمُقَدَّسُ: الْمُطَهَّرُ، وَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ: وَجِبْرِيلُ أَمِينُ اللَّهِ «2» فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدُسِ لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ «3» قَالَ النَّحَّاسُ: وَسُمِّيَ جِبْرِيلُ رُوحًا وَأُضِيفَ إِلَى الْقُدُسِ لِأَنَّهُ كَانَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ لَهُ مِنْ غَيْرِ وِلَادَةٍ، وَقِيلَ: الْقُدُسُ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَرُوحُهُ جِبْرِيلُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِرُوحِ الْقُدُسِ: الِاسْمُ الَّذِي كَانَ عِيسَى يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْإِنْجِيلُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الرُّوحُ الْمَنْفُوخُ فِيهِ، أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ. وَقَوْلُهُ: بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ أَيْ بِمَا لَا يُوَافِقُهَا وَيُلَائِمُهَا، وَأَصْلُ الْهَوَى: الْمَيْلُ إِلَى الشَّيْءِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَسُمِّيَ الْهَوَى هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّارِ. وَبَّخَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُعَنْوَنِ بهمزة التوبيخ فقال:

_ (1) . المعنى: فداء الأسرى واجب عليكم. (2) . في القرطبي «رسول الله» . [.....] (3) . في الديوان: ليس له كفاء.

أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْكُمْ بِما لَا يُوَافِقُ مَا تَهْوَوْنَهُ اسْتَكْبَرْتُمْ عَنْ إِجَابَتِهِ احْتِقَارًا لِلرُّسُلِ وَاسْتِبْعَادًا لِلرِّسَالَةِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَكُلَّما لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ آتَيْنَاكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا آتَيْنَاكُمْ أَفَكُلَمَّا جَاءَكُمْ رَسُولٌ. وفريقا مَنْصُوبٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ وَالْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ، وَمِنَ الْفَرِيقِ الْمُكَذَّبِينَ: عِيسَى وَمُحَمَّدٌ، وَمِنَ الْفَرِيقِ الْمَقْتُولِينَ: يَحْيَى وَزَكَرِيَّا. وَالْغُلْفُ: جَمْعُ أَغْلَفَ، الْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الَّذِي عَلَيْهِ غِشَاوَةٌ تَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْكَلَامِ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ غَلَّفْتُ السَّيْفَ: أَيْ جَعَلْتُ لَهُ غُلَافًا. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: هُوَ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْأَغْلَفِ الَّذِي لَمْ يُخْتَنْ كَقَوْلِهِ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ «1» وَقِيلَ: إِنَّ الْغُلْفَ جَمْعُ غِلَافٍ مِثْلَ حِمَارٍ وَحُمْرٍ: أَيْ قُلُوبُنَا أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ فَمَا بَالَهَا لَا تَفْهَمُ عَنْكَ، وَقَدْ وَعَيْنَا عِلْمًا كَثِيرًا، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا قَالُوهُ فَقَالَ: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ وَأَصْلُ اللَّعْنِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ: ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ أَيْ كَالرَّجُلِ الْمَطْرُودِ. وَالْمَعْنَى: أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ. وَ (قَلِيلًا) نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ إِيمَانًا قليلا ما يُؤْمِنُونَ وما زَائِدَةٌ، وَصَفَ إِيمَانَهُمْ بِالْقِلَّةِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ عِنَادِهِمْ وَعَجْرَفَتِهِمْ وَشِدَّةِ لُجَاجِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ عَنْ إِجَابَةِ الرُّسُلِ مَا قَصَّهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: الْمَعْنَى لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ وَيَكْفُرُونَ بِأَكْثَرِهِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَلِيلًا مَنْصُوبًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ مَرَرْنَا بِأَرْضٍ قَلَّ مَا تُنْبِتُ الْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ أَيْ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يَعْنِي بِهِ التَّوْرَاةَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مُفَصَّلَةً مُحْكَمَةً وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ يَعْنِي رَسُولًا يُدْعَى أَشَمْوِيلَ بْنَ بَابِلَ، وَرَسُولًا يُدْعَى مَنْشَابِيلَ، وَرَسُولًا يُدْعَى شَعْيَاءَ، وَرَسُولًا يُدْعَى حِزْقِيلَ، وَرَسُولًا يُدْعَى أَرْمِيَاءَ وَهُوَ الْخَضِرُ، وَرَسُولًا يُدْعَى دَاوُدَ وَهُوَ أَبُو سُلَيْمَانَ، وَرَسُولًا يُدْعَى الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَهَؤُلَاءِ الرُّسُلُ ابْتَعَثَهُمُ اللَّهُ وَانْتَخَبَهُمْ مِنَ الْأُمَّةِ بَعْدَ مُوسَى فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا، أَنْ يُؤَدُّوا إِلَى أُمَّتِهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَةَ أُمَّتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ قَالَ: هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي وَضَعَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَخَلْقِهِ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ. وَالْخَبَرِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْغُيُوبِ، وما رد عليهم من التوراة مع الإنجيل الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَيَّدْناهُ قَالَ: قَوَّيْنَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: رُوحٌ مِنَ الْقُدُسِ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ عِيسَى يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْقُدُسُ: اللَّهُ تَعَالَى. وَأَخْرَجَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقُدُسُ: الطُّهْرُ. وَأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْقُدُسُ: الْبَرَكَةُ. وَأَخْرَجَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ: جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخُ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللهمّ أيّد حسان بروح

_ (1) . فصلت: 5.

[سورة البقرة (2) : الآيات 89 إلى 92]

الْقُدُسِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: فَرِيقاً قَالَ: طَائِفَةً. وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ لِتَقَلُّبِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: قُلُوبُنا غُلْفٌ مُثَقَّلَةً، أَيْ كَيْفَ نَتَعَلَّمُ وَقُلُوبُنَا غُلَّفٌ لِلْحِكْمَةِ: أَيْ أَوْعِيَةٌ لِلْحِكْمَةِ؟ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ مَمْلُوءَةٌ عِلْمًا لَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِ مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: قُلُوبُنا غُلْفٌ قَالَ: فِي غِطَاءٍ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِي أَكِنَّةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الْقُلُوبُ الْمَطْبُوعُ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عن قتادة هِيَ الَّتِي لَا تَفْقَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْإِخْلَاصِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَغْلَفُ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ، وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ، وَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَمُدُّهَا مَاءٌ طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ قُرْحَةٍ يَمُدُّهَا الْقَيْحُ وَالدَّمُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ يُزْهَى وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ. فَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَجْرَدُ فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ سِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ وَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ فَقَلْبُ الْكَافِرِ وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمَنْكُوسُ فَقَلْبُ الْمُنَافِقِ عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمُصَفَّحُ فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا الْمَاءُ الطَّيِّبُ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يَمُدُّهَا الْقَيْحُ، فَأَيُّ الْمَادَّتَيْنِ غَلَبَتْ عَلَى الْأُخْرَى غَلَبَتْ عَلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مِثْلَهُ سَوَاءً، مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ قال: لا يؤمن منهم إلا قليل. [سورة البقرة (2) : الآيات 89 الى 92] وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَلَمَّا جاءَهُمْ يعني اليهود كِتابٌ يعني القرآن، ومُصَدِّقٌ وصف له، وهو في مصحف أبيّ منصوب، وَنَصَبَهُ عَلَى الْحَالِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا نَكِرَةً فَقَدْ تَخَصَّصَتْ بِوَصْفِهَا بِقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَتَصْدِيقُهُ لِمَا مَعَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ بِمَا فِيهِمَا وَيُصَدِّقُهُ وَلَا يُخَالِفُهُ. وَالِاسْتِفْتَاحُ الاستنصار: أي

كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ النَّصْرَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ بِالنَّبِيِّ الْمَنْعُوتِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ الَّذِي يَجِدُونَ صِفَتَهُ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَقِيلَ الِاسْتِفْتَاحُ هُنَا بِمَعْنَى الْفَتْحِ: أَيْ يُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّهُ سَيُبْعَثُ وَيُعَرِّفُونَهُمْ بِذَلِكَ، وَجَوَابُ لَمَّا فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ قِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا وَمَا بَعْدَهُ وَقِيلَ: هُوَ مَحْذُوفٌ: أَيْ كَذَّبُوا أَوْ نَحْوَهُ، كَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ جَوَابَ لَمَّا الأولى هو قوله كَفَرُوا وأعيدت فَلَمَّا الثَّانِيَةُ لِطُولِ الْكَلَامِ، وَاللَّامُ فِي الْكَافِرِينَ لِلْجِنْسِ. وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ لِلْعَهْدِ وَيَكُونَ هَذَا مِنْ وضع الظاهر موضع المضمر، والأوّل أظهر وما فِي قَوْلِهِ بِئْسَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ أَيْ بِئْسَ الشَّيْءُ أَوْ شَيْئًا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِكَ: بِئْسَ رَجُلًا زَيْدٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: بِئْسَمَا بِجُمْلَتِهِ: شَيْءٌ وَاحِدٌ رُكِّبَ كحبذا. وقال الكسائي ما واشْتَرَوْا بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: بِئْسَ اشْتِرَاؤُهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْفُرُوا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَخَبَرُهُ مَا قَبْلُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: إِنْ شِئْتَ كَانَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ فِي بِهِ: أَيِ اشْتَرَوْا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ يَكْفُرُوا. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ مَا نَكِرَةٌ مَنْصُوبَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِفَاعِلِ بِئْسَ، بِمَعْنَى شَيْئًا اشْتَرَوْا بِهِ أنفسهم، والمخصوص بالذم أن يكفروا، واشتروا بِمَعْنَى بَاعُوا. وَقَوْلُهُ: بَغْياً أَيْ حَسَدًا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْبَغْيُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ بَغَى الْجُرْحُ: إِذَا فَسَدَ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الطَّلَبُ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الزَّانِيَةُ بَغِيًّا. وَهُوَ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: اشْتَرَوْا وَقَوْلُهُ: أَنْ يُنَزِّلَ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ بَغْياً أَيْ لِأَنْ يُنَزِّلَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الثَّمَنِ الْبَخْسِ حَسَدًا وَمُنَافَسَةً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ محيصن أن ينزل بالتخفيف. فَباؤُ أَيْ رَجَعُوا وَصَارُوا أَحِقَّاءَ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وقد تقدّم معنى باؤوا وَمَعْنَى الْغَضَبِ قِيلَ: الْغَضَبُ الْأَوَّلُ لِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَالثَّانِي لِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ، وَقِيلَ كُفْرِهِمْ بِعِيسَى ثُمَّ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ وَقِيلَ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ثُمَّ الْبَغْيِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْمُهِينُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْهَوَانِ قِيلَ: وَهُوَ مَا اقْتَضَى الْخُلُودَ فِي النَّارِ. وَقَوْلُهُ: بِما أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ الْقُرْآنُ وَقِيلَ: كُلُّ كِتَابٍ: أَيْ صَدِّقُوا بِالْقُرْآنِ، أَوْ صَدِّقُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكُتُبِ قالُوا نُؤْمِنُ أَيْ نُصَدِّقُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أَيِ التَّوْرَاةُ. وَقَوْلُهُ: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ قَالَ الْفَرَّاءُ: بِمَا سِوَاهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بِمَا بَعْدَهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَرَاءَ بِمَعْنَى خَلْفَ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى قُدَّامَ وَهِيَ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أَيْ قُدَّامَهُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَعْنِي وَيَكْفُرُونَ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ: أَيْ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا حَالَ كَوْنِهِمْ كَافِرِينَ بِمَا وَرَاءَهُ مَعَ كَوْنِ هَذَا الَّذِي هُوَ وَرَاءَ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ. وَقَوْلُهُ: مُصَدِّقاً حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهَذِهِ أَحْوَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ أَعْنِي قَوْلَهُ: وَيَكْفُرُونَ وَقَوْلَهُ: وَهُوَ الْحَقُّ وَقَوْلَهُ: مُصَدِّقاً ثُمَّ اعْتَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ لَمَّا قَالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْمُفِيدِ لِلتَّوْبِيخِ: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ فَكَيْفَ تَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَقَدْ نُهِيتُمْ عَنْ قَتْلِهِمْ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ؟ وَهَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْحَاضِرِينَ مِنَ الْيَهُودِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَسْلَافُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يَرْضَوْنَ بِأَفْعَالِ سَلَفِهِمْ

[سورة البقرة (2) : الآيات 93 إلى 96]

كَانُوا مِثْلَهُمْ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جَوَابٌ لقسم مقدّر. والبينات يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا التَّوْرَاةُ أَوِ التِّسْعُ الْآيَاتُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ «1» وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْجَمِيعُ. ثُمَّ عَبَدْتُمُ الْعِجْلَ بَعْدَ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ حَالَ كَوْنِكُمْ ظَالِمِينَ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الصَّادِرَةِ مِنْكُمْ عِنَادًا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ قَالَ: هُوَ الْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَشْيَاخٌ مِنَّا قَالُوا: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَعْلَمَ بِشَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَّا، لِأَنَّ مَعَنَا يَهُودَ وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَكُنَّا أَصْحَابَ وَثَنٍ، وَكَانُوا إِذَا بَلَغَهُمْ مِنَّا مَا يَكْرَهُونَ قَالُوا: إِنَّ نَبِيًّا لَيُبْعَثُ الْآنَ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ نَتَّبِعُهُ فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّبَعْنَاهُ وَكَفَرُوا بِهِ فَفِينَا وَاللَّهِ وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: كَانَتِ الْعَرَبُ تَمُرُّ بِالْيَهُودِ فَيُؤْذُونَهُمْ وَكَانُوا يَجِدُونَ مُحَمَّدًا فِي التَّوْرَاةِ فَيَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَهُ نَبِيًّا فَيُقَاتِلُونَ مَعَهُ الْعَرَبَ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ كَفَرُوا بِهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ نَحْوُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ كَفَرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْيًا وَحَسَدًا للعرب فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ قَالَ: غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَرَّتَيْنِ بِكُفْرِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ وَبِعِيسَى وَبِكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَبِمُحَمَّدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ من غيرهم فَباؤُ بِغَضَبٍ بِكُفْرِهِمْ بِهَذَا النَّبِيِّ عَلى غَضَبٍ كَانَ عليهم بما ضيعوه مِنَ التَّوْرَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ مَعْنَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ بِمَا بَعْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قال: بما وراءه: أي القرآن. [سورة البقرة (2) : الآيات 93 الى 96] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَرَفْعِ الطُّورِ. وَالْأَمْرُ بِالسَّمَاعِ مَعْنَاهُ: الطَّاعَةُ وَالْقَبُولُ، وَلَيْسَ المراد: الْإِدْرَاكِ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» أَيْ: قَبِلَ وَأَجَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر:

_ (1) . الإسراء: 101.

دعوت الله حتّى خفت ألّا ... يَكُونَ اللَّهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ أَيْ: يَقْبَلُ، وَقَوْلُهُمْ فِي الْجَوَابِ: سَمِعْنا هُوَ عَلَى بَابِهِ وفيه مَعْنَاهُ أَيْ: سَمْعِنَا قَوْلَكَ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ وَعَصَيْنَاكَ أَيْ: لَا نَقْبَلُ مَا تَأْمُرُنَا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ: سَمِعْنا مَا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْ تَلَاعُبِهِمْ وَاسْتِعْمَالِهِمُ الْمُغَالَطَةَ فِي مُخَاطَبَةِ أنبيائهم، وذلك بأن يحملوا قوله تعالى: اسْمَعُوا عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، أَيِ: السَّمَاعِ بِالْحَاسَّةِ. ثُمَّ أَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ: سَمِعْنا أَيْ: أَدْرَكْنَا ذَلِكَ بِأَسْمَاعِنَا عَمَلًا بِمُوجَبِ مَا تَأْمُرُ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كانوا يعلمون أن هذا غير مراد الله عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ مُرَادُهُ بِالْأَمْرِ بِالسَّمَاعِ: الْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ وَالْقَبُولِ، لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذِهِ الْمُغَالَطَةِ، بَلْ ضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ مَا هُوَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا: وَعَصَيْنا وَفِي قَوْلِهِ: وَأُشْرِبُوا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَيْ: جُعِلَتْ قُلُوبُهُمْ لِتَمَكُّنِ حُبِّ الْعِجْلِ مِنْهَا كَأَنَّهَا تَشْرَبُهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حُبٍّ دَاخِلٍ ... وَالْحُبُّ تُشْرِبُهُ فُؤَادَكَ دَاءُ وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حُبِّ الْعِجْلِ بِالشُّرْبِ دُونَ الْأَكْلِ، لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يَتَغَلْغَلُ فِي الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام يجاورها وَلَا يَتَغَلْغَلُ فِيهَا، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِكُفْرِهِمْ سَبَبِيَّةٌ أَيْ: كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ وَخُذْلَانًا. وَقَوْلُهُ: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أَيْ: إِيمَانُكُمُ الَّذِي زَعَمْتُمْ: أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ، وَتَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ، فَإِنَّ هَذَا الصُّنْعَ وَهُوَ قَوْلُكُمْ: سَمِعْنا وَعَصَيْنا فِي جَوَابِ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فِي كِتَابِكُمْ، وَأُخِذَ عَلَيْكُمُ الْمِيثَاقُ بِهِ، مُنَادٍ عَلَيْكُمْ بِأَبْلَغِ نِدَاءٍ، بِخِلَافِ مَا زَعَمْتُمْ، وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْكُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَنُزُولِ حُبِّهِ مِنْ قُلُوبِكُمْ مَنْزِلَةَ الشَّرَابِ، هُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّكُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِكُمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا لَا صَادِقُونَ، فَإِنْ زَعَمْتُمْ: أَنَّ كِتَابَكُمُ الَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ أَمَرَكُمْ بِهَذَا، فَبِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ بِكِتَابِكُمْ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ مَا لَا يَخْفَى. وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ هُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يُشَارِكُهُمْ فِي دُخُولِهَا غَيْرُهُمْ، وَإِلْزَامٌ لَهُمْ بِمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى، وأنها صادرة منهم لا عن برهان، وخالِصَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ خَبَرُ كَانَ هُوَ: عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ يَكُونُ خَبَرُ كَانَ هُوَ: خَالِصَةً، وَمَعْنَى الْخُلُوصِ: أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ إِذَا كَانَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ النَّاسِ لِلْجِنْسِ، أَوْ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، إِنْ كَانَتِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ. وَهَذَا أَرْجَحُ لِقَوْلِهِمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «1» وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِتَمَنِّي الْمَوْتِ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، كَانَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَيَاةِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مُجَرَّدَ دَعْوَى أَحْجَمُوا، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِمَا قَدَّمَتْهُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي يَكُونُ فَاعِلُهَا غَيْرَ آمِنٍ مِنَ الْعَذَابِ، بَلْ غَيْرُ طَامِعٍ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ قَاطِعًا بِهَا، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا خَالِصَةً لَهُ مُخْتَصَّةً بِهِ، - وَقِيلَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ صَرَفَهُمْ عَنِ التَّمَنِّي لِيَجْعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ بِالتَّمَنِّيِ هُنَا: هُوَ التَّلَفُّظُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَا مُجَرَّدُ خُطُورِهِ بِالْقَلْبِ وَمَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُرَادُ فِي مَقَامِ الْمُحَاجَّةِ، وَمُوَاطِنِ الْخُصُومَةِ، وَمَوَاقِفِ التَّحَدِّي، وَفِي تَرْكِهِمْ لِلتَّمَنِّيِ أَوْ صَرْفِهِمْ عَنْهُ مُعْجِزَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَسْلُكُونَ مِنَ التَّعَجْرُفِ وَالتَّجَرُّؤِ عَلَى اللَّهِ

_ (1) . البقرة: 111.

وَعَلَى أَنْبِيَائِهِ بِالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ مَا قَدْ حَكَاهُ عَنْهُمُ التَّنْزِيلُ، فَلَمْ يَتْرُكُوا عَادَتَهُمْ هُنَا إِلَّا لَمَّا قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ التَّمَنِّيَ نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْتُ، إِمَّا لِأَمْرٍ قَدْ عَلِمُوهُ، أَوْ لِلصِّرْفَةِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ يُقَالُ: ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَمَنِّيِ الْمَوْتِ، فَكَيْفَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي شَرِيعَتِهِ. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا إِلْزَامُهُمُ الْحُجَّةَ، وَإِقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ، وَتَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَتَنْكِيرُ حَيَاةٍ: لِلتَّحْقِيرِ، أَيْ: أَنَّهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى أَحْقَرِ حَيَاةٍ، وَأَقَلِّ لُبْثٍ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ بِحَيَاةٍ كَثِيرَةٍ وَلُبْثٍ مُتَطَاوِلٍ؟ وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ أَرَادَ بِالتَّنْكِيرِ حَيَاةً مَخْصُوصَةً، وَهِيَ الْحَيَاةُ الْمُتَطَاوِلَةُ، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا نَاسٌ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى النَّاسِ أَيْ: أَحْرَصَ النَّاسِ، وَأَحْرَصَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ رَاجِعًا إِلَى الْيَهُودِ، بَيَانًا لِزِيَادَةِ حِرْصِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ، وَوَجْهُ ذِكْرِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بَعْدَ ذِكْرِ النَّاسِ مَعَ كَوْنِهِمْ دَاخِلِينَ فِيهِمُ، الدَّلَالَةُ عَلَى مَزِيدِ حِرْصِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ. فَمَنْ كَانَ أَحْرَصَ مِنْهُمْ وَهُمُ الْيَهُودُ، كَانَ بَالِغًا فِي الْحِرْصِ إِلَى غَايَةٍ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا. وَإِنَّمَا بَلَغُوا فِي الْحِرْصِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْفَاضِلِ عَلَى حِرْصِ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بِمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِذَلِكَ، وَكَانَ حِرْصُهُمْ عَلَى الْحَيَاةِ دُونَ حِرْصِ الْيَهُودِ. وَالْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خُرُوجٌ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْيَهُودِ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَكِنَّهُ أَرْجَحُ لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ لِلتَّكْلِيفِ، وَلَا ضَيْرَ فِي اسْتِطْرَادِ ذِكْرِ حِرْصِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ ذِكْرِ حِرْصِ الْيَهُودِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ الثَّانِيَ أَرْجَحُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي إِبْطَالِ دَعْوَاهُمْ، وَفِي إِظْهَارِ كَذِبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةُ لَنَا لَا لِغَيْرِنَا، انْتَهَى. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي جَعَلَهُ مُرَجَّحًا قَدْ أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِئْنَافُ الْكَلَامِ فِي الْمُشْرِكِينَ أَنْ لَا يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ، وَخَصَّ الْأَلْفَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَذْكُرُ ذَلِكَ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ. وَأَصْلُ سَنَةٍ: سَنَهَةٌ، وَقِيلَ سَنَوَةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ فَقِيلَ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَحَدِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَحَدُهُمْ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ يُعَمَّرَ فَاعِلًا لِمُزَحْزِحِهِ، وَقِيلَ: هُوَ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ يُعَمَّرَ مِنْ مَصْدَرِهِ أَيْ: وَمَا التَّعْمِيرُ بِمُزَحْزِحِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ يُعَمَّرَ بَدَلًا مِنْهُ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: هُوَ عِمَادٌ وَقِيلَ: هُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَقِيلَ: «مَا» هِيَ الْحِجَازِيَّةُ، وَالضَّمِيرُ: اسْمُهَا، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهَا، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ الْعِمَادَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَلِهَذَا يُسَمُّونَهُ ضَمِيرَ الْفَصْلِ، وَالرَّابِعُ فِيهِ: أَنَّ ضَمِيرَ الشَّأْنِ يُفَسَّرُ بِجُمْلَةٍ سَالِمَةٍ عَنْ حَرْفِ جَرٍّ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ النُّحَاةِ. وَالزَّحْزَحَةُ: التَّنْحِيَةُ يُقَالُ: زَحْزَحْتُهُ فَتَزَحْزَحَ، أَيْ: نَحَّيْتُهُ فَتَنَحَّى وَتَبَاعَدَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: يَا قَابِضَ الرُّوحِ عَنْ جِسْمٍ عَصَى زَمَنًا ... وَغَافِرَ الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ وَالْبَصِيرُ: الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ، الْخَبِيرُ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ بَصِيرٌ بِكَذَا: أَيْ: خَبِيرٌ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

[سورة البقرة (2) : الآيات 97 إلى 98]

فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ قَالَ: أُشْرِبُوا حُبَّهُ حَتَّى خَلَصَ ذَلِكَ إِلَى قُلُوبِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا قَالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى الْآيَةَ، نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنْ قَتَادَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ كُنْتُمْ فِي مَقَالَتِكُمْ صَادِقِينَ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ أَمِتْنَا، فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقُولُهَا رَجُلٌ مِنْكُمْ إِلَّا غُصَّ بِرِيقِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أَيِ: ادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْذِبَ، فَأَبَوْا ذَلِكَ، وَلَوْ تَمَنَّوْهُ يَوْمَ قَالَ ذَلِكَ مَا بَقِيَ عَلَى الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ إِلَّا مَاتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ قَالَ: «لَوْ تَمَنَّى الْيَهُودُ الْمَوْتَ لَمَاتُوا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ نحوهن. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا: «لَوْ أن اليهود تمنّوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النَّارِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ قال: اليهود مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَرْجُونَ بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ يُحِبُّ طُولَ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ قَدْ عَرَفَ مَا لَهُ مِنَ الْخِزْيِ بِمَا ضَيَّعَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ. وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ قَالَ: بِمُنَحِّيهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم: «زه هزار سال» يعني: عش ألف سنة. [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا عَلَى الْيَهُودِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَدُوٌّ لَهُمْ، وَأَنَّ مِيكَائِيلَ وَلِيٌّ لَهُمْ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا مَا كَانَ سَبَبَ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ سَبَبُ قِيلِهِمْ ذَلِكَ، مِنْ أَجْلِ مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ نُبُوَّتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَاتٍ فِي ذَلِكَ سَتَأْتِي آخِرَ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَيَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: نَزَّلَهُ لِجِبْرِيلَ، أَيْ: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَزَّلَ جِبْرِيلَ عَلَى قَلْبِكَ، وَفِيهِ ضَعْفٌ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ. الثَّانِي أَنَّهُ لِجِبْرِيلَ، وَالضَّمِيرُ فِي «نَزَّلَهُ» لِلْقُرْآنِ، أَيْ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى قَلْبِكَ، وَخَصَّ الْقَلْبَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بعلمه وإرادته وتيسيره وتسهيله. ولِما بَيْنَ يَدَيْهِ هُوَ التَّوْرَاةُ كَمَا سَلَفَ، أَوْ جَمِيعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ جِبْرِيلَ وَارْتِفَاعِ مَنْزِلَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِمُعَادَاةِ الْيَهُودِ لَهُ، حَيْثُ

كَانَ مِنْهُ مَا ذُكِرَ مِنْ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ عَلَى قَلْبِكَ، أَوْ مِنْ تَنْزِيلِ اللَّهِ لَهُ عَلَى قَلْبِكَ، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ، أَيْ: مَنْ كَانَ مُعَادِيًا لِجِبْرِيلَ مِنْهُمْ فَلَا وَجْهَ لِمُعَادَاتِهِ لَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إِلَّا مَا يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ دُونَ الْعَدَاوَةِ، أَوْ مَنْ كَانَ مُعَادِيًا لَهُ، فَإِنَّ سَبَبَ مُعَادَاتِهِ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ مَا يَكْرَهُونَهُ مِنَ التَّنْزِيلِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِذَنْبٍ لَهُ وَإِنْ نَزَّهُوهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ مِنْهُمْ لَهُ بِهَذَا السَّبَبِ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ، لِأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ هُوَ مُصَدِّقٌ لِكِتَابِهِمْ، وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَتْبَعَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْكَلَامَ بِجُمْلَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى شَرْطٍ وَجَزَاءٍ، يَتَضَمَّنُ الذَّمَّ لِمَنْ عَادَى جِبْرِيلَ بِذَلِكَ السَّبَبِ وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لَهُ، فَقَالَ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ وَالْعَدَاوَةُ مِنَ الْعَبْدِ: هِيَ صُدُورُ الْمَعَاصِي مِنْهُ لِلَّهِ وَالْبُغْضُ لِأَوْلِيَائِهِ، وَالْعَدَاوَةُ مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ: هِيَ تَعْذِيبُهُ بِذَنَبِهِ وَعَدَمُ التَّجَاوُزِ عَنْهُ وَالْمَغْفِرَةِ لَهُ- وَإِنَّمَا خَصَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ لِقَصْدِ التَّشْرِيفِ لَهُمَا، وَالدَّلَالَةِ عَلَى فَضْلِهِمَا، وَأَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَدْ صَارَا بِاعْتِبَارِ مَا لَهُمَا مِنَ الْمَزِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ جِنْسٍ آخَرَ أَشْرَفَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، تَنْزِيلًا لِلتَّغَايُرِ الْوَصْفِيِّ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ الذَّاتِيِّ، كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَقَرَّرَهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ. وَفِي جِبْرِيلَ عَشْرُ لُغَاتٍ ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ قَدَّمَنَا الْإِشَارَةَ إِلَى ذَلِكَ. وَفِي مِيكَائِيلَ سِتُّ لُغَاتٍ، وَهُمَا اسْمَانِ عَجَمِيَّانِ، وَالْعَرَبُ إِذَا نَطَقَتْ بِالْعَجَمِيِّ تَسَاهَلَتْ فِيهِ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ ابْنِ جِنِّيٍّ أَنَّهُ قَالَ: الْعَرَبُ إِذَا نَطَقَتْ بِالْأَعْجَمِيِّ خَلَطَتْ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: لِلْكافِرِينَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ أَيْ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لَهُمْ، لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ مُوجِبَةٌ لِكُفْرِ مَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عباس: «حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ! حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، قَالَ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، فَسَأَلُوهُ وَأَجَابَهُمْ ثُمَّ قَالُوا: فَحَدِّثْنَا مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَعِنْدَهَا نُجَامِعُكَ أَوْ نُفَارِقُكَ، فَقَالَ: وَلِيِّي جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ وَلِيُّهُ قَالُوا: فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ، لَوْ كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَاتَّبَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُصَدِّقُوهُ؟ قَالُوا: هَذَا عَدُّونَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، فِي الْمُصَنَّفِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قِصَّةٍ جَرَتْ لَهُ مَعَهُمْ وإسنادهم صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ، وَقَدْ رواها عكرمة وقتادة والسدّي وعبد الرحمن ابن أَبِي لَيْلَى عَنْ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِمَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ «1» ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا، فَقَالَ: جِبْرِيلُ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ قَالَ: أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْمَشْرِقِ فَتَحْشُرُ النَّاسَ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَمَّا أَوَّلُ مَا يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ وَأَمَّا مَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أو أمه، فإذا سبق ماء الرجل

_ (1) . «يخترف» : يجني الثمار.

[سورة البقرة (2) : الآيات 99 إلى 103]

مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ إِلَيْهِ الْوَلَدُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَ إِلَيْهَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ يَقُولُ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَ الْقُرْآنَ بِأَمْرِ اللَّهِ يُشَدِّدُ بِهِ فُؤَادَكَ وَيَرْبِطُ بِهِ عَلَى قَلْبِكَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَقُولُ: لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا، وَالْآيَاتِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللَّهُ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ تَفْسِيرِهِ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» أَحَادِيثَ كَثِيرَةً وَارِدَةً فِي جبريل وميكائيل، وليست مما يتعلق بالتفسير حتى نذكرها. [سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 103] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: أَنْزَلَنَا إليك عَلَامَاتٍ وَاضِحَاتٍ دَالَّةً عَلَى نُبُوَّتِكَ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا الْفاسِقُونَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الْفَاسِقِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْيَهُودُ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَهُمْ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَكُلَّما لِلْعَطْفِ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْفَاءِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ «1» أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ «2» أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ «3» وَكَمَا تَدْخُلُ عَلَى ثُمَّ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّهَا أَوْ حُرِّكَتِ الْوَاوُ تَسْهِيلًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ مُتَكَلَّفٌ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَالْمَعْطُوفُ عليه محذوف، والتقدير: اكفروا بالآيات البينات وكلما عاهدوا. وقوله: نَبَذَ فَرِيقٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَصْلُ النَّبْذِ: الطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ اللَّقِيطُ: مَنْبُوذًا، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّبِيذُ، وَهُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ إِذَا طُرِحَا فِي الْمَاءِ، قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: نَظَرْتَ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتَهُ ... كَنَبْذِكَ نَعْلًا أَخْلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا وَقَالَ آخَرُ: إِنَّ الَّذِينَ أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا ... نبذوا كتابك واستحلّ «4» المحرم

_ (1) . يونس: 42 والزخرف: 40. (2) . الكهف: 50. (3) . يونس: 51. (4) . في القرطبي «واستحلّوا المحرما» .

وَقَوْلُهُ: وَراءَ ظُهُورِهِمْ أَيْ: خَلْفَ ظُهُورِهِمْ، وَهُوَ مَثَلٌ يُضْرَبُ لِمَنْ يَسْتَخِفُّ بِالشَّيْءِ فَلَا يَعْمَلُ بِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: اجْعَلْ هَذَا خَلْفَ ظَهْرِكَ، وَدُبُرَ أُذُنِكَ، وَتَحْتَ قَدَمِكَ أَيِ: اتْرُكْهُ وَأَعْرِضْ عَنْهُ، وَمِنْهُ مَا أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ: تَمِيمُ بْنُ زَيْدٍ لَا تَكُونَنَّ حَاجَتِي ... بِظَهْرٍ فَلَا يَعْيَا عَلِيَّ جَوَابُهَا وَقَوْلُهُ: كِتابَ اللَّهِ أَيِ: التَّوْرَاةَ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ الْإِيمَانَ بِهِ، وَتَصْدِيقَهُ، وَاتِّبَاعَهُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ صِفَتَهُ، كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَبْذًا لِلتَّوْرَاةِ، وَنَقْضًا لَهَا، وَرَفْضًا لِمَا فِيهَا وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ هُنَا الْقُرْآنُ، أَيْ: لما جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ هَذَا الرَّسُولُ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَشْبِيهٌ لَهُمْ بِمَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، مَعَ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا مِنَ التَّوْرَاةِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِهَذَا النَّبِيِّ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَعْمَلُوا بِالْعِلْمِ، بَلْ عَمِلُوا عَمَلَ مَنْ لَا يَعْلَمُ مِنْ نَبْذِ كِتَابِ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ. قَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ مَعْطُوفٌ عَلَى. قَوْلِهِ: نَبَذَ أَيْ: نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ مِنَ السِّحْرِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: اتَّبَعُوا بِمَعْنَى: فَعَلُوا. ومعنى تَتْلُوا: تتقوّله وتقرؤه وعَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ على عهد ملك سليمان، قال الزَّجَّاجُ وَقِيلَ الْمَعْنَى فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ: يَعْنِي فِي قَصَصِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَخْبَارِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَصْلُحُ «على وفي» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَدْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ عِلْمُ سُلَيْمَانَ، وَأَنَّهُ يَسْتَجِيزُهُ وَيَقُولُ بِهِ، فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ أَنَّ أَحَدًا نَسَبَ سُلَيْمَانَ إِلَى الْكُفْرِ، وَلَكِنْ لَمَّا نَسَبَتْهُ الْيَهُودُ إِلَى السِّحْرِ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ مِنْ نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ السِّحْرَ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا أَثْبَتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كُفْرَ الشَّيَاطِينِ فَقَالَ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا أَيْ: بِتَعْلِيمِهِمْ. وَقَوْلُهُ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي محل رفع أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكُوفِيُّونَ سِوَى عَاصِمٍ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ بِتَخْفِيفِ لَكِنْ وَرَفْعِ الشَّيَاطِينِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ. وَالسِّحْرُ: هُوَ مَا يَفْعَلُهُ السَّاحِرُ مِنِ الْحِيَلِ وَالتَّخْيِيلَاتِ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبِهَا لِلْمَسْحُورِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ الشَّبِيهَةِ بِمَا يَقَعُ لِمَنْ يَرَى السَّرَابَ فَيَظُنُّهُ مَاءً، وَمَا يَظُنُّهُ رَاكِبُ السَّفِينَةِ أَوِ الدَّابَّةِ مِنْ أَنَّ الْجِبَالَ تَسِيرُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ سَحَرْتُ الصَّبِيَّ إِذَا خَدَعْتَهُ وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْخَفَاءُ، فَإِنَّ السَّاحِرَ يَفْعَلُهُ خُفْيَةً وَقِيلَ أَصْلُهُ الصَّرْفُ، لِأَنَّ السِّحْرَ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَتِهِ وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِاسْتِمَالَةُ، لِأَنَّ مَنْ سَحَرَكَ فَقَدِ اسْتَمَالَكَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السِّحْرُ: الْأَخْذَةُ، وَكُلُّ مَا لَطُفَ مأخذه وَدَقَّ فَهُوَ سِحْرٌ. وَقَدْ سَحَرَهُ يَسْحَرُهُ سِحْرًا، وَالسَّاحِرُ: الْعَالِمُ، وَسَحَرَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى: خَدَعَهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَتِ المعتزلة وأبو حنيفة إلى أنه خدع، لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا حَقِيقَةَ. وَذَهَبَ مَنْ عَدَاهُمْ إِلَى أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً مُؤَثِّرَةً. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ، سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي الشَّيْءَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَاهُ، ثُمَّ شَفَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ يَطُولُ. وَقَوْلُهُ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ أَيْ: وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى السِّحْرِ وَقِيلَ: هو معطوف

على قوله: ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ أي: واتبعوا ما أنزل عَلَى الْمَلَكَيْنِ. وَقِيلَ إِنَّ «مَا» فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ نَافِيَةٌ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا، يُعْلَمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَهَارُوتُ وَمَارُوتُ بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ذَكَرَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ وَجْهُ تَقْدِيمِ ذَلِكَ؟ قِيلَ: وَجْهُ تَقْدِيمِهِ أَنْ يُقَالَ: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَلَكِنَّ الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وَمَارُوتَ، فَيَكُونُ مَعْنِيًّا بِالْمَلَكَيْنِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، لِأَنَّ سَحَرَةَ الْيَهُودِ فِيمَا ذُكِرَ كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ السِّحْرَ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَمْ يَنْزِلَا بِسِحْرٍ، وَبَرَّأَ سُلَيْمَانَ مِمَّا نَحَلُوهُ مِنَ السِّحْرِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ السِّحْرَ مِنْ عَمَلِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّهَا تُعَلِّمُ النَّاسَ ذَلِكَ بِبَابِلَ، وَأَنَّ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَهُمْ ذَلِكَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا هَارُوتُ وَالْآخَرُ مَارُوتُ، فَيَكُونُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَرْجَمَةً عَنِ النَّاسِ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ حَكَى مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ، وَرَجَّحَ أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، مَا لَفْظُهُ: هَذَا أَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهَا، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى سِوَاهُ، فَالسِّحْرُ مِنِ اسْتِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ لِلَطَافَةِ جَوْهَرِهِمْ، وَدِقَّةِ أَفْهَامِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْإِنْسِ النِّسَاءُ، وَخَاصَّةً فِي حَالِ طَمْثِهِنَّ، قَالَ اللَّهُ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ «1» ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ اثْنَانِ بَدَلًا مِنْ جَمْعٍ وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى حَدِّ الْمُبْدَلِ؟ ثُمَّ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الِاثْنَيْنِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا الْجَمْعُ، أَوْ أَنَّهُمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِمَا لِتَمَرُّدِهِمَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ «الْمَلِكَيْنِ» بِكَسْرِ اللَّامِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْجَزْمِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ مَعَ بُعْدِهِ وَظُهُورِ تَكَلُّفِهِ تَنْزِيهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُنْزِلَ السِّحْرَ إِلَى أَرْضِهِ فِتْنَةً لِعِبَادِهِ عَلَى أَلْسُنِ مَلَائِكَتِهِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِهَذَا التَّعَسُّفِ الْمُخَالِفِ لِمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ كَمَا امْتَحَنَ بِنَهَرٍ طَالُوتَ، وَلِهَذَا يَقُولُ الْمَلَكَانِ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهُمَا أُنْزِلَا إِلَى الْأَرْضِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا كَانَ- وَبَابِلُ قِيلَ: هِيَ الْعِرَاقُ وَقِيلَ: نَهَاوَنْدُ وَقِيلَ: نَصِيبِينُ وَقِيلَ: الْمَغْرِبُ. وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ لَا يَنْصَرِفَانِ. وَقَوْلُهُ: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا قَالَ الزَّجَّاجُ: تَعْلِيمُ إِنْذَارٍ مِنَ السِّحْرِ لَا تَعْلِيمُ دُعَاءٍ إِلَيْهِ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّظَرِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ عَلَى النَّهْيِ، فَيَقُولَانِ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا كَذَا، وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَحَدٍ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: يُعَلِّمانِ مِنَ الْإِعْلَامِ لَا مِنَ التَّعْلِيمِ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: تَعْلَمُ بِمَعْنَى أَعْلَمُ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: تَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي ... وَأَنَّ وَعِيدًا مِنْكَ كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ وَقَالَ الْقَطَامِيُّ: تَعْلَمُ أَنَّ بَعْدَ الْغَيِّ رُشْدًا ... وَأَنَّ لِذَلِكَ الْغَيِّ انْقِشَاعًا

_ (1) . الفلق: 4.

وَقَوْلُهُ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، أَيْ: إِنَّمَا نَحْنُ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتِهْزَاءٌ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا يَقُولَانِهِ لِمَنْ قَدْ تَحَقَّقَا ضَلَالُهُ، وَفِي قَوْلِهِمَا: فَلا تَكْفُرْ أَبْلَغُ إِنْذَارٍ وَأَعْظَمُ تَحْذِيرٍ، أَيْ: أَنَّ هَذَا ذَنْبٌ يَكُونُ مَنْ فَعَلَهُ كَافِرًا فَلَا تَكْفُرْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ كُفْرٌ، وَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعْتَقِدِ وَغَيْرِ الْمُعْتَقِدِ، وَبَيْنَ مَنْ تَعَلَّمَهُ لِيَكُونَ سَاحِرًا وَمَنْ تَعَلَّمَهُ لِيَقْدِرَ عَلَى دَفْعِهِ. وَقَوْلُهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ فِيهِ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ أَحَدٍ قَالَ سِيبَوَيْهِ: التَّقْدِيرُ فَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ، قَالَ: وَمِثْلُهُ كُنْ فَيَكُونُ وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ مَا يُعَلِّمَانِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَنْفِيًّا فَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْإِيجَابُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ أَيْ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ فَيَتَعَلَّمُونَ، وَقَوْلُهُ: مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ فِي إِسْنَادِ التَّفْرِيقِ إِلَى السَّحَرَةِ وَجَعْلِ السِّحْرِ سَبَبًا لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلسِّحْرِ تَأْثِيرًا فِي الْقُلُوبِ بِالْحُبِّ وَالْبُغْضِ، وَالْجَمْعِ وَالْفُرْقَةِ، وَالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ. وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرِ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِلسِّحْرِ وَبَيَّنَ مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي تَعْلِيمِهِ، فَلَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: إِنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَغْلَبِ، وَأَنَّ السَّاحِرَ يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقِيلَ: لَيْسَ لِلسِّحْرِ تَأْثِيرٌ فِي نَفْسِهِ أَصْلًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّ لِلسِّحْرِ تَأْثِيرًا فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ ضَرَرًا إِلَّا فِيمَنْ أَذِنَ اللَّهُ بِتَأْثِيرِهِ فِيهِ. وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لَهُ تَأْثِيرًا فِي نَفْسِهِ وَحَقِيقَةً ثَابِتَةً، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْمُعْتَزِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ السِّحْرَ لَا يَعُودُ عَلَى صَاحِبِهِ بِفَائِدَةٍ، وَلَا يَجْلِبُ إِلَيْهِ مَنْفَعَةً، بَلْ هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ، وَخُسْرَانٌ بَحْتٌ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَفِي قَوْلِهِ: لَمَنِ اشْتَراهُ لِلتَّأْكِيدِ وَ «مَنْ» مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا شَرْطِيَّةٌ لِلْمُجَازَاةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَيْسَ هَذَا بِمَوْضِعِ شَرْطٍ، وَرَجَّحَ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالْمُرَادُ بِالشِّرَاءِ هُنَا: الِاسْتِبْدَالُ، أَيْ: مَنِ اسْتَبْدَلَ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ. وَالْخَلَاقُ: النَّصِيبُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَيْ: بَاعُوهَا. وَقَدْ أَثْبَتَ لَهُمُ الْعِلْمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمُوا وَنَفَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ، فَقَالَ قُطْرُبٌ وَالْأَخْفَشُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمُوا الشَّيَاطِينُ، وَالْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْإِنْسُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْأَوَّلَ لِلْمَلَكَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: الزَّيْدَانِ قَامُوا. وَالثَّانِي الْمُرَادُ بِهِ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِعِلْمِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا أَيْ: بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَاتَّقَوْا مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ السِّحْرِ وَالْكُفْرِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَمَثُوبَةٌ جَوَابُ لَوْ، وَالْمَثُوبَةُ: الثَّوَابُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَأُثِيبُوا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: لَمَثُوبَةٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ

هُوَ إِمَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُمْ، أَوْ لِتَنْزِيلِ عِلْمِهِمْ مَعَ عَدَمِ الْعَمَلِ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «قَالَ ابْنُ صُورِيَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ! مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ يُعْرَفُ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، حِينَ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَّرَهُمْ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، وَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِي مُحَمَّدٍ: وَاللَّهِ مَا عُهِدَ إِلَيْنَا في محمد، ولا أخذ علينا شيئا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَوَكُلَّما عاهَدُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: آياتٍ بَيِّناتٍ يَقُولُ: فَأَنْتَ تَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَتُخْبِرُهُمْ بِهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَأَنْتَ عِنْدَهُمْ أُمِّيٌّ لَمْ تَقْرَأِ الْكِتَابَ، وَأَنْتَ تُخْبِرُهُمْ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى وَجْهِهِ، فَفِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لَهُمْ وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: نَبَذَهُ قَالَ: نَقَضَهُ. وَأَخْرَجَ أيضا عن السدي في قوله: مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ قَالَ: لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ عَارَضُوهُ بِالتَّوْرَاةِ، وَاتَّفَقَتِ التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ فَنَبَذُوا التَّوْرَاةَ وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصِفَ وَسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِذَا سَمِعَ أَحَدُهُمْ بِكَلِمَةِ حَقٍّ كَذَبَ مَعَهَا أَلْفَ كِذْبَةٍ، فَأُشْرِبَتْهَا قُلُوبُ النَّاسِ، وَاتَّخَذُوهَا دَوَاوِينَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ، فَأَخَذَهَا فَدَفَنَهَا تَحْتَ الْكُرْسِيِّ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ قَامَ شَيْطَانٌ بِالطَّرِيقِ فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِ سُلَيْمَانَ الَّذِي لَا كَنْزَ لِأَحَدٍ مِثْلُ كَنْزِهِ الْمُمَنَّعِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَأَخْرَجُوهُ فَإِذَا هُوَ سِحْرٌ، فَتَنَاسَخَتْهَا الْأُمَمُ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَ سُلَيْمَانَ فِيمَا قَالُوا مِنَ السِّحْرِ فَقَالَ: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ آصِفُ كَاتِبَ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَكَانَ يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ أَخْرَجَتْهُ الشَّيَاطِينُ، فَكَتَبُوا بَيْنَ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وَكُفْرًا، وَقَالُوا: هَذَا الذي كان سليمان يعمل به، فَأَكْفَرَهُ جُهَّالُ النَّاسِ، وَسَبُّوهُ، وَوَقَفَ عُلَمَاؤُهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ جُهَّالُهُمْ يَسُبُّونَهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى محمد: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ أَوْ يَأْتِيَ شَيْئًا مِنْ شَأْنِهِ أَعْطَى الْجَرَادَةَ- وَهِيَ امْرَأَتُهُ- خَاتَمَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَ سُلَيْمَانَ بِالَّذِي ابْتَلَاهُ بِهِ أَعْطَى الْجَرَادَةَ ذَاتَ يَوْمٍ خَاتَمَهُ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهَا: هَاتِي خَاتَمِي، فَأَخَذَهُ فَلَبِسَهُ، فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، فَجَاءَ سُلَيْمَانُ فَقَالَ: هَاتِي خَاتَمِي، فَقَالَتْ: كَذَبْتَ لَسْتَ سُلَيْمَانَ، فَعَرَفَ أَنَّهُ بَلَاءٌ ابْتُلِيَ بِهِ، فَانْطَلَقَتِ الشَّيَاطِينُ، فَكَتَبَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كُتُبًا فِيهَا سِحْرٌ وَكُفْرٌ، ثُمَّ دَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سليمان، ثم أخرجوها فقرؤوها عَلَى النَّاسِ وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَغْلِبُ النَّاسَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ، فَبَرِئَ النَّاسُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَأَكْفَرُوهُ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا. وَأَخْرَجَ ابن جرير عنه في قوله: ما تَتْلُوا قَالَ: مَا تَتْبَعُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ في قوله: ما تَتْلُوا قَالَ: نَرَاهُ مَا تُحْدِثُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ يَقُولُ: فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ.

وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قال: سِحْرٌ آخَرُ خَاصَمُوهُ بِهِ، فَإِنَّ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا عَلِمَتْهُ الْإِنْسُ فَصُنْعَ وَعُمِلَ بِهِ كَانَ سِحْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قَالَ: لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ السِّحْرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هُمَا مَلَكَانِ مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ يَعْنِي: جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هُمَا عِلْجَانِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشْرَفَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الدُّنْيَا، فَرَأَتْ بَنِي آدَمَ يَعْصُونَ، فَقَالَتْ يَا رَبِّ! مَا أَجْهَلَ هَؤُلَاءِ، مَا أَقَلَّ مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ بِعَظَمَتِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: لَوْ كُنْتُمْ فِي مَحَلَّاتِهِمْ لَعَصَيْتُمُونِي، قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قَالَ: فَاخْتَارُوا مِنْكُمْ مَلَكَيْنِ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، ثُمَّ أُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ وَرُكِّبَتْ فِيهِمَا شَهَوَاتُ بَنِي آدَمَ، وَمُثِّلَتْ لَهُمَا امْرَأَةٌ فَمَا عُصِمَا حَتَّى وَاقَعَا الْمَعْصِيَةَ، فَقَالَ اللَّهُ: اخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابَ الْآخِرَةِ، فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ قَالَ مَا تَقَولُ؟ قَالَ: أَقُولُ إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا يَنْقَطِعُ وَإِنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ لَا يَنْقَطِعُ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَهُمَا اللَّذَانِ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَطَلَعَتِ الْحَمْرَاءُ بَعْدُ؟ فَإِذَا رَآهَا قَالَ: لَا مَرْحَبًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ سَأَلَا اللَّهَ أَنْ يُهْبِطَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ، فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ فَكَانَا يَقْضِيَانِ بَيْنَ النَّاسِ، فَإِذَا أَمْسَيَا تَكَلَّمَا بِكَلِمَاتٍ فَعَرَجَا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقَيَّضَ لَهُمَا امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ وَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِمَا الشَّهْوَةُ فَجَعَلَا يُؤَخِّرَانِهَا وَأُلْقِيَتْ فِي أَنْفُسِهِمَا، فَلَمْ يَزَالَا يَفْعَلَانِ حَتَّى وَعَدَتْهُمَا مِيعَادًا، فَأَتَتْهُمَا لِلْمِيعَادِ فَقَالَتْ: عَلِّمَانِي الْكَلِمَةَ الَّتِي تَعْرُجَانِ بِهَا، فَعَلَّمَاهَا الْكَلِمَةَ فَتَكَلَّمَتْ بِهَا فَعَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَمُسِخَتْ فَجُعِلَتْ كَمَا تَرَوْنَ، فَلَمَّا أَمْسَيَا تَكَلَّمَا بِالْكَلِمَةِ فَلَمْ يَعْرُجَا، فَبُعِثَ إِلَيْهِمَا: إِنْ شِئْتُمَا فَعَذَابُ الْآخِرَةِ وَإِنْ شِئْتُمَا فَعَذَابُ الدُّنْيَا إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ عَلَى أَنْ تَلْقَيَا اللَّهَ، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمَا وَإِنْ شَاءَ رَحَمَكُمَا، فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ: بَلْ نَخْتَارُ عَذَابَ الدُّنْيَا أَلْفَ أَلْفِ ضِعْفٍ، فَهُمَا يُعَذَّبَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِأَلْفَاظٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ يَرْوِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. كَمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: ذَكَرَتِ الْمَلَائِكَةُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَمَا يَأْتُونَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَقِيلَ: لَوْ كُنْتُمْ مَكَانَهُمْ لَأَتَيْتُمْ مِثْلَ مَا يَأْتُونَ، فَاخْتَارُوا مِنْكُمُ اثْنَيْنِ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَقَالَ لَهُمَا: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَى بَنِي آدَمَ رُسُلًا فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ رَسُولٌ، انْزِلَا، لَا تُشْرِكَا بِي شَيْئًا، وَلَا تَزْنِيَا، وَلَا تشربا الخمر، قال كعب: فو الله مَا أَمْسَيَا مِنْ يَوْمِهِمَا الَّذِي أُهْبِطَا فِيهِ حَتَّى اسْتَعْمَلَا جَمِيعَ مَا نُهِيَا عَنْهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا أَصَحُّ، يَعْنِي مِنَ الْإِسْنَادَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا قَبْلَهُ. وَأَخْرَجَ

عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الزُّهْرَةَ تُسَمِّيهَا العرب الزهرة، والعجم ناهيد، وَذَكَرَ نَحْوَ الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْحَاكِمِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا الْإِسْنَادُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الزُّهْرَةُ امْرَأَةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي فُتِنَ بِهَا الْمَلِكَانِ مُسِخَتْ، فَهِيَ هَذِهِ الْكَوْكَبَةُ الْحَمْرَاءُ: يَعْنِي الزُّهْرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ فَذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً، وَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ شَرِبَا الْخَمْرَ وَزَنَيَا بِالْمَرْأَةِ وَقَتَلَاهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَالَا: إِنَّهَا أُنْزِلَتْ إِلَيْهِمَا الزُّهْرَةُ فِي صُورَةِ امْرَأَةٍ وَأَنَّهُمَا وَقَعَا فِي الْخَطِيئَةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ قِصَصٌ طَوِيلَةٌ وَرِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ اسْتَوْفَاهَا السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْضَهَا ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ فِي قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ كَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالزُّهْرِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَغَيْرِهِمْ وَقَصَّهَا خَلْقٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. وَحَاصِلُهَا رَاجِعٌ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ إِلَى الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ إِجْمَالُ الْقِصَّةِ مِنْ غَيْرِ بَسْطٍ وَلَا إِطْنَابٍ فِيهَا، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ سِيَاقِ بَعْضِ ذَلِكَ: قُلْنَا هَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ وَبَعِيدٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ تَدْفَعُهُ الْأُصُولُ فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أُمَنَاءُ اللَّهِ عَلَى وَحْيِهِ، وَسُفَرَاؤُهُ إِلَى رُسُلِهِ، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، لَكِنْ وُقُوعُ هَذَا الْجَائِزِ لَا يُدْرَى إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَلَمْ يَصِحَّ. انْتَهَى. وَأَقُولُ: هَذَا مُجَرَّدُ اسْتِبْعَادٍ. وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا تَرَاهُ، وَلَا وَجْهَ لِإِخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِهَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْأُصُولَ تَدْفَعُ ذَلِكَ، فَعَلَى فَرْضِ وُجُودِ هَذِهِ الْأُصُولِ فَهِيَ مُخَصَّصَةٌ بِمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ التَّخْصِيصِ، وَقَدْ كَانَ إِبْلِيسُ يَمْلِكُ المنزلة العظيمة وصار شرّ الْبَرِّيَّةِ وَأَكْفَرَ الْعَالِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ قَالَ: بَلَاءٌ. وَأَخْرُجُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ سَاحِرًا وَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمِنْ عَقَدَ عُقْدَةً، وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من تعلّم مِنَ السِّحْرِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا كَانَ آخِرَ عَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خَلاقٍ قَالَ: قِوَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مِنْ خَلاقٍ مِنْ نَصِيبٍ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 104 إلى 105]

وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قَالَ: لَيْسَ لَهُ دِينٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ قَالَ: بَاعُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَمَثُوبَةٌ قَالَ: ثَوَابٌ. [سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 105] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) قَوْلُهُ: راعِنا رَاقِبْنَا، وَاحْفَظْنَا، وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى راعِنا: ارْعَنَا وَنَرْعَاكَ، وَاحْفَظْنَا وَنَحْفَظُكَ، وَارْقُبْنَا وَنَرْقُبُكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، أي: فرغه لكلامنا، وجه النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَانَ بِلِسَانِ الْيَهُودِ سَبًّا قِيلَ: إِنَّهُ فِي لُغَتِهِمْ بِمَعْنَى اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاعِنَا طَلَبًا مِنْهُ أَنْ يُرَاعِيَهُمْ مِنَ الْمُرَاعَاةِ اغْتَنَمُوا الْفُرْصَةَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ مُظْهِرِينَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَعْنَى الْعَرَبِيَّ، مُبْطِنِينَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ السَّبَّ الذي مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ فِي لُغَتِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي تَجَنُّبُ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلسَّبِّ وَالنَّقْصِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُفِيدَ لِلشَّتْمِ، سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَدَفْعًا لِلْوَسِيلَةِ، وَقَطْعًا لِمَادَّةِ الْمَفْسَدَةِ وَالتَّطَرُّقِ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ يُخَاطِبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْصَ وَلَا يَصْلُحُ لِلتَّعْرِيضِ فَقَالَ: وَقُولُوا انْظُرْنا أَيْ: أَقْبِلْ عَلَيْنَا وَانْظُرْ إِلَيْنَا، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: ظَاهِرَاتُ الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ يَنْظُرْ ... نَ كَمَا يَنْظُرُ الْأَرَاكَ الظِّبَاءُ أَيْ: إِلَى الْأَرَاكِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ انْتَظِرْنَا وَتَأَنَّ بِنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَإِنَّكُمَا إِنْ تُنْظِرَانِي سَاعَةً ... مِنَ الدّهر ينفعني لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ (أَنْظِرْنَا) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ بِمَعْنَى: أَخِّرْنَا وَأَمْهِلْنَا حَتَّى نَفْهَمَ عَنْكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا ... وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ الْيَقِينَا وَقَرَأَ الْحَسَنُ راعِنا بِالتَّنْوِينِ، وَقَالَ: الرَّاعِنُ مِنَ الْقَوْلِ: السُّخْرِيُّ مِنْهُ. انْتَهَى. وَأَمَرَهُمْ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ وَالْأَمْرِ بِأَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاسْمَعُوا أَيِ: اسْمَعُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَنُهِيتُمْ عَنْهُ، وَمَعْنَاهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ فِي تَرْكِ خِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ، وَخَاطِبُوهُ بِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: اسْمَعُوا مَا يُخَاطِبُكُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الشَّرْعِ، حَتَّى يَحْصُلَ لَكُمُ الْمَطْلُوبُ بِدُونِ طَلَبٍ لِلْمُرَاعَاةِ، ثُمَّ تَوَعَّدَ الْيَهُودَ بِقَوْلِهِ: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا شَامِلًا لِجِنْسِ الْكَفَرَةِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا

[سورة البقرة (2) : الآيات 106 إلى 107]

فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: راعِنا لأنها كلمة كرهها الله أَنْ يَقُولُوا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَظِيرَ الَّذِي ذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقُولُوا لِلْعِنَبِ: الْكَرْمَ وَلَكِنْ قُولُوا: الْحُبْلَةَ، وَلَا تَقُولُوا: عَبْدِي، وَلَكِنْ قُولُوا: فَتَايَ» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الْآيَةَ، فِيهِ بَيَانُ شِدَّةِ عَدَاوَةِ الْكُفَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ، حَيْثُ لَا يَوَدُّونَ إِنْزَالَ الْخَيْرِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يُنَزَّلَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ زَائِدَةٌ، قَالَهُ النَّحَّاسُ، وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بَيَانِيَّةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ مَزِيدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْخَيْرِ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَقَدْ قِيلَ: بِأَنَّ الْخَيْرَ: الْوَحْيُ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَوَدُّونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيُّ خَيْرٍ كَانَ، فَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا يُفِيدُهُ وُقُوعُ هَذِهِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَتَأْكِيدُ الْعُمُومِ بِدُخُولِ «مِنْ» الْمَزِيدَةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ أَعْظَمَ مِنْ بَعْضٍ فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ. وَالرَّحْمَةُ قِيلَ: هِيَ الْقُرْآنُ وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: جِنْسُ الرَّحْمَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، كَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْإِضَافَةُ إِلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أَيْ: صَاحِبُ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، فَكَيْفَ لَا تَوَدُّونَ أَنْ يَخْتَصَّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ: اعْهَدْ إِلَيَّ فَقَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: راعِنا بِلِسَانِ الْيَهُودِ: السَّبُّ الْقَبِيحُ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ سِرًّا، فَلَمَّا سَمِعُوا أصحابه يقولون ذلك أعلنوا بها، فَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ وَيَضْحَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَقُولُهَا فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَانْتَهَتِ الْيَهُودُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ مِنَ الْيَهُودِ: مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ، إِذَا لَقِيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَا لَهُ وَهُمَا يُكَلِّمَانِهِ: رَاعِنَا سَمْعَكَ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، فَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ كَانَ أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم، فقالوا للنبيّ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَخْرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا أَدْبَرَ نَادَاهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالُوا: أرْعِنَا سَمْعَكَ، فَأَعْظَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: انْظُرْنا لِيُعَزِّرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُوَقِّرُوهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً، فَكَرِهَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا كَقَوْلِهِمْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الرحمة: القرآن والإسلام. [سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 107] مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)

النَّسْخُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّقْلُ، كَنَقْلِ كِتَابٍ مِنْ آخَرَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَنْسُوخًا، أَعْنِي: مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَلَا مَدْخَلَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْهُ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» أَيْ: نَأْمُرُ بِنَسْخِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: الْإِبْطَالُ وَالْإِزَالَةُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَحَدُهُمَا: إِبْطَالُ الشَّيْءِ وَزَوَالُهُ وَإِقَامَةُ آخَرَ مَقَامَهُ، وَمِنْهُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ: إِذَا أَذْهَبَتْهُ وَحَلَّتْ مَحَلَّهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا تَنَاسَخَتْ» أَيْ: تَحَوَّلَتْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَالثَّانِي: إِزَالَةُ الشَّيْءِ دُونَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ آخَرُ كَقَوْلِهِمْ: نَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ أَيْ: يُزِيلُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ هَذَا قَدْ كَانَ يَقَعُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّورَةُ فَتُرْفَعُ، فَلَا تُتْلَى وَلَا تُكْتَبُ. وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ وَعَائِشَةَ أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي الطُّولِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: النَّسْخُ نَسْخُ الْكِتَابِ، وَالنَّسْخُ أَنْ تُزِيلَ أَمْرًا كَانَ مِنْ قَبْلُ يُعْمَلُ بِهِ ثُمَّ تَنْسَخُهُ بِحَادِثٍ غَيْرِهِ، كَالْآيَةِ تَنْزِلُ بِأَمْرٍ ثُمَّ تُنْسَخُ بِأُخْرَى، وَكُلُّ شَيْءٍ خَلَفَ شَيْئًا فَقَدِ انْتَسَخَهُ، يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَالشَّيْبُ الشَّبَابَ، وَتَنَاسُخُ الْوَرَثَةِ: أَنْ يَمُوتَ وَرَثَةٌ بَعْدَ وَرَثَةٍ، وَأَصْلُ الْمِيرَاثِ قَائِمٌ، وَكَذَا تَنَاسُخُ الْأَزْمِنَةِ وَالْقُرُونِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَا نَنْسَخْ مَا نَنْقُلْ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ إِلَى غَيْرِهِ فَنُبَدِّلْهُ وَنُغَيِّرْهُ، وَذَلِكَ أَنْ نُحَوِّلَ الْحَلَالَ حَرَامًا، وَالْحَرَامَ حَلَالًا، وَالْمُبَاحَ مَحْظُورًا، وَالْمَحْظُورَ مُبَاحًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ وَالْمَنْعِ وَالْإِبَاحَةِ فَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ، وَأَصْلُ النَّسْخِ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ، وَهُوَ نَقْلُهُ مِنْ نُسْخَةٍ أُخْرَى، فَكَذَلِكَ مَعْنَى نَسْخِ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ إِنَّمَا هُوَ تَحْوِيلُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ نُسِخَ حُكْمُهَا أَوْ خَطُّهَا، إِذْ هِيَ فِي كِلْتَيْ حَالَتَيْهَا مَنْسُوخَةٌ. انْتَهَى. وَقَدْ جَعَلَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ مَبَاحِثَ النَّسْخِ مِنْ جُمْلَةِ مَقَاصِدِ ذَلِكَ الْفَنِّ فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ، بَلْ نُحِيلُ مَنْ أَرَادَ الاستقصاء عَلَيْهِ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَلَى ثُبُوتِهِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَلَا يُؤْبَهُ لِقَوْلِهِ. وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنِ الْيَهُودِ- أَقْمَاهُمُ اللَّهُ- إِنْكَارُهُ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السَّفِينَةِ: إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ كُلَّ دَابَّةٍ مَأْكَلًا لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ، وَأَطْلَقْتُ ذَلِكَ لَكُمْ كَنَبَاتِ الْعُشْبِ مَا خَلَا الدَّمَ فَلَا تَأْكُلُوهُ، ثُمَّ قد حرّم على موسى وَعَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانِ. وَثَبَتَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ آدَمَ كَانَ يُزَوِّجُ الْأَخَ مِنَ الْأُخْتِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى غَيْرِهِ. وَثَبَتَ فِيهَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لَهُ لَا تَذْبَحْهُ، وَبِأَنَّ مُوسَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ عَبَدَ مِنْهُمُ الْعِجْلَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِرَفْعِ السَّيْفِ عنهم، ونحو هذا كثيرا في التوراة الموجودة بأيديهم. وقوله: أو ننسأها قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ وَالْهَمْزِ، وَبِهِ قَرَأَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: نُؤَخِّرْهَا عَنِ النَّسْخِ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَسَأْتُ هَذَا الْأَمْرَ إِذَا أَخَّرْتَهُ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَيَقُولُونَ: نَسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِكَ، وَأَنْسَأَ اللَّهُ أَجَلَكَ. وَقَدِ انْتَسَأَ الْقَوْمُ: إِذَا تَأَخَّرُوا وَتَبَاعَدُوا، وَنَسَأْتُهُمْ إذا أَخَّرْتُهُمْ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نُؤَخِّرُ نَسْخَ لَفْظِهَا، أَيْ: نَتْرُكُهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ. وَقِيلَ: نُذْهِبْهَا عَنْكُمْ حَتَّى لَا تُقْرَأَ وَلَا تُذْكَرَ.

_ (1) . الجاثية: 29.

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ نُنْسِها بِضَمِّ النُّونِ، مِنَ النِّسْيَانِ الَّذِي بِمَعْنَى التَّرْكِ، أَيْ: نَتْرُكْهَا فَلَا نُبَدِّلُهَا وَلَا نَنْسَخُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «1» أَيْ: تَرَكُوا عِبَادَتَهُ فَتَرَكَهُمْ فِي الْعَذَابِ. وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ: نَأْمُرُ بِتَرْكِهَا، يُقَالُ: أَنْسَيْتُهُ الشَّيْءَ، أَيْ: أَمَرْتُهُ بِتَرْكِهِ، وَنَسِيتُهُ تَرَكْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ عَلَيَّ عَقَبَةً أَقْضِيهَا ... لَسْتُ بِنَاسِيهَا وَلَا مُنْسِيهَا أَيْ: وَلَا آمُرُ بِتَرْكِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ بِضَمِّ النُّونِ لَا يَتَوَجَّهُ فِيهَا مَعْنَى التَّرْكِ، لَا يُقَالُ: أَنْسَى، بِمَعْنَى: تَرَكَ قَالَ: وَمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ نُنْسِها قَالَ: نَتْرُكْهَا لَا نُبَدِّلُهَا فَلَا يَصِحُّ. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّظَرِ أَنَّ مَعْنَى أَوْ نُنْسِها نُبِحْ لَكُمْ تَرْكَهَا، مِنْ نسي، إذا ترك، ثم تعديه. وَمَعْنَى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها نَأْتِ بما أَنْفَعُ لِلنَّاسِ مِنْهَا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ بِمَا هُوَ مُمَاثِلٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى إِعْمَالِ فِي الْمَنْسُوخِ وَالنَّاسِخِ، فَقَدْ يَكُونُ النَّاسِخُ أَخَفَّ، فَيَكُونُ أَنْفَعَ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ، وَقَدْ يَكُونُ أَثْقَلَ وَثَوَابُهُ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ أَنْفَعَ لَهُمْ فِي الْآجِلِ، وَقَدْ يَسْتَوِيَانِ فَتَحْصُلُ الْمُمَاثَلَةُ. وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُفِيدُ أَنَّ النَّسْخَ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ، وَأَنَّ إِنْكَارَهُ إِنْكَارٌ لِلْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ له التصرف في السموات وَالْأَرْضِ بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ وَنُفُوذِ الْأَمْرِ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ وَمَا فِيهِ النَّفْعُ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ الَّتِي تَعَبَّدَهُمْ بِهَا، وَشَرَعَهَا لَهُمْ. وَقَدْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ، وَهَذَا صُنْعُ مَنْ لَا وَلِيَّ لهم غيره وَلَا نَصِيرَ سِوَاهُ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ وَالِامْتِثَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ مما يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ وَيَنْسَاهُ بِالنَّهَارِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها وَفِي إِسْنَادِهِ الْحَجَّاجُ الْجَزَرِيُّ يُنْظَرُ فِيهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَرَأَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ سُورَةً أَقْرَأَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَا يَقْرَآنِ ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّيَانِ فَلَمْ يَقْدِرَا مِنْهَا عَلَى حَرْفٍ فَأَصْبَحَا غَادِيَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ أَوْ نُسِيَ فَالْهَوْا عَنْهَا» وَفِي إِسْنَادِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها يَقُولُ: مَا نُبَدِّلْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَتْرُكْهَا لَا نُبَدِّلُهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يَقُولُ: خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَأَرْفَقُ بِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نُنْسِها نُؤَخِّرْهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قَالَ: نُثْبِتْ خَطَّهَا، وَنُبَدِّلْ حُكْمَهَا أَوْ نُنْسِها قَالَ نُؤَخِّرْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يَقُولُ: فِيهَا تَخْفِيفٌ، فِيهَا رُخْصَةٌ، فِيهَا أَمْرٌ، فِيهَا نَهْيٌ. وَأَخْرَجَ أبو داود في ناسخه،

_ (1) . التوبة: 67.

[سورة البقرة (2) : الآيات 108 إلى 110]

وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ فِي فَضَائِلِهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ مَعَهُ سُورَةٌ، فَقَامَ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَامَ بِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَقَامَ آخَرُ يَقْرَأُ بِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَقَامَ آخَرُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَأَصْبَحُوا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: «إِنَّهَا نُسِخَتِ الْبَارِحَةَ» وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا فِي بِئْرٍ مَعُونَةَ «أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنَّ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا» ثُمَّ نُسِخَ، وَهَكَذَا ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عن أبي موسى: كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ ببراءة فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَهُ إِلَّا التُّرَابُ» وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ، أَوَّلُهَا: «سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ» فَأُنْسِينَاهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبَ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُوا عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُ آيَةُ الرَّجْمِ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وأحمد، وابن حبان عن عمر. [سورة البقرة (2) : الآيات 108 الى 110] أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) أَمْ هَذِهِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ، أَيْ، بَلْ تُرِيدُونَ، وَفِي هَذَا تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ، وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما سُئِلَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: سُؤَالًا مِثْلَ مَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ، حَيْثُ سَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهُ جَهْرَةً، وَسَأَلُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. وَقَوْلُهُ: سَواءَ هُوَ الْوَسَطُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «1» وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ يَرْثِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا وَيْحَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: السَّوَاءُ الْقَصْدُ، أَيْ: ذَهَبَ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ وَسَمْتِهِ، أَيْ: طَرِيقِ طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فِيهِ إِخْبَارُ الْمُسْلِمِينَ بِحِرْصِ الْيَهُودِ عَلَى فِتْنَتِهِمْ وَرَدِّهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّشْكِيكِ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ. وَقَوْلُهُ: لَوْ يَرُدُّونَكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَدَّ أَيْ: وَدُّوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: حَسَداً أَيْ حَسَدًا نَاشِئًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: وَدَّ. وَالْعَفْوُ: تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ. وَالصَّفْحُ: إِزَالَةُ أَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ، صَفَحْتُ عَنْ فُلَانٍ: إِذَا أَعْرَضْتَ عَنْ ذَنْبِهِ، وَقَدْ ضَرَبْتُ عَنْهُ صَفْحًا: إِذَا أَعْرَضْتَ عَنْهُ، وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي ذَلِكَ وَالْإِرْشَادُ إِلَيْهِ، وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، قاله أبو عبيدة.

_ (1) . الصافات: 55.

وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ هُوَ غَايَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، أَيِ: افْعَلُوا ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْكُمُ الْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي شَأْنِهِمْ، بِمَا يَخْتَارُهُ وَيَشَاؤُهُ، وَمَا قَدْ قَضَى بِهِ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، وَهُوَ قَتْلُ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَإِجْلَاءُ مَنْ أُجْلِيَ، وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَى مَنْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ، وَإِسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ. وَقَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ حَثٌّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ في الِاشْتِغَالِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، وَيَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالْمَصْلَحَةِ، مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ. وَتَقْدِيمِ الْخَيْرِ الَّذِي يُثَابُونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمَكِّنَ اللَّهُ لَهُمْ، وَيَنْصُرَهُمْ عَلَى الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ ووهب ابن زَيْدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ! ائْتِنَا بِكِتَابٍ يَنْزِلُ عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ نَقْرَؤُهُ، أَوْ فَجِّرْ لَنَا أَنْهَارًا نَتَّبِعْكَ وَنُصَدِّقْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ سَواءَ السَّبِيلِ وَكَانَ حُيَيُّ بن أخطب (وأبو ياسر بْنُ أَخَطَبَ) «1» مِنْ أَشَدِّ الْيَهُودِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ إِذْ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِرَسُولِهِ، وَكَانَا جَاهِدَيْنِ فِي رَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ مَا اسْتَطَاعَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: قَالَ: سَأَلَتِ الْعَرَبُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِاللَّهِ، فَيَرَوْهُ جَهْرَةً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ أبي الْعَالِيَةِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: لَوْ كَانَتْ كَفَّارَاتُنَا كَفَّارَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْرٌ، كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمُ الْخَطِيئَةَ وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً عَلَى بَابِهِ وَكَفَّارَتَهَا، فَإِنْ كَفَّرَهَا كَانَتْ له خزايا فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْهَا كَانَتْ لَهُ خزايا فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ «2» الْآيَةَ، وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَأَلَتْ قُرَيْشٌ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، فَقَالَ: نَعَمْ، وَهُوَ لَكُمْ كَالْمَائِدَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْ كَفَرْتُمْ، فَأَبَوْا وَرَجَعُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ قَالَ: يَتَبَدَّلِ الشِّدَّةَ بِالرَّخَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ قَالَ: عَدَلَ عَنِ السَّبِيلِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَشَدَّ الْأَذَى، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً «3» وَقَالَ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ «4» الْآيَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، حَتَّى

_ (1) . ما بين قوسين سقط من المطبوع واستدركناه من الدر المنثور (1/ 260) . [.....] (2) . النساء: 110. (3) . آل عمران: 186. (4) . البقرة: 109.

[سورة البقرة (2) : الآيات 111 إلى 113]

أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ بِقَتْلٍ، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ قَالَ: مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ يَقُولُ: أن محمدا رسول اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا وَقَوْلِهِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِ هَذَا فِي الْعَفْوِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: نُسِخَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «1» الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ يَعْنِي: مِنَ الْأَعْمَالِ، مِنَ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ قال تجدوا ثوابه. [سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 113] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) قَوْلُهُ: هُوداً قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُودًا بِمَعْنَى: يَهُودِيًّا، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعَ هَائِدٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ الضَّمِيرَ الْمُفْرَدَ فِي كَانَ هُوَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ مَنْ، وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: هُوداً بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ قِيلَ: فِي هَذَا الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَأَصْلُهُ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا. هَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَسَبَقَهُمْ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُ السَّلَفِ. وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ أَنَّ طَائِفَتَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَعَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ، وَأَنَّهُمْ يَخْتَصُّونَ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَوَجْهُ الْقَوْلِ: بِأَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ تُضَلِّلُ الْأُخْرَى، وَتَنْفِي عَنْهَا أَنَّهَا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ، فَضْلًا عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، كَمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّهُ قَدْ حَكَى اللَّهُ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهَا قَالَتْ: لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ، وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ، وَالْأَمَانِيُّ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ، إِلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنَ الْأَمَانِيِّ، الَّتِي آخِرُهَا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ غَيْرُهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى هَذِهِ الْأُمْنِيَّةِ الْآخِرَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْثَالُ تِلْكَ الْأُمْنِيَّةِ أَمَانِيُّهُمْ، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ لِيُطَابِقَ أَمَانِيُّهُمْ، قَوْلُهُ: هاتُوا أَصْلُهُ: هَاتُيُوا، حُذِفَتِ الضَّمَّةُ لِثِقَلِهَا، ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَيُقَالُ لِلْمُفْرَدِ الْمُذَكَّرِ: هَاتِ، وَلِلْمُؤَنَّثِ: هَاتِي، وَهُوَ صَوْتٌ بِمَعْنَى احْضَرْ. وَالْبُرْهَانُ: الدَّلِيلُ الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَهُ الْيَقِينُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: طَلَبُ الدَّلِيلِ هُنَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ النَّظَرِ، وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ يَنْفِيهِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ: فِي تِلْكَ الْأَمَانِيِّ الْمُجَرَّدَةِ وَالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَهُوَ إِثْبَاتٌ لِمَا نَفَوْهُ مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِمُ الْجَنَّةَ، أَيْ: لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ، بَلْ يَدْخُلُهَا مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. وَمَعْنَى أَسْلَمَ: اسْتَسْلَمَ وَقِيلَ: أَخْلَصَ. وَخَصَّ الْوَجْهَ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ مَا يُرَى مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ، وَفِيهِ يظهر

_ (1) . التوبة: 29. (2) . التوبة: 5.

الْعِزُّ وَالذُّلُّ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ تُخْبِرُ بِالْوَجْهِ عَنْ جُمْلَةِ الشَّيْءِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى هُنَا: الْوَجْهُ وغيره وقيل: المراد بِالْوَجْهِ هُنَا: الْمَقْصِدُ، أَيْ: مَنْ أَخْلَصَ مَقْصِدَهُ وَقَوْلُهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الحال، والضمير في قوله: وَجْهَهُ وفَلَهُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ مَنْ، وَفِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا. وَقَوْلُهُ: مَنْ إِنْ كَانَتِ الْمَوْصُولَةَ فَهِيَ فَاعِلٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: بَلَى يَدْخُلُهَا مَنْ أَسْلَمَ. وَقَوْلُهُ: فَلَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَإِنْ كَانَتْ مَنْ شَرْطِيَّةً، فَقَوْلُهُ: فَلَهُ هُوَ الْجَزَاءُ، وَمَجْمُوعُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِبْطَالٌ لِتِلْكَ الدَّعْوَى. وَقَوْلُهُ: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَمَا بَعْدَهُ، فِيهِ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَنْفِي الْخَيْرَ عَنِ الْأُخْرَى، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ إِثْبَاتَهُ لِنَفْسِهَا، تحجرا لِرَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ الشَّيْءَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ وَيُعْتَدُّ بِهِ، قَالَ: وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ، لِأَنَّ الْمُحَالَ وَالْمَعْدُومَ يَقَعُ عَلَيْهِمَا اسْمُ الشَّيْءِ، وَإِذَا نُفِيَ إِطْلَاقُ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ فَقَدْ بُولِغَ فِي تَرْكِ الِاعْتِدَادِ بِهِ إِلَى مَا لَيْسَ بَعْدَهُ، وَهَكَذَا قَوْلُهُمْ: أَقَلُّ مِنْ لَا شَيْءَ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ أَيِ: التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ جِنْسُ الْكِتَابِ، وَفِي هَذَا أَعْظَمُ تَوْبِيخٍ وَأَشَدُّ تَقْرِيعٍ، لِأَنَّ الْوُقُوعَ فِي الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ، والتكلم بما ليس عليه برهان، وهو وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّرَاسَةِ لِكُتُبِ اللَّهِ أَشَدُّ قُبْحًا، وَأَفْظَعُ جُرْمًا، وَأَعْظَمُ ذَنْبًا. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْمُرَادُ بِهِمْ: كُفَّارُ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ، قَالُوا: مِثْلَ مَقَالَةِ الْيَهُودِ، اقْتِدَاءً بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ جَهَلَةٌ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى غَيْرِ التَّقْلِيدِ لِمَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ: طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُمُ الَّذِينَ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَنَا سُبْحَانَهُ، بِأَنَّهُ الْمُتَوَلِّي لِفَصْلِ هَذِهِ الْخُصُومَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْخِلَافُ عِنْدَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَيُعَذِّبُ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْذِيبَ، وَيُنَجِّي مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّجَاةَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ الْآيَةَ، قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا، تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قَالَ: أَمَانِيُّ يَتَمَنَّوْنَهَا عَلَى الله بغير الحق قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ قَالَ: حُجَّتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بِمَا تَقُولُونَهُ أَنَّهُ كَمَا تَقُولُونَ بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يَقُولُ: أَخْلَصَ لِلَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ قَالَ: حُجَّتَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ قَالَ: أَخْلَصَ دِينَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْهُمْ أَحْبَارُ اليهود، فتنازعوا عند رسول الله، فقال رافع ابن حُرَيْمِلَةَ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَكَفَرَ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَجَحَدَ نُبُوَّةَ مُوسَى وَكَفَرَ بِالتَّوْرَاةِ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ أَيْ كُلٌّ يَتْلُو فِي كِتَابِهِ تَصْدِيقَ مَنْ كَفَرَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَنْ هَؤُلَاءِ الذين لا يعلمون؟ قَالَ: هُمْ أُمَمٌ كَانَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُمُ العرب، قالوا: ليس محمد على شيء.

[سورة البقرة (2) : الآيات 114 إلى 115]

[سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 115] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) هَذَا الِاسْتِفْهَامُ فِيهِ أَبْلَغُ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ هَذَا الظُّلْمَ مُتَنَاهٍ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَهُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَاسْمُ الاستفهام في محل رفع على الابتداء، وأظلم خَبَرُهُ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ مَسَاجِدَ، وَقِيلَ إِنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ بِتَقْدِيرِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ: مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ لِطُولِ الْكَلَامِ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ مَنَعَ وَالْمُرَادُ بِمَنْعِ الْمَسَاجِدِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ مَنْعُ مَنْ يَأْتِي إِلَيْهَا لِلصَّلَاةِ، وَالتِّلَاوَةِ، وَالذِّكْرِ، وَتَعْلِيمِهِ. وَالْمُرَادُ بِالسَّعْيِ فِي خَرَابِهَا: هُوَ السَّعْيُ فِي هَدْمِهَا، وَرَفْعِ بُنْيَانِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَرَابِ: تَعْطِيلُهَا عَنِ الطَّاعَاتِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا، فَيَكُونُ أَعَمَّ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فَيَشْمَلُ جَمِيعَ مَا يُمْنَعُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي بُنِيَتْ لَهَا الْمَسَاجِدُ، كَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ، وَالْقُعُودِ لِلِاعْتِكَافِ، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، مِنْ بَابِ عُمُومِ الْمَجَازِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ «1» وَقَوْلِهِ: مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ أَيْ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ دُخُولُهَا إِلَّا حَالَ خَوْفِهِمْ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِلْعِبَادِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَسْجِدٍ وَمَسْجِدٍ، وَبَيْنَ كَافِرٍ وكافر، كما يفيد عُمُومُ اللَّفْظِ، وَلَا يُنَافِيهِ خُصُوصُ السَّبَبِ، وَأَنْ يَجْعَلُوهُمْ بِحَالَةِ إِذَا أَرَادُوا الدُّخُولَ كَانُوا عَلَى وَجَلٍ وَخَوْفٍ مِنْ أَنْ يَفْطِنَ لَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيُنْزِلُونَ بِهِمْ مَا يُوجِبُ الْإِهَانَةَ وَالْإِذْلَالَ، وَلَيْسَ فِيهِ الْإِذْنُ لَنَا بِتَمْكِينِهِمْ مِنْ ذَلِكَ حَالَ خَوْفِهِمْ، بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَنْعِ لَهُمْ مِنَّا عَنْ دُخُولِ مَسَاجِدِنَا. وَالْخِزْيُ: قِيلَ: هُوَ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ وَإِذْلَالُهُمْ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَالْمَشْرِقُ: مَوْضِعُ الشُّرُوقِ. وَالْمَغْرِبُ: مَوْضِعُ الْغُرُوبِ، أَيْ: هُمَا مِلْكٌ لِلَّهِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِهَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ، فَيَشْمَلُ الأرض كلها. وقوله: فَأَيْنَما تُوَلُّوا أَيْ: أَيَّ جِهَةٍ تَسْتَقْبِلُونَهَا فَهُنَاكَ وَجْهُ اللَّهِ، أَيِ: الْمَكَانُ الَّذِي يَرْتَضِي لَكُمُ اسْتِقْبَالَهُ، وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ الْتِبَاسِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ الَّتِي أَمَرَنَا بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «2» قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِذَا مُنِعْتُمْ أَنْ تُصَلُّوا فِي المسجد الحرام، أي: فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَدْ جُعِلَتْ لَكُمُ الْأَرْضُ مَسْجِدًا، فَصَلُّوا فِي أَيِّ بُقْعَةٍ شِئْتُمْ مِنْ بِقَاعِهَا، وَافْعَلُوا التَّوْلِيَةَ فِيهَا، فَإِنَّ التَّوْلِيَةَ مُمْكِنَةٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَا تَخْتَصُّ أَمَاكِنُهَا فِي مَسْجِدٍ دُونَ مَسْجِدٍ، وَلَا فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ انْتَهَى. وَهَذَا التَّخْصِيصُ لَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّ اللَّفْظَ أَوْسَعُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانَ السَّبَبِ فَلَا بَأْسَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ فِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى سِعَةِ رَحْمَتِهِ. وَأَنَّهُ يُوَسِّعُ عَلَى عِبَادِهِ فِي دِينِهِمْ، وَلَا يُكَلِّفُهُمْ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، وَقِيلَ: وَاسْعٌ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ يَسَعُ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ: وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً «3» وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَاسِعُ: الْجَوَادُ الَّذِي يَسَعُ عَطَاؤُهُ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا مَنَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عِنْدَ الكعبة

_ (1) . التوبة: 18. (2) . البقرة: 144. (3) . طه: 98.

فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هُمُ النَّصَارَى، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُمُ الرُّومُ، كَانُوا ظَاهَرُوا بُخَتُنَصَّرَ عَلَى خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَفِي قَوْلِهِ أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ قَالَ: فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ رُومِيٌّ يَدْخُلُهُ الْيَوْمَ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ، وَقَدْ أُخِيفَ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَهُوَ يُؤَدِّيهَا. وَفِي قَوْلِهِ: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ قَالَ: أَمَّا خِزْيُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ إِذَا قَامَ الْمَهْدِيُّ وَفُتِحَتِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ قَتَلَهُمْ، فَذَلِكَ الْخِزْيُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُمُ الرُّومُ. وَأَخْرَجَ ابن أبي حاتم عن كعب: أنهم النصارى لما أظهروا على بيت المقدس حرقوه. وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن ابن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ حِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْتِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: لَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ إِلَّا خَائِفِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ قَالَ: يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ شَأْنُ الْقِبْلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الْآيَةَ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَرَكَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَنَسَخَهَا، فَقَالَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «1» وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ، ثُمَّ قَرَأَ ابن عمر هذه الآية فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وَقَالَ فِي هَذَا أنزلت هذه الآية. وأخرج نحوه عن ابْنُ جَرِيرٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَصَلَّى. وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَضَعَّفَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْأَحْجَارَ فَيَعْمَلُ مَسْجِدًا فَيُصَلِّي فِيهِ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ صَلَّيْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الْآيَةَ، فَقَالَ: مَضَتْ صَلَاتُكُمْ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ ذكر أنهم خطّوا خطوطا. وأخرج نحوه وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ يَرْفَعُهُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قَالَ: قِبْلَةٌ لِلَّهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهْتَ شَرْقًا أَوْ غَرْبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عمر نحوه.

_ (1) . البقرة: 150.

[سورة البقرة (2) : الآيات 116 إلى 118]

[سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 118] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) قَوْلُهُ: وَقالُوا هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى- وَقِيلَ الْيَهُودُ، أَيْ: قَالُوا- عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ- وَقِيلَ: النَّصَارَى، أَيْ: قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ- وَقِيلَ: هُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ، أَيْ: قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: سُبْحانَهُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا: تَبَرُّؤُ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ. وَقَوْلُهُ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَدٌّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ اتَّخَذَ وَلَدًا، أَيْ: بَلْ هُوَ مَالِكٌ لِمَا فِي السموات وَالْأَرْضِ، وَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ دَاخِلُونَ تَحْتَ مُلْكِهِ، وَالْوَلَدُ مِنْ جِنْسِهِمْ لَا مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ إِلَّا مِنْ جِنْسِ الْوَالِدِ. وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ الخاضع، أي: كل من في السموات وَالْأَرْضِ مُطِيعُونَ لَهُ، خَاضِعُونَ لِعَظَمَتِهِ، خَاشِعُونَ لِجَلَالِهِ، والقنوت في أصل اللغة أصله: الْقِيَامُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَالْخَلْقُ قَانِتُونَ، أَيْ: قَائِمُونَ بِالْعُبُودِيَّةِ، إِمَّا إِقْرَارًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَأَثَرُ الصَّنْعَةِ بَيِّنٌ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: أَصْلُهُ الطَّاعَةُ، وَمِنْهُ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ «1» وَقِيلَ: السُّكُونُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ «2» وَلِهَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ وَقِيلَ الْقُنُوتُ: الصَّلَاةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَانِتًا لِلَّهِ يَتْلُو كُتُبَهُ ... وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ النَّاسِ اعْتَزَلَ وَالْأَوْلَى: أَنَّ الْقُنُوتَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ قِيلَ هِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَعْنًى، وَهِيَ مُبَيَّنَةٌ. وَقَدْ نَظَمَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَا أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي شرحي على المنتقى. وبديع: فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ بَدِيعُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، أَبْدَعَ الشَّيْءَ: أَنْشَأَهُ لَا عَنْ مِثَالٍ، وَكُلُّ مَنْ أَنْشَأَ مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ قِيلَ لَهُ: مُبْدِعٌ. وَقَوْلُهُ: وَإِذا قَضى أَمْراً أَيْ: أَحْكَمَهُ وَأَتْقَنَهُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَضَى فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ، قِيلَ: هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ مَعَانٍ، يُقَالُ: قَضَى، بِمَعْنَى: خَلَقَ، وَمِنْهُ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ «3» وَبِمَعْنَى أَعْلَمَ، وَمِنْهُ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ «4» وَبِمَعْنَى: أَمَرَ، وَمِنْهُ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «5» وَبِمَعْنَى: أَلْزَمَ، وَمِنْهُ: قَضَى عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَبِمَعْنَى: أَوْفَاهُ، وَمِنْهُ فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ «6» وَبِمَعْنَى: أَرَادَ، وَمِنْهُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «7» وَالْأَمْرُ: وَاحِدُ الْأُمُورِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَعْنًى: الْأَوَّلُ: الدِّينُ، وَمِنْهُ: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ «8» الثَّانِي: بِمَعْنَى الْقَوْلِ، وَمِنْهُ: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا «9» . الثَّالِثُ: الْعَذَابُ، وَمِنْهُ: لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ «10» الرَّابِعُ: عِيسَى، وَمِنْهُ: فَإِذا قَضى أَمْراً «11» أي: أوجد عيسى عليه

_ (1) . الأحزاب: 35. (2) . البقرة: 238. (3) . فصلت: 12. (4) . الإسراء: 4. (5) . الإسراء: 23. [.....] (6) . القصص: 29. (7) . غافر: 68. (8) . التوبة: 48. (9) . المؤمنون: 27. (10) . إبراهيم: 22. (11) غافر: 68.

السَّلَامُ. الْخَامِسُ: الْقَتْلُ، وَمِنْهُ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ «1» السَّادِسُ: فَتْحُ مَكَّةَ، وَمِنْهُ: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ «2» . السَّابِعُ: قَتْلُ بَنِي قُرَيْظَةَ وإجلاء بني النَّضِيرِ، وَمِنْهُ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ «3» . الثَّامِنُ: الْقِيَامَةُ، وَمِنْهُ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ «4» والتاسع: الْقَضَاءُ، وَمِنْهُ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ «5» الْعَاشِرُ: الْوَحْيُ، وَمِنْهُ: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ «6» الْحَادِي عَشَرَ: أَمْرُ الْخَلَائِقِ، وَمِنْهُ: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «7» الثَّانِي عَشَرَ: النَّصْرُ وَمِنْهُ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ «8» . الثَّالِثَ عَشَرَ: الذَّنْبُ، وَمِنْهُ فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها «9» الرَّابِعَ عَشَرَ: الشَّأْنُ، وَمِنْهُ: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ «10» هَكَذَا أَوْرَدَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَيْسَ تَحْتَ ذَلِكَ كَثِيرُ فَائِدَةٍ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْأُمُورِ الْمُخْتَلِفَةِ لِصِدْقِ اسْمِ الْأَمْرِ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الظَّاهِرُ فِي هَذَا: الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَأَنَّهُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ هَذَا اللَّفْظَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَانَعٌ وَلَا جَاءَ مَا يُوجِبُ تَأْوِيلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ «11» وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «12» وَقَالَ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ «13» وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَإِنَّمَا ... يَقُولُ لَهُ كُنْ قَوْلُهُ فَيَكُونُ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ، وَأَنَّهُ لَا قَوْلَ وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ يَقْضِيهِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَوْلِ، وَمِنْهُ قول الشاعر، وهو عمرو بْنُ حُمَمَةَ الدُّوسِيُّ: فَأَصْبَحْتُ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فِرَاخُهُ ... إِذَا رَامَ تَطْيَارًا يُقَالُ لَهُ قَعِ وَقَالَ آخَرُ: قَالَتْ جَنَاحَاهُ لِسَاقَيْهِ الْحَقَا ... وَنَجِّيَا لحمكما أَنْ يُمَزَّقَا وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْيَهُودُ، وَقِيلَ: النَّصَارَى، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، لِأَنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ، وَقِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ، ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ، أَيْ: هَلَّا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ فَنَعْلَمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ تَأْتِينا بِذَلِكَ عَلَامَةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ: كُفَّارَ الْعَرَبِ، أَوِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ، فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ: الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، أَوِ الْيَهُودُ، فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ: الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ: النَّصَارَى تَشابَهَتْ أَيْ فِي التَّعَنُّتِ وَالِاقْتِرَاحِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَشابَهَتْ فِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَيْ: يَعْتَرِفُونَ بِالْحَقِّ، وَيُنْصِفُونَ فِي الْقَوْلِ، وَيُذْعِنُونَ لِأَوَامِرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، لِكَوْنِهِمْ مُصَدِّقِينَ لَهُ سُبْحَانَهُ، مُؤْمِنِينَ بِآيَاتِهِ، مُتَّبِعِينَ لِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَشَتَمَنِي، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ: فَيَزْعُمُ: أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ: فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي الباب أحاديث. وأخرج عبد

_ (1) . غافر: 78. (2) . التوبة: 24. (3) . البقرة: 109. (4) . النحل: 1. (5) . يونس: 3 و 31. (6) . الطلاق: 12. (7) . الشورى: 53. (8) . آل عمران: 154. [.....] (9) . الطلاق: 9. (10) . هود: 97. (11) يس: 82. (12) النحل: 40. (13) القمر: 50.

[سورة البقرة (2) : الآيات 119 إلى 121]

ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَ اللَّهِ قَالَ: تَنْزِيهُ اللَّهِ نَفْسَهُ عَنِ السُّوءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّسْبِيحِ، أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ: سُبْحَانَ الله، قال: برأه اللَّهِ مِنَ السُّوءِ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ طَلْحَةَ بن عبد اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَفْسِيرِ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقَالَ: هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ حَرْفٍ فِي الْقُرْآنِ يُذْكَرُ فِيهِ الْقُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ قَالَ: مُطِيعُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي العالية فِي قَوْلِهِ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَقُولُ: ابْتَدَعَ خَلْقَهُمَا وَلَمْ يُشْرِكْهُ فِي خَلْقِهِمَا أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ فَقُلْ لِلَّهِ: فَلْيُكَلِّمْنَا حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمُ النَّصَارَى وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَهُودُ. [سورة البقرة (2) : الآيات 119 الى 121] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) قَوْلُهُ: بَشِيراً وَنَذِيراً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ: أَرْسَلْنَاكَ لِأَجْلِ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تُسْئَلُ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ، أَيْ: حَالَ كونك غير مسؤول، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ مَبْنِيًّا لِلْمَعْلُومِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَطْفًا عَلَى بَشِيراً وَنَذِيراً أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ غَيْرَ سَائِلٍ عَنْهُمْ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ يُغْنِي عَنْ سؤاله عنهم، وقرأ نافع: وَلا تُسْئَلُ بِالْجَزْمِ: أَيْ لَا يَصْدُرُ مِنْكَ السُّؤَالُ عَنْ هَؤُلَاءِ، أَوْ لَا يَصْدُرُ مِنْكَ السُّؤَالُ عَمَّنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ تَعْظِيمًا لِحَالِهِ وَتَغْلِيظًا لِشَأْنِهِ، أَيْ: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ فَظِيعٌ وَخَطْبٌ شَنِيعٌ، يَتَعَاظَمُ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يُجْرِيَهُ عَلَى لسانه، أو يتعاظم السامع أن يسمعه. وقوله: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ الْآيَةَ، أَيْ: لَيْسَ غَرَضُهُمْ وَمَبْلَغُ الرِّضَا مِنْهُمْ مَا يَقْتَرِحُونَهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَيُورِدُونَهُ مِنَ التَّعَنُّتَاتِ، فَإِنَّكَ لَوْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ مَا يَقْتَرِحُونَ وَأَجَبْتَهُمْ عَنْ كُلِّ تَعَنُّتٍ لَمْ يَرْضَوْا عَنْكَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُمْ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُ حَتَّى يَدْخُلَ فِي دِينِهِمْ، وَيَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. وَالْمِلَّةُ: اسْمٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي كُتُبِهِ عَلَى أَلْسُنِ أَنْبِيَائِهِ، وَهَكَذَا الشَّرِيعَةُ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ

سُبْحَانَهُ، فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى الْحَقِيقِيُّ، لَا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمَنْسُوخَةِ، وَالْكُتُبِ الْمُحَرَّفَةِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِوَعِيدٍ شَدِيدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِ اتَّبَعَ أَهْوَاءَهُمْ، وَحَاوَلَ رِضَاهُمْ، وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ مَا يُوَافِقُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيضًا لِأُمَّتِهِ، وَتَحْذِيرًا لَهُمْ أَنْ يُوَاقِعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يَدْخُلُوا فِي أَهْوِيَةِ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَيَطْلُبُوا رِضَا أَهْلِ الْبِدَعِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي تَرْجُفُ لَهُ الْقُلُوبُ وَتَتَصَدَّعُ مِنْهُ الْأَفْئِدَةُ، مَا يُوجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْحَامِلِينَ لِحُجَجِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْقَائِمِينَ بِبَيَانِ شَرَائِعِهِ، تَرْكَ الدِّهَانَ لِأَهْلِ الْبِدَعِ الْمُتَمَذْهِبِينَ بِمَذَاهِبِ السُّوءِ، التَّارِكِينَ لِلْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الْمُؤْثِرِينَ لِمَحْضِ الرَّأْيِ عَلَيْهِمَا فَإِنَّ غَالِبَ هَؤُلَاءِ وَإِنْ أَظْهَرَ قَبُولًا وَأَبَانَ مِنْ أَخْلَاقِهِ لِينًا لَا يُرْضِيهِ إِلَّا اتِّبَاعُ بِدْعَتِهِ، وَالدُّخُولُ فِي مَدَاخِلِهِ، وَالْوُقُوعُ فِي حَبَائِلِهِ، فَإِنْ فَعَلَ الْعَالِمُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَسْتَفِيدُ بِهِ أَنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ مَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لَا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ الَّتِي هِيَ ضَلَالَةٌ مَحْضَةٌ، وَجَهَالَةٌ بَيِّنَةٌ وَرَأْيٌ منها، وَتَقْلِيدٌ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَهُوَ إِذْ ذاك ماله مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَخْذُولٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَالِكٌ بِلَا شَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قِيلَ: هُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْكِتَابُ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمُرَادُ بقوله: يَتْلُونَهُ أنهم يعملون بِمَا فِيهِ، فَيُحَلِّلُونَ حَلَالَهُ، وَيَحْرِمُونَ حَرَامَهُ، فَيَكُونُ: مِنْ تَلَاهُ، يَتْلُوهُ: إِذَا اتَّبَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها «1» أَيِ: اتَّبَعَهَا، كَذَا قِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التِّلَاوَةِ، أَيْ: يَقْرَءُونَهُ حَقَّ قِرَاءَتِهِ، لَا يُحَرِّفُونَهُ وَلَا يُبَدِّلُونَهُ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: يَتْلُونَهُ أو الخبر قوله: فَأُولئِكَ مَعَ مَا بَعْدَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ» فَنَزَلَ إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ فما ذكرهما حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ مَرْفُوعًا وَقَالَ: هُوَ مُعْضَلُ الْإِسْنَادِ، ضَعِيفٌ، لَا تَقُومُ بِهِ وَلَا بِالَّذِي قَبْلَهُ حُجَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: الْجَحِيمِ: مَا عَظُمَ مِنَ النَّارِ. وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ كَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قِبْلَتِهِمْ، فَلَمَّا صَرَفَ اللَّهُ الْقِبْلَةَ إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَيِسُوا مِنْهُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى الآية. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قَالَ: يُحِلُّونَ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَلَا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَأَخْرَجُوا عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، ثُمَّ قَرَءُوا وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها يَقُولُ: اتَّبَعَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخطاب فِي قَوْلِهِ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ إِذَا مَرَّ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَإِذَا مَرَّ بذكر الناس تَعَوُّذَ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الرُّوَاةِ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجَاهِيلُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ «يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ» ، وَكَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ مَجَاهِيلَ قَالَ: لَكِنَّ معناه صحيح.

_ (1) . الشمس: 2.

[سورة البقرة (2) : الآيات 122 إلى 124]

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ مِثْلَ مَا سَبَقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُحِلُّونَ حَلَالَهُ إِلَى آخِرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: يَتَكَلَّمُونَ بِهِ كَمَا أُنْزِلَ وَلَا يَكْتُمُونَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ حَكَى نَحْوَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قَالَ: يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ، وَيَكِلُونَ مَا أُشْكِلَ عَلَيْهِمْ إلى عالمه. [سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 124] يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ قَدْ سبق مثل هذا في صدر السورة، وتقدم تَفْسِيرُهُ، وَوَجْهُ التَّكْرَارِ الْحَثُّ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ لَمَّا طَالَ الْمَدَى فِي اسْتِقْصَاءِ تَذْكِيرِهِمْ بِالنِّعَمِ ثُمَّ فِي بَيَانِ عَوَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ وَخَتَمَ ذَلِكَ بِالتَّرْهِيبِ لِتَضْيِيعِ أَدْيَانِهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ أَعَادَ مَا صَدَّرَ بِهِ قِصَّتَهُمْ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ حُلُولِ النِّقَمِ يَوْمَ تُجْمَعُ الْأُمَمُ، وَيَدُومُ فِيهِ النَّدَمُ لِمَنْ زَلَّتْ بِهِ الْقَدَمُ، لِيُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ فَذْلَكَةُ الْقِصَّةِ، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ الْحَثُّ عَلَى انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ. انْتَهَى. وَأَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ سَبَبُ التَّكْرَارِ ما ذكره من طول المدى وأنه أعاد مَا صَدَّرَ بِهِ قِصَّتهمْ لِذَلِكَ لَكَانَ الْأَوْلَى بِالتَّكْرَارِ وَالْأَحَقُّ بِإِعَادَةِ الذِّكْرِ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «1» فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعَ كَوْنِهَا أَوَّلَ الْكَلَامِ مَعَهُمْ وَالْخِطَابِ لَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هِيَ أَيْضًا أَوْلَى بِأَنْ تُعَادَ وَتُكَرَّرَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْرِ بِذِكْرِ النِّعَمِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالرَّهْبَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ صِحَّةَ مَا قَدَّمْنَاهُ لك عند أن شَرْعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْهُ. ثُمَّ حَكَى الْبَقَاعِيُّ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ عَنِ الْحَوَالِي أَنَّهُ قَالَ: كَرَّرَهُ تَعَالَى إِظْهَارًا لِمَقْصِدِ الْتِئَامِ آخِرِ الْخِطَابِ بِأَوَّلِهِ، وَلِيُتَّخَذَ هَذَا الْإِفْصَاحُ وَالتَّعْلِيمُ أَصْلًا لِمَا يُمْكِنُ بِأَنْ يَرِدَ مِنْ نَحْوِهِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، حَتَّى كَانَ الْخِطَابُ إِذَا انْتَهَى إِلَى غَايَةِ خَاتَمِهِ يَجِبُ أَنْ يَلْحَظَ الْقَلْبُ بِذَاتِهِ تِلْكَ الْغَايَةَ فَيَتْلُوهَا، لِيَكُونَ فِي تِلَاوَتِهِ جَامِعًا لِطَرَفَيِ الثَّنَاءِ، وَفِي تَفْهِيمِهِ جَامِعًا لِمَعَانِي طَرَفَيِ الْمَعْنَى. انْتَهَى. وَأَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ سَبَبَ التَّكْرَارِ لَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ مَا عَرَّفْنَاكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِيُتَّخَذَ ذَلِكَ أَصْلًا لِمَا يَرِدُ مِنَ التَّكْرَارِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ حُصُولَ هَذَا الْأَمْرِ فِي الْأَذْهَانِ وَتَقَرُّرَهُ فِي الْأَفْهَامِ لَا يَخْتَصُّ بِتَكْرِيرِ آيَةٍ مُعَيَّنَةٍ يَكُونُ افْتِتَاحُ هَذَا الْمَقْصِدِ بِهَا، فَلَمْ تَتِمَّ حِينَئِذٍ النُّكْتَةُ فِي تَكْرِيرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِخُصُوصِهِمَا، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الَّتِي لَا تَبْلُغُهَا الْأَفْهَامُ وَلَا تُدْرِكُهَا الْعُقُولُ، فَلَيْسَ فِي تَكْلِيفِ هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتِ الْمُتَعَسِّفَةِ إِلَّا مَا عَرَّفْنَاكَ بِهِ هُنَالِكَ فَتَذَكَّرْ. قَوْلُهُ: وَإِذِ ابْتَلى الِابْتِلَاءُ: الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، أَيِ: ابتلاه بما أمره به،

_ (1) . البقرة: 122.

وإِبْراهِيمَ مَعْنَاهُ فِي السُّرْيَانِيَّةِ: أَبٌ رَحِيمٌ، كَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ ذَلِكَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَثِيًرا مَا يَقَعُ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ السُّرْيَانِيِّ وَالْعَرَبِيِّ. وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ هُنَا سُؤَالًا فِي رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ مَعَ كَوْنِ رُتْبَتِهِ التَّأْخِيرَ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ لَفْظًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُشْتَغَلَ بِذِكْرِهِ، أَوْ تَرِدَ فِي مِثْلِهِ الْأَسْئِلَةُ، أَوْ يُسَوَّدَ وَجْهُ القرطاس بإيضاحه. وقوله: بِكَلِماتٍ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِهَا، فَقِيلَ: هِيَ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: ذَبْحُ ابْنِهِ، وَقِيلَ: أَدَاءُ الرِّسَالَةِ، وَقِيلَ: هِيَ خِصَالُ الْفِطْرَةِ، وَقِيلَ: هِيَ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَقِيلَ: بِالطَّهَارَةِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَتْ بِمُتَنَاقِضَةٍ، لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ أَنَّ الْكَلِمَاتِ هِيَ قَوْلُهُ: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ وَمَا بَعْدَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْكَلِمَاتِ، وَسَيَأْتِي عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ، وَعَنْ آخَرِينَ مَا يُخَالِفُهُ. وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ مستأنفا، كأنه: مَاذَا قَالَ لَهُ؟ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ الْمُرَادُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا بِحَدِيثٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ وَلَا بِنَقْلِ الْجَمَاعَةِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الَّذِي قَالَهُ مجاهد وأبو صالح الربيع بْنُ أَنَسٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، يَعْنِي: أَنَّ الْكَلِمَاتِ هِيَ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَقَوْلُهُ: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَمَا بَعْدَهُ. وَرَجَّحَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّهَا تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِمَا هُوَ الْحَقُّ بَعْدَ إِيرَادِ مَا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَقَوْلُهُ: فَأَتَمَّهُنَّ أَيْ: قَامَ بِهِنَّ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَامْتَثَلَ أَكْمَلَ امْتِثَالٍ. وَالْإِمَامُ: هُوَ مَا يُؤْتَمُّ بِهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلطَّرِيقِ: إِمَامٌ، وَلِلْبِنَاءِ: إِمَامٌ، لِأَنَّهُ يُؤْتَمُّ بِذَلِكَ، أَيْ: يَهْتَدِي بِهِ السَّالِكُ، وَالْإِمَامُ لَمَّا كَانَ هُوَ الْقُدْوَةَ لِلنَّاسِ لِكَوْنِهِمْ يَأْتَمُّونَ بِهِ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دُعَاءً مِنْ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِقَصْدِ الِاسْتِفْهَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِصِيغَتِهِ، أَيْ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي مَاذَا يَكُونُ يَا رَبِّ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ فِيهِمْ عُصَاةً وَظَلَمَةً، وَأَنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ لِذَلِكَ، وَلَا يَقُومُونَ بِهِ، وَلَا يَنَالُهُمْ عَهْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالذُّرِّيَّةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الذَّرِّ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ الْخَلْقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ حِينَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَالذَّرِّ، وَقِيلَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ: ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَذْرَؤُهُمْ: إِذَا خَلَقَهُمْ. وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ «1» قَالَ فِي الصِّحَاحِ: ذَرَّتِ الرِّيحُ السَّحَابَ وَغَيْرَهُ تَذْرُوهُ وَتَذْرِيهِ ذَرْوًا وَذَرْيًا، أَيْ: نَسَفَتْهُ وَقَالَ الْخَلِيلُ، إِنَّمَا سُمُّوا ذُرِّيَّةً لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَرَأَهَا عَلَى الْأَرْضِ كما ذرأ الزراع الْبِذْرَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْعَهْدِ فَقِيلَ: الْإِمَامَةُ وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: عَهْدُ اللَّهِ: أَمْرُهُ. وَقِيلَ: الْأَمَانُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْعَمَلِ بِالشَّرْعِ كَمَا وَرَدَ، لِأَنَّهُ إِذَا زَاغَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ ظَالِمًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَهْدِ، وَمَا تُفِيدُهُ الْإِضَافَةُ مِنَ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى السَّبَبِ وَلَا إِلَى السِّيَاقِ، فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ مِنْ وَصْفِ الظُّلْمِ فِي كُلِّ مَنْ تَعَلَّقَ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ. وَقَدِ اخْتَارَ ابن جرير: أن هذه الآية وإن

_ (1) . الكهف: 45.

كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ لَا يَنَالُ عَهْدُ اللَّهِ بِالْإِمَامَةِ ظَالِمًا، فَفِيهَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ أَنَّهُ سَيُوجَدُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ هُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَا جَدْوَى لِكَلَامِهِ هَذَا. فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ لِعِبَادِهِ أَنْ لَا يُوَلُّوا أُمُورَ الشَّرْعِ ظَالِمًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ لِأَنَّ أَخْبَارَهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَخَلَّفَ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ نَالَ عَهْدُهُ مِنِ الْإِمَامَةِ وَغَيْرِهَا كَثِيرًا مِنَ الظَّالِمِينَ. قَوْلُهُ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ: هُوَ الْكَعْبَةُ، غَلَبَ عَلَيْهِ كَمَا غَلَبَ النجم على الثريا، ومَثابَةً: مَصْدَرٌ مِنْ: ثَابَ، يَثُوبُ، مَثَابًا، وَمَثَابَةً، أَيْ: مَرْجِعًا يَرْجِعُ الْحُجَّاجُ إِلَيْهِ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فِي الْكَعْبَةِ: مثابا لأفناء القبائل كلّها ... تخبّ إليها اليعملات الذّوامل وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: «مَثَابَاتٍ» وَقِيلَ: الْمَثَابَةُ: مِنَ الثَّوَابِ، أَيْ: يُثَابُونَ هُنَالِكَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَا يَقْضُونَ مِنْهُ أَوْطَارَهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ: جُعِلَ البيت مثابا لَهُمْ ... لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرُ يَقْضُونَ الْوَطَرَ قَالَ الْأَخْفَشُ: وَدَخَلَتِ الْهَاءُ لِكَثْرَةِ مَنْ يَثُوبُ إِلَيْهِ، فَهِيَ كَعَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ لِلتَّأْنِيثِ وَلَيْسَتْ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَوْلُهُ: وَأَمْناً هُوَ اسْمُ مَكَانٍ، أَيْ: مَوْضِعُ أَمْنٍ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، أَيْ: جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ، وَأَمْنًا، وَاتَّخَذُوهُ مُصَلًّى. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ عَطْفًا عَلَى اذْكُرُوا الْمَذْكُورِ أَوَّلِ الْآيَاتِ، أَوْ عَلَى اذْكُرُوا الْمُقَدَّرِ عَامِلًا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: وَقُلْنَا اتَّخِذُوا: وَالْمَقَامُ فِي اللُّغَةِ: مَوْضِعُ الْقِيَامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: هُوَ مِنْ: قَامَ، يَقُومُ، يَكُونُ مَصْدَرًا وَاسْمًا لِلْمَوْضِعِ، وَمَقَامُ: مَنْ: أَقَامَ، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا قَوْلُ الشاعر: وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَهْلُ مَقَامَاتٍ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْمَقَامِ عَلَى أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا أَنَّهُ الْحَجَرُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ، وَيُصَلُّونَ عِنْدَهُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ وَقِيلَ: الْمَقَامُ: الْحَجُّ كُلُّهُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَقِيلَ: عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ، رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْحَرَمُ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ قَالَ: ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالطَّهَارَةِ: خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ، وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ. فِي الرَّأْسِ: قَصُّ الشَّارِبِ، والمضمضة، والاستنشاق والسّواك، وفرق الشعر، وفي الجسد: تقليم الأظافر، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَغَسْلُ مَكَانِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حاتم، والحاكم،

وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: مَا ابْتُلِيَ أَحَدٌ بِهَذَا الدِّينِ فَقَامَ بِهِ كُلِّهِ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ. وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا الْكَلِمَاتُ؟ قَالَ: سِهَامُ الْإِسْلَامِ ثَلَاثُونَ سَهْمًا: عَشْرَةٌ فِي بَرَاءَةٌ التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ «1» إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَعَشْرَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ «2» وسَأَلَ سائِلٌ «3» وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ «4» لآيات، وَعَشْرَةٌ فِي الْأَحْزَابِ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ «5» إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَأَتَمَّهُنَّ كُلَّهُنَّ، فَكَتَبَ لَهُ بَرَاءَةً، قَالَ تَعَالَى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى «6» وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ عَنْهُ، قَالَ: مِنْهُنَّ مَنَاسِكُ الْحَجِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: الْكَلِمَاتُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ «7» وَالْآيَاتُ فِي شَأْنِ الْمَنَاسِكِ، وَالْمَقَامِ الَّذِي جُعِلَ لِإِبْرَاهِيمَ، وَالرِّزْقِ الَّذِي رُزِقَ سَاكِنُو الْبَيْتِ، وَبَعْثِ مُحَمَّدٍ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ قَالَ: ابْتُلِيَ بِالْآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَلِمَاتُ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ فَأَتَمَّهُنَّ: فِرَاقُ قَوْمِهِ فِي اللَّهِ حِينَ أُمِرَ بمفارقتهم، ومحاجّته نمرود فِي اللَّهِ حِينَ وَقَفَهُ عَلَى مَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ مِنْ خَطَرِ الْأَمْرِ الَّذِي فِيهِ خِلَافُهُمْ، وَصَبْرُهُ عَلَى قَذْفِهِمْ إِيَّاهُ فِي النَّارِ لِيَحْرِقُوهُ فِي اللَّهِ، وَالْهِجْرَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ وَطَنِهِ وَبِلَادِهِ حِينَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُمْ، وَمَا أَمَرَهُ به من الضيافة والصبر عليهما، وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهِ، فَلَمَّا مَضَى عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قالَ اللَّهُ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «8» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالْقَمَرِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالشَّمْسِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالْهِجْرَةِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالْخِتَانِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِابْنِهِ فَرَضِيَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ: فَأَدَّاهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ فِطْرَةِ إِبْرَاهِيمَ السِّوَاكُ» . قُلْتُ: وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ إِسْنَادَهُ إِلَى عَطَاءٍ صَحِيحٌ فَهُوَ مُرْسَلٌ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَلَا يَحِلُّ الِاعْتِمَادُ عَلَى مِثْلِهِ فِي تفسيره كَلَامَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهَكَذَا لَا يَحِلُّ الِاعْتِمَادُ عَلَى مِثْلِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مِنْ فِطْرَةِ إِبْرَاهِيمَ غَسْلُ الذَّكَرِ وَالْبَرَاجِمِ. وَمِثْلِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْهُ قَالَ: سِتٌّ مِنْ فِطْرَةِ إِبْرَاهِيمَ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَالسِّوَاكُ، وَالْفَرْقُ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَالِاسْتِنْجَاءُ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، قَالَ: ثَلَاثَةٌ فِي الرَّأْسِ، وَثَلَاثَةٌ فِي الْجَسَدِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَشْرُوعِيَّةُ تِلْكَ الْعَشْرِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا الْكَلِمَاتُ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ. وَأَحْسَنُ مَا رُوِيَ عَنْهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ أَوْ يَأْخُذُ مِنْ شَارِبِهِ. قال: وكان خَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ يَفْعَلُهُ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ فِعْلَ الْخَلِيلِ لَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا جَاءَنَا مِنْ طَرِيقٍ تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ تَعْيِينُ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ لَمْ يَبْقَ لَنَا إلا أن نقول: إنها ما ذكره اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْكَلِمَاتِ، أَوِ السُّكُوتُ وَإِحَالَةُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابن عباس ونحوه من الصحابة من بَعْدَهُمْ فِي تَعْيِينِهَا، فَهُوَ أَوَّلًا أَقْوَالُ صَحَابَةٍ لا تقوم بِهَا الْحُجَّةُ فَضْلًا عَنْ أَقْوَالِ مَنْ بَعْدِهِمْ،

_ (1) . التوبة: 112. (2) . المؤمنون: 1. (3) . المعارج: 1. (4) . المعارج: 26. (5) . الأحزاب: 35. (6) . النجم: 37. [.....] (7) . البقرة: 127. (8) . البقرة: 131.

وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ لَهُ حُكْمَ الرَّفْعِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ اخْتِلَافًا يَمْتَنِعُ مَعَهُ الْعَمَلُ بِبَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْهُمْ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ، بَلِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ كَمَا قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ؟ - وَبِهَذَا تَعْرِفُ ضَعْفَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُصَارُ إِلَى الْعُمُومِ، وَيُقَالُ: تِلْكَ الْكَلِمَاتُ هِيَ جميع ما ذكر هُنَا، فَإِنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ تَفْسِيرَ كَلَامِ اللَّهِ بِالضَّعِيفِ، وَالْمُتَنَاقِضِ، وَمَا لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً يُقْتَدَى بِدِينِكَ، وَهَدْيِكَ، وَسُنَّتِكَ قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي إِمَامًا لِغَيْرِ ذُرِّيَّتِي قالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أَنْ يُقْتَدَى بِدِينِهِمْ، وَهَدْيِهِمْ، وَسُنَّتِهِمْ-. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ، ثُمَّ قَالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هَذَا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَنَالُ عَهْدُهُ ظَالِمًا، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ نَالُوا عَهْدَهُ، فَوَارَثُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ وَغَازُوهُمْ وَنَاكَحُوهُمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَصَرَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَكَرَامَتَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَجْعَلُ إِمَامًا ظَالِمًا يُقْتَدَى بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُخْبِرُهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي ذُرِّيَّتِهِ ظَالِمٌ لَا يَنَالُ عَهْدَهُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِظَالِمٍ عَلَيْكَ عَهْدٌ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وقد أخرج وكيع، وابن مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قَالَ: لَا طَاعَةَ إِلَّا فِي المعروف. وإسناده عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ هَكَذَا: قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَامِدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّامَغَانِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، سمعت النبيّ يَقُولُ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: لَيْسَ لِلظَّالِمِ عَهْدٌ، وَإِنْ عَاهَدْتَهُ فَانْقُضْهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ وَابْنِ حِبَّانَ نَحْوُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً قَالَ: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا يَأْتُونَهُ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرزاق، وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَمْناً قَالَ: أَمْنًا لِلنَّاسِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي في ثلاث، أو وافقني رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى «1» وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ- وَاجْتَمَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاؤُهُ فِي الْغَيْرَةِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ «2» فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مُخْتَصَرًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ

_ (1) . البقرة: 125. (2) . التحريم: 5.

[سورة البقرة (2) : الآيات 125 إلى 128]

وَمَشَى أَرْبَعًا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ عَمَدَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَرَأَ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» وَفِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْأُمَّهَاتِ وَغَيْرِهَا، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُومُ عَلَيْهِ لِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ لَمَّا ارْتَفَعَ الْجِدَارُ، أَتَاهُ إِسْمَاعِيلُ بِهِ لِيَقُومَ فَوْقَهُ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ مُلْصَقًا بِجِدَارِ الْكَعْبَةِ. وَأَوَّلُ مَنْ نَقَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، كَمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي وَصْفِ حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ عُمَرُ: هَذَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ» . وأخرج نحوه ابن مردويه. [سورة البقرة (2) : الآيات 125 الى 128] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) قَوْلُهُ: عَهِدْنا مَعْنَاهُ هُنَا: أَمَرْنَا أو أوجبنا. وَقَوْلُهُ: أَنْ طَهِّرا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: بِأَنْ طَهِّرَا، قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ بِتَقْدِيرِ أَيْ الْمُفَسِّرَةِ، أَيْ: أَنْ طَهِّرَا، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّطْهِيرِ: قِيلَ: مِنَ الْأَوْثَانِ وَقِيلَ: مِنَ الْآفَاتِ وَالرِّيَبِ وَقِيلَ: مِنَ الْكُفَّارِ وَقِيلَ: مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَطَوَافِ الْجُنُبِ، وَالْحَائِضِ، وَكُلِّ خَبِيثٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى التَّطْهِيرِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُهُ إِمَّا تَنَاوُلًا شُمُولِيًّا أَوْ بَدَلِيًّا، وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: بَيْتِيَ لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَهِشَامٌ، وَحَفْصٌ: بَيْتِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِإِسْكَانِهَا. وَالطَّائِفُ: الَّذِي يَطُوفُ بِهِ وَقِيلَ: الْغَرِيبُ الطَّارِئُ عَلَى مَكَّةَ. وَالْعَاكِفُ: الْمُقِيمُ، وَأَصِلُ الْعُكُوفِ فِي اللُّغَةِ: اللُّزُومُ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الشَّيْءِ وَقِيلَ: هُوَ الْمُجَاوِرُ دُونَ الْمُقِيمِ مِنْ أَهْلِهَا. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الرُّكَّعِ السُّجُودِ الْمُصَلُّونَ، وَخَصَّ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَشْرَفُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ سَتَأْتِي الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ مَكَّةَ، وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الله حرّمها يوم خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْبَحْثِ. وَقَوْلُهُ: بَلَداً آمِناً أَيْ: مَكَّةَ وَالْمُرَادُ: الدُّعَاءُ لِأَهْلِهِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَغَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِ: عِيشَةٍ راضِيَةٍ «1» أَيْ: رَاضٍ صَاحِبُهَا. وَقَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِ أَهْلَهُ، أَيِ: ارْزُقْ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِهِ دُونَ مَنْ كَفَرَ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الله سبحانه ردّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ طَلَبَ الرِّزْقَ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَيْ: وَأَرْزُقُ مَنْ كَفَرَ، فَأُمَتِّعُهُ بِالرِّزْقِ قَلِيلًا، ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا بَيَانًا لِحَالِ مَنْ كَفَرَ، وَيَكُونَ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ الْكَافِرِينَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ أَيْ: مَنْ كَفَرَ فإني أمتعه

_ (1) . الحاقة: 21.

فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِمَا يَحْتَاجُهُ مِنَ الرِّزْقِ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ بَعْدَ هَذَا التَّمْتِيعِ إِلى عَذابِ النَّارِ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَنَالُ الْكَفَرَةَ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا تَمْتِيعُهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ، وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: فَأُمَتِّعُهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَكَذَلِكَ له: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ دَعَا لِلْكَافِرِينَ بِالْإِمْتَاعِ قَلِيلًا، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَضْطَرَّهُمْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ. وَمَعْنَى: أَضْطَرُّهُ: أَلْزَمَهُ حَتَّى صَيَّرَهُ مُضْطَرًّا لِذَلِكَ لَا يَجِدُ عَنْهُ مُخَلِّصًا، ولا منه متحوّلا. وقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ هُوَ حِكَايَةٌ لِحَالٍ مَاضِيَةٍ اسْتِحْضَارًا لِصُورَتِهَا الْعَجِيبَةِ. وَالْقَوَاعِدُ: الْأَسَاسُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ الْجُدُرُ. وَالْمُرَادُ بِرَفْعِهَا: رَفْعُ مَا هُوَ مَبْنِيٌّ فَوْقَهَا، لَا رَفْعُهَا فِي نَفْسِهَا، فَإِنَّهَا لَمْ تَرْتَفِعْ، لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْبِنَاءِ الْمُرْتَفِعِ فَوْقَهَا صَارَتْ كَأَنَّهَا مُرْتَفِعَةٌ بِارْتِفَاعِهِ، كَمَا يُقَالُ: ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ، وَلَا يقال: ارتفع أعالي البناء، ولا أسافله. وقوله: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا فِي مَحَلِّ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: قَائِلِينَ: رَبَّنَا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل» . وَقَوْلُهُ: وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أَيِ: اجْعَلْنَا ثَابِتَيْنِ عَلَيْهِ، أَوْ زِدْنَا مِنْهُ. قِيلَ الْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ هُنَا: مَجْمُوعُ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أي: واجعل من ذريتنا، و «من» لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلتَّبْيِينِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّهُ أَرَادَ بِالذُّرِّيَّةِ: الْعَرَبَ خَاصَّةً، وَكَذَا قَالَ السُّهَيْلِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ ظَهَرَتْ فِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً «1» وَتُطْلَقُ عَلَى الدِّينِ وَمِنْهُ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «2» وَتُطْلَقُ عَلَى الزَّمَانِ، وَمِنْهُ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «3» وَقَوْلُهُ: وَأَرِنا مَناسِكَنا هِيَ مِنَ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَغَيْرِهِمْ: «أَرْنَا» بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَرْنَا إِدَاوَةَ عبد الله نملؤها ... مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا وَالْمَنَاسِكُ: جَمْعُ نُسُكٍ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الْغَسْلُ، يُقَالُ نَسَكَ ثَوْبَهُ: إِذَا غَسَلَهُ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ وَالْمُرَادُ هُنَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَقِيلَ: مَوَاضِعُ الذَّبْحِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْمُتَعَبَّدَاتِ. وَقَوْلُهُ: وَتُبْ عَلَيْنا قِيلَ الْمُرَادُ بِطَلَبِهِمَا لِلتَّوْبَةِ: التَّثْبِيتُ. لِأَنَّهُمَا مَعْصُومَانِ لَا ذَنْبَ لَهُمَا وَقِيلَ الْمُرَادُ: تُبْ عَلَى الظَّلَمَةِ مِنَّا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ أَيْ: أَمَرْنَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ قَالَ: مِنَ الْأَوْثَانِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ، وَزَادُوا: الرَّيْبَ، وَقَوْلَ الزُّورِ، وَالرِّجْسَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا كَانَ قَائِمًا فَهُوَ مِنَ الطَّائِفِينَ، وَإِذَا كَانَ جَالِسًا فَهُوَ مِنَ الْعَاكِفِينَ، وَإِذَا كَانَ مُصَلِّيًا فَهُوَ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الَّذِينَ يَنَامُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: هُمُ الْعَاكِفُونَ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، فَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا وَلَا يُقْطَعُ عضاهها» كما أخرجه أحمد، ومسلم، والنسائي،

_ (1) . النحل: 120. (2) . الزخرف: 22. (3) . يوسف: 45.

وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ: رَافِعُ ابن خَدِيجٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ: أَبُو قَتَادَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمِنْهُمْ: أَنَسٌ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَمِنْهُمْ: أَبُو هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَمِنْهُمْ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، وَمِنْهُمْ: أسامة عن زَيْدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ، وَمِنْهُمْ: عَائِشَةُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يوم خلق السّموات والأرض وهي حرام إلى يوم القيامة» وأخرجه الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ. وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَلَّغَ النَّاسَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ حَرَمًا آمِنًا، نَسَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ حَرَّمَهَا، أَيْ: أَظْهَرَ لِلنَّاسِ حُكْمَ اللَّهِ فِيهَا، وَإِلَى هَذَا الْجَمْعِ ذَهَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ كَثِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّهَا كَانَتْ حَرَامًا وَلَمْ يَتَعَبَّدِ اللَّهُ الْخَلْقَ بِذَلِكَ حَتَّى سَأَلَهُ إِبْرَاهِيمُ فَحَرَّمَهَا وَتَعَبَّدَهُمْ بِذَلِكَ. انْتَهَى. وَكِلَا الْجَمْعَيْنِ حَسَنٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لِلْحَرَمِ فَقَالَ: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ نَقَلَ اللَّهُ الطَّائِفَ مِنْ فِلَسْطِينَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْأَزْرَقِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا الْأَزْرَقِيُّ عَنْ بَعْضِ وَلَدِ نافع ابن جبير بن مطعم. وقد أخرج الأزرقي نحوه مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: دَعَا إِبْرَاهِيمُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَرَكَ الْكُفَّارَ وَلَمْ يَدْعُ لَهُمْ بِشَيْءٍ، قَالَ اللَّهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ قال: كأنّ إبراهيم احتجرها عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ النَّاسِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَمَنْ كَفَرَ أَيْضًا فَأَنَا أَرْزُقُهُمْ كَمَا أَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ أَخْلُقُ خَلْقًا لَا أَرْزُقُهُمْ! أُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي الْعَالِيَةِ قَالَ: قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الرَّبِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ فَأَمْتِعْهُ قَلِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقَوَاعِدُ: أَسَاسُ الْبَيْتِ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قِصَّةً مُطَوَّلَةً وَآخِرُهَا فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ: قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بالحجارة وإبراهيم بيني حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضْعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ قَالَ: الْقَوَاعِدُ الَّتِي كَانَتْ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ نَقْلِ أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي كَيْفِيَّةِ بِنَاءِ الْبَيْتِ، وَمِنْ أَيِّ أَحْجَارِ الْأَرْضِ بُنِيَ؟ وَفِي أَيِّ زَمَانٍ عُرِفَ؟ وَمَنْ حجّه؟ وما ورد فيه من الأدلة على فضله، أو فضل بعضه بالحجر الْأَسْوَدِ. وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِهِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ بَعْضٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرُوهُ مُتَعَلِّقًا بِالتَّفْسِيرِ لَمْ نَذْكُرْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَلَّامِ بن أبي مطيع في هذه الآية:

_ (1) . الإسراء: 20.

[سورة البقرة (2) : الآيات 129 إلى 132]

رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ قَالَ: كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَلَكِنْ سَأَلَاهُ الثَّبَاتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: مُخْلِصَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا قَالَ: يَعْنِيَانِ الْعَرَبَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَأَتَى بِهِ الْبَيْتَ فَقَالَ: ارْفَعِ الْقَوَاعِدَ، فَرَفَعَ الْقَوَاعِدَ، وَأَتَمَّ الْبُنْيَانَ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ فَأَخْرَجَهُ فَانْطَلَقَ بِهِ نَحْوَ مِنًى، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَإِذَا إِبْلِيسُ قَائِمٌ عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ: كَبِّرْ وَارْمِهِ، فَكَبَّرَ وَرَمَاهُ، فَذَهَبَ إِبْلِيسُ، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى فَفَعَلَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ كَمَا فَعَلَ فِي الْأُولَى، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ أَخَذَ جِبْرِيلُ بِيَدِ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى أَتَى بِهِ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَقَالَ: هَذَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى أَتَى بِهِ عَرَفَاتٍ، قَالَ: وَقَدْ عَرَفْتَ مَا أَرَيْتُكَ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، قَالَ: كَيْفَ أُؤَذِّنُ؟ قَالَ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَجَابَ الْعِبَادُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فَمَنْ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْخَلْقِ فَهُوَ حَاجٌّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عليّ قال: فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ: قَدْ فعلت أي ربّ! ف أَرِنا مَناسِكَنا أَبْرِزْهَا لَنَا، عَلِّمْنَاهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ فَحَجَّ بِهِ. وَفِي الْبَابِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ تَتَضَمَّنُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَرَى إِبْرَاهِيمَ الْمَنَاسِكَ، وَفِي أَكْثَرِهَا أَنَّ الشَّيْطَانَ تَعَرَّضَ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ عَنْهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حاتم، والبيهقي. [سورة البقرة (2) : الآيات 129 الى 132] رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَاجِعٌ إِلَى الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ الْمَذْكُورَةِ سَابِقًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْعَثْ فِي آخِرِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الذُّرِّيَّةِ. وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الدَّعْوَةَ، فَبَعَثَ فِي ذُرِّيَّتِهِ رَسُولًا مِنْهُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ كَمَا سَيَأْتِي تَخْرِيجُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمُرَادُهُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ. وَالرَّسُولُ: هُوَ الْمُرْسَلُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ: نَاقَةٌ مِرْسَالٌ وَرَسْلَةٌ: إِذَا كَانَتْ سَهْلَةَ السَّيْرِ مَاضِيَةً أَمَامَ النُّوقِ. وَيُقَالُ: جَاءَ الْقَوْمُ أَرْسَالًا، أَيْ: بَعْضُهُمْ فِي أَثَرِ بَعْضٍ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنُ. وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ: الْمَعْرِفَةُ بِالدِّينِ، وَالْفِقْهُ فِي التَّأْوِيلِ، وَالْفَهْمُ لِلشَّرِيعَةِ. وقوله: يُزَكِّيهِمْ أَيْ: يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ: ظَاهِرُ الْأَلْفَاظِ، وَالْكِتَابُ: مَعَانِيهَا، وَالْحِكْمَةُ: الْحُكْمُ، وَهُوَ مُرَادُ اللَّهِ بِالْخِطَابِ. وَالْعَزِيزُ: الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعَزِيزُ: الْغَالِبُ وَمَنْ يَرْغَبُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ يَرْغَبُ،

[سورة البقرة (2) : الآيات 133 إلى 141]

وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: سَفِهَ بِمَعْنَى: جَهِلَ، أَيْ: جَهِلَ أَمْرَ نَفْسِهِ فَلَمْ يُفَكِّرْ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى: أَهْلَكَ نَفْسَهُ. وَحَكَى ثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ: أَنَّ سَفِهَ بِكَسْرِ الفاء يتعدّى كسفه بفتح الفاء مشدّدة. قَالَ الْأَخْفَشُ: سَفِهَ نَفْسَهُ أَيْ: فَعَلَ بِهَا مِنَ السَّفَهِ مَا صَارَ بِهِ سَفِيهًا وَقِيلَ: إِنَّ نَفْسَهُ مُنْتَصِبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَقِيلَ: هُوَ تَمْيِيزٌ، وَهَذَانِ ضَعِيفَانِ جِدًّا. وَأَمَّا سَفُهَ بِضَمِّ الْفَاءِ: فَلَا يَتَعَدَّى، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ. وَالِاصْطِفَاءُ: الِاخْتِيَارُ، أَيِ: اخْتَرْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَجَعَلْنَاهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَكَيْفَ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّتِهِ رَاغِبٌ؟. وَقَوْلُهُ: إِذْ قالَ لَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: اصْطَفَيْناهُ أَيِ: اخْتَرْنَاهُ وَقْتَ أَمْرِنَا لَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ هُوَ: اذْكُرْ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: كَأَنَّهُ قِيلَ: اذْكُرْ ذَلِكَ الْوَقْتَ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ الْمُصْطَفَى الصَّالِحُ الَّذِي لَا يُرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ مِثْلِهِ، وَالضَّمِيرُ في قوله: وَوَصَّى بِها رَاجِعٌ إِلَى الْمِلَّةِ، أَوْ إِلَى الْكَلِمَةِ، أَيْ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ أَصْوَبُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، أَيْ: قُولُوا أَسْلَمْنَا. انْتَهَى. وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِمَّنْ بَعْدَهُ هو اتباع ملته لا مجرد التكلم لكلمة الْإِسْلَامِ، فَالتَّوْصِيَةُ بِذَلِكَ أَلْيَقُ بِإِبْرَاهِيمَ وَأَوْلَى بِهِمْ. وَوَصَّى وَأَوْصَى: بِمَعْنًى، وَقُرِئَ بِهِمَا، وَفِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ: وَأَوْصَى وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الشَّامِ وَالْمَدِينَةِ، وفي مصحف عبد الله ابن مَسْعُودٍ: وَوَصَّى وَهِيَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ وَيَعْقُوبُ مَعْطُوفٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، أَيْ: وَأَوْصَى يَعْقُوبُ بَنِيهِ كَمَا أوصى إبراهيم بنيه. وقرأ عمرو بن فائد الْأَسْوَارِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَكِّيُّ بِنَصْبِ يَعْقُوبَ، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِيمَنْ أَوْصَاهُ إِبْرَاهِيمُ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ يَعْقُوبَ لَمْ يُدْرِكْ جَدَّهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَوْلُهُ: يا بَنِيَّ هُوَ بِتَقْدِيرِ: أَنْ. وَقَدْ قَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالضَّحَّاكُ بِإِثْبَاتِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أُلْغِيَتْ أَنْ لِأَنَّ التَّوْصِيَةَ كَالْقَوْلِ، وَكُلُّ كَلَامٍ رَجَعَ إِلَى الْقَوْلِ جَازَ فِيهِ دُخُولُ أَنْ وَجَازَ فِيهِ إِلْغَاؤُهَا وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: قَائِلًا يَا بَنِيَّ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَوْلُهُ: اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أَيِ: اخْتَارَهُ لَكُمْ، وَالْمُرَادُ: مِلَّتُهُ الَّتِي لَا يَرْغَبُ عَنْهَا إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وَهِيَ الْمِلَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِيهِ إِيجَازٌ بَلِيغٌ. وَالْمُرَادُ الْزَمُوا الْإِسْلَامَ وَلَا تُفَارِقُوهُ حَتَّى تَمُوتُوا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ قَالَ: رَغِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنْ مِلَّتِهِ، وَاتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِدْعَةً لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ، تَرَكُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْلَامَ، وَبِذَلِكَ بَعَثَ الله نبيه محمدا بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ قَالَ: اخْتَرْنَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ قَالَ: وَصَّاهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَوَصَّى يَعْقُوبُ بَنِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي: محسنون بربكم الظنّ. [سورة البقرة (2) : الآيات 133 الى 141] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)

قوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أم هذا قِيلَ: هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ وَقِيلَ: هِيَ الْمُتَّصِلَةُ، وَفِي الْهَمْزَةِ الْإِنْكَارُ الْمُفِيدُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْخِطَابُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يَنْسِبُونَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِلَى بَنِيهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: أَشَهِدْتُمْ يَعْقُوبَ وَعَلِمْتُمْ بِمَا أَوْصَى بِهِ بَنِيهِ فَتَدَّعُونَ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ، أَمْ لَمْ تَشْهَدُوا بَلْ أَنْتُمْ مُفْتَرُونَ. وَالشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَاهِدٍ، وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ فِيهِ أَلِفَ التَّأْنِيثِ الَّتِي لِتَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ الأولى: معنى الشهادة، وإذ الثَّانِيَةُ: بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى، وَالْمُرَادُ بِحُضُورِ الْمَوْتِ: حُضُورُ مُقَدَّمَاتِهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِ: مَا دُونَ مَنْ فِي قَوْلِهِ: مَا تَعْبُدُونَ لِأَنَّ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ غَالِبُهَا جَمَادَاتٌ كَالْأَوْثَانِ وَالنَّارِ وَالشَّمْسِ وَالْكَوَاكِبِ. وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِي أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَوْتِي. وَقَوْلُهُ: إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ آبائِكَ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِنْ كَانَ عَمًّا لِيَعْقُوبَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْعَمَّ أَبًا وَقَوْلُهُ: إِلهاً بَدَلٌ مِنْ إِلَهَكَ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ تَخْصِيصِهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: واحِداً فَإِنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْإِبْدَالِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ إِلَهًا: مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَقِيلَ: إِنَّهُ حَالٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ الغرض الإثبات حَالِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: وَإِلَهَ أَبِيكَ فَقِيلَ: أَرَادَ إِبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِسْماعِيلَ عَطْفًا عَلَى أَبِيكَ، وَكَذَلِكَ: إِسْحاقَ وَإِنْ كَانَ هُوَ أَبَاهُ حَقِيقَةً وَإِبْرَاهِيمُ جَدَّهُ، وَلَكِنْ لِإِبْرَاهِيمَ مَزِيدُ خُصُوصِيَّةٍ وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ أَبِيكَ: جَمْعٌ، كَمَا رُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ: أَبِينَ، جَمْعُ سَلَامَةٍ، وَمِثْلُهُ: أَبُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ أَصْوَاتَنَا ... بَكَيْنَ وَفَدَيْنَنَا بِالْأَبِينَا وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: نَعْبُدُهُ حَالَ إِسْلَامِنَا لَهُ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ إِعْتِرَاضِيَّةً عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مِنْ جَوَازِ وُقُوعِ الْجُمَلِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ آخِرَ الْكَلَامِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ

إلى إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه وأُمَّةٌ بَدَلٌ مِنْهُ، وَخَبَرُهُ قَدْ خَلَتْ أَوْ أُمَّةٌ: خبره، وقد خلت: نعت لأمة، وَقَوْلُهُ: لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ بَيَانٌ لِحَالِ تِلْكَ الْأُمَّةِ وَحَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَسْبَهُ، لَا يَنْفَعُهُ كَسْبُ غَيْرِهِ وَلَا يَنَالُهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَضُرُّهُ ذَنْبُ غَيْرِهِ، وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَتَّكِلُ عَلَى عَمَلِ سَلَفِهِ، وَيُرَوِّحُ نَفْسَهُ بِالْأَمَانِي الْبَاطِلَةِ، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» وَالْمُرَادُ: أَنَّكُمْ لَا تَنْتَفِعُونَ بِحَسَنَاتِهِمْ، وَلَا تُؤَاخَذُونَ بِسَيِّئَاتِهِمْ، وَلَا تُسْأَلُونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا لَا يُسْأَلُونَ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، وَمِثْلُهُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1» وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى «2» . وَلَمَّا ادَّعَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنَّ الْهِدَايَةَ بِيَدِهَا وَالْخَيْرَ مَقْصُورٌ عَلَيْهَا رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَنُصِبَ مِلَّةَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: نَتَّبِعُ وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: نَكُونُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ: أَهْلَ مِلَّتِهِ وَقِيلَ: بَلْ نَهْتَدِي بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ صَارَ مَنْصُوبًا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: «مِلَّةَ» بِالرَّفْعِ: أَيْ: بَلِ الْهُدَى مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ. وَالْحَنِيفُ: الْمَائِلُ عَنِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ إِلَى دِينِ الْحَقِّ، وَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الَّذِي تَمِيلُ قَدَمَاهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى أُخْتِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَالَ كَوْنِهِ حَنِيفًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَالْحَالُ خَطَأٌ كَمَا لَا يَجُوزُ: جَاءَنِي غُلَامُ هِنْدٍ مُسْرِعَةً. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: هُوَ حَالٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ وَجْهَ هِنْدٍ قَائِمَةً، وَقَالَ قَوْمٌ: الْحَنَفُ: الِاسْتِقَامَةُ، فَسُمِّيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا لِاسْتِقَامَتِهِ، وَسُمِّيَ مُعْوَجُّ الرِّجْلَيْنِ: أَحَنَفَ، تَفَاؤُلًا بِالِاسْتِقَامَةِ، كَمَا قِيلَ لِلَّدِيغِ: سَلِيمٌ، وَلِلْمُهْلِكَةِ: مَفَازَةٌ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْحَنِيفَ فِي اللُّغَةِ الْمَائِلُ لَا الْمُسْتَقِيمُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِذَا حَوَّلَ الظِّلُّ الْعَشِيَّ رَأَيْتَهُ ... حَنِيفًا وَفِي قَرْنِ الضُّحَى يَتَنَصَّرُ أَيْ: أَنَّ الْحِرْبَاءَ تَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِالْعَشِيِّ، وَتَسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقَ بِالْغَدَاةِ، وَهِيَ قِبْلَةُ النَّصَارَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ فِي رِجْلِهِ ... مَا كَانَ فِي رِجَالِكُمْ مَنْ مِثْلُهُ وَقَوْلُهُ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْيَهُودِ لِقَوْلِهِمْ- عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ- وَبِالنَّصَارَى لِقَوْلِهِمْ- الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ- أَيْ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، فَكَيْفَ تَدَّعُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ؟ وَقَوْلُهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمْرٌ لَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقِيلَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ بِأَنْ يقولوا ذلك حَتَّى يَكُونُوا عَلَى الْحَقِّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَالْأَسْبَاطُ: أَوْلَادُ يَعْقُوبَ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ وَلَدًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ الْأَوْلَادِ جَمَاعَةٌ، وَالسِّبْطُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبِيلَةِ فِي الْعَرَبِ، وَسُمُّوا الْأَسْبَاطَ مِنَ السَّبْطِ وَهُوَ التَّتَابُعُ، فَهُمْ جَمَاعَةٌ مُتَتَابِعُونَ وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ السَّبَطِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الشَّجَرُ، أَيْ: هُمْ فِي الْكَثْرَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرِ وَقِيلَ: الْأَسْبَاطُ: حَفَدَةُ يَعْقُوبَ، أَيْ: أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ لَا أَوْلَادُهُ، لِأَنَّ الْكَثْرَةَ إِنَّمَا كَانَتْ فِيهِمْ دُونَ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ فِي نَفْسِهِ، فَهُمْ أَفْرَادٌ لا أسباط. وقوله:

_ (1) . الأنعام: 164. (2) . النجم: 39.

لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ: لَا نُؤْمِنُ بِبَعْضِهِمْ وَنَكْفُرُ بِبَعْضِهِمْ كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَأَحَدٌ: فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ دُخُولُ بَيْنَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ هَذَا الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، أَيْ: فَإِنْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ مِنْ جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَعَلَى هَذَا: فَمِثْلُ زَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «1» وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: فَصِيرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُمَاثَلَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ، أَيْ: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ إِيمَانِكُمْ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّبْكِيتِ، لِأَنَّ دِينَ الْحَقِّ وَاحِدٌ لَا مِثْلَ لَهُ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، قَالَ: أَيْ: فَإِنْ حَصَّلُوا دِينًا آخَرَ مِثْلَ دِينِكُمْ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلِاسْتِعَانَةِ. وَالشِّقَاقُ أَصْلُهُ مِنَ الشَّقِّ وَهُوَ الْجَانِبُ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي جَانِبٍ غَيْرِ الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ الْآخَرُ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلِ مَا يَشُقُّ وَيَصْعُبُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَحْرِصُ عَلَى فِعْلِ مَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيَصِحُّ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شقاق وقول الآخر: إلى كم تقتل العلماء قسرا ... وتفجر بِالشِّقَاقِ وَبِالنِّفَاقِ وَقَوْلُهُ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ سَيَكْفِيهِ مَنْ عَانَدَهُ وَخَالَفَهُ مِنَ الْمُتَوَلِّينَ، وَقَدْ أَنْجَزَ لَهُ وَعْدَهُ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ بَأْسِهِ بِقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ. وَقَوْلُهُ: صِبْغَةَ اللَّهِ قَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: أَيْ: دِينَ اللَّهِ، قَالَ: وَهِيَ مُنْتَصِبَةٌ عَلَى البدل من ملة. وقال الكسائي: هي منصوبة على تقدير اتبعوا، أو على الإغراء، أي: الزموا، ورجّح الزجاج الانتصاب عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مِلَّةَ، كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهَا مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ مُنْتَصِبٌ عَنْ قَوْلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ كَمَا انْتَصَبَ- وَعْدَ اللَّهِ- عَمَّا تَقَدَّمَهُ وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنْ صَبَغَ، كَالْجِلْسَةِ مِنْ جَلَسَ، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الصَّبْغُ، وَالْمَعْنَى: تَطْهِيرُ اللَّهِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ تَطْهِيرُ النُّفُوسِ. انْتَهَى، وَبِهِ قَالَ سِيبَوَيْهِ، أَيْ: كَوْنِهِ مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَصْبُغُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي الْمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ: الْمَعْمُودِيَّةَ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ تَطْهِيرًا لَهُمْ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ قَالُوا الْآنَ صَارَ نَصْرَانِيًّا حَقًّا، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ أَيِ: الْإِسْلَامَ، وَسَمَّاهُ صِبْغَةً: اسْتِعَارَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِ شُعَرَاءِ هَمْدَانَ: وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغَةٌ ... وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغِ صَبَغْنَا عَلَى ذَاكَ أَوْلَادَنَا ... فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا فِي الصّبغ

_ (1) . الشورى: 11.

وَقِيلَ: إِنَّ الصِّبْغَةَ: الِاغْتِسَالُ لِمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ بَدَلًا مِنْ مَعْمُودِيَّةِ النَّصَارَى، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: صِبْغَةُ اللَّهِ: دِينُهُ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْفَرَّاءِ وَقِيلَ: الصِّبْغَةُ: الْخِتَانُ. وَقَوْلُهُ: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ أَيْ: أَتُجَادِلُونَنَا فِي اللَّهِ، أَيْ: فِي دِينِهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ وَالْحُظْوَةِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «1» وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَتُحَاجُّونَا بِالْإِدْغَامِ لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أَيْ: نَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي رُبُوبِيَّتِهِ لَنَا وَعُبُودِيَّتِنَا لَهُ، فَكَيْفَ تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ أَوْلَى بِهِ مِنَّا وَتُحَاجُّونَنَا فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أَيْ: لَنَا أَعْمَالٌ وَلَكُمْ أَعْمَالٌ، فَلَسْتُمْ بِأَوْلَى بِاللَّهِ مِنَّا، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ «2» . وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَيْ: نَحْنُ أَهْلُ الْإِخْلَاصِ لِلْعِبَادَةِ دُونَكُمْ، وَهُوَ الْمِعْيَارُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ التَّفَاضُلُ وَالْخَصْلَةُ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُهَا أَوْلَى بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ تَدَّعُونَ لِأَنْفُسِكُمْ مَا نَحْنُ أَوْلَى بِهِ مِنْكُمْ وَأَحَقُّ؟ وَفِيهِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَقَطْعٌ لِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ. وَقَوْلُهُ: أَمْ يَقُولُونَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ تَقُولُونَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ أَمْ هَاهُنَا مُعَادِلَةً لِلْهَمْزَةِ فِي قَوْلِهِ: أَتُحَاجُّونَنا أَيْ: أَتُحَاجُونَنَا فِي اللَّهِ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى دِينِكُمْ وَعَلَى قِرَاءَةِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ تَكُونُ أَمْ: مُنْقَطِعَةً، أَيْ: بَلْ يَقُولُونَ: وَقَوْلُهُ: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ فِيهِ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا هُودًا وَلَا نَصَارَى، وَأَنْتُمْ تَدَّعُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا هُودًا ونصارى، فَهَلْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ؟ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ اسْتِفْهَامٌ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ الذَّمَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ مَا كَانُوا هُودًا وَلَا نَصَارَى، بَلْ كَانُوا عَلَى الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكَتْمِهِمْ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، بَلْ بِادِّعَائِهِمْ لِمَا هُوَ مُخَالِفٌ لَهَا، وَهُوَ أَشَدُّ فِي الذَّنْبِ مِمَّنِ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْكَتْمِ الَّذِي لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ كَتَمُوا هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَظْلَمَ مِنْهُمْ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ التَّعْرِيضَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا مَا كَتَمُوهُ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَتَهْدِيدٌ لَيْسَ عَلَيْهِ مَزِيدٌ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَتْرُكُ عُقُوبَتَهُمْ عَلَى هَذَا الظُّلْمِ الْقَبِيحِ وَالذَّنْبِ الْفَظِيعِ، وَكَرَّرَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ يَعْنِي: أَهْلَ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ قَالَ: يَقُولُ: لَمْ يَشْهَدِ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى وَلَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَعْقُوبَ إِذْ أَخَذَ عَلَى بَنِيهِ الْمِيثَاقَ إِذْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ وَشَهِدَ عَلَيْهِمْ أَنْ قَدْ أَقَرُّوا بِعِبَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ. وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْجِدُّ: أَبٌ وَيَتْلُو الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي الْآيَةِ قَالَ: سُمِّيَ الْعَمُّ أَبًا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا نَحْوَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا الْأَعْوَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الْهُدَى إِلَّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَاتَّبِعْنَا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل هذا، فأنزل الله فيهم: وَقالُوا كُونُوا هُوداً

_ (1) . المائدة: 18. (2) . يونس: 41. [.....]

الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: حَنِيفاً قَالَ: مُتَّبَعًا. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَنِيفاً قَالَ: حَاجًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: الْحَنِيفُ: الْمُسْتَقِيمُ. وأخرج أيضا خُصَيْفٍ قَالَ: الْحَنِيفُ: الْمُخْلِصُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: الْحَنِيفُ: الَّذِي يُؤْمِنُ بِالرُّسُلِ كُلِّهِمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَسْعَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ الْخُزَاعِيِّ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ «1» كُلَّهَا وَفِي الْآخِرَةِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «2» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَسْبَاطُ: بَنُو يَعْقُوبَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَدَ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ. وَرَوَى نَحْوَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ وَقَتَادَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَقُولُوا: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا مِثْلَ لَهُ، وَلَكِنْ قُولُوا: فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَالْخَطِيبُ في تاريخه عن أبي حمزة قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: فَإِنْ آمَنُوا بالذي آمَنْتُمْ بِهِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ قَالَ: فِرَاقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ قَالَ: دِينَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا: يَا مُوسَى! هَلْ يَصْبُغُ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: اتَّقَوُا اللَّهَ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا مُوسَى! سَأَلُوكَ هَلْ يَصْبُغُ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: نَعَمْ، أَنَا أَصْبُغُ الْأَلْوَانَ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ، وَالْأَلْوَانُ كُلُّهَا فِي صِبْغَتِي» . وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ تَصْبُغُ أَبْنَاءَهَا يَهُودًا، وَالنَّصَارَى تَصْبُغُ أَبْنَاءَهَا نَصَارَى، وَإِنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَلَا صِبْغَةَ أَحْسَنُ مِنْ صِبْغَةِ الْإِسْلَامِ وَلَا أَطْهَرُ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ نُوحًا وَمَنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَخْرَجَ ابن النجار في ذيل تَارِيخِ بَغْدَادَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ قَالَ: الْبَيَاضُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَتُحَاجُّونَنا قَالَ: أَتُخَاصِمُونَنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: أَتُجَادِلُونَنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً الْآيَةَ، قَالَ: أُولَئِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَتَمُوا الْإِسْلَامَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ، وَاتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَكَتَمُوا مُحَمَّدًا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه رسول الله. وأخرج عبد

_ (1) . البقرة: 136. (2) . آل عمران: 52.

[سورة البقرة (2) : الآيات 142 إلى 143]

ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ قَالَ: يَعْنِي: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وإسحاق ويعقوب والأسباط. [سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 143] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَوْلُهُ: سَيَقُولُ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ السُّفَهَاءَ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ سَيَقُولُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عِنْدَ أَنْ تَتَحَوَّلَ الْقِبْلَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ سَيَقُولُ بِمَعْنَى قَالَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْمَاضِي بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ للدلالة على استدامته واستمراره عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِخْبَارَ بِهَذَا الْخَبَرِ كَانَ قَبْلَ التَّحَوُّلِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَإِنَّ فَائِدَةَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْمَكْرُوهِ إِذَا وَقَعَ قَبْلَ وُقُوعِهِ كَانَ فِيهِ تَهْوِينًا لِصَدْمَتِهِ، وَتَخْفِيفًا لِرَوْعَتِهِ، وَكَسْرًا لِسَوْرَتِهِ. وَالسُّفَهَاءُ: جَمْعُ سَفِيهٍ. وَهُوَ الْكَذَّابُ الْبَهَّاتُ الْمُعْتَمِدُ خِلَافَ مَا يُعْلَمُ، كَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: هُمْ خِفَافُ الْأَحْلَامِ، وَمِثْلُهُ فِي الْقَامُوسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ «1» مَا يَنْبَغِي الرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَمَعْنَى: مَا وَلَّاهُمْ: مَا صَرَفَهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ. وَفِي قَوْلِهِ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِشْعَارٌ بِأَنَّ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ إِلَى الكعبة مِنَ الْهِدَايَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل مِلَّتِهِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْجَعْلِ جَعَلْنَاكُمْ قِيلَ مَعْنَاهُ: وَكَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ وَسَطُ الْأَرْضِ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. وَالْوَسَطُ: الْخِيَارُ أَوِ الْعَدْلُ، وَالْآيَةُ محتملة للأمرين، وما يحتملهما قول زهير: هم وسط يرضى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعَظَّمِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: أَنْتُمْ أَوْسَطُ حَيٍّ عَلِمُوا ... بِصَغِيرِ الْأَمْرِ أَوْ إِحْدَى الْكُبَرِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْسِيرُ الْوَسَطِ هُنَا بِالْعَدْلِ كَمَا سَيَأْتِي، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: لَا تَذْهَبَنَّ في الأمور فرطا ... لَا تَسْأَلَنَّ إِنْ سَأَلْتَ شَطَطَا وَكُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا وَسَطَا وَلَمَّا كَانَ الْوَسَطُ مُجَانِبًا لِلْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ كَانَ مَحْمُودًا أَيْ: هَذِهِ الْأُمَّةُ لم تغل غلوّ النصارى في عيسى،

_ (1) . البقرة: 130.

وَلَا قَصَّرُوا تَقْصِيرَ الْيَهُودِ فِي أَنْبِيَائِهِمْ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ أَوْسَطُ قَوْمِهِ وَوَاسِطَتُهُمْ، أَيْ: خِيَارُهُمْ. وَقَوْلُهُ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَشْهَدُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوهُمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْهِمْ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَى أُمَّتِهِ بِأَنَّهُمْ قَدْ فَعَلُوا مَا أمره بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «1» قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: عَلَيْكُمْ يَعْنِي: لَكُمْ، أَيْ: يَشْهَدُ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِالتَّبْلِيغِ لَكُمْ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: لَمَّا كَانَ الشَّهِيدُ كَالرَّقِيبِ وَالْمُهَيْمِنِ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ جِيءَ بِكَلِمَةِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «2» كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «3» انْتَهَى. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَى الْآيَةِ: يَشْهَدُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فِيمَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ. وَسَيَأْتِي مِنَ الْمَرْفُوعِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَى الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنَّمَا أَخَّرَ لَفْظَ عَلَى فِي شَهَادَةِ الْأُمَّةِ عَلَى النَّاسِ، وَقَدَّمَهَا فِي شَهَادَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْغَرَضَ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي الْأَوَّلِ: إِثْبَاتُ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْأُمَمِ، وَفِي الْآخَرِ: اخْتِصَاصُهُمْ بِكَوْنِ الرَّسُولِ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْقِبْلَةِ هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَيْ: ما جعلناها إلا لنعلم المتبع والمنقلب، ويؤيده هَذَا قَوْلُهُ: كُنْتَ عَلَيْها إِذَا كَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ صَرْفِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: الْكَعْبَةُ، أَيْ: مَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا الْآنَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَّا لِذَلِكَ الْغَرَضِ، وَيَكُونُ كُنْتَ بِمَعْنَى الْحَالِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: الْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ فِي مَكَّةَ الْكَعْبَةَ، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ تَوَجَّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَأَلُّفًا لِلْيَهُودِ ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا: الرُّؤْيَةُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: إِلَّا لِتَعْلَمُوا أَنَّا نَعْلَمُ بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا فِي شَكٍّ وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ النَّبِيُّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: لِنَعْلَمَ ذَلِكَ مَوْجُودًا حَاصِلًا، وَهَكَذَا مَا وَرَدَ مُعَلَّلًا بِعِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا بُدَّ أن يؤول بِمِثْلِ هَذَا، كَقَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ «4» وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً أي: ما كانت إلا كبيرة، كما قال الفراء في أن وإن: أنهما بمعنى ما وإلا. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هِيَ الثَّقِيلَةُ خُفِّفَتْ، وَالضَّمِيرُ فِي كَانَتْ: رَاجِعٌ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها مِنَ التَّحْوِيلَةِ، أَوِ التَّوْلِيَةِ، أَوِ الْجَعْلَةِ، أَوِ الرِّدَّةِ، ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ الْأَخْفَشُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى الْقِبْلَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: وَإِنْ كَانَتِ الْقِبْلَةُ الْمُتَّصِفَةُ بِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَيْهَا لِكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ، فَانْشَرَحَتْ صُدُورُهُمْ لِتَصْدِيقِكَ، وَقَبِلَتْ مَا جِئْتَ بِهِ عُقُولُهُمْ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ في قوّة النفي، أي: أنها لَا تَخِفُّ وَلَا تَسْهُلُ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ وَهُوَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ قَالَ: فَسَمَّى الصَّلَاةَ إِيمَانًا لِاجْتِمَاعِهَا على نية وقول وعمل وقيل: المراد: الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِيمَانِ عِنْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَعَدَمُ ارْتِيَابِهِمْ كَمَا ارْتَابَ غَيْرُهُمْ. وَالْأَوَّلُ يَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ، وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ تَفْسِيرِهِ صلّى الله عليه وسلّم للآية بذلك. والرؤوف: كَثِيرُ الرَّأْفَةِ، وَهِيَ أَشَدُّ مِنَ الرَّحْمَةِ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الرَّأْفَةُ أَكْبَرُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ القعقاع «لروف» بغير

_ (1) . النساء: 41. (2) . المائدة: 117. (3) . المجادلة: 6. (4) . آل عمران: 140.

هَمْزٍ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ: وَشَرُّ الْغَالِبِينَ «1» فَلَا تَكُنْهُ ... يقاتل عمّه الرّوف الرّحيما وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَأَنَّهُ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا الْعَصْرُ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ الْكَعْبَةِ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجَالٌ، وَقُتِلُوا فَلَمْ نَدْرِ مَا يَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَلَهُ طُرُقٌ أُخَرُ وَأَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نُسِخَ فِي الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعْدَ مَا تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثم صرفه إِلَى الْكَعْبَةِ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بِمَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ اسْتِدَارَةِ الْمُصَلِّينَ لَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا فِي الصَّلَاةِ فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بن منصور، وأحمد، والنسائي، والترمذي، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قَالَ: عَدْلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ، فَيُقَالُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ» فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قال: الوسط الْعَدْلُ، فَتُدْعُونَ فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلَاغِ وَأَشْهَدُ عَلَيْكُمْ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مردويه عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا وَأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَوْمٍ مُشْرِفِينَ عَلَى الْخَلَائِقِ، مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا وَدَّ أَنَّهُ مِنَّا، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ إِلَّا وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّهُ بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً بِمَا عَمِلْتُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مرّوا بجنازة فأثني

_ (1) . في تفسير القرطبي 1/ 158: «وشرّ الطّالبين» .

[سورة البقرة (2) : الآيات 144 إلى 147]

عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَمَرُّوا بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ فَسَأَلَهُ عُمَرُ فَقَالَ: مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» زَادَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً الْآيَةَ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، وَمِنْهَا عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، وَمِنْهَا عَنْ أَبِي زُهَيْرٍ الثَّقَفِيِّ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيِّ والدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي السُّنَنِ وَمِنْهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَمِنْهَا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنِ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها قَالَ: يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا لِنَعْلَمَ قَالَ: نَبْتَلِيهِمْ لِنَعْلَمَ مَنْ يُسَلِّمُ لِأَمْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ قَالَ: لِنُمَيِّزَ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً يَعْنِي: تَحْوِيلَهَا، عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ وَالرَّيْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ نَاسًا مِمَّنْ أَسْلَمَ رَجَعُوا، فَقَالُوا: مَرَّةً هَاهُنَا، وَمَرَّةً هَاهُنَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقِبْلَةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَكَيْفَ بِالَّذِينِ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ. وَفِي الْبَابِ أحاديث كثيرة، وآثار عن السلف. [سورة البقرة (2) : الآيات 144 الى 147] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) قَوْلُهُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُقَدَّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى قَوْلِهِ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ، وَمَعْنَى قَدْ: تَكْثِيرُ الرُّؤْيَةِ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَمَعْنَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ: تَحَوُّلَ وَجْهِكَ إِلَى السماء، قاله قطرب. وقال الزَّجَّاجُ: تَقَلُّبَ عَيْنَيْكَ فِي النَّظَرِ إِلَى السَّمَاءِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَوْلُهُ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ هُوَ إِمَّا مِنَ الْوِلَايَةِ: أَيْ فَلَنُعْطِيَنَّكَ ذَلِكَ. أَوْ مِنَ التَّوَلِّي: أَيْ فَلَنَجْعَلَنَّكَ مُتَوَلِّيًا إِلَى جِهَتِهَا، وَهَذَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَالْمُرَادُ بِالشَّطْرِ هُنَا: النَّاحِيَةُ وَالْجِهَةُ، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَقُولُ لِأُمِّ زِنْبَاعَ أَقِيمِي ... صُدُورَ الْعِيسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الْآخَرِ: أَلَا مِنْ مُبَلِّغٍ عَمْرًا رَسُولًا ... وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو وَقَدْ يُرَادُ بِالشَّطْرِ النِّصْفُ، وَمِنْهُ «الطّهور شَطْرُ الْإِيمَانِ» ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ خَيْرِ عَبْسٍ مَنْصِبًا ... شَطْرِي وَأَحْمِي سَائِرِي بِالْمُنْصُلِ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَبَاهُ مِنْ سَادَاتِ عَبْسٍ وَأُمَّهُ أَمَةٌ، وَيَرِدُ بِمَعْنَى الْبَعْضِ مُطْلَقًا. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِشَطْرِ الْمَسْجِدِ هُنَا: الْكَعْبَةُ. وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ اسْتِقْبَالَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ فَرْضٌ عَلَى الْمُعَايِنِ، وَعَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُعَايِنِ يَسْتَقْبِلُ النَّاحِيَةَ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَنَّهُ الْحَقُّ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنَ التَّحَوُّلِ إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، أَوْ لِكَوْنِهِمْ قَدْ عَلِمُوا مِنْ كُتُبِهِمْ أَوْ أَنْبِيَائِهِمْ أَنَّ النَّسْخَ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا عَلَيْهِمُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَمُتَابَعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ تَعْمَلُونَ: بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى مُخَاطَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ هَذِهِ اللام هي موطئة للقسم، وَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّهِ لَئِنْ أَتَيْتَ وَقَوْلُهُ: مَا تَبِعُوا جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ، قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: أُجِيبَ لَئِنْ: بِجَوَابِ لَوْ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ أَتَيْتَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا «1» أَيْ: وَلَوْ أَرْسَلْنَا، وَإِنَّمَا قَالَا هَكَذَا لِأَنَّ لَئِنْ هِيَ ضِدُّ لَوْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُولَى تَطْلُبُ فِي جَوَابِهَا الْمُضِيَّ وَالْوُقُوعَ، ولئن تَطْلُبُ فِي جَوَابِهَا الِاسْتِقْبَالَ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ مَعْنَى لَئِنْ يُخَالِفُ مَعْنَى لَوْ فَلَا تَدْخُلُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، فَالْمَعْنَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قِبْلَتَكَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمَعْنَى وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا: لَيَظْلَلْنَ، انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مبالغة عظيمة وهي متضمنة التسلية لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْوِيحِ خَاطِرِهِ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِمْ كُلُّ آيَةٍ، وَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ وَإِنْ جَاءَهُمْ بِكُلِّ بُرْهَانٍ فَضْلًا عَنْ بُرْهَانٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا اتِّبَاعَ الْحَقِّ لِدَلِيلٍ عِنْدَهُمْ أَوْ لِشُبْهَةٍ طَرَأَتْ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يُوَازِنُوا بَيْنَ ما عندهم وما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقْلِعُوا عَنْ غِوَايَتِهِمْ عِنْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ، بَلْ كَانَ تَرْكُهُمْ لِلْحَقِّ تَمَرُّدًا وَعِنَادًا، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْبُرْهَانِ أَبَدًا. وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ هَذَا الْإِخْبَارُ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النَّهْيِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: لَا تَتَّبِعْ يَا مُحَمَّدُ قِبْلَتَهُمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ دَفْعًا لِأَطْمَاعِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَطْعًا لِمَا يَرْجُونَهُ مِنْ رُجُوعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فِيهِ إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَعَ حرصهم على متابعة الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا عِنْدَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي دِينِهِمْ حَتَّى فِي هَذَا الْحُكْمِ الْخَاصِّ الَّذِي قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى رَسُولِهِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَا يُتَابِعُ الْآخَرَ فِي اسْتِقْبَالِ قِبْلَتِهِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ تَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَالنَّصَارَى تَسْتَقْبِلُ مَطْلَعَ الشَّمْسِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ إِلَى آخِرِ الآية، فيه

_ (1) . الروم: 51.

مِنَ التَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ وَالزَّجْرِ الْبَلِيغِ مَا تَقْشَعِرُّ لَهُ الْجُلُودُ وَتَرْجُفُ مِنْهُ الْأَفْئِدَةُ، وَإِذَا كَانَ الْمَيْلُ إِلَى أَهْوِيَةِ الْمُخَالِفِينَ لِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ وَالْمِلَّةِ الشَّرِيفَةِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ وَحَاشَاهُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَقَدْ صَانَ اللَّهُ هَذِهِ الْفِرْقَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ بَعْدَ ثُبُوتِ قَدَمِ الْإِسْلَامِ وَارْتِفَاعِ مَنَارِهِ عَنْ أَنْ يَمِيلُوا إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَوَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ تَبْقَ إِلَّا دَسِيسَةٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَوَسِيلَةٌ طَاغُوتِيَّةٌ، وَهِيَ مَيْلُ بَعْضِ مَنْ تَحَمَّلَ حُجَجَ اللَّهِ إِلَى هَوَى بَعْضِ طَوَائِفِ الْمُبْتَدِعَةِ، لِمَا يَرْجُوهُ مِنَ الْحُطَامِ الْعَاجِلِ مِنْ أَيْدِيهِمْ أَوِ الْجَاهِ لَدَيْهِمْ إِنْ كَانَ لَهُمْ فِي النَّاسِ دَوْلَةٌ، أَوْ كَانُوا مِنْ ذَوِي الصَّوْلَةِ، وَهَذَا الْمَيْلُ لَيْسَ بِدُونِ ذَلِكَ الْمَيْلِ، بَلِ اتِّبَاعُ أَهْوِيَةِ الْمُبْتَدِعَةِ تُشْبِهُ اتِّبَاعَ أَهْوِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا يُشْبِهُ الْمَاءُ الْمَاءَ، وَالْبَيْضَةُ الْبَيْضَةَ، وَالتَّمْرَةُ التَّمْرَةَ وَقَدْ تَكُونُ مَفْسَدَةُ اتِّبَاعِ أَهْوِيَةِ الْمُبْتَدِعَةِ أَشَدَّ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ مِنْ مَفْسَدَةِ اتِّبَاعِ أَهْوِيَةِ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَةَ يَنْتَمُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُظْهِرُونَ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَ الدِّينَ وَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وَهُمْ عَلَى العكس من ذلك الضدّ لِمَا هُنَالِكَ، فَلَا يَزَالُونَ يَنْقُلُونَ مَنْ يَمِيلُ إِلَى أَهَوِيَتِهِمْ مِنْ بِدْعَةٍ إِلَى بِدْعَةٍ وَيَدْفَعُونَهُ مِنْ شُنْعَةٍ إِلَى شُنْعَةٍ، حَتَّى يَسْلَخُوهُ مِنَ الدين ويخرجونه مِنْهُ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْهُ فِي الصَّمِيمِ، وَأَنَّ الصِّرَاطَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هَذَا إِنْ كَانَ فِي عِدَادِ الْمُقَصِّرِينَ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْجَاهِلِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ الْمُمَيِّزِينَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَانَ فِي اتِّبَاعِهِ لِأَهْوِيَتِهِمْ مِمَّنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ، وَصَارَ نِقْمَةً عَلَى عِبَادِ اللَّهِ وَمُصِيبَةً صَبَّهَا اللَّهُ عَلَى الْمُقَصِّرِينَ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فِي عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ لَا يميل إلا إلى حق، وَلَا يَتَّبِعُ إِلَّا الصَّوَابَ، فَيَضِلُّونَ بِضَلَالِهِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ إِثْمُهُ وَإِثْمُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ اللُّطْفَ وَالسَّلَامَةَ وَالْهِدَايَةَ وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ قِيلَ: الضَّمِيرُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: يَعْرِفُونَ نُبُوَّتَهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقِيلَ: يَعْرِفُونَ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ بِالطَّرِيقِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَرَجَّحَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ الْأَوَّلَ. وَعِنْدِي أَنَّ الرَّاجِحَ الآخر، يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ الَّذِي سِيقَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَاتُ. وَقَوْلُهُ: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْقَوْلِ الثَّانِي: اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ. وَقَوْلُهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَقَّ الْأَوَّلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جِنْسُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: مِنْ رَبِّكَ أَيِ: الْحَقُّ: هُوَ الَّذِي مِنْ رَبِّكَ لَا مِنْ غَيْرِهِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْحَقَّ، بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: الْزَمِ الْحَقَّ. وَقَوْلُهُ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِامْتِرَاءُ: الشَّكُّ، نَهَاهُ الله سبحانه عن الشك في كونه مِنْ رَبِّهِ، أَوْ فِي كَوْنِ كِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ، وَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ تَعْرِيضٌ لِلْأُمَّةِ، أَيْ: لَا يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشُكُّ فِي كَوْنِ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِشَهْرَيْنِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَكْثَرَ تَقْلِيبَ وَجْهِهِ فِي السَّمَاءِ، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِ نَبِيِّهِ أَنَّهُ يَهْوَى الْكَعْبَةَ، فَصَعِدَ جِبْرِيلُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ وَهُوَ يَصْعَدُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَنْظُرُ مَا يَأْتِيهِ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا جِبْرِيلُ! كَيْفَ حَالُنَا فِي صَلَاتِنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ مُخْتَصَرًا لَكِنَّهُ قَالَ: سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها قَالَ: قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ نَحْوَ الْمِيزَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قَالَ: قِبَلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَطْرَهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: تِلْقَاءَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْبَيْتُ كُلُّهُ قِبْلَةٌ، وَقِبْلَةُ الْبَيْتِ الْبَابُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا قَالَ: الْبَيْتُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فِي مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا مِنْ أُمَّتِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَالَ: أُنْزِلَ ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْقِبْلَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ يَقُولُ: مَا الْيَهُودُ بِتَابِعِي قِبْلَةَ النَّصَارَى، وَلَا النَّصَارَى بِتَابِعِي قِبْلَةَ الْيَهُودِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَعْرِفُونَهُ قَالَ: يَعْرِفُونَ رَسُولَ اللَّهِ فِي كِتَابِهِمْ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَعْرِفُونَهُ أَيْ: يَعْرِفُونَ أَنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ هُوَ الْقِبْلَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ: يَكْتُمُونَ مُحَمَّدًا وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يَقُولُ: لَا تَكُونُنَّ فِي شَكٍّ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ قِبْلَتُكَ، وَكَانَتْ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 148 إلى 152]

[سورة البقرة (2) : الآيات 148 الى 152] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) قوله: لِكُلٍ بِحَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ التَّنْوِينِ عَلَيْهِ، أَيْ: لِكُلِّ أَهْلِ دِينٍ وِجْهَةٌ، وَالْوِجْهَةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ وَفِي مَعْنَاهَا: الْجِهَةُ وَالْوَجْهُ، وَالْمُرَادُ: الْقِبْلَةُ، أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَتَكَ وَأَنْتَ لَا تتبع قبلتهم لِكُلٍّ وِجْهَةٌ إِمَّا بِحَقٍّ وَإِمَّا بِبَاطِلٍ، وَالضَّمِيرُ فِي قوله: وَمُوَلِّيها رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ كُلٍّ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَلِّيها هِيَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: مَحْذُوفٌ، أَيْ: مُوَلِّيهَا وَجْهَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لِكُلِّ صَاحِبِ مِلَّةٍ قِبْلَةً صَاحِبُ الْقِبْلَةِ مُوَلِّيهَا وَجْهَهُ، أَوْ لِكُلٍّ مِنْكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! قِبْلَةٌ يُصَلِّي إِلَيْهَا مِنْ شَرْقٍ أَوْ غَرْبٍ أَوْ جَنُوبٍ أَوْ شَمَالٍ إِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، إِذْ هُوَ مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ فَاعِلُ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ لِكُلِّ صَاحِبِ مِلَّةٍ قِبْلَةً اللَّهُ مُوَلِّيهَا إِيَّاهُ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ قوما قرءوا: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ بِالْإِضَافَةِ، وَنَسَبَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالْمَعْنَى: وَكُلُّ وِجْهَةٍ اللَّهُ مُوَلِّيهَا فَزِيدَتِ اللَّامُ لِتَقَدُّمِ الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِكَ: لَزَيْدٌ ضَرَبْتُ، وَلَزَيْدٌ أَبُوهُ ضَارِبُهُ. انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَامِرٍ: مُوَلَّاهَا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالضَّمِيرُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِوَاحِدٍ، أَيْ: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ قِبْلَةٌ الْوَاحِدُ مُوَلَّاهَا، أي: مصروف إليها. وقوله: سْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْ: إِلَى الْخَيْرَاتِ عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ: بَادِرُوا إِلَى مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ مِنِ اسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ كَمَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْأَمْرَ بِالِاسْتِبَاقِ إِلَى كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَيْرٌ، كَمَا يُفِيدُهُ الْعُمُومُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْخَيْرَاتِ وَالْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِبَاقِ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ: الِاسْتِبَاقُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وقتها. ومعنى قوله: يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ أَيْ: فِي أَيِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ الله للجزاء يوم القيامة، أو يجعلكم جَمِيعًا، وَيَجْعَلُ صَلَاتَكُمْ فِي الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ كَأَنَّهَا إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ هَذَا لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وللاهتمام به، لأن موضع التَّحْوِيلِ كَانَ مُعْتَنًى بِهِ فِي نُفُوسِهِمْ وَقِيلَ: وَجْهُ التَّكْرِيرِ: أَنَّ النَّسْخَ مِنْ مَظَانِّ الْفِتْنَةِ وَمَوَاطِنِ الشُّبْهَةِ، فَإِذَا سَمِعُوهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ثَبَتُوا وَانْدَفَعَ مَا يَخْتَلِجُ فِي صُدُورِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّهُ كَرَّرَ هَذَا الْحُكْمَ لِتَعَدُّدِ عِلَلِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ لِلتَّحْوِيلِ ثَلَاثَ عِلَلٍ: الْأُولَى: ابْتِغَاءُ مَرْضَاتِهِ، وَالثَّانِيَةُ: جَرْيُ الْعَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَنْ يُوَلِّيَ كُلَّ أَهْلِ مِلَّةٍ وَصَاحِبِ دَعْوَةٍ جِهَةً يَسْتَقِلُّ بِهَا، وَالثَّالِثَةُ: دَفْعُ حُجَجِ الْمُخَالِفِينَ فَقَرَنَ بِكُلِّ عِلَّةٍ مَعْلُولَهَا وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَوَّلِ: وَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْكَعْبَةِ إِذَا صَلَّيْتَ تِلْقَاءَهَا، ثُمَّ قَالَ: وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ يَعْنِي وُجُوبَ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْأَسْفَارِ، فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ مِنْ نَوَاحِي الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ قِيلَ: مَعْنَاهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلْيَهُودِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا لِلْمُعَانِدِينَ مِنْهُمُ الْقَائِلِينَ مَا تَرَكَ قِبْلَتَنَا إِلَى الْكَعْبَةِ إِلَّا مَيْلًا إِلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَعَلَى هَذَا: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا: الْمُعَانِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقِيلَ: هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَحُجَّتُهُمْ: قَوْلُهُمْ: رَاجَعْتَ قِبْلَتَنَا وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ لِئَلَّا يَقُولُوا لَكُمْ: قَدْ أُمِرْتُمْ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَلَسْتُمْ تَرَوْنَهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ إِلَّا هَاهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ: أَيْ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَمِنْهُ

قَوْلُ الشَّاعِرِ: مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الْخَلِيفَةِ إِلَّا دَارُ مُرْوَانَا كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا دَارُ الْخَلِيفَةِ وَدَارُ مَرْوَانَ وَأَبْطَلَ الزَّجَّاجُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لكن الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ، وَمَعْنَاهُ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ بِاحْتِجَاجِهِ فِيمَا قَدْ وَضَحَ لَهُ كما تقول: مالك عليّ حجة إلا أن تظلمني، أي: مالك عَلَيَّ حُجَّةٌ الْبَتَّةَ وَلَكِنَّكَ تَظْلِمُنِي وَسَمَّى ظُلْمَهُ: حُجَّةً لِأَنَّ الْمُحْتَجَّ بِهَا سَمَّاهُ حُجَّةً وَإِنْ كَانَتْ دَاحِضَةً. وَقَالَ قُطْرُبٌ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا على الذين ظلموا، فالذين: بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي عَلَيْكُمْ. وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَقَالَ: نَفَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي اسْتِقْبَالِهِمُ الْكَعْبَةَ وَالْمَعْنَى: لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْحُجَّةَ الدَّاحِضَةَ حَيْثُ قَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا تَحَيَّرَ فِي دِينِهِ. وَمَا تَوَجَّهَ إِلَى قِبْلَتِنَا إِلَّا أَنَّا أَهْدَى مِنْهُ. وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَمْ تَنْبَعِثْ إِلَّا مِنْ عَابِدِ وَثَنٍ أَوْ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ مُنَافِقٍ. قَالَ: وَالْحُجَّةُ: بِمَعْنَى: الْمُحَاجَّةِ الَّتِي هِيَ الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُجَادَلَةُ، وَسَمَّاهَا تَعَالَى: حُجَّةً، وَحَكَمَ بِفَسَادِهَا حَيْثُ كَانَتْ مِنْ ظَالِمٍ. وَرَجَّحَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْيَهُودَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى كُفَّارَ الْعَرَبِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي قَوْلِهِمْ: رَجَعَ مُحَمَّدٌ إِلَى قِبْلَتِنَا وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا كُلِّهِ. وَقَوْلُهُ: فَلا تَخْشَوْهُمْ يُرِيدُ النَّاسَ، أَيْ: لَا تَخَافُوا مَطَاعِنَهُمْ فَإِنَّهَا دَاحِضَةٌ بَاطِلَةٌ لَا تَضُرُّكُمْ. وَقَوْلُهُ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى لِئَلَّا يَكُونَ أَيْ: وَلِأَنْ أُتِمَّ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَقِيلَ: هُوَ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مُضْمَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عَرَّفْتُكُمْ قِبْلَتِي، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاخْشَوْنِي لِأُوَفِّقَكُمْ، وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ. وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ: الْهِدَايَةُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَقِيلَ: دُخُولُ الْجَنَّةِ. وَقَوْلُهُ: كَما أَرْسَلْنا الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَالْمَعْنَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ إِتْمَامًا مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَالْمَعْنَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَالتَّشْبِيهُ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ النِّعْمَةَ فِي الْقِبْلَةِ كَالنِّعْمَةِ فِي الرِّسَالَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ: فَاذْكُرُونِي كَمَا أَرْسَلْنَا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَوْلُهُ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ أَمْرٌ وَجَوَابُهُ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: اذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ، حَكَاهُ عَنْهُ القرطبي في تفسيره، وأخرجه عنه عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا كَمَا سَيَأْتِي. وَقَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِي قَالَ الْفَرَّاءُ: شكر لك وشكرت لك. وَالشُّكْرُ: مَعْرِفَةُ الْإِحْسَانِ وَالتَّحَدُّثُ بِهِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الطَّهُورُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَكْفُرُونِ نَهْيٌ وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ نُونُ الْجَمَاعَةِ، وَهَذِهِ الْمَوْجُودَةُ فِي الْفِعْلِ هِيَ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ، وَحُذِفَتِ الْيَاءُ لِأَنَّهَا رَأْسُ آيَةٍ، وَإِثْبَاتُهَا حَسَنٌ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ. وَالْكُفْرُ هُنَا: سَتْرُ النِّعْمَةِ لَا التَّكْذِيبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن عباس في قوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها قَالَ: يَعْنِي

[سورة البقرة (2) : الآيات 153 إلى 157]

بِذَلِكَ: أَهْلَ الْأَدْيَانِ، يَقُولُ: لِكُلٍّ قِبْلَةٌ يَرْضَوْنَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: صَلُّوا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَرَّةً، وَنَحْوَ الْكَعْبَةِ مَرَّةً أُخْرَى. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ يَقُولُ: لَا تُغْلَبُنَّ عَلَى قِبْلَتِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ قَالَ: الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ في قوله: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ يقول: فسارعوا في الخيرات يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ: لَمَّا صُرِفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ بَعْدَ صَلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: تَحَيَّرَ عَلَى مُحَمَّدٍ دِينُهُ، فَتَوَجَّهَ بِقِبْلَتِهِ إِلَيْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّكُمْ أَهْدَى مِنْهُ سَبِيلًا وَيُوشِكُ أَنْ يدخل في دِينَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ حِينَ صُرِفَ نَبِيُّ اللَّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالُوا: اشْتَاقَ الرَّجُلُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ وَدِينِ قَوْمِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حُجَّتُهُمْ: قَوْلُهُمْ: قَدْ أَحَبَّ قِبْلَتَنَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَالَ: الَّذِينَ ظَلَمُوا منهم: مشركو قريش أنهم سيحتجون بذلك عليهم، وَاحْتَجُّوا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ بِانْصِرَافِهِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَقَالُوا: سَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَقُولُ: كَمَا فَعَلْتُ فَاذْكُرُونِي. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَالدَّيْلَمِيُّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ يَقُولُ: اذْكُرُونِي يَا مَعْشَرَ الْعِبَادِ بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِمَغْفِرَتِي. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِثْلَهُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هِنْدٍ الدَّارِيِّ وَزَادَ: فَمَنْ ذَكَرَنِي وَهُوَ مُطِيعٌ فَحَقٌّ عَلَيَّ أَنْ أَذْكُرَهُ بِمَغْفِرَتِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي وَهُوَ لِي عَاصٍ فَحَقٌّ عَلَيَّ أَنْ أَذْكُرَهُ بِمَقْتٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَقُولُ اللَّهُ: ذِكْرِي لَكُمْ خَيْرٌ مِنْ ذِكْرِكُمْ لِي. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَفَضْلِ الشُّكْرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. [سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) لَمَّا فرغ سبحانه من إرشاد عِبَادَهُ إِلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَشُكْرِهِ، وَاسْتَعَانَ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى تَأْدِيَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَدَفْعِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ

الْمِحَنِ فَقَدَ هُدِيَ إِلَى الصَّوَابِ وَوُفِّقَ إِلَى الْخَيْرِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ الَّتِي أَوْضَحَهَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ فِيهَا أَعْظَمُ تَرْغِيبٍ لِعِبَادِهِ سُبْحَانَهُ إِلَى لُزُومِ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَنُوبُ مِنَ الْخُطُوبِ. فَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ لَمْ يَخْشَ مِنَ الْأَهْوَالِ وَإِنْ كَانَتْ كالجبال. وأموات وأحياء مُرْتَفِعَانِ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرَانِ لِمَحْذُوفَيْنِ، أَيْ: لَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُمْ أَمْوَاتٌ بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ، وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِكُمْ لِأَبْدَانِهِمْ بَعْدَ سَلْبِ أرواحهم، لِأَنَّكُمْ تَحْكُمُونَ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، بِحَسَبِ مَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ عِلْمُكُمُ الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ كَمَا يَأْخُذُ الطَّائِرُ فِي مِنْقَارِهِ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ، بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ فِي الْبَرْزَخِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَلَا اعْتِدَادَ بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «1» . وَالْبَلَاءُ أصله: المحنة، ومعنى نبلوكم: نَمْتَحِنُكُمْ لِنَخْتَبِرَكُمْ هَلْ تَصْبِرُونَ عَلَى الْقَضَاءِ أَمْ لَا؟ وَتَنْكِيرُ شَيْءٍ: لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ: بِشَيْءٍ قَلِيلٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ بِأَشْيَاءَ. وَالْمُرَادُ بِالْخَوْفِ: مَا يَحْصُلُ لِمَنْ يَخْشَى مِنْ نُزُولِ ضَرَرٍ بِهِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ. وَبِالْجُوعِ: المجاعة التي تحصل عند الجذب وَالْقَحْطِ. وَبِنَقْصِ الْأَمْوَالِ: مَا يَحْدُثُ فِيهَا بِسَبَبِ الْجَوَائِحِ وَمَا أَوْجَبَهَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا. وَبِنَقْصِ الْأَنْفُسِ: الْمَوْتُ وَالْقَتْلُ فِي الْجِهَادِ. وَبِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ: مَا يُصِيبُهَا مِنَ الْآفَاتِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِشُمُولِ الْأَمْوَالِ لِلثَّمَرَاتِ وَغَيْرِهَا- وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ: مَوْتُ الْأَوْلَادِ. وَقَوْلُهُ: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ أَمْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى التَّبْشِيرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْبِشَارَةِ. وَالصَّبْرُ أَصْلُهُ الْحَبْسُ، وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ الْمُسْتَرْجِعُونَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَسْلِيمٌ وَرِضًا. وَالْمُصِيبَةُ: وَاحِدَةُ الْمَصَائِبِ، وَهِيَ: النَّكْبَةُ الَّتِي يَتَأَذَّى بِهَا الْإِنْسَانُ وَإِنْ صَغُرَتْ. وَقَوْلُهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَلْجَأٌ لِلْمُصَابِينَ وَعِصْمَةٌ لِلْمُمْتَحَنِينَ، فَإِنَّهَا جَامِعَةٌ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. وَمَعْنَى الصَّلَوَاتِ هُنَا: الْمَغْفِرَةُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَعَلَى هَذَا فَذِكْرُ الرَّحْمَةِ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الصَّلَاةُ: الرَّحْمَةُ وَالتَّعَطُّفُ، فَوُضِعَتْ مَوْضِعَ الرَّأْفَةِ، وَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ كَقَوْلِهِ: رَأْفَةً وَرَحْمَةً لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَالْمَعْنَى: عَلَيْهِمْ رَأْفَةٌ بَعْدَ رَأْفَةٍ وَرَحْمَةٌ بَعْدَ رَحْمَةٍ. انْتَهَى. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ: كَشْفُ الكربة وقضاء الحاجة. والْمُهْتَدُونَ قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا وُصِفُوا هُنَا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ فَعَلُوا مَا فِيهِ الْوُصُولُ إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ مِنَ الِاسْتِرْجَاعِ وَالتَّسْلِيمِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: غُشِيَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي وَجَعِهِ غَشْيَةً ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ فَاضَتْ نَفْسُهُ فِيهَا، حَتَّى قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ وَجَلَّلُوهُ ثَوْبًا، وَخَرَجَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ تَسْتَعِينُ بِمَا أُمِرَتْ بِهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، فَلَبِثُوا سَاعَةً وَهُوَ فِي غَشْيَتِهِ ثُمَّ أَفَاقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُتِلَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ بِبَدْرٍ، وَفِيهِ وَفِي غَيْرِهِ نَزَلَتْ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ: فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ تأكل من

_ (1) . آل عمران: 169.

[سورة البقرة (2) : آية 158]

ثِمَارِ الْجَنَّةِ. فَمِنْهَا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ. وَرُوِيَ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ تَكُونُ عَلَى صُوَرِ طُيُورٍ بِيضٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بَلَغَنَا، فَذَكَرَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا بِنَحْوِهِ، وَرُوِيَ أَنَّهَا عَلَى صُوَرِ طُيُورٍ خُضْرٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَنْ كَعْبٍ. وَأَخْرَجَهُ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ عَنْ هُذَيْلٍ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ الْآيَةَ، قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ وَأَنَّهُ مُبْتَلِيهِمْ فِيهَا، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ وَبَشَّرَهُمْ فَقَالَ: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَلَّمَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَجَعَ وَاسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ مِنَ الْخَيْرِ: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سَبِيلِ الْهُدَى. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وَأَحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفًا صَالِحًا يَرْضَاهُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر، وابن أبي حاتم عن رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ فِي قَوْلِهِ: وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا تَحْمِلُ النَّخْلَةُ فِيهِ إِلَّا تَمْرَةً. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُعْطِيَتْ أُمَّتِي شَيْئًا لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ أَنْ يَقُولُوا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الِاسْتِرْجَاعِ عِنْدَ المصيبة أحاديث كثيرة. [سورة البقرة (2) : آية 158] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) أَصْلُ الصَّفا فِي اللُّغَةِ: الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ، وَهُوَ هَنَا عَلَمٌ لِجَبَلٍ مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ مَعْرُوفٍ، وَكَذَلِكَ الْمَرْوَةَ عَلْمٌ لِجَبَلٍ بمكة معروف، وأصلها في اللغة: واحدة المرو، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ الَّتِي فِيهَا لِينٌ. وَقِيلَ: الَّتِي فِيهَا صَلَابَةٌ، وَقِيلَ: تَعُمُّ الْجَمِيعَ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ ... بِصَفَا المشقّر كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ وَقِيلَ: إِنَّهَا الْحِجَارَةُ الْبِيضُ الْبَرَّاقَةُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الْحِجَارَةُ السُّودُ. وَالشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، أَيْ: مِنْ أَعْلَامِ مَنَاسِكِهِ. وَالْمُرَادُ بِهَا مَوَاضِعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَشْعَرَهَا اللَّهُ إِعْلَامًا لِلنَّاسِ مِنَ الْمَوْقِفِ وَالسَّعْيِ وَالْمَنْحَرِ، وَمِنْهُ: إِشْعَارُ الْهَدْيِ، أَيْ: إِعْلَامِهِ بِغَرْزِ حَدِيدَةٍ فِي سَنَامِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ: نُقَتِّلُهُمْ جِيلًا فَجِيلًا تَرَاهُمْ ... شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهِمْ يُتَقَرَّبُ وَحَجُّ الْبَيْتِ في اللغة: قصده، ومنه قول الشاعر: فأشهد من عوف حلولا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا

[سورة البقرة (2) : الآيات 159 إلى 163]

وَالسَّبُّ: الْعِمَامَةُ. وَفِي الشَّرْعِ: الْإِتْيَانُ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَالْعُمْرَةُ فِي اللُّغَةِ: الزِّيَارَةُ. وَفِي الشَّرْعِ: الْإِتْيَانُ بِالنُّسُكِ الْمَعْرُوفِ عَلَى الصِّفَةِ الثَّابِتَةِ. وَالْجَنَاحُ: أَصْلُهُ مِنَ الْجُنُوحِ، وَهُوَ الْمَيْلُ، وَمِنْهُ الْجَوَانِحُ لِاعْوِجَاجِهَا. وَقَوْلُهُ: يَطَّوَّفَ: أَصْلُهُ يَتَطَوَّفَ فَأُدْغِمَ. وَقُرِئَ: أَنْ يَطَّوَّفَ، وَرَفْعُ الْجَنَاحِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةِ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةِ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ وَعَلَى تَارِكِهِ دَمٌ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ سِيرِينَ. وَمِمَّا يُقَوِّي دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ وَنُسُكٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَاسِكِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ عُرْوَةَ قَالَ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فَمَا أَرَى عَلَى أَحَدٍ جُنَاحًا أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا أَوَّلْتَهَا كَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ أَنَّ الْأَنْصَارَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، وَكَانَ مَنْ أَهَلَّ لَهَا يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ قَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بِهِمَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الطَّوَافَ بِهِمَا. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَعَمْرِي مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَا عُمْرَتَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، والشافعي، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ قَانِعٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تَجْرَاةَ قَالَتْ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ وَرَاءَهُمْ يَسْعَى، حَتَّى أَرَى رُكْبَتَيْهِ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ، يَدُورُ بِهِ إِزَارُهُ وَهُوَ يَقُولُ: «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ عزّ وجلّ كتب عليكم السّعي» وهو فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِهِ عَبْدِ الله بن المؤمل عن عطاء ابن أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْهَا، وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ وَاصِلٍ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَتْهَا فَذَكَرَتْهُ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حديث: «خذوا عنّي مناسككم» . [سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 163] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الَّذِي يَكْتُمُ ذَلِكَ مَلْعُونٌ، وَاخْتَلَفُوا

مَنِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ؟ فَقِيلَ: أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَرُهْبَانُ النَّصَارَى الَّذِينَ كَتَمُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ كَتَمَ الْحَقَّ وَتَرَكَ بَيَانَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ بَيَانَهُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، فَعَلَى فَرْضِ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ مَا وَقَعَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنَ الْكَتْمِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَنَاوُلَ هَذِهِ الْآيَةِ كُلَّ مَنْ كَتَمَ الْحَقَّ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، فَإِنَّ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَلَعَنَهُ كُلُّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ اللَّعْنُ مِنْ عِبَادِهِ، قَدْ بَلَغَ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالْخُسْرَانِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَا تُلْحَقُ، وَلَا يُدْرَكُ كُنْهُهَا. وَفِي قَوْلِهِ: مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ كَتْمُ غَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا أَنْزَلْنَا. وَالْكِتَابُ: اسْمُ جِنْسٍ، وَتَعْرِيفُهُ يُفِيدُ شُمُولَهُ لِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ: التَّوْرَاةُ. وَاللَّعْنُ: الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: اللَّاعِنُونَ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ اللَّعْنُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْجِنُّ وَقِيلَ: هُمُ الْحَشَرَاتُ وَالْبَهَائِمُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا إِلَخْ، فِيهِ اسْتِثْنَاءُ التَّائِبِينَ وَالْمُصْلِحِينَ لِمَا فَسَدَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُبَيِّنِينَ لِلنَّاسِ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ في كتبه وعلى ألسن رسله. وقوله: وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَعْنُ كَافِرٍ مُعَيَّنٍ، لِأَنَّ حَالَهُ عِنْدَ الْوَفَاةِ لَا يُعْلَمُ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَعْنِهِ لِقَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِأَعْيَانِهِمْ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بِالْوَحْيِ مَا لَا نَعْلَمُ وَقِيلَ: يَجُوزُ لَعْنُهُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الحال كما يجوز قتاله. وقوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ إِلَخْ، اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ لَعْنِ الْكُفَّارِ عَلَى الْعُمُومِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَلَيْسَ لَعْنُ الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ لَهُ عَنِ الْكُفْرِ، بَلْ هُوَ جَزَاءٌ عَلَى الْكُفْرِ وَإِظْهَارُ قُبْحِ كُفْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْكَافِرُ عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ: لَا فَائِدَةَ فِي لَعْنِ مَنْ جُنَّ أَوْ مَاتَ مِنْهُمْ لَا بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ وَلَا بِطَرِيقِ الزَّجْرِ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ بِلَعْنِهِمْ لَا عَلَى الْأَمْرِ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ لَعْنَ الْعَاصِي الْمُعَيَّنِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَارِبِ خَمْرٍ مِرَارًا، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ: لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يَشْرَبُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَكُونُوا عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ» وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قِيلَ: هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَفِي النَّاسِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَمَنْ يَعْلَمُ بِالْعَاصِي وَمَعْصِيَتِهِ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ، فَلَا يَتَأَتَّى اللَّعْنُ لَهُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَلْعَنُهُ غَالِبُ النَّاسِ، أَوْ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِمَعْصِيَتِهِ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها أَيْ: فِي النَّارِ وَقِيلَ: فِي اللَّعْنَةِ. وَالْإِنْظَارُ: الْإِمْهَالُ، وَقِيلَ: مَعْنَى لَا يُنْظَرُونَ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، فَهُوَ مِنَ النَّظَرِ وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الِانْتِظَارِ، أَيْ: لَا يُنْتَظَرُونَ لِيَعْتَذِرُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. وَقَوْلُهُ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فِيهِ الْإِرْشَادُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَقَطْعِ عَلَائِقِ الشِّرْكِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ وَيَحْرُمُ كِتْمَانُهُ هُوَ أَمْرُ التَّوْحِيدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخُو بَنِي الْأَشْهَلِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ نَفَرًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ

[سورة البقرة (2) : آية 164]

عَنْ بَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، فَكَتَمُوهُمْ إِيَّاهُ وَأَبَوْا أَنْ يُخْبِرُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِكَتْمِهِمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِ الْكَافِرَ يُضْرَبُ ضَرْبَةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَتَسْمَعُهُ كُلُّ دَابَّةٍ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ، فَتَلْعَنُهُ كُلُّ دَابَّةٍ سَمِعَتْ صَوْتَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ يَعْنِي دَوَابَّ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَكُلُّ دَابَّةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قال: إذا أجدبت البهائم دعت على فجار بني آدم. وأخرج عنه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ وَالْعَقَارِبَ وَالْخَنَافِسَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِذُنُوبِهِمْ، فَيَلْعَنُونَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: يَلْعَنُهُمْ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْخُنْفُسَاءِ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ كَتْمِ الْعِلْمِ وَالْوَعِيدِ لِفَاعِلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا قَالَ: أَصْلَحُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَبَيَّنُوا الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ، وَلَمْ يَكْتُمُوهُ وَلَمْ يَجْحَدُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: أَتُوبُ عَلَيْهِمْ يَعْنِي: أَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: إِنَّ الْكَافِرَ يُوقَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْعَنُهُ اللَّهُ، ثُمَّ تَلْعَنُهُ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ يَلْعَنُهُ النَّاسُ أَجْمَعُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَعْنِي بِالنَّاسِ أَجْمَعِينَ: الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها يَقُولُ: خَالِدِينَ فِي جَهَنَّمَ فِي اللَّعْنَةِ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يقول: لا يُنْظَرُونَ فَيَعْتَذِرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ قَالَ: لَا يُؤَخَّرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وأحمد، والدارمي، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ والم- اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ «1» . وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ أَشَدَّ عَلَى مَرَدَةِ الْجِنِّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ الْآيَتَيْنِ» . [سورة البقرة (2) : آية 164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ التَّوْحِيدَ بِقَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ: هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ صَنْعَةِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، مَعَ عِلْمِ كُلِّ عَاقِلٍ بِأَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْآلِهَةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا الْكُفَّارُ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، أَوْ يَقْتَدِرَ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى بَعْضِهِ، وَهِيَ خلق السموات، وَخَلْقُ الْأَرْضِ، وَتَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَجَرْيُ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ، وَإِنْزَالُ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِحْيَاءُ الأرض به، وبثّ الدوابّ منها بسببه،

_ (1) . آل عمران: 1- 2.

وَتَصْرِيفُ الرِّيَاحِ فَإِنَّ مَنْ أَمْعَنَ نَظَرَهُ وَأَعْمَلَ فِكْرَهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا انْبَهَرَ لَهُ، وَضَاقَ ذِهْنُهُ عَنْ تَصَوُّرِ حَقِيقَتِهِ. وَتَحَتَّمَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ بِأَنَّ صَانِعَهُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَإِنَّمَا جَمَعَ السموات لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ، كُلُّ سَمَاءٍ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ جِنْسِ الْأُخْرَى، وَوَحَّدَ الْأَرْضَ لِأَنَّهَا كُلَّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التُّرَابُ. وَالْمُرَادُ بِاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَعَاقُبُهُمَا بِإِقْبَالِ أَحَدِهِمَا وَإِدْبَارِ الْآخَرِ، وَإِضَاءَةِ أَحَدِهِمَا وَإِظْلَامِ الْآخَرِ. وَالنَّهَارُ: مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: أَوَّلُ النَّهَارِ طُلُوعُ الشَّمْسِ، وَلَا يُعَدُّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ النَّهَارِ. وَكَذَا قَالَ ثَعْلَبٌ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ... حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَسَّمَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الزَّمَانَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمًا جَعَلَهُ لَيْلًا مَحْضًا، وَهُوَ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَقِسْمًا جَعَلَهُ نَهَارًا مَحْضًا، وَهُوَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا. وَقِسْمًا جَعَلَهُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ لِبَقَايَا ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَمَبَادِئِ ضَوْءِ النَّهَارِ. هَذَا بِاعْتِبَارِ مُصْطَلَحِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ: فَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ. وَالْفُلْكُ: السُّفُنُ، وَإِفْرَادُهُ وَجَمْعُهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ هَذَا، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ «1» وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ وَقَالَ: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ «2» وَقِيلَ: وَاحِدُهُ فَلَكٌ بِالتَّحْرِيكِ، مِثْلَ أُسْدٍ وَأَسَدٍ. وَقَوْلُهُ: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا: مَوْصُولَةً أَيْ: بِالَّذِي يَنْفَعُهُمْ، أَوْ مَصْدَرِيَّةً: أَيْ بِنَفْعِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ: الْمَطَرُ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْعَالَمِ وَإِخْرَاجُ النَّبَاتِ وَالْأَرْزَاقُ. وَالْبَثُّ: النَّشْرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: بَثَّ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَأَحْيا لِأَنَّهُمَا أَمْرَانِ مُتَسَبَّبَانِ عَنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ الظَّاهِرَ عَطْفُهُ عَلَى أنزل. والمراد بتصريف الرياح: إرسالهما عَقِيمًا، وَمُلَقِّحَةً، وَصِرًّا، وَنَصْرًا، وَهَلَاكًا، وَحَارَّةً، وَبَارِدَةً، وَلَيِّنَةً، وَعَاصِفَةً، وَقِيلَ: تَصْرِيفُهَا: إِرْسَالُهَا جَنُوبًا، وَشَمَالًا، ودبورا، وصبا، ونكباء، وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي بَيْنَ مَهَبَّيْ رِيحَيْنِ وَقِيلَ: تَصْرِيفُهَا: أَنْ تَأْتِيَ السُّفُنَ الْكِبَارَ بِقَدْرِ مَا تَحْمِلُهَا وَالصِّغَارَ كَذَلِكَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ التَّصْرِيفِ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ. وَالسَّحَابُ سُمِّيَ سَحَابًا: لِانْسِحَابِهِ فِي الْهَوَاءِ، وَسَحَبْتُ ذَيْلِي سَحْبًا، وَتَسَحَّبَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ: اجْتَرَأَ. وَالْمُسَخَّرُ: الْمُذَلَّلُ، وَسَخَّرَهُ: بَعَثَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَقِيلَ: تَسْخِيرُهُ: ثُبُوتُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ وَلَا عَلَائِقَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَالْآيَاتُ: الدَّلَالَاتُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ لِمَنْ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ وَيَتَفَكَّرُ بِعَقْلِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى عَدُوِّنَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي مُعْطِيهِمْ فَأَجْعَلُ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَلَكِنْ إِنْ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَذَّبْتُهُمْ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: رَبِّ دَعْنِي وَقَوْمِي فَأَدْعُوهُمْ يَوْمًا بِيَوْمٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَآدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي

_ (1) . الشعراء: 119 ويس: 41. (2) . يونس: 22.

[سورة البقرة (2) : الآيات 165 إلى 167]

شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ عَجِبَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَطَاءٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشيخ في العظمة عن سلمان، قَالَ: اللَّيْلُ مُوَكَّلٌ بِهِ مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ شَرَاهِيلُ، فَإِذَا حَانَ وَقْتُ اللَّيْلِ أَخَذَ خَرَزَةً سَوْدَاءَ فَدَلَّاهَا مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ، فَإِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهَا الشَّمْسُ وَجَبَتْ فِي أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَقَدْ أُمِرَتِ الشَّمْسُ أَنْ لَا تَغْرُبَ حَتَّى تَرَى الْخَرَزَةَ، فَإِذَا غَرَبَتْ جَاءَ اللَّيْلُ، فَلَا تَزَالُ الْخَرَزَةُ مُعَلَّقَةً حَتَّى يَجِيءَ مَلَكٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ هَرَاهِيلُ بِخَرَزَةٍ بَيْضَاءَ، فَيُعَلِّقُهَا مِنْ قِبْلِ الْمَطْلَعِ، فَإِذَا رَآهَا شَرَاهِيلُ مَدَّ إليه خرزته، وترى الشمس الخزرة الْبَيْضَاءَ، فَتَطْلُعُ، وَقَدْ أُمِرَتْ أَنْ لَا تَطْلُعَ حَتَّى تَرَاهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ جَاءَ النَّهَارُ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْفُلْكِ قَالَ: السَّفِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: بَثَّ خَلَقَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ قَالَ: إِذَا شَاءَ جَعْلَهَا رَحْمَةً لَوَاقِحَ لِلسَّحَابِ، وَبُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، وَإِذَا شَاءَ جَعْلَهَا عَذَابًا رِيحًا عَقِيمًا لَا تُلَقِّحُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الرِّيَاحِ فَهِيَ رَحْمَةٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الرِّيحِ فَهِيَ عَذَابٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الرِّيحِ وَأَوْصَافِهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَا تَعَلُّقَ لها بالآية. [سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، أَخْبَرَ أَنَّ مَعَ هَذَا الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ الْمُفِيدِ لِعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَجَلِيلِ قُدْرَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ، قَدْ وُجِدَ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مَعَهُ سُبْحَانَهُ نِدًّا يَعْبُدُهُ مِنَ الْأَصْنَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَنْدَادِ، مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مُجَرَّدِ الْأَنْدَادِ بَلْ أَحَبُّوهَا حُبًّا عَظِيمًا، وَأَفْرَطُوا فِي ذَلِكَ إِفْرَاطًا بَالِغًا، حَتَّى صَارَ حُبُّهُمْ لِهَذِهِ الْأَوْثَانِ وَنَحْوِهَا مُتَمَكِّنًا فِي صُدُورِهِمْ كَتَمَكُّنِ حُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، فَالْمَصْدَرُ فِي قَوْلِهِ: كَحُبِّ اللَّهِ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْمُؤْمِنُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَحُبِّهِمْ لِلَّهِ، أَيْ: عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ وَالزَّجَّاجُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَصْدَرُ مِنَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ: كَمَا يُحَبُّ اللَّهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ فَإِنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ لِمَا يُفِيدُهُ التَّشْبِيهُ مِنَ التَّسَاوِي. أَيْ: أَنَّ حُبَّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ أَشَدُّ مِنْ حُبِّ الكفار الأنداد، ولأن الْمُؤْمِنِينَ يَخُصُّونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِالْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ، وَالْكَفَّارُ لَا يَخُصُّونَ أَصْنَامَهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ يُشْرِكُونَ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ أَصْنَامَهُمْ لِيُقَرِّبُوهُمْ

_ (1) . هذا الأثر وأمثاله لا يعتمد على كتاب أو سنة وإنما هو رأي لصاحبه لا يعتد به لمخالفته الحقائق العلمية. [.....]

إِلَى اللَّهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا، أَعْنِي قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ دَلِيلًا عَلَى الثَّانِي، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانُوا أَشَدَّ حبا لَمْ يَكُنْ حُبُّ الْكُفَّارِ لِلْأَنْدَادِ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَنْدَادِ هُنَا: الرُّؤَسَاءُ، أَيْ: يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، وَيُقَوِّي هَذَا: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِمْ: يُحِبُّونَهُمْ فَإِنَّهُ لِمَنْ يَعْقِلُ، وَيُقَوِّيهِ أَيْضًا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ عَقِبَ ذَلِكَ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا الآية. وقوله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ والكوفة وأبو عَمْرٍو بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي الدُّنْيَا عَذَابَ الْآخِرَةِ لَعَلِمُوا حِينَ يُرُونَهُ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا: فَالرُّؤْيَةُ هِيَ الْبَصَرِيَّةُ لَا الْقَلْبِيَّةُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَبُو عُبَيْدٍ بِعِيدٌ، وَلَيْسَتْ عِبَارَتُهُ فِيهِ بِالْجَيِّدَةِ، لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ، فَكَأَنَّهُ يَجْعَلُهُ مَشْكُوكًا فِيهِ. وَقَدْ أوجبه الله تعالى، ولكن التقدير هو الْأَحْسَنُ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ- وَيَرَى بِمَعْنَى: يَعْلَمُ، أَيْ: لَوْ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ قُوَّةِ اللَّهِ وَشِدَّةَ عَذَابِهِ. قَالَ: وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَتَبَيَّنُوا ضَرَرَ اتِّخَاذِهِمُ الْآلِهَةَ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ «1» وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ «2» وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَوْقِيَّةِ فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ وَفَزَعِهِمْ مِنْهُ لَعَلِمْتَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ ذَلِكَ وَلَكِنْ خُوطِبَ بِهَذَا الْخِطَابِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ وَقِيلَ: أَنَّ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ لِأَجْلِهِ، أَيْ: لِأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الْكَرِيمِ ادّخاره ... وأعرض عن شتم اللّئيم تكرّم أَيْ: لِادِّخَارِهِ وَالْمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ! الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمْ لِلْعَذَابِ- لِأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ- لَعَلِمْتَ مَبْلَغَهُمْ مِنَ النَّكَالِ، وَدَخَلَتْ (إذا) وَهِيَ لِمَا مَضَى فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْمُسْتَقْبَلَاتِ تَقْرِيبًا لِلْأَمْرِ وَتَصْحِيحًا لِوُقُوعِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ إِذْ يَرَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الحسن ويعقوب وأبو جعفر أَنَّ الْقُوَّةَ، وَأَنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَعَلَى تقدير القول. وقوله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ السَّادَةَ وَالرُّؤَسَاءَ تبرؤوا مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَوْلُهُ: وَرَأَوُا الْعَذابَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: يَعْنِي التَّابِعِينَ وَالْمَتْبُوعِينَ قِيلَ: عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَقِيلَ: عِنْدَ الْعَرْضِ وَالْمُسَاءَلَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فِيهِمَا جَمِيعًا، إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ ذلك. وقوله: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ هِيَ جَمْعُ سَبَبٍ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الشَّيْءُ وَيُجْذَبُ بِهِ، ثُمَّ جُعِلَ كُلُّ مَا جَرَّ شَيْئًا سَبَبًا، وَالْمُرَادُ بِهَا: الْوُصَلُ الَّتِي كَانُوا يَتَوَاصَلُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الرَّحِمِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: هِيَ الْأَعْمَالُ. وَالْكَرَّةُ: الرَّجْعَةُ وَالْعَوْدَةُ إِلَى حال قد كانت، ولو هُنَا فِي مَعْنَى التَّمَنِّي، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَيْتَ لَنَا كَرَّةً وَلِهَذَا وَقَعَتِ الْفَاءُ فِي الْجَوَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَتْبَاعَ قَالُوا: لَوْ رُدِدْنَا إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى نَعْمَلَ صَالِحًا وَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تبرّؤوا منا. والكاف في قوله: كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَلَا أَرَاهُ صَحِيحًا. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيِ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، أَيْ:

_ (1) . الأنعام: 27. (2) . الأنعام: 30.

كَمَا أَرَاهُمُ اللَّهُ الْعَذَابَ يُرِيهِمْ أَعْمالَهُمْ، وَهَذِهِ الرؤية إن كانت البصرية فَقَوْلُهُ: حَسَراتٍ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقَلْبِيَّةَ فَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّالِثُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَعْمَالَهُمُ الْفَاسِدَةَ يُرِيهِمُ اللَّهُ إِيَّاهَا فَتَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، أَوْ يُرِيهِمُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي أَوْجَبَهَا عَلَيْهِمْ فَتَرَكُوهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى خُلُودِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، وَظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، وَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لِلتَّقْوِيَةِ لِغَرَضٍ لَهُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَذْهَبِ، وَالْبَحْثُ فِي هَذَا يَطُولُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً قَالَ: مُبَاهَاةً وَمُضَارَرَةً لِلْحَقِّ بِالْأَنْدَادِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ قَالَ: مِنَ الْكُفَّارِ لِآلِهَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ أَنْدَادُهُمْ: آلِهَتُهُمُ الَّتِي عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّ الَّذِينَ آمَنُوا اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ حُبِّهِمْ لِآلِهَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْأَنْدَادُ مِنَ الرِّجَالِ يُطِيعُونَهُمْ كَمَا يُطِيعُونَ اللَّهَ، إِذَا أَمَرُوهُمْ أَطَاعُوهُمْ وَعَصَوُا الله. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَ مَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الزُّبَيْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قَالَ: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ! الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِي أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّكُمْ إِيَّايَ حِينَ يُعَايِنُونَ عَذَابِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي أَعْدَدْتُ لَهُمْ، لَعَلِمْتُمْ أَنَّ الْقُوَّةَ كُلَّهَا لِي دُونَ الْأَنْدَادِ، وَالْآلِهَةُ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ هُنَالِكَ شَيْئًا، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابًا أَحْلَلْتُ بِهِمْ، وَأَيْقَنْتُهُمْ أَنِّي شَدِيدٌ عَذَابِي لِمَنْ كَفَرَ بِي وَادَّعَى مَعِي إلها غيري. وأخرج عبد ابن حميد وابن جرير عن قتادة قَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا قَالَ: هُمُ الجبابرة والقادة والرؤوس فِي الشِّرْكِ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا قَالَ: هُمُ الشياطين تبرّؤوا مِنَ الْإِنْسِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ قَالَ: الْمَوَدَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هِيَ الْمَنَازِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: هِيَ الْأَرْحَامُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هِيَ الْأَوْصَالُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْمَوَدَّةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: هِيَ الْأَعْمَالُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: هِيَ الْمَنَازِلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً قَالَ: رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: حَسَراتٍ قَالَ: صَارَتْ أَعْمَالُهُمُ الْخَبِيثَةُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ قَالَ: أُولَئِكَ أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: مَا زَالَ أَهْلُ النَّارِ يَأْمُلُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا حَتَّى نَزَلَتْ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 168 إلى 171]

[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 171] يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَقِيفٍ وَخُزَاعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ فِيمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ. حَكَّاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَلَكِنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَقَوْلُهُ: حَلالًا مَفْعُولٌ أَوْ حَالٌ، وَسُمِّيَ الْحَلَّالُ حَلَالًا: لِانْحِلَالِ عُقْدَةِ الْحَظْرِ عَنْهُ. وَالطَّيِّبُ هُنَا: هُوَ الْمُسْتَلَذُّ، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: هو الحلال، فيكون تأكيدا لقوله: حَلالًا. ومن فِي قَوْلِهِ: مِمَّا فِي الْأَرْضِ لِلتَّبْعِيضِ لِلْقَطْعِ بأن في الأرض ما هو حرام وخُطُواتِ: جَمْعُ خُطْوَةٍ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، وَهِيَ بِالْفَتْحِ لِلْمَرَّةِ، وبالضم لما بين القدمين. وقرأ الفراء خطوات بفتح الخاء، وقرأ أبو السّمّال بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْرَجُ وعمر بْنُ مَيْمُونٍ وَالْأَعْمَشُ «خُطُؤَاتِ» بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَالْهَمْزِ عَلَى الْوَاوِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَذَهَبُوا بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى أَنَّهَا جَمْعُ خَطِيَّةٍ مِنَ الْخَطَأِ لَا مِنَ الْخَطْوِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْخَطْوَةُ بِالْفَتْحِ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَالْجَمْعُ خُطُوَاتٌ وَخُطًا. انْتَهَى. وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: لَا تَقْفُوا أَثَرَ الشَّيْطَانِ وَعَمَلَهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الشَّيْطَانِ وَقِيلَ: هِيَ النُّذُورُ وَالْمَعَاصِي، وَالْأَوْلَى التَّعْمِيمُ وَعَدَمُ التَّخْصِيصِ بِفَرْدٍ أَوْ نَوْعٍ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أَيْ: ظَاهِرُ الْعَدَاوَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ «1» وَقَوْلُهُ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا «2» وَقَوْلُهُ: بِالسُّوءِ سُمِّيَ السُّوءُ سُوءًا: لِأَنَّهُ يَسُوءُ صَاحِبَهُ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِ، وَهُوَ مَصْدَرُ ساءه يسوؤه سَوْءًا وَمَسَاءَةً إِذَا أَحْزَنَهُ. وَالْفَحْشاءِ: أَصْلُهُ سُوءُ المنظر، ومنه قول الشاعر: وجيد كجيد الرّيم ليس بفاحش ثم استعمل فيما قبح مِنَ الْمَعَانِي، وَقِيلَ: السُّوءُ: الْقَبِيحُ، وَالْفَحْشَاءُ: التَّجَاوُزُ لِلْحَدِّ فِي الْقُبْحِ وَقِيلَ: السُّوءُ: مَا لَا حَدَّ فِيهِ، وَالْفَحْشَاءُ: مَا فِيهِ الْحَدُّ وَقِيلَ: الْفَحْشَاءُ: الزِّنَا وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ مَا نَهَتْ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ فَهُوَ مِنَ الْفَحْشَاءِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: يُرِيدُ مَا حَرَّمُوهُ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوَهِمَا مِمَّا جَعَلُوهُ شَرْعًا وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمْ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ مَا قِيلَ فِي الشَّرْعِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْأَرْضِ فَأَصْلُهُ الْحِلُّ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، وَأَوْضَحُ دِلَالَةٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ «3» . وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ رَاجِعٌ إِلَى النَّاسِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ مِنْهُمْ وَهُمُ الْمَقْصُودُونَ هُنَا وَقِيلَ: كفار العرب خاصة، وأَلْفَيْنا مَعْنَاهُ: وَجَدْنَا، وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَفُتِحَتِ الْوَاوُ لِأَنَّهَا وَاوُ الْعَطْفِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الذَّمِّ لِلْمُقَلِّدِينَ وَالنِّدَاءِ بِجَهْلِهِمُ الْفَاحِشِ وَاعْتِقَادِهِمُ الْفَاسِدِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا «4» الْآيَةَ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى قُبْحِ التَّقْلِيدِ، وَالْمَنْعِ مِنْهُ، وَالْبَحْثُ فِي ذَلِكَ يَطُولُ. وقد أفردته بمؤلف مستقلّ سمّيته «القول

_ (1) . القصص: 15. (2) . فاطر: 6. (3) . البقرة: 29. (4) . المائدة: 104.

الْمُفِيدُ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ» وَاسْتَوْفَيْتُ الْكَلَامَ فِيهِ فِي «أَدَبُ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ» . وَقَوْلُهُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ فِيهِ تَشْبِيهُ وَاعِظِ الْكَافِرِينَ وَدَاعِيهِمْ- وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالرَّاعِي الَّذِي يَنْعِقُ بِالْغَنَمِ أَوِ الإبل فلا تسمع إلّا دعاء ونداء، ولا تفهم مَا يَقُولُ، هَكَذَا فَسَّرَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ وَسِيبَوَيْهِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لم يشبهوا بالناعق، وإنما شُبِّهُوا بِالْمَنْعُوقِ بِهِ، وَالْمَعْنَى: مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ! وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْهَمُ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْمَعْنَى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمْ مَا لَا يَفْهَمُ- يَعْنِي الْأَصْنَامَ- كَمَثَلِ الرَّاعِي إِذَا نَعَقَ بِغَنَمِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ هِيَ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمُ الْآلِهَةَ الْجَمَادَ كَمَثَلِ الصَّائِحِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَيُجِيبُهُ الصَّدَى فَهُوَ يَصِيحُ بِمَا لَا يَسْمَعُ، وَيُجِيبُهُ مَا لَا حقيقة فيه. والنعق: زَجْرُ الْغَنَمِ وَالصِّيَاحُ بِهَا، يُقَالُ: نَعَقَ الرَّاعِي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعقانا، أَيْ: صَاحَ بِهَا وَزَجَرَهَا، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِرَاعِي الْغَنَمِ فِي الْجَهْلِ وَيَقُولُونَ: أَجْهَلُ مِنْ راعي ضأن. وَقَوْلُهُ: صُمٌّ وَمَا بَعْدَهُ أَخْبَارٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ النبي صلّى الله عليه وسلم، يعني: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فَقَامَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ: «يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ فَمَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّبَا فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ قَالَ: عَمَلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا خَالَفَ الْقُرْآنَ فَهُوَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ» وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: خُطَاهُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: هِيَ نَزَغَاتُ الشَّيْطَانِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هِيَ تَزْيِينُ الشَّيْطَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ فِي غَضَبٍ فَهُوَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ. وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ أَتَى بِضَرْعٍ وَمِلْحٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَاوَلُوا صَاحِبَكُمْ: فَقَالَ: لَا أُرِيدُ، فَقَالَ: أَصَائِمٌ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: حَرَّمْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ آكُلَ ضَرْعًا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَذَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، فَاطْعَمْ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَجْعَلَ فِي أَنْفِهِ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: هِيَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَلَا يَزَالُ عَاصِيًا لِلَّهِ فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ جَعَلَ يَمِينَ مَنْ حَلَفَ أَنْ يَحُجَّ حَبْوًا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: هِيَ النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ قَالَ: الْمَعْصِيَةُ وَالْفَحْشاءِ قَالَ: الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ

[سورة البقرة (2) : الآيات 172 إلى 173]

جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَحَذَّرَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَنِقْمَتَهُ، فَقَالَ لَهُ رَافِعُ بْنُ خَارِجَةَ وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ: بَلْ نَتَّبِعُ يَا مُحَمَّدُ! مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا فَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ وَخَيْرًا مِنَّا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ، وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَلْفَيْنا قَالَا: وَجَدْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ، قَالَ: كَمَثَلِ الْبَقَرِ وَالْحِمَارِ وَالشَّاةِ إِنْ قُلْتَ لِبَعْضِهِمْ كَلَامًا لم يعلم ما تقول غير أنه سمع صَوْتَكَ وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ إِنْ أَمَرْتَهُ بِخَيْرٍ أَوْ نَهَيْتَهُ عَنْ شَرٍّ أَوْ وَعَظْتَهُ لَمْ يَعْقِلْ مَا تَقُولُ غَيْرَ أَنَّهُ يَسْمَعُ صَوْتَكَ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَخْرَجَهُ وَكِيعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ «1» إِلَى قَوْلِهِ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ «2» . [سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 173] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) قَوْلُهُ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ الأول، أعني قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ هُنَا لِكَوْنِهِمْ أَفْضَلَ أَنْوَاعِ النَّاسِ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ: الِانْتِفَاعُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ: الْأَكْلُ الْمُعْتَادُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. قَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ شَكَرَهُ وَشَكَرَ لَهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْحَرْفِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أَيْ: تَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا يُفِيدُهُ تَقَدُّمُ الْمَفْعُولِ. قَوْلُهُ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: حُرِّمَ عَلَى البناء للمفعول وإِنَّما كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ تُثْبِتُ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ. وَقَدْ حَصَرَتْ هَاهُنَا التَّحْرِيمَ في الأمور المذكورة بعدها. وقوله: الْمَيْتَةَ قرأ ابن أبي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجْعَلُ مَا فِي إِنَّما مَوْصُولَةً مُنْفَصِلَةً فِي الْخَطِّ، وَالْمَيْتَةَ وَمَا بَعْدَهَا خَبَرَ الْمَوْصُولِ، وَقِرَاءَةُ الْجَمِيعِ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ الْمَيِّتَةَ: بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي مَيِّتٍ التَّخْفِيفُ وَالتَّشْدِيدُ. وَالْمَيْتَةُ: مَا فَارَقَهَا الرُّوحُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ. وَقَدْ خُصِّصَ هَذَا الْعُمُومُ بِمِثْلِ حَدِيثِ: «أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» أخرجه أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، والدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. وَمِثْلُ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْعَنْبَرِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ «3» فَالْمُرَادُ بِالْمَيْتَةِ هُنَا: مَيْتَةُ الْبَرِّ لَا مَيْتَةُ الْبَحْرِ. وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى جَوَازِ أَكْلِ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ حَيِّهَا وَمَيِّتِهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهُ يَحْرُمُ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ مَا يَحْرُمُ شَبَهُهُ فِي الْبَرِّ، وَتَوَقَّفَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وأنا أتقيه ولا أراه حراما. وقوله: وَالدَّمَ قَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «4» فيحمل المطلق

_ (1) . البقرة: 174. (2) . البقرة: 175. (3) . المائدة: 96. (4) . الأنعام: 145.

عَلَى الْمُقَيَّدِ، لِأَنَّ مَا خُلِطَ بِاللَّحْمِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا كَانَتْ تَطْبُخُ اللَّحْمَ فَتَعْلُو الصُّفْرَةُ عَلَى الْبُرْمَةِ مِنَ الدَّمِ، فَيَأْكُلُ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم ولا ينكره. وقوله: وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَةِ الْأُخْرَى أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ «1» أَنَّ الْمُحَرَّمَ إِنَّمَا هُوَ اللَّحْمُ فَقَطْ. وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ كَمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّحْمَ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الشَّحْمُ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْخِنْزِيرِ مُحَرَّمَةٌ إِلَّا الشَّعَرَ فإنه تجوز الخرازة به. وقوله: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ الْإِهْلَالُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، يُقَالُ: أَهَلَّ بِكَذَا، أَيْ: رَفَعَ صَوْتَهُ قال الشاعر يصف فلاة: يهلّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا ... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ وَقَالَ النَّابِغَةُ: أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ وَمِنْهُ: إِهْلَالُ الصَّبِيِّ، وَاسْتِهْلَالُهُ، وَهُوَ: صِيَاحُهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى إذا كان الذباح وَثَنِيًّا، وَالنَّارِ إِذَا كَانَ الذَّابِحُ مَجُوسِيًّا. وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ، وَمِثْلُهُ مَا يَقَعُ مِنَ الْمُعْتَقِدِينَ لِلْأَمْوَاتِ مِنَ الذَّبْحِ عَلَى قُبُورِهِمْ، فَإِنَّهُ مِمَّا أُهِلَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذَّبْحِ لِلْوَثَنِ. قَوْلُهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ قريء بِضَمِّ النُّونِ لِلْإِتْبَاعِ، وَبِكَسْرِهَا عَلَى الْأَصْلِ فِي الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإِدْغَامِ الضَّادِ فِي الطَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو السمال بِكَسْرِ الطَّاءِ. وَالْمُرَادُ مَنْ صَيَّرَهُ الْجُوعُ وَالْعَدَمُ إلى الاضطرار إلى الميتة. وقوله: غَيْرَ باغٍ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَاغِي: مَنْ يَأْكُلُ فَوْقَ حَاجَتِهِ، وَالْعَادِي: مَنْ يَأْكُلُ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ يَجِدُ عَنْهَا مَنْدُوحَةً وَقِيلَ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَادٍ عَلَيْهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاغِي وَالْعَادِي: قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَالْخَارِجُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَنَحْوُهُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ وَلَا عَادٍ سَدَّ الْجَوْعَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ قَالَ: مِنَ الْحَلَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي الْآيَةِ: طَيِّبُ الْكَسْبِ لَا طَيِّبُ الطَّعَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهَا حَلَالُ الرِّزْقِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ «2» وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ «3» ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أُهِلَّ قَالَ: ذُبِحَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جرير عنه قال: وَما أُهِلَّ لِلطَّوَاغِيتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ

_ (1) . الأنعام: 145. (2) . المؤمنون: 51. (3) . البقرة: 172.

[سورة البقرة (2) : الآيات 174 إلى 176]

قَالَ: مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ يَقُولُ: مَنْ أَكَلَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ وَهُوَ مُضْطَرٌّ فَلَا حَرَجَ، وَمَنْ أَكَلَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فَقَدْ بَغَى وَاعْتَدَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ باغٍ قَالَ: فِي الْمَيْتَةِ وَلا عادٍ قَالَ: فِي الْأَكْلِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قَالَ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا مُعْتَدٍ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ خَرَجَ يَقْطَعُ الرَّحِمَ، أَوْ يَقْطَعُ السَّبِيلَ، أَوْ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ، أَوْ مُفَارِقًا لِلْجَمَاعَةِ وَالْأَئِمَّةِ، أَوْ خَرَجَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَاضْطُرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْعَادِي: الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ. وَقَوْلُهُ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يَعْنِي فِي أَكْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ أَكَلَ مِنَ الْحَرَامِ رَحِيمٌ بِهِ إِذْ أَحَلَّ لَهُ الْحَرَامَ فِي الِاضْطِرَارِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهِ، وَلَا عَادٍ يَتَعَدَّى الْحَلَالَ إِلَى الْحَرَامِ وَهُوَ يجد عنه بلغة ومندوحة. [سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالِاشْتِرَاءُ هُنَا: الِاسْتِبْدَالُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَسَمَّاهُ: قَلِيلًا، لِانْقِطَاعِ مُدَّتِهِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ، وَهَذَا السَّبَبُ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ كَتَمَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الرِّشَا، وَذَكَرَ الْبُطُونَ دَلَالَةً وَتَأْكِيدًا أَنَّ هَذَا الْأَكْلَ حَقِيقَةٌ، إِذْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي مِثْلِ: أَكَلَ فُلَانٌ أَرْضِيَ، وَنَحْوِهِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ مَعْنَى: فِي بُطُونِهِمْ: مِلْءَ بُطُونِهِمْ قَالَ: يَقُولُ أَكَلَ فُلَانٌ فِي بَطْنِهِ، وَأَكَلَ فِي بَعْضِ بَطْنِهِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: إِلَّا النَّارَ أَيْ: أَنَّهُ يُوجِبُ عَلَيْهِمْ عَذَابَ النَّارِ، فَسَمَّى مَا أَكَلُوهُ: نَارًا، لِأَنَّهُ يؤول بِهِمْ إِلَيْهَا، هَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى كِتْمَانِهِمْ بِأَكْلِ النَّارِ فِي جَهَنَّمَ حَقِيقَةً، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا «1» وَقَوْلُهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ فِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ حُلُولِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَعَدَمِ الرِّضَا عَنْهُمْ، يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: المعنى: ولا يكلمهم بما يحبونه ولا بما يكرهونه. كقوله تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «2» . وقوله: لا يُزَكِّيهِمْ معناه: لا يثني عليهم خيرا. قاله الزَّجَّاجُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا يُصْلِحُ أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ فَيُطَهِّرُهُمْ. وَقَوْلُهُ: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ. وَالْمُرَادُ تَعْجِيبُ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ حَالِ هؤلاء الذين باشروا الأسباب الموجبة لعذاب النار، فكأنهم بهذه المباشرة للأسباب

_ (1) . النساء: 10. [.....] (2) . المؤمنون: 108.

[سورة البقرة (2) : آية 177]

صَبَرُوا عَلَى الْعُقُوبَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّ الْمَعْنَى: مَا أَبْقَاهُمْ عَلَى النَّارِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا أَصْبَرَ فُلَانًا عَلَى الْحَبْسِ، أَيْ: مَا أَبْقَاهُ فِيهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَا أَقَلَّ جَزَعَهُمْ مِنَ النَّارِ، فَجَعَلَ قِلَّةَ الْجَزَعِ صَبْرًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَقُطْرُبٌ: أَيْ: مَا أَدْوَمَهُمْ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَقِيلَ: «مَا» اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَمَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَصْبَرَهُمْ عَلَى عَمَلِ النَّارِ؟ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الْإِشَارَةُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْأَمْرِ، أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ وَهُوَ الْعَذَابُ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ خَبَرَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ مَعْلُومٌ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا الْقُرْآنُ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالصِّدْقِ وَقِيلَ: بِالْحُجَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا: التَّوْرَاةُ، فَادَّعَى النَّصَارَى أَنَّ فِيهَا صِفَةَ عِيسَى وأنكرهم الْيَهُودُ وَقِيلَ: خَالَفُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتَلَفُوا فِيهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ: الْقُرْآنُ، وَالَّذِينَ اخْتَلَفُوا: كُفَّارُ قُرَيْشٍ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ. لَفِي شِقاقٍ أَيْ: خِلَافٍ بَعِيدٍ عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الشِّقَاقِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي يَهُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَتَمُوا اسْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذُوا عَلَيْهِ طَمَعًا قَلِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدَيْنِ ضَعِيفَيْنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى قَالَ: اخْتَارُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى وَالْعَذَابَ عَلَى الْمَغْفِرَةِ. فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ قَالَ: مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى عَمَلِ النَّارِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ ابن مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ قال: ما أعملهم بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ فِي قَوْلِهِ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ قَالَ: وَاللَّهِ مَا لَهُمْ عَلَيْهَا مِنْ صَبْرٍ وَلَكِنْ يَقُولُ: مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ يَقُولُ: مَا الَّذِي أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ؟ وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ قَالَ: فِي عداوة بعيدة. [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) قَوْلُهُ: لَيْسَ الْبِرَّ قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ وَالِاسْمُ أَنْ تُوَلُّوا وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الِاسْمُ، قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لَمَّا أَكْثَرُوا الْكَلَامَ فِي شأن القبلة

عِنْدَ تَحْوِيلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم سَائِلٌ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ آخِرَ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِيلَ: أَشَارَ سُبْحَانَهُ بِذِكْرِ الْمَشْرِقِ إِلَى قِبْلَةِ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ مَطْلَعَ الشَّمْسِ، وَأَشَارَ بِذِكْرِ الْمَغْرِبِ إِلَى قِبْلَةِ الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَهُوَ فِي جِهَةِ الْغَرْبِ مِنْهُمْ إِذْ ذَاكَ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ الْبِرَّ: هُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بِرُّ مَنْ آمَنَ. قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَقُطْرُبٌ، وَالزَّجَّاجُ وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَكِنْ ذُو الْبِرِّ مَنْ آمَنَ، وَوَجْهُ هَذَا التَّقْدِيرِ: الْفِرَارُ عَنِ الْإِخْبَارِ بِاسْمِ الْعَيْنِ عَنِ اسْمِ الْمَعْنَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبِرُّ بِمَعْنَى الْبَارِّ، وَهُوَ يُطْلِقُ الْمَصْدَرَ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ كَثِيرًا، وَمِنْهُ فِي التَّنْزِيلِ: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً «1» أَيْ: غَائِرًا، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا: الْجِنْسُ، أَوِ الْقُرْآنُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَلى حُبِّهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَالِ وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى الْإِيتَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَآتَى الْمالَ وَقِيلَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: عَلَى حُبِّ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: أَنَّهُ أَعْطَى الْمَالَ وَهُوَ يُحِبُّهُ وَيَشِحُّ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «2» وَالْمَعْنَى عَلَى الثَّانِي: أَنَّهُ يُحِبُّ إِيتَاءَ الْمَالِ وَتَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ، وَالْمَعْنَى عَلَى الثَّالِثِ: أَنَّهُ أَعْطَى مَنْ تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ فِي حُبِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ «3» وَمِثْلُهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: إِنَّ الْكَرِيمَ عَلَى عِلَّاتِهِ هَرِمُ وَقَدَّمَ ذَوِي الْقُرْبَى لِكَوْنِ دَفْعِ الْمَالِ إليهم صدقة وصلة إذا كانوا فقراء، هكذا الْيَتَامَى الْفُقَرَاءُ أَوْلَى بِالصَّدَقَةِ مِنَ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِيَتَامَى، لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْكَسْبِ. وَالْمِسْكِينُ: السَّاكِنُ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ لِكَوْنِهِ لَا يَجِدُ شَيْئًا. وَابْنَ السَّبِيلِ: الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطِعُ، وَجُعِلَ ابْنًا لِلسَّبِيلِ لِمُلَازَمَتِهِ لَهُ. وَقَوْلُهُ: وَفِي الرِّقابِ أَيْ: فِي مُعَاوَنَةِ الْأَرِقَّاءِ الَّذِينَ كَاتَبَهُمُ الْمَالِكُونَ لَهُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ شِرَاءُ الرِّقَابِ وَإِعْتَاقُهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ فَكُّ الْأَسَارَى. وَقَوْلُهُ: وَآتَى الزَّكاةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيتَاءَ الْمُتَقَدِّمَ هُوَ صَدَقَةُ الْفَرِيضَةِ. وَقَوْلُهُ: وَالْمُوفُونَ قِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «مَنْ آمَنَ» ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُوفُونَ. قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ وَقِيلَ: هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الْمُوفُونَ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي آمَنَ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَقَالَ: لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَالصَّابِرِينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، وَمِنْهُ مَا أَنْشَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا يَبْعَدَنَّ قَوْمَيِ الَّذِينَ هُمْ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأُزْرِ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى كَأَنَّهُ قَالَ: وَآتَى الصَّابِرِينَ: وَقَالَ النَّحَّاسُ: إِنَّهُ خطأ. قال الكسائي: وفي قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمُوفِينَ وَالصَّابِرِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: يَكُونَانِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَنْسُوقَيْنِ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى أَوْ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَالْأَعْمَشُ: وَالْمُوفُونَ والصّابرون بالرفع فيهما. فِي الْبَأْساءِ الشدة والفقر. وَالضَّرَّاءِ: المرض والزمانة وَحِينَ الْبَأْسِ قيل: المراد:

_ (1) . الملك: 30. (2) . آل عمران: 92. (3) . الإنسان: 8.

وَقْتُ الْحَرْبِ، وَالْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ اسْمَانِ بُنِيَا عَلَى فَعْلَاءَ وَلَا فِعْلَ لَهُمَا لِأَنَّهُمَا اسْمَانِ وَلَيْسَا بِنَعْتٍ. وَقَوْلُهُ: صَدَقُوا وَصَفَهُمْ بِالصِّدْقِ وَالتَّقْوَى فِي أُمُورِهِمْ وَالْوَفَاءِ بِهَا وَأَنَّهُمْ كَانُوا جَادِّينَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ صَدَقُوهُمُ الْقِتَالَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ فَتَلَا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، ثُمَّ سَأَلَهُ أَيْضًا فَتَلَاهَا، ثُمَّ سَأَلَهُ فَتَلَاهَا. قَالَ: وَإِذَا عَمِلْتَ بِحَسَنَةٍ أَحَبَّهَا قَلْبُكَ، وَإِذَا عَمِلْتَ بِسَيِّئَةٍ أَبْغَضَهَا قَلْبُكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ: مَا الْإِيمَانُ؟ فَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ نَحْوَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُصَلُّوا وَلَا تَعْمَلُوا، هَذَا حِينَ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأُنْزِلَتِ الْفَرَائِضُ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بالمدينة، يقول: ليس البرّ أن تصلوا، ولكن الْبِرَّ مَا ثَبَتَ فِي الْقَلْبِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنْ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ الْبِرَّ الآية. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تُصَلِّي قِبَلَ الْمَغْرِبِ، وَالنَّصَارَى قِبَلَ الْمَشْرِقِ، فَنَزَلَتْ: لَيْسَ الْبِرَّ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أَبِي الْعَالِيَةِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ ابن مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ قَالَ: يُعْطِي وَهُوَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ يَأْمُلُ الْعَيْشَ وَيَخَافُ الْفَقْرَ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ المطلب: أنه قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ؟ فَكُلُّنَا نُحِبُّهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُؤْتِيهِ حِينَ تُؤْتِيهِ وَنَفْسُكَ تُحَدِّثُكَ بِطُولِ الْعُمُرِ وَالْفَقْرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ يَعْنِي: عَلَى حُبِّ الْمَالِ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: ذَوِي الْقُرْبى يَعْنِي: قَرَابَتَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تُجْزِي عَنْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِهَا وَأَيْتَامٍ فِي حِجْرِهَا؟ فَقَالَ: «لَكِ أَجْرَانِ: أَجْرُ الصَّدَقَةِ، وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، مِنْ حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ابْنُ السَّبِيلِ: هُوَ الضعيف الَّذِي يَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَمُرُّ بِكَ وَهُوَ مُسَافِرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّائِلِينَ قَالَ: السَّائِلُ الَّذِي يَسْأَلُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَفِي الرِّقابِ قَالَ: يَعْنِي فَكَّ الرِّقَابِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْهُ فِي

[سورة البقرة (2) : الآيات 178 إلى 179]

قَوْلِهِ: وَأَقامَ الصَّلاةَ يَعْنِي وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَآتَى الزَّكاةَ يَعْنِي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ، والدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، ثُمَّ قَرَأَ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي العالية في قَوْلِهِ: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ قَالَ: فَمَنْ أَعْطَى عَهْدَ اللَّهِ ثُمَّ نَقَضَهُ فَاللَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَمَنْ أَعْطَى ذِمَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ غَدَرَ بِهَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصْمُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا يَعْنِي: فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْبَأْساءِ: الْفَقْرُ وَالضَّرَّاءِ: السَّقَمُ وَحِينَ الْبَأْسِ: حِينَ الْقِتَالِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا قَالَ: فَعَلُوا مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا قَالَ: تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْإِيمَانِ، فَكَانَتْ حَقِيقَةُ الْعَمَلِ صدقوا الله. قَالَ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتُهُ الْعَمَلُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْقَوْلِ عمل فلا شيء. [سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) قَوْلُهُ: كُتِبَ مَعْنَاهُ: فُرِضَ، وَأُثْبِتَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ بِأَنَّهُ شَرَعَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ كُتِبَ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا جَرَى به القلم في اللوح المحفوظ. والْقِصاصُ أَصْلُهُ: قَصُّ الْأَثَرِ: أَيِ: اتِّبَاعُهُ، وَمِنْهُ: الْقَاصُّ، لِأَنَّهُ يَتَتَبَّعُ الْآثَارَ، وَقَصُّ الشِّعْرِ: اتِّبَاعُ أَثَرِهِ، فَكَأَنَّ الْقَاتِلَ يَسْلُكُ طَرِيقًا مِنَ الْقَتْلِ، يَقُصُّ أَثَرَهُ فِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً «1» وَقِيلَ: إِنَّ الْقِصَاصَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَصِّ وَهُوَ الْقَطْعُ، يُقَالُ: قَصَصْتُ مَا بَيْنَهُمَا: أَيْ: قَطَعْتُهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَدَاوُدُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «2» وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ قَوْلَهُ: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها يُفِيدُ: أَنَّ ذَلِكَ حِكَايَةٌ عَمَّا شرعه لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا استدل به الآخرون قوله

_ (1) . الكهف: 64. (2) . المائدة: 45.

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وَالْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ، وَلَكِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ إِنَّمَا أَفَادَ بِمَنْطُوقِهِ أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ، فَمَنْ أَخَذَ بِمِثْلِ هَذَا الْمَفْهُومِ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِهِ هُنَا، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِمِثْلِ هَذَا الْمَفْهُومِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَوْلُ بِهِ هُنَا، وَالْبَحْثُ فِي هَذَا مُحَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْقَائِلُونَ بِأَنْ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ، وَهُمُ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْرِيُّ، لِأَنَّ الْحُرَّ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمَ، وَكَذَا الْعَبْدُ وَالْأُنْثَى يَتَنَاوَلَانِ الْكَافِرَ كَمَا يَتَنَاوَلَانِ الْمُسْلِمَ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لِأَنَّ النَّفْسَ تَصْدُقُ عَلَى النَّفْسِ الْكَافِرَةِ، كَمَا تَصْدُقُ عَلَى النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ مِنَ السُّنَّةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَهُوَ مُبَيِّنٌ لِمَا يُرَادُ فِي الْآيَتَيْنِ، وَالْبَحْثُ فِي هَذَا يَطُولُ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الذَّكَرَ لَا يُقْتَلُ بِالْأُنْثَى، وَقَرَّرُوا الدَّلَالَةَ عَلَى ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا سَبَقَ إِلَّا إِذَا سَلَّمَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ الزِّيَادَةَ عَلَى دِيَتِهَا مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ وَلَا زِيَادَةَ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْبَحْثَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَقَى فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ «مَنْ» هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْقَاتِلِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَخِ: الْمَقْتُولُ، أَوِ الْوَلِيُّ، وَالشَّيْءُ: عِبَارَةٌ عَنِ الدَّمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَاتِلَ أَوِ الْجَانِيَ إِذَا عُفِيَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوِ الْوَلِيِّ، دَمٌ أَصَابَهُ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الأرش، فليتبع المجني عليه أو الْوَلِيَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّمُ فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ اتِّبَاعًا بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُؤَدِّ الْجَانِي مَا لَزِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْأَرْشِ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوْ إِلَى الْوَلِيِّ أَدَاءً بِإِحْسَانٍ وَقِيلَ: إن «من» عبارة عن الوليّ، والأخ: يُرَادُ بِهِ الْقَاتِلُ، وَالشَّيْءُ: الدِّيَةُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا جَنَحَ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى مُقَابِلِ الدِّيَةِ، فَإِنَّ الْقَاتِلَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهَا أَوْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ لِلْقَصَاصِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ وَذَهَبَ مَنْ عَدَاهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُخَيَّرُ، بَلْ إِذَا رَضِيَ الْأَوْلِيَاءُ بِالدِّيَةِ فَلَا خِيَارَ لِلْقَاتِلِ، بَلْ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهَا وَقِيلَ: مَعْنَى: عُفِيَ بُذِلَ. أَيْ: مَنْ بُذِلَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدِّيَةِ، فَلْيَقْبَلْ وَلْيَتَّبِعْ بِالْمَعْرُوفِ وَقِيلَ: إِنِ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: أَنَّ مَنْ فَضُلَ لَهُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ مِنَ الدِّيَاتِ، فَيَكُونُ عُفِيَ بِمَعْنَى: فَضُلَ، وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ فَتَنْكِيرُ شَيْءٌ لِلتَّقْلِيلِ، فَيَتَنَاوَلُ الْعَفْوَ عَنِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ مِنَ الدِّيَةِ، وَالْعَفْوَ الصَّادِرَ عَنْ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْوَرَثَةِ. وَقَوْلُهُ: فَاتِّباعٌ مُرْتَفِعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَلْيَكُنْ مِنْهُ اتِّبَاعٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْأَمْرُ اتِّبَاعٌ، وكذا قوله: وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. قوله: ذلِكَ تَخْفِيفٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَفْوِ وَالدِّيَةِ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْعَفْوَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ أَوْ بَعُوضٍ، وَلَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْهِمْ كَمَا ضَيَّقَ عَلَى الْيَهُودِ، فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصَ، وَلَا عَفْوَ وَكَمَا ضَيَّقَ عَلَى النَّصَارَى فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَفْوَ وَلَا دِيَةَ. قَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أَيْ: بَعْدِ التَّخْفِيفِ، نَحْوَ: أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ ثُمَّ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ، أو يعفو ثم يستقص. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ قَتَلَ الْقَاتِلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ. فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ كَمَنْ قَتَلَ ابْتِدَاءً، إِنْ شَاءَ الْوَلِيُّ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ عَذَابُهُ أَنْ يُقْتَلَ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يُمَكِّنَ الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ مِنَ الْعَفْوِ. وقال

الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمْرُهُ إِلَى الإمام يصنع فيه ما رأى. قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أَيْ: لَكُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَيَاةٌ، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ قِصَاصًا إِذَا قَتَلَ آخَرَ كَفَّ عَنِ الْقَتْلِ، وَانْزَجَرَ عَنِ التَّسَرُّعِ إِلَيْهِ وَالْوُقُوعِ فِيهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيَاةِ لِلنُّفُوسِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ بَلِيغٌ، وَجِنْسٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ رَفِيعٌ، فَإِنَّهُ جعل القصاص الذي هو مات حياة باعتبار ما يؤول إِلَيْهِ مِنَ ارْتِدَاعِ النَّاسِ عَنْ قَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، إِبْقَاءً عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاسْتِدَامَةً لِحَيَاتِهِمْ وَجَعَلَ هَذَا الْخِطَابَ مُوَجَّهًا إِلَى أُولِي الْأَلْبَابِ. لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ وَيَتَحَامَوْنَ مَا فِيهِ الضَّرَرُ الْآجِلُ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُصَابًا بِالْحُمْقِ وَالطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْظُرُ عِنْدَ سَوْرَةِ غَضَبهِ وَغَلَيَانِ مَرَاجِلِ طَيْشِهِ إِلَى عَاقِبَةٍ وَلَا يُفَكِّرُ فِي أَمْرِ مُسْتَقْبَلٍ، كَمَا قَالَ بَعْضُ فُتَّاكِهِمْ: سَأَغْسِلُ عَنِّي الْعَارَ بِالسَّيْفِ جَالِبًا ... عَلَيَّ قَضَاءُ اللَّهِ مَا كَانَ جَالِبًا ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيْ: تَتَحَامَوْنَ الْقَتْلَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقِصَاصِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّقْوَى. وَقَرَأَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: وَلَكُمْ فِي الْقَصَصِ حَيَاةٌ قِيلَ: أَرَادَ بِالْقَصَصِ الْقُرْآنَ، أَيْ: لَكُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ الْقِصَاصَ حَيَاةٌ، أَيْ: نَجَاةٌ، وَقِيلَ: أَرَادَ حَيَاةَ الْقُلُوبِ وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِصَاصِ، وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ، وَالْقِرَاءَةُ بِهِ مُنْكَرَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّ حَيَّيْنِ مِنَ الْعَرَبِ اقْتَتَلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِقَلِيلٍ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قَتْلٌ وَجِرَاحَاتٌ حَتَّى قَتَلُوا الْعَبِيدَ وَالنِّسَاءَ وَلَمْ يَأْخُذْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى أَسْلَمُوا، فَكَانَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ يَتَطَاوَلُ عَلَى الْآخَرِ في العدة والأموال، فحلفوا ألّا يَرْضَوْا حَتَّى يُقْتَلَ بِالْعَبْدِ مِنَّا الْحُرُّ مِنْهُمْ، وَبِالْمَرْأَةِ مِنَّا الرَّجُلُ مِنْهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِنْ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةَ بِالْمَرْأَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ فَجَعَلَ الْأَحْرَارَ فِي الْقِصَاصِ سَوَاءً فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْعَمْدِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاءُهُمْ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَجَعَلَ الْعَبِيدَ مُسْتَوِينَ فِي الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاءُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ قِتَالٌ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ الطَّوْلُ فَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْفَضْلَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَسَخَتْهَا النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ قَالَ: هُوَ الْعَمْدُ رَضِيَ أَهْلُهُ بِالْعَفْوِ. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أَمَرَ بِهِ الطَّالِبَ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ مِنَ الْقَابِلِ، قَالَ: يُؤَدِّي الْمَطْلُوبَ بِإِحْسَانٍ. ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ مِمَّا كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ تَكُنِ الدِّيَةُ فِيهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَالْعَفْوُ: أَنْ تَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ

[سورة البقرة (2) : الآيات 180 إلى 182]

مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ مِمَّا كَتَبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ قِيلَ: بَعْدَ قَبُولِ الدِّيَةِ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ وَأَخْرَجَ ابن جرير عن قتادة قال: كان في أَهْلُ التَّوْرَاةِ إِنَّمَا هُوَ الْقِصَاصُ أَوِ الْعَفْوُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا أَرْشٌ، وَكَانَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ إِنَّمَا هُوَ الْعَفْوُ أُمِرُوا بِهِ، وَجَعَلَ اللَّهُ لِهَذِهِ الأمة القتل والعفو والدية إن شاؤوا، أَحَلَّهَا لَهُمْ وَلَمْ تَكُنْ لِأُمَّةٍ قَبْلَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أُصِيبَ بِقَتْلٍ أَوْ خَبَلٍ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَقْتَصَّ، وَإِمَّا أَنْ يَعْفُوَ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، وَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ نَارُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ فَلَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ قَالَ: فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الدِّيَةُ. قَالَ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا أُعَافِي رَجُلًا قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ» وَأَخْرَجَ سَمُّوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ، عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَقْتُلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً، وَنَكَالًا، وَعِظَةً إِذَا ذَكَرَهُ الظَّالِمُ الْمُعْتَدِي كَفَّ عَنِ الْقَتْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قَالَ: لَعَلَّكَ تَتَّقِي أَنْ تَقْتُلَهُ فَتُقْتَلَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ في قوله: يا أُولِي الْأَلْبابِ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ لُبٌّ يَذْكُرُ الْقِصَاصَ فَيَحْجِزُهُ خَوْفُ الْقِصَاصِ عَنِ الْقَتْلِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قَالَ: لِكَيْ تَتَّقُوا الدِّمَاءَ مَخَافَةَ الْقِصَاصِ. [سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى: كُتِبَ قَرِيبًا، وَحُضُورُ الْمَوْتِ: حُضُورُ أَسْبَابِهِ، وَظُهُورُ عَلَامَاتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَإِنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي إذا ما ... وصلت بنانها بالهندوان وَقَالَ جَرِيرٌ: أَنَا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ ... فليس لهارب منّي نجاء وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَنَّثِ الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إِلَى الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ كُتِبَ لِوُجُودِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا- وَقِيلَ: لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْإِيصَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ جَوَازُ إِسْنَادِ مَا لَا تَأْنِيثَ فِيهِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ مَعَ عَدَمِ الْفَصْلِ. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ: قَامَ امْرَأَةٌ، وَهُوَ خِلَافُ مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ، وَشَرَطَ سُبْحَانَهُ مَا كَتَبَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِأَنْ يَتْرُكَ الْمُوصِي خَيْرًا. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَابِ هَذَا الشَّرْطِ مَا هُوَ؟ فَرُوِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّقْدِيرَ: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا فَالْوَصِيَّةُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْفَاءُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ وَالثَّانِي: أَنَّ جَوَابَهُ مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ. أَيْ: كُتِبَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مِقْدَارِ الْخَيْرِ، فَقِيلَ: مَا زَادَ عَلَى سَبْعِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقِيلَ: أَلْفُ دِينَارٍ وَقِيلَ: مَا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ. وَالْوَصِيَّةُ فِي الْأَصْلِ: عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ، وَالْعَهْدِ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ هُنَا: عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ لِبَعْدِ الْمَوْتِ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ نَحْوُهَا. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا وقال طَائِفَةٌ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا الْقَدْرَ الَّذِي كَتَبَ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَقِيلَ: الْخُمُسُ وَقِيلَ: الرُّبُعُ وَقِيلَ: الثُّلُثُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، قَالُوا: وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فَمَعْنَاهَا الْخُصُوصُ. وَالْمُرَادُ بِهَا مِنَ الْوَالِدَيْنِ مَنْ لَا يَرِثُ كَالْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ وَمَنْ هُوَ فِي الرِّقِّ، وَمِنَ الْأَقْرَبِينَ مَنْ عَدَا الْوَرَثَةِ مِنْهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الوصية للوالدين الذين لَا يَرِثَانِ، وَالْأَقْرِبَاءِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ جَائِزَةٌ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحَّحَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهُ نَسَخَ الْوُجُوبَ وَنَفَى النَّدْبَ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ. قَوْلُهُ: بِالْمَعْرُوفِ أَيِ: الْعَدْلِ، لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ. وَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ لِلْمَيِّتِ بِالثُّلُثِ دون ما زاد عليه. قوله: حَقًّا مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ: الثُّبُوتُ وَالْوُجُوبُ. قَوْلُهُ: فَمَنْ بَدَّلَهُ هَذَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْإِيصَاءِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: سَمِعَهُ وَالتَّبْدِيلُ: التَّغْيِيرُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما إِثْمُهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّبْدِيلِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: بَدَّلَهُ وَهَذَا وَعِيدٌ لِمَنْ غَيَّرَ الْوَصِيَّةَ الْمُطَابِقَةَ لِلْحَقِّ الَّتِي لَا جَنَفَ فِيهَا وَلَا مُضَارَّةَ، وَأَنَّهُ يَبُوءُ بِالْإِثْمِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُوصِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَقَدْ تَخَلَّصَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ بِالْوَصِيَّةِ بِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِمَا لَا يَجُوزُ، مِثْلَ أَنْ يُوصِيَ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي أَنَّهُ يَجُوزُ تَبْدِيلُهُ، وَلَا يَجُوزُ إِمْضَاؤُهُ كَمَا لَا يَجُوزُ إِمْضَاءُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ. قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. انْتَهَى. وَالْجَنَفُ: الْمُجَاوَزَةُ، مِنْ جَنِفَ يَجْنَفُ: إِذَا جَاوَزَ، قَالَهُ النَّحَّاسُ وَقِيلَ: الْجَنَفُ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: تَجَانَفْ عَنْ حجر «1» اليمامة ناقتي ... وَمَا قَصَدْتُ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوائِكَا قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْجَنَفُ: الْمَيْلُ، وَكَذَا فِي الْكَشَّافِ. وَقَالَ لَبِيدٌ: إِنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ ... ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومِي وَقَوْلُهُ: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ أَيْ: أَصْلَحَ مَا وَقَعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ مِنَ الشقاق والاضطراب بسبب الوصية

_ (1) . في لسان العرب: «عن جوّ» .

بِإِبْطَالِ مَا فِيهِ ضِرَارٌ وَمُخَالَفَةٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَإِثْبَاتُ مَا هُوَ حَقٌّ كَالْوَصِيَّةِ فِي قربة لِغَيْرِ وَارِثٍ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ مِنَ السِّيَاقِ وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى الْمُوصَى لَهُمْ، وَهُمُ الْأَبَوَانِ والقرابة. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً قَالَ: مَالًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ لَمْ يَتْرُكْ سِتِّينَ دِينَارًا لَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ عَلَى مَوْلًى لَهُمْ فِي الْمَوْتِ وَلَهُ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: أَلَا أُوصِي؟ قَالَ لَا؟ إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَلَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مَالٍ فَدَعْ مَالَكَ لِوَرَثَتِكَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ، أن رجلا قال لها: أريد أو أُوصِيَ قَالَتْ: كَمْ مَالُكَ؟ قَالَ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ، قَالَتْ: كَمْ عِيَالُكَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةٌ، قَالَتْ: قَالَ اللَّهُ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ يَسِيرٌ فَاتْرُكْهُ لِعِيَالِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَا يُوصِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ حَقًّا مِمَّا قَلَّ مِنْهُ وَمِمَّا كَثُرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ حَدِيثًا وَفِيهِ: «انْظُرْ قَرَابَتَكَ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ وَلَا يَرِثُونَ، فَأَوْصِ لَهُمْ مِنْ مَالِكَ بِالْمَعْرُوفِ» وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: مَنْ أَوْصَى لِقَوْمٍ وَسَمَّاهُمْ وَتَرَكَ ذَوِي قَرَابَتِهِ مُحْتَاجِينَ انْتُزِعَتْ مِنْهُمْ وَرُدَّتْ عَلَى قَرَابَتِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي النَّاسِخِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْآيَةِ نَسْخُ مَنْ يَرِثُ، وَلَمْ يَنْسَخِ الْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ بَدَّلَهُ الْآيَةَ، قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُ الْمُوصِي عَلَى الله وبرىء مِنْ إِثْمِهِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: جَنَفاً يَعْنِي: إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ قَالَ: إِذَا أَخْطَأَ الْمَيِّتُ فِي وَصِيَّتِهِ أَوْ حَافَ فِيهَا فَلَيْسَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ حَرَجٌ أَنْ يَرُدُّوا خَطَأَهُ إِلَى الصَّوَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ لَكِنَّهُ فَسَّرَ الْجَنَفَ بِالْمَيْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جَنَفاً أَوْ إِثْماً قَالَ: خَطَأً أَوْ عَمْدًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ قَالَ: الْجَنَفُ فِي الوصية والإضرار فيها من الكبائر.

_ (1) . النساء: 7.

[سورة البقرة (2) : الآيات 183 إلى 184]

[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 184] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى كُتِبَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ افْتَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَالصِّيَامُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ، وَتَرْكُ التَّنَقُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَيُقَالُ لِلصَّمْتِ: صَوْمٌ، لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الْكَلَامِ، وَمِنْهُ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً «1» أَيْ: إِمْسَاكًا عَنِ الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجُمَا أَيْ: خَيْلٌ مُمْسِكَةٌ عَنِ الْجَرْيِ وَالْحَرَكَةِ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ مَعَ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِهِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَوْلُهُ: كَما كُتِبَ أَيْ: صَوْمًا كَمَا كُتِبَ، عَلَى أَنَّ الْكَافَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ، أَوْ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامَ مُشْبِهًا مَا كُتِبَ، عَلَى أَنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: إِنَّ الْكَافَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ نَعْتًا لِلصِّيَامِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الصِّيَامَ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ: كَما كُتِبَ رَاجِعٌ إِلَى مَا. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَجْهِ التَّشْبِيهِ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ قَدْرُ الصَّوْمِ وَوَقْتُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى صَوْمَ رَمَضَانَ فَغَيَّرُوا وَقِيلَ: هُوَ الْوُجُوبُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى الْأُمَمِ الصِّيَامَ وَقِيلَ: هُوَ الصِّفَةُ، أَيْ: تَرْكُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا فِي وَقْتٍ فَعَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ صَوْمَ رَمَضَانَ كَمَا كَتَبَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَعَلَى الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الصِّيَامَ كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَعَلَى الثَّالِثِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَقِيلَ: تَتَّقُونَ الْمَعَاصِيَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، لِأَنَّهَا تَكْسِرُ الشَّهْوَةَ وَتُضْعِفُ دَوَاعِيَ الْمَعَاصِي، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ جُنَّةٌ وَأَنَّهُ وِجَاءٌ. وَقَوْلُهُ: أَيَّاماً مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: كُتِبَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ: وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ، أَيْ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فِي أَيَّامٍ. وَقَوْلُهُ: مَعْدُوداتٍ أَيْ: مُعَيَّنَاتٍ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْجَمْعِ- لِكَوْنِهِ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ- إِشَارَةٌ إِلَى تَقْلِيلِ الْأَيَّامِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً قِيلَ: لِلْمَرِيضِ حَالَتَانِ: إِنْ كَانَ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ كَانَ الْإِفْطَارُ عَزِيمَةً، وَإِنْ كَانَ يُطِيقُهُ مَعَ تَضَرُّرٍ وَمَشَقَّةٍ كَانَ رُخْصَةً، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَوْلُهُ: عَلى سَفَرٍ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي السَّفَرِ الْمُبِيحِ لِلْإِفْطَارِ فَقِيلَ: مَسَافَةُ قَصْرِ الصَّلَاةِ، وَالْخِلَافُ فِي قَدْرِهَا مَعْرُوفٌ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ بِمَقَادِيرَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَالْحَقُّ أَنَّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ مُسَمَّى السَّفَرِ فَهُوَ الَّذِي يُبَاحُ عِنْدَهُ الْفِطْرُ، وَهَكَذَا مَا صَدَقَ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْمَرَضِ فَهُوَ الَّذِي يُبَاحُ عِنْدَهُ الْفِطْرُ. وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْفِطْرِ فِي سَفَرِ الطَّاعَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَسْفَارِ الْمُبَاحَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الرُّخْصَةَ ثَابِتَةٌ فِيهِ، وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ. وَقَوْلُهُ: فَعِدَّةٌ أَيْ: فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ، أَوْ فَالْحُكْمُ عِدَّةٌ، أَوْ فَالْوَاجِبُ عِدَّةٌ وَالْعِدَّةُ: فِعْلَةٌ مِنَ الْعَدَدِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَعْدُودِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنِ الْآخَرِ، لِأَنَّ سَبِيلَ هَذَا الْبَابِ أَنْ يأتي بالألف

_ (1) . مريم: 26.

وَاللَّامِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ آخَرَ وَقِيلَ: إِنَّهُ جَمْعُ أُخْرَى، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي القضاء. وقوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَأَصْلُهُ يُطَوِّقُونَهُ نُقِلَتِ الْكَسْرَةُ إِلَى الطَّاءِ، وَانْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ إِعْلَالٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِفَتْحِ الطَّاءِ مُخَفَّفَةً وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، أَيْ: يُكَلَّفُونَهُ. وَرَوَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُطِيقُونَهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْيَاءِ مَفْتُوحَتَيْنِ، بِمَعْنَى: يُطِيقُونَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَطَاوُسٍ أَنَّهُمْ قَرَءُوا «يَطَّيْقُونَهُ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ مَفْتُوحَةً. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ فِدْيَةٌ طَعامُ مُضَافًا. وَقَرَءُوا أَيْضًا مَسَاكِينٍ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعامُ مِسْكِينٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ فَقِيلَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَتْ رُخْصَةً عِنْدَ ابْتِدَاءِ فَرْضِ الصِّيَامِ لِأَنَّهُ شَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ وَهُوَ يُطِيقُهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا لَمْ تُنْسَخْ، وَأَنَّهَا رُخْصَةٌ لِلشُّيُوخِ وَالْعَجَائِزِ خَاصَّةً إِذَا كَانُوا لَا يُطِيقُونَ الصِّيَامَ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، وَهَذَا يُنَاسِبُ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ، أَيْ: يُكَلَّفُونَهُ كَمَا مَرَّ. وَالنَّاسِخُ لِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «1» . وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْفِدْيَةِ فَقِيلَ: كُلُّ يَوْمٍ صَاعٌ مِنْ غَيْرِ الْبُرِّ، وَنِصْفُ صَاعٍ مِنْهُ وَقِيلَ: مُدٌّ فَقَطْ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. قال ابن شهاب: معناه: من أَرَادَ الْإِطْعَامَ مَعَ الصَّوْمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ: مَنْ زَادَ فِي الْإِطْعَامِ عَلَى الْمُدِّ وَقِيلَ: مَنْ أَطْعَمَ مَعَ الْمِسْكِينِ مِسْكِينًا آخَرَ. وَقَرَأَ عيسى ابن عَمْرٍو، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «يَطَّوَّعْ» مُشَدَّدًا مَعَ جَزْمِ الْفِعْلِ عَلَى مَعْنَى يَتَطَوَّعْ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ مَعْنَاهُ: أَنَّ الصِّيَامَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الْإِفْطَارِ مَعَ الْفِدْيَةِ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ النَّسْخِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَأَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ غَيْرِ الشَّاقِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وَأُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، فَذَكَرَ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا أَحْوَالُ الصِّيَامِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَامَ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ عَلَيْهِ الصِّيَامَ وَأَنْزَلَ عليه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ إِلَى قَوْلِهِ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أطعم مسكينا فأجزأ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فَأَثْبَتَ اللَّهُ صِيَامَهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ، وَرَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَثَبَتَ الْإِطْعَامُ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ، ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ دَغْفَلِ بْنِ حَنْظَلَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ عَلَى النَّصَارَى صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمَرِضَ مَلِكُهُمْ فَقَالُوا: لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ لَنَزِيدَنَّ عَشْرًا، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقال: لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ لِيَزِيدَنَّ سَبْعَةً، ثُمَّ كَانَ عَلَيْهِمْ مَلِكٌ آخَرُ فَقَالَ: مَا نَدَعُ مِنْ هذه الثلاثة

_ (1) . البقرة: 185.

[سورة البقرة (2) : آية 185]

الْأَيَّامِ شَيْئًا أَنْ نُتِمَّهَا وَنَجْعَلَ صَوْمَنَا فِي الرَّبِيعِ، فَفَعَلَ فَصَارَتْ خَمْسِينَ يَوْمًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قَالَ: تَتَّقُونَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّسَاءِ مِثْلَ مَا اتَّقَوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ مَا سَبَقَ عَنْ مُعَاذٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِيَامُ رَمَضَانَ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ صِيَامًا، فَلَمَّا أُنْزِلَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قَدْ نُسِخَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَ ذَلِكَ، وَزَادَ أَنَّ النَّاسِخَ لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَ ذَلِكَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ فَعَلَ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قَالَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ فَيُفْطِرُ وَيُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ضَعُفَ عَنِ الصَّوْمِ عَامًا قَبْلَ مَوْتِهِ، فَصَنَعَ جَفْنَةً مِنْ ثَرِيدٍ وَدَعَا ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَطْعَمَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، والدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ وَلَدٍ لَهُ حَامِلٍ أَوْ مُرْضِعَةٍ: أَنْتِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَ الصِّيَامَ، عَلَيْكِ الطَّعَامُ، لَا قَضَاءَ عَلَيْكِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، والدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ إِحْدَى بَنَاتِهِ أَرْسَلَتْ تَسْأَلُهُ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَهِيَ حَامِلٌ، قَالَ: تُفْطِرُ وَتُطْعِمُ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً قَالَ: أَطْعَمَ مِسْكِينَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ طَاوُسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً قَالَ: إِطْعَامُ مَسَاكِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: أَنَّ الصَّوْمَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْفِدْيَةِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّوْمِ أحاديث كثيرة جدا. [سورة البقرة (2) : آية 185] شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) رَمَضانَ مَأْخُوذٌ مِنْ: رَمِضَ الصَّائِمُ يَرْمَضُ: إِذَا احْتَرَقَ جَوْفُهُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ، وَالرَّمْضَاءُ مَمْدُودٌ: شِدَّةُ الْحَرِّ، وَمِنْهُ: الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إِذَا رَمِضَتِ الْفِصَالُ» أَيْ أَحْرَقَتِ الرَّمْضَاءُ أَجْوَافَهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَشَهْرُ رَمَضَانَ يُجْمَعُ عَلَى رَمَضَانَاتٍ وَأَرْمِضَاءَ- يُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ

عَنِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا بِالْأَزْمِنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا، فَوَافَقَ هَذَا الشَّهْرُ أَيَّامَ الْحَرِّ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ رَمَضَانُ لِأَنَّهُ يَرْمِضُ الذُّنُوبَ، أَيْ: يَحْرِقُهَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إن اسمه في الجاهلية ناتق، وأنشد للمفضّل: وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى ... وَوَلَّتْ عَلَى الْأَدْبَارِ فُرْسَانُ خَثْعَمَا وَإِنَّمَا سَمَّوْهُ بذلك لأنه كان ينتقهم لشدّته عليهم، وشهر: مُرْتَفِعٌ فِي قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: المفروض عليكم صومه شَهْرِ رَمَضَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الصِّيَامِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ. وقرأ مجاهد، وشهر ابن حَوْشَبٍ: بِنَصْبِ الشَّهْرِ، وَرَوَاهَا هَارُونُ الْأَعْوَرُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ بِتَقْدِيرِ: الْزَمُوا، أَوْ صُومُوا. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، وَأَنْ تَصُومُوا. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّحَّاسُ وَقَالَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهُ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَمَنْعُ الصَّرْفِ: لِلْأَلِفِ وَالنُّونِ الزَّائِدَتَيْنِ. قَوْلُهُ: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قِيلَ: أُنْزِلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِهِ نَجْمًا نَجْمًا. وَقِيلَ: أُنْزِلَ فِيهِ أَوَّلُهُ وَقِيلَ: أُنْزِلَ فِي شَأْنِهِ الْقُرْآنُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «2» يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ. وَالْقُرْآنُ: اسْمٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ بِمَعْنَى: الْمَقْرُوءِ، كَالْمَشْرُوبِ سُمِّيَ: شَرَابًا، وَالْمَكْتُوبِ سُمِّيَ: كِتَابًا وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرُ قَرَأَ يَقْرَأُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ ... يَقْطَعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا أَيْ: قِرَاءَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ «3» أَيْ: قِرَاءَةَ الْفَجْرِ. وَقَوْلُهُ: هُدىً لِلنَّاسِ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: هَادِيًا لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ إِظْهَارًا لِشَرَفِ الْمَعْطُوفِ بِإِفْرَادِهِ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَشْمَلُ مُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ، وَالْبَيِّنَاتُ تَخْتَصُّ بِالْمُحْكَمِ مِنْهُ. وَالْفَرْقَانُ: مَا فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَيْ: فَصَلَ، قَوْلُهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ أَيْ: حَضَرَ وَلَمْ يَكُنْ فِي سَفَرٍ بَلْ كَانَ مُقِيمًا، والشهر مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إِنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ مُقِيمًا غَيْرَ مُسَافِرٍ لَزِمَهُ صِيَامُهُ، سَافَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ أَقَامَ اسْتِدْلَالًا بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ إِذَا سَافَرَ أَفْطَرَ، لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: إِنْ حَضَرَ الشَّهْرَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، لَا إِذَا حَضَرَ بَعْضَهُ وَسَافَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ إِلَّا صَوْمُ مَا حَضَرَهُ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَعَلَيْهِ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ مِنَ السُّنَّةِ. وَقَدْ كَانَ يَخْرُجُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَيُفْطِرُ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فِيهِ أَنَّ هَذَا مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَمُرَادٌ مِنْ مُرَادَاتِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «4» وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُرْشِدُ إِلَى التَّيْسِيرِ، وَيَنْهَى عَنِ التَّعْسِيرِ، كقوله

_ (1) . القدر: 1. (2) . الدخان: 3. (3) . الإسراء: 78. (4) . الحج: 78. [.....]

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَالْيُسْرُ السَّهْلُ الَّذِي لَا عُسْرَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ أَيْ: يُرِيدُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَيُرِيدُ إِكْمَالَكُمْ لِلْعِدَّةِ، وَتَكْبِيرَكُمْ وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: رَخَّصَ لَكُمْ هَذِهِ الرُّخْصَةَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَشَرَعَ لَكُمُ الصَّوْمَ لِمَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْبَصْرِيُّونَ قَالُوا: وَالتَّقْدِيرُ: يُرِيدُ لِأَنْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَمِثْلُهُ: قول كثيّر أبو صَخْرٍ: أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا ... تَمَثَّلَ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى الثَّانِي وَقِيلَ: الْوَاوُ مُقْحَمَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ الْأَمْرِ، وَالْوَاوَ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبِلَهَا. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ قَوْلَهُ: لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِمُرَاعَاةِ الْعِدَّةِ وَلِتُكَبِّرُوا عِلَّةُ مَا عُلِمَ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْفِطْرِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عِلَّةُ التَّرْخِيصِ وَالتَّيْسِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّكْبِيرِ هُنَا: هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ الْجُمْهُورُ: وَمَعْنَاهُ الْحَضُّ عَلَى التَّكْبِيرِ فِي آخِرِ رَمَضَانَ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي وَقْتِهِ، فَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، وَقِيلَ: إِذَا رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ كَبَّرُوا إِلَى انْقِضَاءِ الْخُطْبَةِ، وَقِيلَ: إِلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ وَقِيلَ: هُوَ التَّكْبِيرُ يَوْمَ الْفِطْرِ. قَالَ مَالِكٌ: هُوَ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى وَلَا يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ. وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: «لَا تَقُولُوا: رَمَضَانَ، فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ قُولُوا شَهْرُ رَمَضَانَ» . وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ: رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ» . وَقَالَ: «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ» وَهَذَا كُلُّهُ فِي الصَّحِيحِ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ غَيْرَ هَذِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: رَمَضَانُ، بِدُونِ ذِكْرِ الشَّهْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْأَصْبِهَانِيُّ فِي التَّرْغِيبِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ رَمَضَانَ لِأَنَّ رَمَضَانَ يَرْمِضُ الذُّنُوبَ» . وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ رَمَضَانَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ وَاثُلَّةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِي عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ مِثْلَهُ، لَكِنَّهُ قَالَ: «وأنزل الزّبور لاثني عشر» وزاد: «وأنزلت التَّوْرَاةَ لَسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ لِثَمَانِي عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ» . وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَ قَوْلِ جَابِرٍ، إِلَّا أَنَّهَا لَمْ تَذْكُرْ نُزُولَ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ أَبِي

[سورة البقرة (2) : آية 186]

حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ مِقْسِمٍ قَالَ: سَأَلَ عَطِيَّةُ بْنُ الْأَسْوَدِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِي الشَّكُّ فِي قَوْلِ اللَّهِ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «2» فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَفِي رَمَضَانَ وَفِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذلك على مواقع النجوم فِي الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً لِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ يُنْزِلُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْتِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ: هِيَ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ، وَهِيَ فِي رَمَضَانَ، أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ الذِّكْرِ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ المنذر عن ابن جرير فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلنَّاسِ قَالَ: يَهْتَدُونَ بِهِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى قَالَ: فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالْحُدُودُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ قَالَ: هُوَ إِهْلَالُهُ بِالدَّارِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ فَقَدْ لَزِمَهُ الصَّوْمُ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ قَالَ: الْيُسْرُ: الْإِفْطَارُ فِي السَّفَرِ، وَالْعُسْرُ: الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، أَنَّهُ قَالَ: عِدَّةُ مَا أَفْطَرَ الْمَرِيضُ فِي السَّفَرِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَقٌّ عَلَى الصَّائِمِينَ إِذَا نَظَرُوا إِلَى شَهْرِ شَوَّالٍ أَنْ يُكَبِّرُوا اللَّهَ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ عِيدِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ كبيرا، الله أكبر وأجلّ ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا. [سورة البقرة (2) : آية 186] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) قَوْلُهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي يُحْتَمَلُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ: الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنِّي قَرِيبٌ وَيُحْتَمَلُ أَنِ السُّؤَالَ عَنْ: إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ وَيُحْتَمَلُ أَنِ السُّؤَالَ عَمَّا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَوْلُهُ: فَإِنِّي قَرِيبٌ قِيلَ: بِالْإِجَابَةِ، وَقِيلَ: بِالْعِلْمِ وَقِيلَ: بِالْإِنْعَامِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِ فِي سُهُولَةِ إِجَابَتِهِ لِمَنْ دَعَاهُ، وَسُرْعَةِ إِنْجَاحِهِ حَاجَةَ مَنْ سَأَلَهُ بِمَنْ قَرُبَ مَكَانُهُ، فَإِذَا دُعِيَ أَسْرَعَتْ تلبيته. ومعنى

_ (1) . القدر: 1. (2) . الدخان: 3.

الْإِجَابَةِ: هُوَ مَعْنَى مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «1» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَقْبَلُ عِبَادَةَ مَنْ عَبَدَنِي بِالدُّعَاءِ، لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِجَابَةَ هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ وَكَوْنُ الدُّعَاءِ مِنَ الْعِبَادَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْإِجَابَةَ هِيَ الْقَبُولُ لِلدُّعَاءِ، أَيْ: جَعَلَهُ عِبَادَةً مُتَقَبَّلَةً فَالْإِجَابَةُ أَمْرٌ آخَرُ غَيْرُ قَبُولِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُجِيبُ بِمَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ، فَقَدْ يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ قَرِيبًا، وَقَدْ يَحْصُلُ بَعِيدًا، وَقَدْ يَدْفَعُ عَنِ الدَّاعِي مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ بِسَبَبِ دُعَائِهِ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ اعْتِدَاءِ الدَّاعِي فِي دُعَائِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «2» وَمِنَ الِاعْتِدَاءِ: أَنْ يَطْلُبَ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَصْلُحُ لَهُ، كَمَنْ يُطْلَبُ مَنْزِلَةً فِي الْجَنَّةِ مُسَاوِيَةً لِمَنْزِلَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ فَوْقَهَا. وَقَوْلُهُ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أَيْ: كَمَا أَجَبْتُهُمْ إِذَا دَعَوْنِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي فِيمَا دَعَوْتُهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ إِجَابَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِدُعَائِهِمْ بِاسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ، أَيِ: الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَالتَّرْكِ لِمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ. وَالرُّشْدُ: خِلَافُ الْغَيِّ، رَشَدَ يَرْشُدُ رُشْدًا، وَرَشَدًا. قَالَ الْهَرَوِيُّ: الرُّشْدُ وَالرَّشَدُ وَالرَّشَادُ، الْهُدَى وَالِاسْتِقَامَةُ. قَالَ: وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الصَّلْتِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ رَبُّنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ رَبُّنَا؟ فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَعْجِزُوا عَنِ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلِيَّ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَبُّنَا يَسْمَعُ الدُّعَاءَ أَمْ كَيْفَ ذَلِكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ لَمَّا نَزَلَتِ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ سَاعَةٍ نَدْعُو، فَنَزَلَتْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يدّخرها لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا» . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يُعَجِّلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي قَالَ: لِيَدْعُونِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي أَيْ: أَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْنِي اسْتَجَبْتُ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أَيْ: فَلْيُطِيعُونِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ قَالَ: يَهْتَدُونَ.

_ (1) . غافر: 60. (2) . الأعراف: 55.

[سورة البقرة (2) : آية 187]

[سورة البقرة (2) : آية 187] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) قَوْلُهُ: أُحِلَّ لَكُمْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ، وَهَكَذَا كَانَ كَمَا يُفِيدُهُ السَّبَبُ لِنُزُولِ الْآيَةِ وَسَيَأْتِي. وَالرَّفَثُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّفَثُ: كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُ الرَّجُلَ مِنَ امْرَأَتِهِ، وَكَذَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَيُرَيْنَ مِنْ أُنْسِ الْحَدِيثِ زَوَانِيًا ... وَبِهِنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ نِفَارُ وَقِيلَ: الرَّفَثُ: أَصْلُهُ قَوْلُ الْفُحْشِ، رَفَثَ وَأَرْفَثَ: إِذَا تَكَلَّمَ بِالْقَبِيحِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ هُنَا، وَعُدِّيَ الرَّفَثُ بِإِلَى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِمْضَاءِ، وَجَعَلَ النِّسَاءَ لِبَاسًا لِلرِّجَالِ، وَالرِّجَالَ لِبَاسًا لَهُنَّ لِامْتِزَاجِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ عِنْدَ الْجِمَاعِ، كَالِامْتِزَاجِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الثَّوْبِ وَلَابِسِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: لِبَاسٌ وَفِرَاشٌ وَإِزَارٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِبَاسًا لِلْآخَرِ لِأَنَّهُ يَسْتُرُهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ. وَقَوْلُهُ: تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أَيْ: تَخُونُونَهَا بِالْمُبَاشِرَةِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ، يُقَالُ خَانَ وَاخْتَانَ بِمَعْنًى، وَهُمَا من الخيانة. قال القتبي: أَصْلُ الْخِيَانَةِ: أَنْ يُؤْتَمَنَ الرَّجُلُ عَلَى شَيْءٍ فَلَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا سَمَّاهُمْ: خَائِنِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: فَتابَ عَلَيْكُمْ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَبُولُ التَّوْبَةِ مِنْ خِيَانَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْآخَرُ التَّخْفِيفُ عَنْهُمْ بِالرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ «1» يَعْنِي: خَفَّفَ عَنْكُمْ، وَكَقَوْلِهِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ «2» يَعْنِي: تَخْفِيفًا، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَعَفا عَنْكُمْ يَحْتَمِلُ: الْعَفْوَ مِنَ الذَّنْبِ، وَيَحْتَمِلُ: التَّوْسِعَةَ وَالتَّسْهِيلَ. وَقَوْلُهُ: وَابْتَغُوا قِيلَ: هُوَ الْوَلَدُ، أَيِ: ابْتَغُوا بِمُبَاشَرَةِ نِسَائِكُمْ حُصُولَ مَا هُوَ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنَ النِّكَاحِ وَهُوَ حُصُولُ النَّسْلِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: ابْتَغُوا الْقُرْآنَ بِمَا أُبِيحَ لَكُمْ فِيهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: ابْتَغُوا الرُّخْصَةَ وَالتَّوْسِعَةَ وَقِيلَ: المراد: ابْتَغُوا مَا كَتَبَ لَكُمْ مِنَ الْإِمَاءِ وَالزَّوْجَاتِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُفِيدُهُ النَّظْمُ الْقُرْآنِيُّ، وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ آخَرُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاتَّبِعُوا بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الِاتِّبَاعِ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ هُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ: هُوَ الْمُعْتَرِضُ فِي الأفق، لا الذي هو كذنب السرحان، فإنه الفجر الكذاب الَّذِي لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: سَوَادُ اللَّيْلِ، وَالتَّبَيُّنُ: أَنْ يَمْتَازَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْفَجْرِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ لِلصَّوْمِ غَايَةً هِيَ اللَّيْلُ، فَعِنْدَ إِقْبَالِ اللَّيْلِ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَإِدْبَارِ النَّهَارِ مِنَ الْمَغْرِبِ، يُفْطِرُ الصَّائِمُ وَيَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَغَيْرُهُمَا. وَقَوْلُهُ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُبَاشَرَةِ هُنَا الْجِمَاعُ وَقِيلَ تَشْمَلُ التَّقْبِيلَ وَاللَّمْسَ إذا كان لِشَهْوَةٍ، لَا إِذَا كَانَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَهُمَا جَائِزَانِ كَمَا قَالَهُ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وغيرهم، وعلى

_ (1) . المزمل: 20. (2) . النساء: 92.

هَذَا يَحْتَمِلُ مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يُبَاشِرُ ولا يقبّل، فتكون هذا الْحِكَايَةُ لِلْإِجْمَاعِ مُقَيَّدَةً بِأَنْ يَكُونَا لِشَهْوَةٍ، وَالِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ: الْمُلَازَمَةُ، يُقَالُ: عَكَفَ عَلَى الشَّيْءِ: إِذَا لَازَمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَظَلَّ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفًا ... عُكُوفَ الْبَوَاكِي حَوْلَهُنَّ «1» صَرِيعُ وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَكِفُ يُلَازِمُ الْمَسْجِدَ قِيلَ لَهُ: عَاكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَمُعْتَكِفٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالِاعْتِكَافُ فِي الشَّرْعِ: مُلَازَمَةُ طَاعَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى شَرْطٍ مَخْصُوصٍ. وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ، وَلِلِاعْتِكَافِ أَحْكَامٌ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ. وَقَوْلُهُ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أَيْ: هَذِهِ الْأَحْكَامُ حُدُودُ اللَّهِ، وَأَصِلُ الْحَدِّ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ وَالسَّجَّانُ: حَدَّادًا، وَسُمِّيَتِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي: حُدُودَ اللَّهِ، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَأَنْ يَخْرُجَ عَنْهَا مَا هُوَ مِنْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتِ الْحُدُودُ: حُدُودًا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ أَصْحَابَهَا مِنَ الْعَوْدِ. وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهَا: النَّهْيُ عَنْ تَعَدِّيهَا بِالْمُخَالَفَةِ لَهَا وَقِيلَ: إِنْ حُدُودَ اللَّهِ هِيَ مَحَارِمُهُ فَقَطْ، وَمِنْهَا الْمُبَاشَرَةُ مِنَ الْمُعْتَكِفِ، وَالْإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهَا عَلَى هَذَا وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ أَيْ: كَمَا بَيَّنَ لَكُمْ هَذِهِ الْحُدُودَ يُبَيِّنُ لَكُمُ الْعَلَامَاتِ الْهَادِيَةَ إِلَى الْحَقِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ أصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَكَانَ يَوْمُهُ ذَلِكَ يَعْمَلُ فِي أَرْضِهِ، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ نَائِمًا قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ أَنِمْتَ؟ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الْفَجْرِ فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، فَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَيَانِ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَادِيثُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَ مَا قَالَهُ الْبَرَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ أَوَّلَ مَا أَسْلَمُوا إِذَا صَامَ أَحَدُهُمْ يَصُومُ يَوْمَهُ حَتَّى إِذَا أَمْسَى طَعِمَ مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى امْرَأَتَهُ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رسول الله! إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ مِنْ نَفْسِي، وَذَكَرَ مَا وَقَعَ مِنْهُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، إِذَا صَلَّوُا الْعِشَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ النِّسَاءُ وَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ إِلَى مِثْلِهَا من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا النساء والطعام

_ (1) . في القرطبي 2/ 332: «بينهنّ» .

[سورة البقرة (2) : آية 188]

فِي رَمَضَانَ بَعْدَ الْعَشَاءِ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّفَثُ: الْجِمَاعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الدُّخُولُ وَالتَّغَشِّي وَالْإِفْضَاءُ وَالْمُبَاشَرَةُ وَالرَّفَثُ وَاللَّمْسُ وَالْمَسُّ هَذَا الْجِمَاعُ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يُكَنِّي بِمَا شَاءَ عَمَّا شَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ قَالَ: هُنَّ سَكَنٌ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ سَكَنٌ لَهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ قَالَ: تَظْلِمُونَ أَنْفُسَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ قَالَ: انْكِحُوهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ: الْوَلَدُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ: لَيْلَةَ الْقَدْرِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: وَابْتَغُوا الرُّخْصَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ: أُنْزِلَتْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَلَمْ يَنْزِلْ مِنَ الْفَجْرِ فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ، فَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْفَجْرِ فَعَلِمُوا أَنَّهُ يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّهُ جَعَلَ تَحْتَ وِسَادِهِ خَيْطَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا فَلَا يَتَبَيَّنُ لَهُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْأَسْوَدِ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ، إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ» . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ لِعَرِيضُ الْقَفَا» . وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: أَنَّهُ ضَحِكَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانُوا يُجَامِعُونَ وَهُمْ مُعْتَكِفُونَ حَتَّى نَزَلَتْ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِذَا جَامَعَ الْمُعْتَكِفُ بِطَلَ اعْتِكَافُهُ وَيَسْتَأْنِفُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ قَالَ: يَعْنِي طَاعَةَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ حُدُودُ اللَّهِ مَعْصِيَةُ اللَّهِ: يَعْنِي الْمُبَاشَرَةَ فِي الِاعْتِكَافِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهَا الْجِمَاعُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يعني: هكذا يبين الله. [سورة البقرة (2) : آية 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

[سورة البقرة (2) : آية 189]

هَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ وَجَمِيعَ الْأَمْوَالِ، لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا وَرَدَ دَلِيلُ الشَّرْعِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُهُ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ، وَمَأْكُولٌ بِالْحِلِّ لَا بِالْإِثْمِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ كَارِهًا كَقَضَاءِ الدَّيْنِ إِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَنَفَقَةُ مَنْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ نَفَقَتَهُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَا لَمْ يُبِحِ الشَّرْعُ أَخْذَهُ مِنْ مَالِكِهِ فَهُوَ مَأْكُولٌ بِالْبَاطِلِ، وَإِنْ طَابَتْ بِهِ نَفْسُ مَالِكِهِ، كَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَثَمَنِ الْخَمْرِ. وَالْبَاطِلُ فِي اللُّغَةِ: الذاهب الزائل. وقوله: وَتُدْلُوا مَجْزُومٌ عَطْفًا عَلَى تَأْكُلُوا، فَهُوَ مِنْ جملة المنهي عَنْهُ، يُقَالُ: أَدْلَى الرَّجُلُ بِحُجَّتِهِ أَوْ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَرْجُو النَّجَاحَ بِهِ تَشْبِيهًا بِالَّذِي يُرْسِلُ الدَّلْوَ فِي الْبِئْرِ، يُقَالُ: أَدْلَى دَلْوَهُ: أَرْسَلَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَبَيْنَ الْإِدْلَاءِ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ بِالْحُجَجِ الْبَاطِلَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ أَنَّ حُكْمَ الحاكم لا يحلل الحرام، ولا يحرم الحلال، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ، فَمَنْ حكم لَهُ الْقَاضِي بِشَيْءٍ مُسْتَنِدًا فِي حُكْمِهِ إِلَى شَهَادَةِ زُورٍ أَوْ يَمِينِ فُجُورٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الناس بالباطل، وهكذا إذا رشى الْحَاكِمَ فَحَكَمَ لَهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّهُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحَلِّلُ الْحَرَامَ وَلَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، لكتاب الله تعالى ولسنة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَوْلُهُ: فَرِيقاً أَيْ: قِطْعَةً أَوْ جُزْءًا أَوْ طَائِفَةً، فَعَبَّرَ بِالْفَرِيقِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَصْلُ الْفَرِيقِ: الْقِطْعَةُ مِنَ الْغَنَمِ تَشِذُّ عَنْ مُعْظَمِهَا. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لِتَأْكُلُوا أَمْوَالَ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ بِالْإِثْمِ، وَسُمِّيَ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ: إِثْمًا، بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِفَاعِلِهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ: حَالَ كَوْنِكُمْ عَالِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لَيْسَ مِنَ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا أَشَدُّ لِعِقَابِهِمْ وَأَعْظَمُ لِجُرْمِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ مَالٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَيَجْحَدُ الْمَالَ، وَيُخَاصِمُ إِلَى الْحُكَّامِ، وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَعْنَاهَا: لَا تُخَاصِمْ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ ظَالِمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ بْنَ عَابِسٍ وَعَبْدَانَ بْنَ أَشْوَعَ الْحَضْرَمِيَّ اخْتَصَمَا فِي أَرْضٍ، وَأَرَادَ امْرُؤُ الْقَيْسِ أَنْ يَحْلِفَ، فَنَزَلَتْ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ الآية. [سورة البقرة (2) : آية 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) قوله: يَسْئَلُونَكَ سَيَأْتِي بَيَانُ مَنْ هُمُ السَّائِلُونَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَهِلَّةُ: جَمْعُ هِلَالٍ، وَجَمْعُهَا: باعتبار هلال كل شهر، أو كل شهر، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ هِلَالٌ حَتَّى يَسْتَدِيرَ- وَقِيلَ: هُوَ هِلَالٌ حَتَّى يُنِيرَ

بِضَوْئِهِ السَّمَاءَ وَذَلِكَ لَيْلَةَ السَّابِعِ. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: هِلَالٌ، لِأَنَّ النَّاسَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، وَمِنْهُ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ: إِذَا صَاحَ، وَاسْتَهَلَّ وَجْهُهُ وَتَهَلَّلَ: إِذَا ظَهَرَ فِيهِ السُّرُورُ. قَوْلُهُ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ فِيهِ بَيَانُ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي زِيَادَةِ الْهِلَالِ وَنُقْصَانِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ بَيَانِ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي يُوَقِّتُ النَّاسُ عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ بِهَا، كَالصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ، وَالْحَجِّ، وَمُدَّةِ الْحَمْلِ، وَالْعِدَّةِ وَالْإِجَارَاتِ، وَالْأَيْمَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «1» وَالْمَوَاقِيتُ: جَمْعُ الْمِيقَاتِ، وَهُوَ الْوَقْتُ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: وَالْحَجِّ بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِكَسْرِهَا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْحَجُّ بِالْفَتْحِ كَالرَّدِّ وَالشَّدِّ، وَبِالْكَسْرِ كَالذِّكْرِ: مَصْدَرَانِ بِمَعْنًى وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، وَبِالْكَسْرِ الِاسْمُ. وَإِنَّمَا أَفْرَدَ سُبْحَانَهُ الْحَجَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْوَقْتِ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسِيءُ عَنْ وَقْتِهِ، وَلِعِظَمِ الْمَشَقَّةِ عَلَى مَنِ الْتَبَسَ عَلَيْهِ وَقْتُ مَنَاسِكِهِ أَوْ أَخْطَأَ وَقْتَهَا أَوْ وَقْتَ بَعْضِهَا. وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي هَذَا الْجَوَابَ، أَعْنِي قَوْلَهُ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ تَلَقِّي الْمُخَاطَبِ بِغَيْرِ مَا يَتَرَقَّبُ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ الْأَوْلَى بِالْقَصْدِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ أَجْرَامِ الْأَهِلَّةِ بِاعْتِبَارِ زِيَادَتِهَا وَنُقْصَانِهَا، فَأُجِيبُوا بِالْحِكْمَةِ الَّتِي كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ لِأَجْلِهَا، لِكَوْنِ ذَلِكَ أَوْلَى بِأَنْ يَقْصِدَ السَّائِلُ، وَأَحَقُّ بِأَنْ يَتَطَلَّعَ لعلمه. وقوله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِالسُّؤَالِ عَنِ الْأَهِلَّةِ وَالْجَوَابِ بِأَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ: أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا إِذَا حَجُّوا لَا يَدْخُلُونَ مِنْ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ إِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ إِلَى بَيْتِهِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ قَبْلَ تَمَامِ حَجِّهِ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ حَائِلٌ، وَكَانُوا يَتَسَنَّمُونَ ظُهُورَ بُيُوتِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ هَذَا مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَسْأَلُوا الْجُهَّالَ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ التَّقْوَى، وَاسْأَلُوا الْعُلَمَاءَ، كَمَا تَقُولُ: أَتَيْتُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ وَقِيلَ: هُوَ مَثَلٌ فِي جِمَاعِ النِّسَاءِ، وَأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِإِتْيَانِهِنَّ فِي الْقُبُلِ لَا فِي الدُّبُرِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْبُيُوتُ: جَمْعُ بَيْتٍ وَقُرِئَ بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّقْوَى وَالْفَلَاحِ، وَسَبَقَ أَيْضًا أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنِ اتَّقَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي مُعَاذِ بْنِ جبل وثعلبة بن غنمة. وَهُمَا رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو وَيَطْلُعُ دَقِيقًا مِثْلَ الْخَيْطِ، ثُمَّ يَزِيدُ حَتَّى يَعْظُمَ وَيَسْتَوِيَ ويستدير، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقُصُ وَيَدِقُّ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ لَا يَكُونُ عَلَى حَالٍ وَاحِدٍ؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ فِي حِلِّ دَيْنِهِمْ، وَلِصَوْمِهِمْ، وَلِفِطْرِهِمْ، وَعِدَدِ نِسَائِهِمْ، وَالشُّرُوطِ الَّتِي إِلَى أَجَلٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَهِلَّةِ لِمَ جعلت؟ فأنزل الله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ الْآيَةَ، فَجَعَلَهَا لِصَوْمِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِإِفْطَارِهِمْ، وَلِمَنَاسِكِهِمْ، وَحَجِّهِمْ، وَعِدَدِ نِسَائِهِمْ، وَمَحَلَّ دَيْنِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوَهُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جعل الله الأهلّة مواقيت

_ (1) . الإسراء: 12.

[سورة البقرة (2) : الآيات 190 إلى 193]

لِلنَّاسِ فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنَّ غُمَّ عليكم فعدّوا ثلاثين يوما» . فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَتَوُا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا فَنَزَلَتْ: وَلَيْسَ الْبِرُّ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تُدْعَى الْحُمْسَ، وَكَانُوا يَدْخُلُونَ مِنَ الْأَبْوَابِ فِي الْإِحْرَامِ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ وَسَائِرُ الْعَرَبِ لَا يَدْخُلُونَ مِنْ بَابٍ فِي الْإِحْرَامِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُسْتَانٍ إِذْ خَرَجَ مِنْ بَابِهِ وَخَرَجَ مَعَهُ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ قُطْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رَجُلٌ فَاجِرٌ، وَإِنَّهُ خَرَجَ مَعَكَ مِنَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ فَعَلْتَهُ فَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلْتَ، فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أَحْمَسِيٌّ، قَالَ: فَإِنَّ دِينِي دِينُكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ جماعة من الصحابة والتابعين. [سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 193] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَمْنُوعًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ «1» وَقَوْلِهِ: وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا «2» وَقَوْلِهِ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ «3» وَقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «4» وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقِتَالِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقِيلَ إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا «5» فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَهُ، وَيَكُفُّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «6» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «7» . وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ مَنْ عَدَا النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرُّهْبَانِ وَنَحْوِهُمْ، وَجَعَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةً غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ، وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِدَاءِ عِنْدَ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: هُوَ مُقَاتَلَةُ مَنْ يُقَاتِلُ مِنَ الطَّوَائِفِ الْكُفْرِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: مُجَاوَزَةُ قَتْلِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ إِلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. قَوْلُهُ: حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ يُقَالُ: ثَقِفَ يَثْقَفُ ثَقَفًا، وَرَجُلٌ ثَقِيفٌ: إِذَا كَانَ مُحْكِمًا لِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ الْأُمُورِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالثَّقَفُ وُجُودٌ عَلَى وَجْهِ الْأَخْذِ وَالْغَلَبَةِ، وَمِنْهُ رَجُلٌ ثَقَفٌ: سَرِيعُ الْأَخْذِ لِأَقْرَانِهِ. انْتَهَى. وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ: فَإِمَّا يَثْقَفَنَّ بَنِي لُؤَيٍّ ... جَذِيمَةُ إِنَّ قَتْلَهُمْ دَوَاءُ قَوْلُهُ: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أَيْ: مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْخِطَابُ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَالضَّمِيرُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ. انْتَهَى. وَقَدِ امْتَثَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ رَبِّهِ، فَأَخْرَجَ مِنْ مَكَّةَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ عِنْدَ أَنْ فَتَحَهَا اللَّهُ عليه. قوله: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أَيِ: الْفِتْنَةُ الَّتِي أرادوا أن يفتنوكم، وهي رجوعكم

_ (1) . المائدة: 13. (2) . المزمل: 10. (3) . الغاشية: 22. (4) . المؤمنون: 96. (5) . الحج: 39. (6) . التوبة: 9. [.....] (7) . التوبة: 36.

إِلَى الْكُفْرِ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ: الْمِحْنَةُ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْفِتْنَةِ: الشِّرْكُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْظِمُونَ الْقَتْلَ فِي الْحَرَمِ، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الشِّرْكَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ أَشَدُّ مِمَّا يَسْتَعْظِمُونَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: فِتْنَتُهُمْ إِيَّاكُمْ بِصَدِّكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَشَدُّ مِنْ قَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ فِي الْحَرَمِ، أَوْ مِنْ قَتْلِهِمْ إِيَّاكُمْ إِنْ قَتَلُوكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ: الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ، وَعَلَى أَيِّ صُورَةٍ اتَّفَقَتْ، فَإِنَّهَا أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. قَوْلُهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الْآيَةَ، اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِتَالُ فِي الْحَرَمِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَعَدَّى بِالْقِتَالِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُهُ بِالْمُقَاتَلَةِ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: بِأَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ بِبِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، فَيُقْتَلُ الْمُشْرِكُ حَيْثُ وُجِدَ إِلَّا بِالْحَرَمِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ: بِقَتْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ خَطَلٍ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي أَحَلَّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ: فَإِنِ انْتَهَوْا أَيْ: عَنْ قِتَالِكُمْ وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ. قَوْلُهُ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِيهِ الْأَمْرُ بِمُقَاتَلَةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى غَايَةٍ، هِيَ: أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ، فَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَقْلَعَ عَنِ الشِّرْكِ لَمْ يَحِلَّ قِتَالُهُ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ هُنَا: الشِّرْكُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ عَلَى عُمُومِهَا كَمَا سَلَفَ. قَوْلُهُ: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أَيْ: لَا تَعْتَدُوا إِلَّا عَلَى مَنْ ظَلَمَ وَهُوَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنِ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ: عُدْوَانًا مُشَاكَلَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2» وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ «3» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ، أَنَّهَا أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَهُ، وَيَكُفُّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ أُمِرُوا بِقِتَالِ الْكُفَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْتَدُوا يَقُولُ: لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى السلام وَكَفَّ يَدَهُ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدِ اعْتَدَيْتُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ يَقُولُ: الشِّرْكُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: ارْتِدَادُ الْمُؤْمِنِ إِلَى الْوَثَنِ أَشُدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَقْتُلَ مُحِقًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ قال: حتى يبدؤوا بِالْقِتَالِ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ «4» فَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى نَسَخَ هَاتَيْنِ الآيتين

_ (1) . التوبة: 9. (2) . الشورى: 40. (3) . البقرة: 194. (4) . البقرة: 217.

[سورة البقرة (2) : آية 194]

جَمِيعًا فِي بَرَاءَةٌ قَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنِ انْتَهَوْا قَالَ: فَإِنْ تَابُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ يَقُولُ: شِرْكٌ بالله وَيَكُونَ الدِّينُ ويخلص التوحيد اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: الشِّرْكُ. وَقَوْلُهُ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قَالَ: لَا تُقَاتِلُوا إِلَّا مَنْ قَاتَلَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ يَقُولُ: حَتَّى لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قَالَ: هُمْ مَنْ أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قتادة نحوه. [سورة البقرة (2) : آية 194] الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) قَوْلُهُ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ أَيْ: إِذَا قَاتَلُوكُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَهَتَكُوا حُرْمَتَهُ قَاتَلْتُمُوهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ مُكَافَأَةً لَهُمْ وَمُجَازَاةً عَلَى فِعْلِهِمْ. وَالْحُرُماتُ: جَمْعُ حُرْمَةٍ، كَالظُّلُمَاتِ: جَمْعُ ظلمة وإنما جَمَعَ الْحُرُمَاتِ لِأَنَّهُ أَرَادَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَالْبَلَدَ الْحَرَامَ، وَحُرْمَةَ الْإِحْرَامِ، وَالْحُرْمَةُ: مَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنَ انْتِهَاكِهِ. وَالْقِصَاصُ: الْمُسَاوَاةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ حُرْمَةٍ يَجْرِي فِيهَا الْقِصَاصُ، فَمَنْ هَتَكَ حُرْمَةً عَلَيْكُمْ فَلَكُمْ أَنْ تَهْتِكُوا حُرْمَةً عَلَيْهِ قِصَاصًا، قِيلَ: وَهَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِالْقِتَالِ وَقِيلَ: إِنَّهُ ثَابِتٌ بَيْنَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْسَخْ، وَيَجُوزُ لِمَنْ تُعُدِّيَ عَلَيْهِ فِي مَالٍ أَوْ بَدَنٍ أَنْ يَتَعَدَّى بِمِثْلِ مَا تُعُدِّيَ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ أُمُورَ الْقِصَاصِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحُكَّامِ، وَهَكَذَا الْأَمْوَالُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْقُرْطُبِيُّ، وَحَكَاهُ الدَّاوُدِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وَيُؤَيِّدُهُ: إِذْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ، أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا أَصْرَحَ وَأَوْضَحَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «3» وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ التَّأْكِيدِ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، أعني: قوله: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وإنما الْمُكَافَأَةَ اعْتِدَاءً مُشَاكَلَةً، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَمِرًا فِي سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَحَبَسَهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الدُّخُولِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ، وَصَدُّوهُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ، قَاضَاهُمْ عَلَى الدُّخُولِ مِنْ قَابِلٍ، فَدَخَلَهَا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ هُوَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقَصَّهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ،

_ (1) . التوبة: 9. (2) . التوبة: 36. (3) . البقرة: 194.

[سورة البقرة (2) : آية 195]

وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ «1» الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ «2» الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ «3» الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا وَنَحْوُهُ نَزَلَ بِمَكَّةَ، وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، لَيْسَ لَهُمْ سلطان يقهر الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَعَاطَوْنَهُمْ بِالشَّتْمِ وَالْأَذَى، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَتَجَازَى مِنْهُمْ أَنْ يَتَجَازَى بِمِثْلِ مَا أُوتِيَ إِلَيْهِ، أَوْ يَصْبِرُوا وَيَعْفُوا، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَعَزَّ اللَّهُ سُلْطَانَهُ، أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْتَهُوا فِي مَظَالِمِهِمْ إِلَى سُلْطَانِهِمْ، وَلَا يَعْدُوا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً «4» الْآيَةَ. يَقُولُ: يَنْصُرُهُ السُّلْطَانُ حَتَّى يُنْصِفَهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَمَنِ انْتَصَرَ لِنَفْسِهِ دُونَ السُّلْطَانِ فَهُوَ عَاصٍ مُسْرِفٌ، قَدْ عَمِلَ بِحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى. وَأَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ- الَّتِي جَعَلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَاسِخَةً- مُؤَيِّدَةً لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ- الَّتِي جَعَلَهَا مَنْسُوخَةً- وَمُؤَكِّدَةً لَهُ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً «5» أَنَّهُ جَعَلَ السُّلْطَانَ لَهُ، أَيْ: جَعَلَ لَهُ تَسَلُّطًا يَتَسَلَّطُ بِهِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ «6» ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ كَمَا قَالَهُ لَكَانَ ذَلِكَ مُخَصِّصًا لِلْقَتْلِ مِنْ عُمُومِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَا نَاسِخًا لَهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَنُصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا عَلَى الْقَتْلِ وَحْدَهُ. وَتِلْكَ الْآيَاتُ شَامِلَةٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي هِيَ الْمَرْجِعُ فِي تفسير كلام الله سبحانه. [سورة البقرة (2) : آية 195] وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وفي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ الْجِهَادُ، وَاللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَيْدِيكُمْ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تُلْقُوا أَيْدِيَكُمْ، وَمِثْلُهُ: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: بِأَيْدِيكُمْ أَيْ: بِأَنْفُسِكُمْ، تَعْبِيرًا بِالْبَعْضِ عَنِ الْكُلِّ، كَقَوْلِهِ: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَقِيلَ: هَذَا مَثَلٌ مَضْرُوبٌ، يُقَالُ: فُلَانٌ أَلْقَى بِيَدِهِ فِي أَمْرِ كَذَا: إِذَا اسْتَسْلَمَ، لِأَنَّ الْمُسْتَسْلِمَ فِي الْقِتَالِ يُلْقِي سِلَاحَهُ بِيَدَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِعْلُ كُلِّ عَاجِزٍ فِي أَيِّ فِعْلٍ كَانَ، وَقَالَ قَوْمٌ: التَّقْدِيرُ: وَلَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَيْدِيكُمْ. وَالتَّهْلُكَةُ: مَصْدَرٌ مِنْ هَلَكَ يَهْلَكُ هَلَاكًا وَهُلْكًا وَتَهْلُكَةً أَيْ: لَا تَأْخُذُوا فِيمَا يُهْلِكُكُمْ. وَلِلسَّلَفِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَقْوَالٌ سَيَأْتِي بَيَانُهَا، وَبَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَكُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَهْلُكَةٌ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْآيَةِ أَنْ يَقْتَحِمَ الرَّجُلُ فِي الْحَرْبِ فَيَحْمِلُ عَلَى الْجَيْشِ مَعَ عَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّخَلُّصِ وَعَدَمِ تَأْثِيرِهِ لِأَثَرٍ يَنْفَعُ الْمُجَاهِدِينَ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ هَذَا تَحْتَ الْآيَةِ إِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنَ الَّذِينَ رَأَوُا السَّبَبَ، فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْآيَةَ لَا تُجَاوِزَ سَبَبَهَا، وَهُوَ ظَنٌّ تَدْفَعُهُ لُغَةُ الْعَرَبِ. وَقَوْلُهُ: وَأَحْسِنُوا أَيْ: فِي الْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَةِ، أَوْ أَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللَّهِ فِي إِخْلَافِهِ عليكم.

_ (1) . الشورى: 40. (2) . الشورى: 41. (3) . النحل: 126. (4) . الإسراء: 33. (5) . الإسراء: 33. (6) . الإسراء: 33. [.....]

وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ حُذَيْفَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ تَرْكُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَخَافَةَ الْعَيْلَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ قَالَ: هُوَ الْبُخْلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ يَخْرُجُونَ فِي بعوث يبعثها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ، فَإِمَّا يَقْطَعُ لَهُمْ، وَإِمَّا كَانُوا عِيَالًا، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَلَا يُلْقُوا بِأَيْدِيهمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَالتَّهْلُكَةُ: أَنْ تَهْلَكَ رِجَالٌ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَمِنَ الْمَشْيِ. وَقَالَ لِمَنْ بِيَدِهِ فَضْلٌ: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وابن قانع، والطبراني عن الضحّاك بن أبي جبير: أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَتَصَدَّقُونَ، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ، فَسَاءَ ظَنُّهُمْ، وَأَمْسَكُوا عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَسْلَمَ بْنِ عِمْرَانَ قَالَ: كُنَّا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّامِ فُضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَخَرَجَ صَفٌّ عَظِيمٌ مِنَ الرُّومِ فَصَفَفْنَا لَهُمْ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ صَاحِبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أيّها الناس إنكم تؤوّلون الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ. وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا هَذِهِ الْآيَةُ مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، إِنَّا لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ أَمْوَالَ النَّاسِ قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ يَرُدُّ عَلَيْنَا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ: الْإِقَامَةَ فِي الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحَهَا وَتَرْكَ الْغَزْوِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: هُوَ الرَّجُلُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُلْقِي بِيَدَيْهِ، فَيَقُولُ: لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي أَبَدًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: إِنَّهُ الْقُنُوطُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: التَّهْلُكَةُ: عَذَابُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ أَنَّهُمْ حَاصَرُوا دِمَشْقَ، فَأَسْرَعَ رَجُلٌ إِلَى الْعَدُوِّ وَحْدَهُ، فَعَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَرُفِعَ حَدِيثُهُ إِلَى عمرو بن العاص فأرسل إليه فردّده، وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: وَأَحْسِنُوا قَالَ: أَدَّوُا الْفَرَائِضَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عكرمة قال: أحسنوا الظنّ بالله.

[سورة البقرة (2) : آية 196]

[سورة البقرة (2) : آية 196] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) قَوْلُهُ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلَّهِ، فَقِيلَ: أَدَاؤُهُمَا، وَالْإِتْيَانُ بِهِمَا مِنْ دُونِ أَنْ يَشُوبَهُمَا شَيْءٌ مِمَّا هُوَ مَحْظُورٌ، وَلَا يُخِلَّ بِشَرْطٍ، وَلَا فَرْضٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَمَّهُنَّ «1» وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ «2» . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِتْمَامُهُمَا: أَنْ تَخْرُجَ لَهُمَا، لَا لِغَيْرِهِمَا وَقِيلَ: إِتْمَامُهُمَا: أَنْ تُفِرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَمَتُّعٍ، وَلَا قِرَانٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِتْمَامُهُمَا: أَنْ لَا يَسْتَحِلُّوا فِيهِمَا مَا لَا يَنْبَغِي لَهُمْ، وَقِيلَ: إِتْمَامُهُمَا: أَنْ يُحْرِمَ لَهُمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ وَقِيلَ: أَنْ يُنْفِقَ فِي سَفَرِهِمَا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ فِي مَعْنَى إِتْمَامِهِمَا. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِإِتْمَامِهِمَا أَمْرٌ بِهَا، وَبِذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْجَهْمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالنَّخَعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ- كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ-: أَنَّهَا سُنَّةٌ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ: مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةَ» . وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَرِيضَتَانِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ» . وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُونَ بِمَا أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْآيَةِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لَا وَأَنْ تَعْتَمِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ» وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ، وَعَنِ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ: بِحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الدُّخُولُ فِيهَا، وَهِيَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَاجِبَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ بُعْدٌ لَكِنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ تَصْرِيحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِمَّا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِهَا، كَمَا أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «إِنَّ الْعُمْرَةَ هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ» . وَكَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ شَهْرَ رمضان، وتحجّ وتعتمر، وتسمع وتطيع، وعليك

_ (1) . البقرة: 124. (2) . البقرة: 187.

بِالْعَلَانِيَةِ، وَإِيَّاكَ وَالسِّرَّ» . وَهَكَذَا يَنْبَغِي حَمْلُ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَرَنَ فِيهَا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي أَنَّهُمَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّهُمَا كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُمَا يَهْدِمَانِ مَا كَانَ قَبْلَهُمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ الْحَصْرُ: الْحَبْسُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ وَالْخَلِيلُ: إِنَّهُ يُقَالُ: أُحْصِرَ بِالْمَرَضِ، وَحُصِرَ بِالْعَدُوِّ. وَفِي الْمُجْمَلِ لِابْنِ فَارِسٍ الْعَكْسُ، يُقَالُ: أُحْصِرَ بِالْعَدُوِّ، وَحُصِرَ بِالْمَرَضِ. وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: هُوَ رَأْيُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ كَذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْمَرَضِ وَالْعَدُوِّ. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، فَقَالَ: حَصَرَنِي الشَّيْءُ وَأَحْصَرَنِي: أَيْ: حَبَسَنِي. وَبِسَبَبِ هَذَا الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: الْمُحْصَرُ مَنْ يَصِيرُ مَمْنُوعًا مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِمَرَضٍ أو عدوّ أو غيره. وقال الشَّافِعِيَّةُ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ: حَصْرُ الْعَدُوِّ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ بِعَدُوٍّ يَحِلُّ حَيْثُ أُحْصِرَ، وَيَنْحَرُ هَدْيَهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ هَدْيٌ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَوْلُهُ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ «مَا» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوِ الْخَبَرِ، أَيْ: فَالْوَاجِبُ أَوْ فَعَلَيْكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: فَانْحَرُوا، أَوْ فَاهْدُوا مَا اسْتَيْسَرَ، أَيْ: مَا تَيَسَّرَ، يُقَالُ: يَسَّرَ الْأَمْرَ وَاسْتَيْسَرَ، كَمَا يُقَالُ: صَعَّبَ وَاسْتَصْعَبَ، والهديّ وَالْهَدِيُّ لُغَتَانِ، وَهُمَا جَمْعُ هَدِيَّةٍ، وَهِيَ: مَا يُهْدَى إِلَى الْبَيْتِ مِنْ بَدَنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ وَبَنُو أَسَدٍ يُخَفِّفُونَ الْهَدْيَ، وَتَمِيمٌ وَسُفْلَى قَيْسٍ يُثَقِّلُونَ. قَالَ الشَّاعِرُ: حلفت بربّ مكّة وَالْمُصَلَّى ... وَأَعْنَاقِ الْهَدْيِ مُقَلَّدَاتِ قَالَ: وَوَاحِدُ الْهَدْيِ هدية، ويقال في جمع الهديّ أهداء. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: فَمَا اسْتَيْسَرَ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ شَاةٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ: جَمَلٌ أَوْ بَقَرَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَعْلَى الْهَدْيِ بَدَنَةٌ، وَأَوْسَطُهُ بقرة، وأدناه شاة، وقوله: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ هُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مُحْصَرٍ وَغَيْرِ مُحْصَرٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ- وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُحْصَرِينَ خَاصَّةً، أَيْ: لَا تَحِلُّوا مِنَ الْإِحْرَامِ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي بَعَثْتُمُوهُ إِلَى الْحَرَمِ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَحِلُّ فِيهِ ذَبْحُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ مَوْضِعُ الْحَصْرِ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أُحْصِرَ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الْحَرَمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ «1» وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُوَ الْآمِنُ الَّذِي يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى الْبَيْتِ. وَأَجَابَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ نَحْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنَّ طَرَفَ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي إِلَى أَسْفَلَ مَكَّةَ هُوَ مِنَ الْحَرَمِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النَّحْرُ لَيْسَ هُوَ مِنَ الْحَرَمِ. قَوْلُهُ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً الْآيَةَ، الْمُرَادُ بِالْمَرَضِ هُنَا: مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْمَرَضِ لُغَةً. وَالْمُرَادُ بِالْأَذَى مِنَ الرَّأْسِ: مَا فِيهِ مِنْ قَمْلٍ أَوْ جِرَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ مَا أُطْلِقَ هُنَا مِنَ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالنُّسُكِ، فَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَمْلُهُ يَتَسَاقَطُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ ويطعم ستّة مساكين، أو يهدي

_ (1) . الحج: 33.

شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ العلماء أن النسك هنا شَاةٌ. وَحُكِيَ عَنِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الصَّوْمَ الْمَذْكُورَ في الآية ثلاثة أيام، والإطعام لستة مساكين. وروي عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أَيَّامٍ، وَالْإِطْعَامَ عَشَرَةُ مَسَاكِينَ. وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمُتَقَدِّمُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَيُبْطِلُ قَوْلَهُمْ. وَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَدَاوُدُ: إِلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ فِي ذَلِكَ مُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ فِي بَعْضِ أَخْبَارِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: تَصَدَّقْ بِثَلَاثَةِ أَصْوُعٍ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ إِنْ أَطْعَمَ بُرًّا فَمُدٌّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَإِنْ أَطْعَمَ تَمْرًا فَنِصْفُ صَاعٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَكَانِ هَذِهِ الْفِدْيَةِ فَقَالَ عَطَاءٌ: مَا كَانَ مِنْ دَمٍ فَبِمَكَّةَ، وَمَا كَانَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ صِيَامٍ فَحَيْثُ شَاءَ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَالشَّافِعِيُّ: الْإِطْعَامُ وَالدَّمُ لَا يَكُونَانِ إِلَّا بِمَكَّةَ، وَالصَّوْمُ حَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَمُجَاهِدٌ: حَيْثُ شَاءَ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْحَقُّ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْيِينِ الْمَكَانِ. قَوْلُهُ: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أَيْ: بَرِأْتُمْ مِنَ الْمَرَضِ- وَقِيلَ: مِنْ خَوْفِكُمْ مِنَ الْعَدُوِّ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، وَلَكِنَّ الْأَمْنَ مِنَ الْعَدُوِّ أَظْهَرُ مِنَ اسْتِعْمَالِ أَمِنْتُمْ فِي ذَهَابِ الْمَرَضِ، فَيَكُونُ مُقَوِّيًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ الْمُرَادُ بِهِ: الْإِحْصَارُ مِنَ الْعَدُوِّ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ، لِإِفْرَادِ عُذْرِ الْمَرَضِ بِالذِّكْرِ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ: هَلِ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا هُمُ الْمُحْصَرُونَ خَاصَّةً أَمْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ؟ عَلَى حَسَبِ مَا سَلَفَ، وَالْمُرَادُ بِالتَّمَتُّعِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ: أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يُقِيمَ حَلَالًا بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ. فَقَدِ اسْتَبَاحَ بِذَلِكَ مَا لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ اسْتِبَاحَتُهُ، وَهُوَ مَعْنَى: تَمَتَّعَ وَاسْتَمْتَعَ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ التَّمَتُّعِ، بَلْ هُوَ عِنْدِي أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الْحَجِّ، كَمَا حَرَّرْتُهُ فِي شَرْحِي عَلَى الْمُنْتَقَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. قَوْلُهُ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الْآيَةَ، أَيْ: فَمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، إِمَّا لِعَدَمِ الْمَالِ أَوْ لِعَدَمِ الْحَيَوَانِ، صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، أَيْ: فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَهِيَ مِنْ عِنْدِ شُرُوعِهِ فِي الْإِحْرَامِ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ وَقِيلَ: يَصُومُ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ يَوْمًا، وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ وَقِيلَ: يَصُومُهُنَّ مِنْ أَوَّلِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَقِيلَ: مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ. وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ صِيَامَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، وَمَنَعَهُ آخَرُونَ. قَوْلُهُ: وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِخَفْضِ سبعة، وقرأ زيد ابن عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَصُومُوا سَبْعَةً، وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَجْرُورَةً لَفْظًا فَهِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ هُنَا: الرُّجُوعُ إِلَى الْأَوْطَانِ. قَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يَجْزِيهِ الصَّوْمُ فِي الطَّرِيقِ، وَلَا يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ إِلَّا إِذَا وَصَلَ وَطَنَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ. وقال مالك: إذ رَجَعَ مِنْ مِنًى فَلَا بَأْسَ أَنْ يَصُومَ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم:

«فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ» فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الرُّجُوعَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَهْلِ. وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ «وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَمْصَارِكُمْ» وَإِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ مَعَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ وَالسَّبْعَةَ عَشَرَةٌ، لِدَفْعِ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الأيام في الحج والسبعة إذا رجع. قال الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: ذُكِرَ ذَلِكَ: لِيَدُلَّ عَلَى انْقِضَاءِ الْعَدَدِ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذِكْرِ السَّبْعَةِ، وَقِيلَ: هُوَ تَوْكِيدٌ، كَمَا تَقُولُ: كَتَبْتُ بِيَدِي. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَأْتِي بِمِثْلِ هَذِهِ الْفَذْلَكَةِ «1» فِيمَا دون هذا العدد، كقول الشاعر: ثلاث واثنان فهنّ خمس ... وسادسة تميل إلى شمامي وكذا قول الآخر: ثلاث بالغداة وَذَاكَ حَسْبِي ... وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي الْعِشَاءُ فَذَلِكَ تسعة في اليوم ريّي ... وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرَّيِّ دَاءُ وَقَوْلُهُ: كامِلَةٌ تَوْكِيدٌ آخَرُ بَعْدَ الْفَذْلَكَةِ لِزِيَادَةِ التَّوْصِيَةِ بِصِيَامِهَا، وَأَنْ لَا يُنْقَصَ مِنْ عَدَدِهَا. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ قِيلَ: هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى التَّمَتُّعِ، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مُتْعَةَ لِحَاضِرِي المسجد الحرام، كما يقوله أبو حنفية وَأَصْحَابُهُ، قَالُوا: وَمَنْ تَمَتَّعَ مِنْهُمْ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَهُوَ دَمُ جِنَايَةٍ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ وَقِيلَ: إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْهَدْيِ وَالصِّيَامِ، فَلَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَالْمُرَادُ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاكِنًا فِي الْحَرَمِ، أَوْ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاكِنًا فِي الْمَوَاقِيتِ فَمَا دُونَهَا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: فيما فرضه عليكم من هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ بِالتَّقْوَى عَلَى الْعُمُومِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ شِدَّةِ عِقَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ، عن يعلى بن أمية قَالَ: جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهِ أَثَرُ خَلُوقٍ، فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أين السّائل عن العمرة؟ فقال: ها أنذا، قَالَ: اخْلَعِ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الْخَلُوقِ، ثُمَّ مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكِ فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ» . وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِهِ، وَلَكِنْ فِيهِمَا: أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ صلّى الله عليه وسلّم الوحي بَعْدَ السُّؤَالِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ قَالَ: أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مِنْ تَمَامِهِمَا أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وأن

_ (1) . الفذلكة: مجمل ما فصل وخلاصته.

يَعْتَمِرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَمَامُ الْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَزَارَ الْبَيْتَ فَقَدْ حَلَّ، وَتَمَامُ الْعُمْرَةِ إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة حَلَّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْطِنَ ذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يَقُولُ: مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ثُمَّ حُبِسَ عَنِ الْبَيْتِ بِمَرَضٍ يُجْهِدُهُ أَوْ عَدُوٍّ يَحْبِسُهُ فَعَلَيْهِ ذَبْحُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شَاةً فَمَا فَوْقَهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يَقُولُ: الرَّجُلُ إِذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَأُحْصِرَ بَعَثَ بِمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَإِنْ كَانَ عَجَّلَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، أَوْ مَسَّ طِيبًا، أَوْ تَدَاوَى بِدَوَاءٍ، كَانَ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ- فَالصِّيَامُ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَالصَّدَقَةُ: ثَلَاثَةُ آصُعٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَالنُّسُكُ شَاةٌ- فَإِذا أَمِنْتُمْ يقول: فإذا برىء فَمَضَى مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ إِلَى الْبَيْتِ أَحَلَّ مِنْ حَجَّتِهِ بِعُمْرَةٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، فَإِنْ هُوَ رَجَعَ وَلَمْ يُتِمَّ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ إِلَى الْبَيْتِ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ، فَإِنْ هُوَ رَجَعَ مُتَمَتِّعًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شَاةٌ، فَإِنْ هُوَ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كُلِّهِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ قال: شاة. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ قَالَ: بقرة أو جزور، قيل أو ما يَكْفِيهِ شَاةٌ؟ قَالَ: لَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بن حميد عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي تَفْسِيرِ فَمَا اسْتَيْسَرَ: مَا يَجِدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: إِنْ كَانَ مُوسِرًا فَمِنَ الْإِبِلِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْبَقَرِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْغَنَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُمَا كَانَا لا يريان فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وكان ابن عباس يقول: ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: شَاةٌ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ، فَأَمَّا مَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ وَجَعٌ أَوْ ضَلَالٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَلَا يَكُونُ الْأَمْنُ إِلَّا مِنَ الْخَوْفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا إِحْصَارَ إِلَّا مِنْ عَدُوٍّ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَا إِحْصَارَ إِلَّا مِنْ مَرَضٍ أَوْ عَدُوٍّ أو أمر حادث. وأخرج أيضا عُرْوَةَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ حَبَسَ الْمُحْرِمَ فَهُوَ إِحْصَارٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْمِسْوَرِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: لَفِيَّ نَزَلَتْ وَإِيَّايَ عَنَى بِهَا:

[سورة البقرة (2) : الآيات 197 إلى 198]

فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً يَعْنِي: مَنِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ. قَالَ: يَعْنِي بِالْمَرَضِ: أَنْ يَكُونَ بِرَأْسِهِ أَذًى أَوْ قُرُوحٌ أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ قَالَ: الْأَذَى: هُوَ الْقَمْلُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: النُّسُكُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ: شَاةٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ يَقُولُ: مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم أن ابن الزُّبَيْرَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْمُتْعَةُ لِمَنْ أُحْصِرَ، وَلَيْسَتْ لِمَنْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ لِمَنْ أُحْصِرَ وَمَنْ خُلِّي سَبِيلُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ قَالَ: فَإِنْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ حَتَّى يَجْمَعَهَا مَعَ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ قَالَ: قَبْلَ التَّرْوِيَةِ يَوْمٌ، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، فَإِنْ فَاتَتْهُ صَامَهُنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ إِلَّا ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا فَاتَهُ صَامَ أَيَّامَ مِنًى فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَجِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الصِّيَامُ لِلْمُتَمَتِّعِ مَا بَيْنَ إِحْرَامِهِ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُتَمَتِّعُ بِالْعُمْرَةِ هَدْيًا فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنْ كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ الثَّالِثَ فَقَدْ تَمَّ صَوْمُهُ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ صَامَ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامَ فَلْيَصُمْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ فِي رَهْطٍ أَنْ يَطُوفُوا فِي مِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَيُنَادُوا: «إِنَّ هَذِهِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ، فَلَا نَصُومُ فِيهِنَّ إِلَّا صَوْمًا فِي هَدْيٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قَالَ: سِتُّ قَرْيَاتٍ: عَرَفَةُ، وَعُرَنَةُ، وَالرَّجِيعُ، وَالنَّخْلَتَانِ، وَمَرُّ الظَّهْرَانِ، وَضَجْنَانُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عمر مثله. [سورة البقرة (2) : الآيات 197 الى 198] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ فِيهِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ، أَيْ: وَقْتُ عَمَلِ الْحَجِّ وَقِيلَ

التَّقْدِيرُ: الْحَجُّ فِي أَشْهُرٍ وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ النَّصْبُ مَعَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ لَا الرَّفْعُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَشْهَرُ رَفْعٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ. وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي الْأَشْهُرِ الْمَعْلُومَاتِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَطَاءٌ، وَالرَّبِيعُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ: هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ: هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أيضا عن مالك. ويظهر فائدة الخلاف في ما وَقَعَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ ذَا الْحِجَّةِ كُلَّهُ مِنَ الْوَقْتِ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمُ التَّأْخِيرِ، وَمَنْ قَالَ: ليس إلا العشر منه قال: يلزمه دَمُ التَّأْخِيرِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُوَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، قَالُوا: فَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَهَا أَحَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَلَا يُجْزِيهِ عَنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ، كَمَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا فَإِنَّهَا لَا تُجْزِيهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ فَقَطْ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ. وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ جَوَازُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي فَائِدَةِ تَوْقِيتِ الْحَجِّ بِالْأَشْهُرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ النَّصَّ عَلَيْهَا لِزِيَادَةِ فَضْلِهَا. وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْإِحْرَامِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَاحْتَجَّ لهم بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ «1» فَجَعَلَ الْأَهِلَّةَ كُلَّهَا مَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ، وَلَمْ يَخُصَّ الثلاثة أشهر، وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَتِلْكَ خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا احْتَجُّوا بِهِ الْقِيَاسُ لِلْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، فَكَمَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ لِلْعُمْرَةِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْحَجِّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مُصَادِمٌ لِلنَّصِّ الْقُرْآنِيِّ فَهُوَ بَاطِلٌ، فَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ إِنْ كَانَتِ الْأَشْهُرُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مُخْتَصَّةً بِالثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْأَشْهُرُ جَمْعُ شَهْرٍ، وَهُوَ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ يَتَرَدَّدُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَالثَّلَاثَةُ هِيَ الْمُتَيَقَّنَةُ فَيَجِبُ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَعْلُوماتٌ أَنَّ الْحَجَّ فِي السَّنَةِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ مِنْ شُهُورِهَا، لَيْسَ كَالْعُمْرَةِ، أَوِ الْمُرَادُ: مَعْلُومَاتٌ بِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَوْ مَعْلُومَاتٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، لَا يَجُوزُ التقدّم عليها ولا التأخر عنها. قوله: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أَصْلُ الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ: الْحَزُّ وَالْقَطْعُ، وَمِنْهُ فُرْضَةُ الْقَوْسِ وَالنَّهْرِ والجبل، ففريضة الْحَجِّ لَازِمَةٌ لِلْعَبْدِ الْحُرِّ كَلُزُومِ الْحَزِّ لِلْقَوْسِ وَقِيلَ مَعْنَى فَرَضَ: أَبَانَ، وَهُوَ أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ مَنْ قَطَعَ شَيْئًا فَقَدْ أَبَانَهُ عَنْ غَيْرِهِ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: فَمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ فِيهِنَّ الْحَجَّ بِالشُّرُوعِ فِيهِ بِالنِّيَّةِ قَصْدًا بَاطِنًا، وَبِالْإِحْرَامِ فِعْلًا ظَاهِرًا، وَبِالتَّلْبِيَةِ نُطْقًا مَسْمُوعًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ إِلْزَامَهُ نَفْسَهُ يَكُونُ بِالتَّلْبِيَةِ، أَوْ بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَسَوْقِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَكْفِي النِّيَّةُ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ. وَالرَّفَثُ قال ابن عباس، وابن جبير، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ: هُوَ الْجِمَاعُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَغَيْرُهُمُ: الرَّفَثُ: الْإِفْحَاشُ بِالْكَلَامِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرّفث: اللغا من الكلام، وأنشد:

_ (1) . البقرة: 189.

وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ يُقَالُ: رَفَثَ يَرْفُثُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا. وَالْفُسُوقُ: الْخُرُوجُ عَنْ حُدُودِ الشَّرْعِ وَقِيلَ: هُوَ الذَّبْحُ لِلْأَصْنَامِ وَقِيلَ: التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ وَقِيلَ: السِّبَابُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَعْصِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِنَّمَا خَصَّصَهُ مَنْ خَصَّصَهُ بِمَا ذُكِرَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَدْ أُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْفَرْدِ اسْمُ الْفُسُوقِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي الذَّبْحِ لِلْأَصْنَامِ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ «1» . وَقَالَ فِي التَّنَابُزِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ «2» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي السِّبَابِ «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ» . وَلَا يَخْفَى عَلَى عَارِفٍ أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْفُسُوقِ عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَعَاصِي لَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِهِ. وَالْجِدَالُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ: الفتل، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُمَارَاةُ وَقِيلَ: السِّبَابُ وَقِيلَ: الْفَخْرُ بِالْآبَاءِ. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ قُرِئَ بِنَصْبِ الثَّلَاثَةِ وَرَفْعِهَا، وَرَفْعِ الْأَوَّلَيْنِ، وَنَصْبِ الثَّالِثِ وَعَكْسِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى النَّفْيِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ النَّهْيُ عَنْهَا. وَقَوْلُهُ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ حَثٌّ عَلَى الْخَيْرِ بَعْدَ ذِكْرِ الشَّرِّ، وَعَلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَعْصِيَةِ، وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَفُوتُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَوْلُهُ: وَتَزَوَّدُوا فِيهِ الْأَمْرُ بِاتِّخَاذِ الزَّادِ، لِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ كَانُوا يَقُولُونَ كَيْفَ نَحُجُّ بَيْتَ رَبِّنَا وَلَا يُطْعِمُنَا؟ فَكَانُوا يَحُجُّونَ بِلَا زَادٍ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: تَزَوَّدُوا لِمَعَادِكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَسَيَأْتِي. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى إِخْبَارٌ بِأَنَّ خَيْرَ الزَّادِ اتِّقَاءُ الْمَنْهِيَّاتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ فِي إِتْيَانِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ الْخُرُوجِ بِالزَّادِ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ مَا اتَّقَى بِهِ الْمُسَافِرُ مِنَ الْهَلَكَةِ والحاجة إلى السؤال والتكفف. وقوله: وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فِيهِ التَّخْصِيصُ لِأُولِي الْأَلْبَابِ بِالْخِطَابِ بَعْدَ حَثِّ جَمِيعِ الْعِبَادِ عَلَى التَّقْوَى، لِأَنَّ أَرْبَابَ الْأَلْبَابِ هُمُ الْقَابِلُونَ لِأَوَامِرِ اللَّهِ، النَّاهِضُونَ بِهَا، وَلُبُّ كُلِّ شَيْءٍ: خَالِصُهُ. قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِيهِ التَّرْخِيصُ لِمَنْ حَجَّ فِي التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الرِّزْقِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْفَضْلِ هُنَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «3» أَيْ: لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ فِي أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ مَعَ سَفَرِكُمْ لِتَأْدِيَةِ مَا افْتَرَضَهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْحَجِّ. قَوْلُهُ: فَإِذا أَفَضْتُمْ أَيْ: دَفَعْتُمْ، يُقَالُ: فَاضَ الْإِنَاءُ: إِذَا امْتَلَأَ مَاءً حَتَّى يَنْصَبَّ مِنْ نَوَاحِيهِ وَرَجُلٌ فَيَّاضٌ: أَيْ: مُتَدَفِّقَةٌ يَدَاهُ بِالْعَطَاءِ، وَمَعْنَاهُ: أَفَضْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، فَتَرَكَ ذِكْرَ الْمَفْعُولِ، كَمَا تُرِكَ فِي قَوْلِهِمْ دَفَعُوا مِنْ مَوْضِعِ كَذَا. وعَرَفاتٍ: اسْمٌ لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ، أَيْ: مَوْضِعِ الْوُقُوفِ، وَقَرَأَهُ الْجَمَاعَةُ بِالتَّنْوِينِ، وَلَيْسَ التَّنْوِينُ هُنَا لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَنْصَرِفُ وَمَا لَا يَنْصَرِفُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّونِ فِي مُسْلِمِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا الْجَيِّدُ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ حَذْفَ التَّنْوِينِ مِنْ عَرَفَاتٍ، قَالَ: لَمَّا جَعَلُوهَا مَعْرِفَةً حَذَفُوا التَّنْوِينَ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ وَالْكُوفِيُّونَ فَتْحَ التَّاءِ تَشْبِيهًا بِتَاءِ فَاطِمَةَ، وَأَنْشَدُوا: تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتَ وَأَهْلُهَا ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عال وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ هَلَّا مُنِعَتِ الصَّرْفَ، وَفِيهَا السَّبَبَانِ التَّعْرِيفُ وَالتَّأْنِيثُ، قُلْتُ: لَا يَخْلُو التَّأْنِيثُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالتَّاءِ الَّتِي فِي لَفْظِهَا، وَإِمَّا بِتَاءٍ مُقَدَّرَةٍ كَمَا فِي سعاد، فالتي في لفظها ليست للتأنيث

_ (1) . الحجرات: 11. (2) . الأنعام: 145. (3) . الجمعة: 10.

وَإِنَّمَا هِيَ مَعَ الْأَلِفِ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَامَةُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ التَّاءِ فِيهَا لِأَنَّ هَذِهِ التَّاءَ لِاخْتِصَاصِهَا بِجُمَعِ الْمُؤَنَّثِ مَانِعَةٌ مِنْ تَقْدِيرِهَا، كَمَا لَا تُقَدَّرُ تَاءُ التَّأْنِيثِ فِي بِنْتٍ لِأَنَّ التَّاءَ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْمُؤَنَّثِ كَتَاءِ التَّأْنِيثِ فَأَبَتْ تَقْدِيرَهَا. انْتَهَى. وَسُمِّيتْ: عَرَفَاتٍ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَعَارَفُونَ فِيهَا وَقِيلَ: إِنَّ آدَمَ الْتَقَى هُوَ وَحَوَّاءُ فِيهَا فَتَعَارَفَا وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمٌ مُرْتَجَلٌ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْبِقَاعِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، لِأَنَّ الْإِفَاضَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَهُ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ دُعَاؤُهُ، وَمِنْهُ التَّلْبِيَةُ وَالتَّكْبِيرُ وَسُمِّي الْمَشْعَرُ مَشْعَرًا مِنَ الشِّعَارِ، وَهُوَ الْعَلَّامَةُ، وَالدُّعَاءُ عِنْدَهُ مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ، وَوُصِفَ بِالْحَرَامِ لِحُرْمَتِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمْعًا. وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَجْمَعَ الْحَاجُّ بَيْنَهُمَا فِيهَا. وَالْمَشْعَرُ: هُوَ جَبَلُ قُزَحَ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا بَيْنَ جَبَلَيِ الْمُزْدَلِفَةِ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ إِلَى وَادِي مُحَسِّرٍ. قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ الْكَافُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ كَافَّةٌ، أَيِ: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا حَسَنًا، كَمَا هَدَاكُمْ هِدَايَةً حَسَنَةً، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِالذِّكْرِ تَأْكِيدًا- وَقِيلَ: الْأَوَّلُ: أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَالثَّانِي: أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عَلَى حُكْمِ الْإِخْلَاصِ- وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالثَّانِي: تَعْدِيدُ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَ «إِنْ» فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ مُخَفَّفَةٌ، كَمَا يُفِيدُهُ دُخُولُ اللَّامِ فِي الْخَبَرِ- وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى قَدْ، أَيْ: قَدْ كُنْتُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْهُدَى وَقِيلَ: إِلَى الْقُرْآنِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَوْقُوفًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طُرُقِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قَالَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَأَخْرَجُوا إِلَّا الْحَاكِمَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ المنذر، والدارقطني، والطبراني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ قَالَ: مَنْ أَهَلَّ فِيهِنَّ بِحَجٍّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْفَرْضُ: الْإِحْرَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: الْإِهْلَالُ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ: فَرْضُ الْحَجِّ الْإِحْرَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْفَرْضُ: الْإِهْلَالُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَنْبَغِي

لِأَحَدٍ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُحْرِمَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِهِ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ قَالَ: الرَّفَثُ: التَّعْرِيضُ لِلنِّسَاءِ بِالْجِمَاعِ، وَالْفُسُوقُ: الْمَعَاصِي كُلُّهَا، وَالْجِدَالُ: جِدَالُ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ» . وأخرج ابن مردويه، والأصبهاني في الترغيب عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا رَفَثَ: لَا جِمَاعَ، وَلَا فُسُوقَ: الْمَعَاصِي وَالْكَذِبُ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الرَّفَثُ الْجِمَاعُ، وَالْفُسُوقُ: الْمَعَاصِي، وَالْجِدَالُ: الْمِرَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الرَّفَثُ: غِشْيَانُ النِّسَاءِ، وَالْفُسُوقُ: السِّبَابُ، وَالْجِدَالُ: الْمِرَاءُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَرُوِيَ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ، ثُمَّ يَقْدَمُونَ فَيَسْأَلُونَ النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ نَاسٌ يَخْرُجُونَ مِنْ أَهْلِيهِمْ لَيْسَتْ مَعَهُمْ أَزْوِدَةٌ، يَقُولُونَ: نَحُجُّ بَيْتَ اللَّهِ وَلَا يُطْعِمُنَا؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا وَمَعَهُمْ أَزْوَادُهُمْ رَمَوْا بِهَا وَاسْتَأْنَفُوا زَادًا آخَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُمِرُوا أَنْ يَتَزَوَّدُوا الْكَعْكَ وَالدَّقِيقَ وَالسَّوِيقَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَتَوَكَّلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الزَّادِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَتَزَوَّدُوا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا يَتَّقُونَ الْبُيُوعَ وَالتِّجَارَةَ فِي الْمَوْسِمِ وَالْحَجِّ، وَيَقُولُونَ أَيَّامُ ذِكْرِ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الْآيَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ ابن مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ التَّمِيمِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّا أُنَاسٌ نُكْرِي فَهَلْ لَنَا مِنْ حَجٍّ؟ قَالَ: أَلَيْسَ تَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَتَأْتُونَ الْمُعَرَّفَ، وَتَرْمُونَ الْجِمَارَ، وتحلقون رؤوسكم؟ قُلْتُ بَلَى، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فدعاه النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الآية وقال: أنتم حُجَّاجٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ

[سورة البقرة (2) : الآيات 199 إلى 203]

قَرَأَهَا كَمَا قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَهَا كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ: عَرَفَاتٍ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَقُولُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَأَى الْمَنَاسِكَ عَرَفْتَ. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَشْعَرِ الحرام فسكت، حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بِالْمُزْدَلِفَةِ قَالَ: هَذَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ: الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْهُ قَالَ: هُوَ الْجَبَلُ وَمَا حَوْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الَّذِي بِجَمْعٍ مَشْعَرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِعَامٍّ، هَذَا لِأَهْلِ الْبَلَدِ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ وَيُفِيضُ سَائِرُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ، فَأَبَى اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ. وأخرج عبد حُمَيْدٍ عَنْ سُفْيَانَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ قَالَ: مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ قَالَ: لمن الجاهلين. [سورة البقرة (2) : الآيات 199 الى 203] ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) قِيلَ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَفِيضُوا لِلْحُمْسِ مِنْ قُرَيْشٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقِفُونَ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ، بَلْ كَانُوا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَهِيَ مِنَ الْحَرَمِ، فَأُمِرُوا بِذَلِكَ- وَعَلَى هَذَا تَكُونُ ثُمَّ لِعَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ لَا لِلتَّرْتِيبِ- وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: إِبْرَاهِيمُ، أَيْ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ إِبْرَاهِيمُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَهُمْ بِالْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِفَاضَةً أُخْرَى وَهِيَ الَّتِي مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ ثُمَّ عَلَى بَابِهَا، أَيْ: لِلتَّرْتِيبِ. وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا الِاحْتِمَالَ الْأَخِيرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهُمْ فِي مَسَاقِطِ الرَّحْمَةِ، وَمُوَاطِنِ الْقَبُولِ، وَمَظِنَّاتِ الْإِجَابَةِ- وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: اسْتَغْفِرُوا لِلَّذِي كَانَ مُخَالِفًا لِسُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ وُقُوفُكُمْ بِالْمُزْدَلِفَةِ دُونَ عَرَفَةَ. وَالْمُرَادُ بِالْمَنَاسِكِ: أَعْمَالُ الْحَجِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» أَيْ: فَإِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَاذْكُرُوا اللَّهَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَنَاسِكِ: الذَّبَائِحُ، وَإِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا فَرَغُوا مِنْ حَجِّهِمْ يَقِفُونَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ

فَيَذْكُرُونَ مَفَاخِرَ آبَائِهِمْ وَمَنَاقِبَ أَسْلَافِهِمْ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِذِكْرِهِ مَكَانَ ذَلِكَ الذِّكْرِ، وَيَجْعَلُونَهُ ذِكْرًا مِثْلَ ذِكْرِهِمْ لِآبَائِهِمْ، أَوْ أَشَدَّ مِنْ ذِكْرِهِمْ لِآبَائِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَوْ أَشَدَّ: فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى ذِكْرِكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَوْ كَأَشَدَّ ذِكْرًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيِ: اذْكُرُوهُ أَشَدَّ ذِكْرًا. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ الذِّكْرُ فِي قَوْلِهِ: كَذِكْرِكُمْ كَمَا تَقُولُ: كَذِكْرِ قُرَيْشٍ آبَاءَهُمْ، أَوْ قَوْمٍ أَشَدَّ مِنْهُمْ ذِكْرًا. قَوْلُهُ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْآيَةَ، لَمَّا أَرْشَدَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ إِلَى ذِكْرِهِ، وَكَانَ الدُّعَاءُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ جَعَلَ مَنْ يَدْعُوهُ مُنْقَسِمًا إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَطْلُبُ حَظَّ الدُّنْيَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى حَظِّ الْآخِرَةِ، وَالْقِسْمُ الْآخَرُ يَطْلُبُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: آتِنا مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَا نُرِيدُ أَوْ مَا نَطْلُبُ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَما لَهُ وَاوُ الْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا حَالِيَّةٌ. وَالْخَلَاقُ: النَّصِيبُ، أَيْ: وَمَا لِهَذَا الدَّاعِي فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ، لِأَنَّ هَمَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الدُّنْيَا، لَا يُرِيدُ غَيْرَهَا، وَلَا يَطْلُبُ سِوَاهَا. وَفِي هَذَا الْخَبَرِ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الِاقْتِصَارِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، وَالذَّمِّ لِمَنْ جَعَلَهَا غَايَةَ رَغْبَتِهِ، وَمُعْظَمَ مَقْصُودِهِ. وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْآيَةِ، فَقِيلَ: هُمَا مَا يَطْلُبُهُ الصَّالِحُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَافِيَةِ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الرِّزْقِ، وَمَا يَطْلُبُونَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَالرِّضَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِحَسَنَةِ الدُّنْيَا: الزَّوْجَةُ الْحَسْنَاءُ، وَحَسَنَةِ الْآخِرَةِ: الْحُورُ الْعِينُ وَقِيلَ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا: الْعِلْمُ وَالْعِبَادَةُ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَتَيْنِ نَعِيمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي هَذَا كُلَّهُ، فَإِنَّ حَسَنَةً نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الدُّعَاءِ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ حَسَنَةٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ عَلَى الْبَدَلِ، وَحَسَنَةُ الْآخِرَةِ: الْجَنَّةُ، بِإِجْمَاعٍ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: وَقِنا أَصْلُهُ: أَوْقِنَا، حُذِفَتِ الْوَاوُ كَمَا حُذِفَتْ فِي يَقِي لِأَنَّهَا بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ مِثْلُ يَعِدُ، هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: حُذِفَتْ فَرْقًا بَيْنَ اللَّازِمِ وَالْمُتَعَدِّي. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ جِنْسِ مَا كَسَبُوا مِنَ الْأَعْمَالِ، أَيْ: مِنْ ثَوَابِهَا، وَمِنْ جُمْلَةِ أَعْمَالِهِمُ الدُّعَاءُ، فَمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ بِسَبَبِهِ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ مِمَّا كَسَبُوا وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: مِمَّا كَسَبُوا التَّعْلِيلُ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ مَا كَسَبُوا، وَهُوَ بَعِيدٌ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، أَيْ: لِلْأَوَّلِينَ نَصِيبٌ مِنَ الدُّنْيَا وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلِلْآخِرِينَ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَسَرِيعٌ: مِنْ سَرُعَ يَسْرُعُ، كَعَظُمَ يَعْظُمُ، سَرَعًا وَسُرْعَةً، وَالْحِسَابُ: مَصْدَرٌ كَالْمُحَاسَبَةِ، وَأَصْلُهُ الْعَدَدُ، يُقَالُ: حَسَبَ يَحْسُبُ حِسَابًا، وَحِسَابَةً وَحُسْبَانًا وَحَسْبًا. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْمَحْسُوبُ، سُمِّيَ: حِسَابًا، تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ حِسَابَهُ لِعِبَادِهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ سَرِيعٌ مَجِيئُهُ، فَبَادِرُوا ذَلِكَ بِأَعْمَالِ الْخَيْرِ، أَوْ أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِسُرْعَةِ حِسَابِ الْخَلَائِقِ عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ فَيُحَاسِبُهُمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «1» . قَوْلُهُ: فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هِيَ أَيَّامُ مِنًى، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ أَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مَكِّيٍّ وَالْمَهْدَوِيِّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يَصِحُّ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ من

_ (1) . لقمان: 28.

الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا نَقَلَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ: أَيَّامُ النَّحْرِ، قَالَ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ «1» وَحَكَى الْكَرْخِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ: أَيَّامُ النَّحْرِ الثَّلَاثَةُ، يَوْمُ الْأَضْحَى، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ، لِأَنَّ الْمَعْدُودَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ بِلَا خِلَافٍ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ وَالْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، فَيَوْمُ النَّحْرِ: مَعْلُومٌ غَيْرُ مَعْدُودٍ، وَالْيَوْمَانِ بَعْدَهُ: مَعْلُومَانِ مَعْدُودَانِ، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ: مَعْدُودٌ لَا مَعْلُومٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَالْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْخِطَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، أَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ هُوَ الْحَاجُّ وَغَيْرُهُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالْحَاجِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وَقْتِهِ، فَقِيلَ: مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقِيلَ: مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ النَّحْرِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقِيلَ: مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. قَوْلُهُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ الْآيَةَ، الْيَوْمَانِ هُمَا: يَوْمُ ثَانِي النَّحْرِ وَيَوْمُ ثَالِثِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ: مَنْ رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ فَلَا حَرَجَ، وَمَنْ تَأَخَّرَ إِلَى الثَّالِثِ فَلَا حَرَجَ فَمَعْنَى الْآيَةِ كُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا التَّقْسِيمِ اهْتِمَامًا وَتَأْكِيدًا، لأن من العرب مَنْ كَانَ يَذُمُّ التَّأَخُّرَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ رَافِعَةً لِلْجُنَاحِ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ تَعَجَّلَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ، وَالْآيَةُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ التَّعَجُّلَ وَالتَّأَخُّرَ مُبَاحَانِ. وَقَوْلُهُ: لِمَنِ اتَّقى مَعْنَاهُ أَنَّ التَّخْيِيرَ وَرَفْعَ الْإِثْمِ ثَابِتٌ لِمَنِ اتَّقَى، لِأَنَّ صَاحِبَ التَّقْوَى يَتَحَرَّزُ عَنْ كُلِّ مَا يُرِيبُهُ، فَكَانَ أَحَقَّ بِتَخْصِيصِهِ بِهَذَا الْحُكْمِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ ذَلِكَ لِمَنِ اتَّقَى وَقِيلَ: لِمَنِ اتَّقَى بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الْحَجِّ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَقِيلَ: لِمَنِ اتَّقَى قَتْلَ الصَّيْدِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: السَّلَامَةُ لِمَنِ اتَّقَى وَقِيلَ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالذِّكْرِ، أَيِ: الذِّكْرُ لِمَنِ اتَّقَى. لِأَنَّ صَاحِبَ التَّقْوَى يَتَحَرَّزُ عَنْ كُلِّ مَا يُرِيبُهُ، فَكَانَ أَحَقَّ بِتَخْصِيصِهِ بِهَذَا الْحُكْمِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ ذَلِكَ لِمَنِ اتَّقَى وَقِيلَ: لِمَنِ اتَّقَى بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الْحَجِّ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَقِيلَ: لِمَنِ اتَّقَى قَتْلَ الصَّيْدِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: السَّلَامَةُ لِمَنِ اتَّقَى وَقِيلَ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالذِّكْرِ، أَيِ: الذِّكْرُ لِمَنِ اتَّقَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهَا يَقِفُونَ بالمزدلفة، وكانوا يسمون: الحمس، وكانت سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ ثُمَّ يَقِفَ بِهَا ثُمَّ يَفِيضَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْهَا مَوْقُوفًا نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى رِوَايَاتٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ هَبَطَ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي الْمَلَائِكَةِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: عِبَادِي آمَنُوا بِوَعْدِي، وَصَدَّقُوا بِرُسُلِي مَا جَزَاؤُهُمْ؟ فَيُقَالُ: أَنْ تَغْفِرَ لَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الْمَغْفِرَةِ لِأَهْلِ عَرَفَةَ، وَنُزُولِ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِجَابَةِ دُعَائِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ قَالَ: حَجَّكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ قال: إهراق الدماء

_ (1) . الحج: 28.

فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قَالَ: تَفَاخُرُ الْعَرَبِ بَيْنَهَا بِفِعَالِ آبَائِهَا يَوْمَ النَّحْرِ حِينَ يَفْرُغُونَ، فَأُمِرُوا بِذِكْرِ اللَّهِ مَكَانَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ فِي الْحَجِّ فَيَذْكُرُونَ أَيَّامَ آبَائِهِمْ، وَمَا يَعُدُّونَ مِنْ أَنْسَابِهِمْ يَوْمَهُمْ أَجْمَعَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ يَقُولُ: كَمَا يَذْكُرُ الْأَبْنَاءُ الْآبَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي قَوْلِهِ: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ إِنِ الرَّجُلَ لِيَأْتِيَ عَلَيْهِ الْيَوْمُ وَمَا يَذْكُرُ أَبَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: تَغْضَبُ لِلَّهِ إِذَا عُصِيَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِكَ إِذَا ذُكِرَ وَالِدُكَ بِسُوءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَجِيئُونَ إِلَى الْمَوْقِفِ فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ عَامَ غَيْثٍ، وَعَامَ خِصْبٍ، وَعَامَ وِلَادٍ حَسَنٍ، ولا يَذْكُرُونَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَيَجِيءُ بَعْدَهُمْ آخَرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُونَ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وَقَفُوا عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ دَعَوْا فَقَالَ أَحَدُهُمُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي إِبِلًا، وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي غَنَمًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَيَدْعُونَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْمَطَرَ، وَأَعْطِنَا عَلَى عَدُوِّنَا الظَّفَرَ، وَرُدَّنَا صَالِحِينَ إِلَى صَالِحِينَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا قَالَ: مِمَّا عَمِلُوا مِنَ الْخَيْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: سَرِيعُ الْحِسابِ قَالَ: سَرِيعُ الْإِحْصَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ: يَوْمُ الْأَضْحَى، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، اذْبَحْ فِي أَيِّهَا شِئْتَ، وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ. وَفِي لَفْظٍ: هَذِهِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قَالَ: هُنَّ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، يُذْكَرُ فِيهِنَّ بِتَسْبِيحٍ وَتَهْلِيلٍ وَتَكْبِيرٍ وَتَحْمِيدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَيَّامُ المعدودات: أربعة أيام: يوم النحر والثلاثة أيام بَعْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِمِنًى وَيَقُولُ: التَّكْبِيرُ وَاجِبٌ، وَيَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قَالَ: التَّكْبِيرُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَرَاءَ الصَّلَوَاتِ وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ

[سورة البقرة (2) : الآيات 204 إلى 207]

لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قدير. وأخرج المروزي عن الزهري قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يكبّر أيام التشريق كلّها. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ شَيْئًا، فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ- ثُمَّ خَرَجَ الثَّانِيَةَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَكَبَّرَ، وَكَبَّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ حَتَّى بَلَغَ تَكْبِيرُهُمُ الْبَيْتَ ثُمَّ خَرَجَ الثَّالِثَةَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَكَبَّرَ، وَكَبَّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْمِي الْجِمَارَ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ قَالَ: فِي تَعْجِيلِهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ قَالَ: فِي تَأْخِيرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: النَّفْرُ فِي يَوْمَيْنِ لِمَنِ اتَّقَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مَنْ غَابَتْ لَهُ الشَّمْسُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ وَهُوَ بِمِنًى فَلَا يَنْفِرَنَّ حَتَّى يَرْمِيَ الْجِمَارَ مِنَ الْغَدِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لِمَنِ اتَّقى قَالَ: لِمَنِ اتَّقَى الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، وَأَتَاهُ النَّاسُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الْحَجُّ؟ قَالَ: الْحَجُّ عَرَفَاتٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ قال: مغفورا لَهُ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ قَالَ مغفورا لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لِمَنِ اتَّقى قَالَ: لِمَنِ اتَّقَى فِي حَجِّهِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: مَنِ اتَّقَى فِي حَجِّهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى قَالَ: ذَهَبَ إِثْمُهُ كُلُّهُ إِنِ اتَّقَى فيما بقي من عمره. [سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ طَائِفَتَيِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ «1» عَقِبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ طَائِفَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ. وَسَبَبُ النُّزُولِ: الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا ثَبَتَ قَطُّ أَنَّ الْأَخْنَسَ أَسْلَمَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُلِّ مَنْ أَضْمَرَ كُفْرًا أَوْ نِفَاقًا أَوْ كَذِبًا، وَأَظْهَرَ بِلِسَانِهِ خِلَافَهُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يُعْجِبُكَ وَاضِحٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولُ: يَشْهَدُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِي مِنْ مَحَبَّتِكَ أَوْ مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ يَقُولُ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي أَقُولُ حَقًّا، وَأَنِّي صَادِقٌ فِي قَوْلِي لَكَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَيُشْهِدُ اللَّهَ بفتح حرف

_ (1) . البقرة: 200.

الْمُضَارَعَةِ وَرَفْعِ الِاسْمِ الشَّرِيفِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ وَالْمَعْنَى: وَيَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ خِلَافَ مَا قَالَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ «1» وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَيَسْتَشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ. وَقَوْلُهُ: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بالقول، أو بيعجبك فَعَلَى الْأَوَّلِ: الْقَوْلُ صَادِرٌ فِي الْحَيَاةِ، وَعَلَى الثَّانِي: الْإِعْجَابُ صَادِرٌ فِيهَا. وَالْأَلَدُّ: الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ. يُقَالُ: رَجُلٌ أَلَدُّ، وَامْرَأَةٌ لَدَّاءُ، وَلَدَدْتُهُ أَلُدُّهُ: إِذَا جَادَلْتَهُ فَغَلَبْتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَلَدُّ ذي حنق عَلَيَّ كَأَنَّمَا ... تَغْلِي عَدَاوَةُ صَدْرِهِ فِي مِرْجَلِ وَالْخِصَامُ: مَصْدَرُ خَاصَمَ، قَالَهُ الْخَلِيلُ وَقِيلَ: جَمْعُ خَصْمٍ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ كَكَلْبٍ وَكِلَابٍ، وَصَعْبٍ وَصِعَابٍ، وَضَخْمٍ وَضِخَامٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَشَدُّ الْمُخَاصِمِينَ خُصُومَةً، لِكَثْرَةِ جِدَالِهِ وَقُوَّةِ مُرَاجَعَتِهِ، وَإِضَافَةُ الْأَلَدِّ إِلَى الْخِصَامِ بِمَعْنَى فِي، أَيْ: أَلَدُّ فِي الْخِصَامِ، أَوْ جُعِلَ الْخِصَامُ أَلَدَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَقَوْلُهُ: وَإِذا تَوَلَّى أَيْ: أَدْبَرَ، وَذَهَبَ عَنْكَ يَا مُحَمَّدُ! وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى: ضَلَّ وَغَضِبَ وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى: الْوِلَايَةِ، أَيْ: إِذَا كَانَ وَالِيًا فَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ وُلَاةُ السُّوءِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَالسَّعْيُ الْمَذْكُورُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ: السَّعْيَ بِالْقَدَمَيْنِ إِلَى مَا هُوَ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، كَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ: الْعَمَلَ فِي الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَعْيٌ بِالْقَدَمَيْنِ، كَالتَّدْبِيرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَضُرُّهُمْ، وَإِعْمَالِ الْحِيَلِ عَلَيْهِمْ، وَكُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ بِجَوَارِحِهِ أَوْ حَوَاسِّهِ يُقَالُ لَهُ: سَعْيٌ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: وَيُهْلِكَ عُطِفَ عَلَى قوله: لِيُفْسِدَ وفي قراءة أبيّ: وليهلك. وقراءة قَتَادَةُ بِالرَّفْعِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: وَيُهْلِكَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ وَرَفْعِ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. وَالْمُرَادُ بِالْحَرْثِ: الزَّرْعُ، وَالنَّسْلِ: الْأَوْلَادُ وَقِيلَ الْحَرْثُ: النِّسَاءُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّفَاقَ يُؤَدِّي إِلَى تَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ وَوُقُوعِ الْقِتَالِ، وَفِيهِ هَلَاكُ الْخَلْقِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الظَّالِمَ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ فَيُمْسِكُ اللَّهُ الْمَطَرَ فَيَهْلَكُ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ. وَأَصْلُ الْحَرْثِ فِي اللُّغَةِ: الشَّقُّ، وَمِنْهُ الْمِحْرَاثُ لِمَا يُشُقُّ بِهِ الْأَرْضُ، وَالْحَرْثُ: كَسْبُ الْمَالِ وَجَمْعُهُ. وَأَصْلُ النَّسْلِ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ وَالسُّقُوطُ وَمِنْهُ نَسْلُ الشعر، ومنه أيضا: إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ «2» وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ «3» وَيُقَالُ لِمَا خَرَجَ مِنْ كُلِّ أُنْثَى: نَسْلٌ، لِخُرُوجِهِ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ يَشْمَلُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا فِيهِ فَسَادُ الدِّينِ، وَمَا فِيهِ فَسَادُ الدُّنْيَا. وَالْعِزَّةُ: الْقُوَّةُ وَالْغَلَبَةُ، مِنْ عَزَّهُ يَعُزُّهُ: إِذَا غَلَبَهُ، وَمِنْهُ وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «4» وَقِيلَ الْعِزَّةُ هُنَا: الْحَمِيَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَبًا فِعْلَ الضَّجِرْ وَقِيلَ: الْعِزَّةُ هُنَا: الْمَنَعَةُ وَشِدَّةُ النَّفْسِ. وَمَعْنَى: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ حَمَلَتْهُ الْعِزَّةُ عَلَى الْإِثْمِ، مِنْ قَوْلِكَ: أَخَذْتُهُ بِكَذَا: إِذَا حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمْتُهُ إِيَّاهُ وَقِيلَ: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِمَا يُؤْثِمُهُ، أَيِ: ارْتَكَبَ الْكُفْرَ لِلْعِزَّةِ، وَمِنْهُ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ «5» وَقِيلَ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْإِثْمِ بِمَعْنَى اللَّامِ، أي: أخذته

_ (1) . المنافقون: 1. (2) . يس: 51. (3) . الأنبياء: 96. [.....] (4) . ص: 23. (5) . ص: 2.

الْعِزَّةُ وَالْحَمِيَّةُ عَنْ قَبُولِ الْوَعْظِ لِلْإِثْمِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ النِّفَاقُ وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى مع، أي: أخذته العزّة مع الْإِثْمِ. وَقَوْلُهُ: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أَيْ: كَافِيَةٌ مُعَاقَبَةً وَجَزَاءً، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: كَفَّاكَ مَا حَلَّ بِكَ، وَأَنْتَ تَسْتَعْظِمُ عَلَيْهِ مَا حَلَّ بِهِ. وَالْمِهَادُ: جَمْعُ الْمَهْدِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُهَيَّأُ لِلنَّوْمِ، وَمِنْهُ مَهْدُ الصَّبِيِّ وَسُمِّيَتْ جَهَنَّمُ: مِهَادًا، لِأَنَّهَا مُسْتَقَرُّ الْكُفَّارِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهَا بَدَلٌ لَهُمْ من المهاد كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ «1» وَيَشْرِي بِمَعْنَى: يَبِيعُ، أَيْ: يَبِيعُ نَفْسَهُ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ، كَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، ومثله قوله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ «2» وَأَصْلُهُ: الِاسْتِبْدَالُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ «3» ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: يعطى بها ثمنا فيمنعها ... ويقول صاحبها أَلَا تَشْرِي «4» وَالْمَرْضَاةُ: الرِّضَا، تَقُولُ: رَضِيَ يَرْضَى، رِضًا وَمَرْضَاةً. وَوَجْهُ ذِكْرِ الرَّأْفَةِ هُنَا: أَنَّهُ أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم ويثيبهم، فَكَانَ ذَلِكَ رَأْفَةً بِهِمْ وَلُطْفًا لَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُصِيبَتِ السَّرِيَّةُ الَّتِي فِيهَا عَاصِمٌ وَمَرْثَدٌ قَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: يَا وَيْحَ هَؤُلَاءِ الْمَقْتُولِينَ الَّذِينَ هَلَكُوا هَكَذَا، لَا هُمْ قَعَدُوا فِي أَهْلِهِمْ، وَلَا هُمْ أَدَّوْا رِسَالَةَ صَاحِبِهِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: مَا يُظْهِرُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِلِسَانِهِ، وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أَيْ: ذُو جِدَالٍ إِذَا كَلَّمَكَ وَرَاجَعَكَ وَإِذا تَوَلَّى: خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها، وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ أَيْ: لَا يُحِبُّ عَمَلَهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ الَّذِينَ يَشْرُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ، حَتَّى هَلَكُوا عَلَى ذَلِكَ: يَعْنِي هَذِهِ السَّرِيَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم عن السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ الْآيَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ، أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَقَالَ: جِئْتُ أُرِيدُ الْإِسْلَامَ، وَيَعْلَمُ اللَّهُ أَنِّي لَصَادِقٌ، فَأَعْجَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عند النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحُمُرٍ، فأحرق

_ (1) . هذا عجز بيت لمعدي كرب، وصدره: وخيل قد دلفت لها بخيل. (2) . يوسف: 20. (3) . التوبة: 111. (4) . في القرطبي 3/ 21: ألا فأشر.

[سورة البقرة (2) : الآيات 208 إلى 210]

الزَّرْعَ، وَعَقَرَ الْحُمُرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ قَالَ هُوَ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ قَالَ عَمِلَ فِي الْأَرْضِ، وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ قَالَ: نَبَاتُ الْأَرْضِ. وَالنَّسْلَ نسل كل شيء من الحيوان والناس وَالدَّوَابِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ قَالَ: يَلِي فِي الْأَرْضِ فَيَعْمَلُ فِيهَا بِالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ، فَيَحْبِسُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، فَتَهْلَكُ بِحَبْسِ الْقَطْرِ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. ثُمَّ قَرَأَ مُجَاهِدٌ ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ قَالَ: الْحَرْثُ: الزَّرْعُ، وَالنَّسْلُ: نَسَلُ كُلِّ دَابَّةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: اتَّقِ اللَّهَ، فَيَقُولُ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ أَنْتَ تَأْمُرُنِي؟» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِمَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ: اتَّقِ اللَّهَ، فَسَقَطَ فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى الْأَرْضِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَبِئْسَ الْمِهادُ قَالَ: بِئْسَ الْمَنْزِلُ. وَأَخْرَجَا عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: بِئْسَ مَا شَهِدُوا لِأَنْفُسِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: لَمَّا أَرَدْتُ الْهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَتْ لِي قُرَيْشٌ: يَا صُهَيْبُ قَدِمْتَ إِلَيْنَا وَلَا مَالَ لَكَ، وَتَخْرُجُ أَنْتَ وَمَالُكَ، وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أرأيتم إن دفعت إليكم ما لي تُخَلُّونَ عَنِّي؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِمْ مَالِي فَخَلُّوا عَنِّي، فَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «رَبِحَ الْبَيْعُ صُهَيْبُ» مَرَّتَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ صُهَيْبٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي خُرُوجِ صُهَيْبٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. [سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 210] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّاسَ يَنْقَسِمُونَ إِلَى ثَلَاثِ طَوَائِفَ: مُؤْمِنِينَ، وَكَافِرِينَ، وَمُنَافِقِينَ، أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْكَوْنِ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الثَّلَاثِ الطَّوَائِفِ لفظ الإيمان، لأن أهل الكتاب مؤمنون بِنَبِيِّهِمْ وَكِتَابِهِمْ، وَالْمُنَافِقُ مُؤْمِنٌ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بِقَلْبِهِ. وَالسَّلْمُ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَكَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَهُمَا جَمِيعًا يَقَعَانِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسَالَمَةِ. وَقَالَ أَبُو عمرو بن العلاء: إنه بالفتح

_ (1) . الروم: 41.

لِلْمُسَالَمَةِ، وَبِالْكَسْرِ لِلْإِسْلَامِ. وَأَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السَّلْمُ بِفَتْحِ السِّينِ: الصُّلْحُ، وَتُكْسَرُ وَيُذَكُّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ الْكِنْدِيِّ: دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا ... رَأَيْتُهُمُ تولّوا مدبرينا أَيْ: إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: «السَّلَمِ» بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ. وَقَدْ حَكَى الْبَصْرِيُّونَ فِي سِلْمٍ وسلم وسلّم أنها بمعنى واحد وكَافَّةً حَالٌ مِنَ الْسَلْمِ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَعْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ: لَا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَحَدٌ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّلْمِ شَيْءٌ، بَلِ ادْخُلُوا فِيهَا جَمِيعًا، أَيْ: فِي خِصَالِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَفَفْتُ، أَيْ: مَنَعْتُ، أَيْ: لَا يَمْتَنِعُ مِنْكُمْ أَحَدٌ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْكَفُّ: الْمَنْعُ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الْجَمِيعُ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيْ: جَمِيعًا. وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أَيْ: لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليها الشَّيْطَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خُطُوَاتٍ. قَوْلُهُ: زَلَلْتُمْ أَيْ: تَنَحَّيْتُمْ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَصْلُ الزَّلَلِ فِي الْقَدَمِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الِاعْتِقَادَاتِ والآراء وغير ذلك، يقال: زلّ يزلّ زللا وَزَلُولًا، أَيْ: دَحَضَتْ قَدَمُهُ. وَقُرِئَ: زَلَلْتُمْ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْمَعْنَى: فَإِنْ ضَلَلْتُمْ وَعَرَجْتُمْ عَنِ الْحَقِّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أَيِ: الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ، وَالْبَرَاهِينُ الصَّحِيحَةُ، أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَالِبٌ لَا يُعْجِزُهُ الِانْتِقَامُ مِنْكُمْ حَكِيمٌ لَا يَنْتَقِمُ إِلَّا بِحَقٍّ. قَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ أَيْ: يَنْتَظِرُونَ، يُقَالُ: نَظَرْتُهُ وَانْتَظَرْتُهُ بِمَعْنًى، وَالْمُرَادُ: هَلْ يَنْتَظِرُ التَّارِكُونَ لِلدُّخُولِ فِي السِّلْمِ، وَالظُّلَلُ: جَمْعُ ظُلَّةٍ، وَهِيَ مَا يُظِلُّكَ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَيَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ: فِي ظِلالٍ وَقَرَأَ يَزِيدُ أَيْضًا وَالْمَلَائِكَةِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْغَمَامِ أَوْ عَلَى ظُلَلٍ. قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْمَلَائِكَةِ بِالْخَفْضِ بِمَعْنَى: وَفِي الْمَلَائِكَةِ، قَالَ: وَالرَّفْعُ أَجْوَدُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَالْمَعْنَى: هَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْحِسَابِ وَالْعَذَابِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْإِتْيَانِ رَاجِعًا إِلَى الْجَزَاءِ، فَسُمِّيَ الْجَزَاءُ: إِتْيَانًا، كَمَا سُمِّيَ التَّخْوِيفُ وَالتَّعْذِيبُ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ: إِتْيَانًا، فَقَالَ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ «1» وقال في قصة بني النَّضِيرِ: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا «2» وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْإِتْيَانُ هَذَا، لِأَنَّ أَصْلَهُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ فَمَعْنَى الْآيَةِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ مَعَ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِهِ يَقْصِدُ إِلَى مُحَارَبَتِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: يَأْتِيهِمْ أَمْرُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: فِي ظُلَلٍ بِمَعْنَى بِظُلَلٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: يَأْتِيهِمْ بِبَأْسِهِ فِي ظُلَلٍ. وَالْغَمَامُ: السَّحَابُ الرَّقِيقُ الْأَبْيَضُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَغُمُّ، أَيْ: يَسْتُرُ. وَوَجْهُ إِتْيَانِ الْعَذَابِ فِي الْغَمَامِ- عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ- مَا فِي مَجِيءِ الْخَوْفِ مِنْ مَحَلِّ الْأَمْنِ مِنَ الْفَظَاعَةِ وَعِظَمِ الْمَوْقِعِ، لِأَنَّ الْغَمَامَ مَظِنَّةُ الرَّحْمَةِ، لَا مَظِنَّةَ الْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ عُطِفَ عَلَى يَأْتِيَهِمُ، دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الِانْتِظَارِ، وَإِنَّمَا عُدِلَ إِلَى صِيغَةِ الْمَاضِي دَلَالَةً عَلَى تَحَقُّقِهِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ كَانَ، أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ جِيءَ بِهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، أَيْ: وَفَرَغَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ إِهْلَاكُهُمْ. وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وقضاء الأمر بالمصدر

_ (1) . النحل: 26. (2) . الحشر: 2.

[سورة البقرة (2) : الآيات 211 إلى 213]

عَطْفًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: وَقَضَى الْأُمُورَ بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: تُرْجَعُ الْأُمُورُ عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً قَالَ: يَعْنِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَعَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مُسْتَمْسِكِينَ بِبَعْضِ أَمْرِ التَّوْرَاةِ وَالشَّرَائِعِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِيهِمْ، يَقُولُ: ادْخُلُوا في شرائع دين محمد، ولا تدعوا منه شَيْئًا، وَحَسْبُكُمُ الْإِيمَانُ بِالتَّوْرَاةِ وَمَا فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَابْنِ يَامِينَ، وَأَسَدٍ وَأُسِيدٍ ابْنَيْ كَعْبٍ، وَسَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَيْسِ بْنِ زَيْدٍ، كُلُّهُمْ مِنْ يَهُودَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَوْمُ السَّبْتِ يَوْمٌ كُنَّا نُعَظِّمُهُ فَدَعْنَا فَلَنَسْبِتْ فِيهِ، وَإِنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابُ اللَّهِ فَلْنَقُمْ بِهَا اللَّيْلَ، فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: السلم الطاعة لله، وكافة يَقُولُ: جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: السِّلْمُ: الْإِسْلَامُ، وَالزَّلَلُ: تَرْكُ الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ قَالَ: فَإِنْ ضَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ قِيَامًا شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ يَنْتَظِرُونَ فَصْلَ الْقَضَاءِ وَيَنْزِلُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْكُرْسِيِّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: يَهْبِطُ حِينَ يَهْبِطُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ سَبْعُونَ أَلْفَ حِجَابٍ، مِنْهَا: النُّورُ وَالظُّلْمَةُ وَالْمَاءُ، فَيُصَوِّتُ الْمَاءُ فِي تِلْكَ الظُّلْمَةِ صَوْتًا تَنْخَلِعُ لَهُ الْقُلُوبُ. وَأَخْرَجَ أَبُو يعلى، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: يَأْتِي اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلَلٍ مِنَ السَّحَابِ قَدْ قُطِعَتْ طَاقَاتٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الْغَمَامِ طَاقَاتٍ يَأْتِي اللَّهُ فِيهَا مَحْفُوفَاتٍ بِالْمَلَائِكَةِ» وَذَلِكَ قَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ قال: طاقات والملائكة حوله. وأخرج ابن حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَتَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ يقول: قامت الساعة. [سورة البقرة (2) : الآيات 211 الى 213] سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) الْمَأْمُورُ بِالسُّؤَالِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ كُلُّ فَرْدٍ من السائلين، وهو سؤال

تقريع وتوبيخ. وكَمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهَا عَلَى أنها مفعول بآتى، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، أَيْ: كَمْ آتَيْنَا آتَيْنَاهُمْ، وَقُدِّرَ مُتَأَخِّرًا لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ، وَهِيَ: إِمَّا اسْتِفْهَامِيَّةٌ للتقرير، أو خبرية للتكثير. ومِنْ آيَةٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهِيَ: الْبَرَاهِينُ الَّتِي جَاءَ بِهَا أَنْبِيَاؤُهُمْ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: الْآيَاتُ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى، وَهِيَ التِّسْعُ. وَالْمُرَادُ بِالنِّعْمَةِ هُنَا: مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: النِّعْمَةُ هُنَا: الْإِسْلَامُ، وَالظَّاهِرُ دُخُولُ كُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَوَقَعَ مِنْهُ التَّبْدِيلُ لَهَا، وَعَدَمُ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا- وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنُ السِّيَاقِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ كَوْنُهُمُ السَّبَبَ فِي النُّزُولِ، لِمَا تَقَرَّرَ: مِنْ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ مِنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّخْوِيفِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ. قَوْلُهُ: زُيِّنَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، وَالْمُزَيِّنُ: هُوَ الشَّيْطَانُ، أَوِ الْأَنْفُسُ الْمَجْبُولَةُ عَلَى حُبِّ الْعَاجِلَةِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا: رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ، أَوْ كُلُّ كَافِرٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحَمِيدُ بْنُ قَيْسٍ: زُيِّنَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَعْلُومِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْفَاعِلِ ذِكْرٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: زُيِّنَتْ، وَإِنَّمَا خَصَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ- مَعَ كَوْنِ الدُّنْيَا مُزَيَّنَةً لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ كَمَا وَصَفَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ جَعَلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِيَبْلُوَ الْخَلْقَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا- لِأَنَّ الْكَافِرَ افْتُتِنَ بِهَذَا التَّزْيِينِ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْآخِرَةِ، وَالْمُسْلِمُ لَمْ يُفْتَتَنْ بِهِ، بَلْ أَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ. قَوْلُهُ: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا لِكَوْنِهِمْ فُقَرَاءَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا كَحَظِّ رُؤَسَاءِ الْكُفْرِ وَأَسَاطِينِ الضَّلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَرَضَ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يَكُونُ مَنْ نَالَهُ سَعِيدًا رَابِحًا. وَمَنْ حُرِمَهُ شَقِيًّا خَاسِرًا. وَقَدْ كَانَ غَالِبُ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ ذَاكَ فَقُرَاءَ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْعِبَادَةِ وَأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَعَدَمِ الْتِفَاتِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا. وَحَكَى الْأَخْفَشُ أَنَّهُ يُقَالُ: سَخِرْتُ مِنْهُ وَسَخِرْتُ بِهِ، وَضَحِكْتُ مِنْهُ وَضَحِكْتُ بِهِ، وَهَزَأْتُ مِنْهُ وَهَزَأْتُ بِهِ، وَالِاسْمُ: السُّخْرِيَةُ وَالسُّخْرِيُّ. وَلَمَّا وَقَعَ مِنَ الْكُفَّارِ مَا وَقَعَ مِنَ السُّخْرِيَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالْمُرَادُ بِالْفَوْقِيَّةِ هُنَا: الْعُلُوُّ فِي الدَّرَجَةِ، لِأَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَالْكَفَّارُ فِي النَّارِ- وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْفَوْقِ: الْمَكَانُ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ، وَالنَّارَ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ، أَوْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْغَالِبُونَ فِي الدُّنْيَا، كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَسُقُوطِ الْكُفْرِ، وَقَتْلِ أَهْلِهِ، وَأَسْرِهِمْ وَتَشْرِيدِهِمْ، وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ لَوْلَا التَّقْيِيدُ بِكَوْنِهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فيها إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَيَرْزُقُ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ، وَيَجْعَلُ مَا يُعْطِيهِمْ مِنَ الرِّزْقِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَيْ: بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُوَسِّعُ عَلَى بَعْضِ عِبَادِهِ فِي الرِّزْقِ، كَمَا وَسَّعَ عَلَى أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ، وَلَيْسَ فِي التَّوْسِعَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فَقَدْ رَضِيَ عَنْهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِغَيْرِ حِسَابٍ مِنَ الْمَرْزُوقِينَ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «1» . قَوْلُهُ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ: كَانُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ أَعْنِي: قَوْلَهَ: فَاخْتَلَفُوا، قراءة ابن مسعود، فإنه قرأ:

_ (1) . الطلاق: 3.

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ. وَاخْتُلِفَ فِي: النَّاسِ، الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمْ بَنُو آدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ نَسَمًا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَقِيلَ: آدَمُ وَحْدَهُ، وَسُمِّي: نَاسًا، لِأَنَّهُ أَصْلُ النَّسْلِ وَقِيلَ: آدَمُ وَحَوَّاءُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْقُرُونُ الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ نُوحٌ وَمَنْ فِي سَفِينَتِهِ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً كُلُّهُمْ كُفَّارٌ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: الْإِخْبَارُ عَنِ النَّاسِ الَّذِينَ هُمُ الْجِنْسُ كُلُّهُ، أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي خُلُوِّهِمْ عَنِ الشَّرَائِعِ، وَجَهْلِهِمْ بِالْحَقَائِقِ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ. وَالْأُمَّةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَمَمْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: قَصَدْتُهُ، أَيْ: مَقْصِدُهُمْ وَاحِدٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ. قَوْلُهُ: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ قِيلَ: جُمْلَتُهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَالرُّسُلُ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَقَوْلُهُ: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ بِالنَّصْبِ عَلَى الحال. قوله: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ أَيِ: الْجِنْسَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ: التَّوْرَاةُ. وَقَوْلُهُ: لِيَحْكُمَ مُسْنَدٌ إِلَى الْكِتَابِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَجَازٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ «1» وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى لِيَحْكُمَ كُلُّ نَبِيٍّ بِكِتَابِهِ وَقِيلَ: لِيَحْكُمَ اللَّهُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ الْأُولَى، رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْكِتَابِ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَنْزِلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أَيْ: أُوتُوا الْكِتَابَ، أَوْ أُوتُوا الْحَقَّ، أَوْ أُوتُوا النَّبِيَّ: أَيْ: أُعْطَوْا عِلْمَهُ. وَقَوْلُهُ: بَغْياً بَيْنَهُمْ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ: لَمْ يَخْتَلِفُوا إِلَّا لِلْبَغْيِ، أَيِ: الْحَسَدِ وَالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى السَّفَهِ فِي فِعْلِهِمْ، وَالْقَبِيحِ الَّذِي وَقَعُوا فِيهِ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا نُزُولَ الْكِتَابِ سَبَبًا فِي شِدَّةِ الْخِلَافِ. وَقَوْلُهُ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ أَيْ: فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى الْحَقِّ، وَذَلِكَ بِمَا بَيَّنَهُ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ مِنِ اخْتِلَافِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلتَّصْدِيقِ، بِجَمِيعِ الْكُتُبِ بِخِلَافِ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَذَّبَ كِتَابَ بَعْضٍ وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ هَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ مِنَ الْقِبْلَةِ وَقِيلَ: هَدَاهُمْ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقِيلَ: هَدَاهُمْ لِاعْتِقَادِ الْحَقِّ فِي عِيسَى بَعْدَ أَنْ كَذَّبَتْهُ الْيَهُودُ وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى رَبًّا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ: الْإِسْلَامُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ فِي الْآيَةِ قَلْبًا، وَتَقْدِيرُهُ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْحَقِّ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: بِعِلْمِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ، وَالْمَعْنَى: بِأَمْرِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَمَا لَمْ يَذْكُرْ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ قَالَ: يُكَفِّرُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: آتَاهُمُ اللَّهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ: عَصَا مُوسَى، وَيَدُهُ، وَأَقْطَعَهُمُ الْبَحْرَ، وَأَغْرَقَ عدوّهم وهم ينظرون، وظلّل عليهم الْغَمَامِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ يَقُولُ: مَنْ يَكْفُرُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا قَالَ: الْكُفَّارُ يَبْتَغُونَ الدُّنْيَا وَيَطْلُبُونَهَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي طلبهم

_ (1) . الجاثية: 29.

الآخرة. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا أَحْسَبُهُ إِلَّا عَنْ عِكْرِمَةَ. قَالَ: قَالُوا لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لا تبعه سَادَاتُنَا وَأَشْرَافُنَا، وَاللَّهِ مَا اتَّبَعَهُ إِلَّا أَهْلُ الْحَاجَةِ، مِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَقُولُونَ: مَا هَؤُلَاءِ عَلَى شَيْءٍ، اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيًّا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ هناكم التَّفَاضُلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: فَوْقَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ قَالَ: تَفْسِيرُهَا: لَيْسَ عَلَى اللَّهِ رَقِيبٌ وَلَا مَنْ يُحَاسِبُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا يُحَاسَبُ الرَّبُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، قَالَ: عَلَى الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ، فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً حَيْثُ عُرِضُوا عَلَى آدَمَ، فَفَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وأقرّوا بِالْعُبُودِيَّةِ، وَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً مُسْلِمِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا من بعد آدَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ بَعْدَ الاختلاف، وما اختلف الَّذِينَ أُوتُوهُ: يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْعِلْمَ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، يَقُولُ: بَغْيًا عَلَى الدُّنْيَا وَطَلَبِ مُلْكِهَا وَزُخْرُفِهَا أَيُّهُمْ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَالْمَهَابَةُ فِي النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً قَالَ: كُفَّارًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نحن الأولون والآخرون، الأوّلون يوم القيامة، وأوّل الناس دخولا، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ بِدُونِ ذِكْرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ قَالَ: اخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ: فَأَخَذَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَالنَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِبْلَةِ: فَاسْتَقْبَلَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ، وَالْيَهُودُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهَدَى أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْقِبْلَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ: فَمِنْهُمْ: مَنْ يَرْكَعُ وَلَا يَسْجُدُ، وَمِنْهُمْ: مَنْ يَسْجُدُ وَلَا يَرْكَعُ، وَمِنْهُمْ: مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَتَكَلَّمُ، وَمِنْهُمْ: مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَمْشِي، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِي الصِّيَامِ، فَمِنْهُمْ: مَنْ يَصُومُ النَّهَارَ، وَمِنْهُمْ: مَنْ يَصُومُ مِنْ بَعْدِ الطَّعَامِ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ: فَقَالَتِ الْيَهُودُ: كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: كَانَ نَصْرَانِيًّا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ حَنِيفًا مُسْلِمًا، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى فَكَذَّبَتْ بِهِ الْيَهُودُ، وَقَالُوا لِأُمِّهِ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى إِلَهًا وَوَلَدًا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ رُوحَهُ وَكِلِمَتَهُ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْحَقِّ من ذلك.

[سورة البقرة (2) : آية 214]

[سورة البقرة (2) : آية 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى: بَلْ. وَحَكَى بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ أَنَّهَا قَدْ تَجِيءُ بِمَثَابَةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ يُبْتَدَأُ بِهَا الْكَلَامُ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ هُنَا: التَّقْرِيرُ وَالْإِنْكَارُ، أَيْ: أَحَسِبْتُمْ دُخُولَكُمُ الْجَنَّةَ وَاقِعًا، وَلَمْ تُمْتَحَنُوا بِمِثْلِ مَا امْتُحِنَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَصْبِرُوا كَمَا صَبَرُوا، ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ التَّسْلِيَةَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْأُمَمِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَقْوِيَةً لِقُلُوبِهِمْ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ «1» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الم- أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ «2» وَقَوْلُهُ: مَسَّتْهُمُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا والْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا، وَالزَّلْزَلَةُ: شِدَّةُ التَّحْرِيكِ يَكُونُ فِي الْأَشْخَاصِ وَفِي الْأَحْوَالِ، يُقَالُ: زَلْزَلَ اللَّهُ الْأَرْضَ زَلْزَلَةً وَزِلْزَالًا بِالْكَسْرِ، فَتَزَلْزَلَتْ: إِذَا تَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ فَمَعْنَى زُلْزِلُوا: خُوِّفُوا وَأُزْعِجُوا إِزْعَاجًا شَدِيدًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الزَّلْزَلَةِ: نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانِهِ، فَإِذَا قُلْتَ: زَلْزَلْتُهُ، فَمَعْنَاهُ: كَرَّرْتُ زَلَلَهُ مِنْ مَكَانِهِ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَقُولَ أَيِ: اسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى غَايَةٍ، هِيَ: قَوْلُ الرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ وَالرَّسُولُ هُنَا: قيل: هو محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل: هو شعياء وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى أُمَّتِهِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْأَعْرَجُ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِالرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَقُولَ وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ: بِالنَّصْبِ، فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ لِحَالٍ مَاضِيَةٍ، وَالنَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنْ عَلَى أَنَّهُ غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَزُلْزِلُوا وَيَقُولُ الرَّسُولُ بِالْوَاوِ بَدَلَ حَتَّى، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الرَّسُولَ وَمَنْ مَعَهُ بَلَغَ بِهِمُ الضَّجَرُ إِلَى أَنْ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ الْمُقْتَضِيَةَ، لِطَلَبِ النَّصْرِ، وَاسْتِبْطَاءِ حُصُولِهِ، وَاسْتِطَالَةِ تَأَخُّرِهِ، فَبَشَّرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: حَتَّى يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا: مَتَّى نَصْرُ اللَّهِ، وَيَقُولُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، وَلَا مُلْجِئَ لِهَذَا التَّكَلُّفِ، لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ وَمَنْ معه: مَتى نَصْرُ اللَّهِ ليس فيها إِلَّا اسْتِعْجَالُ النَّصْرِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا زَعَمُوهُ مِنَ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ الْمُتَعَسِّفِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي يَوْمِ الأحزاب، أصاب النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَأَصْحَابَهُ بَلَاءٌ وَحَصْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ، وَأَنَّهُ مُبْتَلِيهِمْ فِيهَا، وَأَخْبَرَهُمْ: أَنَّهُ هَكَذَا فَعَلَ بِأَنْبِيَائِهِ وَصَفْوَتِهِ لِتَطِيبَ أَنْفُسُهُمْ فَقَالَ: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ فَالْبَأْسَاءُ: الْفِتَنُ وَالضَّرَّاءُ: السَّقَمُ، وَزُلْزِلُوا بِالْفِتَنِ وَأَذَى النَّاسِ إِيَّاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا قَالَ: أَصَابَهُمْ هَذَا يَوْمَ الْأَحْزَابِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «3» وَلَعَلَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: يَعْنِي قَائِلَ الْمُنَافِقِينَ كَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً.

_ (1) . آل عمران: 142. (2) . العنكبوت: 1- 2. (3) . الأحزاب: 12. [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 215 إلى 216]

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 215 الى 216] يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) السَّائِلُونَ هُنَا: هُمُ المؤمنون، سألوا عن الشيء الذين يُنْفِقُونَهُ مَا هُوَ؟ فَأُجِيبُوا بِبَيَانِ الْمَصْرِفِ الَّذِي يَصْرِفُونَ فِيهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ الْأَوْلَى بِالْقَصْدِ، لأن الشيء لا يعتدّ به إِذَا وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ وَصَادَفَ مَصْرِفَهُ وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ بَيَانَ مَا يُنْفِقُونَهُ وَهُوَ كُلُّ خَيْرٍ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ وُجُوهِ الْبِرِّ الَّتِي يُنْفِقُونَ فِيهَا، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْأَقْرَبِينَ، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينَ، وَابْنِ السَّبِيلِ. وَقَوْلُهُ: كُتِبَ أَيْ: فُرِضَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُ. بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا: أَيْ: فَرْضُ الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ، مِنْ جُمْلَةِ مَا امْتُحِنُوا بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْقِتَالِ: قِتَالُ الْكُفَّارِ. وَالْكُرْهُ بِالضَّمِّ: الْمَشَقَّةُ، وَبِالْفَتْحِ: مَا أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ الضَّمُّ فِي مَعْنَى الْفَتْحِ، فَيَكُونَانِ لُغَتَيْنِ، يُقَالُ: كَرِهْتُ الشَّيْءَ كُرْهًا، وَكَرْهًا، وَكَرَاهَةً، وَكَرَاهِيَةً، وَأَكْرَهْتُهُ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْجِهَادُ كُرْهًا: لِأَنَّ فِيهِ إِخْرَاجَ الْمَالِ، وَمُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ، وَالتَّعَرُّضَ لِذَهَابِ النَّفْسِ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْمَصْدَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كُرْهٌ مُبَالَغَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَكْرُوهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمُ: الدِّرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ. وَقَوْلُهُ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً قِيلَ: عَسَى هُنَا: بِمَعْنَى قَدْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَصَمِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عَسَى مِنَ اللَّهِ إِيجَابٌ، وَالْمَعْنَى: عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا الْجِهَادَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَرُبَّمَا تَغْلِبُونَ، وَتَظْفَرُونَ، وَتَغْنَمُونَ، وَتُؤْجَرُونَ، وَمَنْ مَاتَ مَاتَ شَهِيدًا، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا الدَّعَةَ وَتَرْكَ الْقِتَالِ وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، فَرُبَّمَا يَتَقَوَّى عَلَيْكُمُ الْعَدُوُّ فَيَغْلِبُكُمْ، وَيَقْصِدُكُمْ إِلَى عُقْرِ دِيَارِكُمْ، فَيَحِلُّ بِكُمْ أَشَدُّ مِمَّا تَخَافُونَهُ مِنَ الْجِهَادِ الَّذِي كَرِهْتُمْ، مَعَ مَا يَفُوتُكُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ وَفَلَاحُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عن السدي في قوله: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قَالَ: يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ تَكُنْ زَكَاةٌ، وَهِيَ النَّفَقَةُ يُنْفِقُهَا الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، وَالصَّدَقَةُ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَنَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلَ الْمُؤْمِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: أين يضعون أموالهم؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ الْآيَةَ، فَذَلِكَ النَّفَقَةُ فِي التَّطَوُّعِ وَالزَّكَاةِ سَوَاءٌ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا نُنْفِقُ مِنْ أَمْوَالِنَا، وَأَيْنَ نَضَعُهَا؟ فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ بِالتَّوْحِيدِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنْ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ نَزَلَتْ سَائِرُ الْفَرَائِضِ، وَأُذِنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ، فَنَزَلَتْ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ يَعْنِي: فُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَأُذِنَ لَهُمْ بَعْدَ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ يَعْنِي: الْقِتَالَ: وَهُوَ مَشَقَّةٌ عَلَيْكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً يعني:

_ (1) . الأحزاب: 10- 12.

[سورة البقرة (2) : الآيات 217 إلى 218]

الْجِهَادَ: قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ عَاقِبَتَهُ فَتْحًا، وَغَنِيمَةً، وَشَهَادَةً وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً يَعْنِي: الْقُعُودَ عَنِ الْجِهَادِ وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ فَيَجْعَلُ اللَّهُ عَاقِبَتَهُ شَرًّا، فَلَا تُصِيبُوا ظَفَرًا وَلَا غَنِيمَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ مَا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَوَجَبَ الْغَزْوُ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَجْلِهَا؟ قَالَ: لَا، كُتِبَ عَلَى أُولَئِكَ حِينَئِذٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْجِهَادُ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ غَزَا أَوْ قَعَدَ، فَالْقَاعِدُ إِنِ اسْتُعِينَ بِهِ أَعَانَ، وَإِنِ اسْتُغِيثَ بِهِ أَغَاثَ، وَإِنِ اسْتُنْفِرَ نَفَرَ، وَإِنِ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ قَعَدَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ قَالَ: نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا «1» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مَوْصُولًا عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ قَالَ: عَسَى مِنَ اللَّهِ: وَاجِبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْجِهَادِ وَوُجُوبِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لِبَسْطِهَا. [سورة البقرة (2) : الآيات 217 الى 218] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) قَوْلُهُ: قِتالٍ فِيهِ هو بدل اشتمال، قاله سيبويه. ووجه أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الشَّهْرِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْقِتَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَمَا كَانَ قَيْسٌ هَلْكُهُ هَلْكَ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تهدّما فقوله: هلكه، بدل اشْتِمَالٌ مِنْ قَيْسٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَخْفُوضٌ، يَعْنِي قَوْلُهُ: قِتالٍ فِيهِ عَلَى نِيَّةٍ عَنْ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَخْفُوضٌ عَلَى الْجِوَارِ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ الشَّيْءُ عَلَى الْجِوَارِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي شَيْءٍ شَاذٍّ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: هَذَا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ. وَتَابَعَ النَّحَّاسُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَخْطِئَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يَجُوزُ إِضْمَارُ عَنْ، وَالْقَوْلُ فِيهِ: إِنَّهُ بَدَلٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وعكرمة: ويسئلونك عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَعَنْ قِتَالٍ فِيهِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: قِتَالٌ فِيهِ بِالرَّفْعِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ غَامِضٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ جَائِزٌ قِتَالٌ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَيِ: الْقِتَالُ فِيهِ أَمْرٌ كَبِيرٌ مُسْتَنْكَرٌ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ: الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَسْفِكُ فِيهِ دَمًا وَلَا تُغِيرُ عَلَى عَدُوٍّ، وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم،

_ (1) . البقرة: 285.

وَرَجَبٌ، ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ. وَقَوْلُهُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مُبْتَدَأٌ. وَقَوْلُهُ: وَكُفْرٌ بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى صَدٍّ. وَقَوْلُهُ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ عَطْفٌ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ مَعْطُوفٌ أَيْضًا عَلَى صَدٍّ. وَقَوْلُهُ: أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ خَبَرُ صَدٌّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، أَيِ: الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْكُفْرُ بِهِ، وَالصَّدُّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِ الْحَرَمِ مِنْهُ: أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: أَعْظَمُ إِثْمًا، وَأَشَدُّ ذَنْبًا مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، كَذَا قَالَ الْمُبَرِّدَ وَغَيْرُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ، وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الْحَجِّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَصَدٌّ عَطْفٌ عَلَى كَبِيرٌ، وَالْمَسْجِدُ: عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُنْتَسِقًا، مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْفَصِلٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَسُوقُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُفْرٌ بِهِ أَيْ: بِاللَّهِ، عَطْفٌ أَيْضًا عَلَى كَبِيرٌ، وَيَجِيءُ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ فَسَادُهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّكُمْ يَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ تَسْتَعْظِمُونَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ مِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِمَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ، وَمِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَمِنَ الصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمِنْ إِخْرَاجِ أَهْلِ الْحَرَمِ مِنْهُ، أَكْبَرُ جُرْمًا عِنْدَ اللَّهِ. وَالسَّبَبُ يشهد لهذا؟؟؟، وَيُفِيدُ أَنَّهُ الْمُرَادُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَإِنَّ السُّؤَالَ مِنْهُمُ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ سُؤَالُ إِنْكَارٍ لِمَا وَقَعَ مِنَ السَّرِيَّةِ الَّتِي بعثها النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ هُنَا: الْكُفْرُ، أَيْ: كُفْرِكُمْ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ الْوَاقِعِ مِنَ السَّرِيَّةِ الَّتِي بعثها النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ: الْإِخْرَاجُ لِأَهْلِ الْحَرَمِ مِنْهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ هُنَا: فِتْنَتُهُمْ عَنْ دِينِهِمْ حَتَّى يَهْلَكُوا، أَيْ: فِتْنَةِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ نَفْسِ الْفِتْنَةِ الَّتِي الْكُفَّارُ عَلَيْهَا. وَهَذَا أَرْجَحُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِخْرَاجَ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا، وَأَنَّهُمَا مَعَ الصَّدِّ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَقَوْلُهُ: وَلا يَزالُونَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَا يَزَالُونَ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى قِتَالِكُمْ وَعَدَاوَتِكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ إن استطاعوا ذلك وتهيّأ لهم منكم، والتقيد بِهَذَا الشَّرْطِ مُشْعِرٌ بِاسْتِبْعَادِ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ حَذَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِالْكُفَّارِ، وَالدُّخُولِ فِيمَا يُرِيدُونَهُ مِنْ رَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ لِمَا يُرِيدُونَهُ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَالرِّدَّةُ: الرُّجُوعُ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ يُفِيدُ أَنَّ عَمَلَ مَنِ ارْتَدَّ إِنَّمَا يَبْطُلُ إِذَا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ. وَحَبِطَ: مَعْنَاهُ بَطَلَ وَفَسَدَ، وَمِنْهُ: الْحَبْطُ، وَهُوَ فَسَادٌ يَلْحَقُ الْمَوَاشِيَ فِي بُطُونِهَا مِنْ كَثْرَةِ أَكْلِهَا لِلْكَلَأِ فَتَنْتَفِخُ أَجْوَافُهَا، وَرُبَّمَا تَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَهْدِيدٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَثْبُتُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا يَظْفَرُ بِحَظٍّ مِنْ حُظُوظِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَنَالُ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي يُوجِبُهُ الْإِسْلَامُ وَيَسْتَحِقُّهُ أَهْلُهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الرِّدَّةِ: هَلْ تُحْبِطُ الْعَمَلَ بِمُجَرَّدِهَا؟ أَمْ لَا تُحْبِطُ إِلَّا بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْوَاجِبُ حَمْلُ مَا أَطْلَقَتْهُ الْآيَاتُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّقْيِيدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْخُلُودِ. قوله: هاجَرُوا الْهِجْرَةُ مَعْنَاهَا الِانْتِقَالُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى

مَوْضِعٍ، وَتَرْكُ الْأَوَّلِ لِإِيثَارِ الثَّانِي، وَالْهَجْرُ: ضِدُّ الْوَصْلِ، وَالتَّهَاجُرُ: التَّقَاطُعُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالْمُجَاهَدَةُ: اسْتِخْرَاجُ الْجُهْدِ، جَهَدَ مُجَاهَدَةً وَجِهَادًا، وَالْجِهَادُ وَالتَّجَاهُدُ: بَذْلُ الْوُسْعِ. وَقَوْلُهُ: يَرْجُونَ مَعْنَاهُ: يَطْمَعُونَ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَرْجُونَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَادِحَةِ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَلَوْ بَلَغَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كُلَّ مَبْلَغٍ. وَالرَّجَاءُ: الأمل، يقال: رجوت فلانا، أرجو رَجَاءً وَرَجَاوَةً. وَقَدْ يَكُونُ الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «1» أَيْ: لَا تَخَافُونَ عَظَمَةَ اللَّهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ بَعَثَ رَهْطًا، وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، أَوْ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْطَلِقَ بَكَى شَوْقًا وَصَبَابَةً إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ فَبَعَثَ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: لَا تُكْرِهَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى الْمَسِيرِ مَعَكَ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ اسْتَرْجَعَ وَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَخَبَّرَهُمُ الْخَبَرَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، فَرَجَعَ رَجُلَانِ، وَمَضَى بَقِيَّتُهُمْ، فَلَقُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيَّ فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ أَوْ جُمَادَى، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ الْآيَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَصَابُوا وِزْرًا فَلَيْسَ لَهُمْ أَجْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا إلى آخر الآية. وأخرج ابن الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ هُوَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدُّوهُ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَعَابَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِتَالَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ. فَقَالَ اللَّهُ: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقِتَالِ فِيهِ، وأن محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً، فَلَقُوا عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنَ الطَّائِفِ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَإِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ جُمَادَى، وَكَانَتْ أَوَّلَ رَجَبٍ وَلَمْ يَشْعُرُوا، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَرْسَلُوا يُعَيِّرُونَهُ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ مُصَابُ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ. وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي تَعْيِينِ السَّبَبِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: أُحِلَّ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي بَرَاءَةٌ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ مَنْسُوخٌ، وَلَا بَأْسَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ في براءة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «3» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ قَالَ: الشِّرْكُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ قَالَ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قوله: أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ قَالَ: هَؤُلَاءِ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَهْلَ رَجَاءٍ، إِنَّهُ مَنْ رَجَا طَلَبَ،

_ (1) . نوح: 13. (2) . التوبة: 36. (3) . التوبة: 5.

[سورة البقرة (2) : الآيات 219 إلى 220]

وَمَنْ خَافَ هَرَبَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. [سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) السائلون في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْخَمْرُ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَمَرَ إِذَا سَتَرَ، وَمِنْهُ: خِمَارُ الْمَرْأَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ غَطَّى شَيْئًا فَقَدْ خَمَرَهُ، وَمِنْهُ «خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ» وَسُمِّي خَمْرًا: لِأَنَّهُ يَخْمُرُ الْعَقْلَ، أَيْ: يُغَطِّيهِ وَيَسْتُرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ يُقَالُ لَهُ: الْخَمْرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، لِأَنَّهُ يُغَطِّي مَا تَحْتَهُ وَيَسْتُرُهُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَخْمَرَتِ الْأَرْضُ: كَثُرَ خَمْرُهَا، قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا ... فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمْرَ الطَّرِيقِ أَيْ: جَاوَزْتُمَا الْوَهْدَ وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا: لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أُدْرِكَتْ، كَمَا يُقَالُ: قَدِ اخْتَمَرَ الْعَجِينُ، أَيْ: بَلَغَ إِدْرَاكُهُ، وَخُمِّرَ الرَّأْيُ: أَيْ: تُرِكَ حَتَّى تَبَيَّنَ فِيهِ الْوَجْهُ وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا: لِأَنَّهَا تُخَالِطُ الْعَقْلَ، مِنَ الْمُخَامَرَةِ وَهِيَ الْمُخَالَطَةُ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَمْرِ، لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أُدْرِكَتْ ثُمَّ خَالَطَتِ الْعَقْلَ فَخَمَّرَتْهُ، أَيْ: سَتَرَتْهُ، وَالْخَمْرُ: مَاءُ الْعِنَبِ الَّذِي غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، وَمَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ عِكْرِمَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ فَهُوَ حَلَالٌ، أَيْ: مَا دُونُ الْمُسْكِرِ فِيهِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى حَلِّ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ. وَقَدْ أَطَلْتُ الْكَلَامَ عَلَى الْخَمْرِ فِي شَرْحِي لِلْمُنْتَقَى فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. وَالْمَيْسِرُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْيُسْرِ، وَهُوَ وُجُوبُ الشَّيْءِ لِصَاحِبِهِ، يُقَالُ يَسُرَ لِي كَذَا: إِذَا وَجَبَ فَهُوَ يَيْسِرُ يُسْرًا وَمَيْسَرًا، وَالْيَاسِرُ اللَّاعِبُ بِالْقِدَاحِ. وَقَدْ يَسُرَ يَيْسُرُ. قَالَ الشَّاعِرُ: فَأَعِنْهُمُ وَايْسُرْ كَمَا يَسَرُوا بِهِ ... وَإِذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَيْسِرُ: الْجَزُورُ الَّتِي كَانُوا يَتَقَامَرُونَ عَلَيْهِ، سُمِّيَ مَيْسِرًا: لِأَنَّهُ يُجَزَّأُ أَجْزَاءً، فَكَأَنَّهُ مَوْضِعُ التَّجْزِئَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ جَزَّأْتُهُ فَقَدْ يَسَّرْتُهُ، وَالْيَاسِرُ: الْجَازِرُ. قَالَ: وَهَذَا الْأَصْلُ فِي الْيَاسِرِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلضَّارِبِينَ بِالْقِدَاحِ وَالْمُتَقَامِرِينَ عَلَى الْجَزُورِ: يَاسِرُونَ، لِأَنَّهُمْ جَازِرُونَ، إِذْ كَانُوا سَبَبًا لِذَلِكَ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَيَسَرَ الْقَوْمُ الْجَزُورَ: إِذَا اجْتَزَرُوهَا، وَاقْتَسَمُوا أَعْضَاءَهَا ثُمَّ قَالَ: وَيُقَالُ يَسَرَ الْقَوْمُ: إِذَا قَامَرُوا، وَرَجُلٌ مَيْسِرٌ وَيَاسِرٌ بِمَعْنًى، وَالْجَمْعُ أَيْسَارٌ. قَالَ النَّابِغَةُ: إِنِّي أُتَمِّمُ أيساري وأمنحهم ... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الْأُدُمَا وَالْمُرَادُ بِالْمَيْسِرِ فِي الْآيَةِ: قِمَارُ الْعَرَبِ بِالْأَزْلَامِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ:

كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ قِمَارٌ مِنْ نَرْدٍ أَوْ شِطْرَنْجٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَهُوَ الْمَيْسِرُ، حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ وَالْكِعَابِ، إِلَّا مَا أُبِيحَ مِنَ الرِّهَانِ فِي الْخَيْلِ وَالْقُرْعَةِ فِي إِفْرَازِ الْحُقُوقِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَيْسِرُ مَيْسِرَانِ: مَيْسِرُ اللَّهْوِ، وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ، فَمِنْ مَيْسِرِ اللَّهْوِ: النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ وَالْمَلَاهِي كُلُّهَا، وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ: مَا يَتَخَاطَرُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا قُومِرَ بِهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ مُطُوَّلًا فِي هَذَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ عند وقوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. قَوْلُهُ: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ يَعْنِي: الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ، فَإِثْمُ الْخَمْرِ: أَيْ: إِثْمُ تَعَاطِيهَا، يَنْشَأُ مِنْ فَسَادِ عَقْلِ مُسْتَعْمِلِهَا، فَيَصْدُرُ عَنْهُ مَا يَصْدُرُ عَنْ فَاسِدِ الْعَقْلِ مِنَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ، وَقَوْلِ الْفُحْشِ وَالزُّورِ، وَتَعْطِيلِ الصَّلَوَاتِ، وَسَائِرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِثْمُ الْمَيْسِرِ: أَيْ: إِثْمُ تعاطيه، فما ينشأ عن ذلك من الفقر وذهاب المال في غير طائل، والعداوة وإيحاش الصُّدُورِ. وَأَمَّا مَنَافِعُ الْخَمْرِ: فَرِبْحُ التِّجَارَةِ فِيهَا وَقِيلَ: مَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنَ الطَّرَبِ وَالنَّشَاطِ وَقُوَّةِ الْقَلْبِ وَثَبَاتِ الْجَنَانِ، وَإِصْلَاحِ الْمَعِدَةِ، وَقُوَّةِ الْبَاءَةِ وَقَدْ أَشَارَ شُعَرَاءُ الْعَرَبِ إِلَى شَيْءٍ من ذلك قال: فإذا شَرِبْتُ فَإِنَّنِي ... رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي ... رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالْبَعِيرِ وَقَالَ آخَرُ: وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ وَقَالَ مَنْ أَشَارَ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ: رَأَيْتُ الْخَمْرَ صَالِحَةً وَفِيهَا ... خِصَالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الْحَلِيمَا فَلَا- وَاللَّهِ- أَشْرَبُهَا صَحِيحَا ... وَلَا أَشْفِي بِهَا أَبَدًا سَقِيمَا وَلَا أُعْطِي بِهَا ثَمَنًا حَيَاتِي ... وَلَا أَدْعُو لَهَا أَبَدًا نَدِيمَا وَمَنَافِعُ الْمَيْسِرِ: مَصِيرُ الشَّيْءِ إِلَى الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ تَعَبٍ وَلَا كَدٍّ، وَمَا يَحْصُلُ مِنَ السُّرُورِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ عِنْدَ أَنْ يَصِيرَ لَهُ مِنْهَا سَهْمٌ صَالِحٌ. وَسِهَامُ الْمَيْسِرِ أَحَدَ عَشَرَ، مِنْهَا سَبْعَةٌ لَهَا فَرُوضٌ عَلَى عَدَدِ مَا فِيهَا مِنَ الْحُظُوظِ. الْأَوَّلُ: الْفَذُّ، بِفَتْحِ الْفَاءِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَفِيهِ عَلَامَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَهُ نَصِيبٌ، وَعَلَيْهِ نَصِيبٌ. الثَّانِي: التَّوْأَمُ، بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَفِيهِ عَلَامَتَانِ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ نَصِيبَانِ. الثَّالِثُ: الرَّقِيبُ، وَفِيهِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَنْصِبَاءَ. الرَّابِعُ: الْحِلْسُ بِمُهْمَلَتَيْنِ، الْأُولَى مَكْسُورَةٌ وَاللَّامُ سَاكِنَةٌ، وَفِيهِ أَرْبَعُ عَلَامَاتٍ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَنْصِبَاءَ. الْخَامِسُ: النَّافِرُ، بِالنُّونِ وَالْفَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَيُقَالُ: النَّافِسُ، بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مَكَانَ الرَّاءِ، وَفِيهِ خَمْسُ عَلَامَاتٍ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ خَمْسَةُ أَنْصِبَاءَ. السَّادِسُ: الْمُسْبَلُ، بِضَمِّ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْمُهْمِلَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِيهِ سِتُّ عَلَامَاتٍ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ سِتَّةُ أَنْصِبَاءَ. السَّابِعُ. الْمُعَلَّى، بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ، وَفِيهِ سَبْعُ عَلَامَاتٍ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ سَبْعَةُ أَنْصِبَاءَ، وَهُوَ أَكْثَرُ السِّهَامِ حَظًّا، وَأَعْلَاهَا قَدْرًا، فَجُمْلَةُ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَرْدًا. وَالْجَزُورُ تُجْعَلُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا، هَكَذَا قَالَ الأصمعي،

وَبَقِيَ مِنَ السِّهَامِ أَرْبَعَةٌ أَغْفَالًا لَا فُرُوضَ لَهَا، وَهِيَ: الْمَنِيحُ، بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَكَسْرِ النُّونِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَبَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ. وَالسَّفِيحُ، بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، بَعْدَهَا مهملة. والوغد، بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، بَعْدَهَا مُهْمَلَةً، وَالضَّعْفُ بِالْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ ثُمَّ فَاءٌ، وَإِنَّمَا أَدْخَلُوا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي لَا فُرُوضَ لَهَا بَيْنَ ذَوَاتِ الْفُرُوضِ لِتَكْثُرَ السِّهَامُ عَلَى الَّذِي يُجِيلُهَا وَيَضْرِبُ بِهَا فَلَا يَجِدُ إِلَى الْمَيْلِ مَعَ أَحَدٍ سَبِيلًا. وَقَدْ كَانَ الْمُجِيلُ لِلسِّهَامِ يَلْتَحِفُ بِثَوْبٍ، وَيَحْثُو عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الرِّبَابَةِ، بِكَسْرِ الْمُهْمِلَةِ، وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ الْخَرِيطَةُ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا السِّهَامُ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا بِاسْمِ كُلِّ رَجُلٍ سَهْمًا، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمٌ لَهُ فَرْضٌ أَخَذَ فَرْضَهُ، وَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمٌ لَا فَرْضَ لَهُ، لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا وَغُرِّمَ قِيمَةَ الْجَزُورِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءَ إِلَى الْفُقَرَاءِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الْأَصْمَعِيَّ أَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الْجَزُورَ تُقَسَّمُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَقَالَ: إِنَّمَا تُقَسَّمُ عَلَى عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: بِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا نَفْعٌ فَالْإِثْمُ الَّذِي يَلْحَقُ مُتَعَاطِيَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ هَذَا النَّفْعِ، لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ يُسَاوِي فَسَادَ الْعَقْلِ الْحَاصِلَ بِالْخَمْرِ، فَإِنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الشُّرُورِ مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحَصْرُ وَكَذَلِكَ لَا خَيْرَ فِي الْمَيْسِرِ يُسَاوِي مَا فِيهَا مِنَ الْمُخَاطَرَةِ بِالْمَالِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْفَقْرِ، وَاسْتِجْلَابِ الْعَدَاوَاتِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَهَتْكِ الْحُرَمِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: كَثِيرٌ بِالْمُثَلَّثَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَإِثْمُهُمَا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمَا. قَوْلُهُ: قُلِ الْعَفْوَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ أبو عمرة وَحْدَهُ: بِالرَّفْعِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَبِالرَّفْعِ قَرَأَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، قَالَ النَّحَّاسُ: إِنْ جُعِلَتْ ذَا بِمَعْنَى: الَّذِي، كَانَ الِاخْتِيَارُ الرَّفْعَ عَلَى مَعْنَى الَّذِي يُنْفِقُونَ هُوَ الْعَفْوُ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَا وَذَا شَيْئًا وَاحِدًا كَانَ الِاخْتِيَارُ النصب على المعنى: قُلْ يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ، وَالْعَفْوُ: مَا سَهُلَ وَتَيَسَّرَ وَلَمْ يَشُقُّ عَلَى الْقَلْبِ وَالْمَعْنَى: أَنْفِقُوا مَا فَضَلَ عَنْ حَوَائِجِكُمْ وَلَمْ تُجْهِدُوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ وَقِيلَ: هُوَ مَا فَضُلَ عَنْ نَفَقَةِ الْعِيَالِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ نَفَقَاتُ التَّطَوُّعِ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَفِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ. قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي: في أمر النفقة. وقوله: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تَتَفَكَّرُونَ أَيْ: تتفكرون في أمرهما، فتحسبون مِنْ أَمْوَالِكُمْ مَا تُصْلِحُونَ بِهِ مَعَايِشَ دُنْيَاكُمْ، وَتُنْفِقُونَ الْبَاقِيَ فِي الْوُجُوهِ الْمُقَرِّبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَزَوَالِهَا، وَفِي الْآخِرَةِ وَبَقَائِهَا، فَتَرْغَبُونَ عَنِ الْعَاجِلَةِ إِلَى الْآجِلَةِ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أَيْ: لِتَتَفَكَّرُوا فِي أَمْرِ الدنيا والآخرة، وليس هذا بجيد. قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ «1» وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى «2» وَقَدْ كَانَ ضَاقَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ الْأَمْرُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْمُرَادُ بِالْإِصْلَاحِ هُنَا: مُخَالَطَتُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ لِأَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ مِنْ مُجَانَبَتِهِمْ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ بِالْبَيْعِ، وَالْمُضَارَبَةِ، والإجارة، ونحو ذلك. قوله:

_ (1) . الأنعام: 152. (2) . النساء: 10.

وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْمُخَالَطَةِ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مُخَالَطَةُ الْيَتَامَى: أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمُ الْمَالُ وَيَشُقَّ عَلَى كَافِلِهِ أَنْ يُفْرِدَ طَعَامَهُ عَنْهُ، وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ خَلْطِهِ بِعِيَالِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مَا يَرَى أَنَّهُ كَافِيهِ بِالتَّحَرِّي، فَيَجْعَلُهُ مَعَ نَفَقَةِ أَهْلِهِ، وَهَذَا قَدْ تَقَعُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الرُّخْصَةِ، وَهِيَ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُخَالَطَةِ: الْمُعَاشَرَةُ لِلْأَيْتَامِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا: الْمُصَاهَرَةُ لَهُمْ. وَالْأَوْلَى: عَدَمُ قَصْرِ الْمُخَالَطَةِ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ، بَلْ تَشْمَلُ كُلَّ مُخَالَطَةٍ، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَإِخْوانُكُمْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ تَحْذِيرٌ لِلْأَوْلِيَاءِ، أَيْ: لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهُوَ يجازي كل أحد بعلمه، ومن أَصْلَحَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَفْسَدَ فَعَلَى نَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ: لَأَعْنَتَكُمْ أَيْ: وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ ذَلِكَ شَاقًّا عَلَيْكُمْ، وَمُتْعِبًا لَكُمْ، وَأَوْقَعَكُمْ فِيمَا فِيهِ الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ: الْعَنَتُ هُنَا: مَعْنَاهُ الْهَلَاكُ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَصْلُ الْعَنَتِ: الْمَشَقَّةُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَصْلُ الْعَنَتِ: التَّشْدِيدُ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَعْنَى الْهَلَاكِ. وَقَوْلُهُ: عَزِيزٌ أَيْ: لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ غَالِبٌ لَا يُغَالَبُ حَكِيمٌ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ بِمَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ، وَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَإِنَّهَا تُذْهِبُ بالمال والعقل، فنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «1» فَكَانَ يُنَادِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ: أَنْ لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «2» قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نَشْرَبُ الْخَمْرَ فأنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الْآيَةَ، فَقُلْنَا نَشْرَبُ مِنْهَا مَا يَنْفَعُنَا، فَنَزَلَتْ فِي الْمَائِدَةِ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ «3» الآية، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ انْتَهَيْنَا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُخَاطِرُ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَأَيُّهُمَا قَمَرَ صَاحِبَهُ ذَهَبَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ. وَقَوْلُهُ: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ يَعْنِي: مَا يَنْقُصُ مِنَ الدِّينِ عِنْدَ شُرْبِهَا وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يَقُولُ: فِيمَا يُصِيبُونَ مِنْ لَذَّتِهَا، وَفَرَحِهَا إِذَا شَرِبُوا وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما يَقُولُ: مَا يَذْهَبُ مِنَ الدِّينِ، فَالْإِثْمُ فِيهِ أَكْبَرُ مِمَّا يُصِيبُونَ مِنْ لَذَّتِهَا وَفَرَحِهَا إِذَا شَرِبُوهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى الْآيَةَ، فَكَانُوا لَا يَشْرَبُونَهَا عِنْدَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّوُا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا، ثُمَّ إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَرِبُوهَا فَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَكَلَّمُوا بِمَا لَمْ يَرْضَ اللَّهُ مِنَ الْقَوْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ «4» الآية، فحرّم

_ (1) . النساء: 43. (2) . المائدة: 91- 92. (3) . المائدة: 90. (4) . المائدة: 90.

[سورة البقرة (2) : آية 221]

الْخَمْرَ وَنَهَى عَنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مَنَافِعُهُمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَإِثْمُهُمَا بَعْدَ مَا حَرَّمَهُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ: أَنَّ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ حِينَ أُمِرُوا بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أتوا النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّا لَا نَدْرِي مَا هَذِهِ النَّفَقَةُ الَّتِي أُمِرْنَا بِهَا فِي أَمْوَالِنَا، فَمَا ننفق منها؟ فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُنْفِقُ مَالَهُ حَتَّى مَا يَجِدُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَلَا مَا يَأْكُلُ حَتَّى يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْعَفْوُ: هُوَ مَا لَا يَتَبَيَّنُ فِي أَمْوَالِكُمْ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّدَقَةُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْعَفْوَ مَا يَفْضُلُ عَنْ أَهْلِكَ، وَفِي لَفْظٍ قَالَ: الْفَضْلُ عَنِ الْعِيَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: قُلِ الْعَفْوَ قَالَ: لَمْ تُفْرَضْ فِيهِ فَرِيضَةٌ مَعْلُومَةٌ ثم قال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ثُمَّ نَزَلَتْ فِي الْفَرَائِضِ بَعْدَ ذَلِكَ مُسَمَّاةً. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . وَثَبَتَ نَحْوُهُ فِي الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ قَالَ: يَعْنِي فِي زَوَالِ الدُّنْيَا، وَفَنَائِهَا، وَإِقْبَالِ الْآخِرَةِ، وَبَقَائِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى الآية، انطلق من كن عِنْدَهُ يَتِيمٌ يَعْزِلُ طَعَامَهُ عَنْ طَعَامِهِ، وَشَرَابَهُ عَنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْصِلُ لَهُ الشَّيْءَ مِنْ طَعَامِهِ، فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ، أَوْ يَفْسُدَ فَيَرْمِيَ بِهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى الْآيَةَ. فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ قَالَ: الْمُخَالَطَةُ: أَنْ يَشْرَبَ مِنْ لَبَنِكَ، وَتَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهِ، وَيَأْكُلَ مِنْ قَصْعَتِكَ، وَتَأْكُلَ مِنْ قَصْعَتِهِ، وَيَأْكُلَ مِنْ ثَمَرَتِكَ، وَتَأْكُلَ مِنْ ثَمَرَتِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ قَالَ: يَعْلَمُ مَنْ يَتَعَمَّدُ أَكَلَ مَالِ الْيَتِيمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّجُ مِنْهُ، وَلَا يَأْلُو عَنْ إِصْلَاحِهِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ يَقُولُ: لَوْ شَاءَ مَا أَحَلَّ لَكُمْ مَا أَعَنْتُكُمْ مِمَّا لَا تَتَعَمَّدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَأَعْنَتَكُمْ يَقُولُ: لَأَحْرَجَكُمْ وَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّهُ وَسَّعَ وَيَسَّرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ قَالَ: وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا. [سورة البقرة (2) : آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِضَمِّهَا قِيلَ وَالْمَعْنَى: كَانَ الْمُتَزَوِّجُ لَهَا أَنْكَحَهَا مِنْ نَفْسِهَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُشْرِكَاتِ الْوَثَنِيَّاتُ وَقِيلَ: إِنَّهَا تَعُمُّ الْكِتَابِيَّاتِ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُشْرِكُونَ: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «1» وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنِ اللَّهَ حَرَّمَ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ فِيهَا وَالْكِتَابِيَّاتُ مِنَ الْجُمْلَةِ، ثُمَّ جَاءَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ فَخَصَّصَتِ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ. وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ وَالْمُشْرِكَاتِ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَيُجَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْمَائِدَةِ: بِأَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ من أوّل من نَزَلَ وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ. وَقَدْ قَالَ بِهِ- مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ- عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَطَلْحَةُ، وَجَابِرٌ، وَحُذَيْفَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، كَمَا حَكَاهُ النَّحَّاسُ، وَالْقُرْطُبِيُّ. وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْمَذْكُورِينَ، وَزَادَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَوَائِلِ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِ لَا يَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ «2» . وَقَالَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ «3» وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِينَ يَعُمُّ، فَهَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ كَمَا قَدَّمْنَا. قَوْلُهُ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ أَيْ: وَلَرَقِيقَةٌ مُؤْمِنَةٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمَةِ: الْحُرَّةُ، لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِمَاؤُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا سَيَأْتِي، لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنَ اللَّفْظِ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ، فَإِنَّ تَفْضِيلَ الْأَمَةِ الرَّقِيقَةِ الْمُؤْمِنَةِ عَلَى الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ تَفْضِيلُ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ عَلَى الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ بِالْأَوْلَى. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ أَيْ: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمُ الْمُشْرِكَةُ، مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا ذَاتَ جَمَالٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ شَرَفٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. قَوْلُهُ: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ أَيْ: لَا تُزَوِّجُوهُمْ بِالْمُؤْمِنَاتِ حَتَّى يُؤْمِنُوا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَطَأُ الْمُؤْمِنَةَ بِوَجْهٍ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَضَاضَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى ضَمِّ التَّاءِ مَنْ: تُنْكِحُوا. وَقَوْلُهُ: وَلَعَبْدٌ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَلَأَمَةٌ وَالتَّرْجِيحُ كَالتَّرْجِيحِ. قَوْلُهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أَيْ: إِلَى الْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ، فَكَانَ فِي مُصَاهَرَتِهِمْ وَمُعَاشَرَتِهِمْ وَمُصَاحَبَتِهِمْ مِنَ الْخَطَرِ الْعَظِيمِ مَا لَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يتعرضوا له، ويدخلوا فيه وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ أَيْ: إِلَى الْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْجَنَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ أَيْ: بِأَمْرِهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ: بِتَيْسِيرِهِ وَتَوْفِيقِهِ، قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، اسْتَأْذَنَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي عَنَاقَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ ذَاتَ حظ من جمال، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ وَأَبُو مَرْثَدٍ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهَا تُعْجِبُنِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ

_ (1) . التوبة: 30. (2) . البقرة: 105. (3) . البينة: 1. [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 222 إلى 223]

الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ قَالَ: اسْتَثْنَى اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «1» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ يَعْنِي: أَهْلَ الْأَوْثَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ النَّخَعِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَأَوَّلَ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ قَالَ: حَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ: رَبُّهَا عِيسَى، أَوْ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَكَانَتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهَا، فَلَطَمَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ فَزِعَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لَهُ: مَا هِيَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَصُومُ، وَتُصَلِّي، وَتُحْسِنُ الْوُضُوءَ، وَتَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَعْتِقَنَّهَا، وَلَأَتَزَوَّجَنَّهَا، فَفَعَلَ، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: نَكَحَ أَمَةً، وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَيُنْكِحُوهُمْ رَغْبَةً فِي أَحْسَابِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً لِحُذَيْفَةَ سَوْدَاءَ، فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا حُذَيْفَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا. [سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) قَوْلُهُ: الْمَحِيضِ هُوَ الْحَيْضُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: حَاضَتِ الْمَرْأَةُ حَيْضًا وَمَحِيضًا فَهِيَ حَائِضٌ وَحَائِضَةٌ، كذا قال الفراء وأنشد: كحائضة يزنى بها غير طاهر ونساء حيّض وحوائض، والحيضة بالكسر: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَقِيلَ: الِاسْمُ وَقِيلَ: الْمَحِيضُ: عِبَارَةٌ عَنِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِيهِمَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْمَحِيضُ: اسْمُ الْحَيْضِ، وَمِثْلُهُ قول رؤبة: إليك أشكو شدّة المعيش «2»

_ (1) . المائدة: 5. (2) . وعجزه: ومرّ أعوام نتفن ريشي.

وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ السَّيَلَانِ وَالِانْفِجَارِ يُقَالُ: حَاضَ السَّيْلُ وَفَاضَ، وَحَاضَتِ الشَّجَرَةُ: أَيْ: سَالَتْ رُطُوبَتُهَا، وَمِنْهُ الْحَيْضُ: أَيِ: الْحَوْضُ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَحُوضُ إِلَيْهِ: أَيْ: يَسِيلُ. وَقَوْلُهُ: قُلْ هُوَ أَذىً أَيْ: قُلْ هُوَ شَيْءٌ يُتَأَذَّى بِهِ، أَيْ: بِرَائِحَتِهِ، وَالْأَذَى: كِنَايَةٌ عَنِ الْقَذَرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ الْمَكْرُوهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى «1» . ومنه قوله تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ «2» وَقَوْلُهُ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أَيْ: فَاجْتَنِبُوهُنَّ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ إِنْ حُمِلَ الْمَحِيضُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَوْ فِي مَحَلِّ الْحَيْضِ إِنْ حُمِلَ عَلَى الِاسْمِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاعْتِزَالِ: تَرْكُ الْمُجَامَعَةِ، لَا تَرْكُ الْمُجَالَسَةِ أَوِ الْمُلَامَسَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، بَلْ يَجُوزُ الِاسْتِمْتَاعُ مِنْهَا بِمَا عَدَا الْفَرْجَ، أَوْ بِمَا دُونَ الْإِزَارِ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَعْتَزِلَ فِرَاشَ زَوْجَتِهِ إِذَا حَاضَتْ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ وَطْءِ الْحَائِضِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ ضَرُورَةِ الدِّينِ. قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ قَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص عنه: بسكون الطاء وضم الهاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: يَطْهُرْنَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَفَتْحِهَا وَفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِهَا. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَيَتَطَهَّرْنَ وَالطُّهْرُ: انْقِطَاعُ الْحَيْضِ، وَالتَّطَهُّرُ: الِاغْتِسَالُ. وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا لِزَوْجِهَا حَتَّى تَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ: إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ وَتَيَمَّمَتْ حَيْثُ لَا مَاءَ حَلَّتْ لِزَوْجِهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: إِنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا، وَلَكِنْ تَتَوَضَّأُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا بَعْدَ مُضِيِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الْغُسْلِ، وَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ الْعَشْرِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِلْحَلِّ غَايَتَيْنِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْقِرَاءَتَانِ: إِحْدَاهُمَا انْقِطَاعُ الدَّمِ، وَالْأُخْرَى التَّطَهُّرُ مِنْهُ، وَالْغَايَةُ الْأُخْرَى مُشْتَمِلَةٌ عَلَى زِيَادَةٍ عَلَى الْغَايَةِ الْأُولَى، فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا. وَقَدْ دَلَّ أَنَّ الْغَايَةَ الْأُخْرَى هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّطَهُّرُ، لَا مُجَرَّدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْآيَتَيْنِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْمُشْتَمِلَةِ إِحْدَاهُمَا عَلَى زِيَادَةٍ بِالْعَمَلِ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ، كَذَلِكَ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ. قَوْلُهُ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَيْ: فَجَامِعُوهُنَّ، وَكَنَّى عَنْهُ بِالْإِتْيَانِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يُجَامِعُونَهُنَّ فِي الْمَأْتَى الذي أباحه الله، وهو القبل، قيل: ومِنْ حَيْثُ بِمَعْنَى: فِي حَيْثُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ «3» أَيْ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَوْلِهِ: مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ «4» أَيْ: فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ لَكُمْ فِيهِ: أَيْ: مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ وَإِحْرَامٍ وَاعْتِكَافٍ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مِنْ قِبَلِ الطُّهْرِ، لَا مِنْ قِبَلِ الْحَيْضِ وَقِيلَ: مِنْ قِبَلِ الْحَلَالِ، لَا مِنْ قِبَلِ الزِّنَا. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ قِيلَ: الْمُرَادُ: التَّوَّابُونَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمُتَطَهِّرُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْأَحْدَاثِ، وَقِيلَ: التَّوَّابُونَ مِنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ وَقِيلَ: مِنْ إِتْيَانِهِنَّ فِي الْحَيْضِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. قَوْلُهُ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ

_ (1) . البقرة: 264. (2) . الأحزاب: 48. (3) . الجمعة: 9. (4) . فاطر: 40.

لَفْظُ الْحَرْثِ يُفِيدُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَمْ تَقَعْ إِلَّا فِي الْفَرْجِ الَّذِي هُوَ الْقُبُلُ خَاصَّةً، إِذْ هُوَ مُزْدَرَعُ الذُّرِّيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْحَرْثَ مُزْدَرَعُ النَّبَاتِ. فَقَدْ شَبَّهَ مَا يُلْقَى فِي أَرْحَامِهِنَّ مِنَ النُّطَفِ الَّتِي مِنْهَا النَّسْلُ بِمَا يُلْقَى فِي الْأَرْضِ مِنَ الْبُذُورِ الَّتِي مِنْهَا النَّبَاتُ بِجَامِعِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَادَّةٌ لِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَعْنِي: قَوْلَهُ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: أَنَّى شِئْتُمْ أَيْ: مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتُمْ: مِنْ خَلْفٍ، وَقُدَّامٍ، وَبَارِكَةً، وَمُسْتَلْقِيَةً ومضطجعة، إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَرْثِ، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ: إنّما الأرحام أرضو ... ن لَنَا مُحْتَرَثَاتٌ فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا ... وَعَلَى اللَّهِ النَّبَاتُ وَإِنَّمَا عَبَّرَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: أَنَّى لِكَوْنِهَا أَعَمَّ فِي اللُّغَةِ مِنْ كَيْفَ، وَأَيْنَ، وَمَتَى. وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَفَسَّرَهَا هُنَا بِكَيْفَ. وَقَدْ ذَهَبَ السَّلَفُ، وَالْخَلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّةِ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَأَنَّ إِتْيَانَ الزَّوْجَةِ فِي دُبُرِهَا حَرَامٌ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بن المسيب ونافع وابن عمرو وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ، حَكَاهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ: وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابٍ لَهُ يُسَمَّى «كِتَابَ السِّرِّ» وَحُذَّاقُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَمَشَايِخُهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ الْكِتَابَ، وَمَالِكٌ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كِتَابُ سِرٍّ، وَوَقَعَ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْعُتْبِيَّةِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ ابْنَ شَعْبَانَ أَسْنَدَ جَوَازَ ذَلِكَ إِلَى زُمْرَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَإِلَى مَالِكٍ مِنْ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِ: «جِمَاعِ النِّسْوَانِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ» وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: رَوَى أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ فِي دِينِي شَكَّ فِي أَنَّهُ حَلَالٌ، يَعْنِي: وَطْءَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا، ثُمَّ قَرَأَ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ثُمَّ قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ مَالِكٍ مِنْ طُرُقٍ: مَا يَقْتَضِي إِبَاحَةَ ذَلِكَ. وَفِي أَسَانِيدِهَا ضَعْفٌ. وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَمِعَ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْلِيلِهِ وَلَا تَحْرِيمِهِ شَيْءٌ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ حَلَالٌ. وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: كَانَ الرَّبِيعُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كَذَبَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي سِتَّةِ كُتُبٍ مِنْ كُتُبِهِ. قَوْلُهُ: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَيْ: خَيْرًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ «1» وَقِيلَ: ابْتِغَاءَ الْوَلَدِ وَقِيلَ: التَّزْوِيجَ بِالْعَفَائِفِ، وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ فِيهِ تَحْذِيرٌ عَنِ الْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّحْذِيرِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ تَأْنِيسٌ لِمَنْ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَيَجْتَنِبُ الشَّرَّ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ أَخْرَجُوهَا مِنَ الْبَيْتِ، وَلَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُشَارِبُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذلك، فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ الْآيَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَاصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ» وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: مَنْ أَتَى الْمَرْأَةَ في دبرها كان ولده

_ (1) . البقرة: 110.

أحول، فجاؤوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، وَعَنْ إِتْيَانِ الْحَائِضِ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ الْأَذَى: الدَّمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ يَقُولُ: اعْتَزِلُوا نِكَاحَ فُرُوجِهِنَّ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ قَالَ: مِنَ الدَّمِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ قَالَ: بِالْمَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَسْتَطِيبَ بِالْمَاءِ وَيَأْتِيَهَا قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قَالَ: يَعْنِي: أَنْ يَأْتِيَهَا طَاهِرًا غَيْرَ حَائِضٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قَالَ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ أَنْ تَعْتَزِلُوهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنْ حَيْثُ نَهَاكُمْ أَنْ تَأْتُوهُنَّ وَهُنَّ حُيَّضٌ، يَعْنِي: مِنْ قِبَلِ الْفَرْجِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ مِنْ قِبَلِ التَّزْوِيجِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: يُحِبُّ التَّوَّابِينَ قَالَ: مِنَ الذُّنُوبِ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ قَالَ: بِالْمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: التَّوْبَةُ: مِنَ الذُّنُوبِ، وَالتَّطْهِيرُ: مِنَ الشِّرْكِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ خَلْفِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ إِنْ شَاءَ مجبّية، وإن شاء غير مجبّية، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَصَرَّحُوا أَنَّهُ السبب، ومن الراوين لذلك عبد الله ابن عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ، وَأُمُّ سَلَمَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ: «أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض نساء الأنصار عن التّجبية، فَتَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ وَقَالَ: صِمَامًا وَاحِدًا» وَالصِّمَامُ: السبيل. وأخرج أحمد وعبد ابن حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلَيِ اللَّيْلَةَ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ هَذِهِ الْآيَةَ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ يَقُولُ: أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: ائْتِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا كَانَ فِي الْفَرْجِ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ أَوَهِمَ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ مَعَ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، كَانُوا يَرَوْنَ لَهُمْ فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ، فَكَانُوا يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ مِنْ فِعْلِهِمْ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَأْتُونَ النِّسَاءَ إِلَّا عَلَى حَرْفٍ، وَذَلِكَ أَسْتُرُ مَا تَكُونُ المرأة،

وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذُوا بِفِعْلِهِمْ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ شَرْحًا، وَيَتَلَذَّذُونَ مِنْهُنَّ مُقْبِلَاتٍ، وَمُدْبِرَاتٍ، وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْهُمُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ. فَذَهَبَ يَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: إِنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي، فَسَرَى أَمْرُهُمَا، فبلغ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ يَقُولُ: مُقْبِلَاتٌ وَمُدْبِرَاتٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَرْجِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، زَادَ الطَّبَرَانِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فِي دُبُرِهَا فَأَوْهَمَ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَحَاشُّ النِّسَاءِ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ: «أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، فَقَالَ: حَلَالٌ أَوْ لَا بَأْسَ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا فنعم، أما مِنْ دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا فَلَا، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا هِيَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: إِتْيَانُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ كُفْرٌ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ طَرْقٍ مِنْهَا عِنْدَ الْبَزَّارِ عَنْ عمر مرفوعا، وعند النسائي مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ. وَعِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا، وَعِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ أَيْضًا عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا، وَعِنْدَ أَحْمَدَ عَنْ طَلْقِ بْنِ يَزِيدَ أَوْ يَزِيدَ بْنِ طَلْقٍ مَرْفُوعًا، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه عند عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ مَرْفُوعًا، وَقَدْ ثَبَتَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَرْفُوعًا، وَمَوْقُوفًا، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَرَأْتُ ذَاتَ يَوْمٍ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَتَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قُلْتُ لَا، قَالَ نَزَلَتْ فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قَالَ: فِي الدُّبُرِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ نَافِعٌ: مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا؟ فَقَالَ: لَا إِلَّا فِي دُبُرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي إِتْيَانِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا؟ فَقَالَ: هَذَا شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَسَلْهُ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ السَّائِبِ: فَقَالَ: قَذَرٌ وَلَوْ كَانَ حَلَالًا. وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِحَلِّ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ أَيْضًا، وعن مالك بن أنس،

[سورة البقرة (2) : الآيات 224 إلى 225]

وعند ابْنِ جَرِيرٍ وَالْخَطِيبِ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ وَالْحَاكِمِ وَالْخَطِيبِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِثْلَ هَذَا، وَلَيْسَ فِي أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى أَقْوَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَمَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي فَهْمِهِ. وَقَدْ فَسَّرَهَا لَنَا رَسُولُ اللَّهِ «1» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَابِرُ أَصْحَابِهِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ هَذَا الْمُخْطِئُ فِي فَهْمِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَمَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ أَحَلَّتْ ذَلِكَ، وَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ، بَلِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ، فَكَوْنُ ذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَازِلَةً فِي تَحْلِيلِهِ، فَإِنَّ الْآيَاتِ النَّازِلَةَ عَلَى أَسْبَابٍ تَأْتِي تَارَةً بِتَحْلِيلِ هَذَا، وَتَارَةً بِتَحْرِيمِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِغَيْرِ مَا تَقَدَّمَ، فَقَالَ: مَعْنَاهَا: إِنْ شِئْتُمْ فَاعْزِلُوا وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَا تَعْزِلُوا. رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وعن سعيد ابن الْمُسَيَّبِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ. [سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 225] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) الْعُرْضَةُ: النُّصْبَةُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. يُقَالُ جَعَلْتُ فُلَانًا عُرْضَةً لِكَذَا، أَيْ: نُصْبَةً. وَقِيلَ: الْعُرْضَةُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلْمَرْأَةُ: عُرْضَةٌ لِلنِّكَاحِ، إِذَا صَلَحَتْ لَهُ وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ، وَلِفُلَانٍ عُرْضَةٌ، أَيْ: قُوَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: من كلّ نضّاخة الذّفرى إذا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ وَمِثْلُهُ قَوْلُ أوس بن حجر: وأدماء مثل الفحل يَوْمًا عَرَضْتُهَا ... لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ وَيُطْلَقُ الْعُرْضَةُ عَلَى الْهِمَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: هُمُ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ أَيْ: هِمَّتُهَا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ لَا يَزَالُونَ يَقَعُونَ فِيهِ فَعَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ: أَنَّ الْعُرْضَةَ النُّصْبَةُ كَالْقُبْضَةِ وَالْغُرْفَةِ يَكُونُ ذَلِكَ اسْمًا لِمَا تَعْرِضُهُ دُونَ الشَّيْءِ، أَيْ: تَجْعَلُهُ حَاجِزًا لَهُ، وَمَانِعًا مِنْهُ، أَيْ: لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ حَاجِزًا وَمَانِعًا لِمَا حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْلِفُ عَلَى بَعْضِ الْخَيْرِ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ، أَوْ إِحْسَانٍ إِلَى الْغَيْرِ، أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ: بِأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِهِ، مُعَلِّلًا لِذَلِكَ الِامْتِنَاعِ: بِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، يَنْهَاهُمُ الله أن يجعلونه عُرْضَةً لِأَيْمَانِهِمْ، أَيْ: حَاجِزًا لِمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ وَمَانِعًا مِنْهُ، وَسُمِّيَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ: يَمِينًا، لِتَلَبُّسِهِ بِالْيَمِينِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوا عطف بيان لأيمانكم، أَيْ: لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ مَانِعًا لِلْأَيْمَانِ الَّتِي هي بركم، وتقواكم،

_ (1) . رحم الله الشوكاني لو اكتفى بعرض هذا التفسير الصادر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذي يتفق مع الفطرة السوية، والنظافة الإسلامية من الأقذار والأدواء.

وَإِصْلَاحُكُمْ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِأَيْمانِكُمْ بِقَوْلِهِ: لَا تَجْعَلُوا أَيْ: لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ لِأَيْمَانِكُمْ مانعا وحاجزا، ويجوز أن يتعلق بعرضة، أَيْ: لَا تَجْعَلُوهُ شَيْئًا مُعْتَرِضًا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْبِرِّ، وَمَا بَعْدَهُ. وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْعُرْضَةَ: الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ، يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَجْعَلُوا الْيَمِينَ بِاللَّهِ قُوَّةً لِأَنْفُسِكُمْ، وَعُدَّةً فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْخَيْرِ. وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّالِثِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعُرْضَةِ بِالْهِمَّةِ- وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الرَّابِعِ: وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ لَا يَزَالُ عُرْضَةً لِلنَّاسِ، أَيْ: يَقَعُونَ فِيهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ: وَلَا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم، فتبتذلونه بكثرة الحلف به، ومنه: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ «1» . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْمُكْثِرِينَ لِلْحِلْفِ فَقَالَ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «2» . وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِقِلَّةِ الْأَيْمَانِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ «3» مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوا عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ: لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ مُعَرَّضًا لِأَيْمَانِكُمْ إِرَادَةَ أَنْ تَبَرُّوا، وَتَتَّقُوا، وَتُصْلِحُوا، لِأَنَّ مَنْ يُكْثِرُ الْحَلِفَ بِاللَّهِ يَجْتَرِئُ عَلَى الْحِنْثِ وَيَفْجُرُ فِي يَمِينِهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَقْوَالٌ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ الْفِعْلُ الَّذِي فِيهِ خَيْرٌ اعْتَلَّ بِاللَّهِ، فَقَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَهُوَ لَمْ يَحْلِفْ وَقِيلَ: مَعْنَاهَا: لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ كَاذِبِينَ إِذَا أَرَدْتُمُ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا إِذَا حَلَفْتُمْ عَلَى أَنْ لَا تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَلَا تَتَصَدَّقُوا وَلَا تُصْلِحُوا وَعَلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ فَكَفِّرُوا عَنِ الْيَمِينِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَبَرُّوا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيِ: الْبِرُّ وَالتَّقْوَى، وَالْإِصْلَاحُ أَوْلَى. قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ، أَيْ: لَا تَمْنَعُكُمُ الْيَمِينُ بِاللَّهِ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَيْضًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنْ لَا تَبَرُّوا، فَحُذِفَ لَا، كَقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «4» أَيْ: لَا تَضِلُّوا. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ، وَالتَّقْدِيرُ: فِي أَنْ تَبَرُّوا وَقَوْلُهُ: سَمِيعٌ أَيْ: لِأَقْوَالِ الْعِبَادِ عَلِيمٌ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ. وَاللَّغْوُ: مَصْدَرُ لَغَا يَلْغُو لَغْوًا، وَلَغَى يَلْغِي لَغْيًا: إِذَا أَتَى بِمَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ، أَوْ بِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَهُوَ السَّاقِطُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَاللَّغْوُ مِنَ الْيَمِينِ: هُوَ السَّاقِطُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَمِنْهُ: اللَّغْوُ فِي الدِّيَةِ، وَهُوَ السَّاقِطُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَوْلَادِ الإبل، قال جرير: ويذهب بينها «5» المرئيّ لَغْوًا ... كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الْحُوَارَا وَقَالَ آخَرُ: وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا ورفث التّكلّم

_ (1) . المائدة: 89. (2) . القلم: 10. (3) . في القرطبي (3/ 97) : صدرت. وفي اللسان، وديوان كثيّر ص 325: سبقت. (4) . النساء: 176. (5) . في لسان العرب، مادة «لغا» : ويهلك وسطها. والبيت قاله ذو الرّمّة يهجو هشام بن قيس المرئيّ، أحد بني امرئ القيس بن زيد مناة.

أَيْ: لَا يَتَكَلَّمْنَ بِالسَّاقِطِ وَالرَّفَثِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يُعَاقِبُكُمُ اللَّهُ بِالسَّاقِطِ مِنْ أَيْمَانِكُمْ، وَلَكِنْ يُعَاقِبُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، أَيِ: اقْتَرَفَتْهُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ: وَهِيَ الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ «1» ومثله قول الشاعر: ولست بمأخوذ بلغو تقوله ... إِذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ، فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا: أَنَّهُ: قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ فِي حَدِيثِهِ وَكَلَامِهِ، غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِلْيَمِينِ، وَلَا مُرِيدٍ لَهَا. قال المروزي: هذه مَعْنَى لَغْوِ الْيَمِينِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلَ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَظُنُّ إِلَّا أَنَّهُ إِيَّاهُ فَإِذَا لَيْسَ هُوَ مَا ظَنَّهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالزَّيْدِيَّةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَغْوُ الْيَمِينِ: أَنْ تَحْلِفَ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَمَكْحُولٌ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَقِيلَ: إِنَّ اللَّغْوَ هُوَ يَمِينُ الْمَعْصِيَةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزبير، وأخوه عروة، كالذي يقسم ليشر بن الْخَمْرَ، أَوْ لَيَقْطَعَنَّ الرَّحِمَ وَقِيلَ: لَغْوُ الْيَمِينِ: هُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ: كَأَنْ يَقُولُ: أَعْمَى اللَّهُ بَصَرَهُ، أَذْهَبَ اللَّهُ مَالَهُ، هُوَ يهودي، هو مُشْرِكٌ. قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَغْوُ الْيَمِينِ: أَنْ يَتَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَيَقُولَ أَحَدُهُمَا: وَاللَّهِ لَا أَبِيعُكَ بِكَذَا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: وَاللَّهِ لَا أَشْتَرِيهِ بِكَذَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَغْوُ الْيَمِينِ: هِيَ الْمُكَفِّرَةُ، أَيْ: إِذَا كُفِّرَتْ سَقَطَتْ وَصَارَتْ لَغْوًا. وَالرَّاجِحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمُطَابَقَتِهِ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلِدَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ أَيْ: حَيْثُ لَمْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا تَقُولُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ مِنْ دُونِ عَمْدٍ وَقَصْدٍ. وَآخَذَكُمْ بِمَا تَعَمَّدَتْهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَكَلَّمَتْ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ، وَتِلْكَ هِيَ الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ الْمَقْصُودَةُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ يَقُولُ: لَا تَجْعَلْنِي عُرْضَةً لِيَمِينِكَ أَنْ لَا تَصْنَعَ الْخَيْرَ، وَلَكِنْ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَاصْنَعِ الْخَيْرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يُكَلِّمَ قَرَابَتَهُ، أَوْ لَا يَتَصَدَّقَ، وَيَكُونَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مُغَاضِبَةٌ فَيَحْلِفَ لَا يُصْلِحُ بَيْنَهُمَا، وَيَقُولُ: قَدْ حَلَفْتُ، قَالَ: يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَإِنَّ كُلَّ مَمْلُوكٍ لِي عَتِيقٌ، وَكُلَّ مَالٍ لِي سِتْرٌ لِلْبَيْتِ، فَقَالَتْ: لَا تَجْعَلْ مَمْلُوكِيكَ عُتَقَاءَ وَلَا تَجْعَلْ مَالَكَ سِتْرًا لَلْبَيْتِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ فِي شَأْنِ مِسْطَحٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ قَطِيعَةَ رَحِمٍ أَوْ مَعْصِيَةً فَبِرُّهُ أَنْ يَحْنَثَ فِيهَا وَيَرْجِعَ عن يمينه» .

_ (1) . المائدة: 89. [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 226 إلى 227]

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نَذْرَ وَلَا يَمِينَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ، وَلَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ مَالِكٍ الْجُشَمِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَأْتِينِي ابْنُ عَمِّي فَأَحْلِفُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ، فَقَالَ: كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، وَكَلَّا وَاللَّهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ اللَّغْوِ فِي الْيَمِينِ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ: كَلَّا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن عائشة أنها قالت في تفسير الْآيَةَ: إِنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْقَوْمُ يَتَدَارَوْنَ فِي الْأَمْرِ، يَقُولُ هَذَا: لَا وَاللَّهِ، وَيَقُولُ هَذَا: كَلَّا وَاللَّهِ، يَتَدَارَوْنَ فِي الْأَمْرِ، لَا تَعْقِدُ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: هُوَ اللَّغْوُ فِي الْمُزَاحَةِ وَالْهَزْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبِلَى وَاللَّهِ. فَذَاكَ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ فِيمَا عَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ ثُمَّ لَا يَفْعَلُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ: قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ يَنْتَضِلُونَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَرَمَى رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: أَصَبْتَ وَاللَّهِ، وَأَخْطَأْتَ وَاللَّهِ، فَقَالَ الذي مع النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: حَنَثَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ!؟ فَقَالَ: كَلَّا، أَيْمَانُ الرُّمَاةِ لَغْوٌ، لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَلَا عُقُوبَةَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَمْرٍو: أَنَّ اللَّغْوَ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ تَحْلِفَ وَأَنْتَ غَضْبَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَغْوُ الْيَمِينِ: حَلِفُ الْإِنْسَانِ عَلَى الشَّيْءِ يَظُنُّ أَنَّهُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا: أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ النَّخَعِيِّ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى الشَّيْءِ ثُمَّ يَنْسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ يَعْنِي: إِذْ تَجَاوَزَ عَنِ الْيَمِينِ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا حَلِيمٌ إِذْ لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا الْكَفَّارَةَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 227] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) قوله: يُؤْلُونَ أي: يحلفون: والمصدر إيلاء وَأَلِيَّةً وَإِلْوَةً، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ آلُوا يقال آلى يؤالي إيلاء وَيَأْتَلِي بِالتَّاءِ ائْتِلَاءً، أَيْ: حَلَفَ، وَمِنْهُ: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ «1» ، ومنه:

_ (1) . النور: 22.

قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ الْبَيْتَ «1» وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْإِيلَاءِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْإِيلَاءَ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَطَأَ امْرَأَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَلَفَ على أربعة أشهر فما دونها لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَكَانَتْ عِنْدَهُمْ يَمِينًا مَحْضًا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: الْإِيلَاءُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدَا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَحْلِفَ أَنْ لَا يَمَسَّهَا أَبَدًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ لَمْ يَطَأْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ بِالْإِيلَاءِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَقَتَادَةُ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِهِمْ يَشْمَلُ الْحَرَائِرَ وَالْإِمَاءَ إِذَا كُنَّ زَوْجَاتٍ، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ الْعَبْدُ إِذَا حَلَفَ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، قَالُوا: وَإِيلَاؤُهُ كَالْحُرِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ: إِنَّ أَجْلَهُ شَهْرَانِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِيلَاءُ الْأَمَةِ نِصْفُ إِيلَاءِ الْحُرَّةِ. وَالتَّرَبُّصُ: التَّأَنِّي، وَالتَّأَخُّرُ، قَالَ الشَّاعِرُ: تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا وَقَّتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ دَفْعًا لِلضِّرَارِ عَنِ الزَّوْجَةِ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُؤْلُونَ السَّنَةَ، وَالسَّنَتَيْنِ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ ضِرَارَ النِّسَاءِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرَ هِيَ الَّتِي لَا تُطِيقُ الْمَرْأَةُ الصَّبْرَ عن زوجها زيادة عليها. قوله: فَإِنْ فاؤُ أَيْ: رَجَعُوا وَمِنْهُ: حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «2» أَيْ: تَرْجِعَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلظِّلِّ بَعْدَ الزَّوَالِ: فَيْءٌ، لِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ جَانِبِ الْمَشْرِقِ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ، يُقَالُ: فَاءَ يَفِيءُ فَيْئَةً وَفُيُوءًا، وَإِنَّهُ لِسَرِيعُ الْفَيْئَةِ، أَيِ: الرَّجْعَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَفَاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ ... وَمِنْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ قَاضِيَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمُ: عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ: الْجِمَاعُ لِمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرُ مَرَضٍ أَوْ سِجْنٍ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ فَأَبَى الْوَطْءَ فُرِّقَ بَيْنِهِمَا إِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ، قَالَهُ مَالِكٌ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِذَا أَشْهَدَ عَلَى فَيْئَتِهِ بِقَلْبِهِ فِي حَالِ الْعُذْرِ أَجْزَأَهُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَدْ أَوْجَبَ الْجُمْهُورُ عَلَى الْمُولِي إِذَا فَاءَ بِجِمَاعِ امْرَأَتِهِ الْكَفَّارَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ الْعَزْمُ: الْعَقْدُ عَلَى الشَّيْءِ، وَيُقَالُ: عَزَمَ يَعْزِمُ عَزْمًا وَعَزِيمَةً وَعُزْمَانًا، وَاعْتَزَمَ اعْتِزَامًا، فَمَعْنَى عَزَمُوا الطَّلَاقَ: عَقَدُوا عَلَيْهِ قُلُوبَهُمْ. وَالطَّلَاقُ: مِنْ طَلَقَتِ الْمَرْأَةُ تَطْلُقُ، كَنَصَرَ يَنْصُرُ، طَلَاقًا فَهِيَ طَالِقٌ وَطَالِقَةٌ أَيْضًا، وَيَجُوزُ طَلُقَتْ بِضَمِّ اللَّامِ، مِثْلُ عَظُمَ يَعْظُمُ، وَأَنْكَرَهُ الْأَخْفَشُ. وَالطَّلَاقُ: حلّ عقد النِّكَاحِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَمَا قَالَ مَالِكٌ مَا لَمْ يَقَعْ إِنْشَاءُ تَطْلِيقٍ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: سَمِيعٌ، وَسَمِيعٌ يَقْتَضِي مَسْمُوعًا بَعْدَ الْمُضِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: سَمِيعٌ لِإِيلَائِهِ عَلِيمٌ بِعَزْمِهِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مُضِيُّ أَرْبَعَةِ أشهر. واعلم: أن أهل كل

_ (1) . وعجز البيت: وإن سبقت منه الأليّة برّت. (2) . الحجرات: 9.

مَذْهَبٍ قَدْ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِمَا يُطَابِقُ مَذْهَبَهُمْ وَتَكَلَّفُوا بِمَا لَمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَلَا دَلِيلَ آخَرَ، وَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ وَاضِحٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَجَلَ لِمَنْ يُولِي- أَيْ: يَحْلِفُ مِنِ امْرَأَتِهِ- أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا لِعِبَادِهِ بِحُكْمِ هَذَا الْمُولِي بَعْدَ هَذِهِ المدّة: فَإِنْ فاؤُ رَجَعُوا إِلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ وَاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِتِلْكَ الْيَمِينِ بَلْ يَغْفِرُ لَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أَيْ: وَقَعَ الْعَزْمُ مِنْهُمْ عَلَيْهِ، وَالْقَصْدُ لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِذَلِكَ مِنْهُمْ عَلِيمٌ بِهِ، فَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ الَّذِي لَا شَكَّ فيه ولا شبهة، فمن حلف أن لا يَطَأَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِمُدَّةٍ أَوْ قَيَّدَ بِزِيَادَةٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ عَلَيْنَا إِمْهَالُهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِمَّا رَجَعَ إِلَى نِكَاحِ امْرَأَتِهِ، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَمَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ قَبْلَهَا، أَوْ طَلَّقَهَا وَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْمُطَلِّقِ لِامْرَأَتِهِ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا إِذَا وَقَّتَ بِدُونِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ اعْتَزَلَ امْرَأَتَهُ الَّتِي حَلَفَ مِنْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، كَمَا فعل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَإِنَّهُ اعْتَزَلَهُنَّ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي هِيَ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَنَثَ فِي يَمِينِهِ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَكَانَ مُمْتَثِلًا لِمَا صَحَّ عَنْهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ فَرَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَلَيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْإِيلَاءُ: أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يُجَامِعُهَا أَبَدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ لِامْرَأَتِهِ بِاللَّهِ لَا يَنْكِحُهَا، فَتَتَرَبَّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ هُوَ نَكَحَهَا كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ ينكحها خيره السلطان، إما: أن يَفِيءُ، وَإِمَّا: أَنْ يَعْزِمَ فَيُطَلِّقَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ إيلاء الجاهلية السنة والسنتين مِنْ ذَلِكَ، فَوَقَّتَ اللَّهُ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ إِيلَاؤُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْإِيلَاءُ إِيلَاءَانِ: إِيلَاءٌ فِي الْغَضَبِ، وَإِيلَاءٌ فِي الرِّضَا فَأَمَّا الْإِيلَاءُ فِي الْغَضَبِ: فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا كَانَ فِي الرِّضَا فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا إِيلَاءَ إِلَّا بِغَضَبٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ: «فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْفَيْءُ: الْجِمَاعُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْفَيْءُ: الرِّضَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: الْفَيْءُ: الْإِشْهَادُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ قَالَ: الْفَيْءُ: الْجِمَاعُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَجْزَأَهُ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَرَضٌ، أَوْ سَفَرٌ، أَوْ حَبْسٌ، أَوْ شَيْءٌ يُعْذَرُ بِهِ فَإِشْهَادُهُ فَيْءٌ. وَلِلسَّلَفِ فِي الْفَيْءِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَيَنْبَغِي الرُّجُوعُ إِلَى مَعْنَى الْفَيْءِ لُغَةً، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِيلَاءِ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى

[سورة البقرة (2) : آية 228]

يُوقِفَ فَيُطَلِّقَ أَوْ يُمْسِكَ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُولِي مِنِ امْرَأَتِهِ فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى تَمْضِيَ الْأَرْبَعَةُ الأشهر فيوقف فَإِنْ فَاءَ وَإِلَّا طَلَّقَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدَةَ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالُوا: الْإِيلَاءُ: تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ إِذَا مَرَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ، فَهِيَ أَمْلَكُ بِنَفْسِهَا، وَلِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي هَذَا أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ، وَالْمُتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إِلَى مَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهُوَ مَا عَرَّفْنَاكَ فَاشْدُدْ عَلَيْهِ يَدَيْكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: إِيلَاءُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قال: إيلاء العبد نحو إيلاء الحرّ. [سورة البقرة (2) : آية 228] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) قَوْلُهُ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ خُصِّصَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «1» فَوَجَبَ بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَخَرَجَتْ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكَذَلِكَ خَرَجَتِ الْحَامِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ «2» وَكَذَلِكَ خَرَجَتِ الْآيِسَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ «3» والتربص: الانتظار، قيل: هو خبرا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ: أَيْ: لِيَتَرَبَّصْنَ، قَصَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُخْرَجَ الْخَبَرِ تَأْكِيدَ وُقُوعِهِ، وَزَادَهُ تَأْكِيدًا وُقُوعُهُ خبر لِلْمُبْتَدَأِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِنْ وُجِدَتْ مُطَلَّقَةٌ لَا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ خَبَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى خِلَافِ مُخْبِرِهِ. وَالْقُرُوءُ: جَمْعُ قُرْءٍ. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَرَأَ: «قُرُوٍّ» بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِالْهَمْزِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالتَّنْوِينِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْوَاحِدُ قُرْءٌ بِضَمِّ الْقَافِ. وَقَالَ: أَبُو زَيْدٍ بِالْفَتْحِ، وَكِلَاهُمَا قَالَ: أَقَرَأَتِ الْمَرْأَةُ: حَاضَتْ، وَأَقْرَأَتْ: طَهُرَتْ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَقَرَأَتِ الْمَرْأَةُ: إِذَا صَارَتْ صَاحِبَةَ حَيْضٍ، فَإِذَا حَاضَتْ قُلْتَ: قَرَأَتْ، بِلَا أَلِفٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُسَمِّي الْحَيْضَ: قُرْءًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الطُّهْرَ: قُرْءًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعُهُمَا جَمِيعًا، فَيُسَمِّي الْحَيْضَ مَعَ الطُّهْرِ: قُرْءًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقُرْءَ فِي الْأَصْلِ: الْوَقْتُ يُقَالُ: هَبَّتِ الرِّيَاحُ لِقُرْئِهَا وَلِقَارِئِهَا، أَيْ: لِوَقْتِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَرَهْتُ الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلٍ ... إِذَا هبّت لقارئها الرّياح

_ (1) . الأحزاب: 49. (2) . الطلاق: 4. (3) . الطلاق: 4.

فَيُقَالُ لِلْحَيْضِ: قُرْءٌ، وَلِلطُّهْرِ: قُرْءٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ. وَقَدْ أَطْلَقَتْهُ الْعَرَبُ تَارَةً: عَلَى الْأَطْهَارِ، وَتَارَةً: عَلَى الْحَيْضِ، فَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْأَطْهَارِ قَوْلُ الْأَعْشَى: أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشَدُّ لْأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا مُوَرِّثَةٍ مَالًا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةٌ ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا أَيْ: أَطْهَارِهِنَّ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْحَيْضِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا رُبَّ ذِي حَنْقٍ عَلَيَّ قَارِضِ ... لَهُ قُرُوٌّ كَقُرُوِّ الْحَائِضِ «1» يَعْنِي أَنَّهُ طَعَنَهُ فَكَانَ لَهُ دَمٌ كَدَمِ الْحَائِضِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مأخوذ من قرء الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ وَهُوَ جَمْعُهُ، وَمِنْهُ: الْقُرْآنُ، لِاجْتِمَاعِ الْمَعَانِي فِيهِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: ذراعي عيطل عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ ... هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقَرَا جَنِينَا أَيْ: لَمْ تَجْمَعْهُ فِي بَطْنِهَا. وَالْحَاصِلُ أن القرء فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الِاشْتِرَاكِ، اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَعْيِينِ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْقُرُوءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: هِيَ الْحَيْضُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: هِيَ الْأَطْهَارُ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ الْوَقْتُ، فَصَارَ مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ فَهِيَ عَلَى هَذَا مُفَسَّرَةٌ فِي الْعَدَدِ، مُجْمَلَةٌ فِي الْمَعْدُودِ، فَوَجَبَ طَلَبُ الْبَيَانِ لِلْمَعْدُودِ مِنْ غَيْرِهَا فَأَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الآية: الحيض، بقوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» وَبُقُولِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَبِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ. وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي بقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ «2» وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالطَّلَاقِ وَقْتَ الطُّهْرِ. ولقوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» وَذَلِكَ لِأَنَّ زَمَنَ الطُّهْرِ هُوَ الَّذِي تُطَلَّقُ فِيهِ النِّسَاءُ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَا أَدْرَكْنَا أَحَدًا مِنْ فُقَهَائِنَا إِلَّا يَقُولُ: بِأَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْ فِيهِ اعْتَدَّتْ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَلَوْ سَاعَةً وَلَوْ لَحْظَةً، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ طُهْرًا ثَانِيًا بَعْدَ حَيْضَةٍ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ خَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ. انْتَهَى. وَعِنْدِي أَنْ لَا حُجَّةَ فِي بَعْضِ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا. أَمَّا قَوْلُ الْأَوَّلِينَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» فَغَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَطْلَقَ الْأَقْرَاءَ عَلَى الْحَيْضِ، وَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ شَأْنُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى هَذَا، وَتَارَةً عَلَى هَذَا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْأَقْرَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم في

_ (1) . في القرطبي (3/ 114) : يَا رَبِّ ذِي ضَغَنٍ عَلَيَّ فَارِضٌ ... لَهُ قروء كقروء الحائض (2) . الطلاق: 1.

الْأَمَةِ: «وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» فَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أَيْضًا، وَدَلَالَتُهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ قَوِيَّةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ. فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ شَيْءٌ مِنَ الْحَيْضِ، عَلَى فَرْضِ تَفْسِيرِ الْأَقْرَاءِ بِالْأَطْهَارِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْحَيْضِ، كَمَا هِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْأَطْهَارِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَهْلِ الْقَوْلِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ التَّنَازُعَ فِي اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِعِدَّتِهِنَّ يَصِيرُ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِمُحْتَمَلٍ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» الْحَدِيثَ، فَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَدَلَالَتُهُ قَوِيَّةٌ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ أَوْ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدَ جَوَّزَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَمْلَ الْمُشْتَرَكَ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، وَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، وَيَنْدَفِعُ النِّزَاعُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَمْيِيزَ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ: قُرُوءٍ، وَهِيَ جَمْعُ كَثْرَةِ دُونَ أَقْرَاءٍ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ. وَأَجَابَ بِأَنَّهُمْ يَتَّسِعُونَ فِي ذَلِكَ فَيَسْتَعْمِلُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمْعَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ. قَوْلُهُ: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قِيلَ: المراد به: الحيض وَقِيلَ: كِلَاهُمَا، وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنِ الْكِتْمَانِ: مَا فِيهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجِ وَإِذْهَابِ حَقِّهِ فَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ: حِضْتُ، وَهِيَ لَمْ تَحِضْ، ذَهَبَتْ بِحَقِّهِ مِنَ الِارْتِجَاعِ وَإِذَا قَالَتْ: لَمْ تَحِضْ، وَهِيَ قَدْ حَاضَتْ، أَلْزَمَتْهُ مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ، فَأَضَرَّتْ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَمْلُ، رُبَّمَا تَكْتُمُهُ لِتَقْطَعَ حَقَّهُ مِنَ الِارْتِجَاعِ، وَرُبَّمَا تَدَّعِيهِ لِتُوجِبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْإِضْرَارِ بِالزَّوْجِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تُصَدَّقُ فِيهَا الْمَرْأَةُ إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْكَاتِمَاتِ، وَبَيَانُ أَنَّ مَنْ كَتَمَتْ ذَلِكَ مِنْهُنَّ لَمْ تَسْتَحِقَّ اسْمَ الْإِيمَانِ. وَالْبُعُولَةُ: جَمْعُ بَعْلٍ وَهُوَ الزَّوْجُ، سُمِّيَ: بَعْلًا، لِعُلُوِّهِ عَلَى الزَّوْجَةِ لِأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى الرَّبِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: أَتَدْعُونَ بَعْلًا «1» أَيْ: رَبًّا وَيُقَالُ: بُعُولٌ، وَبُعُولَةٌ، كَمَا يُقَالُ فِي جَمْعِ الذَّكَرِ: ذُكُورٌ، وَذُكُورَةٌ، وَهَذِهِ التَّاءُ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَهُوَ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، بَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّمَاعُ وَالْبُعُولَةُ أَيْضًا تَكُونُ مَصْدَرًا مِنْ: بَعَلَ الرَّجُلُ يَبْعَلُ، مِثْلُ: مَنَعَ يَمْنَعُ، أَيْ: صَارَ بَعْلًا. وَقَوْلُهُ: أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ أَيْ: بِرُجْعَتِهِنَّ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ التَّخْصِيصِ لِعُمُومِ قوله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ لأنه يعم المثلثات وَغَيْرَهُنَّ. وَقَوْلُهُ: فِي ذلِكَ يَعْنِي: فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ، فَإِنِ انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ فَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا، وَلَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ مُسْتَأْنَفٍ بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ وَمَهْرٍ جَدِيدٍ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ وَالرَّجْعَةُ تَكُونُ بِاللَّفْظِ، وَتَكُونُ بِالْوَطْءِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُرَاجِعُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ بِلَا خِلَافٍ. وَقَوْلُهُ: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً أَيْ: بِالْمُرَاجَعَةِ: أَيْ: إِصْلَاحَ حَالِهِ مَعَهَا وَحَالِهَا مَعَهُ، فَإِنْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا «2» قِيلَ: وَإِذَا قَصَدَ بِالرَّجْعَةِ الضِّرَارَ فَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَإِنِ ارْتَكَبَ بِذَلِكَ مُحَرَّمًا وَظَلَمَ نَفْسَهُ، وَعَلَى هذا: فيكون الشرط المذكور في الآية للحث للأزواج عَلَى قَصْدِ الصَّلَاحِ، وَالزَّجْرِ لَهُمْ عَنْ قَصْدِ الضرار، وليس المراد به:

_ (1) . الصافات: 125. (2) . البقرة: 231.

جَعْلَ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ. قَوْلُهُ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: لَهُنَّ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى الرِّجَالِ بِمِثْلِ مَا لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ، فَيُحْسِنُ عِشْرَتَهَا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ لِنِسَائِهِمْ، وَهِيَ كَذَلِكَ، تُحْسِنُ عِشْرَةَ زَوْجِهَا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ عَادَةِ النِّسَاءِ أَنَّهُنَّ يَفْعَلْنَهُ لِأَزْوَاجِهِنَّ مِنْ طَاعَةٍ، وَتَزَيُّنٍ، وَتَحَبُّبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أَيْ: مَنْزِلَةٌ لَيْسَتْ لَهُنَّ، وَهُوَ قِيَامُهُ عَلَيْهَا فِي الْإِنْفَاقِ، وَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَالْعَقْلِ وَالْقُوَّةِ، وَلَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ أَكْثَرُ مِمَّا لَهَا، وَكَوْنُهُ يَجِبُ عَلَيْهَا امْتِثَالُ أَمْرِهِ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ رِضَاهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَضِيلَةِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ إِلَّا كَوْنُهُنَّ خُلِقْنَ مِنَ الرِّجَالِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: طُلِّقْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُطَلَّقَةِ عِدَّةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ حِينَ طُلِّقْتُ الْعِدَّةَ لِلطَّلَاقِ، فَقَالَ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ «1» فَنُسِخَ وَقَالَ: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «2» . وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم، والدارقطني، والبيهقي، من طرق عن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتِ: الْأَقْرَاءُ: الْأَطْهَارُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْمَذْكُورُونَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: الْأَقْرَاءُ: الْحَيْضُ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قَالَ: ثَلَاثُ حِيَضٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكْتُمُ حَمْلَهَا حَتَّى تَجْعَلَهُ لِرَجُلٍ آخَرَ، فَنَهَاهُنَّ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْحَمْلُ وَالْحَيْضُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ يَقُولُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيِنِ وَهِيَ حَامِلٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَضَعْ حَمْلَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ قَالَ: فِي الْعِدَّةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَزَادَ مَا لَمْ يُطَلِّقْهَا ثَلَاثًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ قَالَ: إِذَا أَطَعْنَ اللَّهَ، وَأَطَعْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ صُحْبَتَهَا، وَيَكُفَّ عَنْهَا أَذَاهُ، وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ سَعَتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، أَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كُسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ» وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وابن

_ (1) . الطلاق: 4. (2) . الأحزاب: 49.

[سورة البقرة (2) : الآيات 229 إلى 230]

جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ «أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَا حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ قَالَ: فَضْلُ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهَا مِنَ الْجِهَادِ، وَفَضْلُ مِيرَاثِهِ عَلَى مِيرَاثِهَا، وَكُلُّ مَا فُضِّلَ بِهِ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُطَلِّقُهَا وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الأمر شيء. وأخرج عن زيد بن أسلم قال: الإمارة. [سورة البقرة (2) : الآيات 229 الى 230] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) الْمُرَادُ بِالطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ: هُوَ الرَّجْعِيُّ، بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، أَيِ: الطَّلَاقُ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الرَّجْعَةُ لِلْأَزْوَاجِ هُوَ مَرَّتَانِ، أَيِ: الطَّلْقَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، إِذْ لَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: مَرَّتانِ وَلَمْ يَقُلْ طَلْقَتَانِ إشارة إلى أن يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لَا طَلْقَتَانِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، كَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ، إِمَّا إِيقَاعُ الثَّالِثَةِ التي بها تبين الزوجة، أو الإمساك وَاسْتِدَامَةُ نِكَاحِهَا، وَعَدَمُ إِيقَاعِ الثَّالِثَةِ عَلَيْهَا قَالَ سُبْحَانَهُ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أَيْ: فَإِمْسَاكٌ بَعْدَ الرَّجْعَةِ لِمَنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا طَلْقَتَيْنِ بِمَعْرُوفٍ، أَيْ: بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أَيْ: بِإِيقَاعِ طَلْقَةٍ ثَالِثَةٍ عَلَيْهَا مِنْ دُونِ ضِرَارٍ لَهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَيْ: بِرَجْعَةٍ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أَيْ: بِتَرْكِ الرَّجْعَةِ بَعْدَ الثَّانِيَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: الطَّلاقُ مُبْتَدَأٌ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: عَدَدُ الطَّلَاقِ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الرَّجْعَةُ مَرَّتَانِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي إِرْسَالِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً وَاحِدَةً: هَلْ يَقَعُ ثَلَاثًا، أَوْ وَاحِدَةً فَقَطْ. فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي مَنْ عَدَاهُمْ وَهُوَ الْحَقُّ. وَقَدْ قَرَّرْتُهُ فِي مُؤَلَّفَاتِي تَقْرِيرًا بَالِغًا، وَأَفْرَدْتُهُ بِرِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. قَوْلُهُ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً الْخِطَابُ لِلْأَزْوَاجِ، أَيْ: لَا يَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ أَنْ يَأْخُذُوا مِمَّا دَفَعُوهُ إِلَى نِسَائِهِمْ مِنَ الْمَهْرِ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَّةِ لَهُنَّ، وَتَنْكِيرُ «شَيْئًا» لِلتَّحْقِيرِ، أَيْ: شَيْئًا نَزْرًا فَضْلًا عَنِ الْكَثِيرِ، وَخَصَّ مَا دَفَعُوهُ إِلَيْهِنَّ بِعَدَمِ حَلِّ الْأَخْذِ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِنَّ الَّتِي يَمْلِكْنَهَا مِنْ غَيْرِ الْمَهْرِ لِكَوْنِ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْسُ الزَّوْجِ، وَتَتَطَلَّعُ لِأَخْذِهِ دُونَ مَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ فِي مِلْكِهَا، عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَخَذَ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهَا لَا يَحِلُّ لَهُ كَانَ مَا عَدَاهُ مَمْنَوْعًا مِنْهُ بِالْأَوْلَى، وَقِيلَ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَإِنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ، وَعَلَى هَذَا: يَكُونُ إِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَيْهِمْ، لِكَوْنِهِمُ الْآمِرِينَ بِذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ:

مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ فَإِنَّ إِسْنَادَهُ إِلَى غَيْرِ الْأَزْوَاجِ بِعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ إِيتَاءَ الْأَزْوَاجِ لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الثَّانِي أَوْلَى لِئَلَّا يَتَشَوَّشَ النَّظْمُ. قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَيْ: لَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ: عَدَمَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ الَّتِي حَدَّهَا لِلزَّوْجَيْنِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمَا الْوَفَاءَ بِهَا، مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالطَّاعَةِ، فَإِنْ خَافَا ذَلِكَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أَيْ: لَا جُنَاحَ عَلَى الرَّجُلِ فِي الْأَخْذِ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْإِعْطَاءِ، بِأَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْ ذَلِكَ النِّكَاحِ بِبَذْلِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ يَرْضَى بِهِ الزَّوْجُ، فَيُطَلِّقُهَا لِأَجْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الْخُلْعُ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ، وَأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْأَخْذُ مَعَ ذَلِكَ الْخَوْفِ، وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ مَا أَخَذَ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى رَدِّهِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: إِلَّا أَنْ يَخافا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ، وهو الأئمة الحكام وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ لِقَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَجَعَلَ الْخَوْفَ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ. وَقَدِ احْتَجَّ بِذَلِكَ مَنْ جَعَلَ الْخُلْعَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ. وَقَدْ ضَعَّفَ النَّحَّاسُ اخْتِيَارَ أَبِي عُبَيْدٍ الْمَذْكُورَ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ: إِذَا خَافَ الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ، أَوِ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ- وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَئِمَّةً وَحُكَّامًا- عَدَمَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهِيَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمَا كَمَا سَلَفَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيِّ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً «1» وَهُوَ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنِ الْإِجْمَاعِ وَلَا تَنَافِي بَيْنَ الِاثْنَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا طَلَبَ الزَّوْجُ مِنَ الْمَرْأَةِ زِيَادَةً عَلَى مَا دَفَعَهُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَهْرِ وَمَا يَتْبَعُهُ، وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ الْمَرْأَةُ، هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟! وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْجَوَازُ لِعَدَمِ تَقْيِيدِهِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَالَ طَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَسَيَأْتِي مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أَيْ: أَحْكَامُ النِّكَاحِ وَالْفِرَاقِ الْمَذْكُورَةُ هِيَ حُدُودُ اللَّهِ الَّتِي أُمِرْتُمْ بِامْتِثَالِهَا، فَلَا تَعْتَدُوهَا بِالْمُخَالَفَةِ لَهَا، فَتَسْتَحِقُّوا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنَ التَّسْجِيلِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها أَيِ: الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا سُبْحَانَهُ بقوله: تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أَيْ: فَإِنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالتَّثْلِيثِ فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أَيْ: حَتَّى تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ. وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمَنْ وَافَقَهُ قَالُوا: يَكْفِي مُجَرَّدُ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْعَقْدِ مِنَ الْوَطْءِ، لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ، وَهُوَ زِيَادَةٌ يَتَعَيَّنُ قَبُولُهَا، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نِكَاحًا شَرْعِيًّا مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، لَا نِكَاحًا غَيْرَ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ، بَلْ حِيلَةٌ لِلتَّحْلِيلِ، وَذَرِيعَةٌ إِلَى رَدِّهَا إِلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لِلْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّهِ وَذَمِّ فَاعِلِهِ، وَأَنَّهُ التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ الَّذِي لَعَنَهُ الشَّارِعُ، وَلَعَنَ مَنِ اتَّخَذَهُ لِذَلِكَ. قَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَها أَيِ: الزَّوْجُ الثَّانِي فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَيِ: الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَتَراجَعا أي:

_ (1) . النساء: 20.

يَرْجِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَنَكَحَتْ زَوْجًا وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ فَارَقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ نَكَحَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ أَنَّهَا تَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ. قَوْلُهُ: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ: حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ الْوَاجِبَةَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ ظَنُّ ذَلِكَ، بِأَنْ يَعْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَدَمَ الْإِقَامَةِ لِحُدُودِ اللَّهِ، أَوْ تَرَدَّدَا أَوْ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمَا الظَّنُّ، فَلَا يَجُوزُ الدُّخُولُ فِي هَذَا النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلْمَعْصِيَةِ لِلَّهِ وَالْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَى الزَّوْجَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا سَلَفَ، وَخَصَّ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَعَ عُمُومِ الدَّعْوَةِ لِلْعَالِمِ وَغَيْرِهِ، وَوُجُوبِ التَّبْلِيغِ لِكُلِّ فَرْدٍ، لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالْبَيَانِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ ارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ، فَعَمَدَ رَجُلٌ إِلَى امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا مَا دَنَا وَقْتُ انقضاء عدتها ارتجعها، ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا آوِيكِ إِلَيَّ وَلَا تَحِلِّينَ أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ جَدِيدًا مِنْ يَوْمِئِذٍ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ طَلَّقَ وَمَنْ لَمْ يُطَلِّقْ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهَا: أَنَّهَا أَتَتْهَا امْرَأَةٌ فَسَأَلَتْهَا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الطَّلَاقِ، قَالَتْ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ قَالَ: التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ الثَّالِثَةُ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ لِلثَّالِثَةِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: التَّسْرِيحُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الطَّلَاقُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قَالُوا: وَهُوَ الْمِيقَاتُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الرَّجْعَةُ، فَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ وَيُرَاجِعَ بِمَعْرُوفٍ، وَإِمَّا أَنْ يَسْكُتَ عَنْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَتَكُونَ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس في الآية نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ امْرَأَتِهِ الَّذِي نَحَلَهَا وَغَيْرِهِ، لَا يَرَى أَنَّ عَلَيْهِ جُنَاحًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً فَلَمْ يَصِحَّ لَهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ إِلَّا بِحَقِّهَا، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَقَالَ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ وَسُوءُ الْخُلُقِ مِنْ قِبَلِهَا، فَتَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْكَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، والشافعي، وأحمد،

_ (1) . النساء: 4. [.....]

وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهَا كَانَتْ تحت ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ إِلَى الصُّبْحِ فَوَجَدَهَا عِنْدَ بَابِهِ فِي الْغَلَسِ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذه حبيبة بنت سهل، قد ذكرت مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ، فَقَالَتْ حَبِيبَةُ: يا رسول الله! كل ما أعطاني عندي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذْ مِنْهَا، فَأَخَذَ مِنْهَا» وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَفِي حَبِيبَةَ، وَكَانَتِ اشْتَكَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَدَعَاهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: وَيَطِيبُ لِي ذَلِكَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ ثَابِتٌ: قَدْ فَعَلْتُ، فَنَزَلَتْ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ الله بن سلول امرأة ثابت ابن قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ «أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنْ لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا، وَأَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» . وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ: «فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلَا يَزْدَادَ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ قَالَ: «أَتَتِ امرأة النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إِنِّي أَبْغَضُ زَوْجِي وَأُحِبُّ فِرَاقَهُ، قَالَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَصْدَقَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الزِّيَادَةُ مِنْ مَالِكِ فَلَا» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ: أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قيس فذكر الْقِصَّةَ، وَفِيهِ «أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ: أنه أمر النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ثَابِتًا أَنْ يَأْخُذَ مَا سَاقَ وَلَا يَزْدَادُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَفِيهَا «فَرَدَّتْ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ وَزَادَتْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الْمُخْتَلِعَاتِ «اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا» . وَفِي لَفْظٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلزَّوْجِ: «خُذْ وَلَوْ عِقَاصَهَا» . قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَجَازَ عُثْمَانُ الْخَلْعَ دُونَ عِقَاصِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمُخْتَلِعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّ الْمُخْتَلِعَاتِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: عَنْ ثَوْبَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ وَقَالَ: الْمُخْتَلِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» . وَمِنْهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ فَتَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ. وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا» . وَمِنْهَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» وَمِنْهَا: عَنْ عُقْبَةَ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ مَرْفُوعًا مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ، لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتدّ

بِحَيْضَةٍ» وَلِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ: «أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ، أَوْ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتِ: اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِي، فَجِئْتُ عُثْمَانَ فَسَأَلْتُهُ مَاذَا عَلَيَّ مِنَ الْعِدَّةِ؟ فَقَالَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْكِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِكِ فَتَمْكُثِينَ حَتَّى تَحِيضِي حَيْضَةً، قَالَتْ: إِنَّمَا أَتْبَعُ فِي ذَلِكَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مريم المغالية، وكانت تحت ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً فَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا» وَلَمْ يَرِدْ مَا يُعَارِضُ هَذَا مِنَ الْمَرْفُوعِ، بَلْ وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ كَعِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُطَلَّقَاتِ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ الْقُرْآنِ. وَالْحَقُّ مَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ مَا وَرَدَ عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُخَصِّصُ عُمُومَ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ يَقُولُ: فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي. فَتَزَوَّجَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمَا مَعَهُ إِلَّا مِثُلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» . وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَلَمْ يُسَمِّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الصَّحَابَةُ صَاحِبَةَ الْقِصَّةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْعُمَيْصَاءَ أَوِ الرُّمَيْصَاءَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم» وفي آخره: «فقال صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكِ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ رَجُلٌ غَيْرُهُ» . وَقَدْ ثَبَتَ لَعْنُ الْمُحَلِّلِ فِي أَحَادِيثَ مِنْهَا: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي سُنَنِهِ قَالَ «لعن النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَمِنْهَا: عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيِّ مَرْفُوعًا مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْهَا: عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِثْلُهُ، وَمِنْهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِثْلُهُ، وَمِنْهَا: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ، وَمِنْهَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيِّ مِثْلُهُ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ فِي ذَمِّ التَّحْلِيلِ وَفَاعِلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا يَقُولُ: إِذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْأَوَّلِ فَدَخَلَ بِهَا الْآخَرُ فَلَا حَرَجَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا طَلَّقَهَا الْآخَرُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَقَدْ حَلَّتْ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ قَالَ: أَمْرَ الله وطاعته.

[سورة البقرة (2) : آية 231]

[سورة البقرة (2) : آية 231] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) الْبُلُوغُ إِلَى الشَّيْءِ: مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ: الْوُصُولُ إِلَيْهِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْبُلُوغُ بِمَعْنَى الْمُقَارَبَةِ إِلَّا مَجَازًا لِعَلَاقَةٍ مَعَ قَرِينَةٍ كَمَا هُنَا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا قَدْ بَلَغَتْ آخِرَ جزء من مدّة الْعِدَّةِ وَجَاوَزَتْهُ إِلَى الْجُزْءِ الَّذِي هُوَ الْأَجَلُ لِلِانْقِضَاءِ فَقَدْ خَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا سَبِيلٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إن معنى فَبَلَغْنَ هُنَا: قَارَبْنَ، بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْمَعْنَى يَضْطَرُّ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْإِمْسَاكِ، وَالْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ: هُوَ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، أَيْ: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَقَارَبْنَ آخِرَ الْعِدَّةِ فَلَا تُضَارُّوهُنَّ بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِاسْتِمْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ وَاسْتَدَامَتِهَا بَلِ اخْتَارُوا أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِضِرَارٍ، أَوِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، أَيْ: تَرْكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ ضِرَارٍ، وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ حَتَّى يَقْرُبَ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا، ثُمَّ مُرَاجَعَتُهَا لَا عَنْ حَاجَةٍ وَلَا لمحبة، ولكن لقصد تطويل العدّة وتوسيع مُدَّةَ الِانْتِظَارِ ضِراراً لِقَصْدِ الِاعْتِدَاءِ مِنْكُمْ عَلَيْهِنَّ وَالظُّلْمِ لَهُنَّ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ عَرَّضَهَا لِعِقَابِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْعَذَابِ، لِأَنَّ إِتْيَانَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ تَعَرُّضٌ لِعَذَابِ اللَّهِ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً أَيْ: لَا تأخذوا أحكام الله على طريقة الهزء، فَإِنَّهَا جِدٌّ كُلُّهَا، فَمَنْ هَزَلَ فِيهَا فَقَدْ لَزِمَتْهُ، نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَفْعَلُوا كَمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُطَلِّقُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ أَوْ يُعْتِقُ أَوْ يَتَزَوَّجُ وَيَقُولُ: كُنْتُ لَاعِبًا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ هَازِلًا أَنَّ الطَّلَاقَ يَلْزَمُهُ. قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَيِ: النِّعْمَةَ الَّتِي صِرْتُمْ فِيهَا بِالْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ فِي جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ، وَظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَالْكِتَابُ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَالْحِكْمَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي سَنَّهَا لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَعِظُكُمْ بِهِ أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ، وَأَفْرَدَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهِمَا فِي النِّعْمَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، تَنْبِيهًا عَلَى خَطَرِهِمَا وَعِظَمِ شَأْنِهِمَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، فَيَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ يُضَارُّهَا وَيُعَطِّلُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ مَالِكٌ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن ثور بن يزيد. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ مَالِكٌ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا أَشْهَدَ عَلَى رَجَعَتِهَا، يُرِيدُ أَنْ يُطَوِّلَ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ؟ يَقُولُ: قَدْ طَلَّقْتُكِ، قَدْ رَاجَعْتُكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ، قَدْ رَاجَعْتُكِ، لَيْسَ هَذَا طَلَاقُ

[سورة البقرة (2) : آية 232]

الْمُسْلِمِينَ، طَلِّقُوا الْمَرْأَةَ فِي قُبُلِ عِدَّتِهَا «1» » . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي، ثُمَّ يَقُولُ كُنْتُ لَاعِبًا، وَيَقُولُ: قَدْ أُعْتِقْتَ، وَيَقُولُ: كُنْتُ لَاعِبًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مَنْ قَالَهُنَّ لَاعِبًا أَوْ غَيْرَ لَاعِبٍ فَهُنَّ جَائِزَاتٌ عَلَيْهِ: الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ، وَالْعَتَاقُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ ثُمَّ يَقُولُ: لَعِبْتُ وَيُعْتِقُ ثُمَّ يَقُولُ: لَعِبْتُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ فَقَالَ لَعِبْتُ فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِشَيْءٍ، يَقَعُ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ وَهُوَ يَلْعَبُ، لَا يُرِيدُ الطَّلَاقَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فَأَلْزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّلَاقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا نَحْوَ حَدِيثِ عُبَادَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، والطّلاق، والرّجعة» . [سورة البقرة (2) : آية 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) الْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ وَبِقَوْلِهِ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْأَزْوَاجِ، وَيَكُونَ مَعْنَى الْعَضْلِ مِنْهُمْ: أَنْ يَمْنَعُوهُنَّ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ مَنْ أَرَدْنَ مِنَ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ لِحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالسَّلَاطِينِ غَيْرَةً عَلَى مَنْ كُنَّ تَحْتَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ أَنْ يَصِرْنَ تَحْتَ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لِمَا نالوه من رئاسة الدُّنْيَا وَمَا صَارُوا فِيهِ مِنَ النَّخْوَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ يَتَخَيَّلُونَ أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ جِنْسِ بَنِي آدَمَ، إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِالْوَرَعِ وَالتَّوَاضُعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَيَكُونَ مَعْنَى إِسْنَادِ الطَّلَاقِ إِلَيْهِمْ: أَنَّهُمْ سَبَبٌ لَهُ لِكَوْنِهِمُ الْمُزَوِّجِينَ لِلنِّسَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ مِنَ الْأَزْوَاجِ الْمُطَلِّقِينَ لَهُنَّ. وَبُلُوغُ الْأَجَلِ الْمَذْكُورِ هُنَا، الْمُرَادُ بِهِ: الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، أَيْ: نِهَايَتُهُ لَا كَمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى. وَالْعَضْلُ: الْحَبْسُ. وَحَكَى الْخَلِيلُ: دَجَاجَةٌ مُعْضَلَةٌ: قَدِ احْتَبَسَ بَيْضُهَا وَقِيلَ: الْعَضْلُ: التَّضْيِيقُ وَالْمَنْعُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْحَبْسِ، يُقَالُ: أَرَدْتُ أَمْرًا فَعَضَلْتَنِي عَنْهُ، أَيْ: مَنَعْتَنِي وَضَيَّقْتَ عَلَيَّ، وَأُعْضِلَ الْأَمْرُ: إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْكَ فِيهِ الْحِيَلُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ الْعَضْلِ: مِنْ قَوْلِهِمْ عَضَلَتِ النَّاقَةُ: إِذَا نَشِبَ وَلَدُهَا فَلَمْ يَسْهُلْ خُرُوجُهُ، وَعَضَلَتِ الدَّجَاجَةُ: نَشِبَ بَيْضُهَا، وَكُلُّ مُشْكِلٍ عِنْدَ الْعَرَبِ مُعْضِلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا الْمُعْضِلَاتُ تَصَدَّيْنَ لِي ... كَشَفْتُ خفاء لها بالنّظر

_ (1) . وفي رواية: في قبل طهرهنّ، أي: في إقباله وأوله وحين يمكنها الدخول في العدة والشروع فيها، فتكون لها محسوبة، وذلك في حالة الطهر، النهاية (4/ 9) .

وَيُقَالُ: أَعْضَلَ الْأَمْرُ: إِذَا اشْتَدَّ، وَدَاءٌ عُضَالٌ: أَيْ: شَدِيدٌ عَسِيرُ الْبُرْءِ أَعْيَا الْأَطِبَّاءَ، وَعَضَلَ فُلَانٌ آيِمَهُ: أَيْ: مَنَعَهَا، يَعْضُلُهَا بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ لغتان. قوله: أَنْ يَنْكِحْنَ أَيْ: مِنْ أَنْ يَنْكِحْنَ، فَمَحَلُّهُ الْجَرُّ عِنْدَ الْخَلِيلِ، وَالنُّصْبُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ وَقِيلَ: هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ. وَقَوْلُهُ: أَزْواجَهُنَّ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُطَلِّقُونَ لَهُنَّ فَهُوَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ يُرِدْنَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَهُ فَهُوَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا سَيَكُونُ، وَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فُصِّلَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ مَعَ كَوْنِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ جَمْعًا حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ بِتَأْوِيلِهِ بِالْفَرِيقِ وَنَحْوِهِ. وَقَوْلُهُ: ذلِكُمْ مَحْمُولٌ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ، خَالَفَ سُبْحَانَهُ مَا بَيْنَ الْإِشَارَتَيْنِ افْتِنَانًا. وَقَوْلُهُ: أَزْكى أَيْ: أَنْمَى وَأَنْفَعُ وَأَطْهَرُ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا لَكُمْ فِيهِ الصَّلَاحُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: كَانَتْ لِي أُخْتٌ فَأَتَانِي ابْنُ عَمٍّ فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ مَا كَانَتْ، ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَهَوِيَهَا وَهَوِيَتْهُ، ثُمَّ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا لُكَعُ أَكْرَمْتُكَ بِهَا وَزَوَّجْتُكَهَا فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، وَاللَّهِ لَا تَرْجِعُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَعَلِمَ اللَّهُ حَاجَتَهُ إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله قوله: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الْآيَةَ، قَالَ: فَفِيَّ نَزَلَتْ الْآيَةُ، فَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ، فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ تَزْوِيجُهَا، وَأَنْ يُرَاجِعَهَا وَتُرِيدَ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، فَمَنَعَهَا وَلِيُّهَا مِنْ ذَلِكَ، فَنَهَى اللَّهُ أَنْ يَمْنَعُوهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، كَانَتْ لَهُ ابْنَةُ عَمٍّ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فأراد مراجعتها، فأتى جَابِرٌ، فَقَالَ: طَلَّقْتَ بِنْتَ عَمِّنَا ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَهَا الثَّانِيَةَ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ زَوْجَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يَعْنِي: بِمَهْرٍ وَبَيِّنَةٍ وَنِكَاحٍ مُؤْتَنَفٍ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَنْكِحُوا الْأَيَامَى، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الْعَلَائِقُ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ أَهْلُهُنَّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ قَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ مِنْ حُبِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا لَا تَعْلَمُ أَنْتَ أَيُّهَا الْوَلِيُّ.

_ (1) . أي: نكاح مستأنف جديد.

[سورة البقرة (2) : آية 233]

[سورة البقرة (2) : آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ، ذَكَرَ الرَّضَاعَ، لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَفْتَرِقَانِ وَبَيْنَهُمَا وَلَدٌ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالْمُطَلَّقَاتِ وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ. وَقَوْلُهُ: يُرْضِعْنَ قِيلَ: هُوَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِ مَضْمُونِهِ وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ عَلَى بَابِهِ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ عَلَى حَسَبِ مَا سلف في قوله: يَتَرَبَّصْنَ وَقَوْلُهُ: كامِلَيْنِ تَأْكِيدٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ تَحْقِيقِيٌّ لَا تَقْرِيبِيٌّ. وَقَوْلُهُ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ أَيْ: ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِرْضَاعَ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ حَتْمًا، بَلْ هُوَ التَّمَامُ، وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونِهِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: «لِمَنْ أَرَادَ أَنْ تَتِمَّ» بِفَتْحِ التَّاءِ، وَرَفْعِ الرَّضَاعَةِ، عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهَا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْجَارُودُ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ: بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ: الرَّضْعَةَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُكْمِلَ الرَّضَاعَةَ» . قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يَعْرِفُ الْبَصْرِيُّونَ الرَّضَاعَةَ إِلَّا بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ جَوَازَ الْكَسْرِ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الرَّضَاعِ عَلَى الْأُمِّ لِوَلَدِهَا، وَقَدْ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقْبَلِ الرَّضِيعُ غَيْرَهَا. قَوْلُهُ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ أَيْ: عَلَى الْأَبِ الَّذِي يُولَدُ لَهُ، وَآثَرَ هَذَا اللَّفْظَ دُونَ قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوَالِدِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَادَ لِلْآبَاءِ، لَا لِلْأُمَّهَاتِ، وَلِهَذَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِمْ دُونَهُنَّ، كَأَنَّهُنَّ إِنَّمَا وَلَدْنَ لَهُمْ فَقَطْ، ذُكِرَ مَعْنَاهُ فِي الْكَشَّافِ، وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ هُنَا: الطَّعَامُ الْكَافِي الْمُتَعَارَفُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ بِالْكُسْوَةِ: مَا يَتَعَارَفُونَ بِهِ أَيْضًا وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى الْآبَاءِ لِلْأُمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ. وَهَذَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُطَلَّقَاتِ فَنَفَقَتُهُنَّ وَكُسْوَتُهُنَّ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ مِنْ غَيْرِ إِرْضَاعِهِنَّ لِأَوْلَادِهِنَّ. وَقَوْلُهُ: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها هُوَ تَقْيِيدٌ لِقَوْلِهِ: بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: هَذِهِ النَّفَقَةُ وَالْكُسْوَةُ الْوَاجِبَتَانِ عَلَى الْأَبِ بِمَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ لَا يُكَلِّفُ مِنْهَا إِلَّا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ وُسْعِهِ، وَطَاقَتِهِ، لَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَعْجِزُ عَنْهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: لَا تُكَلَّفُ الْمَرْأَةُ الصَّبْرَ عَلَى التَّقْتِيرِ فِي الْأُجْرَةِ، وَلَا يُكَلَّفُ الزَّوْجُ مَا هُوَ إِسْرَافٌ بَلْ يُرَاعَى الْقَصْدُ. قَوْلُهُ: لَا تُضَارَّ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَجَمَاعَةٌ، وَرَوَاهُ أَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِ وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: «تُضَارَّ» بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ على النهي، وأصله: لا تضارر، على البناء للفاعل أو المفعول، أَيْ: لَا تُضَارِرِ الْأَبَ بِسَبَبِ الْوَلَدِ، بِأَنْ تَطْلُبَ مِنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْكُسْوَةِ، أَوْ: بِأَنْ تُفَرِّطَ فِي حِفْظِ الْوَلَدِ، وَالْقِيَامِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَوْ: لَا تُضَارَرُ مِنْ زَوْجِهَا، بِأَنْ يُقَصِّرَ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُنْتَزَعُ وَلَدُهَا مِنْهَا بِلَا سَبَبٍ، وَهَكَذَا قِرَاءَةُ الرَّفْعِ تَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «لَا تُضَارَرْ» عَلَى الْأَصْلِ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ: «لَا تُضَارْ» بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ الْإِسْكَانُ وَالتَّشْدِيدُ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ «لَا تُضَارِرْ» بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِوَلَدِهِ، صِلَةً لِقَوْلِهِ تُضَارُّ، عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى تَضُرُّ، أي: لا تضرّ والدة بولدها، فتسيئ تَرْبِيَتَهُ، أَوْ تُقَصِّرَ فِي غِذَائِهِ وَأُضِيفَ الْوَلَدُ تَارَةً إِلَى الْأَبِ وَتَارَةً إِلَى الْأُمِّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ مع ما في ذلك من الاستعطاف، وهذا الْجُمْلَةُ تَفْصِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَتَقْرِيرٌ لَهَا، أَيْ: لَا يُكَلِّفُ كُلُّ وَاحِدٍ

مِنْهُمَا الْآخَرَ مَا لَا يُطِيقُهُ، فَلَا تُضَارَّهُ بِسَبَبِ وَلَدِهِ. قَوْلُهُ: وَعَلَى الْوارِثِ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وَمَا بَيْنَهُمَا تَفْسِيرٌ لِلْمَعْرُوفِ، أَوْ تَعْلِيلٌ لَهُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَقِيلَ: هُوَ وَارِثُ الصَّبِيِّ، أَيْ: إِذَا مَاتَ الْمَوْلُودُ له كان عَلَى وَارِثِ هَذَا الصَّبِيِّ الْمَوْلُودِ إِرْضَاعُهُ، كَمَا كَانَ يَلْزَمُ أَبَاهُ ذَلِكَ، قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عَلَى خِلَافٍ بَيْنِهِمْ: هَلْ يَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَى مَنْ يَأْخُذُ نَصِيبًا مِنَ الْمِيرَاثِ؟ أَوْ عَلَى الذُّكُورِ فَقَطْ؟ أَوْ عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا مِنْهُ؟ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالوارث: وارث الأب عليه نفقة المرضعة، وكسوتها بالمعروف، قاله مَالِكٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمِثْلِ مَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَإِنَّهَا لَا تَلْزَمُ الرَّجُلَ نَفَقَةُ أَخٍ، وَلَا ذِي قَرَابَةٍ، وَلَا ذِي رَحِمٍ مِنْهُ وَشَرَطَهُ الضَّحَّاكُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أُخِذَتْ أُجْرَةُ رَضَاعِهِ مِنْ مَالِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَارِثِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ: هُوَ الصَّبِيُّ نَفْسُهُ: أَيْ: عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ إِرْضَاعُ نَفْسِهِ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ وَوَرِثَ مِنْ مَالِهِ، قاله قبيصة بن ذؤيب، وبشير بن نصر قَاضِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ: هُوَ الْبَاقِي مِنْ وَالِدِي الْمَوْلُودِ بَعْدَ مَوْتِ الْآخَرِ مِنْهُمَا، فَإِذَا مَاتَ الْأَبُ كَانَ عَلَى الْأُمِّ كِفَايَةُ الطِّفْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ أَيْ: وَارْثُ الْمُرْضِعَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصْنَعَ بِالْمَوْلُودِ كَمَا كَانَتِ الْأُمُّ تَصْنَعُهُ بِهِ مِنَ الرَّضَاعِ وَالْخِدْمَةِ وَالتَّرْبِيَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِضْرَارُ بِالْأُمِّ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَبِ، وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ الْعَطْفُ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، إِذْ لَوْ أَرَادَ الْجَمِيعَ الَّذِي هُوَ الرَّضَاعُ وَالْإِنْفَاقُ وعدم الضرر لقال: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ هَؤُلَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْمُضَارَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ تَأَوَّلَهُ كَافَّةُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا حَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِثْلُ ذَلِكَ: أَنْ لَا تُضَارَّ. وَأَمَّا الرِّزْقُ، وَالْكِسْوَةُ، فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْهُ. وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: مِثْلَ مَا قَدَّمْنَا عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَدَعْوَى النَّسْخِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ ضَعْفُ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ، فَإِنَّ مَا خَصَّصُوا بِهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى: أَيْ: عَدَمِ الْإِضْرَارِ بِالْمُرْضِعَةِ قَدْ أَفَادَهُ قَوْلُهُ: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها لِصِدْقِ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مُضَارَّةٍ تَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَوْلُودِ لَهُ أَوْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ: لَوْ أَرَادَ الْجَمِيعَ لَقَالَ: مِثْلَ هَؤُلَاءِ، فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ الْبَيِّنِ، فَإِنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يَصْلُحُ لِلْمُتَعَدِّدِ كَمَا يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ بِتَأْوِيلِ: الْمَذْكُورِ أَوْ نَحْوِهِ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَارِثِ: وَارِثُ الصَّبِيِّ، فَيُقَالُ عَلَيْهِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا حَقِيقَةً مَعَ وُجُودِ الصَّبِيِّ حَيًّا، بَلْ هُوَ وَارِثٌ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي: فَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَمْلُ الْوَارِثِ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، لَكِنَّ فِي إِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مَعَ غِنَى الصَّبِيِّ مَا فِيهِ، وَلِهَذَا قَيَّدَهُ الْقَائِلُ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ فَقِيرًا، وَوَجْهُ الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ الْوَارِثِ مَا تَقَدَّمَ من ذكر الوالدات والمولود له

والولد، فَاحْتَمَلَ أَنْ يُضَافَ الْوَارِثُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ. قَوْلُهُ: فَإِنْ أَرادا فِصالًا الضَّمِيرُ لِلْوَالِدَيْنِ. وَالْفِصَالُ: الْفِطَامُ عَنِ الرَّضَاعِ، أَيِ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالثَّدْيِ، وَمِنْهُ سُمِّي الْفَصِيلُ لِأَنَّهُ مَفْصُولٌ عَنْ أُمِّهِ. وَقَوْلُهُ: عَنْ تَراضٍ مِنْهُما أَيْ: صَادِرًا عَنْ تَرَاضٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ إِذَا كَانَ الْفِصَالُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِي ذَلِكَ الْفِصَالِ. سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْأَبَ وَحْدَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ الصَّبِيَّ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ، وَهُنَا اعْتَبَرَ سُبْحَانَهُ تَرَاضِيَ الْأَبَوَيْنِ وَتَشَاوُرَهُمَا، فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِرَادَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمَا، أَوْ يُقَالَ: إِنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَبَوَانِ لِلصَّبِيِّ حَيَّيْنِ بِأَنْ كَانَ الْمَوْجُودُ أَحَدَهُمَا، أَوْ كَانَتِ الْمُرْضِعَةُ لِلصَّبِيِّ ظِئْرًا غَيْرَ أُمِّهِ. وَالتَّشَاوُرُ: اسْتِخْرَاجُ الرَّأْيِ، يُقَالُ: شُرْتُ الْعَسَلَ: اسْتَخْرَجْتُهُ، وَشُرْتُ الدَّابَّةُ: أَجْرَيْتُهَا لِاسْتِخْرَاجِ جَرْيِهَا، فَلَا بُدَّ لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ إِذَا أَرَادَ فِصَالَ الرَّضِيعِ أَنْ يُرَاضِيَ الْآخَرَ، وَيُشَاوِرَهُ، حَتَّى يَحْصُلَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا لِأَوْلَادِكُمْ غَيْرَ الْوَالِدَةِ. وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ حَذَفَ اللَّامَ لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: أَنْ تَسْتَرْضِعُوا الْمَرَاضِعَ أَوْلَادَكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَدِّ، أَيْ: أَعْطَيْتُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا ابْنَ كَثِيرٍ، فَإِنَّهُ قَرَأَ بِالْقَصْرِ، أَيْ: فَعَلْتُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أولادكم غير أمهاتهم إِذَا سَلَّمْتُمْ إِلَى الْأُمَّهَاتِ أَجْرَهُنَّ بِحِسَابِ مَا قَدْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ إِلَى وَقْتِ إِرَادَةِ الِاسْتِرْضَاعِ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ مِنْ إِرَادَةِ الِاسْتِرْضَاعِ، أَيْ: سَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَرَضِيَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَنِ اتِّفَاقٍ مِنْهُمَا، وَقَصْدِ خَيْرٍ، وَإِرَادَةِ مَعْرُوفٍ مِنَ الْأَمْرِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: سَلَّمْتُمْ عَامًّا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ تَغْلِيبًا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْخِطَابُ لِلرِّجَالِ فَقَطْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِذَا سَلَّمْتُمْ لِمَنْ أَرَدْتُمُ اسْتِرْضَاعَهَا أَجْرَهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا أَرَدْتُمْ إِيتَاءَهُ، أَيْ: إِعْطَاءَهُ إِلَى الْمُرْضِعَاتِ بِالْمَعْرُوفِ: أَيْ: بِمَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ مِنْ أَجْرِ الْمُرْضِعَاتِ، مِنْ دُونِ مُمَاطَلَةٍ لَهُنَّ، أَوْ حَطِّ بَعْضِ مَا هُوَ لَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ عَدَمَ تَوْفِيرِ أَجْرِهِنَّ يَبْعَثُهُنَّ عَلَى التَّسَاهُلِ بِأَمْرِ الصَّبِيِّ وَالتَّفْرِيطِ فِي شَأْنِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ قَالَ: الْمُطَلَّقَاتُ. حَوْلَيْنِ قَالَ: سَنَتَيْنِ. لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها يَقُولُ: لَا تأبى أن ترضعه لِتَشُقَّ عَلَى أَبِيهِ. وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ يقول: ولا يضارّ الولد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها لذلك. وَعَلَى الْوارِثِ قَالَ: يَعْنِي: الْوَلِيَّ مَنْ كَانَ. مِثْلُ ذلِكَ قَالَ: النَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَفَالَتُهُ، وَرِضَاعُهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ

[سورة البقرة (2) : آية 234]

لِلْمَوْلُودِ مَالٌ، وَأَنْ لَا تُضَارَّ أُمُّهُ. فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ قَالَ: غَيْرُ مُسِيئِينَ فِي ظُلْمِ أَنْفُسِهِمَا وَلَا إِلَى صَبِيِّهِمَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ قَالَ: خِيفَةُ الضَّيْعَةِ عَلَى الصَّبِيِّ. فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ: حِسَابُ مَا أُرْضِعَ بِهِ الصَّبِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير في تفسيره هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ هِيَ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ قَالَ: مَا أَعْطَيْتُمُ الظِّئْرَ مِنْ فَضْلٍ عَلَى أَجْرِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ قَالَ: إِنَّهَا الْمَرْأَةُ تُطَلَّقُ أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا زَوْجُهَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الَّتِي تَضَعُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ: أَنَّهَا تُرْضِعُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، وَإِذَا وَضَعَتْ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ ثَلَاثَةً وعشرين شهرا، لتمام ثلاثين شهرا، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت إحدى وَعِشْرِينَ شَهْرًا، ثُمَّ تَلَا: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً «1» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ: عَلَى قَدْرِ الْمَيْسَرَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُلْقِيَ وَلَدَهَا عَلَيْهِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُرْضِعُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَارَّهَا فَيَنْتَزِعَ مِنْهَا وَلَدَهَا وَهِيَ تُحِبُّ أَنْ تُرْضِعَهُ وَعَلَى الْوارِثِ قَالَ: هُوَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوارِثِ قَالَ: هُوَ وَارِثُ الصَّبِيِّ يُنْفِقُ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَزَادَ: إِذَا كَانَ الْمَوْلُودُ لَا مَالَ لَهُ مِثْلُ الَّذِي عَلَى وَالِدِهِ مِنْ أَجْرِ الرَّضَاعِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ قَالَ: هُوَ الصَّبِيُّ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ قَالَ: لَا يُضَارُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فَإِنْ أَرادا فِصالًا قَالَ: الْفِطَامُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. قَالَ: التَّشَاوُرُ فِيمَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ، لَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْطِمَهُ إِلَّا أَنْ يَرْضَى، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يفطمه إلا أن ترضى. وأخرجوا أيضا عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ قَالَ: أُمَّهُ أَوْ غَيْرَهَا. فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ قَالَ: إِذَا سَلَّمْتَ لَهَا أَجْرَهَا. مَا آتَيْتُمْ: مَا أَعْطَيْتُمْ. [سورة البقرة (2) : آية 234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَاتَّصَلَ بِذِكْرِهَا ذِكْرُ الْإِرْضَاعِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِثْلُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَالرِّجَالُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا، أَيْ: وَلَهُمْ زَوْجَاتٌ، فَالزَّوْجَاتُ يَتَرَبَّصْنَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: تَقْدِيرُهُ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ويذرون

_ (1) . الأحقاف: 15.

أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، أَيْ: مِنْهُ. وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمَعْنَى: وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: وَأَزْوَاجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ يَتَرَبَّصْنَ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً لَا يُلَائِمُ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ النَّكِرَةِ الْمُعَادَةِ الْمُغَايَرَةُ. وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: إِنَّ الْخَبَرَ عَنِ: الَّذِينَ، مَتْرُوكٌ، وَالْقَصْدُ الْإِخْبَارُ عَنْ أَزْوَاجِهِمْ بِأَنَّهُنَّ يَتَرَبَّصْنَ. وَوَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْعِدَّةِ لِلْوَفَاةِ هَذَا الْمِقْدَارَ أَنَّ الْجَنِينَ الذَّكَرَ يَتَحَرَّكُ فِي الْغَالِبِ لِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَالْأُنْثَى لِأَرْبَعَةٍ، فَزَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ عَشْرًا، لِأَنَّ الْجَنِينَ رُبَّمَا يَضْعُفُ عَنِ الْحَرَكَةِ فَتَتَأَخَّرُ حَرَكَتُهُ قَلِيلًا وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْ هَذَا الْأَجَلِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْعُمُومُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا تَكُونُ عِدَّتُهَا هَذِهِ الْعِدَّةَ، وَلَكِنَّهُ قَدْ خَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ «1» وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْحَامِلَ تَعْتَدُّ بِآخِرِ الْأَجَلَيْنِ، جَمْعًا بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَإِعْمَالًا لَهُمَا، وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُنَاسِبُ قَوَانِينَ اللُّغَةِ وَلَا قَوَاعِدَ الشَّرْعِ، وَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِ الْخَاصِّ مِنْ بَيْنِ أَفْرَادِ الْعَامِّ إِلَّا بَيَانُ أَنَّ حُكْمَهُ مُغَايِرٌ لِحُكْمِ الْعَامِّ وَمُخَالِفٌ لَهُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَذِنَ لِسُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ الْوَضْعِ وَالتَّرَبُّصُ الثَّانِي وَالتَّصَبُّرُ عَنِ النِّكَاحِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَالْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَذَاتِ الْحَيْضِ وَالْآيِسَةِ، وَأَنَّ عِدَّتَهُنَّ جميعا للوفاة أربعة أشهر وعشر، وَقِيلَ إِنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِجْمَاعًا إِلَّا مَا يُحْكَى عَنِ الْأَصَمِّ فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إِلَّا مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْحُرَّةِ، وَلَيْسَ بِالثَّابِتِ عَنْهُ، وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَصَمُّ وَابْنُ سِيرِينَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْعُمُومِ، وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ عَدَاهُمَا قِيَاسُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ عَلَى الْحَدِّ فَإِنَّهُ ينصف للأمة بقوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ «2» . وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ: «طَلَاقِ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَهُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ: إِلَّا جَعْلُ طَلَاقِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ طَلَاقِ الْحُرَّةِ، وَعِدَّتِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّتِهَا، ولكنه لما لم يمكن أَنْ يُقَالَ طَلَاقُهَا تَطْلِيقَةٌ وَنِصْفٌ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَةٌ وَنِصْفٌ، لِكَوْنِ ذَلِكَ لَا يُعْقَلُ، كَانَتْ عِدَّتُهَا وَطَلَاقُهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ جَبْرًا للكسر، ولكن هاهنا أمر يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي جَعْلِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ مَعْرِفَةِ خُلُوِّهَا مِنَ الْحَمْلِ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِتِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ كَوْنِ عِدَّتِهَا فِي غَيْرِ الْوَفَاةِ حَيْضَتَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِهِ خُلُوُّ الرَّحِمِ، وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ الْفَرْقِ مَا سَيَأْتِي فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ لِمَوْتِ سَيِّدِهَا. فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عبد العزيز، والأوزاعي، وإسحاق ابن رَاهَوَيْهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: إِنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: لَا تَلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ «عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سيدها أربعة أشهر وعشر» . أخرجه أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وضعفه أحمد، وأبو عبيد. قال الدَّارَقُطْنِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَقَتَادَةُ: عدّتها

_ (1) . الطلاق: 4. (2) . النساء: 25.

شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: تَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ، وَغَيْرُ الْحَائِضِ شَهْرٌ، وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْجُمْهُورُ. قَوْلُهُ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ الْمُرَادُ بِالْبُلُوغِ هُنَا: انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنَ التَّزَيُّنِ، وَالتَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي لَا يُخَالِفُ شَرْعًا وَلَا عَادَةً مُسْتَحْسَنَةً. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِذَلِكَ: عَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ. وقد ثبت ذلك فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: النَّهْيُ عَنِ الْكُحْلِ لِمَنْ هِيَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَالْإِحْدَادُ: تَرْكُ الزِّينَةِ مِنَ الطِّيبِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْجَيِّدَةِ، وَالْحُلِيِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ وُجُوبِهِ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ الْبَائِنَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ كُتُبُ الْفُرُوعِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ اعْتَدَّتْ سَنَةً فِي بَيْتِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ الْآيَةَ، فَهَذِهِ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا. وَقَالَ فِي ميراثها: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ.. «1» فَبَيَّنَ مِيرَاثَ الْمَرْأَةِ، وَتَرَكَ الْوَصِيَّةَ وَالنَّفَقَةَ فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يَقُولُ: إِذَا طُلِّقَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَإِذَا انْقَضَّتْ عِدَّتُهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَصَنَّعَ وَتَتَعَرَّضَ لِلتَّزْوِيجِ، فَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر عن أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: ضُمَّتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ الْعَشْرُ إِلَى الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لِأَنَّ فِي الْعَشْرِ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يَقُولُ: إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يَعْنِي: أَوْلِيَاءَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَرِهَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الطِّيبَ وَالزِّينَةَ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنِ الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ، وَأَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهَا أَبَقُوا حَتَّى إِذَا تَطَرَّفَ الْقَدُومَ «2» لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ، قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَنْزِلٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعم، فانصرفت حتى إذا كنت فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ، فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتِ؟ قَالَتْ: فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، فَقَالَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذلك فأخبرته، فاتبعه وقضى به.

_ (1) . النساء: 12. (2) . القدوم: بالتخفيف والتشديد، موضع إلى ستة أميال من المدينة، وتطرّف: وصل إلى أطرافه.

[سورة البقرة (2) : آية 235]

[سورة البقرة (2) : آية 235] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) الْجُنَاحُ: الْإِثْمُ، أَيْ: لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ وَالتَّعْرِيضُ: ضِدُّ التَّصْرِيحِ، وَهُوَ مِنْ عَرَضَ الشَّيْءَ، أَيْ: جَانَبَهُ، كَأَنَّهُ يَحُومُ بِهِ حَوْلَ الشَّيْءِ وَلَا يُظْهِرُهُ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِكَ: عَرَّضْتُ الرَّجُلَ، أَيْ: أَهْدَيْتُ لَهُ. وَمِنْهُ: أَنَّ رَكْبًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَرَّضُوا رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابًا بِيضًا، أَيْ: أَهْدَوْا لَهُمَا، فَالْمُعَرِّضُ بِالْكَلَامِ يُوصِلُ إِلَى صَاحِبِهِ كَلَامًا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، أَنَّ الْكِنَايَةَ: أَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ. وَالتَّعْرِيضُ: أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ، كَمَا يَقُولُ الْمُحْتَاجُ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ: جِئْتُكَ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ، وَلِأَنْظُرَ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: وحسبك بالتسليم منّي تقاضيا كأنه إِمَالَةُ الْكَلَامِ إِلَى عَرَضٍ يَدُلُّ عَلَى الْغَرَضِ، وَيُسَمَّى: التَّلْوِيحُ، لِأَنَّهُ يَلُوحُ مِنْهُ مَا يُرِيدُهُ. انْتَهَى. وَالْخِطْبَةُ بِالْكَسْرِ: مَا يَفْعَلُهُ الطَّالِبُ مِنَ الطَّلَبِ، وَالِاسْتِلْطَافِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، يُقَالُ: خَطَبَهَا يَخْطُبُهَا خِطْبَةً وَخِطْبًا. وَأَمَّا الْخُطْبَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ: فَهِيَ الْكَلَامُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الرَّجُلُ خَاطِبًا. وَقَوْلُهُ: أَكْنَنْتُمْ مَعْنَاهُ: سَتَرْتُمْ، وَأَضْمَرْتُمْ مِنَ التَّزْوِيجِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالْإِكْنَانُ: التَّسَتُّرُ وَالْإِخْفَاءُ، يُقَالُ: أَكْنَنْتُهُ وَكَنَنْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمِنْهُ: بِيضٌ مَكْنُونٌ، وَدُرٌّ مَكْنُونٌ. وَمِنْهُ أَيْضًا: أَكَنَّ الْبَيْتُ صَاحِبَهُ، أَيْ: سَتَرَهُ. وَقَوْلُهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أَيْ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ لَا تَصْبِرُونَ عَنِ النُّطْقِ لَهُنَّ بِرَغْبَتِكُمْ فِيهِنَّ، فَرَخَّصَ لَكُمْ فِي التَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ فِيهِ طَرَفًا مِنَ التَّوْبِيخِ كَقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ «1» . وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا مَعْنَاهُ: عَلَى سِرٍّ، فَحَذَفَ الْحَرْفَ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى السِّرِّ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: نِكَاحًا، أَيْ: لَا يَقُلِ الرَّجُلُ لِهَذِهِ الْمُعْتَدَّةِ تَزَوَّجِينِي، بَلْ يُعَرِّضُ تَعْرِيضًا. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقِيلَ السِّرُّ: الزِّنَا، أَيْ: لَا يَكُنْ مِنْكُمْ مُوَاعَدَةٌ عَلَى الزِّنَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ التَّزْوِيجِ بَعْدَهَا. قَالَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ الْقِصَاعِ وَقِيلَ: السِّرُّ: الْجِمَاعُ، أَيْ: لَا تَصِفُوا أَنْفُسَكُمْ لَهُنَّ بِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ تَرْغِيبًا لَهُنَّ فِي النِّكَاحِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبِرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أمثالي ومثله قول الأعشى: فلن يطلبوا سرّها للغنى ... ولن يسلموها لإزهادها

_ (1) . البقرة: 187.

أَرَادَ: تَطْلُبُونَ نِكَاحَهَا لِكَثْرَةِ مَالِهَا، وَلَنْ تُسَلِّمُوهَا لقلة مالها، والاستدراك بقوله: وَلكِنْ مِنْ مُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أَيْ: فَاذْكُرُوهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْمُعْتَدَّةِ بِمَا هُوَ رَفَثٌ: مِنْ ذِكْرِ جِمَاعٍ، أَوْ تَحْرِيضٍ عَلَيْهِ، لَا يَجُوزُ. وَقَالَ أَيْضًا: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْمُوَاعَدَةِ فِي الْعِدَّةِ لِلْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهَا، وَلِلْأَبِ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ وَلِلسَّيِّدِ فِي أَمَتِهِ. قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى: لَكِنْ، وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ: هُوَ مَا أُبِيحَ مِنَ التعريض. ومنه صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا وَقَالَ: هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُواعِدُوهُنَّ أَيْ: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ مُوَاعِدَةً قَطُّ إِلَّا مُوَاعَدَةً مَعْرُوفَةً غَيْرَ مُنْكَرَةٍ، فَجَعَلَهُ عَلَى هَذَا اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا، وَوَجْهُ مَنْعِ كَوْنِهِ مُنْقَطِعًا: أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى جَعْلِ التَّعْرِيضِ مَوْعُودًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ طَرِيقُ الْمُوَاعِدَةِ، لَا أَنَّهُ الْمَوْعُودُ فِي نَفْسِهِ. قَوْلُهُ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْعَزْمِ، يُقَالُ: عَزَمَ الشَّيْءَ، وَعَزَمَ عليه، والمعنى هنا: لا تعزموا على عقدة النِّكَاحِ ثُمَّ حَذَفَ عَلَى. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالْحَذْفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَا تَعْقِدُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ، لِأَنَّ مَعْنَى تَعْزِمُوا وَتَعْقِدُوا وَاحِدٌ وَقِيلَ: إِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْفِعْلِ يَتَقَدَّمُهُ فَيَكُونُ فِي هَذَا النَّهْيِ مُبَالَغَةٌ، لِأَنَّهُ إِذَا نُهِيَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الشَّيْءِ، كَانَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِالْأَوْلَى. قَوْلُهُ: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ يُرِيدُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَالْكِتَابُ هُنَا: هُوَ الْحَدُّ، وَالْقَدْرُ الَّذِي رُسِمَ مِنَ الْمُدَّةِ، سَمَّاهُ: كِتَابًا، لِكَوْنِهِ مَحْدُودًا، وَمَفْرُوضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «1» وَهَذَا الْحُكْمُ أَعْنِي: تَحْرِيمَ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ قَالَ: التَّعْرِيضُ أَنْ تَقُولَ: إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، وَإِنِّي لَأُحِبُّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا وَأَمْرِهَا، وَإِنَّ مِنْ شَأْنِي النِّسَاءَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ لِيَ امْرَأَةً صَالِحَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ لَهَا: إِنْ رَأَيْتِ أَنْ لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ هَيَّأَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: يَقُولُ إِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي تَزَوَّجْتُكِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَكْنَنْتُمْ قَالَ: أَسْرَرْتُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ قَالَ: بِالْخَطِيئَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ذِكْرُهُ إِيَّاهَا فِي نَفْسِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا قَالَ: يَقُولُ لَهَا إِنِّي عَاشِقٌ، وَعَاهِدِينِي أَنْ لَا تَتَزَوَّجِي غَيْرِي، وَنَحْوَ هَذَا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ رَأَيْتِ أَنْ لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي السِّرِّ: أَنَّهُ الزِّنَا، كَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ مِنْ أَجْلِ الزِّنَا وَهُوَ يُعَرِّضُ بِالنِّكَاحِ. وَأَخْرَجَ عبد الرزاق، وابن المنذر فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً قَالَ: يَقُولُ إِنَّكِ لِجَمِيلَةٌ، وَإِنَّكِ إِلَيَّ خَيْرٌ، وَإِنَّ النِّسَاءَ مِنْ حَاجَتِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ

_ (1) . النساء: 103.

[سورة البقرة (2) : الآيات 236 إلى 237]

قَالَ: لَا تَنْكِحُوا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ قال: حتى تنقضي العدّة. [سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237] لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) الْمُرَادُ بِالْجُنَاحِ هُنَا: التَّبِعَةُ مِنَ الْمَهْرِ وَنَحْوِهِ، فَرَفْعُهُ رَفْعٌ لِذَلِكَ، أَيْ: لَا تَبِعَةَ عَلَيْكُمْ بِالْمَهْرِ وَنَحْوِهِ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ: أَيْ مُدَّةُ عَدَمِ مَسِيسِكُمْ. وَنَقَلَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ مِنْ بَابِ اعْتِرَاضِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ لِيَكُونَ الثَّانِي قَيْدًا لِلْأَوَّلِ كَمَا فِي قَوْلِكَ: إِنْ تَأْتِنِي إِنْ تُحْسِنْ إِلَيَّ أُكْرِمْكَ، أَيْ: إِنْ تَأْتِنِي مُحْسِنًا إِلَيَّ وَالْمَعْنَى: إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ غَيْرَ مَاسِّينَ لَهُنَّ. وَقِيلَ: إِنَّهَا مَوْصُولَةٌ، أَيْ: إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ اللَّاتِي لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، وَهَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: أَوْ تَفْرِضُوا فَقِيلَ: أَوْ: بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَفْرِضُوا وَقِيلَ: بِمَعْنَى: حَتَّى، أَيْ: حَتَّى تَفْرِضُوا وَقِيلَ: بِمَعْنَى: الْوَاوِ، أَيْ: وَتَفْرِضُوا. وَلَسْتُ أَرَى لِهَذَا التَّطْوِيلِ وَجْهًا، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَلْتَبِسَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنِ الْمُطَلِّقِينَ مَا لَمْ يَقَعْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: أَيْ مُدَّةُ انْتِفَاءِ ذَلِكَ الْأَحَدِ، وَلَا يَنْتَفِي الْأَحَدُ الْمُبْهَمُ إِلَّا بِانْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، فإن وجد المسيس وجب المسمى أو مهر الْمِثْلِ، وَإِنْ وُجِدَ الْفَرْضُ وَجَبَ نِصْفُهُ مَعَ عَدَمِ الْمَسِيسِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا جُنَاحٌ، أَيِ: الْمُسَمَّى، أَوْ نِصْفُهُ، أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُطَلَّقَاتِ أَرْبَعٌ: مُطَلَّقَةٌ مَدْخُولٌ بِهَا مَفْرُوضٌ لَهَا، وَهِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهَا نَهْيُ الْأَزْوَاجِ عَنْ أَنْ يَأْخُذُوا مِمَّا آتَوْهُنَّ شَيْئًا، وَأَنَّ عِدَّتَهُنَّ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ. وَمُطَلَّقَةٌ غَيْرُ مَفْرُوضٍ لَهَا وَلَا مَدْخُولٍ بِهَا، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ هُنَا فَلَا مَهْرَ لَهَا، بَلِ الْمُتْعَةُ، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. وَمُطَلَّقَةٌ مَفْرُوضٌ لَهَا غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا، وَهِيَ المذكورة بقوله تعالى هُنَا: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَمُطَلَّقَةٌ مَدْخُولٌ بِهَا غَيْرُ مَفْرُوضٍ لَهَا، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ مَا لَمْ تُجَامِعُوهُنَّ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «مِنْ قَبْلِ أَنْ تُجَامِعُوهُنَّ» أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ: «مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ» وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: «تَمَاسُوهُنَّ» مِنَ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَرِيضَةِ هُنَا: تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ. قَوْلُهُ: وَمَتِّعُوهُنَّ أَيْ: أَعْطُوهُنَّ شَيْئًا يَكُونُ مَتَاعًا لَهُنَّ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ. وَمِنْ أَدِلَّةِ الوجوب قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا «1» وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالْقَاضِي شُرَيْحٌ، وَغَيْرُهُمْ: إِنَّ الْمُتْعَةَ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمَذْكُورَةِ مَنْدُوبَةٌ لَا وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَلَوْ كَانَتْ واجبة لأطلقها

_ (1) . الأحزاب: 49.

عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ، بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أَيْ: أَنَّ الْوَفَاءَ بِذَلِكَ وَالْقِيَامَ بِهِ شَأْنُ أهل التقوى، كل مُسْلِمٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ أَيْضًا: هَلِ الْمُتْعَةُ مَشْرُوعَةٌ لِغَيْرِ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ أَمْ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ إِلَّا لَهَا فَقَطْ؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فِي غَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالْفَرْضِ أَمْ مَنْدُوبَةٌ فَقَطْ؟ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ «1» وبقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا «2» وَالْآيَةُ الْأُولَى عَامَّةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَالثَّانِيَةُ فِي أزواج النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقَدْ كُنَّ مَفْرُوضًا لَهُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّهَا تَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَإِنْ كَانَتْ مَفْرُوضًا لها لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ «3» قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَحْزَابِ نَسَخَتِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى: أَنَّ الْمُتْعَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالتَّسْمِيَةِ، لِأَنَّ الْمَدْخُولَ بِهَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى، أَوْ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَغَيْرَ الْمَدْخُولَةِ الَّتِي قَدْ فَرَضَ لَهَا زَوْجُهَا فَرِيضَةً، أَيْ: سَمَّى لَهَا مَهْرًا، وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، تَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْمُسَمَّى، وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا ابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ. وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْفَرْضِ لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا الْمُتْعَةَ إِذَا كَانَتْ حُرَّةً. وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ أَمَةً فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لَهَا الْمُتْعَةَ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: لَا مُتْعَةَ لَهَا لِأَنَّهَا تَكُونُ لِسَيِّدِهَا، وهو لا يستحق ما لا فِي مُقَابِلِ تَأَذِّي مَمْلُوكَتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا شَرَعَ الْمُتْعَةَ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْفَرْضِ، لِكَوْنِهَا تَتَأَذَّى بِالطَّلَاقِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُتْعَةِ الْمَشْرُوعَةِ هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِقَدْرٍ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا حَدَّ لَهَا مَعْرُوفٌ، بَلْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُتْعَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ إِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي قَدْرِ الْمُتْعَةِ وَجَبَ لها نصف مهر مثلها، ولا ينقص عن خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْمَهْرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَلِلسَّلَفِ فِيهَا أَقْوَالٌ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِحَالِ الزَّوْجِ، فَالْمُتْعَةُ مِنَ الْغَنِيِّ فَوْقَ الْمُتْعَةِ من الفقير. وقرأ الْجُمْهُورُ: عَلَى الْمُوسِعِ بِسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ السِّينِ، وَهُوَ الَّذِي اتَّسَعَتْ حَالُهُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ وَفَتْحِهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: قَدْرُهُ بِسُكُونِ الدَّالِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ بِفَتْحِ الدَّالِ فِيهِمَا. قَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: هُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَهَكَذَا يُقْرَأُ فِي قَوْلِهِ تعالى: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «4» . وقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «5» والمقتر: المقلّ، ومتاعا: مصدر مؤكد لِقَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ، وَالْمَعْرُوفُ: مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ، وَالْعَادَةِ الْمُوَافِقَةِ لَهُ. وَقَوْلُهُ: حَقًّا وَصْفٌ لِقَوْلِهِ: مَتاعاً أَوْ: مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، يُقَالُ: حَقَّقْتُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَأَحْقَقْتُ، أَيْ: أَوْجَبْتُ. قَوْلُهُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ الْآيَةَ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المتعة لا تجب لهذه المطلقة

_ (1) . البقرة: 241. (2) . الأحزاب: 28. (3) . الأحزاب: 29. (4) . الرعد: 17. [.....] (5) . الأنعام: 91.

لِوُقُوعِهَا فِي مُقَابَلَةِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالْفَرْضِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الْمُتْعَةَ. وَقَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ أَيْ: فَالْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ نِصْفُ مَا سَمَّيْتُمْ لَهُنَّ مِنَ الْمَهْرِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنِصْفُ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَا الْجُمْهُورِ: بِالنَّصْبِ، أَيْ: فَادْفَعُوا نِصْفَ مَا فَرَضْتُمْ، وَقُرِئَ أَيْضًا: بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ أَيْضًا عَلَى: أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا زَوْجُهَا وَمَاتَ وَقَدْ فَرَضَ لَهَا مَهْرًا تَسْتَحِقُّهُ كَامِلًا بِالْمَوْتِ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَلْوَةِ: هَلْ تَقُومُ مَقَامَ الدُّخُولِ وَتَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ بِهَا كَمَالَ الْمَهْرِ كَمَا تَسْتَحِقُّهُ بِالدُّخُولِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَالْكُوفِيُّونَ، وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَجِبُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا الْعِدَّةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجِبُ إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَسِيسَ هُوَ الْجِمَاعُ، وَلَا تَجِبُ عِنْدَهُ الْعِدَّةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ. قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَيِ: الْمُطَلَّقَاتُ، وَمَعْنَاهُ: يَتْرُكْنَ وَيَصْفَحْنَ، وَوَزْنُهُ يَفْعَلْنَ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، وَقِيلَ: مُنْقَطِعٌ، وَمَعْنَاهُ: يَتْرُكْنَ النِّصْفَ الَّذِي يَجِبُ لَهُنَّ عَلَى الْأَزْوَاجِ. وَلَمْ تَسْقُطِ النُّونُ مَعَ إِنَّ، لِأَنَّ جَمْعَ الْمُؤَنَّثِ فِي الْمُضَارِعِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الرَّفْعِ، وَالنَّصْبِ، وَالْجَزْمِ لِكَوْنِ النُّونِ ضَمِيرًا، وَلَيْسَتْ بِعَلَامَةِ إِعْرَابٍ كَمَا فِي الْمُذَكَّرِ فِي قَوْلِكَ: الرِّجَالُ يَعْفُونَ، وَهَذَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يَعْنِي: الرِّجَالَ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَفْظًا. ومعنى قوله: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ قَوْلِهِ: «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ» لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَبْنِيٌّ وَهَذَا مُعْرَبٌ قِيلَ هُوَ الزَّوْجُ، وَبِهِ قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَشُرَيْحٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَمَكْحُولٌ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَهُوَ الْجَدِيدُ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ قُوَّةٌ وَضَعْفٌ أَمَّا قُوَّتُهُ: فَلِكَوْنِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ حَقِيقَةً هُوَ الزَّوْجُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ رَفْعُهُ بِالطَّلَاقِ، وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَلِكَوْنِ الْعَفْوِ مِنْهُ غَيْرَ مَعْقُولٍ، وَمَا قَالُوا بِهِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِعَفْوِهِ أَنْ يُعْطِيَهَا الْمَهْرَ كَامِلًا غَيْرَ ظَاهِرٍ. لِأَنَّ الْعَفْوَ لَا يُطْلَقُ على الزيادة. وقيل: المراد بقوله: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ هُوَ الْوَلِيُّ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَرَبِيعَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ، وَفِيهِ قُوَّةٌ وَضَعْفٌ أَمَّا قُوَّتُهُ فَلِكَوْنِ مَعْنَى الْعَفْوِ فِيهِ مَعْقُولًا وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَلِكَوْنِ عُقْدَةِ النِّكَاحِ بِيَدِ الزَّوْجِ لَا بِيَدِهِ، وَمِمَّا يَزِيدُ هَذَا الْقَوْلَ ضَعْفًا: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الزَّوْجِ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ. وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا، وَالْمَهْرُ مَالُهَا. فَالرَّاجِحُ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ حَقِيقَةً. الثَّانِي: أَنَّ عَفْوَهُ بِإِكْمَالِ الْمَهْرِ هُوَ صَادِرٌ عَنِ الْمَالِكِ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ بِخِلَافِ الْوَلِيِّ، وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ عَفْوًا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، لَكِنَّ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ أَنَّهُمْ يَسُوقُونَ الْمَهْرَ كَامِلًا عِنْدَ الْعَقْدِ كَانَ الْعَفْوُ مَعْقُولًا، لِأَنَّهُ تَرَكَهُ لَهَا وَلَمْ يَسْتَرْجِعِ النِّصْفَ مِنْهُ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي الْكَشَّافِ، لِأَنَّهُ

عَفْوٌ حَقِيقِيٌّ، أَيْ: تَرْكٌ لِمَا يُسْتَحَقُّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُشَاكَلَةٌ، أَوْ يَطِيبَ فِي تَوْفِيَةِ الْمُهْرِ قَبْلَ أَنْ يَسُوقَهُ الزَّوْجُ. قَوْلُهُ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى قِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ تَغْلِيبًا وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ، وَالشَّعْبِيُّ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ مَعَ الرِّجَالِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ، لِأَنَّ عَفْوَ الْوَلِيِّ عَنْ شَيْءٍ لَا يَمْلِكُهُ لَيْسَ هُوَ أَقْرَبَ إِلَى التَّقْوَى، بَلْ أَقْرَبُ إِلَى الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ. قَوْلُهُ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْوَاوِ وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: بِكَسْرِهَا، وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَلَا تَنَاسَوُا وَالْمَعْنَى: أَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَا يَنْسَيَانِ التَّفَضُّلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: أَنْ تَتَفَضَّلَ الْمَرْأَةُ بِالْعَفْوِ عَنِ النِّصْفِ، وَيَتَفَضَّلَ الرَّجُلُ عَلَيْهَا بِإِكْمَالِ الْمَهْرِ، وَهُوَ إِرْشَادٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنَ الْأَزْوَاجِ إِلَى تَرْكِ التَّقَصِّي عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَالْمُسَامَحَةِ فِيمَا يَسْتَغْرِقُهُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِلْوَصْلَةِ التي قد وقعت بينهما مِنْ إِفْضَاءِ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ، وَهِيَ وَصْلَةٌ لَا يُشْبِهُهَا وَصْلَةٌ، فَمِنْ رِعَايَةِ حَقِّهَا وَمَعْرِفَتِهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا الْحِرْصُ مِنْهُمَا عَلَى التَّسَامُحِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فِيهِ مِنْ تَرْغِيبِ الْمُحْسِنِ وَتَرْهِيبِ غَيْرِهِ مَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً قَالَ: الْمَسُّ: النِّكَاحُ، وَالْفَرِيضَةُ: الصداق وَمَتِّعُوهُنَّ قَالَ: هُوَ عَلَى الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُمَتِّعَهَا عَلَى قَدْرِ عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا مَتَّعَهَا بِخَادِمٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا مَتَّعَهَا بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مُتْعَةُ الطَّلَاقِ: أَعْلَاهَا الْخَادِمُ وَدُونَ ذَلِكَ الْوَرِقُ، وَدُونَ ذَلِكَ الْكُسْوَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ عُمَرَ قَالَ: أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنَ الْمُتْعَةِ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا. وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: أَنَّهُ مَتَّعَ بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَرُقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ. وَعَنْ شُرَيْحٍ: أَنَّهُ مَتَّعَ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: أَنَّهُ مَتَّعَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُ كَانَ يُمَتِّعُ بِالْخَادِمِ وَالنَّفَقَةِ أَوْ بِالْكُسْوَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ قَالَ الْمَسُّ: الْجِمَاعُ، فَلَهَا نِصْفُ صَدَاقِهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ. وَهِيَ الْمَرْأَةُ الثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ يُزَوِّجُهَا غَيْرُ أَبِيهَا، فَجَعَلَ اللَّهُ الْعَفْوَ لَهُنَّ إِنْ شِئْنَ عَفَوْنَ بِتَرْكِهِنَّ، وَإِنْ شِئْنَ أَخَذْنَ نصف الصداق أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَهُوَ أَبُو الْجَارِيَةِ الْبِكْرِ، جُعِلَ الْعَفْوُ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهَا مَعَهُ أَمْرٌ إِذَا طُلِّقَتْ مَا كَانَتْ فِي حِجْرِهِ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيَخْلُو بِهَا وَلَا يَمَسُّهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا: لَيْسَ لَهَا إِلَّا نِصْفُ الصَّدَاقِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَإِنْ جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ: الزَّوْجُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ

[سورة البقرة (2) : الآيات 238 إلى 239]

أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: هُوَ أَبُوهَا وَأَخُوهَا وَمَنْ لَا تُنْكَحُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بن حميد، وابن جرير، وعن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قَالَ: فِي هَذَا أَوْ غَيْرِهِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنَّ قَوْمًا أَتَوُا ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالُوا: إِنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ مِنَّا امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يَجْمَعْهَا إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. فَقَالَ: أَرَى أَنْ أَجْعَلَ لَهَا صَدَاقًا كَصَدَاقِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ نَاسٌ مِنْ أَشْجَعَ، مِنْهُمْ: مُغَفَّلُ بْنُ سِنَانٍ، فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَضَيْتَ مِثْلَ الَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةٍ مِنَّا يُقَالُ لَهَا بَرْوَعُ بِنْتُ وَاشِقٍّ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا: لَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَا صَدَاقَ لَهَا. وَقَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ أَعْرَابِيٍّ مِنْ أَشْجَعَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي يَمُوتُ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ فَرَضَ لَهَا صَدَاقًا: لَهَا الصَّدَاقُ وَالْمِيرَاثُ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شيبة، والبيهقي عن عمر ابن الْخَطَّابِ: أَنَّهُ قَضَى فِي الْمَرْأَةِ يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ: أَنَّهُ إِذَا أُرْخِيَتِ السُّتُورُ فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ قَالَ: إِذَا أَرْخَى سِتْرًا، وَأَغْلَقَ بَابًا، فَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ: أَنَّهُ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا، أَوْ أَرْخَى سِتْرًا، فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ وَالْعِدَّةُ، وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَشَفَ امْرَأَةً فَنَظَرَ إِلَى عورتها فقد وجب الصداق. [سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) الْمُحَافَظَةُ عَلَى الشَّيْءِ: الْمُدَاوَمَةُ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ، وَالْوُسْطَى: تَأْنِيثُ الْأَوْسَطِ، وَأَوْسَطُ الشَّيْءِ وَوَسَطُهُ: خِيَارُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِ الْعَرَبِ يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرًّا فِي مَفَاخِرِهِمْ ... وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا وَوَسَطَ فُلَانٌ الْقَوْمَ يَسِطُهُمْ، أَيْ: صَارَ فِي وَسَطِهِمْ: وَأَفْرَدَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى بِالذِّكْرِ بَعْدَ دُخُولِهَا فِي عُمُومِ الصَّلَوَاتِ تَشْرِيفًا لَهَا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْحُلْوَانِيُّ وَقَرَأَ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ: الْوُصْطَى، بِالصَّادِّ لِمُجَاوَرَةِ الطَّاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ: كَالسِّرَاطِ وَالصِّرَاطِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَعْيِينِهَا عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا أَوْرَدْتُهَا فِي شَرْحِي لِلْمُنْتَقَى، وَذَكَرْتُ مَا تَمَسَّكَتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ، وَأَرْجَحُ الْأَقْوَالِ وَأَصَحُّهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهَا الْعَصْرُ، لِمَا ثَبَتَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَأَهْلِ السُّنَنِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: كُنَّا نَرَاهَا الْفَجْرَ حَتَّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ

الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَأَجْوَافَهُمْ نَارًا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا. وَوَرَدَ فِي تَعْيِينِ أَنَّهَا الْعَصْرُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ يَوْمِ الْأَحْزَابِ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، مِنْهَا: عَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ، وَمِنْهَا: عَنْ سَمُرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَمِنْهَا: عَنْهُ أَيْضًا عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدَ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُ سَعِيدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ، فَهَذِهِ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهَا الْعَصْرُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصحابة في تعيين أنها العصر آثار كثيرة، وَفِي الثَّابِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ، كَمَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُمَا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَابِرٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَرْفُوعِ إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَا تَقُومُ بِمِثْلِ ذَلِكَ حُجَّةٌ، لَا سِيَّمَا إِذَا عَارَضَ مَا قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ثُبُوتًا يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى فِيهِ التَّوَاتُرُ، وَإِذَا لَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ لَمْ تقم بأقوال من بعدهم من التابعين، وتابعيهم بِالْأَوْلَى، وَهَكَذَا لَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةُ الْوُسْطَى الْمَغْرِبُ، وَهَكَذَا لَا اعْتِبَارَ بِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أَنَّهَا الظَّهْرُ، أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى إِمْعَانِ نَظَرٍ وَفِكْرٍ مَا وَرَدَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِمَّا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا الظَّهْرُ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا «أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الظُّهْرِ» . وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ، بَلِ الْمَرْوِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذلك بأن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِالْهَاجِرَةِ، وَكَانَتْ أَثْقَلَ الصَّلَاةِ عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَيْنَ يَقَعُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثابتة عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَهَكَذَا الِاعْتِبَارُ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهَا الظَّهْرُ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ. فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُمَا أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ لِأَبِي رَافِعٍ مَوْلَاهَا- وَقَدْ أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا: إذا أتيت على هذا الْآيَةِ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فَتَعَالَ حَتَّى أُمْلِيهَا عَلَيْكَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُبَ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْهَا مَالِكٌ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَزَادُوا: وَقَالَتْ أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ: أَنَّهَا أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا

وَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قَالَ: فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّهَا أَمَرَتْ مَنْ يَكْتُبُ لَهَا مُصْحَفًا، وَقَالَتْ لَهُ كَمَا قَالَتْ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ. فَغَايَةُ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الثَّلَاثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَنَّهُنَّ يَرْوِينَ هَذَا الْحَرْفَ هَكَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى أَنَّهَا الظَّهْرُ أَوْ غَيْرُهَا، بَلْ غَايَةُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَطْفُ صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى صَلَاةِ الْوُسْطَى أَنَّهَا غَيْرُهَا، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَا يُعَارِضُ مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُبُوتًا لَا يَدْفَعُ أَنَّهَا الْعَصْرُ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي نَقَلَتْهَا أمهات المؤمنين بِإِثْبَاتِ قَوْلِهِ: «وَصَلَاةُ الْعَصْرِ» مُعَارَضَةٌ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَ فِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ عَنْ حُمَيْدَةَ قَالَتْ: قَرَأْتُ فِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى صَلَاةِ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّ عَائِشَةَ أَمَرَتْ بِمُصْحَفٍ لَهَا أَنْ يُكْتَبَ وَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتُمْ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ فَلَا تَكْتُبُوهَا حَتَّى تُؤْذِنُونِي، فَلَمَّا أَخْبَرُوهَا أَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا قَالَتِ: اكْتُبُوهَا صَلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ: قَالَ كَانَ مَكْتُوبًا فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أبي ابن كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّحَاوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَيَقْرَؤُهَا: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ الْمَحَامِلِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ تَلَاهَا كَذَلِكَ فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ تُعَارِضُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ بِاعْتِبَارِ التِّلَاوَةِ وَنَقْلِ الْقِرَاءَةِ، وَيَبْقَى مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّعْيِينِ صَافِيًا عَنْ شَوْبِ كَدَرِ الْمُعَارَضَةِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي نَقَلَتْهَا حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ. وأخرج عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: نَزَلَتْ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ فَقَرَأْنَاهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ، فَأَنْزَلَ: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فَقِيلَ له: هي إِذَنْ صَلَاةُ الْعَصْرِ؟ قَالَ: قَدْ حَدَّثْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ نَحْوَهُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا وَعَرَفْتَ مَا سُقْنَاهُ تَبَيَّنَ لَكَ: أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مَا يُعَارِضُ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَأَمَّا حُجَجُ بَقِيَّةِ الْأَقْوَالِ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَبَعْضُ الْقَائِلِينَ عَوَّلَ عَلَى أَمْرٍ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّهَا صَلَاةُ كَذَا، لِأَنَّهَا وُسْطَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَّ قَبْلَهَا كَذَا مِنَ الصَّلَوَاتِ وَبَعْدَهَا كَذَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَهَذَا الرَّأْيُ الْمَحْضُ وَالتَّخْمِينُ الْبَحْتُ لَا ينبغي أن تسند إِلَيْهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى فَرْضِ عَدَمِ وُجُودِ مَا يُعَارِضُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالثُّبُوتِ عَنْ

رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ ويا لله الْعَجَبُ مِنْ قَوْمٍ لَمْ يَكْتَفُوا بِتَقْصِيرِهِمْ فِي عِلْمِ السُّنَّةِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ خَيْرِ الْعُلُومِ وَأَنْفَعِهَا، حَتَّى كَلَّفُوا أَنْفُسَهُمُ التَّكَلُّمَ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ، والتجرؤ عَلَى تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هدى، فجاؤوا بِمَا يُضْحَكُ مِنْهُ تَارَةً وَيُبْكَى مِنْهُ أُخْرَى. قَوْلُهُ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ الْقُنُوتُ: قِيلَ: هُوَ الطَّاعَةُ، أَيْ: قُومُوا لِلَّهِ فِي صَلَاتِكُمْ طَائِعِينَ، قَالَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جبير، والضحاك، والشافعي. وَقِيلَ: هُوَ الْخُشُوعُ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَانِتًا لِلَّهِ يَدْعُو رَبَّهُ ... وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ النَّاسِ اعْتَزَلْ وَقِيلَ: هُوَ الدُّعَاءُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْقُنُوتَ طُولُ الْقِيَامِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: سَاكِتِينَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُكَلِّمُ صَاحِبَهُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْحَاجَةِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْقُنُوتِ فِي اللُّغَةِ: الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ، فَكُلُّ مَعْنًى يُنَاسِبُ الدَّوَامَ يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْقُنُوتِ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ: أَنَّ للقنوت ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَعْنًى، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَقَى، وَالْمُتَعَيِّنُ هَاهُنَا حَمْلُ الْقُنُوتِ عَلَى السُّكُوتِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً الْخَوْفُ: هُوَ الْفَزَعُ، وَالرِّجَالُ: جَمْعُ رَجُلٍ أَوْ رَاجِلٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ رَجِلَ الْإِنْسَانُ يَرْجَلُ رَاجِلًا: إِذَا عَدِمَ الْمَرْكُوبَ وَمَشَى عَلَى قَدَمَيْهِ فَهُوَ رَجُلٌ وَرَاجِلٌ. يَقُولُ أَهْلُ الْحِجَازِ: مَشَى فُلَانٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيًا رَجُلًا. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، ذَكَرَ حَالَةَ الْخَوْفِ أَنَّهُمْ يُضِيعُونَ فِيهَا مَا يُمْكِنُهُمْ وَيَدْخُلُ تَحْتَ طَوْقِهِمْ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ بِفِعْلِهَا حَالَ التَّرَجُّلِ وَحَالَ الرُّكُوبِ، وَأَبَانَ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ لَازِمَةٌ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حدّ الخوف المبيح لذلك، والبحث مستوفى فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. قَوْلُهُ: فَإِذا أَمِنْتُمْ أَيْ: إِذَا زَالَ خَوْفُكُمْ فَارْجِعُوا إِلَى مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ، مُسْتَقْبِلِينَ الْقِبْلَةَ، قَائِمِينَ بِجَمِيعِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: خَرَجْتُمْ مِنْ دَارِ السَّفَرِ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ خِلَافُ مَعْنَى الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: كَما عَلَّمَكُمْ أَيْ: مِثْلُ مَا عَلَّمَكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ وَالْكَافُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ذِكْرًا كَائِنًا كَتَعْلِيمِهِ إِيَّاكُمْ، أَوْ: مِثْلُ تَعْلِيمِهِ إِيَّاكُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَلِفِينَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى؟ فَقَالَ: هِيَ فِيهِنَّ فَحَافِظُوا عَلَيْهِنَّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَقَالَ: حَافِظْ عَلَى الصَّلَوَاتِ تُدْرِكْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ: أَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، قَالَ: حَافِظْ عَلَيْهِنَّ فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ أَصَبْتَهَا، إِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: سُئِلَ شُرَيْحٌ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَالَ: حَافِظُوا عَلَيْهَا تُصِيبُوهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا

[سورة البقرة (2) : الآيات 240 إلى 242]

مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي تَعْيِينِهَا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ مِثْلَ مَا قَدَّمْنَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ قَالَ: مُصَلِّينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُّ أَهْلِ دِينٍ يَقُومُونَ فِيهَا عاصين، وقوموا أَنْتُمْ مُطِيعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ قَالَ: مِنَ الْقُنُوتِ: الرُّكُوعُ وَالْخُشُوعُ، وَطُولُ الرُّكُوعِ: يَعْنِي طُولَ الْقِيَامِ، وَغَضَّ الْبَصَرِ، وَخَفْضَ الْجَنَاحِ وَالرَّهْبَةَ لِلَّهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» . وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْقُنُوتِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ، هَلْ هُوَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهَلْ هُوَ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ أَوْ بَعْضِهَا، وَهَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالنَّوَازِلِ أَمْ لَا؟ وَالرَّاجِحُ اخْتِصَاصُهُ بِالنَّوَازِلِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً قَالَ: يُصَلِّي الرَّاكِبُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَالرَّاجِلُ عَلَى رِجْلَيْهِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ يَعْنِي: كَمَا عَلَّمَكُمْ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّاكِبُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَالرَّاجِلُ عَلَى رِجْلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قال: إذا كانت المسايفة فليومئ بِرَأْسِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً قَالَ: رَكْعَةً رَكْعَةً. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ قَالَ: خَرَجْتُمْ مِنْ دَارِ السَّفَرِ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ. [سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) هَذَا عَوْدٌ إِلَى بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ فِيمَا سَلَفَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هذه الآية هل مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا مَنْسُوخَةٌ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُنَّ مِنَ الْمِيرَاثِ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مجاهد أن هذه الآية لَا نَسْخَ فِيهَا، وَأَنَّ الْعِدَّةَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ وَصِيَّةً مِنْهُ: سُكْنَى سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَإِنْ شَاءَتِ الْمَرْأَةُ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالْقَاضِي عِيَاضٍ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْحَوْلَ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ

في صحيحه. وقوله: وَصِيَّةً قرأها نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْكِسَائِيِّ: بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُبْتَدَأٌ لِخَبَرٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ مُقَدَّمًا، أَيْ: عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ وَقِيلَ: إِنَّ الْخَبَرَ قَوْلُهُ: لِأَزْواجِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّهُ خبر مبتدأ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَصِيَّةُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ وَصِيَّةٌ أَوْ حكم الذين يتوفون وصية. وقرأ أبو عمرو وَحَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ: بِالنَّصْبِ، عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَلْيُوصُوا وَصِيَّةً، أَوْ: أَوْصَى اللَّهُ وَصِيَّةً، أَوْ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةً. وَقَوْلُهُ: مَتاعاً منصوب بوصية، أَوْ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا، أَوْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ ذَلِكَ مَتَاعًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْحَالِ. وَالْمَتَاعُ هُنَا: نَفَقَةُ السَّنَةِ. وَقَوْلُهُ: غَيْرَ إِخْراجٍ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: مَتاعاً وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ، كَأَنَّهُ قَالَ لَا إِخْرَاجًا وَقِيلَ: إِنَّهُ حَالٌ، أَيْ: مَتِّعُوهُنَّ غَيْرَ مُخْرَجَاتٍ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَنْ يُوصُوا قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ بِهِمْ لِأَزْوَاجِهِمْ أَنْ يُمَتَّعْنَ بَعْدَهُمْ حَوْلًا كَامِلًا بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى مِنْ تَرِكَتِهِمْ، وَلَا يَخْرُجْنَ مِنْ مَسَاكِنِهِنَّ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خَرَجْنَ يَعْنِي بِاخْتِيَارِهِنَّ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَيْ: لَا حَرَجَ عَلَى الوليّ والحاكم وغيرهما فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ وَالتَّزَيُّنِ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ مَعْرُوفٍ أَيْ: بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الشَّرْعِ غَيْرَ مُنْكَرٍ. وَفِيهِ دَلِيلٌ: على أن النساء كنّ مخيرات في الْحَوْلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَتْمٍ عَلَيْهِنَّ وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُنَّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْجُنَاحِ هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: فِيما فَعَلْنَ وَقَوْلُهُ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ قَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: هِيَ الْمُتْعَةُ، وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِالثَّيِّبَاتِ اللَّوَاتِي قَدْ جُومِعْنَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْمُتْعَةِ لِلَّوَاتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ الْأَزْوَاجُ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمُتْعَةِ وَالْخِلَافَ فِي كَوْنِهَا خَاصَّةً بِمَنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالْفَرْضِ أَوْ عَامَّةً لِلْمُطَلَّقَاتِ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَامِلَةٌ لِلْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهِيَ مُتْعَةُ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَالْفَرْضِ، وَغَيْرِ الْوَاجِبَةِ وَهِيَ مُتْعَةُ سَائِرِ الْمُطَلَّقَاتِ فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فَقَطْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُتْعَةِ هُنَا: النَّفَقَةُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى، فَلَمْ تَكْتُبْهَا أَوْ تدعها؟ قال: يا بن أَخِي لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا نَفَقَتُهَا وَسُكْنَاهَا فِي الدَّارِ سَنَةً، فَنَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ، فَجُعِلَ لَهُنَّ الرُّبُعُ وَالثُّمُنُ مِمَّا تَرَكَ الزَّوْجُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ عَطَاءٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَيْسَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا نَفَقَةٌ حَسْبُهَا الْمِيرَاثُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَسَخَتْهَا- وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً «1» وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ قَالَ: النِّكَاحُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ

_ (1) . الْبَقَرَةِ: 234.

[سورة البقرة (2) : الآيات 243 إلى 245]

قَالَ رَجُلٌ: إِنْ أَحْسَنْتُ فَعَلْتُ، وَإِنْ لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ لَمْ أَفْعَلْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ «1» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَتَّابِ بْنِ خُصَيْفٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْفَرَائِضِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ إِلَّا الَّتِي تطلقها ولم تدخل بها فقد فُرِضَ لَهَا، كَفَى بِالنِّصْفِ مَتَاعًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لِكُلِّ مُؤْمِنَةٍ طُلِّقَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً مُتْعَةٌ وَقَرَأَ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا طَلَّقَ حَفْصُ بْنُ الْمُغِيرَةِ امْرَأَتَهُ فاطمة أتت النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِزَوْجِهَا: «مَتِّعْهَا، قَالَ: لَا أَجِدُ مَا أُمَتِّعُهَا، قَالَ: فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَتَاعِ، مَتِّعْهَا وَلَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ في الآية، قال: لكلّ مطلقة متعة. [سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّقْرِيرِ، وَالرُّؤْيَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ لَا رُؤْيَةُ الْبَصَرِ. وَالْمَعْنَى عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: تَنَبَّهْ إِلَى أَمْرِ الَّذِينَ خَرَجُوا، وَلَا تَحْتَاجُ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَذَا قِيلَ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا الَّتِي بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى التَّنْبِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُضَمَّنَةً مَعْنَى الِانْتِهَاءِ، أَيْ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إِلَيْهِمْ أَوْ مَعْنَى الْوُصُولِ، أَيْ: أَلَمْ يَصِلْ عِلْمُكَ إِلَيْهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ، أَيْ: أَلَمْ تَنْظُرْ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا. جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قِصَّةَ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانَتْ بِمَكَانٍ مِنَ الشُّيُوعِ وَالشُّهْرَةِ يَحْمِلُ كُلَّ أَحَدٍ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَعْلُومَةِ لِكُلِّ فَرْدٍ، أَوِ الْمُبْصَرَةِ لِكُلِّ مُبْصِرٍ، لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ أُخْبِرُوا بِهَا وَدَوَّنُوهَا وَأَشْهَرُوا أَمْرَهَا، وَالْخِطَابُ هُنَا لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ. وَالْكَلَامُ جَارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي مَقَامِ التَّعْجِيبِ، ادِّعَاءً لِظُهُورِهِ وَجَلَائِهِ بِحَيْثُ يَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِهِ الشَّاهِدُ وَالْغَائِبُ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ أُلُوفٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ خَرَجُوا، وَأُلُوفٌ: مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ: حَذَرَ الْمَوْتِ مَفْعُولٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا هُوَ أَمْرُ تَكْوِينٍ، عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِمَوْتِهِمْ دُفْعَةً، أَوْ: تَمْثِيلٌ، لِإِمَاتَتِهِ سُبْحَانَهُ إِيَّاهُمْ مَيْتَةَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، كَأَنَّهُمْ أُمِرُوا فَأَطَاعُوا. قَوْلُهُ: ثُمَّ أَحْياهُمْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، أَيْ: قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: مُوتُوا فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، أَوْ: عَلَى قَالَ، لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنِ الْإِمَاتَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ التَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَضْلٍ، لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: لَذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ على الناس جميعا، وأما هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا فَلِكَوْنِهِ أَحْيَاهُمْ، لِيَعْتَبِرُوا، وَأَمَّا الْمُخَاطَبُونَ: فَلِكَوْنِهِ قَدْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ بقصة هؤلاء. قوله

_ (1) . البقرة: 237.

وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: اشْكُرُوا فَضْلَهُ بِالِاعْتِبَارِ بِمَا قَصَّ عَلَيْكُمْ وَقَاتِلُوا، هَذَا إِذَا كَانَ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا رَاجِعًا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِيرَادُ هَذِهِ الْقِصَّةِ لتشجيع المسلمين على الجهاد وقيل إن الْخِطَابُ لِلَّذِينِ أُحْيُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: مُوتُوا وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَقَالَ لَهُمْ: قَاتِلُوا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ لِلَّذِينِ أُحْيُوا. وَقَوْلُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْقِتَالِ وَالْجِهَادِ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ فِي ذَلِكَ، وَ «مَنْ» اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَرْفُوعَةُ الْمَحَلِّ بِالِابْتِدَاءِ، وَ «ذَا» خَبَرُهُ، وَ «الَّذِي» وَصِلَتُهُ وَصْفٌ لَهُ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَإِقْرَاضُ اللَّهِ: مَثَلٌ لِتَقْدِيمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ فَاعِلُهُ الثَّوَابَ، وَأَصْلُ الْقَرْضِ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُلْتَمَسُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، يُقَالُ: أَقْرَضَ فُلَانٌ فُلَانًا، أَيْ: أَعْطَاهُ مَا يَتَجَازَاهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِذَا جُوزِيَتْ قَرْضًا فَاجْزِهِ ....... وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَرْضُ فِي اللُّغَةِ: الْبَلَاءُ الْحَسَنُ، وَالْبَلَاءُ السَّيِّئُ. قَالَ أُمَيَّةُ: كُلُّ امْرِئٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَنًا ... أَوْ سَيِّئًا وَمَدِينًا مِثْلَ مَا دَانَا وقال آخر: تجازى الْقُرُوضَ بِأَمْثَالِهَا ... فَبِالْخَيْرِ خَيْرًا وَبِالشَّرِّ شَرَّا وَقَالَ الْكِسَائِي: الْقَرْضُ: مَا أَسْلَفْتَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ أَوْ سَيِّئٍ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ: الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْمِقْرَاضُ، وَاسْتِدْعَاءُ الْقَرْضِ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ تَأْنِيسٌ وَتَقْرِيبٌ لِلنَّاسِ بِمَا يَفْهَمُونَهُ. وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ: شَبَّهَ عَطَاءَ الْمُؤْمِنِ مَا يَرْجُو ثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ بِالْقَرْضِ، كَمًّا شَبَّهَ إِعْطَاءَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي أَخْذِ الْجَنَّةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَقَوْلُهُ: حَسَناً أَيْ: طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ مِنْ دُونِ مَنٍّ وَلَا أَذًى. وَقَوْلُهُ: فَيُضاعِفَهُ قَرَأَ عَاصِمٌ وَغَيْرُهُ: بِالْأَلِفِ وَنَصْبِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عمرة وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَرَفْعِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ: فَيُضَعِّفَهُ بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ مَعَ تَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَنَصْبِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِالتَّشْدِيدِ وَرَفْعِ الْفَاءِ. فَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ، وَمَنْ رَفَعَ فَعَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هُوَ يُضَاعِفُهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِ هَذَا التَّضْعِيفِ عَلَى أَقْوَالٍ. وَقِيلَ: لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، وَالْقَبْضُ: التَّقْتِيرُ، وَالْبَسْطُ: التَّوْسِيعُ وَفِيهِ وَعِيدٌ بِأَنَّ مَنْ بَخِلَ مِنَ الْبَسْطِ يُوشِكُ أَنْ يُبَدَّلَ بِالْقَبْضِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَيْ: هُوَ يُجَازِيكُمْ بِمَا قَدَّمْتُمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَإِذَا أَنْفَقْتُمْ مِمَّا وَسَّعَ بِهِ عَلَيْكُمْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ بَخِلْتُمْ عَاقَبَكُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ، وَقَالُوا: نَأْتِي أَرْضًا لَيْسَ بِهَا مَوْتٌ، حَتَّى

إِذَا كَانُوا بِمَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا قَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا فَمَاتُوا، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يُحْيِيَهُمْ حَتَّى يَعْبُدُوهُ، فَأَحْيَاهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ: أَنَّ الْقَرْيَةَ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا دَاوَرْدَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَفِيهَا: أَنَّهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ دِيَارَهُمْ هِيَ أَذَرِعَاتٌ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: كَانُوا تِسْعَةَ آلَافٍ. وَأَخْرَجَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَدِّثِي الْمُفَسِّرِينَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى أَنْحَاءٍ، وَلَا يَأْتِي الِاسْتِكْثَارُ مِنْ طُرُقِهَا بِفَائِدَةٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنِ الْفِرَارِ مِنَ الطَّاعُونِ، وَعَنْ دُخُولِ الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ بِهَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ لِيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي، وَلَهُ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ» . وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، زَادَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: أَضْعافاً كَثِيرَةً قَالَ: هَذَا التَّضْعِيفُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا هُوَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَكْتُبُ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ» فَحَجَجْتُ ذَلِكَ الْعَامَ وَلَمْ أَكُنْ أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ إِلَّا لِأَلْقَاهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَلَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: ليس هذا قلت، ولم يحفظ الَّذِي حَدَّثَكَ، إِنَّمَا قُلْتُ: «إِنَّ اللَّهَ لِيُعْطِيَ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفَيْ أَلْفِ حَسَنَةٍ» ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوَ لَيْسَ تَجِدُونَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فالكثيرة عند الله أكثر من ألف أَلِفٍ وَأَلْفَيْ أَلِفٍ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُضَاعِفُ الْحَسَنَةَ أَلْفَيْ أَلِفِ حَسَنَةٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ «1» إِلَى آخِرِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي فَنَزَلَتْ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً قَالَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي فَنَزَلَتْ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «3» قَالَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فَنَزَلَتْ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَالَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فنزلت: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ قَالَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فَنَزَلَتْ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ» . وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ هَذِهِ أَحْسَنُهَا وَسَتَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فَابْحَثْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ قَالَ: يَقْبِضُ: الصَّدَقَةَ، وَيَبْسُطُ: قَالَ يُخْلِفُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قَالَ: مِنَ التُّرَابِ وَإِلَى التُّرَابِ تَعُودُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الآية قال:

_ (1) . البقرة: 261. (2) . الزمر: 10. (3) . الأنعام: 160.

[سورة البقرة (2) : الآيات 246 إلى 252]

عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِيمَنْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ لَا يَجِدُ قُوَّةً، وَفِيمَنْ لَا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ يَجِدُ غِنًى، فَنَدَبَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْقَرْضِ فَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَالَ: يَبْسُطُ عَلَيْكَ وَأَنْتَ ثَقِيلٌ عَنِ الْخُرُوجِ لَا تُرِيدُهُ، وَيَقْبِضُ عَنْ هَذَا وَهُوَ يَطِيبُ نَفْسًا بِالْخُرُوجِ وَيَخِفُّ لَهُ، فقوّه مما بيدك يكن لك الحظ. [سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 252] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَالْمَلَأُ: الأشراف من الناس، كأنهم مُلِئُوا شَرَفًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُمُّوا بِذَلِكَ: لِأَنَّهُمْ مَلِئُونَ بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ. ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ قِصَّةً أُخْرَى جَرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ الْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مُوسى مِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَعَامِلُهَا مُقَدَّرٌ، أَيْ: كَائِنَيْنِ مِنْ بَعْدِ مُوسَى: أَيْ: بَعْدِ وَفَاتِهِ. وَقَوْلُهُ: لِنَبِيٍّ لَهُمُ قِيلَ: هُوَ شَمْوِيلُ بْنُ يَارَ بْنِ عَلْقَمَةَ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْعَجُوزِ، وَيُقَالُ فِيهِ: شَمْعُونُ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ وَقِيلَ: مِنْ نَسْلِ هَارُونَ وَقِيلَ: هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ يُوشَعَ هُوَ فَتَى مُوسَى، وَلَمْ يُوجَدْ دَاوُدُ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ وَقِيلَ: اسْمُهُ

إِسْمَاعِيلُ. وَقَوْلُهُ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أَيْ: أَمِيرًا نَرْجِعُ إِلَيْهِ وَنَعْمَلُ عَلَى رَأْيِهِ. وَقَوْلُهُ: نُقاتِلْ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الْفِعْلِ، عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَلِكِ. وَقُرِئَ: بِالنُّونِ وَالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُ حَالٌ أَوْ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَقَوْلُهُ: هَلْ عَسَيْتُمْ بِالْفَتْحِ لِلسِّينِ وَبِالْكَسْرِ لُغَتَانِ، وَبِالثَّانِيَةِ قَرَأَ نَافِعٌ، وَبِالْأُولَى قَرَأَ الْبَاقُونَ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَقِرَاءَةُ الْكَسْرِ ضَعِيفَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ لِلْكَسْرِ وَجْهٌ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَجْهُ الْكَسْرِ قَوْلُ الْعَرَبِ، هُوَ عَسَّ بِذَلِكَ، مِثْلُ حَرَّ وَشَجَّ، وَقَدْ جَاءَ فَعَلَ وَفَعِلَ فِي نَحْوِ نَقَمَ وَنَقِمَ، فَكَذَلِكَ عَسَيْتُ وَعَسِيتُ، وَكَذَا قَالَ مَكِّيٌّ. وَقَدْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ أَيْضًا الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ، فَلَا وَجْهَ لِتَضْعِيفِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، أَيْ: هَلْ قاربتم ألا تُقَاتِلُوا، وَإِدْخَالُ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى فِعْلِ الْمُقَارَبَةِ لِتَقْرِيرِ مَا هُوَ مُتَوَقَّعٌ عِنْدَهُ، وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ كَائِنٌ، وَفُصِلَ بَيْنَ عَسَى وَخَبَرِهَا بِالشَّرْطِ لِلدَّلَالَةِ على الاعتناء به. قال الزجاج: أن لا تُقَاتِلُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: أَيْ: هَلْ عَسَيْتُمْ مُقَاتَلَةً. قَالَ الْأَخْفَشُ: «أَنْ» فِي قَوْلِهِ: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ زَائِدَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: وَمَا مَنَعَنَا؟ كَمَا تقول: الك أَلَّا تُصَلِّيَ؟ وَقِيلَ: الْمَعْنَى، وَأَيُّ شَيْءٍ لَنَا فِي أَنْ لَا نُقَاتِلَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَجْوَدُهَا. وَقَوْلُهُ: وَقَدْ أُخْرِجْنا تَعْلِيلٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَإِفْرَادُ الْأَوْلَادِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ وَقَعَ عَلَيْهِمُ السَّبْيُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ بِمَكَانٍ فَوْقَ مَكَانِ سَائِرِ الْقَرَابَةِ فَلَمَّا كُتِبَ أَيْ: فُرِضَ، أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا لِاضْطِرَابِ نِيَّاتِهِمْ وَفُتُورِ عَزَائِمِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ اكْتَفَوْا بِالْغُرْفَةِ. وَقَوْلُهُ: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شُرُوعٌ فِي تَفْصِيلِ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَبِيِّهِمْ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. وَطَالُوتُ: اسْمٌ أعجمي، وكان سقاء وَقِيلَ: مُكَارِيًّا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ، وَهُمْ بَنُو لَاوِي، وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمُلْكِ، وَهُمْ بَنُو يَهُوذَا، فَلِذَلِكَ: قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا أَيْ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ، وَلَا هُوَ مِمَّنْ أُوتِيَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ حَتَّى نَتَّبِعَهُ لِشَرَفِهِ أَوْ لِمَالِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ، أَعْنِي قَوْلَهُ: وَنَحْنُ أَحَقُّ حَالِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ أي: اختاره اللَّهِ هُوَ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ وَجْهَ الِاصْطِفَاءِ: بِأَنَّ اللَّهَ زَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ، الَّذِي هُوَ مَلَاكُ الْإِنْسَانِ، وَرَأْسُ الْفَضَائِلِ، وَأَعْظَمُ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ، وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْجِسْمِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْأَثَرُ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا، فَكَانَ قَوِيًّا فِي دِينِهِ وَبَدَنِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ، لَا شَرَفُ النَّسَبِ. فَإِنَّ فَضَائِلَ النَّفْسِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ فَالْمُلْكُ مُلْكُهُ، وَالْعَبِيدُ عَبِيدُهُ، فَمَا لَكُمْ وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى شَيْءٍ لَيْسَ هُوَ لَكُمْ وَلَا أَمْرُهُ إِلَيْكُمْ؟ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ مِنْ قَوْلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ نَبِيِّهِمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَوْلُهُ: واسِعٌ أَيْ: وَاسِعُ الْفَضْلِ، يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُلْكَ، وَيَصْلُحُ لَهُ. وَالتَّابُوتُ: فَعَلُوتٌ مِنَ التَّوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، أَيْ: عَلَامَةُ مُلْكِهِ إِتْيَانُ التَّابُوتِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُمْ، أَيْ: رُجُوعُهُ إِلَيْكُمْ وَهُوَ صُنْدُوقُ التَّوْرَاةِ. وَالسَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّكُونِ وَالْوَقَارِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، أَيْ: فِيهِ سَبَبُ سُكُونِ قُلُوبِكُمْ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّحِيحُ أَنَّ التَّابُوتَ كَانَتْ فِيهِ أَشْيَاءُ فَاضِلَةٌ مِنْ بَقَايَا الْأَنْبِيَاءِ وَآثَارِهِمْ، فَكَانَتِ النُّفُوسُ

تَسْكُنُ إِلَى ذَلِكَ وَتَأْنَسُ بِهِ وَتَتَقَوَّى. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّكِينَةِ عَلَى أَقْوَالٍ سَيَأْتِي بَيَانُ بَعْضِهَا، وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي الْبَقِيَّةِ. فَقِيلَ: هِيَ عَصَا مُوسَى وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. قيل: المراد بِآلِ مُوسَى وَهَارُونَ: هُمَا أَنْفُسُهُمَا، أَيْ: مِمَّا تَرَكَ هَارُونُ وَمُوسَى، وَلَفْظُ آلِ: مُقْحَمَةٌ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِمَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ: الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَنِي يَعْقُوبَ، لِأَنَّهُمَا مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ، فَسَائِرُ قَرَابَتِهِ وَمَنْ تَنَاسَلَ مِنْهُ آلٌ لَهُمَا. وَفَصَلَ: مَعْنَاهُ: خَرَجَ بِهِمْ، فَصَلْتُ الشَّيْءَ فَانْفَصَلَ، أَيْ: قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ، وَأَصْلُهُ مُتَعَدٍّ، يُقَالُ فَصَلَ نَفْسَهُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ اللَّازِمِ كَانْفَصَلَ وَقِيلَ: إِنَّ فَصَلَ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمَتَعَدِّيًا، يُقَالُ: فَصَلَ عَنِ الْبَلَدِ فُصُولًا، وَفَصَلَ نَفْسَهُ فَصَلًا. وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ. وَالنَّهَرُ: قِيلَ هُوَ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِنَهَرٍ بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ، وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْرَجُ بِسُكُونِ الْهَاءِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُ طَاعَتِهِمْ، فَمَنْ أَطَاعَ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ أَطَاعَ فِيمَا عَدَاهُ، وَمَنْ عَصَى فِي هَذَا وَغَلَبَتْهُ نَفْسُهُ فَهُوَ بِالْعِصْيَانِ فِي سَائِرِ الشَّدَائِدِ أَحْرَى، وَرَخَّصَ لَهُمْ في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال، وفيه أن الغرفة تكف سورة الْعَطَشِ عِنْدَ الصَّابِرِينَ عَلَى شَظَفِ الْعَيْشِ، الدَّافِعِينَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الرَّفَاهِيَةِ. فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ أَيْ: كَرِعَ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْغُرْفَةِ، «ومن» ابْتِدَائِيَّةٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ مِنِّي أَيْ: لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِي، مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ، كَأَنَّهُ بَعْضُهُ لِاخْتِلَاطِهِمَا وَطُولِ صُحْبَتِهِمَا، وَهَذَا مَهِيعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي وَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ يُقَالُ: طَعِمْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: ذُقْتُهُ، وَأَطْعَمْتُهُ الْمَاءَ، أَيْ: أَذَقْتَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ يُقَالُ لَهُ: طَعَامٌ، وَالِاغْتِرَافُ: الْأَخْذُ مِنَ الشَّيْءِ بِالْيَدِ أَوْ بِآلَةٍ، وَالْغَرَفُ: مِثْلُ الِاغْتِرَافِ، وَالْغُرْفَةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. وَقَدْ قُرِئَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَضَمِّهَا، فَالْفَتْحُ لِلْمَرَّةِ، وَالضَّمُّ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُغْتَرَفِ وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ: الْغُرْفَةُ بِالْكَفِّ الْوَاحِدَةِ، وَبِالضَّمِّ: الْغُرْفَةُ بِالْكَفَّيْنِ وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا يَدْلِفُونَ إِلَى مَاءٍ بِآنِيَةٍ ... إِلَّا اغْتِرَافًا مِنَ الْغُدْرَانِ بِالرَّاحِ قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا سَيَأْتِي بَيَانُ عَدَدِهِمْ، وَقُرِئَ: إِلَّا قَلِيلٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ هَجْرِ اللَّفْظِ إِلَى جَانِبِ الْمَعْنَى، أَيْ: لم يطعه إِلَّا قَلِيلٌ، وَهُوَ تَعَسُّفٌ. قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاوَزَهُ أَيْ: جَاوَزَ النَّهْرَ طَالُوتُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَهُمُ الْقَلِيلُ الَّذِينَ أَطَاعُوهُ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي قوّة اليقين، فبعضهم قال قوله: لا طاقَةَ لَنَا وقالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي: يتيقنون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ. وَالْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهُمْ، مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، أَيْ: قَطَعْتُهُ، وَقَوْلُهُ: بَرَزُوا أَيْ: صَارُوا فِي الْبَرَازِ، وَهُوَ الْمُتَّسِعُ مِنَ الْأَرْضِ. وَجَالُوتُ: أَمِيرُ الْعَمَالِقَةِ. قَالُوا: أَيْ: جَمِيعُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِفْرَاغُ: يُفِيدُ مَعْنَى الْكَثْرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا هَذَا عِبَارَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ وَعَدَمِ الْفَشَلِ، يُقَالُ: ثَبَتَ قَدَمُ فُلَانٍ عَلَى كذا

إِذَا اسْتَقَرَّ لَهُ وَلَمْ يَزَلْ عَنْهُ، وَثَبَتَ قَدَمُهُ فِي الْحَرْبِ: إِذَا كَانَ الْغَلَبُ لَهُ وَالنَّصْرُ مَعَهُ قَوْلُهُ: وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ هُمْ جَالُوتُ وَجُنُودُهُ. وَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمِرِ إِظْهَارًا لِمَا هُوَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ كُفْرُهُمْ، وَذَكَرَ النَّصْرَ بَعْدَ سُؤَالِ تَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ: لِكَوْنِ الثَّانِي هُوَ غَايَةُ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ الهزم: الكسر، وَمِنْهُ سِقَاءٌ مُنْهَزِمٌ، أَيِ: انْثَنَى بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مَعَ الْجَفَافِ وَمِنْهُ مَا قِيلَ فِي زَمْزَمَ: إِنَّهَا هِزْمَةُ جِبْرِيلَ، أَيْ: هَزَمَهَا بِرِجْلِهِ فَخَرَجَ الْمَاءُ، وَالْهِزْمُ: مَا يُكْسَرُ مِنْ يَابِسِ الْحَطَبِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: بِأَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ. قَوْلُهُ: وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ هُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيشَا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ ثُمَّ تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ ويقال: داود بن زكريا ابن بِشُوِي، مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاعِيًا، وَكَانَ أَصْغَرَ إِخْوَتِهِ، اخْتَارَهُ طَالُوتُ لِمُقَاتَلَةِ جَالُوتَ فَقَتَلَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ هُنَا: النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: هِيَ تَعْلِيمُهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وَمَنْطِقَ الطَّيْرِ وَقِيلَ: هِيَ إِعْطَاؤُهُ السِّلْسِلَةَ الَّتِي كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا. قَوْلُهُ: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ قِيلَ: إِنَّ الْمُضَارِعَ هُنَا مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَاضِي، وَفَاعِلُ هَذَا الْفِعْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَقِيلَ: دَاوُدُ، وَظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَّمَهُ مِمَّا قَضَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَعْلِيمِهِ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وَمَا بَعْدَهُ. قَوْلُهُ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قَرَأَهُ الْجَمَاعَةُ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ وَقَرَأَ نَافِعٌ: دِفَاعُ وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِدَفَعَ، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: دَافِعٌ وَدَفْعٌ وَاحِدٌ مِثْلُ: طَرَقْتُ نَعْلِي وَطَارَقْتُهُ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ وَأَنْكَرَ قِرَاءَةَ دِفَاعُ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُغَالِبُهُ أَحَدٌ، قَالَ مَكِّيٌّ: يُوهِمُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ وَلَيْسَ بِهِ، وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ: أي: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ وبعضهم: بَدَلٌ مِنْ النَّاسَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ أَسْبَابَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ بِبَعْضٍ آخَرَ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يَكُفُّونَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَيَرُدُّونَهُمْ عَنْهُ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لِتَغَلُّبِ أَهْلِ الْفَسَادِ عَلَيْهَا وَإِحْدَاثِهِمْ لِلشُّرُورِ الَّتِي تُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَتَنْكِيرُ فَضْلٍ لِلتَّعْظِيمِ. وَآيَاتُ اللَّهِ: هِيَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا: الْخَبَرُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُطَّلِعِينَ عَلَى أَخْبَارِ الْعَالَمِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ رُسُلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، تَقْوِيَةً لِقَلْبِهِ، وتثبيتا لجنانه، وتشييدا لِأَمْرِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: هَذَا حِينَ رُفِعَتِ النُّبُوَّةُ وَاسْتُخْرِجَ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَكَانَتِ الْجَبَابِرَةُ قَدْ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ وَذَلِكَ حِينَ أَتَاهُمُ التَّابُوتُ، قَالَ: وَكَانَ مِنْ إِسْرَائِيلَ سِبْطَانِ: سِبْطُ نُبُوَّةٍ، وَسِبْطُ خِلَافَةٍ، فَلَا تَكُونُ الْخِلَافَةُ إِلَّا فِي سِبْطِ الْخِلَافَةِ، وَلَا تَكُونُ النُّبُوَّةُ إِلَّا فِي سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً، قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنْ أَحَدِ السِّبْطَيْنِ لَا مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَلَا مِنْ سِبْطِ الْخِلَافَةِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُسَلِّمُوا لَهُ الرِّيَاسَةَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ وَكَانَ مُوسَى حِينَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ

تَكَسَّرَتْ وَرُفِعَ مِنْهَا وَجُمِعَ مَا بَقِيَ فَجَعَلَهُ فِي التَّابُوتِ، وَكَانَتِ الْعَمَالِقَةُ قَدْ سَبَتْ ذَلِكَ التَّابُوتَ، وَالْعَمَالِقَةُ: فِرْقَةٌ مِنْ عَادٍ كَانُوا بِأَرْيِحَاءَ، فَجَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْهُ عِنْدَ طَالُوتَ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: نَعَمْ، فَسَلَّمُوا لَهُ وَمَلَّكُوهُ، وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا حَضَرُوا قِتَالًا قَدَّمُوا التَّابُوتَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَيَقُولُونَ: إِنَّ آدَمَ نَزَلَ بِذَلِكَ التَّابُوتِ: وَبِالرُّكْنِ، وَبِعَصَا مُوسَى مِنَ الْجَنَّةِ. وَبَلَغَنِي: أَنَّ التَّابُوتَ وَعَصَا مُوسَى فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، وَأَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ فَلَا يَأْتِي التَّطْوِيلُ بِذِكْرِ ذَلِكَ بِفَائِدَةٍ يُعْتَدُّ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَزادَهُ بَسْطَةً يَقُولُ: فَضِيلَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ يَقُولُ: كَانَ عَظِيمًا جَسِيمًا يَفْضُلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعُنُقِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ قَالَ: الْعِلْمُ بِالْحَرْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: أَنَّهُ سُئِلَ أَنَبِيًّا كَانَ طَالُوتُ؟ قَالَ: لَا، لَمْ يَأْتِهِ وَحْيٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَابُوتِ مُوسَى مَا سِعَتُهُ؟ قَالَ: نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السَّكِينَةُ: الرَّحْمَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قال: السكينة: الطمأنينة. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: السَّكِينَةُ دَابَّةٌ قَدْرُ الْهِرِّ لَهَا عَيْنَانِ لَهُمَا شُعَاعٌ، وَكَانَ إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ أَخْرَجَتْ يَدَيْهَا وَنَظَرَتْ إِلَيْهِمْ فَيُهْزَمُ الْجَيْشُ مِنَ الرُّعْبِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: السَّكِينَةُ: رِيحٌ خَجُوجٌ وَلَهَا رَأْسَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: السَّكِينَةُ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ هِيَ بَعْدُ رِيحٌ هَفَّافَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: السَّكِينَةُ مِنَ اللَّهِ كَهَيْئَةِ الرِّيحِ، لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْهِرِّ، وَجَنَاحَانِ، وَذَنَبٌ مِثْلُ ذَنَبِ الهرّ. وأخرج سعيد ابن منصور، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ: طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ مِنَ الْجَنَّةِ كَانَ يُغْسَلُ بِهَا قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ فِيهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قال: هي روح من الله يتكلم، إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ تَكَلَّمَ فَأَخْبَرَهُمْ بِبَيَانِ مَا يُرِيدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هِيَ شَيْءٌ تَسْكُنُ إِلَيْهِ قُلُوبُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِيهِ سَكِينَةٌ، أَيْ: وَقَارٌ. وَأَقُولُ: هَذِهِ التَّفَاسِيرُ الْمُتَنَاقِضَةُ لَعَلَّهَا وَصَلَتْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَعْلَامِ مِنْ جِهَةِ اليهود أقمأهم الله، فجاؤوا بِهَذِهِ الْأُمُورِ لِقَصْدِ التَّلَاعُبِ بِالْمُسْلِمِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالتَّشْكِيكِ عَلَيْهِمْ، وَانْظُرْ إِلَى جَعْلِهِمْ لَهَا تَارَةً حَيَوَانًا وَتَارَةً جَمَادًا وَتَارَةً شَيْئًا لَا يُعْقَلُ، كَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: كَهَيْئَةِ الرِّيحِ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْهِرِّ، وَجَنَاحَانِ وَذَنَبٌ مِثْلُ ذَنَبِ الْهِرِّ. وَهَكَذَا كُلُّ مَنْقُولٍ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتَنَاقَضُ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا يُعْقَلُ فِي الْغَالِبِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ الْمُتَنَاقِضَةِ مَرْوِيًّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَأْيًا رَآهُ قَائِلُهُ، فَهُمْ أَجَّلُ قَدْرًا مِنَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ وَبِمَا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ. إِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْوَاجِبَ الرُّجُوعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى السَّكِينَةِ لُغَةً وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى رُكُوبِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُتَعَسِّفَةِ الْمُتَنَاقِضَةِ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَنْهَا سَعَةً، وَلَوْ ثَبَتَ لَنَا فِي السَّكِينَةِ تَفْسِيرٌ عَنِ النَّبِيِّ

صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ بَلْ ثبت أنها تنزلت على بَعْضِ الصَّحَابَةِ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا: فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «تِلْكَ السَّكِينَةُ نَزَلَتْ لِلْقُرْآنِ» . وَلَيْسَ فِي هَذَا إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الَّتِي سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم سكينة سَحَابَةٌ دَارَتْ عَلَى ذَلِكَ الْقَارِئِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى قَالَ: عَصَاهُ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: كَانَ فِي التَّابُوتِ عَصَا مُوسَى، وَعَصَا هَارُونَ، وَثِيَابُ مُوسَى، وَثِيَابُ هَارُونَ، وَلَوْحَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْمَنُّ، وَكَلِمَةُ الْفَرَجِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الكريم وسبحان الله ربّ السموات السَّبْعِ وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ قَالَ: أَقْبَلَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ تَحْمِلُهُ حَتَّى وَضَعَتْهُ فِي بَيْتِ طَالُوتَ فَأَصْبَحَ فِي دَارِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً قَالَ: عَلَامَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ يَقُولُ: بِالْعَطَشِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّهْرِ- وهو نهر الأردن- كرع فيها عَامَّةُ النَّاسِ فَشَرِبُوا مِنْهُ، فَلَمْ يَزِدْ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ إِلَّا عَطَشًا، وَأَجْزَأَ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ وَانْقَطَعَ الظَّمَأُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ قَالَ: الْقَلِيلُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةُ عَشَرَ، عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، بِضْعَةُ عَشَرَ وَثَلَاثُمِائَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: «أَنْتُمْ بِعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ يَوْمَ لَقِيَ جَالُوتَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَشَرِبُوا مِنْهُ كُلُّهُمْ إِلَّا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا عِدَّةُ أَصْحَابِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فردّهم طالوت ومضى في ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ قَالَ: الَّذِينَ يَسْتَيْقِنُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ طَالُوتُ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ، فَبَعَثَ أَبُو دَاوُدَ مَعَ دَاوُدَ بِشَيْءٍ إِلَى إِخْوَتِهِ، فَقَالَ داود لطالوت: ماذا لي وأقتل جالوت؟ فقال: لك ثلث ملكي وأنكحت ابْنَتِي، فَأَخَذَ مِخْلَاةً فَجَعَلَ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَوَاتٍ، ثُمَّ سَمَّى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ إِلَهِي وَإِلَهِ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَخَرَجَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَجَعَلَهُ في مرجمته، فَرَمَى بِهَا جَالُوتَ فَخَرَقَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ بَيْضَةً عَنْ رَأْسِهِ وَقَتَلَتْ مَا وَرَاءَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَقَاصِيصَ كَثِيرَةً مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قَالَ: يَدْفَعُ اللَّهُ بِمَنْ يُصَلِّي عَمَّنْ لَا يُصَلِّي، وَبِمَنْ يَحُجُّ عَمَّنْ لَا يَحُجُّ، وَبِمَنْ يُزَكِّي عَمَّنْ لَا يُزَكِّي. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصَّالِحِ

[سورة البقرة (2) : آية 253]

عَنْ مِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْبَلَاءَ» ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الآية، وفي إسناده يحيى ابن سعيد العطار الحمصي وهو ضعيف جدا. [سورة البقرة (2) : آية 253] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) قَوْلُهُ: تِلْكَ الرُّسُلُ قِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الرُّسُلِ، فَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَقِيلَ: إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بَلَغَ عِلْمُهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ مَزَايَا الْكَمَالِ فَوْقَ مَا جَعَلَهُ لِلْآخَرِ، فَكَانَ الْأَكْثَرُ مَزَايَا فَاضِلًا وَالْآخَرُ مَفْضُولًا. وَكَمَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى: أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، كَذَلِكَ دَلَّتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «1» وَقَدِ اسْتَشْكَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ» وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» وَفِي لَفْظِ: «لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذَا القول منه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ بِالتَّفْضِيلِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَاسِخٌ لِلْمَنْعِ مِنَ التَّفْضِيلِ وَقِيلَ: إنه قال صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ كَمَا قَالَ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بن متّى» تواضعا، معه عِلْمِهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ قَطْعًا لِلْجِدَالِ وَالْخِصَامِ فِي الأنبياء، فيكون مخصوصا بمثل ذلك، إلا إِذَا كَانَ صُدُورُ ذَلِكَ مَأْمُونًا وَقِيلَ: إِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ فَقَطْ، لِأَنَّهَا خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَفَاضُلَ فِيهَا، وَلَا نَهْيَ عَنِ التَّفَاضُلِ بِزِيَادَةِ الْخُصُوصِيَّاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ: النَّهْيُ عَنِ التَّفْضِيلِ لِمُجَرَّدِ الْأَهْوَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ. وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ ضَعْفٌ. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُفَضِّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ الْمَزَايَا الَّتِي هِيَ مَنَاطُ التَّفْضِيلِ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ عِنْدَ الْبَشَرِ، فَقَدْ يَجْهَلُ أَتْبَاعُ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْضَ مَزَايَاهُ وَخُصُوصِيَّاتِهِ فَضْلًا عَنْ مَزَايَا غَيْرِهِ، وَالتَّفْضِيلُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا هَذَا فَاضِلًا وَهَذَا مَفْضُولًا، لَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِبَعْضِهَا أَوْ بِأَكْثَرِهَا أَوْ بِأَقَلِّهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ تَفْضِيلٌ بِالْجَهْلِ، وَإِقْدَامٌ عَلَى أَمْرٍ لَا يَعْلَمُهُ الْفَاعِلُ لَهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إِلَّا الْقُرْآنُ فِي الْإِخْبَارِ لَنَا بِأَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْبَشَرِ أَنْ يُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَيْفَ وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ؟ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَالْقُرْآنُ فِيهِ الْإِخْبَارُ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَالسُّنَّةُ فِيهَا النَّهْيُ لِعِبَادِهِ أَنْ يُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، فَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْجَمْعِ بينهما زاعما أنهما

_ (1) . الإسراء: 55.

مُتَعَارِضَانِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا. قَوْلُهُ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَهُوَ مُوسَى، وَنَبِيُّنَا سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي آدَمَ: «إِنَّهُ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ» . وَقَدْ ثَبَتَ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. قَوْلُهُ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هَذَا الْبَعْضُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ عَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ به نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِكَثْرَةِ مَزَايَاهُ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَفْضِيلِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِدْرِيسُ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ رَفَعَهُ مَكَانًا عَلِيًّا وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أُولُو الْعَزْمِ وَقِيلَ: إِبْرَاهِيمُ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبْهَمَ هَذَا الْبَعْضَ الْمَرْفُوعَ، فَلَا يَجُوزُ لَنَا التَّعَرُّضُ لِلْبَيَانِ لَهُ إِلَّا بِبُرْهَانٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ مِنْ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمْ يَرِدْ مَا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ، فَالتَّعَرُّضُ لِبَيَانِهِ هُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَحْضِ الرَّأْيِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْهُ وَقَدْ جَزَمَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ نَبِيُّنَا صلّى الله عليه وسلم، وأطالوا في ذلك، واستدلوا لما خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَمَزَايَا الْكَمَالِ، وَخِصَالِ الْفَضْلِ، وَهُمْ- بِهَذَا الْجَزْمِ بِدَلِيلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ- قَدْ وَقَعُوا فِي خَطَرَيْنِ، وَارْتَكَبُوا نَهْيَيْنِ، وَهُمَا: تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ، وَالدُّخُولُ فِي ذَرَائِعِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَفْضِيلًا صَرِيحًا فَهُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَيْهِ بِلَا شَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ،، لِأَنَّ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّ هَذَا الْبَعْضَ الْمَرْفُوعَ دَرَجَاتٍ هُوَ النَّبِيُّ الْفُلَانِيُّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّفْضِيلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ نَبِيَّنَا الْمُصْطَفَى صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تتقرّب إليه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالدُّخُولِ فِي أَبْوَابٍ نَهَاكَ عَنْ دُخُولِهَا فَتَعْصِيَهُ، وَتُسِيءَ، وَأَنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ مُطِيعٌ مُحْسِنٌ. قَوْلُهُ: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أَيِ: الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ مِنْ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَإِبْرَاءِ الْمَرْضَى وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا. قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ: مِنْ بَعْدِ الرُّسُلِ وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الثَّانِي مَذْكُورٌ صَرِيحًا، وَالْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أَيْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ اقْتِتَالِهِمْ مَا اقْتَتَلُوا، فَمَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، أَيْ: وَلَكِنَّ الِاقْتِتَالَ نَاشِئٌ عَنِ اخْتِلَافِهِمُ اخْتِلَافًا عَظِيمًا، حَتَّى صَارُوا مللا مختلفة فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ عَدَمَ اقْتِتَالِهِمْ بَعْدَ هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ، وَلَا مُبَدِّلَ لِقَضَائِهِ، فَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ قَالَ: اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَجَعَلَ عِيسَى كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ وَرُوحُهُ، وَآتَى دَاوُدَ زَبُورًا، وَآتَى سُلَيْمَانَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَغَفَرَ لِمُحَمَّدٍ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ قَالَ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى، وَأَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ قَالَ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مُوسَى وَعِيسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ

[سورة البقرة (2) : آية 254]

ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَمُعَاوِيَةُ، إِذْ أَقْبَلَ عَلِيٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاوِيَةَ: «أَتُحِبُّ عَلِيًّا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ بَيْنَكُمْ فِتْنَةٌ هُنَيْهَةٌ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَا بَعْدُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَفْوُ اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ، قَالَ: رَضِينَا بِقَضَاءِ اللَّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ» قال السيوطي: وسنده واه. [سورة البقرة (2) : آية 254] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) ظَاهِرُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا الْوُجُوبُ، وَقَدْ حَمَلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفَرْضِ لِذَلِكَ وَلِمَا فِي آخِرِ الْآيَةِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَجْمَعُ زَكَاةَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي ذِكْرِ الْقِتَالِ وَأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي صُدُورِ الْكَافِرِينَ يَتَرَجَّحُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا النَّدْبَ إِنَّمَا هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ إِنْفَاقُ الْمَالِ مَرَّةً وَاجِبًا، وَمَرَّةً نَدْبًا، بِحَسَبِ تَعَيُّنِ الْجِهَادِ وَعَدَمِ تَعَيُّنِهِ. قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ أَيْ: أَنْفِقُوا مَا دُمْتُمْ قَادِرِينَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ مَا لَا يُمْكِنُكُمُ الْإِنْفَاقُ فِيهِ وَهُوَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ أَيْ: لَا يَتَبَايَعُ النَّاسُ فِيهِ. وَالْخُلَّةُ: خَالِصُ الْمَوَدَّةِ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ تَخَلُّلِ الْأَسْرَارِ بَيْنَ الصَّدِيقَيْنِ. أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا خُلَّةَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ نَافِعَةٌ وَلَا شَفَاعَةَ مُؤَثِّرَةٌ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِنَصْبِ لَا بَيْعَ وَلَا خَلَّةَ وَلَا شَفَاعَةَ، مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا مُنَوَّنَةً، وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ لِلْعَرَبِ، وَوَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ النُّحَاةِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ حَسَّانَ: أَلَا طِعَانٌ ولا فرسان عادية ... إلا تجشّؤكم حَوْلَ التَّنَانِيرِ «1» وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ الرَّاعِي: وَمَا صَرَمْتُكِ حَتَّى قُلْتِ مُعْلِنَةً ... لَا نَاقَةٌ لِيَ فِي هَذَا وَلَا جَمَلُ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ: التَّغَايُرُ بِرَفْعِ الْبَعْضِ، وَنَصْبِ الْبَعْضِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ. قَوْلُهُ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ مَانِعُ الزَّكَاةِ مَنْعًا يُوجِبُ كُفْرَهُ، لِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابن جريج في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ قَالَ: مِنَ الزَّكَاةِ وَالتَّطَوُّعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: يُقَالُ نَسَخَتِ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَنَسَخَ شَهْرُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ نَاسًا يَتَخَالَلُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَشْفَعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَأَمَّا يَوْمُ القيامة فلا خلة إلا

_ (1) . ورد في ديوان حسان: (ألا طعان ألا فرسان عادية) .

[سورة البقرة (2) : آية 255]

خُلَّةُ الْمُتَّقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَلَمْ يَقُلْ وَالظَّالِمُونَ هم الكافرون. [سورة البقرة (2) : آية 255] اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا هُوَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَالْحَيُّ: الْبَاقِي وَقِيلَ: الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يُحَوَّلُ وَقِيلَ: الْمُصَرِّفُ لِلْأُمُورِ، وَالْمُقَدِّرُ لِلْأَشْيَاءِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ: إِنَّهُ يُقَالُ: حَيٌّ، كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ دُونَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ أَوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ. وَالْقَيُّومُ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، وَقِيلَ: الْقَائِمُ بِذَاتِهِ الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ وَقِيلَ: الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ وَحِفْظِهِ وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَنَامُ وَقِيلَ: الَّذِي لَا بَدِيلَ لَهُ. وَأَصْلُ قَيُّومٍ: قَيْوُومٌ اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ وَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَأُدْغِمَتِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ قَلْبِ الْوَاوِ يَاءً. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَعْمَشُ: «الْحَيُّ الْقَيَّامُ» بِالْأَلِفِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ: الْقَيُّومَ، أَعْرَفُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَأَصَحُّ بِنَاءً، وَأَثْبَتُ عِلَّةً. وَالسِّنَةُ: النُّعَاسُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالنُّعَاسُ: مَا يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ مِنَ الْفُتُورِ وَانْطِبَاقِ الْعَيْنَيْنِ، فَإِذَا صار في القلب صار نوما. وفرّق المفضل بَيْنَ السِّنَةِ وَالنُّعَاسِ وَالنَّوْمِ فَقَالَ: السِّنَةُ مِنَ الرَّأْسِ، وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ، وَالنَّوْمُ فِي الْقَلْبِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ أَنَّ السِّنَةَ لَا يُفْقَدُ مَعَهَا الْعَقْلُ، بِخِلَافِ النَّوْمِ فَإِنَّهُ اسْتِرْخَاءُ أَعْضَاءِ الدِّمَاغِ مِنْ رُطُوبَاتِ الْأَبْخِرَةِ حَتَّى يُفْقَدَ مَعَهُ الْعَقْلُ، بَلْ وَجَمِيعُ الْإِدْرَاكَاتِ بِسَائِرِ الْمَشَاعِرِ وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لَا يَعْتَرِيهِ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا، وَقَدَّمَ السِّنَةَ عَلَى النَّوْمِ، لِكَوْنِهَا تَتَقَدَّمُهُ فِي الْوُجُودِ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنِ السِّنَةَ مَا تَتَقَدَّمُ النَّوْمَ، فَإِذَا كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ مُقَدِّمَةِ النَّوْمِ، فَإِذَا قِيلَ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ دُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ نَوْمٌ بِطْرِيقِ الْأَوْلَى، فَكَانَ ذِكْرُ النَّوْمِ تَكْرَارًا، قُلْنَا: تَقْدِيرُ الْآيَةِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَأْخُذَهُ نَوْمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. انْتَهَى. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ، فَإِنَّ النَّوْمَ قَدْ يَرِدُ ابْتِدَاءً مِنْ دُونِ مَا ذُكِرَ مِنَ النُّعَاسِ. وَإِذَا وَرَدَ عَلَى الْقَلْبِ وَالْعَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: نَوْمٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ: سِنَةٌ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيُ السِّنَةِ نَفْيَ النَّوْمِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنِ الْعَرَبِ نَفْيُهُمَا جَمِيعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَلَا سِنَةٌ طَوَالَ الدَّهْرِ تَأْخُذُهُ ... وَلَا يَنَامُ وَمَا فِي أَمْرِهِ فَنَدُ فَلَمْ يَكْتَفِ بِنَفْيِ السِّنَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ السِّنَةَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ النَّوْمَ، فَقَدْ يَأْخُذُهُ النَّوْمُ وَلَا تَأْخُذُهُ السِّنَةُ فَلَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ فِي النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ عَلَى نَفْيِ السِّنَةِ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ نَفْيَ النَّوْمِ، وَهَكَذَا لَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى نَفْيِ النَّوْمِ لَمْ يُفِدْ نَفْيَ السِّنَةِ، فَكَمْ مِنْ ذِي سِنَةٍ غَيْرُ نَائِمٍ وَكَرَّرَ حَرْفَ النَّفْيِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى شُمُولِ النَّفْيِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَوْلُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْفَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِشَفَاعَةٍ

أَوْ غَيْرِهَا، وَالتَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ لَهُ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مِنَ الدَّفْعِ فِي صُدُورِ عُبَّادِ الْقُبُورِ، وَالصَّدِّ فِي وُجُوهِهِمْ، وَالْفَتِّ فِي أَعَضَادِهِمْ، مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَلَا يُبْلَغُ مَدَاهُ، وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْهُ فَوْقَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى «2» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «3» بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَقَدْ بَيَّنَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ صِفَةَ الشَّفَاعَةِ، وَلِمَنْ هِيَ؟ وَمَنْ يَقُومُ بِهَا؟. قَوْلُهُ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الضميران لما في السموات وَالْأَرْضِ بِتَغْلِيبِ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ: عِبَارَةٌ عَنِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِمْ وَالْمُتَأَخِّرِ عَنْهُمْ، أَوْ عَنِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا فِيهِمَا. قَوْلُهُ: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِحَاطَةِ، وَالْعِلْمُ هُنَا: بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ، أَيْ: لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ. قَوْلُهُ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ الْكُرْسِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْجِسْمُ الَّذِي وَرَدَتِ الْآثَارُ بِصِفَتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَقَدْ نَفَى وُجُودَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ خَطَأً بَيِّنًا، وَغَلِطُوا غَلَطًا فَاحِشًا. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ الْكُرْسِيَّ هُنَا: عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ. قَالُوا: وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعُلَمَاءِ: الْكَرَاسِيُّ، وَمِنْهُ: الْكُرَّاسَةُ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، ومنه قول الشاعر: يحفّ بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسيّ بالأحداث حِينَ تَنُوبُ وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَقِيلَ: كُرْسِيُّهُ: قُدْرَتُهُ الَّتِي يُمْسِكُ بِهَا السموات وَالْأَرْضَ، كَمَا يُقَالُ: اجْعَلْ لِهَذَا الْحَائِطِ كُرْسِيًّا، أَيْ: مَا يَعْمِدُهُ وَقِيلَ: إِنَّ الْكُرْسِيَّ هُوَ الْعَرْشُ، وَقِيلَ: هُوَ تَصْوِيرٌ لِعَظَمَتِهِ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُلْكِ. وَالْحَقُّ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ إِلَّا مُجَرَّدُ خَيَالَاتٍ تَسَبَّبَتْ عَنْ جَهَالَاتٍ وضلالات، والمراد بكونه وسع السموات وَالْأَرْضَ أَنَّهَا صَارَتْ فِيهِ، وَأَنَّهُ وَسِعَهَا، وَلَمْ يَضِقْ عَنْهَا لِكَوْنِهِ بَسِيطًا وَاسِعًا. وَقَوْلُهُ: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما معناه: لا يثقله، يقال: أَدْنَى الشَّيْءِ، بِمَعْنَى: أَثْقَلَنِي وَتَحَمَّلْتُ مِنْهُ مَشَقَّةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قوله: يَؤُدُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْكُرْسِيِّ لِأَنَّهُ من أمر الله والْعَلِيُّ يُرَادُ بِهِ: عُلُوُّ الْقُدْرَةِ وَالْمَنْزِلَةِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ الْعَلِيُّ عَنْ خَلْقِهِ بِارْتِفَاعِ مَكَانِهِ عَنْ أَمَاكِنِ خَلْقِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ أَقْوَالُ جَهَلَةٍ مُجَسِّمِينَ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا تُحْكَى. انْتَهَى. وَالْخِلَافُ فِي إِثْبَاتِ الْجِهَةِ مَعْرُوفٌ فِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَالنِّزَاعُ فِيهِ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ، وَالْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعْرُوفَةٌ، وَلَكِنَّ النَّاشِئَ عَلَى مَذْهَبٍ يَرَى غَيْرَهُ خَارِجًا عَنِ الشَّرْعِ وَلَا يَنْظُرُ فِي أَدِلَّتِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُمَا الْمِعْيَارُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَيَتَبَيَّنُ بِهِ الصَّحِيحُ مِنَ الْفَاسِدِ: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ «4» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى الظَّاهِرِ الْغَالِبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «5» وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ وَالْعَظِيمُ: بِمَعْنَى: عَظُمَ شَأْنُهُ وَخَطَرُهُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى: بيان لقيامه بتدبير الخلق

_ (1) . الأنبياء: 28. (2) . النجم: 26. (3) . النبأ: 28. (4) . المؤمنون: 71. (5) . القصص: 4.

وَكَوْنِهِ مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ غَيْرَ سَاهٍ عَنْهُ. وَالثَّانِيَةُ: بَيَانٌ لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِمَا يُدَبِّرُهُ. وَالْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: بَيَانٌ لِكِبْرِيَاءِ شَأْنِهِ. وَالْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ: بَيَانٌ لِإِحَاطَتِهِ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ وَعِلْمِهِ بِالْمُرْتَضَى مِنْهُمُ الْمُسْتَوْجِبِ لِلشَّفَاعَةِ وَغَيْرِ الْمُرْتَضَى. وَالْجُمْلَةُ الْخَامِسَةُ: بَيَانٌ لِسَعَةِ عِلْمِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا، أَوْ لِجَلَالِهِ وَعِظَمِ قَدْرِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: الْحَيُّ أَيْ: حَيٌّ لَا يَمُوتُ والْقَيُّومُ الْقَائِمُ الَّذِي لَا بَدِيلَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: الْقَيُّومُ قَالَ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْقَيُّومُ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ قَالَ: السِّنَةُ: النُّعَاسُ، وَالنَّوْمُ: هُوَ النَّوْمُ. وَأَخْرَجُوا إِلَّا الْبَيْهَقِيَّ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: السِّنَةُ: رِيحُ النَّوْمِ الَّذِي تَأْخُذُهُ فِي الْوَجْهِ فَيَنْعَسُ الْإِنْسَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَالَ: مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا وَما خَلْفَهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: مَا قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَما خَلْفَهُمْ: مَا أَضَاعُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ قَالَ: عِلْمُهُ، ألا ترى إلى قوله: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الصِّفَاتِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ قَالَ: كُرْسِيُّهُ مَوْضِعُ قَدَمِهِ، وَالْعَرْشُ لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ السموات السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ بُسِطْنَ ثُمَّ وُصِلْنَ بِعْضُهُنَّ إِلَى بَعْضٍ مَا كُنَّ فِي سَعَتِهِ: يَعْنِي: الْكُرْسِيِّ، إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْحَلْقَةِ فِي الْمَفَازَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُرْسِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده ما السّموات السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى تِلْكَ الْحَلْقَةِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: «أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَعَظَّمَ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَقَالَ: إِنَّ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السموات وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ لَهُ أَطِيطًا كَأَطِيطِ «1» الرَّحْلِ الْجَدِيدِ مِنْ ثِقَلِهِ» وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَلِيفَةَ، وَلَيْسَ بِالْمَشْهُورِ. وَفِي سَمَاعِهِ مِنْ عُمَرَ نَظَرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ. وَفِي إِسْنَادِهِ الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ الْفَزَارِيُّ الْكُوفِيُّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي وَصْفِ الْكُرْسِيِّ آثَارٌ لَا حَاجَةَ فِي بَسْطِهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مِنْ سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ حَدِيثًا فِي صِفَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَوْرَدَ ابْنُ مردويه عن

_ (1) . الأطيط: صوت الأقتاب التي توضع على ظهر البعير. [.....]

بُرَيْدَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما قَالَ: لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أبي حاتم عنه: وَلا يَؤُدُهُ قَالَ: وَلَا يُكْثِرُهُ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: الْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الآية أحاديث. وأخرج أحمد، ومسلم واللفظ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ سَأَلَهُ: أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ، قَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ جُرْنٌ فِيهِ تَمْرٌ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُهُ، فَوَجَدَهُ يَنْقُصُ، فَحَرَسَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِدَابَّةٍ شِبْهِ الْغُلَامِ الْمُحْتَلِمِ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ فَرَدَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ، جِنِّيٌ أَمْ إِنْسِيٌّ؟ قَالَ: جِنِّيٌ، قُلْتُ: نَاوِلْنِي يَدَكَ، فَنَاوَلَنِي فَإِذَا يَدُهُ يَدُ كَلْبٍ وَشَعْرُهُ شَعْرُ كَلْبٍ، فَقُلْتُ: هَكَذَا خُلِقَ الْجِنُّ؟ قَالَ: لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنُّ أَنَّ مَا فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنِّي، قُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْ طَعَامِكَ، فَقَالَ لَهُ أُبَيٌّ: فَمَا الَّذِي يُجِيرُنَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ، آيَةُ الْكُرْسِيِّ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، مَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي أُجِيرَ مِنَّا حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ أُجِيرَ مِنَّا حَتَّى يُمْسِيَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: «صَدَقَ الْخَبِيثُ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ الْأَسْقَعِ الْبَكْرِيِّ «أن النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ جَاءَهُمْ فِي صِفَةِ الْمُهَاجِرِينَ، فَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ أَيُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ حَتَّى انْقَضَتِ الْآيَةُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ الدارمي عن أيفع بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكَلَاعِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «وكلني رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو وَذَكَرَ قِصَّةً، وَفِي آخِرِهَا أَنَّهُ قَالَ لَهُ: دَعْنِي أُعْلِمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَأَخْبَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَمَّا إِنَّهُ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: «ذَلِكَ شَيْطَانُ كَذَا» . وَأَخْرَجَ نَحْوَ ذَلِكَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا آيَةٌ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ، لَا تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ فِيهِ شَيْطَانٌ إِلَّا خَرَجَ مِنْهُ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ» . قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ زَائِدَةَ مَرْفُوعًا: «لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ، وسنام القرآن الْبَقَرَةِ، وَفِيهَا آيَةٌ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ» ، وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَدْ تَكَلَّمَ فيه شعبة

[سورة البقرة (2) : الآيات 256 إلى 257]

وَضَعَّفَهُ، وَكَذَا ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَتَرَكَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَكَذَّبَهُ السَّعْدِيُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ والم اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ «إِنَّ فِيهِمَا اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ» . وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي فَضْلِهَا غَيْرُ هَذِهِ، وَوَرَدَ أَيْضًا فِي فَضْلِ قِرَاءَتِهَا دُبُرَ الصَّلَوَاتِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَوَرَدَ أَيْضًا فِي فَضْلِهَا مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهَا لَهَا أَحَادِيثُ، وَوَرَدَ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ كثير. [سورة البقرة (2) : الآيات 256 الى 257] لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ لأن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْرَهَ الْعَرَبَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، وَالنَّاسِخُ لها: قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «1» وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ «2» وَقَالَ: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ «3» ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَأَنَّهُمْ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ، بَلِ الَّذِينَ يُكْرَهُونَ هُمْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْأَنْصَارِ خَاصَّةً، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَسْلَمَ تَحْتَ السَّيْفِ: إِنَّهُ مُكْرَهٌ، فَلَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي السَّبْيِ مَتَى كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: أَيْ: لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، جَلِيٌّ دَلَائِلُهُ، وَبَرَاهِينُهُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكَرَهَ أَحَدٌ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، بَلْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَحَ صَدْرَهُ وَنَوَّرَ بَصِيرَتَهُ دَخَلَ فِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَمَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلَبَهُ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الدُّخُولُ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا مَقْسُورًا، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا سَادِسًا. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَيْ: لَمْ يُجْرِ اللَّهُ أَمْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِجْبَارِ وَالْقَسْرِ، وَلَكِنْ عَلَى التَّمْكِينِ وَالِاخْتِيَارِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «4» أَيْ: لَوْ شَاءَ لَقَسَرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَبُنِيَ الْأَمْرُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا سَابِعًا. وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ وَيَتَعَيَّنُ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ: أَنَّهَا فِي السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ تَكُونُ مِقْلَاةً لَا يَكَادُ يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أجليت يهود بني النضير كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا. فَنَزَلَتْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ،

_ (1) . التوبة: 73. (2) . التوبة: 123. (3) . الفتح: 16. (4) . يونس: 99.

وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ وُجُوهٍ، حَاصِلُهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ زِيَادَاتٍ تَتَضَمَّنُ أَنَّ الْأَنْصَارَ قَالُوا إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، أَيْ: دِينِ الْيَهُودِ، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دِينَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ دِينِنَا، وَأَنَّ اللَّهَ جَاءَ بِالْإِسْلَامِ فَلَنُكْرِهَنَّهُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ خَيَّرَ الْأَبْنَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُكْرِهْهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا اخْتَارُوا الْبَقَاءَ عَلَى دِينِهِمْ وَأَدَّوُا الْجِزْيَةَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَعُمُّهُمْ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَتَعْرِيفِ الدِّينِ يُفِيدَانِ ذَلِكَ، وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَكِنْ قَدْ خُصَّ هَذَا الْعُمُومُ بِمَا وَرَدَ مِنْ آيَاتٍ فِي إِكْرَاهِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَوْلُهُ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ الرُّشْدُ هُنَا: الْإِيمَانُ، وَالْغَيُّ: الكفر، أي: قد تميز أحدهما من الْآخَرِ. وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ يَتَضَمَّنُ التَّعْلِيلَ لِمَا قَبْلَهُ. وَالطَّاغُوتُ فَعَلُوتٌ مِنْ طَغَى يَطْغِي وَيَطْغُو: إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ اسْمٌ مُذَكَّرٌ مُفْرَدٌ، أَيِ: اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ، كَرَهَبُوتٍ، وَجَبَرُوتٍ، يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَقُلِبَتْ لَامُهُ إِلَى مَوْضِعِ الْعَيْنِ وَعَيْنُهُ إِلَى مَوْضِعِ اللَّامِ كَجَبَذَ وَجَذَبَ، ثُمَّ تُقْلَبُ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَتَحَرُّكِ مَا قَبْلَهَا، فَقِيلَ: طَاغُوتٌ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ وَقِيلَ: أَصْلُ الطَّاغُوتِ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الطُّغْيَانِ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِقَاقٍ، كَمَا قِيلَ: لَآلِئُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ جَمْعٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ مَرْدُودٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ، وَالشَّيْطَانُ، وَكُلُّ رَأْسٍ فِي الضَّلَالِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاحِدًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ «1» وَقَدْ يَكُونُ جَمْعًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ والجمع الطواغيت، أَيْ: فَمَنْ يَكْفُرُ بِالشَّيْطَانِ أَوِ الْأَصْنَامِ أَوْ أهل الكهانة ورؤوس الضلالة، أو الجميع وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ مَا تَمَيَّزَ لَهُ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَقَدْ فَازَ وَتَمَسَّكَ بِالْحَبْلِ الْوَثِيقِ، أَيِ: الْمُحْكَمِ. وَالْوُثْقَى: فُعْلَى مَنِ الْوِثَاقَةِ، وَجَمْعُهَا وُثُقٌ مِثْلُ الْفُضْلَى وَالْفُضُلِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالدَّلِيلِ، بِمَا هُوَ مُدْرَكٌ بِالْحَاسَّةِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعُرْوَةِ: الْإِيمَانُ، وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ، وَقِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْجَمِيعِ. وَالِانْفِصَامُ: الِانْكِسَارُ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فَصَمَ الشَّيْءَ: كَسَرَهَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبِينَ. وَأَمَّا الْقَصْمُ بِالْقَافِ فَهُوَ الْكَسْرُ مَعَ الْبَيْنُونَةِ، وَفَسَّرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ الِانْفِصَامَ بِالِانْقِطَاعِ. قَوْلُهُ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا الْوَلِيُّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهُوَ النَّاصِرُ. وَقَوْلُهُ: يُخْرِجُهُمْ تَفْسِيرٌ لِلْوِلَايَةِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَلِيٍّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ أَرَادُوا الْإِيمَانَ، لِأَنَّ مَنْ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ الْإِيمَانُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْإِخْرَاجِ: إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الْإِرَادَةِ، وَالْمُرَادُ بِالنُّورِ فِي قَوْلِهِ: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ مَا جَاءَ بِهِ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نُورٌ لِلْكُفَّارِ أَخْرَجَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ عَنْهُ إِلَى ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، أَيْ: قَرَّرَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِسَبَبِ صَرْفِهِمْ عَنْ إِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا هُنَا: الَّذِينَ ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى كُفْرُهُمْ يخرجهم أولياؤهم من

_ (1) . النساء: 60.

الشياطين ورؤوس الضَّلَالِ مِنَ النُّورِ الَّذِي هُوَ فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا إِلَى ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ الَّتِي وَقَعُوا فِيهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ وَزَادَ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَيَّرَ الْأَبْنَاءَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ نَحْوَهُ أيضا، وقال: فلحق بهم: أي: ببني الْأَبْنَاءَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ نَحْوَهُ أَيْضًا، وَقَالَ: فَلَحِقَ بِهِمْ، أَيْ: بِبَنِي النَّضِيرِ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ وَبَقِيَ مَنْ أَسْلَمَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كان ناس مِنَ الْأَنْصَارِ مُسْتَرْضَعِينَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَثَبَتُوا عَلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَرَادَ أَهْلُوهُمْ أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ الْحُصَيْنُ، كَانَ لَهُ ابْنَانِ نَصْرَانِيَّانِ، وَكَانَ هُوَ رَجُلًا مُسْلِمًا، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَلَا أَسْتَكْرِهُهُمَا فَإِنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا إِلَّا النَّصْرَانِيَّةَ؟ فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ نَحْوَهُ. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ لَيْسَ لَهَا دِينٌ، فَأُكْرِهُوا عَلَى الدِّينِ بِالسَّيْفِ. قَالَ: وَلَا تُكْرِهُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى وَالْمَجُوسَ إِذَا أَعْطَوُا الْجِزْيَةَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَسْلَمَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِعَجُوزٍ نَصْرَانِيَّةٍ: أَسْلِمِي تَسْلَمِي، فَأَبَتْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثُمَّ تَلَا: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. وَرَوَى عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ لِزَنْبَقَ الرُّومِيِّ غُلَامِهِ: لَوْ أَسْلَمْتَ اسْتَعَنْتُ بِكَ عَلَى أَمَانَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَبَى، فَقَالَ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى فِي قَوْلِهِ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قال: نسختها جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «1» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: الطَّاغُوتُ: السَّاحِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: الطَّاغُوتُ: مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالك: أنها القرآن. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا الْإِيمَانُ. وَعَنْ سُفْيَانَ: أَنَّهَا كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ تَفْسِيرُ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِسْلَامِ مَرْفُوعًا فِي تَعْبِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لرؤيا عبد الله ابن سَلَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بِعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَإِنَّهُمَا حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِمَا فَقَدْ تَمَسَّكَ بِعُرْوَةِ اللَّهِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ فَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ،

_ (1) . التوبة: 73.

[سورة البقرة (2) : آية 258]

وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: لَا انْفِصامَ لَها قَالَ: لَا انْقِطَاعَ لَهَا دُونَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ، قَالَ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا كَفَرُوا بِعِيسَى فَآمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ الْآيَةَ، قَالَ: هُمْ قَوْمٌ آمَنُوا بِعِيسَى فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ كَفَرُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الظُّلُمَاتُ الْكُفْرُ. وَالنُّورُ: الْإِيمَانُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشيخ عن السدي مثله. [سورة البقرة (2) : آية 258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِشْهَادٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِإِنْكَارِ النَّفْيِ وَالتَّقْرِيرُ الْمَنْفِيُّ، أَيْ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ أَوْ نَظَرُكَ إِلَى هَذَا الَّذِي صَدَرَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْمُحَاجَّةُ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَلَمْ تَرَ بِمَعْنَى: هَلْ رَأَيْتَ، أَيْ: هَلْ رَأَيْتَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ؟ وَهُوَ: النُّمْرُوذُ بْنُ كوس بن كنعان بن سلم ابن نُوحٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ النُّمْرُوذُ بْنُ فَالَخَ بْنِ عامر بن شالخ بن أرفخشذ بْنِ سَامٍ. وَقَوْلُهُ: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أَيْ: لِأَنْ آتَاهُ اللَّهُ، أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ، عَلَى مَعْنَى: أَنَّ إِيتَاءَ الْمُلْكِ أَبَطَرَهُ وَأَوْرَثَهُ الْكِبَرَ وَالْعُتُوَّ، فَحَاجَّ لِذَلِكَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ وَضَعَ الْمُحَاجَّةَ الَّتِي هِيَ أَقْبَحُ وُجُوهِ الْكُفْرِ مَوْضِعَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ، كَمَا يُقَالُ: عَادَيْتِنِي لِأَنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، أَوْ وَقْتَ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ. وَقَوْلُهُ: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ هُوَ ظَرْفٌ لِحَاجَّ وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ وَهُوَ بَعِيدٌ. قَوْلُهُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ بِفَتْحِ يَاءِ رَبِّيَ، وَقُرِئَ بِحَذْفِهَا. قَوْلُهُ: أَنَا أُحْيِي قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ: أَنَا أُحْيِي بِطَرْحِ الْأَلِفِ الَّتِي بَعْدَ النُّونِ مِنْ أَنَا فِي الْوَصْلِ وَأَثْبَتَهَا نَافِعٌ وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ... حميدا قد تذرّيت السَّنَامَا أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ فِي الْأَجْسَادِ، وَأَرَادَ الْكَافِرُ: أَنَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَتْلِ فَيَكُونَ ذَلِكَ إِحْيَاءً، وَعَلَى أَنْ يَقْتُلَ فَيَكُونَ ذَلِكَ إِمَاتَةً، فَكَانَ هَذَا جَوَابًا أَحْمَقَ، لَا يَصِحُّ نَصْبُهُ فِي مُقَابَلَةِ حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ، لأنه أراد غير ما أراد الْكَافِرُ، فَلَوْ قَالَ لَهُ: رَبُّهُ الَّذِي يَخْلُقُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ فِي الْأَجْسَادِ فَهَلْ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ لَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ بَادِئَ بَدْءٍ وَفِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَلَكِنَّهُ انْتَقَلَ مَعَهُ إِلَى حُجَّةٍ أُخْرَى تَنْفِيسًا لِخِنَاقِهِ، وَإِرْسَالًا لِعِنَانِ الْمُنَاظَرَةِ فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ لِكَوْنِ هَذِهِ الْحُجَّةِ لَا تَجْرِي فِيهَا الْمُغَالَطَةُ، وَلَا يَتَيَسَّرُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهَا بِمَخْرَجِ مُكَابَرَةٍ وَمُشَاغَبَةٍ. قَوْلُهُ: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ بُهِتَ الرَّجُلُ وَبَهَتَ وَبَهِتَ: إِذَا انْقَطَعَ وَسَكَتَ مُتَحِيرًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى: بَهَتَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْهَاءِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَبَهُتَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمَّ الْهَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي بُهِتَ بِكَسْرِ الْهَاءِ قَالَ: وقرأ ابن السميقع: فَبَهَتَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْهَاءِ، عَلَى مَعْنَى: فَبَهَتَ إبراهيم الذي

[سورة البقرة (2) : آية 259]

كفر، فالذي فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَهَتَ بِفَتْحِهِمَا لُغَةً فِي بُهِتَ. وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ قِرَاءَةَ: فَبُهِتَ بِكَسْرِ الْهَاءِ، قَالَ: وَالْأَكْثَرُ بِالْفَتْحِ فِي الْهَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْمٌ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ فَبَهَتَ بِفَتْحِهِمَا أَنَّهُ بِمَعْنَى: سَبَّ وَقَذَفَ، وَأَنَّ النُّمْرُوذَ هُوَ الَّذِي سَبَّ حِينَ انْقَطَعَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حِيلَةٌ. انْتَهَى. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَلَمْ يَقُلْ فَبُهِتَ الَّذِي حَاجَّ، إِشْعَارًا بِأَنَّ تِلْكَ الْمُحَاجَّةَ كُفْرٌ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ هُوَ: نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَالسُّدِّيِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ أَوَّلَ جَبَّارٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ نُمْرُوذُ، وَكَانَ النَّاسُ يَخْرُجُونَ يَمْتَارُونَ مِنْ عِنْدِهِ الطَّعَامَ، فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمْتَارُ مَعَ مَنْ يَمْتَارُ، فَإِذَا مَرَّ بِهِ نَاسٌ قَالَ: مَنْ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: أَنْتَ حَتَّى مَرَّ بِهِ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، فَرَدَّهُ بِغَيْرِ طَعَامٍ. فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ فَمَرَّ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ رَمْلٍ أَصْفَرَ فَقَالَ: أَلَا آخُذُ مِنْ هَذَا فَآتِي بِهِ أَهْلِي، فَتَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ حِينَ أَدْخُلُ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ مِنْهُ فَأَتَى أَهْلَهُ فَوَضَعَ مَتَاعَهُ ثُمَّ نَامَ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى مَتَاعِهِ فَفَتَحَتْهُ فَإِذَا هِيَ بِأَجْوَدِ طَعَامٍ رَآهُ آخِذٌ. فَصَنَعَتْ لَهُ مِنْهُ فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ عَهْدُهُ بِأَهْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ طَعَامٌ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ: مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ، فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ. ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ إِلَى الْجَبَّارِ مَلَكًا أَنْ آمِنْ وَأَتْرُكْكَ عَلَى مُلْكِكَ. قَالَ: فَهَلْ رَبٌّ غَيْرِي؟ فَجَاءَهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: فَاجْمَعْ جُمُوعَكَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَجَمَعَ الْجَبَّارُ جُمُوعَهُ فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلَكَ فَفَتَحَ عَلَيْهِ بَابًا مِنَ الْبَعُوضِ وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ فَلَمْ يَرَوْهَا مِنْ كَثْرَتِهَا، فَبَعَثَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَأَكَلَتْ شُحُومَهُمْ، وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعِظَامُ، وَالْمَلِكُ كَمَا هُوَ لَا يُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعُوضَةً فَدَخَلَتْ فِي مَنْخَرِهِ، فَمَكَثَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ يُضْرَبُ رَأْسُهُ بِالْمَطَارِقِ، وَأَرْحَمُ النَّاسَ بِهِ مَنْ جَمَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِمَا رَأَسَهُ، وَكَانَ جَبَّارًا أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، فَعَذَّبَهُ اللَّهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ كَمُلْكِهِ، ثُمَّ أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بَنَى صَرْحًا إِلَى السَّمَاءِ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: هُوَ نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ مَلَكَ فِي الْأَرْضِ، أَتَى بِرَجُلَيْنِ، قَتَلَ أَحَدَهُمَا وَتَرَكَ الْآخَرَ، فَقَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال: إلى الإيمان. [سورة البقرة (2) : آية 259] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

قَوْلُهُ: أَوْ كَالَّذِي أَوْ: لِلْعَطْفِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ رَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ؟ أَلَمْ تَرَ مَنْ هُوَ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ؟ فَحُذِفَ قَوْلُهُ: مَنْ هُوَ. وَقَدِ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ أَنَّهَا اسْمِيَّةٌ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَرْيَةَ هِيَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ بَعْدَ تَخْرِيبِ بُخْتُنَصَّرَ لَهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ: أَهْلُهَا. وَقَوْلُهُ: خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أَيْ: سَاقِطَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، أَيْ: سَقَطَ السَّقْفُ، ثُمَّ سَقَطَتِ الْحِيطَانُ عَلَيْهِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: خَالِيَةٌ مِنَ النَّاسِ وَالْبُيُوتُ قَائِمَةٌ وَأَصْلُ الْخَوَاءِ: الْخُلُوُّ، يُقَالُ: خَوَتِ الدَّارُ، وَخَوِيَتْ، تَخْوِي خَوَاءً ممدود، وخيّا وَخَوْيًا: أَقْفَرَتْ، وَالْخَوَاءُ أَيْضًا: الْجُوعُ لِخُلُوِّ الْبَطْنِ عَنِ الْغِذَاءِ. وَالظَّاهِرُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: عَلى عُرُوشِها مِنْ خَوَى الْبَيْتُ: إِذَا سَقَطَ، أَوْ مِنْ خَوَتِ الْأَرْضُ: إِذَا تَهَدَّمَتْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ: مِنْ حَالِ كَوْنِهَا كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ أَيْ: مَتَى يُحْيِي؟ أَوْ كَيْفَ يُحْيِي؟ وَهُوَ اسْتِبْعَادٌ لِإِحْيَائِهَا وَهِيَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُشَابِهَةِ لِحَالَةِ الْأَمْوَاتِ الْمُبَايِنَةِ لِحَالَةِ الْأَحْيَاءِ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ: لِكَوْنِ الِاسْتِبْعَادِ نَاشِئًا مِنْ جِهَتِهِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ. فَلَمَّا قَالَ الْمَارُّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مُسْتَبْعِدًا لِإِحْيَاءِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ بِالْعِمَارَةِ لَهَا، وَالسُّكُونِ فِيهَا، ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ الْمَثَلَ فِي نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ شَكًّا فِي قدرة الله على الإحياء، فلذلك ضرب له المثل في نفسه. قال ابن عطية: ليس يدخل شكّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى إِحْيَاءِ قَرْيَةٍ بِجَلْبِ الْعِمَارَةِ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الشَّكُّ إِذَا كَانَ سُؤَالُهُ عَنْ إِحْيَاءِ مَوْتَاهَا. وَقَوْلُهُ: مِائَةَ عامٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَالْعَامُ: السَّنَةُ، أَصْلُهُ مَصْدَرٌ كَالْعَوْمِ، سُمِّيَ بِهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الزَّمَانِ. وَقَوْلُهُ: بَعَثَهُ مَعْنَاهُ أَحْيَاهُ. قَوْلُهُ: قالَ كَمْ لَبِثْتَ هُوَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ مَاذَا قَالَ لَهُ بَعْدَ بَعْثِهِ؟ وَاخْتُلِفَ فِي فَاعِلِ قَالَ فَقِيلَ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وقيل: ناداه بذلك ملك من السَّمَاءِ قِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ وَقِيلَ: غَيْرُهُ وَقِيلَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قِيلَ: رَجُلٌ مِنَ المؤمنين من قومه شاهده عند أَنْ أَمَاتَهُ اللَّهُ وَعُمِّرَ إِلَى عِنْدِ بَعْثِهِ. والأولى أَوْلَى لِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إلّا عاصما: كم لبتّ بِإِدْغَامِ الثَّاءِ فِي التَّاءِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَخْرَجِ. وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ: بِالْإِظْهَارِ، وَهُوَ أَحْسَنُ، لِبُعْدِ مَخْرَجِ الثَّاءِ مِنْ مَخْرَجِ التَّاءِ. وكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بِنَاءً عَلَى مَا عِنْدَهُ، وَفِي ظَنِّهِ، فَلَا يَكُونُ كَاذِبًا، وَمِثْلُهُ: قَوْلُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ومثله: قوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ: «لَمْ تُقْصَرْ وَلَمْ أَنْسَ» وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصِّدْقَ: مَا طَابَقَ الِاعْتِقَادَ، وَالْكَذِبَ: مَا خَالَفَهُ. وَقَوْلُهُ: قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ هُوَ اسْتِئْنَافٌ أَيْضًا كَمَا سَلَفَ، أَيْ: مَا لَبِثْتَ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بَلْ لبثت مِائَةَ عَامٍ. وَقَوْلُهُ: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى هَذَا الْأَثَرِ الْعَظِيمِ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ عَدَمُ تَغَيُّرِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ مَعَ طُولِ تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «وَهَذَا طَعَامُكُ وَشَرَابُكُ لَمْ يَتَسَنَّهْ» وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: «وَانْظُرْ لِطَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لِمِائَةِ سَنَةٍ» . وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ: «لَمْ يَسَّنَّ» بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ وَحَذْفِ

الْهَاءِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ، وَالتَّسَنُّهُ: مَأْخُوذٌ مِنَ السَّنَةِ، أَيْ: لَمْ تُغَيِّرْهُ السُّنُونَ، وَأَصْلُهَا: سَنْهَةٌ، أَوْ سَنْوَةٌ، مِنْ سَنَهَتِ النَّخْلَةُ وَتَسَنَّهَتْ: إِذَا أَتَتْ عَلَيْهَا السُّنُونَ، وَنَخْلَةٌ سنّاء: أَيْ تَحْمِلُ سَنَةً وَلَا تَحْمِلُ أُخْرَى، وَأَسْنَهْتُ عِنْدَ بَنِي فُلَانٍ: أَقَمْتُ عِنْدَهُمْ، وَأَصْلُهُ: يَتَسَنَّا سَقَطَتِ الْأَلِفُ لِلْجَزْمِ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَسِنَ الْمَاءُ: إِذَا تَغَيَّرَ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ يَتَأَسَّنُ مِنْ قَوْلِهِ: حَمَإٍ مَسْنُونٍ «1» قاله أبو عمرو الشيباني. وقال الزَّجَّاجُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَسْنُونٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ مُتَغَيِّرٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَصْبُوبٌ عَلَى سَنَهِ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ انْظُرْ إِلَيْهِ كَيْفَ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ، وَنَخَرَتْ عِظَامُهُ؟ ثُمَّ أَحْيَاهُ اللَّهُ، وَعَادَ كَمَا كَانَ. وَقَالَ الضحاك ووهب ابن مُنَبِّهٍ: انْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ قَائِمًا فِي مِرْبَطِهِ، لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ عَلَيْهِ مِائَةُ عَامٍ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي: مُنَاسَبَتُهُ لِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَدَمَ تَغَيُّرِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ بَعْدَ إِخْبَارِهِ أَنَّهُ لَبِثَ مِائَةَ عَامٍ، مَعَ أَنَّ عَدَمَ تَغَيُّرِ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، بَلْ عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ لَبْثِهِ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، لِزِيَادَةِ اسْتِعْظَامِ ذَلِكَ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ تِلْكَ الْمُدَّةَ، فَإِنَّهُ إِذَا رَأَى طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مَعَ كَوْنِهِ قَدْ ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ زَادَتِ الْحَيْرَةُ وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ الشُّبْهَةُ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ عِظَامًا نَخِرَةً تَقَرَّرَ لَدَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ صُنْعُ مَنْ تَأْتِي قُدْرَتُهُ بِمَا لَا تُحِيطُ بِهِ الْعُقُولُ، فَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ سَرِيعُ التَّغَيُّرِ. وَقَدْ بَقِيَ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، وَالْحِمَارُ يَعِيشُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ. وَقَدْ صَارَ كَذَلِكَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. قَوْلُهُ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ أَدْخَلَ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَلِنَجْعَلَكَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ لِفِعْلٍ بَعْدَهَا مَعْنَاهُ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، وَدَلَالَةً عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ جَعَلْنَا ذَلِكَ. وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْوَاوَ مُقْحَمَةً زَائِدَةً. قَالَ الْأَعْمَشُ: مَوْضِعُ كَوْنِهِ آيَةً: هُوَ أَنَّهُ جاء شابا عَلَى حَالِهِ يَوْمَ مَاتَ، فَوَجَدَ الْأَبْنَاءَ وَالْحَفَدَةَ شُيُوخًا. قَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِالزَّايِ، وَالْبَاقُونَ: بِالرَّاءِ. وَرَوَى أَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: «نَنْشُرُهَا» بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ وَضَمِّ الشِّينِ وَالرَّاءِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ «كَيْفَ نُنْشِزُهَا» بِالزَّايِ، فَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالزَّايِ: نَرْفَعُهَا، وَمِنْهُ النَّشَزُ: وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ: يَرْفَعُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ. وَأَمَّا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ فَوَاضِحَةٌ مِنْ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى، أَيْ: أَحْيَاهُمْ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أَيْ: نَسْتُرُهَا بِهِ كَمَا نَسْتُرُ الْجَسَدَ بِاللِّبَاسِ، فَاسْتَعَارَ اللِّبَاسَ لِذَلِكَ، كَمَا اسْتَعَارَهُ النَّابِغَةُ لِلْإِسْلَامِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجْلِي ... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الْإِسْلَامِ سِرْبَالَا قَوْلُهُ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَيْ: مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْآيَاتِ، الَّتِي أَرَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَمَرَهُ بِالنَّظَرِ إليها والتفكير فِيهَا قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَيْ: لَمَّا اتَّضَحَ لَهُ عِيَانًا مَا كَانَ مُسْتَنْكَرًا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ قَبْلَ عِيَانِهِ قالَ أَعْلَمُ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَعْنَاهُ: أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ أَكُنْ عَلِمْتُهُ. وَقَرَأَ حمزة

_ (1) . الحجر: 26.

[سورة البقرة (2) : آية 260]

وَالْكِسَائِيُّ: قالَ أَعْلَمُ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ خِطَابًا لِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّجْرِيدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ قَالَ: خَرَجَ عُزَيْرٌ نَبِيُّ اللَّهِ مِنْ مَدِينَتِهِ وَهُوَ شَابٌّ، فَمَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ خَرِبَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، فَقَالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَيْنَاهُ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عِظَامِهِ يَنْضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ كُسِيَتْ لَحْمًا، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، فَقِيلَ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَأَتَى مَدِينَتَهُ. وَقَدْ تَرَكَ جَارًا لَهُ إِسْكَافًا شَابًّا فَجَاءَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ عُزَيْرٌ، مِنْهُمُ: ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَمِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، عِنْدَ الْخَطِيبِ وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَمِنْهُمْ: عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَبُرَيْدَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَوَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ: أَنَّ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ هُوَ نَبِيٌّ اسْمُهُ: أَرْمِيَاءُ، فَمِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَمِنْهُمْ: وهب ابن مُنَبِّهٍ، عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَأَبِي الشَّيْخِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ الْخَضِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَنَّهُ حُزَقْيِلُ. وَرَوَى ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْمَشْهُورُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خاوِيَةٌ قَالَ: خَرَابٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: خاوِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: عَلى عُرُوشِها سُقُوفِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: سَاقِطَةٌ عَلَى سُقُوفِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَبِثْتُ يَوْماً ثُمَّ الْتَفَتْ فَرَأَى الشَّمْسَ فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ طَعَامُهُ الَّذِي مَعَهُ سلة من تين، وشرابه زقّ مِنْ عَصِيرٍ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَتَسَنَّهْ قَالَ: لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: لَمْ يَتَسَنَّهْ لَمْ يُنْتِنْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ مِثْلَهُ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ نُنْشِزُها قَالَ: نُخْرِجُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جرير عن زيد ابن ثابت قال: نحييها. [سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) قَوْلُهُ: وَإِذْ ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْكُرْ وَقْتَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ مُوَجَّهًا إِلَى الْوَقْتِ دُونَ مَا وَقَعَ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ الْمَقْصُودَ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ طَلَبَ وَقْتِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَهُ بِالْأَوْلَى، وَهَكَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِمِثْلِ هَذَا الظَّرْفِ. وَقَوْلُهُ: رَبِّ آثَرَهُ

عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِعْطَافِ الْمُوجِبِ لِقَبُولِ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الدُّعَاءِ. وَقَوْلُهُ: أَرِنِي قَالَ الْأَخْفَشُ: لَمْ يُرِدْ رُؤْيَةَ الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ الرُّؤْيَةُ الْقَلْبِيَّةُ هُنَا، لِأَنَّ مَقْصُودَ إِبْرَاهِيمَ: أَنْ يُشَاهِدَ الْإِحْيَاءَ، لِتَحْصُلَ لَهُ الطُّمَأْنِينَةُ، وَالْهَمْزَةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْفِعْلِ لِقَصْدِ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَهُوَ الْجُمْلَةُ، أَعْنِي قَوْلَهُ: كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى وَكَيْفَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالظَّرْفِ، أَوْ بِالْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ عُطِفَ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمْ، وَلَمْ تُؤْمِنْ بِأَنِّي قَادِرٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ حَتَّى تَسْأَلَنِي إِرَاءَتَهُ قالَ: بَلى عَلِمْتُ وَآمَنْتُ بِأَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ سَأَلْتُ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِاجْتِمَاعِ دَلِيلِ الْعِيَانِ إِلَى دَلَائِلِ الْإِيمَانِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ شَاكًّا فِي إِحْيَاءِ الْمَوْتَى قَطُّ، وَإِنَّمَا طَلَبَ الْمُعَايَنَةَ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ رُؤْيَةِ مَا أُخْبِرَتْ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» . وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ. وَاسْتَدَلُّوا بما صح عنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا فِي الْقُرْآنِ عِنْدِي آيَةٌ أَرْجَى مِنْهَا» . وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَرَجَّحَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ حِكَايَتِهِ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ عِنْدِي مَرْدُودٌ، يَعْنِي: قَوْلَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَاكًّا لَكُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهِ، وَنَحْنُ لَا نَشُكُّ، فَإِبْرَاهِيمُ أَحْرَى أَنْ لَا يَشُكَّ. فَالْحَدِيثُ مَبْنِيٌّ عَلَى نَفْيِ الشَّكِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ أَرْجَى آيَةٍ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهَا الْإِدْلَالَ عَلَى اللَّهِ وَسُؤَالَ الْإِحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَتْ مَظِنَّةَ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ نَقُولَ: هِيَ أَرْجَى آيَةٍ لِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أَيْ: أَنَّ الْإِيمَانَ كَافٍ لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى تَنْقِيرٍ وَبَحْثٍ، قَالَ: فَالشَّكُّ يَبْعُدُ عَلَى مَنْ ثَبَتَ قَدَمُهُ فِي الْإِيمَانِ فَقَطْ، فَكَيْفَ بِمَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَالْخُلَّةِ؟ وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي فِيهَا رَذِيلَةٌ إِجْمَاعًا، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ سُؤَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَائِرَ الْأَلْفَاظِ لِلْآيَةِ لَمْ تُعْطِ شَكًّا، وذلك أن الاستفهام بكيف إِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ عَنْ حَالَةِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، نَحْوُ قَوْلِكَ: كَيْفَ عَلِمَ زَيْدٌ؟ وَكَيْفَ نَسَجَ الثَّوْبَ؟ وَنَحْوُ هَذَا، وَمَتَى قُلْتَ: كَيْفَ ثَوْبُكَ؟ وَكَيْفَ زَيْدٌ؟ فَإِنَّمَا السُّؤَالُ عَنْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَقَدْ تَكُونُ كَيْفَ خَبَرًا عَنْ شَيْءٍ شأنه أن يستفهم عنه بكيف نَحْوِ قَوْلِكَ: كَيْفَ شِئْتَ فَكُنْ، وَنَحْوِ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ؟ وَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِفْهَامٌ عَنْ هَيْئَةِ الْإِحْيَاءِ، وَالْإِحْيَاءُ مُتَقَرِّرٌ، وَلَكِنْ لَمَّا وَجَدْنَا بَعْضَ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ شَيْءٍ قَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ إِنْكَارِهِ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ حَالَةٍ لِذَلِكَ الشَّيْءِ يُعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ فِي نَفْسِهِ لَا يَصِحُّ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مُدَّعٍ: أَنَا أَرْفَعُ هَذَا الْجَبَلَ، فَيَقُولُ الْمُكَذِّبُ لَهُ: أَرِنِي كَيْفَ تَرْفَعُهُ. فَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَجَازٍ فِي الْعِبَارَةِ وَمَعْنَاهَا تَسْلِيمُ جَدَلٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: افْرِضْ أَنَّكَ تَرْفَعُهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي عِبَارَةِ الْخَلِيلِ هَذَا الِاشْتِرَاكُ الْمَجَازِيُّ خَلَّصَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ وَحَمَلَهُ عَلَى أَنْ بَيَّنَ لَهُ الْحَقِيقَةَ فَقَالَ لَهُ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى فَكَمَّلَ الْأَمْرَ وَتَخَلَّصَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ عَلَّلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُؤَالَهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ بَالِغٌ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِثْلُ هَذَا الشَّكِّ فَإِنَّهُ كُفْرٌ، وَالْأَنْبِيَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بالبعث.

وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، فَقَالَ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1» . وقال اللعين: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «2» وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمْ سَلْطَنَةٌ فَكَيْفَ يُشَكِّكُهُمْ، وَإِنَّمَا سَأَلَ أَنْ يُشَاهِدَ كَيْفِيَّةَ جَمْعِ أَجْزَاءِ الْمَوْتَى بَعْدَ تَفْرِيقِهَا، وَاتِّصَالِ الْأَعْصَابِ وَالْجُلُودِ بَعْدَ تَمْزِيقِهَا، فَأَرَادَ أَنْ يَرْقَى مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، فَقَوْلُهُ: أَرِنِي كَيْفَ طَلَبُ مُشَاهَدَةِ الْكَيْفِيَّةِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَيْسَتِ الْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَلِفُ إِيجَابٍ وَتَقْرِيرٍ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، وَ «تُؤْمِنْ» : مَعْنَاهُ: إِيمَانًا مُطْلَقًا دَخَلَ فِيهِ فَضْلُ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَالطُّمَأْنِينَةُ: اعْتِدَالٌ وَسُكُونٌ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَى لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي: لِيُوقِنَ. قَوْلُهُ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْ أَرَدْتَ ذَلِكَ فَخُذْ، وَالطَّيْرُ: اسْمُ جَمْعٍ لِطَائِرٍ، كَرَكْبٍ: لِرَاكِبٍ، أَوْ جَمْعٌ، أَوْ مَصْدَرٌ، وَخُصَّ الطَّيْرُ بِذَلِكَ، قِيلَ: لِأَنَّهُ أَقْرَبُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَقِيلَ: إِنَّ الطَّيْرَ هِمَّتُهُ الطَّيَرَانُ فِي السَّمَاءِ، وَالْخَلِيلُ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْعُلُوَّ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِتَخْصِيصِ الطَّيْرِ. وَكُلُّ هَذِهِ لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَلَيْسَتْ إِلَّا خَوَاطِرَ أَفْهَامٍ وَبَوَادِرَ أَذْهَانٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ وُجُوهًا لِكَلَامِ اللَّهِ، وَعِلَلًا لِمَا يَرِدُ فِي كَلَامِهِ، وَهَكَذَا قِيلَ: مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ هَذَا الْعَدَدِ فَإِنَّ الطُّمَأْنِينَةَ تَحْصُلُ بِإِحْيَاءٍ وَاحِدٍ؟ فَقِيلَ: إِنَّ الْخَلِيلَ إِنَّمَا سَأَلَ وَاحِدًا عَلَى عَدَدِ الْعُبُودِيَّةِ، فَأُعْطِيَ أَرْبَعًا عَلَى قَدْرِ الرُّبُوبِيَّةِ وَقِيلَ: إِنَّ الطُّيُورَ الْأَرْبَعَةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي مِنْهَا تَتَرَكَّبُ أَرْكَانُ الْحَيَوَانِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْهَذَيَانِ. قَوْلُهُ: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ قُرِئَ بِضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِهَا، أَيِ: اضْمُمْهُنَّ إِلَيْكَ، وَأَمِلْهُنَّ، وَاجْمَعْهُنَّ يُقَالُ رَجُلٌ أَصْوَرُ: إِذَا كَانَ مَائِلَ الْعُنُقِ وَيُقَالُ صَارَ الشَّيْءَ يَصْوَرُهُ: أَمَالَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّا فِي تَلَفُّتِنَا ... يَوْمَ الْفِرَاقِ إِلَى جِيرَانِنَا صُوَرُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: قَطِّعْهُنَّ، يُقَالُ: صَارَ الشَّيْءَ يَصُورُهُ: أَيْ: قَطَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ تَوْبَةَ بْنِ الْحُمَيِّرِ: فَأَدْنَتْ لِي الْأَسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُهَا ... بِنَهْضِي وقد كان ارتقائي يَصُورُهَا أَيْ: يَقْطَعُهَا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: إِلَيْكَ متعلقا بقوله: فَخُذْ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فِيهِ الْأَمْرُ بِالتَّجْزِئَةِ، لِأَنَّ جَعْلَ كُلِّ جُزْءٍ عَلَى جَبَلٍ تَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ التَّجْزِئَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، وَالْجُزْءُ النَّصِيبُ. وَقَوْلُهُ: يَأْتِينَكَ فِي مَحَلِّ جَزْمٍ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ بُنِيَ لِأَجْلِ نُونِ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ. وَقَوْلُهُ: سَعْياً الْمُرَادُ بِهِ: الْإِسْرَاعُ فِي الطَّيَرَانِ أَوِ الْمَشْيِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ مَرَّ بِرَجُلٍ مَيِّتٍ زَعَمُوا أَنَّهُ حَبَشِيٌّ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرَأَى دَوَابَّ الْبَحْرِ تَخْرُجُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ، وَسِبَاعَ الْأَرْضِ تَأْتِيهِ فَتَأْكُلُ مِنْهُ، وَالطَّيْرَ يَقَعُ عَلَيْهِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ ذَلِكَ: رَبِّ، هَذِهِ دَوَابُّ الْبَحْرِ تَأْكُلُ مِنْ هَذَا، وَسِبَاعُ الْأَرْضِ والطير،

_ (1) . الإسراء: 65. (2) . ص: 83.

[سورة البقرة (2) : الآيات 261 إلى 265]

ثُمَّ تُمِيتُ هَذِهِ فَتَبْلَى ثُمَّ تُحْيِيهَا، فَأَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَنِّي أُحْيِي الْمَوْتَى؟ قالَ: بَلى يَا رَبِّ، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي يَقُولُ: لِأَرَى مِنْ آيَاتِكَ وَأَعْلَمَ أَنَّكَ قَدْ أَجَبْتَنِي فَقَالَ اللَّهُ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ الآية. فصنع مَا صُنِعَ، وَالطَّيْرُ الَّذِي أُخِذَ: وَزٌّ، وَرَأْلٌ «1» ، وديك، وطاوس، وأخذ نِصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: ثُمَّ أَتَى أَرْبَعَةَ أَجْبُلٍ، فَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ نِصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثم تنحى ورؤوسها تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَدَعَا بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، فَرَجَعَ كُلُّ نِصْفٍ إِلَى نِصْفِهِ، وَكُلُّ رِيشٍ إِلَى طائره، ثم أقبلت تطير بغير رؤوس إلى قدميه، تريد رؤوسها بِأَعْنَاقِهَا، فَرَفَعَ قَدَمَيْهِ، فَوَضَعَ كُلُّ طَائِرٍ مِنْهَا عُنُقَهُ فِي رَأْسِهِ، فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عن قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهَا كَانَتْ جِيفَةَ حِمَارٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي يَقُولُ: أَعْلَمُ أَنَّكَ تُجِيبُنِي إِذَا دَعَوْتُكَ، وَتُعْطِينِي إِذَا سَأَلْتُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قَالَ: الْغُرْنُوقُ «2» ، والطاوس، وَالدِّيكُ، وَالْحَمَامَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ الأربعة من الطير: الديك، والطاوس، وَالْغُرَابُ، وَالْحَمَامُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَصُرْهُنَّ قَالَ: قَطِّعْهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هِيَ بِالنَّبَطِيَّةِ: شَقِّقْهُنَّ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فَصُرْهُنَّ أَوْثِقْهُنَّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قال: وضعهن على سبعة أجبل، وأخذ الرؤوس بِيَدِهِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْقَطْرَةِ تَلْقَى الْقَطْرَةَ، وَالرِّيشَةِ تَلْقَى الرِّيشَةَ، حَتَّى صِرْنَ أَحْيَاءً لَيْسَ لهنّ رؤوس، فجئن إلى رؤوسهن فدخلن فيها. [سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 265] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

_ (1) . الرأل: فرخ النّعام. (2) . الغرنوق: طائر مائي وهو الكركي أو طائر يشبهه.

قَوْلُهُ: كَمَثَلِ حَبَّةٍ لَا يَصِحُّ جَعْلُ هَذَا خَبَرًا عَنْ قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ لِاخْتِلَافِهِمَا، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ إِمَّا فِي الْأَوَّلِ، أَيْ: مَثَلُ نَفَقَةِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ، أَوْ فِي الثَّانِي، أَيْ: كَمَثَلِ زَارِعِ حَبَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِالسَّبْعِ السَّنَابِلِ: هِيَ الَّتِي تُخْرَجُ فِي سَاقٍ وَاحِدٍ، يَتَشَعَّبُ مِنْهُ سَبْعُ شُعَبٍ، فِي كُلِّ شُعْبَةٍ سُنْبُلَةٌ، وَالْحَبَّةُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يَزْدَرِعُهُ ابْنُ آدَمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ: آلَيْتُ حَبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ ... وَالْحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّنَابِلِ هُنَا: سَنَابِلُ الدُّخْنُ، فهو الذي يَكُونُ فِي السُّنْبُلَةِ مِنْهُ هَذَا الْعَدَدُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ سُنْبُلَ الدُّخْنِ يَجِيءُ فِي السُّنْبُلَةِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ بِضِعْفَيْنِ وَأَكْثَرَ عَلَى مَا شَاهَدْنَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يُوجَدُ فِي سُنْبُلِ الْقَمْحِ مَا فِيهِ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْحُبُوبِ فَأَكْثَرَ، وَلَكِنَّ الْمِثَالَ وَقَعَ بِهَذَا الْقَدْرِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ: فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ مَعْنَاهُ إِنْ وُجِدَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَعَلَى أَنْ تَفْرِضَهُ. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: يُضَاعِفُ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةَ لِمَنْ يَشَاءُ، أَوْ يُضَاعِفُ هَذَا الْعَدَدَ، فَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَضْعَافَهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ لِمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ: بِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: بِأَنَّ نَفَقَةَ الْجِهَادِ حَسَنَتُهَا بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، فَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ هُوَ الْجِهَادُ فَقَطْ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ: وُجُوهُ الْخَيْرِ، فَيَخُصُّ هَذَا التَّضْعِيفَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ بِثَوَابِ النَّفَقَاتِ وَتَكُونُ الْعَشْرَةُ الْأَمْثَالُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْإِنْفَاقِ الَّذِي تَقَدَّمَ، أَيْ: هُوَ إِنْفَاقُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً وَالْمَنُّ: هُوَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ عَلَى مَعْنَى التَّعْدِيدِ لَهَا وَالتَّقْرِيعِ بِهَا وَقِيلَ: الْمَنُّ: التَّحَدُّثُ بِمَا أَعْطَى، حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ الْمُعْطَى فَيُؤْذِيَهُ، وَالْمَنُّ مِنَ الْكَبَائِرِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وَالْأَذَى: السَّبُّ وَالتَّطَاوُلُ وَالتَّشَكِّي. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَمَعْنَى «ثُمَّ» إِظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ وَتَرْكِ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَأَنَّ تَرْكَهُمَا خَيْرٌ مِنْ نَفْسِ الْإِنْفَاقِ، كَمَا جَعَلَ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الْإِيمَانِ خَيْرًا مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَقامُوا انْتَهَى. وَقُدِّمَ الْمَنُّ عَلَى الْأَذَى لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ، وَوَسَّطَ كَلِمَةَ لَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُمُولِ النَّفْيِ. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ فِيهِ تَأْكِيدٌ وَتَشْرِيفٌ. وَقَوْلُهُ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ظَاهِرُهُ نَفْيُ الْخَوْفِ عَنْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ، لِمَا تُفِيدُهُ النَّكِرَةُ الْوَاقِعَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنَ الشُّمُولِ، وَكَذَلِكَ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يُفِيدُ دَوَامَ انْتِفَاءِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ قِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَوْلَى وَأَمْثَلُ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ. وَقَوْلُهُ: وَمَغْفِرَةٌ مُبْتَدَأٌ أَيْضًا وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: خَيْرٌ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَعَنْ قَوْلِهِ: وَمَغْفِرَةٌ وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَتَيْنِ لِأَنَّ الْأُولَى تَخَصَّصَتْ بِالْوَصْفِ، وَالثَّانِيَةَ بِالْعِطْفِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ القول المعروف من المسؤول لِلسَّائِلِ وَهُوَ التَّأْنِيسُ وَالتَّرْجِيَةُ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَالرَّدُّ الْجَمِيلُ خَيْرٌ مِنَ الصَّدَقَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا أَذًى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ» وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ:

لَا تَدْخُلَنَّكَ ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلِ ... فَلَخَيْرُ دَهْرِكَ أن ترى مسؤولا لَا تَجْبَهَنْ بِالرَّدِ وَجْهَ مُؤَمِّلِ ... فَبَقَاءُ عِزِّكَ أَنْ تُرَى مَأْمُولَا وَالْمُرَادُ بِالْمَغْفِرَةِ: السَّتْرُ لِلْخُلَّةِ، وَسُوءِ حَالَةِ الْمُحْتَاجِ، وَالْعَفْوُ عَنِ السَّائِلِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْإِلْحَاحِ مَا يُكَدِّرُ صَدْرَ المسؤول وَقِيلَ: الْمُرَادُ: أَنَّ الْعَفْوَ مِنْ جِهَةِ السَّائِلِ، لِأَنَّهُ إِذَا رَدَّهُ رَدًّا جَمِيلًا عَذَرَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: فِعْلٌ يُؤَدِّي إِلَى الْمَغْفِرَةِ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ، أَيْ: غُفْرَانُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَتِكُمْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِتَرْكِ اتِّبَاعِ الْمَنِّ والأذى للصدقة. قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى الْإِبْطَالُ لِلصَّدَقَاتِ: إِذْهَابُ أَثَرِهَا وَإِفْسَادُ مَنْفَعَتِهَا، أَيْ: لَا تُبْطِلُوهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى أَوْ بأحدهما. قوله: كَالَّذِي أي: إبطالا كالإبطال الَّذِي، عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ: لَا تُبْطِلُوا مُشَابِهِينَ لِلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَانْتِصَابُ رِئَاءَ: عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: يُنْفِقُ أَيْ: لِأَجْلِ الرِّيَاءِ، أَوْ حَالٌ، أَيْ: يُنْفِقُ مُرَائِيًا لَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَثَوَابَ الْآخِرَةِ، بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ رِيَاءً لِلنَّاسِ، اسْتِجْلَابًا لِثَنَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَمَدْحِهِمْ لَهُ قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قَوْلُهُ: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ الصَّفْوَانُ: الْحَجَرُ الْكَبِيرُ الْأَمْلَسُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: صَفْوَانٌ جَمْعُ صَفْوَانَةٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: صفوان: واحد، وجمعه: صفي، وصفي، وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، وَهُوَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ وَالْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، مَثَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمُنْفِقَ بِصَفْوَانٍ عليه التراب يَظُنُّهُ الظَّانُّ أَرْضًا مُنْبِتَةً طَيِّبَةً، فَإِذَا أَصَابَهُ وَابِلٌ مِنَ الْمَطَرِ أَذْهَبَ عَنْهُ التُّرَابَ وَبَقِيَ صَلْدًا، أَيْ: أَجْرَدَ نَقِيًّا مِنَ التُّرَابِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُرَائِي، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ لَا تَنْفَعُهُ، كَمَا لَا يَنْفَعُ الْمَطَرُ الْوَاقِعُ عَلَى الصَّفْوَانِ الَّذِي عَلَيْهِ تُرَابٌ، قَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أَيْ: لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا فَعَلُوهُ رِيَاءً، وَلَا يَجِدُونَ لَهُ ثَوَابًا، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَكُونُ حَالُهُمْ حِينَئِذٍ؟ فَقِيلَ: لَا يَقْدِرُونَ، إِلَخْ، وَالضَّمِيرَانِ لِلْمَوْصُولِ، أَيْ: كَالَّذِي، بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، كَمَا فِي قوله تعالى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «1» أَيِ: الْجِنْسُ، أَوِ الْجَمْعُ، أَوِ الْفَرِيقُ. قَوْلُهُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ مفعول له، وتثبيتا: مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضًا مَفْعُولٌ لَهُ، أَيِ: الْإِنْفَاقُ لِأَجْلِ الِابْتِغَاءِ، وَالتَّثْبِيتُ، كَذَا قَالَ مَكِّيٌّ فِي الْمُشْكِلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ، لَا يَصِحُّ فِي تَثْبِيتًا أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ التَّثْبِيتِ. قال: وابتغاء، نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَانَ يُتَوَجَّهُ فِيهِ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، لَكِنَّ النَّصْبَ عَلَى الْمَصْدَرِ هُوَ الصَّوَابُ مِنْ جِهَةِ عَطْفِ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ تَثْبِيتًا عَلَيْهِ، وابتغاء معناه: طلب، ومرضاة: مَصْدَرُ رَضِيَ، يَرْضَى، وَتَثْبِيتًا: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ رِيَاضَةً لَهَا وَتَدْرِيبًا وَتَمْرِينًا، أَوْ يَكُونُ التَّثْبِيتُ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ، أَيْ: تَصْدِيقًا لِلْإِسْلَامِ نَاشِئًا مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَرْفِ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَتَثَبَّتُونَ أَنْ يَضَعُوا صَدَقَاتِهِمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تصديقا ويقينا، روي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: احْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّ

_ (1) . التوبة: 69.

أَنْفُسَهُمْ لَهَا بَصَائِرُ، فَهِيَ تُثَبِّتُهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَثْبِيتًا. قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَهَذَا أَرْجَحُ مِمَّا قَبْلَهُ. يُقَالُ: ثَبَّتُّ فُلَانًا فِي هَذَا الْأَمْرِ أُثَبِّتُهُ تَثْبِيتًا، أَيْ: صَحَّحْتُ عَزْمُهُ، قَوْلُهُ: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ الْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ، وَهِيَ: أَرْضٌ تَنْبُتُ فِيهَا الْأَشْجَارُ حَتَّى تُغَطِّيَهَا، مَأْخُوذَةٌ مِنْ لَفْظِ الْجِنِّ وَالْجَنِينِ لِاسْتِتَارِهَا. وَالرَّبْوَةُ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ ارْتِفَاعًا يَسِيرًا، وَهِيَ: مُثَلَّثَةُ الرَّاءِ، وَبِهَا قُرِئَ وَإِنَّمَا خَصَّ الرَّبْوَةَ: لِأَنَّ نَبَاتَهَا يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْ غَيْرِهِ، مَعَ كَوْنِهِ لَا يَصْطَلِمُهُ الْبَرْدُ فِي الْغَالِبِ لِلَطَافَةِ هَوَائِهِ بِهُبُوبِ الرِّيَاحِ الْمُلَطِّفَةِ لَهُ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهِيَ: رِيَاضُ الْحَزْنِ الَّتِي تَسْتَكْثِرُ الْعَرَبُ مِنْ ذِكْرِهَا، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فَقَالَ: إِنَّ رِيَاضَ الْحَزْنِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى نَجْدٍ، لِأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ رِيَاضِ تِهَامَةَ، وَنَبَاتُ نَجْدٍ أَعْطَرُ، وَنَسِيمَهُ أَبْرَدُ وَأَرَقُّ، وَنَجْدٌ يُقَالُ لَهَا: حَزْنٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَذْكُورَةُ هُنَا مِنْ ذَاكَ، وَلَفْظُ الرَّبْوَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ: رَبَا، يَرْبُو، إِذَا زَادَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الرَّبْوَةُ: أَرْضٌ مُرْتَفِعَةٌ طَيِّبَةٌ. وَالْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ كَمَا تَقَدَّمَ، يُقَالُ: وبلت السماء، تبل، والأرض موبولة. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَخْذاً وَبِيلًا «1» أَيْ: شَدِيدًا، وَضَرْبٌ وَبِيلٌ، وَعَذَابٌ وَبِيلٌ فَآتَتْ أُكُلَها بِضَمِّ الْهَمْزَةِ: الثَّمَرُ الَّذِي يُؤْكَلُ، كَقَوْلِهِ تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ «2» وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْجَنَّةِ إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ، كَسَرْجِ الْفَرَسِ، وَبَابِ الدَّارِ، قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: أُكْلَهَا، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ تَخْفِيفًا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِتَحْرِيكِ الْكَافِ بِالضَّمِّ. وَقَوْلُهُ: ضِعْفَيْنِ أَيْ: مِثْلَيْ مَا كَانَتْ تُثْمِرُ بِسَبَبِ الْوَابِلِ. فَالْمُرَادُ بِالضَّعْفِ: الْمِثْلُ وَقِيلَ أَرْبَعَةُ أَمْثَالٍ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ أُكُلَهَا، أَيْ: مُضَاعَفًا. قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أَيْ: فَإِنَّ الطَّلَّ يَكْفِيهَا: وَهُوَ الْمَطَرُ الضَّعِيفُ الْمُسْتَدَقُّ الْقَطْرِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ: وَتَقْدِيرُهُ: فَطَلٌّ يَكْفِيهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ: فَالَّذِي يُصِيبُهَا طَلٌّ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ الطَّلَّ يَنُوبُ مَنَابَ الْوَابِلِ فِي إِخْرَاجِ الثَّمَرَةِ ضِعْفَيْنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الطَّلُّ: النَّدَى. وَفِي الصِّحَاحِ الطَّلُّ: أَضْعَفُ الْمَطَرِ، وَالْجَمْعُ أَطْلَالٌ. قَالَ الْمَاوِرْدِيُّ: وَزَرْعُ الطَّلِّ أَضْعَفُ مِنْ زَرْعِ الْمَطَرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ نَفَقَاتِ هَؤُلَاءِ زَاكِيَةٌ عِنْدَ اللَّهِ لَا تَضِيعُ بِحَالٍ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ التَّمْثِيلُ مَا بَيْنَ حَالِهِمْ بِاعْتِبَارِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ الْكَثِيرَةِ وَالْقَلِيلَةِ، وَبَيْنَ الْجَنَّةِ الْمَعْهُودَةِ بِاعْتِبَارِ مَا أَصَابَهَا مِنَ الْمَطَرِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، فَكَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَطَرَيْنِ يُضْعِفُ أُكُلَهَا، فَكَذَلِكَ نَفَقَتُهُمْ جَلَّتْ أَوْ قَلَّتْ بَعْدَ أَنْ يُطْلَبَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ زَاكِيَةً زَائِدَةً فِي أُجُورِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَرَأَ الزُّهْرِيُّ: بِالتَّاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْفَوْقِيَّةِ، وَفِي هذا ترغيب لَهُمْ فِي الْإِخْلَاصِ مَعَ تَرْهِيبٍ مِنَ الرِّيَاءِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ: وَعْدٌ، وَوَعِيدٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: «كَانَ مَنْ بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَرَابَطَ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَذْهَبْ وَجْهًا إِلَّا بِإِذْنِهِ كَانَتْ لَهُ الْحَسَنَةُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَمَنْ بَايَعَ عَلَى الْإِسْلَامِ كَانَتِ الْحَسَنَةُ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ خريم بْنِ فَاتِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من أنفق نفقة

_ (1) . المزمل: 16. (2) . إبراهيم: 25. [.....]

فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ» . وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ «وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ أَوْ عَادَ مَرِيضًا فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ النَّسَائِيُّ فِي الصَّوْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرٍ، كُلُّهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ أَرْسَلَ بِنَفَقَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَقَامَ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْفَقَ فِي وَجْهِهِ ذَلِكَ فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، يَقُولُ اللَّهُ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ. وأخرج الطبراني من حديث معاذ ابن جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «طُوبَى لِمَنْ أَكْثَرَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ لَهُ بِكُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعِينَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، كُلُّ حَسَنَةٍ مِنْهَا عَشْرَةُ أَضْعَافٍ» وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ طَرَفٍ مِنْ أَحَادِيثِ التَّضْعِيفِ لِلْحَسَنَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً «1» . وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي أَجْرِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إِنَّ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَالذِّكْرَ تُضَاعَفُ عَلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً إِنَّ أَقْوَامًا يَبْعَثُونَ الرَّجُلَ مِنْهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يُنْفِقُ عَلَى الرَّجُلِ، أَوْ يُعْطِيهِ النَّفَقَةَ، ثُمَّ يَمُنُّ عَلَيْهِ وَيُؤْذِيهِ، يَعْنِي: أَنَّ هَذَا سَبَبُ النُّزُولِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ: فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَفِي فَضْلِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى الْأَقَارِبِ، وَفِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهَا، فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي مَوَاطِنِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ صَدَقَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ قَالَ: رَدٌّ جَمِيلٌ، تَقُولُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، يَرْزُقُكَ اللَّهُ، وَلَا تَنْهَرْهُ، وَلَا تُغْلِظْ لَهُ الْقَوْلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: صَفْوانٍ يَقُولُ: الْحَجَرُ فَتَرَكَهُ صَلْداً يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن عِكْرِمَةَ قَالَ: الْوَابِلُ: الْمَطَرُ. وَأَخْرَجَا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ قَالَ: وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا يَوْمَئِذٍ، كَمَا تَرَكَ هَذَا الْمَطَرُ هَذَا الْحَجْرَ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، أَنْقَى مِمَّا كَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَرَكَهُ صَلْداً قَالَ:

_ (1) . البقرة: 245.

[سورة البقرة (2) : آية 266]

يابسا، جافا، لَا يُنْبِتُ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ قَالَ: تَصْدِيقًا وَيَقِينًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ أَمْوَالَهُمْ. وَأَخْرَجَا عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ تَثَبَّتَ، فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ أَمْضَاهُ، وَإِنْ خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيَاءِ أَمْسَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: تَثْبِيتاً قَالَ: النِّيَّةُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّبْوَةُ: النَّشَزُ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الرَّبْوَةُ: الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْمُرْتَفِعَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الَّذِي لَا تَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَارُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَطَلٌّ قَالَ: الندى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ الضَّحَّاكِ. قَالَ: الطَّلُّ: الرَّذَاذُ مِنَ الْمَطَرِ. يَعْنِي اللِّينَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ يَقُولُ: لَيْسَ لِخَيْرِهِ خَلَفٌ، كَمَا لَيْسَ لِخَيْرِ هَذِهِ الْجَنَّةِ خَلَفٌ، عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، إِنْ أَصَابَهَا وابل وإن أصابها طل. [سورة البقرة (2) : آية 266] أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) الْوُدُّ: الْحُبُّ لِلشَّيْءِ مَعَ تَمَنِّيهِ، وَالْهَمْزَةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْفِعْلِ لِإِنْكَارِ الْوُقُوعِ، وَالْجَنَّةُ: تُطْلَقُ عَلَى الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ، وَعَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى هُنَا لِقَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى الشَّجَرِ مِنْ دُونِ حَاجَةٍ إِلَى مُضَافٍ مَحْذُوفٍ وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ، أَيْ: مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا وَهَكَذَا قَوْلُهُ: فَاحْتَرَقَتْ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَيُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِهِ، أَيْ: فَاحْتَرَقَتْ أَشْجَارُهَا، وَخُصَّ النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ بِالذِّكْرِ مَعَ قَوْلِهِ: لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لِكَوْنِهِمَا أَكْرَمَ الشَّجَرِ، وَهَذِهِ الْجُمَلُ صِفَاتٌ لِلْجَنَّةِ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَأَصابَهُ الْكِبَرُ قِيلَ: عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: تَكُونَ مَاضٍ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ وَقِيلَ: عَلَى قَوْلِهِ: يَوَدُّ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى إِذْ تَكُونُ فِي مَعْنَى: كَانَتْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا وَاوُ الْحَالِ، أَيْ: وَقَدْ أَصَابَهُ الْكِبَرُ وَهَذَا أَرْجَحُ. وَكِبَرُ السِّنِّ: هُوَ مَظِنَّةُ شِدَّةِ الْحَاجَةِ، لِمَا يَلْحَقُ صَاحِبُهُ مِنَ الْعَجْزِ عَنْ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ. وَقَوْلُهُ: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَصَابَهُ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ لَهُ ذُرِّيَّةً ضُعَفَاءَ، فَإِنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ كِبَرِ السِّنِّ وَضَعْفِ الذُّرِّيَّةِ كَانَ تَحَسُّرُهُ عَلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ. وَالْإِعْصَارُ: الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَهُبُّ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَالْعَمُودِ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: الزَّوْبَعَةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الزَّوْبَعَةُ: رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْجِنِّ، وَمِنْهُ سُمِّي الْإِعْصَارُ زَوْبَعَةً، وَيُقَالُ: أُمُّ زَوْبَعَةَ: وَهِيَ رِيحٌ تُثِيرُ الْغُبَارَ وَيَرْتَفِعُ إِلَى السَّمَاءِ كَأَنَّهُ عَمُودٌ وَقِيلَ: هِيَ رِيحٌ تُثِيرُ سَحَابًا ذَاتَ رَعْدٍ وَبَرْقٍ. وَقَوْلُهُ: فَاحْتَرَقَتْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَصابَها، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَمْثِيلُ مَنْ يَعْمَلُ

[سورة البقرة (2) : الآيات 267 إلى 271]

خَيْرًا وَيَضُمُّ إِلَيْهِ مَا يُحْبِطُهُ فَيَجِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ بِحَالِ مَنْ لَهُ هَذِهِ الْجَنَّةُ الْمَوْصُوفَةُ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ؟ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلَا تُحَقِّرْ نَفْسَكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: أَيُّ عمل؟ قال ابن عباس: لرجل عنى «1» يَعْمَلُ لِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ عَمَلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِإِنْسَانِ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ آخِرِ عُمُرِهِ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ عَمِلَ عَمَلَ السُّوءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ قَالَ: رِيحٌ فيها سموم شديدة. [سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 271] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) قَوْلُهُ: مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ أَيْ: مِنْ جَيِّدِ مَا كَسَبْتُمْ، وَمُخْتَارِهِ، كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ مَعْنَى الطَّيِّبَاتِ هُنَا: الْحَلَالُ، وَلَا مَانِعَ مِنِ اعْتِبَارِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ جَيِّدَ الْكَسْبِ وَمُخْتَارَهُ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْحَلَالِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَإِنْ أَطْلَقَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى مَا هُوَ جَيِّدٌ فِي نَفْسِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، فَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أَيْ: وَمِنْ طَيِّبَاتِ مَا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَهِيَ النَّبَاتَاتُ وَالْمَعَادِنُ وَالرِّكَازُ. قَوْلُهُ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أَيْ: لَا تَقْصِدُوا الْمَالَ الرَّدِيءَ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: بِتَشْدِيدِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «وَلَا تَأْمَمُوا» وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ خَبَّابٍ: بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. وَحَكَى أَبُو عمرو: أن ابن مسعود قرأ: «تؤمّموا» بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمَضْمُومَةِ، وَفِي الْآيَةِ الْأَمْرُ بِإِنْفَاقِ الطَّيِّبِ، وَالنَّهْيُ عَنْ إِنْفَاقِ الْخَبِيثِ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إِلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا تَعُمُّ صَدَقَةَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَسَيَأْتِي مِنَ الأدلة ما يؤيد هذا، وتقديم الظرف

_ (1) . عنى: ت: عب ونصب، وفي البخاري «لرجل غنيّ» .

فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ تُنْفِقُونَ يُفِيدُ التَّخْصِيصَ، أَيْ: لَا تَخُصُّوا الْخَبِيثَ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا تَقْصِدُوا الْمَالَ الْخَبِيثَ مُخَصِّصِينَ الْإِنْفَاقَ بِهِ، قَاصِرِينَ لَهُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكُمْ لَا تَأْخُذُونَهُ فِي مُعَامَلَاتِكُمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، هَكَذَا بَيَّنَ مَعْنَاهُ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي السُّوقِ يُبَاعُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ هُوَ مِنْ أَغْمَضَ الرَّجُلُ فِي أَمْرِ كَذَا: إِذَا تَسَاهَلَ وَرَضِيَ بِبَعْضِ حَقِّهِ وَتَجَاوَزَ وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِلَى كَمْ وَكَمْ أَشْيَاءُ مِنْكِ تُرِيبُنِي ... أُغْمِضُ عَنْهَا لَسْتُ عَنْهَا بِذِي عَمَى وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مُخَفَّفًا. وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ قَرَأَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مُشَدِّدَةً، وَكَذَلِكَ قَرَأَ قَتَادَةُ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ: إِلَّا أَنْ تَهْضِمُوا سَوْمَهَا مِنَ الْبَائِعِ مِنْكُمْ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ: إِلَّا أَنْ تَأْخُذُوا بِنُقْصَانٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ تَخْرُجُ عَلَى التَّجَاوُزِ أَوْ عَلَى تَغْمِيضِ الْعَيْنِ، لِأَنَّ أَغْمَضَ بِمَنْزِلَةِ غَمَّضَ، وَعَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى حَتَّى، أَيْ: حَتَّى تَأْتُوا غَامِضًا مِنَ التَّأْوِيلِ وَالنَّظَرِ فِي أَخْذِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّيْطَانِ وَاشْتِقَاقُهُ. وَيَعِدُكُمْ: مَعْنَاهُ يُخَوِّفُكُمُ الْفَقْرَ، أَيْ: بِالْفَقْرِ لِئَلَّا تُنْفِقُوا، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا. وَقُرِئَ «الْفُقْرَ» : بِضَمِّ الْفَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْفُقْرُ: لُغَةٌ فِي الْفَقْرِ، مِثْلُ الضَّعْفِ، وَالضُّعْفِ. وَالْفَحْشَاءُ: الْخَصْلَةُ الْفَحْشَاءُ، وَهِيَ الْمَعَاصِي، وَالْإِنْفَاقُ فِيهَا، وَالْبُخْلُ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَاتِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالْفَاحِشُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْبَخِيلُ. انْتَهَى. وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ: أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ وَلَكِنَّ الْعَرَبَ وَإِنْ أَطْلَقَتْهُ عَلَى الْبَخِيلِ فَذَلِكَ لَا يُنَافِي إِطْلَاقَهُمْ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا الْوَعْدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: إِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ فِي الْخَيْرِ، وَإِذَا قُيِّدَ: فَقَدْ يُقَيَّدُ تَارَةً بِالْخَيْرِ وَتَارَةً بِالشَّرِّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» وَمِنْهُ أَيْضًا مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَقْيِيدِ وَعْدِ الشَّيْطَانِ بِالْفَقْرِ، وَتَقْيِيدِ وَعْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالْفَضْلِ. وَالْمَغْفِرَةُ: السَّتْرُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِذُنُوبِهِمْ وَكَفَّارَتِهَا، وَالْفَضْلُ: أَنْ يُخْلِفَ عَلَيْهِمْ أَفْضَلَ مِمَّا أَنْفَقُوا، فَيُوَسِّعَ لَهُمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ، وَيُنْعِمَ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ وَأَجَلُّ وَأَجْمَلُ. قَوْلُهُ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ هِيَ الْعِلْمُ وَقِيلَ: الْفَهْمُ، وَقِيلَ: الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْجَمِيعِ شُمُولًا أَوْ بَدَلًا وَقِيلَ: إِنَّهَا النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: الْعَقْلُ وَقِيلَ: الْخَشْيَةُ وَقِيلَ: الْوَرَعُ، وَأَصْلُ الْحِكْمَةِ: مَا يَمْنَعُ مِنَ السَّفَهِ، وَهُوَ كُلُّ قَبِيحٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أَعْطَاهُ خَيْرًا كَثِيرًا، أَيْ: عَظِيمًا قَدْرُهُ، جليلا خطره. وقرأ الزهري ويعقوب: «ومن يؤت الْحِكْمَةَ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ، وَاحِدُهَا لُبٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، قَوْلُهُ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ مَا: شَرْطِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيِ: الَّذِي أَنْفَقْتُمُوهُ، وَهَذَا بَيَانٌ لحكم عام يشمل كل صدقة

_ (1) . الحج: 72.

مَقْبُولَةٍ وَغَيْرِ مَقْبُولَةٍ، وَكُلَّ نَذْرٍ مَقْبُولٍ أَوْ غَيْرِ مَقْبُولٍ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ فِيهِ مَعْنَى الْوَعْدِ لِمَنْ أَنْفَقَ وَنَذَرَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَقْبُولِ، وَالْوَعِيدُ لِمَنْ جَاءَ بِعَكْسِ ذَلِكَ. وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ مَعَ كَوْنِ مَرْجِعِهِ شَيْئَيْنِ، هُمَا: النَّفَقَةُ وَالنَّذْرُ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهَا، أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، ثُمَّ حُذِفَ أَحَدُهُمَا اسْتِغْنَاءً بِالْآخَرِ، قَالَهُ النَّحَّاسُ وَقِيلَ: إِنَّ مَا كَانَ الْعَطْفُ فِيهِ بِكَلِمَةِ «أَوْ» كَمَا فِي قَوْلِكَ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَكْرَمْتُهُ وَلَا يقال أكرمتها، والأولى أن يقال إن العطف بأو يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ: تَوْحِيدُ الضَّمِيرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «1» . وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً «2» ، وَتَثْنِيَتُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «3» وَمِنَ الْأَوَّلِ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ... لِمَا نسجتها مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَمِنْهُ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها «4» وقيل: إنه إذا وحد الضَّمِيرُ بَعْدَ ذِكْرِ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ فَهُوَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْمَذْكُورَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَ مَعْنَاهُ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ. قَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أَيْ: مَا لِلظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ- بِمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ لِمُخَالَفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي وجوه الخير- من أنصار ينصرونهم ويمنعونهم مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، بِمَا ظَلَمُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لما يفيده السياق: أي: ما للظالمين بِأَيِّ مَظْلَمَةٍ كَانَتْ مِنْ أَنْصَارٍ. قَوْلُهُ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ قُرِئَ: بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَبِكَسْرِهِمَا وَبِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَبِكَسْرِ النُّونِ وَإِخْفَاءِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ. وَقَدْ حَكَى النَّحْوِيُّونَ فِي «نِعِمَّ» : أَرْبَعَ لُغَاتٍ، وَهِيَ هَذِهِ الَّتِي قُرِئَ بِهَا، وَفِي هَذَا نَوْعُ تَفْصِيلٍ لِمَا أُجْمِلَ فِي الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَيْ: إِنْ تُظْهِرُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّ شَيْئًا إِظْهَارُهَا، وَإِنْ تُخْفُوهَا وتصيبوا بِهَا مَصَارِفَهَا مِنَ الْفُقَرَاءِ فَالْإِخْفَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، لَا فِي صَدَقَةِ الْفَرْضِ، فَلَا فَضِيلَةَ لِلْإِخْفَاءِ فِيهَا، بَلْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الْإِظْهَارَ فِيهَا أَفْضَلُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ الْإِخْفَاءَ أَفْضَلُ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ. قَوْلُهُ: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وقتادة، وابن إسحاق: نكفر بالنون والرفع. وقرأ ابن عامر، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: بِالْيَاءِ وَالرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَنَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَالْجَزْمِ. وقرأ الحسين ابن عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ بِالنُّونِ وَنَصْبِ الرَّاءِ. فَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا بَعْدَ الْفَاءِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مبتدأ محذوف. ومن يقرأ بِالْجَزْمِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفَاءِ وَمَا بَعْدَهَا. وَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَعَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالرَّفْعُ هَاهُنَا الْوَجْهُ الْجَيِّدُ، وَأَجَازَ الْجَزْمَ بتأويل: وإن تخفوها يكن الإخفاء خيرا

_ (1) . الجمعة: 11. (2) . النساء: 112. (3) . النساء: 135. (4) . التوبة: 34.

لَكُمْ وَيُكَفِّرْ، وَبِمِثْلِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ قَالَ الْخَلِيلُ. وَمَنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ سَيِّئاتِكُمْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: شَيْئًا مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ مِنْهُمْ خَطَأٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ قَالَ: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يَعْنِي: مِنَ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَكُلِّ شَيْءٍ عَلَيْهِ زَكَاةٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ قَالَ: مِنَ التِّجَارَةِ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ قَالَ: مِنَ الثِّمَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عن البراء ابن عَازِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ قَالَ: نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، كُنَّا أَصْحَابَ نَخْلٍ وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ نَخْلِهِ عَلَى قَدْرِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي بِالْقِنْوِ وَالْقِنْوَيْنِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا جَاعَ أَتَى الْقِنْوَ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَيَسْقُطُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ فَيَأْكُلُ، وَكَانَ نَاسٌ مِمَّنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ يَأْتِي الرَّجُلُ بِالْقِنْوِ فِيهِ الشِّيصُ وَالْحَشَفُ وَبِالْقِنْوِ قَدِ انْكَسَرَ فَيُعَلِّقُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ مِثْلُ مَا أَعْطَى لَمْ يَأْخُذْهُ إِلَّا عَلَى إِغْمَاضٍ وَحَيَاءٍ، قَالَ: فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ يَأْتِي أَحَدُنَا بِصَالِحِ مَا عِنْدَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ لَهُ الْحَائِطَانِ فَيَنْظُرُ إِلَى أَرْدَئِهِمَا تَمْرًا فَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَيَخْلِطُ بِهِ الْحَشَفَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَعَابَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حميد عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَجَاءَ رَجُلٌ بِتَمْرٍ رَدِيءٍ فأمر النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الَّذِي يَخْرُصُ النَّخْلَ أَنْ لَا يُجِيزَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ هَذِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بالصدقة، فجاء رجل بكبائس من هذه السخل: يعني: الشيص، فوضعه، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ جَاءَ بِهَذَا؟ وَكَانَ كُلُّ مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ نُسِبَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ الْآيَةَ. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لونين من التمر أن يوجدا فِي الصَّدَقَةِ: الْجُعْرُورُ وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ الرَّخِيصَ وَيَتَصَدَّقُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا الْآيَةَ، فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَعْمِدُ إِلَى التَّمْرِ فَيَصْرِمُهُ فَيَعْزِلُ الْجَيِّدَ نَاحِيَةً، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُ الصَّدَقَةِ أَعْطَاهُ مِنَ الرَّدِيءِ. وَأَخْرَجَ ابن جرير،

_ (1) . الجعرور: ضرب رديء من التمر يحمل رطبا صغارا لا خير فيه، والحبيق: نوع من التمر منسوب إلى ابن حبيق

[سورة البقرة (2) : الآيات 272 إلى 274]

وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ قَالَ: الْمَعْرِفَةُ بِالْقُرْآنِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَأَمْثَالِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ: أَنَّهَا الْقُرْآنُ، يَعْنِي: تَفْسِيرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: أَنَّهَا النُّبُوَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: إِنَّهَا الْفِقْهُ فِي الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ قَالَ: قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَالْفِكْرَةَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: هِيَ: الْكِتَابُ وَالْفَهْمُ بِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ النَّخَعِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هِيَ: الْكِتَابُ، يُؤْتِي إِصَابَتَهُ مَنْ يَشَاءُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: هِيَ الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: هِيَ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ قَالَ: يُحْصِيهِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَذْرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» وَقَوْلِهِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» وَقَوْلِهِ: «النَّذْرُ مَا ابْتُغِي بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» وَثَبَتَ عَنْهُ فِي كَفَّارَةِ النَّذْرِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ الْآيَةَ، قَالَ: فَجَعَلَ السِّرَّ فِي التَّطَوُّعِ يَفْضُلُ عَلَانِيَتَهَا سَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَلَ صَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتَهَا أَفْضَلَ مِنْ سِرِّهَا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا. وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ هَذَا يُعْمَلُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةٌ، فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ بِفَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ وَتَفْصِيلَهَا انْتَهَتِ الصَّدَقَاتُ إِلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا مَنْسُوخٌ. وَقَوْلُهُ: فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ «1» قَالَ: مَنْسُوخٌ، نَسَخَ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ صَدَقَةِ السِّرِّ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مرفوعة. [سورة البقرة (2) : الآيات 272 الى 274] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ أَيْ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْكَ أَنْ تَجْعَلَهُمْ مَهْدِيِّينَ، قَابِلِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هِدَايَةً تُوصِلُهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، وَفِيهَا الِالْتِفَاتُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ كُلُّ مَا يصدق عليه اسم الخير كائنا

_ (1) . الذاريات: 19.

مَا كَانَ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ تُنْفِقُونَ كَائِنًا مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ النَّفَقَةَ الْمُعْتَدَّ بِهَا الْمَقْبُولَةَ إِنَّمَا هِيَ مَا كَانَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: أَيْ: لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَيْ: أَجْرُهُ وَثَوَابُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّضْعِيفِ. قَوْلُهُ: لِلْفُقَراءِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ أَوْ بِمَحْذُوفٍ: أَيِ: اجْعَلُوا ذَلِكَ لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْفَاقُكُمْ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْغَزْوِ أَوِ الْجِهَادِ وَقِيلَ: مُنِعُوا عَنِ التَّكَسُّبِ لما هم فيه من الضعف: الذين لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ لِلتَّكَسُّبِ بِالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِسَبَبِ ضَعْفِهِمْ، قِيلَ: هُمْ فُقَرَاءُ الصُّفَّةِ وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ يَتَّصِفُ بِالْفَقْرِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ مَا يُوجِبُ الْحُنُوَّ عَلَيْهِمْ وَالشَّفَقَةَ بِهِمْ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ مُتَعَفِّفِينَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَإِظْهَارِ الْمَسْكَنَةِ بِحَيْثُ يَظُنُّهُمُ الْجَاهِلُ بِهِمْ أَغْنِيَاءَ. وَالتَّعَفُّفُ: تَفَعُّلٌ، وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ، مِنْ عَفَّ عَنِ الشَّيْءِ: إِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ وَتَنَزَّهَ عَنْ طَلَبِهِ، وَفِي «يَحْسَبُهُمْ» لُغَتَانِ: فَتْحُ السِّينِ، وَكَسْرُهَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَالْفَتْحُ أَقْيَسُ. لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنَ الْمَاضِي مَكْسُورَةٌ، فَبَابُهَا أَنْ تَأْتِيَ فِي الْمُضَارِعِ مَفْتُوحَةً. فَالْقِرَاءَةُ بِالْكَسْرِ عَلَى هَذَا حَسَنَةٌ وَإِنْ كَانَتْ شَاذَّةً. وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنَ التَّعَفُّفِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَقِيلَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. قَوْلُهُ: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أَيْ: بِرَثَاثَةِ ثِيَابِهِمْ، وَضَعْفِ أَبْدَانِهِمْ، وَكُلِّ مَا يُشْعِرُ بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ. وَالْخِطَابُ إِمَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمُخَاطَبَةِ، وَالسِّيمَا مَقْصُورَةً: الْعَلَامَةُ، وَقَدْ تُمَدُّ. وَالْإِلْحَافُ: الْإِلْحَاحُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اللِّحَافِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ: لِاشْتِمَالِهِ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَاشْتِمَالِ اللحاف على التغطية. ومعنى قوله: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَهُمْ أَلْبَتَّةَ، لَا سُؤَالَ إِلْحَاحٍ، وَلَا سُؤَالَ غَيْرِ إِلْحَاحٍ. وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَالزَّجَّاجُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ التَّعَفُّفَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ لَهُمْ لَا تُفَارِقُهُمْ، وَمُجَرَّدُ السُّؤَالِ يُنَافِيهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ إذا سَأَلُوا بِتَلَطُّفٍ وَلَا يُلْحِفُونَ فِي سُؤَالِهِمْ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَوَجُّهِ النَّفْيِ إِلَى الْقَيْدِ دُونَ الْمُقَيَّدِ، لَكِنَّ صِفَةَ التَّعَفُّفِ تُنَافِيهِ، وَأَيْضًا كَوْنُ الْجَاهِلِ بِهِمْ يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ عَدَمِ السُّؤَالِ أَلْبَتَّةَ. وَقَوْلُهُ: بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ يُفِيدُ زِيَادَةَ رَغْبَتِهِمْ فِي الْإِنْفَاقِ وَشِدَّةَ حِرْصِهِمْ عَلَيْهِ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَيَفْعَلُونَهُ سِرًّا وَجَهْرًا عِنْدَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ حَاجَةُ الْمُحْتَاجِينَ، وَيَظْهَرَ لَدَيْهِمْ فَاقَةُ الْمُفْتَاقِينَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ أَعْنِي قَوْلَهُ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سَبَبِيَّةِ مَا قَبْلَهَا لِمَا بَعْدَهَا وَقِيلَ: هِيَ لِلْعَطْفِ، وَالْخَبَرُ لِلْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَرْضَخُوا لِأَنْسَابِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ فَرَخَّصَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ عَنْهُ قال أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ لَا نَتَصَدَّقَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ بَعْدَهَا عَلَى كُلِّ مَنْ سَأَلَكَ مِنْ كُلِّ دِينٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ نَسَبٌ وَقَرَابَةٌ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وكان يتقون أن لا يتصدّقوا عليهم ويريدوهم أَنْ يُسْلِمُوا، فَنَزَلَتْ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَمْرٍو الْهِلَالِيِّ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَتَصَدَّقُ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ فِي قَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ قَالَ: إِذَا أَعْطَيْتَ لِوَجْهِ اللَّهِ فَلَا عَلَيْكَ مَا كَانَ عَمَلُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمْ مُهَاجِرُو قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: حَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلْغَزْوِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تِجَارَةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمُ الْجِرَاحَاتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَصَارُوا زَمْنَى. فَجَعَلَ لَهُمْ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَقًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ قَالَ: لَا يَسْتَطِيعُونَ تِجَارَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ قَالَ: دَلَّ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ نَفَقَاتِهِمْ لَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضَعُوا نَفَقَاتِهِمْ فِيهِمْ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ قال: التخشع. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ أَنَّ مَعْنَاهُ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمُ الْجُهْدَ مِنَ الْحَاجَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ قَالَ: رَثَاثَةُ ثِيَابِهِمْ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا» وَقَدْ وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ إِلَّا لِذِي سُلْطَانٍ أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَرِيبٍ الْمُلَيْكِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ فِي أَصْحَابِ الْخَيْلِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ نَحْوَهُ قَالَ: فِيمَنْ لَا يَرْبُطُهَا خُيَلَاءَ وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُمُ الَّذِينَ يَعْلِفُونَ الْخَيْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، كَانَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، فَأَنْفَقَ بِاللَّيْلِ دِرْهَمًا، وَبِالنَّهَارِ دِرْهَمًا، وَدِرْهَمًا سِرًّا، وَدِرْهَمًا عَلَانِيَةً. وَعَبْدُ الْوَهَّابِ ضَعِيفٌ، وَلَكِنْ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 275 إلى 277]

الَّذِي افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا إِمْلَاقٍ، وَلَا تَبْذِيرٍ وَلَا فَسَادٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ عفان، في نفقتهم في جيش العسرة. [سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 277] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ مُطْلَقًا، يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو: إِذَا زَادَ، وَفِي الشَّرْعِ يُطْلَقُ عَلَى شَيْئَيْنِ، عَلَى رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ حَسْبَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَغَالِبُ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا حَلَّ أَجْلُ الدَّيْنِ قَالَ مَنْ هُوَ لَهُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَإِذَا لَمْ يَقْضِ زَادَ مِقْدَارًا فِي الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ وَأَخَّرَ لَهُ الْأَجَلَ إِلَى حِينٍ. وَهَذَا حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقِيَاسُ كِتَابَةِ الرِّبَا بِالْيَاءِ لِلْكَسْرَةِ فِي أَوَّلِهِ. وَقَدْ كَتَبُوهُ فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: عَلَى لُغَةِ مَنْ يُفَخِّمُ كَمَا كُتِبَتِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَزِيدَتِ الْأَلِفُ بَعْدَهَا تَشْبِيهًا بِوَاوِ الْجَمْعِ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَهَذَا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ لَا يَلْزَمُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذِهِ النُّقُوشَ الْكِتَابِيَّةَ أُمُورٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ لَا يُشَاحَحُ فِي مِثْلِهَا إِلَّا فِيمَا كَانَ يَدُلُّ بِهِ مِنْهَا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي أَصْلِ الْكَلِمَةِ وَنَحْوِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَبَاحِثِ الْخَطِّ مِنْ عِلْمِ الصَّرْفِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَرَسْمُ الْكَلِمَةِ وَجَعْلُ نَقْشِهَا الْكِتَابِيِّ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ بِهَا هُوَ الْأَوْلَى، فَمَا كَانَ فِي النُّطْقِ أَلِفًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا كَانَ الْأَوْلَى فِي رَسْمِهِ أَنْ يكون كذلك، وكون أصل الْأَلِفِ وَاوًا أَوْ يَاءً لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُ عِلْمَ الصَّرْفِ، وَهَذِهِ النُّقُوشُ لَيْسَتْ إِلَّا لِفَهْمِ اللَّفْظِ الَّذِي يُدَلُّ بِهَا عَلَيْهِ كَيْفَ هُوَ فِي نُطْقِ مَنْ يَنْطِقُ بِهِ لَا لِتَفْهِيمِ أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ كَذَا مِمَّا لَا يَجْرِي بِهِ النُّطْقُ، فَاعْرِفْ هَذَا وَلَا تَشْتَغِلْ بِمَا يَعْتَبِرُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ النُّقُوشِ، وَيُلْزِمُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَعِيبُونَ من خالفه، فإن ذلك من المشاحّة فِي الْأُمُورِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ الَّتِي لَا تُلْزِمُ أَحَدًا أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهَا، فَعَلَيْكَ بِأَنْ تَرْسُمَ هَذِهِ النُّقُوشَ عَلَى مَا يَلْفِظُ بِهِ اللَّافِظُ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا، فَإِنَّهُ الْأَمْرُ الْمَطْلُوبُ مِنْ وَضْعِهَا وَالتَّوَاضُعِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى مَا هُوَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ الَّتِي يَتَلَفَّظُ بِهَا الْمُتَلَفِّظُ مِمَّا لَا يَجْرِي فِي لَفْظِهِ الْآنَ، فَلَا تَغْتَرَّ بِمَا يُرْوَى عَنْ سِيبَوَيْهِ وَنُحَاةِ الْبَصْرَةِ أَنْ يُكْتَبَ الرِّبَا بِالْوَاوِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ فِي تَثْنِيَتِهِ رِبَوَانِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَتَثْنِيَتُهُ رِبَيَانِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا رَأَيْتُ خَطَأً أَقْبَحَ مِنْ هَذَا وَلَا أَشْنَعَ، لَا يَكْفِيهِمُ الْخَطَأُ فِي الْخَطِّ حَتَّى يُخْطِئُوا فِي التَّثْنِيَةِ وَهُمْ يَقْرَءُونَ: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا «1» وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هُنَا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا اخْتِصَاصَ هَذَا الْوَعِيدِ بِمَنْ يَأْكُلُهُ، بَلْ هُوَ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يُعَامِلُ بِالرِّبَا فَيَأْخُذُهُ وَيُعْطِيهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْأَكْلُ لِزِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَلِكَوْنِهِ هُوَ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ فَإِنَّ آخِذَ الرِّبَا إِنَّمَا أَخَذَهُ لِلْأَكْلِ، قَوْلُهُ: لَا يَقُومُونَ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يتخبّطه الشّيطان من المسّ يوم القيامة.

_ (1) . الروم: 39.

وأخرجه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّهُ يُبْعَثُ كَالْمَجْنُونِ عُقُوبَةً لَهُ وَتَمْقِيتًا عِنْدَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ مَنْ يَحْرِصُ فِي تِجَارَتِهِ فَيَجْمَعُ مَالَهُ مِنَ الرِّبَا بِقِيَامِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّ الْحِرْصَ وَالطَّمَعَ وَالرَّغْبَةَ فِي الْجَمْعِ قَدِ اسْتَفَزَّتْهُ حَتَّى صَارَ شَبِيهًا فِي حَرَكَتِهِ بِالْمَجْنُونِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ وَيَضْطَرِبُ فِي حَرَكَاتِهِ: إِنَّهُ قَدْ جُنَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى في ناقته: وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما ... أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ فَجَعَلَهَا بِسُرْعَةِ مَشْيِهَا وَنَشَاطِهَا كَالْمَجْنُونِ. قَوْلُهُ: إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ أَيْ: إِلَّا قِيَامًا كَقِيَامِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ، وَالْخَبْطُ: الضَّرْبُ بِغَيْرِ اسْتِوَاءٍ كَخَبْطِ الْعَشْوَاءِ وَهُوَ الْمَصْرُوعُ. وَالْمَسُّ: الْجُنُونُ، وَالْأَمَسُّ: الْمَجْنُونُ، وَكَذَلِكَ الْأَوْلَقُ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَقُومُونَ أَيْ لَا يَقُومُونَ مِنَ الْمَسِّ الَّذِي بِهِمْ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ أو متعلق بيقوم. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصَّرَعَ لَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْجِنِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الطَّبَائِعِ، وَقَالَ: إِنَّ الْآيَةَ خَارِجَةٌ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُهُ مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَصْرَعُ الْإِنْسَانَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْلُكُ فِي الْإِنْسَانِ وَلَا يَكُونُ مِنْهُ مَسٌّ. وَقَدِ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَتَخَبَّطَهُ الشَّيْطَانُ، كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ. قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حَالِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أَيْ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْبَيْعَ وَالرِّبَا شَيْئًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا شَبَّهُوا الْبَيْعَ بِالرِّبَا مُبَالَغَةً بِجَعْلِهِمُ الرِّبَا أَصْلًا وَالْبَيْعَ فَرْعًا، أَيْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ بِلَا زِيَادَةٍ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ كَالْبَيْعِ بِزِيَادَةٍ عِنْدَ حُلُولِهِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ رِبًا إِلَّا ذَلِكَ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الرِّبَا. وَالْبَيْعُ مَصْدَرُ بَاعَ يَبِيعُ: أَيْ دَفَعَ عِوَضًا وَأَخَذَ مُعَوَّضًا، وَالْجُمْلَةُ بَيَانِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. قَوْلُهُ: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: مَنْ بَلَغَتْهُ مَوْعِظَةٌ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، وَمِنْهَا مَا وَقَعَ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا فَانْتَهى أَيْ: فَامْتَثَلَ النَّهْيَ الَّذِي جاءه وانزجر عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ: أَيْ قَوْلُهُ: فَانْتَهى عَلَى قَوْلِهِ: جاءَهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: جاءَهُ أَوْ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً لموعظة، أي: كائنة مِنْ رَبِّهِ فَلَهُ مَا سَلَفَ أَيْ: مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ مِنَ الرِّبَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، لِأَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ تَحْرِيمُ الرِّبَا، أَوْ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا. وَقَوْلُهُ: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ قيل: الضمير عائد إلى الربا: أي: وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده واستمرار ذلك التحريم وقيل الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَا سَلَفَ، أَيْ: أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ وَإِسْقَاطِ التَّبِعَةِ فِيهِ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُرْبِي، أَيْ: أَمْرُ مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا إِلَى اللَّهِ فِي تَثْبِيتِهِ عَلَى الِانْتِهَاءِ أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَمَنْ عادَ إِلَى أَكْلِ الرِّبَا وَالْمُعَامَلَةِ بِهِ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ عَادَ، وَجَمْعُ أَصْحَابُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى: مَنْ عَادَ: هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقَوْلِ بِ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، وَأَنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ، فَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْخُلُودُ مُسْتَعَارًا عَلَى مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: مُلْكٌ خَالِدٌ: أَيْ: طَوِيلُ الْبَقَاءِ، وَالْمَصِيرُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَاجِبٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْقَاضِيَةِ بِخُرُوجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النار.

قَوْلُهُ: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أَيْ: يُذْهِبُ بَرَكَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلَا يَبْقَى بِيَدِ صَاحِبِهِ وَقِيلَ: يَمْحَقُ بَرَكَتَهُ فِي الْآخِرَةِ. قَوْلُهُ: وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ أَيْ: يَزِيدُ فِي الْمَالِ الَّذِي أُخْرِجَتْ صَدَقَتُهُ وَقِيلَ: يُبَارِكُ فِي ثَوَابِ الصَّدَقَةِ وَيُضَاعِفُهُ وَيَزِيدُ فِي أَجْرِ الْمُتَصَدِّقِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ أَيْ: لَا يَرْضَى، لِأَنَّ الْحُبَّ مُخْتَصٌّ بِالتَّوَّابِينَ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ وَتَغْلِيظٌ عَظِيمٌ عَلَى مَنْ أَرْبَى حَيْثُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ، وَوَصَفَهُ بِأَثِيمٍ لِلْمُبَالَغَةِ وَقِيلَ: لِإِزَالَةِ الِاشْتِرَاكِ، إِذْ قَدْ يَقَعُ عَلَى الزُّرَّاعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: كُلَّ كَفَّارٍ مَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ خَصْلَةٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ، وَوَجْهُ الْتِصَاقِهِ بِالْمَقَامِ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا كُفَّارٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابن عباس فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ قَالَ: يُعْرَفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْقِيَامَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمُتَخَبِّطُ الْمُنْخَنِقُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا وَمَنْ عادَ فَأَكَلَ الرِّبَا فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: آكِلُ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَا يَقُومُونَ قَالَ: ذَلِكَ حِينَ يُبْعَثُ مِنْ قَبْرِهِ. وَأَخْرَجَ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَرْغِيبِهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «يَأْتِي آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخْتَبِلًا يَجُرُّ شَفَتَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي تَعْظِيمِ ذَنْبِ الرِّبَا، مِنْهَا: مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ «1» » وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِ «سَبْعُونَ بَابًا» وَوَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ اخْتِلَافِ الْعَدَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِهِمْ خَبَلٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَهِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: «لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . يَعْنِي قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَسْجِدِ فَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا آيَةَ الرِّبَا، وَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا فَدَعُوا مَا يُرِيبُكُمْ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ آيَةُ الرِّبَا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الرِّبَا الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ فَيَقُولُ: لَكَ كَذَا وَكَذَا وَتُؤَخِّرُ عَنِّي فَيُؤَخِّرُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ

_ (1) . إن أربى الربا عرض الرجل المسلم: أي استحقاره والترفع عليه والوقيعة فيه [فيض القدير 4/ 50] .

[سورة البقرة (2) : الآيات 278 إلى 281]

جُبَيْرٍ نَحْوَهُ أَيْضًا وَزَادَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ قَالَ: يَعْنِي الْبَيَانُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فَانْتَهَى عَنْهُ: فَلَهُ مَا سَلَفَ يَعْنِي: فَلَهُ مَا كَانَ أَكَلَ مِنَ الرِّبَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يَعْنِي: بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَبَعْدَ تَرْكِهِ، إِنْ شَاءَ عَصَمَهُ مِنْهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَمَنْ عادَ يَعْنِي: فِي الرِّبَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ فَاسْتَحَلَّهُ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَعْنِي: لَا يَمُوتُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا قَالَ: يُنْقِصُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ قَالَ: يَزِيدُ فِيهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَصَدَّقُ بِالْكِسْرَةِ تَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ» وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تبين معنى الآية. [سورة البقرة (2) : الآيات 278 الى 281] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) قَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ أَيْ: قُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ عِقَابِهِ، وَاتْرُكُوا الْبَقَايَا الَّتِي بَقِيَتْ لَكُمْ مِنَ الرِّبَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَبْطَلَ مِنَ الرِّبَا مَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا. قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قِيلَ: هُوَ شَرْطٌ مَجَازِيٌّ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ وَقِيلَ: إِنَّ «إِنْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى إِذْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ امْتِثَالَ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا يَعْنِي: مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الِاتِّقَاءِ وَتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَيْ: فَاعْلَمُوا بِهَا، مِنْ أُذِنَ بِالشَّيْءِ: إِذَا عُلِمَ بِهِ قِيلَ: هُوَ مِنَ الْإِذْنِ بِالشَّيْءِ: وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ، لِأَنَّهُ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ: «فَآذِنُوا» عَلَى مَعْنَى: فَأَعْلِمُوا غَيْرَكُمْ أَنَّكُمْ عَلَى حَرْبِهِمْ، وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ: عَلَى أَنَّ أَكْلَ الرِّبَا وَالْعَمَلَ بِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَتَنْكِيرُ الْحَرْبِ: لِلتَّعْظِيمِ، وَزَادَهَا تَعْظِيمًا نِسْبَتُهَا إِلَى اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، وَإِلَى رَسُولِهِ الذي هو أشرف خليقته. قوله: وَإِنْ تُبْتُمْ أي: من الربا فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ تَأْخُذُونَهَا لَا تَظْلِمُونَ غُرَمَاءَكُمْ بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَلا تُظْلَمُونَ أَنْتُمْ مِنْ قِبَلِهِمْ بِالْمَطْلِ وَالنَّقْصِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَمْوَالَهُمْ مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ حَلَالٌ لِمَنْ أَخَذَهَا مِنَ الْأَئِمَّةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَنُوبُ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ لَمَّا حَكَمَ سُبْحَانَهُ لِأَهْلِ الرِّبَا بِرُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ عِنْدَ

الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنّظرة إِلَى يَسَارٍ، وَالْعُسْرَةُ: ضِيقُ الْحَالِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمَالِ، وَمِنْهُ جَيْشُ الْعُسْرَةِ. وَالنَّظِرَةُ: التَّأْخِيرُ، وَالْمَيْسَرَةُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْيُسْرِ، وَارْتَفَعَ ذُو بَكَانِ التَّامَّةِ الَّتِي بِمَعْنَى وُجِدَ، وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: فِدًى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إِذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَشْهَبُ وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ عَلَى مَعْنَى: وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ ذَا عُسْرَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا» . قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَرَوَى الْمُعْتَمِرُ عَنْ حَجَّاجٍ الْوَرَّاقِ قَالَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ: وَإِنْ كان ذا عُسْرَةٍ قَالَ النَّحَّاسُ وَمَكِّيٌّ وَالنَّقَّاشُ: وَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ لَفْظُ الْآيَةِ بِأَهْلِ الرِّبَا، وَعَلَى مَنْ قَرَأَ: ذُو، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ الْجَمَاعَةُ فَنَظِرَةٌ بِكَسْرِ الظَّاءِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ بِسُكُونِهَا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ: مَيْسُرَةٍ بِضَمِّ السِّينِ، وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا، وَهِيَ الْيَسَارُ. قَوْلُهُ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ: أَيْ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا عَلَى مُعْسِرِي غُرَمَائِكُمْ بِالْإِبْرَاءِ خَيْرٌ لَكُمْ، وَفِيهِ التَّرْغِيبُ لَهُمْ بِأَنْ يَتَصَدَّقُوا بِرُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَنْ أَعْسَرَ وَجَعَلَ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ إِنْظَارِهِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ خَيْرٌ لَكُمْ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَدْخَلٌ لِلْغَنِيِّ. قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ عَمِلْتُمْ بِهِ. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّهْوِيلِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لَا ظَرْفٌ. وَقَوْلُهُ: تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَصْفٌ لَهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَالْبَاقُونَ: بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ الْمَذْكُورَ هُوَ يَوْمُ الْمَوْتِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: إِلَى اللَّهِ فِيهِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: إِلَى حُكْمِ اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مِنَ النُّفُوسِ الْمُكَلَّفَةِ مَا كَسَبَتْ أَيْ: جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ حَالِيَّةٌ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِحَالِ الْجَزَاءِ، كَمَا أَنَّ الْإِفْرَادَ أَنْسَبُ بِحَالِ الْكَسْبِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٍ مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسْلِفَانِ الرِّبَا إِلَى نَاسٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ فِي الرِّبَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ صَالَحَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ مَا لَهُمْ مِنْ رِبًا عَلَى النَّاسِ، وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَأْخُذُونَ الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ بَنُو الْمُغِيرَةِ يَرْبُونَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مَالٌ كَثِيرٌ، فَأَتَاهُمْ بَنُو عَمْرٍو يَطْلُبُونَ رِبَاهُمْ، فَأَبَى بَنُو الْمُغِيرَةِ أَنْ يُعْطُوهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَرَفَعُوا ذَلِكَ إِلَى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، فَكَتَبَ عَتَّابٌ إِلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا

[سورة البقرة (2) : الآيات 282 إلى 283]

مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا فَكَتَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَتَّابٍ وَقَالَ: إِنْ رَضُوا وَإِلَّا فَأْذَنْهُمْ بِحَرْبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ قَالَ: مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الرِّبَا لَا يَنْزِعُ مِنْهُ فَحَقٌّ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ، فَإِنْ نَزَعَ وَإِلَّا ضَرَبَ عُنُقَهُ. وَأَخْرَجُوا أَيْضًا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ قَالَ: اسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ. وَأَخْرَجَ أَهْلُ السنن وغيرهم عن عمر بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، لكم رؤوس أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، وَأَوَّلُ رِبًا مَوْضُوعٌ رِبَا الْعَبَّاسِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرٍو وَأَصْحَابِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الرِّبَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ شُرَيْحٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: وَكَذَلِكَ كَلُّ دَيْنٍ عَلَى مُسْلِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي التَّرْغِيبِ لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مُعْسِرٍ أَنْ يُنْظِرَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ القرآن على النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ السُّدِّيِّ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وَبَيْنَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى وَثَمَانُونَ يَوْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ عَاشَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِهَا تِسْعَ لَيَالٍ ثُمَّ مَاتَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 283] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ حَالِ الْمُدَايَنَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ الرِّبَا، أَيْ: إِذَا دَايَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَعَامَلَهُ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ الدَّيْنَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِنَ الْمُدَايَنَةِ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» وَقِيلَ: إِنَّهُ ذُكِرَ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ وَلَوْ قَالَ: فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الْحُسْنِ مَا فِي قَوْلِهِ: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ وَالدَّيْنُ: عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مُعَامَلَةٍ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِيهَا نَقْدًا، وَالْآخَرُ فِي الذِّمَّةِ نَسِيئَةً، فَإِنَّ الْعَيْنَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا كَانَ حَاضِرًا، وَالدَّيْنَ مَا كَانَ غَائِبًا، قَالَ الشَّاعِرُ: وَعَدَتْنَا بِدِرْهَمَيْنَا طِلَاءً ... وَشِوَاءً مُعَجَّلًا غَيْرَ دَيْنِ وَقَالَ الْآخَرُ: إِذَا مَا أَوْقَدُوا حطبا ونارا ... فَذَاكَ الْمَوْتُ نَقْدًا غَيْرَ دَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ لَا يَجُوزُ وَخُصُوصًا أَجْلُ السَّلَمِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَاشْتَرَطُوا تَوْقِيتَهُ بِالْأَيَّامِ أَوِ الْأَشْهُرِ أَوِ السِّنِينَ، قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ إِلَى الْحَصَادِ، أَوِ الدِّيَاسِ، أَوْ رُجُوعِ الْقَافِلَةِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ. قَوْلُهُ: فَاكْتُبُوهُ أَيِ: الدَّيْنَ بِأَجَلِهِ، لِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِلنِّزَاعِ، وَأَقْطَعُ لِلْخِلَافِ. قَوْلُهُ: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ هُوَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْكِتَابَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَأَوْجَبُوا عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ كَاتِبٌ سِوَاهُ وَقِيلَ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ. وَقَوْلُهُ: بِالْعَدْلِ متعلق بمحذوف صفة لكاتب، أَيْ: كَاتِبٌ كَائِنٌ بِالْعَدْلِ، أَيْ: يَكْتُبُ بِالسَّوِيَّةِ، لَا يَزِيدُ وَلَا يُنْقِصُ، وَلَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ بِاخْتِيَارِ كَاتِبٍ مُتَّصِفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ وَلَا قَلَمِهِ هَوَادَةٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، بَلْ يَتَحَرَّى الْحَقَّ بَيْنَهُمْ وَالْمَعْدَلَةَ فِيهِمْ. قَوْلُهُ: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مُشْعِرَةٌ بِالْعُمُومِ، أَيْ: لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنَ الْكُتَّابِ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ التَّدَايُنِ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، أَيْ: عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابَةِ، أَوْ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: بِالْعَدْلِ. قَوْلُهُ: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ الْإِمْلَالُ وَالْإِمْلَاءُ لُغَتَانِ: الْأُولَى: لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبَنِي أَسَدٍ. وَالثَّانِيَةُ: لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ. فَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ عَلَى اللُّغَةِ الْأُولَى، وَجَاءَ عَلَى اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا «2» والَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ هُوَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِمْلَاءِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالتَّقْوَى فِيمَا يُمْلِيهِ عَلَى الْكَاتِبِ، بَالَغَ فِي ذَلِكَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَنَهَاهُ عَنِ الْبَخْسِ وَهُوَ: النَّقْصُ وَقِيلَ: إِنَّهُ نَهْيٌ لِلْكَاتِبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يُتَوَقَّعُ مِنْهُ النَّقْصُ، وَلَوْ كَانَ نَهْيًا لِلْكَاتِبِ لم يقتصره فِي نَهْيِهِ عَلَى النَّقْصِ، لِأَنَّهُ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الزِّيَادَةُ كَمَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ النَّقْصُ. وَالسَّفِيهُ: هُوَ الَّذِي لَا رَأْيَ لَهُ فِي حُسْنِ التَّصَرُّفِ فَلَا يُحْسِنُ الْأَخْذَ وَلَا الْإِعْطَاءَ، شُبِّهَ بِالثَّوْبِ السَّفِيهِ، وَهُوَ: الْخَفِيفُ النَّسْجِ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ السَّفَهَ عَلَى ضَعْفِ الْعَقْلِ تَارَةً، وَعَلَى ضَعْفِ الْبَدَنِ أخرى، فمن الأوّل قول الشاعر:

_ (1) . الأنعام: 38. (2) . الفرقان: 5.

نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلَامُنَا ... وَنَجْهَلَ الدَّهْرَ مَعَ الْجَاهِلِ وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ أَيِ: اسْتَضْعَفَهَا وَاسْتَلَانَهَا بِحَرَكَتِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّفِيهُ: هُوَ الْمُبَذِّرُ إِمَّا لِجَهْلِهِ بِالصَّرْفِ، أَوْ لِتَلَاعُبِهِ بِالْمَالِ عَبَثًا، مَعَ كَوْنِهِ لَا يَجْهَلُ الصَّوَابَ. وَالضَّعِيفُ: هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، أَوِ الصَّبِيُّ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الضَّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ فِي الْبَدَنِ، وَبِفَتْحِهَا فِي الرَّأْيِ. وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ: الْأَخْرَسُ، أَوِ الْعَيِيُّ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرِ كَمَا يَنْبَغِي وَقِيلَ: إِنَّ الضَّعِيفَ هُوَ الْمَذْهُولُ الْعَقْلِ، النَّاقِصُ الْفِطْنَةِ، الْعَاجِزُ عَنِ الْإِمْلَاءِ، وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ الصَّغِيرُ. قَوْلُهُ: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فَيُمِلُّ عَنِ السَّفِيهِ وَلِيُّهُ الْمَنْصُوبُ عَنْهُ بَعْدَ حَجْرِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَيُمِلُّ عَنِ الصَّبِيِّ وَصِّيُهُ أَوْ وَلِيُّهُ، وَكَذَلِكَ يُمِلُّ عَنِ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْإِمْلَالَ لِضَعْفِ وَلِيِّهِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّبِيِّ أَوِ الْمَنْصُوبِ عَنْهُ مِنَ الْإِمَامِ أَوِ الْقَاضِي، وَيُمِلُّ عَنِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ وَكِيلُهُ، إِذَا كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ، وَعَرَضَتْ لَهُ آفَةٌ فِي لِسَانِهِ أَوْ لَمْ تَعْرِضْ، وَلَكِنَّهُ جَاهِلٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرِ كَمَا يَنْبَغِي. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُّهُ يَعُودُ إِلَى الْحَقُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَتَصَرُّفُ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ دُونَ وَلِيِّهِ فَاسِدٌ إِجْمَاعًا، مَفْسُوخٌ أَبَدًا، لَا يُوجِبُ حُكْمًا، وَلَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا، فَإِنْ تَصَرَّفَ سَفِيهٌ وَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ فَفِيهِ خِلَافٌ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ الِاسْتِشْهَادُ: طَلَبُ الشَّهَادَةِ، وَسَمَّاهُمَا شَهِيدَيْنِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ مِنْ مَجَازِ الأول، أي: باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة، ومِنْ رِجالِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ: صِفَةٌ لِشَهِيدَيْنِ، أَيْ: كَائِنَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ، أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَخْرُجُ الْكُفَّارُ، وَلَا وَجْهَ لِخُرُوجِ الْعَبِيدِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَهُمْ إِذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: يَصِحُّ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ. وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ: بِأَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الَّذِينَ يَتَعَامَلُونَ بِالْمُدَايَنَةِ، وَالْعَبِيدُ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا تَجْرِي فِيهِ الْمُعَامَلَةُ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَأَيْضًا: الْعَبْدُ تَصِحُّ مِنْهُ الْمُدَايَنَةُ، وَسَائِرُ الْمُعَامَلَاتِ إِذَا أَذِنَ لَهُ مَالِكُهُ بِذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلِ الْإِشْهَادُ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى الأشعري، وابن عمر، والضحاك، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ وَابْنُهُ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ هُوَ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ. وَاسْتَدَلَّ الْمُوجِبُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْأَمْرِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا فَيَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَقُولُوا بِوُجُوبِهِ فِي الْمُدَايَنَةِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُونا أَيِ: الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أَيْ: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ

يَكْفُونَ. وَقَوْلُهُ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ مُتَعَلِّقٌ بمحذوف وقع صفة لرجل وَامْرَأَتَانِ، أَيْ: كَائِنُونَ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، حَالَ كَوْنِهِمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ. وَالْمُرَادُ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُمْ وَعَدَالَتَهُمْ، وَفِيهِ: أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ بِرَجُلٍ، وَأَنَّهَا لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ إِلَّا مَعَ الرَّجُلِ لَا وَحْدَهُنَّ، إِلَّا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ لِلضَّرُورَةِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي كَمَا جَازَ الْحُكْمُ بِرَجُلٍ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ الْمَرْأَتَيْنِ كَالرَّجُلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْخِلَافِ فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي، وَالْحَقُّ أَنَّهُ جَائِزٌ لِوُرُودِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ زِيَادَةٌ لَمْ تُخَالِفْ مَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَيَتَعَيَّنُ قَبُولُهَا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى وَغَيْرِهِ مِنْ مُؤَلَّفَاتِنَا، وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَفْهَمُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُرَدُّ بِهِ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَلَمْ يَدْفَعُوا هَذَا إِلَّا بِقَاعِدَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ هِيَ قولهم: إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، بَلِ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ شَرِيعَةٌ ثَابِتَةٌ جَاءَنَا بِهَا مَنْ جَاءَنَا بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهَا، وَأَيْضًا كَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يَحْكُمُوا بِنُكُولِ الْمَطْلُوبِ وَلَا بِيَمِينِ الرَّدِّ عَلَى الطَّالِبِ. وَقَدْ حَكَمُوا بِهِمَا. وَالْجَوَابُ الْجَوَابُ. قَوْلُهُ: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَى تَضِلَّ: تَنْسَى. وَالضَّلَالُ عَنِ الشَّهَادَةِ: إِنَّمَا هُوَ نِسْيَانُ جُزْءٍ مِنْهَا وَذِكْرُ جُزْءٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: «إِنْ تَضِلَّ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَوْلُهُ: فَتُذَكِّرَ جَوَابُهُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هُوَ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى تَضِلَّ، وَمَنْ رَفَعَهُ فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو «فَتُذْكِرَ» بِتَخْفِيفِ الذَّالِ وَالْكَافِ، وَمَعْنَاهُ: تَزِيدُهَا ذِكْرًا. وقراءة الجماعة: بالتشديد، أي: تنبهها إِذَا غَفَلَتْ وَنَسِيَتْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعْلِيلٌ لِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي النِّسَاءِ، أَيْ: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وَتَشْهَدِ امْرَأَتَانِ عِوَضًا عَنِ الرَّجُلِ الْآخَرِ، لِأَجْلِ تَذْكِيرِ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى إِذَا ضَلَّتْ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَهُوَ سُؤَالُ سَائِلٍ عَنْ وَجْهِ اعْتِبَارِ امْرَأَتَيْنِ عِوَضًا عَنِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، فَقِيلَ: وَجْهُهُ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَالْعِلَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ التَّذْكِيرُ، وَلَكِنَّ الضَّلَالَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لَهُ نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، وأبهم الفاعل في تضلّ وتذكر، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْوَصْفَانِ فَالْمَعْنَى: إِنْ ضَلَّتْ هَذِهِ ذَكَّرَتْهَا هَذِهِ، وَإِنْ ضَلَّتْ هَذِهِ ذَكَّرَتْهَا هَذِهِ، لَا عَلَى التَّعْيِينِ، أَيْ: إِنْ ضَلَّتْ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ ذَكَّرَتْهَا الْمَرْأَةُ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ فِيهِمَا هَذَا التَّذْكِيرُ لِمَا يَلْحَقُهُمَا مِنْ ضَعْفِ النِّسَاءِ بِخِلَافِ الرِّجَالِ. وَقَدْ يَكُونُ الْوَجْهُ فِي الْإِبْهَامِ: أَنَّ ذَلِكَ، يَعْنِي: الضَّلَالَ والتذكر يَقَعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاوِبًا حَتَّى رُبَّمَا ضَلَّتْ هَذِهِ عَنْ وَجْهٍ وَضَلَّتْ تِلْكَ عَنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَذَكَّرَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَاحِبَتَهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى تُصَيِّرَهَا ذَكَرًا، يَعْنِي أَنَّ مَجْمُوعَ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ مِثْلُ شَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْعٌ وَلَا لُغَةٌ وَلَا عَقْلٌ. قَوْلُهُ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا أَيْ: لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ الَّتِي قَدْ تَحَمَّلُوهَا مِنْ قَبْلُ وَقِيلَ: إِذَا مَا دُعُوا لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، وَتَسْمِيَتُهُمْ شُهَدَاءَ مَجَازٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَحَمَلَهَا الْحَسَنُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ. وَظَاهِرُ هَذَا النَّهْيِ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حَرَامٌ. قوله: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ مَعْنَى تَسْأَمُوا: تَمَلُّوا. قَالَ الْأَخْفَشُ: يقال سئمت أسأم سآمة وسآما، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلًا لَا أَبَا لَكَ يَسْأَمِ أَيْ: لَا تَمَلُّوا أَنْ تَكْتُبُوهُ، أَيِ: الدَّيْنَ الَّذِي تَدَايَنْتُمْ بِهِ وَقِيلَ: الْحَقُّ وَقِيلَ: الشَّاهِدُ وَقِيلَ: الْكِتَابُ، نَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا مَلُّوا مِنْ كَثْرَةِ الْمُدَايَنَةِ أَنْ يَكْتُبُوا، ثُمَّ بَالَغَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: صَغِيراً أَوْ كَبِيراً أَيْ: حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، أَيْ: لَا تَمَلُّوا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا وَقِيلَ: إِنَّهُ كَنَّى بِالسَّآمَةِ عَنِ الْكَسَلِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدَّمَ الصَّغِيرَ هُنَا عَلَى الْكَبِيرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِدَفْعِ مَا عَسَاهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا مَالٌ صَغِيرٌ، أَيْ: قَلِيلٌ لَا احْتِيَاجَ إِلَى كَتْبِهِ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى الْمَكْتُوبِ الْمَذْكُورِ فِي ضَمِيرِ قَوْلِهِ: أَنْ تَكْتُبُوهُ وأَقْسَطُ مَعْنَاهُ: أَعْدَلُ، أَيْ: أَصَحُّ وَأَحْفَظُ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أَيْ: أَعْوَنُ عَلَى إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ، وَأَثْبَتُ لَهَا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ مِنْ: أَقَامَ، وَكَذَلِكَ أَقْسَطُ مَبْنِيٌّ مِنْ فِعْلِهِ، أَيْ: أَقْسَطَ. وَقَدْ صَرَّحَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّهُ قِيَاسِيٌّ، أَيْ: بُنِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. وَمَعْنَى قوله: وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أَقْرَبُ لِنَفْيِ الرَّيْبِ فِي مُعَامَلَاتِكُمْ، أَيِ: الشَّكِّ، وَلِذَلِكَ أَنَّ الْكُتَّابَ الَّذِي يَكْتُبُونَهُ يَدْفَعُ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الرَّيْبِ كَائِنًا مَا كَانَ. قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ أَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ قاله الأخفش، وكان تَامَّةٌ: أَيْ إِلَّا أَنْ تَقَعَ أَوْ تُوجَدَ تِجَارَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ وَقْتَ تَبَايُعِكُمْ وَتِجَارَتُكُمْ حَاضِرَةٌ بِحُضُورِ الْبَدَلَيْنِ، تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ تَتَعَاطَوْنَهَا يَدًا بِيَدٍ، فَالْإِدَارَةُ: التَّعَاطِي وَالتَّقَابُضُ، فَالْمُرَادُ: التَّبَايُعُ النَّاجِزُ يَدًا بِيَدٍ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ إِنْ تركتم كتابته. وقرئ: بنصب تجارة، على أن كل نَاقِصَةً، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ تِجَارَةً حَاضِرَةً. قَوْلُهُ: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ قِيلَ مَعْنَاهُ: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع المذكور هنا، وَهُوَ التِّجَارَةُ الْحَاضِرَةُ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهَا يَكْفِي وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: إِذَا تَبَايَعْتُمْ أَيَّ تَبَايُعٍ كَانَ حَاضِرًا أَوْ كَالِئًا «1» ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْفَعُ لِمَادَّةِ الْخِلَافِ وَأَقْطَعُ لِمَنْشَأِ الشِّجَارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي كَوْنِ هَذَا الْإِشْهَادِ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا. قَوْلُهُ: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَوْ لِلْمَفْعُولِ فَعَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ: لَا يُضَارِرْ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ مِنْ طَلَبِ ذَلِكَ مِنْهُمَا، إِمَّا بِعَدَمِ الْإِجَابَةِ، أَوْ بِالتَّحْرِيفِ، وَالتَّبْدِيلِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي كِتَابَتِهِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ: «وَلَا يُضَارِرْ» بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُضَارَرْ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ، بِأَنْ يُدْعَيَا إِلَى ذَلِكَ وَهُمَا مَشْغُولَانِ بِمُهِمٍّ لَهُمَا، وَيُضَيَّقَ عَلَيْهِمَا فِي الْإِجَابَةِ، وَيُؤْذَيَا إِنْ حَصَلَ مِنْهُمَا التَّرَاخِي، أَوْ يُطْلَبَ مِنْهُمَا الْحُضُورُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَلَا يُضَارَرْ» بِفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى، وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها «2» مَا إِذَا رَاجَعْتَهُ زَادَكَ بَصِيرَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَوْلُهُ: وَإِنْ تَفْعَلُوا أَيْ: مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ مِنَ الْمُضَارَّةِ فَإِنَّهُ أَيْ: فِعْلُكُمْ هَذَا فُسُوقٌ بِكُمْ أَيْ: خُرُوجٌ عَنِ الطَّاعَةِ إِلَى المعصية،

_ (1) . ورد في الحديث أنه صلّى الله عليه وسلم: نهى عن الكالئ بالكالئ. أي: النسيئة بالنسيئة، وذلك أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض. [النهاية 4/ 194] . [.....] (2) . البقرة: 233.

مُلْتَبِسٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي فِعْلِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ، وَفِيهِ الْوَعْدُ لِمَنِ اتَّقَاهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «1» . قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَشْرُوعِيَّةَ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ لِحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَدَفْعِ الرَّيْبِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حَالَةِ الْعُذْرِ عَنْ وُجُودِ الْكَاتِبِ، وَنَصَّ عَلَى حَالَةِ السَّفَرِ، فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ الْعُذْرِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ كُلُّ عُذْرٍ يَقُومُ مَقَامَ السَّفَرِ، وَجَعَلَ الرِّهَانَ الْمَقْبُوضَةَ قَائِمَةً مَقَامَ الْكِتَابَةِ، أَيْ: فَإِنْ كُنْتُمْ مُسَافِرِينَ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فِي سَفَرِكُمْ فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الرَّهْنُ فِي السَّفَرِ ثَابِتٌ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، وَفِي الْحَضَرِ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ رَهَنَ دِرْعًا لَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «كَاتِبًا» أَيْ رَجُلًا يَكْتُبُ لَكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: «كِتَابًا» قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ فَقَالَ: مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مِدَادًا: يَعْنِي فِي الْأَسْفَارِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ «فَرُهُنٌ» بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْهَاءِ. وَرُوِيَ عَنْهُمَا تَخْفِيفُ الْهَاءِ جَمْعُ رِهَانٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. وَقَرَأَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ «فَرَهْنٌ» بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: «رِهَانٌ» . قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ فِي الرَّهْنِ: رَهَنْتُ وأرهنت، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالْأَخْفَشُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يُقَالُ: أَرْهَنْتُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَأَمَّا فِي الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ: فَرَهَنْتُ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الرُّوَاةُ كُلُّهُمْ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكًا عَلَى أَرْهَنْتُهُمْ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ: رَهَنْتُهُ وَأَرْهَنْتُهُ، إِلَّا الْأَصْمَعِيَّ فَإِنَّهُ رَوَاهُ وَأَرْهَنُهُمْ عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ لِفِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ عَلَى فِعْلٍ مَاضٍ، وَشَبَّهَهُ بِقَوْلِهِ: قُمْتُ وَأَصُكُّ وَجْهَهُ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: أَرْهَنْتُ فِيهِمَا: بِمَعْنَى أَسْلَفْتُ، وَالْمُرْتَهِنُ الَّذِي يَأْخُذُ الرَّهْنَ، وَالشَّيْءُ مَرْهُونٌ وَرَهِينٌ، وَرَاهَنْتُ فُلَانًا عَلَى كَذَا مُرَاهَنَةً: خَاطَرْتُهُ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَبْضِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الِارْتِهَانُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ دُونِ قَبْضٍ. قَوْلُهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ أَيْ: إِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَمِينًا عِنْدَ صَاحِبِ الْحَقِّ، لِحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ، وَأَمَانَتِهِ لَدَيْهِ، وَاسْتَغْنَى بِأَمَانَتِهِ عَنِ الِارْتِهَانِ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ وَهُوَ الْمَدْيُونُ أَمانَتَهُ أَيِ: الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ، وَالْأَمَانَةُ: مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، وَأَضَافَهَا إِلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَهَا إِلَيْهِ نِسْبَةً، وَقُرِئَ «ايتَمَنَ» بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَقُرِئَ بِإِدْغَامِ الْيَاءِ فِي التَّاءِ وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمُنْقَلِبَةَ مِنَ الْهَمْزَةِ لَا تُدْغَمُ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِهَا وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فِي أَنْ لَا يَكْتُمَ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا. قَوْلُهُ: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ نَهْيٌ لِلشُّهُودِ أَنْ يَكْتُمُوا مَا تَحَمَّلُوهُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ فِي حُكْمِ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ أَيْ: لَا يُضَارِرْ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ خَصَّ الْقَلْبَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْكَتْمَ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَلِكَوْنِهِ رَئِيسَ الْأَعْضَاءِ، وَهُوَ الْمُضْغَةُ الَّتِي إِنْ صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ كُلُّهُ، وَارْتِفَاعُ الْقَلْبِ: عَلَى أنه فاعل أو مبتدأ، وآثم: خَبَرُهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ: بَدَلًا مِنْ آثِمٌ، بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ

_ (1) . الأنفال: 29.

أَيْضًا: بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي آثِمٌ الرَّاجِعِ إِلَى مَنْ، وَقُرِئَ «قَلْبَهُ» بِالنَّصْبِ كَمَا في قوله: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ «1» . وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنْهُ قَالَ: أَشْهَدُ: أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أن الله أحلّه، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ. قَالَ: أَمَرَ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمُدَايَنَةِ لِكَيْلَا يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ جُحُودٌ وَلَا نِسْيَانٌ، فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ عَصَى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ يَعْنِي: مَنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةٍ، أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْبَى إِذَا مَا دُعِيَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَالضِّرَارُ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ وَهُوَ عَنْهُ غَنِيٌّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكَ أَنْ لَا تَأْبَى إِذَا دُعِيتَ، فَيُضَارُّهُ بِذَلِكَ وَهُوَ مُكْتَفٍ بِغَيْرِهِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ يَعْنِي: مَعْصِيَةً. قَالَ: وَمِنَ الْكَبَائِرِ كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ قَالَ: وَاجِبٌ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَتِ الْكِتَابَةُ عَزِيمَةً فَنَسَخَهَا وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. قَالَ: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً قَالَ: هُوَ الْجَاهِلُ أَوْ ضَعِيفاً قَالَ: هُوَ الْأَحْمَقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: سَفِيهاً قَالَا: هُوَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ قَالَ: صَاحِبُ الدَّيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الْحَسَنِ قَالَ: وَلِيُّ الْيَتِيمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: وَلِيُّ السَّفِيهِ أَوِ الضَّعِيفِ. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رِجالِكُمْ قَالَ: مِنَ الْأَحْرَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ قَالَ: عُدُولٌ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَدْلَانِ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما يَقُولُ: أَنْ تَنْسَى إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ الشَّهَادَةَ فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى يَعْنِي: تُذَكِّرُهَا الَّتِي حَبِطَتْ شَهَادَتُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ قَالَ: إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ شَهَادَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَطُوفُ فِي الْقَوْمِ الْكَثِيرِ يَدْعُوهُمْ يَشْهَدُونَ فَلَا يَتْبَعُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَتْ: أَعْدَلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ قَالَ: يَأْتِي الرَّجُلُ الرَّجُلَيْنِ فَيَدْعُوهُمَا إِلَى الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ فَيَقُولَانِ إِنَّا عَلَى حَاجَةٍ، فَيَقُولُ إِنَّكُمَا قَدْ أُمِرْتُمَا أن تحبيبا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَارَّهُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عن طاوس لا يُضَارَّ كاتِبٌ، فيكتب ما

_ (1) . البقرة: 130.

[سورة البقرة (2) : آية 284]

لَمْ يُمِلَّ عَلَيْهِ وَلا شَهِيدٌ فَيَشْهَدُ بِمَا لَمْ يَسْتَشْهِدْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ الْآيَةَ، قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَى سَفَرٍ فَبَايَعَ بَيْعًا إِلَى أَجَلٍ فَلَمْ يَجِدْ كَاتِبًا فَرَخَّصَ لَهُ فِي الرِّهَانِ الْمَقْبُوضَةِ، وَلَيْسَ لَهُ إِنْ وَجَدَ كَاتِبًا أَنْ يَرْتَهِنَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا يَكُونُ الرَّهْنُ إِلَّا فِي السَّفَرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا يَكُونُ الرَّهْنُ إِلَّا مَقْبُوضًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ حَتَّى بَلَغَ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً قَالَ: هَذِهِ نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا. وَأَقُولُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْ هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ، لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ، فَهَذَا مُقَيَّدٌ بِالِائْتِمَانِ، وَمَا قَبْلَهُ ثَابِتٌ مُحْكَمٌ لَمْ يُنْسَخْ وَهُوَ مَعَ عَدَمِ الِائْتِمَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: آثِمٌ قَلْبُهُ قَالَ: فَاجِرٌ قَلْبُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَحْدَثَ الْقُرْآنِ بِالْعَرْشِ آيَةُ الدَّيْنِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: آخِرُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بالعرش آية الربا وآية الدين. [سورة البقرة (2) : آية 284] لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) قَوْلُهُ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. قَوْلُهُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، ظَاهِرُهُ: أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَضْمَرَتْهُ أَنْفُسُهُمْ أَوْ أَظْهَرَتْهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُحَاسَبُ عَلَيْهَا، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ مَا يَغْفِرُهُ مِنْهَا، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ بِمَا أَسَرَّ أَوْ أَظْهَرَ مِنْهَا، هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً، فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ الْكَاتِمَ لِلشَّهَادَةِ يُحَاسَبُ عَلَى كَتْمِهِ سَوَاءً أَظَهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ كَاتِمٌ لِلشَّهَادَةِ أَوْ لَمْ يُظْهِرْ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا فِي الْآيَةِ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَلَا يَصْلُحُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ كَتْمِ الشَّهَادَةِ أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَا فِي الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِمَا يَطْرَأُ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ أَيْضًا تَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصَّصٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ عَامَّةٌ، وَلَكِنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ يَخْتَصُّ بِالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ، وَهُوَ أَيْضًا تَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصَّصٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضٍ مُعَيَّنٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِمَا سَيَأْتِي مِنَ التَّصْرِيحِ بِنَسْخِهَا، وَلِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا» . قَوْلُهُ: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قَدَّمَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ عَلَى الْفَاعِلِ لِإِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِهِ، وَقَدَّمَ الْإِبْدَاءَ عَلَى الْإِخْفَاءِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُحَاسَبُ عَلَيْهَا هُوَ الْأَعْمَالُ البادية،

وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْإِخْفَاءِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ «1» فَلِكَوْنِ الْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ الْخَافِيَةِ وَالْبَادِيَةِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَقَدَّمَ الْمَغْفِرَةَ عَلَى التَّعْذِيبِ لِكَوْنِ رَحْمَتِهِ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ: أَيْ فَهُوَ يَغْفِرُ، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِتَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَنَافِعٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ: بِجَزْمِ الرَّاءِ وَالْبَاءِ، فَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ لِمَا بَعْدَهَا عَلَى الْمَجْزُومِ قَبْلَهَا، وَهُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ: أَعْنِي قَوْلَهُ: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: بِنَصْبِ الرَّاءِ وَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَيَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ عَلَى إِضْمَارِ أَنْ عَطْفًا عَلَى الْمَعْنَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: يَغْفِرُ بِغَيْرِ فَاءٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُعْفِيُّ، وَخَلَّادٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ، اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَا نُطِيقُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ «2» فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَثَرِهَا: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ «3» الْآيَةَ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ فَأَنْزَلَ: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إِلَى آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَزَادَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا «4» قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا «5» قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ «6» قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا «7» الْآيَةَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسبه ابن عمر إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَبِمَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ يَظْهَرُ لَكَ ضَعْفُ مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ يَشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الصَّحَابَةِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَبَعْدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالنَّسْخِ وَالنَّاسِخِ لَمْ يَبْقَ مَجَالٌ لِمُخَالَفَتِهَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ الْأَرْبَعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُلُّ عَبْدٍ هَمَّ بِسُوءٍ وَمَعْصِيَةٍ وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِهِ حَاسَبَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، يَخَافُ وَيَحْزَنُ، وَيَشْتَدُّ هَمُّهُ، لَا يَنَالُهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَمَا

_ (1) . آل عمران: 29. (2) . البقرة: 285. (3) . البقرة: 285. (4) . البقرة: 286. (5) . البقرة: 286. (6) . البقرة: 286. (7) . البقرة: 286.

[سورة البقرة (2) : الآيات 285 إلى 286]

هَمَّ بِالسُّوءِ وَلَمْ يَعْمَلْ مِنْهُ بِشَيْءٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهَا نَحْوَهُ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِالنَّسْخِ تَدْفَعُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّ كُتَّابِي لَمْ يَكْتُبُوا مِنْ أَعْمَالِكُمْ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا، فَأَمَّا مَا أَسْرَرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ فَأَنَا أُحَاسِبُكُمْ بِهِ الْيَوْمَ، فَأَغْفِرُ لِمَنْ شِئْتَ، وَأُعَذِّبُ مَنْ شِئْتَ، وهو مدفوع بما تقدم. [سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) قَوْلُهُ: بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَالْمُؤْمِنُونَ عَطْفٌ عَلَى الرَّسُولِ، وَقَوْلُهُ: كُلٌّ أَيْ مِنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ آمَنَ بِاللَّهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ مُبْتَدَأٌ. وَقَوْلُهُ: كُلٌّ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ. وَقَوْلُهُ: آمَنَ بِاللَّهِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي، وَهُوَ وَخَبَرُهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: آمَنَ بِاللَّهِ مَعَ رُجُوعِهِ إِلَى كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، لِمَا أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ إِيمَانِ كُلِّ فَرْدِ مِنْهُمْ، مَنْ غير الِاجْتِمَاعِ كَمَا اعْتَبَرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «1» . قَالَ الزَّجَّاجُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَرْضَ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَبَيَّنَ أَحْكَامَ الْحَجِّ، وَحُكْمَ الْحَيْضِ، وَالطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ، وَأَقَاصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَيَّنَ حُكْمَ الرِّبَا، ذَكَرَ تَعْظِيمَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيقَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيقَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَقَالَ: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: صَدَّقَ الرَّسُولُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ، كُلُّهُمْ صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَقِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا: الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَمَلائِكَتِهِ أَيْ: مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِمْ عِبَادَهُ الْمُكْرَمِينَ، الْمُتَوَسِّطِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ فِي إِنْزَالِ كُتُبِهِ، وَقَوْلُهُ: وَكُتُبِهِ لِأَنَّهَا الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي تَعَبَّدَ بِهَا عِبَادُهُ. وَقَوْلُهُ: وَرُسُلِهِ لِأَنَّهُمُ الْمُبَلِّغُونَ لِعِبَادِهِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَامِرٍ: وَكُتُبِهِ، بِالْجَمْعِ. وَقَرَءُوا فِي التَّحْرِيمِ: وَكِتَابِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُنَا: وَكِتَابِهِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ. وَبَيَّنَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فَقَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِالْوَاحِدِ الْجِنْسُ وَالْجِنْسِيَّةُ قَائِمَةٌ فِي وَحْدَانِ الْجِنْسِ كُلِّهَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ إِلَّا مَا فِيهِ الْجِنْسِيَّةُ مِنَ الْجُمُوعِ. انْتَهَى. وَمَنْ أَرَادَ تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ التَّلْخِيصِ الْمُطَوَّلِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ «وَاسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَرُسُلِهِ، بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: بِتَخْفِيفِ السِّينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «لَا نُفَرِّقُ» بِالنُّونِ. وَالْمَعْنَى: يَقُولُونَ: لَا نُفَرِّقُ. وقرأ سعيد ابن جُبَيْرٍ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَيَعْقُوبُ: «لَا يُفَرِّقُ» بِالْيَاءِ التحتية.

_ (1) . النمل: 87.

وَقَوْلُهُ: بَيْنَ أَحَدٍ وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَ آحَادٍ، لِأَنَّ الْأَحَدَ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ، وَالْجَمْعَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «1» فَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: حاجِزِينَ لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَأَنْ تَكُونَ خَبَرًا آخَرَ لِقَوْلِهِ: كُلٌّ. وَقَوْلُهُ: مِنْ رُسُلِهِ أَظْهَرَ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ تَوَهُّمِ انْدِرَاجِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْحُكْمِ، أَوِ الْإِشْعَارِ بِعِلَّةِ عَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: آمَنَ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لِلْمُفْرَدِ وَهَذَا لِلْجَمَاعَةِ فَهُوَ جَائِزٌ نَظَرًا إِلَى جَانِبِ الْمَعْنَى، أَيْ: أَدْرَكْنَاهُ بِأَسْمَاعِنَا، وَفَهْمِنَاهُ، وَأَطَعْنَا مَا فِيهِ وَقِيلَ: مَعْنَى سَمِعْنَا: أَجَبْنَا دَعْوَتَكَ. قَوْلُهُ: غُفْرانَكَ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اغْفِرْ غُفْرَانَكَ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَقَدَّمَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ عَلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِكَوْنِ الْوَسِيلَةِ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُتَوَسِّلِ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها التَّكْلِيفُ: هُوَ الْأَمْرُ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ وَكُلْفَةٌ، وَالْوُسْعُ: الطَّاقَةُ، وَالْوُسْعُ: مَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ وَلَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ جَاءَتْ عَقِبَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ، لِكَشْفِ كُرْبَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَدَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ فِي التَّكْلِيفِ بِمَا فِي الْأَنْفُسِ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «2» . قوله: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ فِيهِ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ، أَيْ: لَهَا ثَوَابُ مَا كَسَبَتْ مِنَ الْخَيْرِ، وَعَلَيْهَا وِزْرُ مَا اكْتَسَبَتْ من الشرّ، وتقدّم «لها وعليها» عَلَى الْفِعْلَيْنِ لِيُفِيدَ أَنَّ ذَلِكَ لَهَا لَا لِغَيْرِهَا، وَعَلَيْهَا لَا عَلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ: كَسَبَ، لِلْخَيْرِ فَقَطْ، وَاكْتَسَبَ: لِلشَّرِّ فَقَطْ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ يَصْدُقُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ الْفِعْلَ وَخَالَفَ بَيْنَ التَّصْرِيفَيْنِ تَحْسِينًا لِلنَّظْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «3» . قَوْلُهُ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أَيْ: لَا تُؤَاخِذْنَا بِإِثْمِ مَا يَصْدُرُ مِنَّا مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا الدُّعَاءُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ قَائِلِينَ: إِنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ مَغْفُورَانِ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِمَا، فَمَا مَعْنَى الدُّعَاءِ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ. وأجيب عن ذلك: بأن المراد: طلب عدم الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ مِنَ التَّفْرِيطِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، لَا مِنْ نَفْسِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ، فَإِنَّهُ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِمَا كَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» وَسَيَأْتِي مَخْرَجُهُ وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَ بِحُصُولِ مَا هُوَ حَاصِلٌ لَهُ قَبْلَ الدُّعَاءِ لِقَصْدِ اسْتَدَامَتِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ وَإِنْ ثَبَتَ شَرْعًا أَنَّهُ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِمَا، فَلَا امْتِنَاعَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِمَا عَقْلًا وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ التَّقْوَى بِحَيْثُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُمُ الذَّنْبُ تَعَمُّدًا، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا، فَكَأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِيذَانًا بِنَزَاهَةِ سَاحَتِهِمْ عَمَّا يُؤَاخَذُونَ بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ وَالْخَطَأُ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ، فَمَا مِنْهُمْ سَبَبُ مُؤَاخَذَةٍ إِلَّا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ أَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ، وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ هَلْ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ يَلْزَمُ أَحْكَامُ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ، فَقِسْمٌ لَا يَسْقُطُ بِاتِّفَاقٍ كَالْغَرَامَاتِ والدّيات وَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَقِسْمٌ يَسْقُطُ بِاتِّفَاقٍ كَالْقِصَاصِ وَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَقِسْمٌ ثَالِثٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ: كَمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ أَوْ حَنَثَ سَاهِيًا، وما كان مثله مما يقع

_ (1) . الحاقة: 47. (2) . البقرة: 185. (3) . الطارق: 17. [.....]

خَطَأً وَنِسْيَانًا، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَتَكْرِيرُ النِّدَاءِ لِلْإِيذَانِ بِمَزِيدِ التضرّع واللجأ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالْإِصْرُ: الْعِبْءُ الثَّقِيلُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ، أَيْ: يَحْبِسُهُ مَكَانَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ لِثِقَلِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا التَّكْلِيفُ الشَّاقُّ، وَالْأَمْرُ الْغَلِيظُ الصَّعْبُ وَقِيلَ الْإِصْرُ: شِدَّةُ الْعَمَلِ وَمَا غَلُظَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ تَغْشَى سَرَاتَهُمُ ... وَالْحَامِلَ الإصر عنهم بعد ما غَرِقُوا وَقِيلَ: الْإِصْرُ: الْمَسْخُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَقِيلَ: الْعَهْدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي وَهَذَا الْخِلَافُ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ مَا هُوَ الْإِصْرُ الَّذِي كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، لَا إِلَى مَعْنَى الْإِصْرِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِلَا نِزَاعٍ، وَالْإِصَارُ: الْحَبَلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الْأَحْمَالُ وَنَحْوُهَا، يُقَالُ: أَصَرَ يَأْصِرُ إِصْرًا: حَبَسَ، وَالْإِصْرُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْمَوْضِعُ: مَأْصِرٌ، وَالْجُمَعُ: مَآصِرُ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ مَعَاصِرُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ مِنْ ثِقَلِ التَّكَالِيفِ مَا حَمَلَ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ. وَقَوْلُهُ: كَما حَمَلْتَهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ حَمْلًا مِثْلَ حَمْلِكَ إِيَّاهُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، أَوْ صفة لإصرا، أَيْ: إِصْرًا مِثْلَ الْإِصْرِ الَّذِي حَمَلَتْهُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا. قَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ هُوَ أَيْضًا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَتَكْرِيرُ النِّدَاءِ لِلنُّكْتَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذَا. وَالْمَعْنَى: لَا تُحَمِّلْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ ما لا نطيق وقيل: عِبَارَةٌ عَنْ إِنْزَالِ الْعُقُوبَاتِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُنْزِلْ عَلَيْنَا الْعُقُوبَاتِ بِتَفْرِيطِنَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى تِلْكَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ الَّتِي كَلَّفْتَ بِهَا مَنْ قَبْلَنَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الشَّاقُّ الَّذِي لَا يَكَادُ يُسْتَطَاعُ مِنَ التَّكَالِيفِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. قَوْلُهُ: وَاعْفُ عَنَّا أَيْ: عَنْ ذُنُوبِنَا، يُقَالُ: عَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِهِ: إِذَا تَرَكْتَهُ وَلَمْ تُعَاقِبْهُ عَلَيْهِ وَاغْفِرْ لَنا أَيِ: اسْتُرْ عَلَى ذُنُوبِنَا، وَالْغَفْرُ: السَّتْرُ وَارْحَمْنا أَيْ: تَفَضَّلْ بِرَحْمَةٍ مِنْكَ عَلَيْنَا أَنْتَ مَوْلانا أَيْ: وَلِيُّنَا وَنَاصِرُنَا، وَخَرَجَ هَذَا مَخْرَجَ التَّعْلِيمِ كَيْفَ يَدْعُونَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَنَحْنُ عَبِيدُكَ فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَإِنَّ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى أَنْ يَنْصُرَ عَبِيدَهُ، وَالْمُرَادُ: عَامَّةُ الْكَفَرَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي شَرْحِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هذه أعني قوله: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَخْ، أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عَقِبَ كُلِّ دَعْوَةٍ مِنْ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ قَدْ فَعَلْتُ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَلَا حَمَلَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنَ الْإِصْرِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، وَلَا حَمَّلَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَعَفَا عَنْهُمْ، وَغَفَرَ لَهُمْ، وَرَحِمَهُمْ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ لَا نَكْفُرُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا نُكَذِّبُ بِهِ وَقالُوا سَمِعْنا لِلْقُرْآنِ الَّذِي جَاءَ مِنَ اللَّهِ وَأَطَعْنا، أَقَرُّوا لِلَّهِ أَنْ يُطِيعُوهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: غُفْرانَكَ رَبَّنا قَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ قَالَ: إِلَيْكَ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ. وأخرج سعيد

ابن مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آمَنَ الرَّسُولُ الْآيَةَ، قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ فَسَلْ تُعْطَهُ، فَقَالَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ فَقَالَ: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» . وَقَالَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «2» . وقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «3» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ قَالَ: مِنَ الْعَمَلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا وُسْعَها قَالَ: إِلَّا طَاقَتَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ. وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ من حَدِيثِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا. وَفِي أَسَانِيدِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَقَالٌ وَلَكِنَّهَا يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَلَا تَقْصُرُ عَنْ رُتْبَةِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ قَدْ فَعَلْتُ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ يَشْهَدُ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِصْراً قَالَ: عَهْدًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً قَالَ: لَا تَمْسَخْنَا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْإِصْرَ: الذَّنْبُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَوْبَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْفُضَيْلِ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَذْنَبَ قِيلَ لَهُ تَوْبَتُكَ أَنْ تَقْتُلَ نَفْسَكَ فَيَقْتُلُ نَفْسَهُ، فَوُضِعَتِ الْآصَارُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إلخ، كما قالها جبريل للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ النَّبِيُّ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ مَيْسَرَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ لَقَّنَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَاتِمَةَ الْبَقَرَةِ آمِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ: آمِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: آمِينَ آمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: هِيَ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: سَأَلَهَا نَبِيُّ اللَّهِ رَبَّهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَأَهْلِ السُّنَنِ، وَغَيْرِهِمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السّموات وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَأَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بهما سورة البقرة، ولا

_ (1) . الحج: 78. (2) . البقرة: 185. (3) . التغابن: 16.

يُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «أُعْطِيتُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهَا نَبِيٌّ قَبْلِي» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اقْرَءُوا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ آمَنَ الرَّسُولُ إِلَى خَاتِمَتِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى بِهَا مُحَمَّدًا» وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَأُعْطِيَ ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغَفَرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شيئا المقحمات «1» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أَعْطَانِيهِمَا مِنْ كَنْزِهِ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَعَلَّمُوهُمَا وَعَلِّمُوهُمَا نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ فَإِنَّهُمَا صَلَاةٌ وَقُرْآنٌ وَدُعَاءٌ» . وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «اثْنَانِ هُمَا قُرْآنٌ وَهُمَا يَشْفِيَانِ، وَهُمَا مِمَّا يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يخلق السموات وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَأَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ لَا يُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ آيَتَيْنِ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، كَتَبَهُمَا الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، مَنْ قَرَأَهُمَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ أَجْزَأَتَاهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، ضَحِكَ وَقَالَ: إِنَّهُمَا مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قَطُّ، قَالَ: فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ قَدْ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتَهُ» . فَهَذِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا فِي فَضْلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَرْفُوعَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي فَضْلِهِمَا مِنْ غَيْرِ الْمَرْفُوعِ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مَسْعُودٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَالْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ، وَفِي قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما يغني عن غيره.

_ (1) . «المقحمات» : الذنوب العظام الكبائر التي تورد أصحابها النار.

سورة آل عمران

سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ هِيَ مَدَنِيَّةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِالْإِجْمَاعِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ صَدْرَهَا إِلَى ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ آيَةً نَزَلَ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ، وَكَانَ قُدُومُهُمْ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِهِمَا، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ السُّورَةَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْحُكَمَاءِ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ فَهُوَ غَنِيٌّ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: نِعْمَ كَنْزُ الصُّعْلُوكِ آلُ عِمْرَانَ، يَقُومُ بِهَا الرَّجُلُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ. وأخرج سعيد بن منصور عن أبي عطاف قَالَ: اسْمُ آلِ عِمْرَانَ فِي التَّوْرَاةِ طَيْبَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ قَرَأَ السُّورَتَيْنِ إِنَّ فِيهِمَا الِاسْمَ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) قَرَأَ الْحَسَنُ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الرُّوَاسِيُّ: الم اللَّهُ بِقَطْعِ أَلِفِ الْوَصْلِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوَقْفِ عَلَى الم كَمَا يُقَدِّرُونَ الْوَقْفَ عَلَى أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ نَحْوَ وَاحِدٌ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ أَرْبَعَةٌ مَعَ وَصْلِهِمْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَجُوزُ الم اللَّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ، وَلَا تَقُولُهُ الْعَرَبُ لِثِقَلِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي الْكِتَابِ: أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مُوَازَنَةً لِمُفْرَدٍ طَرِيقُ التَّلَفُّظِ بِهَا الْحِكَايَةُ فَقَطْ سَاكِنَةُ الْأَعْجَازِ عَلَى الْوَقْفِ، سَوَاءً جُعِلَتَ أَسْمَاءً أَوْ مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ وَإِنْ لَزِمَهَا الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ لِمَا أَنَّهُ مُغْتَفَرٌ فِي بَابِ الْوَقْفِ، فَحَقُّ هَذِهِ الْفَاتِحَةِ أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُبْدَأُ بِمَا بَعْدَهَا، كَمَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ وَمَنْ مَعَهُ فِي قِرَاءَتِهِمُ الْمَحْكِيَّةِ سَابِقًا. وَأَمَّا فَتْحُ الْمِيمِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، فَوَجْهُهُ: مَا رُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ الْمِيمَ فُتِحَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: حُرُوفُ التَّهَجِّي إِذَا لَقِيَتْهَا أَلِفُ وَصْلٍ، فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ وَحُرِّكَتِ

الْمِيمُ بِحَرَكَةِ الْأَلِفِ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَهَذِهِ الْفَوَاتِحُ إِنْ جُعِلَتْ مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَإِنْ جُعِلَتْ أَسْمَاءً لِلسُّورَةِ فَمَحَلُّهَا إِمَّا الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا أَخْبَارٌ لِمُبْتَدَآتٍ مُقَدَّرَةٍ قَبْلَهَا، أَوِ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ أَفْعَالٍ يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ كَاذْكُرْ، أَوِ اقْرَأْ، أَوْ نَحْوِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ. وَقَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ: هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعُبُودِيَّةِ. وَالْحَيُّ الْقَيُّومُ: خَبَرَانِ آخَرَانِ لِلِاسْمِ الشَّرِيفِ، أَوْ خَبَرَانِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا صِفَتَانِ لِلْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، أَوْ بَدَلَانِ مِنْهُ، أَوْ مِنَ الْخَبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحَيِّ وَالْقَيُّومِ. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: الْقَيَّامُ عُمَرُ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. قَوْلُهُ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أَيِ: الْقُرْآنَ، وَقَدَّمَ الظَّرْفَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِلِاعْتِنَاءِ بِالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ: إِمَّا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ خَبَرٌ آخَرُ لِلْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ أَيْ: بِالصِّدْقِ، وقيل: بالحجة الغالبة البالغة، وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَوْلُهُ: مُصَدِّقاً حَالٌ آخَرُ مِنَ الْكِتَابِ مُؤَكَّدَةً، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مُصَدِّقًا، فَلَا تَكُونُ الْحَالُ مُنْتَقِلَةً أَصْلًا، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمُ الِانْتِقَالَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ: مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: مُصَدِّقًا، وَاللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ. قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ الْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا أَنْزَلَ وَفِيمَا تَقَدَّمَ نَزَّلَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا، وَالْكِتَابَانِ نَزَلَا دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابَيْنِ مَنْ أُنْزِلَا عَلَيْهِ، وَذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الْكِتَابَ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَا لَيْسَ إِلَّا إِلَى ذِكْرِ الْكِتَابَيْنِ لَا ذِكْرِ مَنْ نَزَلَا عَلَيْهِ. وقوله: مِنْ قَبْلُ أَيْ: أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلِ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ: هُدىً لِلنَّاسِ إِمَّا: حَالٌ مِنَ الْكِتَابَيْنِ، أَوْ عِلَّةٌ لِلْإِنْزَالِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ، لأن هذه الأمة متعبدة بما لَمْ يُنْسَخْ مِنَ الشَّرَائِعِ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هُدًى لِلنَّاسِ الْمُتَّقِينَ، كَمَا قَالَ فِي الْبَقَرَةِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أَيِ: الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَكَرَّرَ ذِكْرَهُ تَشْرِيفًا لَهُ مَعَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذَا الذِّكْرُ الْآخَرُ مِنَ الْوَصْفِ لَهُ بِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَذَكَرَ التَّنْزِيلَ أَوَّلًا وَالْإِنْزَالَ ثَانِيًا لِكَوْنِهِ جَامِعًا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، فَإِنَّهُ أُنْزِلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً، ثُمَّ نَزَلَ مِنْهَا إلى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ كَمَا سَبَقَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْفُرْقَانِ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رُسُلِهِ وَقِيلَ: أَرَادَ الزَّبُورَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَوَاعِظِ الْحَسَنَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أَيْ: بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ آيَةٌ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَغَيْرِهَا، أَوْ بِمَا فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْمَذْكُورَةِ، عَلَى وَضْعِ آيَاتِ اللَّهِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَيْهَا، وَفِيهِ بَيَانُ الْأَمْرِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الْكُفْرَ لَهُمْ بِسَبَبِ هَذَا الْكُفْرِ عَذابٌ شَدِيدٌ أَيْ: عَظِيمٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ ذُو انْتِقامٍ عَظِيمٍ، وَالنِّقْمَةُ: السَّطْوَةُ، يُقَالُ انْتَقَمَ مِنْهُ: إِذَا عَاقَبَهُ بِسَبَبِ ذَنْبٍ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ. قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِبَيَانِ سَعَةِ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَعَبَّرَ عَنْ مَعْلُومَاتِهِ بِمَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مَعَ كَوْنِهَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ: لِقُصُورِ عِبَادِهِ عَنِ الْعِلْمِ بِمَا سِوَاهُمَا مِنْ أَمْكِنَةِ مَخْلُوقَاتِهِ وَسَائِرِ مَعْلُومَاتِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ: إِيمَانُ مَنْ آمَنَ مِنْ خَلْقِهِ وَكُفْرُ مَنْ كَفَرَ. قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ

أَصْلُ اشْتِقَاقِ الصُّورَةِ مِنْ: صَارَهُ إِلَى كَذَا، أي: أماله إليه، فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة، وأصل الرحم من: الرحمة لأنه مما يتراحم به، وهذه الجملة مستأنفة، مشتملة عَلَى بَيَانِ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَعْلُومَاتِهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوُجُودِ، وَهُوَ: تَصْوِيرُ عِبَادِهِ فِي أَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ مِنْ نُطَفِ آبَائِهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ، مِنْ حَسَنٍ، وَقَبِيحٍ، وَأَسْوَدَ، وَأَبْيَضَ، وَطَوِيلٍ، وَقَصِيرٍ. وَكَيْفَ: مَعْمُولُ يَشَاءُ، وَالْجُمْلَةُ: حَالِيَّةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ نَجْرَانَ سِتُّونَ رَاكِبًا، فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ أبو حارثة ابن عَلْقَمَةَ، وَالْعَاقِبُ، وَعَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالسَّيِّدُ، وَهُوَ: الْأَيْهَمُ، ثُمَّ ذَكَرُوا الْقِصَّةَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي دَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي ذَلِكَ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ، فَذَكَرَ وَفْدَ نَجْرَانَ وَمُخَاصَمَتَهُمْ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ: الم اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: لِمَا قَبْلَهُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ هُوَ الْقُرْآنُ، فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَأَحَلَّ فِيهِ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ فِيهِ حَرَامَهُ، وَشَرَعَ فِيهِ شَرَائِعَهُ، وَحَدَّ فِيهِ حُدُودَهُ، وَفَرَضَ فِيهِ فَرَائِضَهُ، وَبَيَّنَ فِيهِ بَيَانَهُ، وَأَمَرَ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أَيِ: الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَحْزَابُ مِنْ أَمْرِ عِيسَى وَغَيْرِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أَيْ: إِنَّ اللَّهَ يَنْتَقِمُ مِمَّنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهَا وَمَعْرِفَتِهِ بِمَا جَاءَ مِنْهُ فِيهَا. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أَيْ: قَدْ عَلِمَ مَا يُرِيدُونَ وَمَا يَكِيدُونَ وَمَا يُضَاهُونَ بِقَوْلِهِمْ فِي عِيسَى إِذْ جَعَلُوهُ رَبًّا وَإِلَهًا، وَعِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ غَيْرُ ذَلِكَ غِرَّةً بِاللَّهِ وَكُفْرًا بِهِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قَدْ كَانَ عِيسَى مِمَّنْ صُوِّرَ فِي الْأَرْحَامِ، لَا يَدْفَعُونَ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُونَهُ كَمَا صُوِّرَ غَيْرُهُ مَنْ بَنِي آدَمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا وَقَدْ كَانَ بِذَلِكَ الْمَنْزِلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قَالَ: ذُكُورًا وَإِنَاثًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَنَاسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الْأَرْحَامِ طَارَتْ فِي الْجَسَدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا بَلَغَ أَنْ يُخْلَقَ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يُصَوِّرُهَا، فَيَأْتِي الْمَلَكُ بِتُرَابٍ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ فَيَخْلِطُ مِنْهُ الْمُضْغَةَ، ثُمَّ يَعْجِنُهُ بِهَا ثُمَّ يُصَوِّرُ كَمَا يُؤْمَرُ فَيَقُولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، وَمَا رِزْقُهُ، وَمَا عُمُرُهُ، وَمَا أَثَرُهُ، وَمَا مَصَائِبُهُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، فَإِذَا مَاتَ ذَلِكَ الْجَسَدُ دُفِنَ حَيْثُ أُخِذَ ذَلِكَ التُّرَابُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قَالَ: مِنْ ذَكَرٍ وأنثى، وَأَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، وَتَامِّ الْخَلْقِ وَغَيْرِ تَامِّ الْخَلْقِ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 7 إلى 9]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 7 الى 9] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) الْكِتَابُ: هُوَ الْقُرْآنُ، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَقَدَّمَ الظَّرْفَ وَهُوَ «عَلَيْكَ» لِمَا يُفِيدُهُ مِنَ الِاخْتِصَاصِ. وَقَوْلُهُ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ الْمُوَافِقُ لِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ خَبَرًا مُقَدَّمًا، وَالْأَوْلَى بِالْمَعْنَى: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً تَقْدِيرُهُ مِنَ الْكِتَابِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ وَإِنَّمَا كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْقِسَامُ الْكِتَابِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، لَا مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا مِنَ الْكِتَابِ، وَالْجُمْلَةُ: حَالِيَّةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: إِنَّ الْمُحْكَمَ: مَا عُرِفَ تَأْوِيلُهُ، وَفُهِمَ مَعْنَاهُ، وَتَفْسِيرُهُ. وَالْمُتَشَابِهُ: مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلٌ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، قَالُوا: وَذَلِكَ نَحْوُ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ: مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، فَإِذَا رُدَّتْ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَأُبْطِلَ الْبَاقِي صَارَ الْمُتَشَابِهُ مُحْكَمًا وَقِيلَ: إِنَّ الْمُحْكَمَ: نَاسِخُهُ، وَحَرَامُهُ، وَحَلَالُهُ، وَفَرَائِضُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَنَعْمَلُ عَلَيْهِ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَنْسُوخُهُ، وَأَمْثَالُهُ، وَأَقْسَامُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَعْمَلُ بِهِ. رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ: الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له، والمتشابه: ما فيه تصريف، وتحريف، وَتَأْوِيلٌ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ: مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يرجع فيه إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَا قَالَهُ النَّحَّاسُ يُبَيِّنُ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ الجاري على وضع اللسان، ذلك أَنَّ الْمُحْكَمَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَحْكَمَ، وَالْإِحْكَامُ، الْإِتْقَانُ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَا كَانَ وَاضِحَ الْمَعْنَى لَا إِشْكَالَ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ، إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِوُضُوحِ مُفْرَدَاتِ كَلِمَاتِهِ وَإِتْقَانِ تَرْكِيبِهَا، وَمَتَى اخْتَلَّ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جَاءَ التَّشَابُهُ وَالْإِشْكَالُ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: لِلْمُتَشَابِهِ وُجُوهٌ، مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَيُّ الْآيَتَيْنِ نَسَخَتِ الْأُخْرَى؟ كَمَا فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَإِنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ آيَةَ وَضْعِ الْحَمْلِ نَسَخَتْ آيَةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشَرِ، ومنهم من قال بالعكس. وكاختلافهم في الوصية للوارث، وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه، وكتعارض الأخبار، وتعارض الْأَقْيِسَةِ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُحْكَمَ: هُوَ الْوَاضِحُ الْمَعْنَى الظَّاهِرُ الدَّلَالَةِ، إِمَّا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ وَالْمُتَشَابِهُ: مَا لَا يَتَّضِحُ مَعْنَاهُ، أَوْ لَا تَظْهَرُ دَلَالَتُهُ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ أهل كل قوم عَرَّفُوا الْمُحْكَمَ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ، وَعَرَّفُوا

الْمُتَشَابِهَ بِمَا يُقَابِلُهَا. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ جَعَلُوا الْمُحْكَمَ مَا وُجِدَ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلٌ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى عِلْمِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ أَوْسَعُ دَائِرَةً مِمَّا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْخَفَاءِ، أَوْ عَدَمَ الظُّهُورِ، أَوِ الِاحْتِمَالَ، أَوِ التَّرَدُّدَ يوجب التشابه وأهل القول الثاني: خضوا الْمُحْكَمَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالٌ، وَالْمُتَشَابِهُ بِمَا فِيهِ احْتِمَالٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا بَعْضُ أَوْصَافِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، لَا كُلُّهَا وَهَكَذَا أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ: فَإِنَّهُمْ خَصُّوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَأَهْلُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ: خَصُّوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَالْأَمْرُ أَوْسَعُ مِمَّا قَالُوهُ جَمِيعًا وَأَهْلُ الْقَوْلِ الْخَامِسِ: خَصُّوا الْمُحْكَمَ بِوَصْفِ عَدَمِ التَّصْرِيفِ وَالتَّحْرِيفِ، وَجَعَلُوا الْمُتَشَابِهَ مُقَابِلَهُ، وَأَهْمَلُوا مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذلك مما لا سبيل إلى علمه مِنْ دُونِ تَصْرِيفٍ وَتَحْرِيفٍ كَفَوَاتِحِ السُّوَرِ الْمُقَطَّعَةِ، وَأَهْلُ الْقَوْلِ السَّادِسِ: خَصُّوا الْمُحْكَمَ: بِمَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، وَالْمُتَشَابِهُ: بِمَا لَا يَقُومُ بِهَا، وَأَنَّ هَذَا هُوَ بَعْضُ أَوْصَافِهِمَا، وَصَاحِبُ الْقَوْلِ السَّابِعِ وَهُوَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ، عَمَدَ إِلَى صُورَةِ الْوِفَاقِ فَجَعَلَهَا مُحْكَمًا، وَإِلَى صُورَةِ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ فَجَعَلَهَا مُتَشَابِهًا، فَأَهْمَلَ مَا هُوَ أَخَصُّ أَوْصَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ كَوْنِهِ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ مَفْهُومَ الْمَعْنَى أَوْ غَيْرَ مَفْهُومٍ. قَوْلُهُ: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أَيْ: أَصْلُهُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَيَرُدُّ مَا خَالَفَهُ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَوْلُهُ: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وَصْفٌ لِمَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَآيَاتٌ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ وَهِيَ جَمْعُ أُخْرَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّهُ عُدِلَ بِهَا عَنِ الْآخَرِ، لِأَنَّ أَصْلَهَا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ وَاحِدَهَا لَا يَنْصَرِفُ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَمْ تَنْصَرِفْ لِأَنَّهَا صِفَةٌ، وَأَنْكَرَهُ أَيْضًا الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُخَرُ: مَعْدُولَةً عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَعْدُولَةً عَنْهَا لَكَانَ مَعْرِفَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ سَحَرَ مَعْرِفَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَقَاوِيلِ لَمَّا كَانَتْ مَعْدُولَةً. قَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ الزَّيْغُ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ: زَاغَتِ الشَّمْسُ، وَزَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَيُقَالُ: زَاغَ يَزِيغُ زَيْغًا، إِذَا تَرَكَ الْقَصْدَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّوَائِفِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْحَقِّ. وَسَبَبُ النُّزُولِ: نَصَارَى نَجْرَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي. قَوْلُهُ: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ أَيْ: يَتَعَلَّقُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْكِتَابِ، فَيُشَكِّكُونَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجْعَلُونَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبِدْعَةِ الْمَائِلَةِ عَنِ الْحَقِّ، كَمَا تَجِدُهُ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّهُمْ يَتَلَاعَبُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَلَاعُبًا شَدِيدًا، وَيُورِدُونَ مِنْهُ لِتَنْفِيقِ جَهْلِهِمْ مَا لَيْسَ مِنَ الدَّلَالَةِ فِي شَيْءٍ. قَوْلُهُ: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أَيْ: طلبا منهم لفتنة الناس في دينهم والتلبيس عليهم وإفساد ذات بينهم وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أَيْ: طَلَبًا لِتَأْوِيلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ وَيُوَافِقُ مَذَاهِبَهُمُ الْفَاسِدَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى ابْتِغَائِهِمْ تَأْوِيلَهُ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَأْوِيلَ بَعْثِهِمْ وَإِحْيَائِهِمْ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ وَوَقْتَهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ «2» أَيْ: يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ مِنَ الْبَعْثِ والنشور والعذاب يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أَيْ: تَرَكُوهُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ «3» أَيْ: قَدْ رَأَيْنَا تَأْوِيلَ مَا أَنْبَأَتْنَا بِهِ الرُّسُلُ. قَوْلُهُ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ التَّأْوِيلُ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِمْ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى كَذَا، أَيْ: تَفْسِيرُهَا، وَيَكُونُ بِمَعْنَى ما يؤول الأمر إليه، واشتقاقه من: آل الأمر

_ (1) . الصف: 5. (2) . الأعراف: 53. (3) . الأعراف: 53.

إلى كذا، يؤول إِلَيْهِ، أَيْ: صَارَ، وَأَوَّلْتُهُ تَأْوِيلًا، أَيْ: صَيَّرْتُهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ: يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ لِابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ، وَالْحَالُ أَنَّ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هَلْ هُوَ كَلَامٌ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ؟ فتكون الواو للجمع، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَأَبِي نُهَيْكٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ، وَالْأَخْفَشِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ نَسَّقَ الرَّاسِخِينَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ، قَالَ: وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ: آمَنَّا بِهِ وَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِعَ يَقُولُونَ: نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُضْمِرُ الْفِعْلَ وَالْمَفْعُولَ مَعًا، وَلَا تَذْكُرُ حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُورِ الْفِعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِعْلٌ لَمْ يَكُنْ حَالًا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا، يَعْنِي أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: عَبْدُ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يُصْلِحُ حَالًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَنْشَدَنِيهِ أَبُو عَمْرٍو. قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ: أَرْسَلْتُ فِيهَا رَجُلًا «1» لُكَالِكَا ... يَقْصُرُ يَمْشِي وَيَطُولُ بَارِكَا فَكَانَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مَعَ مُسَاعَدَةِ مَذَاهِبِ النَّحْوِيِّينَ لَهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَحْدَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَيْئًا عَنِ الخلق ويثبته لِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ شَرِيكٌ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ «2» ، وقوله: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ «3» ، وقوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «4» فَكَانَ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ به لا يشركه فيه غيره، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَلَوْ كَانَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ لِلنَّسَقِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فَائِدَةٌ. انْتَهَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مُجَاهِدٍ غَيْرُهُ. فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرَّاسِخِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي عِلْمِ الْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ به يقولون آمنا به. وقاله الرَّبِيعُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بن محمد، وغيرهم. ويَقُولُونَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ الراسخون كما قال: الرّيح تبكي شجوها ... وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي الْغَمَامَهْ وَهَذَا الْبَيْتُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: وَالْبَرْقُ: مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ: يَلْمَعُ، عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ مَقْطُوعًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الرِّيحِ، وَيَلْمَعُ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي، أَيْ: لَامِعًا. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي وَجْهِ امْتِنَاعِ كَوْنِ قَوْلِهِ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالا: من

_ (1) . في اللسان وشرح القاموس «قطما» وهو الغضبان، والفحل الصئول. و «اللّكالك» الجمل الضخم المرمي باللحم. (2) . النمل: 65. (3) . الأعراف: 187. (4) . القصص: 88.

أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَذْكُرُ حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُورِ الْفِعْلِ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَا فِعْلَ هُنَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْفِعْلُ مَذْكُورٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ وَلَكِنَّهُ جَاءَ الْحَالُ مِنَ الْمَعْطُوفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهُ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «1» إلى قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا «2» الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا «3» أَيْ: وَجَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ صَفًّا صَفًّا، وَلَكِنْ هَاهُنَا مَانِعٌ آخَرُ مِنْ جَعْلِ ذَلِكَ حَالًا، وَهُوَ: أَنَّ تَقْيِيدَ عِلْمِهِمْ بِتَأْوِيلِهِ بِحَالِ كَوْنِهِمْ قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْعَطْفِ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ يَعْلَمُونَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْخَاصَّةِ، فَاقْتَضَى هَذَا أن جعل قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالا، غير صحيح، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قَوْلَهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُبْتَدَأً، خَبَرُهُ: يَقُولُونَ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْعَطْفِ: أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ مَدَحَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ، فَكَيْفَ يَمْدَحُهُمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ تَرْكَهُمْ لِطَلَبِ عِلْمِ مَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ، وَلَا جَعَلَ لِخَلْقِهِ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلًا هُوَ مِنْ رُسُوخِهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ هُمُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا مِنْ رُسُوخٍ. وَأَصْلُ الرُّسُوخِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الثُّبُوتُ فِي الشَّيْءِ، وَكُلُّ ثَابِتٍ رَاسِخٌ، وَأَصْلُهُ فِي الْأَجْرَامِ: أَنْ تَرْسَخَ الْخَيْلُ، أَوِ الشَّجَرُ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ ... لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتُهَا أَنْ تُغَيَّرَا فَهَؤُلَاءِ ثَبَتُوا فِي امْتِثَالِ مَا جَاءَهُمْ عَنِ اللَّهِ مِنْ تَرْكِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ، وَإِرْجَاعِ عِلْمِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فَقَالَ: التَّأْوِيلُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: التأويل بمعنى: حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ «4» ، وَقَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ» أَيْ: حَقِيقَةُ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا فَالْوَقْفُ عَلَى الْجَلَالَةِ، لِأَنَّ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَكُنْهَهَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مبتدأ، ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ خَبَرُهُ. وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ الْمَعْنَى الْآخَرُ وَهُوَ التَّفْسِيرُ وَالْبَيَانُ وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الشيء كقوله: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أَيْ: بِتَفْسِيرِهِ، فَالْوَقْفُ عَلَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ وَيَفْهَمُونَ مَا خُوطِبُوا بِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ لَمْ يُحِيطُوا عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كُنْهِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حَالًا مِنْهُمْ، وَرَجَّحَ ابْنُ فُورَكٍ: أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُفَسِّرِينَ رَجَّحُوا ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُمْ: رَاسِخِينَ، تَقْضِي بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ هُوَ رُسُوخُهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الْجَمِيعُ، لَكِنَّ الْمُتَشَابِهَ يَتَنَوَّعُ فَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَمُ أَلْبَتَّةَ، كَأَمْرِ الرَّوْحِ وَالسَّاعَةِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَهَذَا لَا يَتَعَاطَى عِلْمَهُ أَحَدٌ فَمَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْحُذَّاقِ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ عِلْمَ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ. وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى وُجُوهٍ في

_ (1) . الحشر: 8. (2) . الحشر: 10. (3) . الفجر: 22. [.....] (4) . يوسف: 100. (5) . الأعراف: 53.

اللُّغَةِ، فَيُتَأَوَّلُ وَيُعْلَمُ تَأْوِيلُهُ الْمُسْتَقِيمُ، وَيُزَالُ مَا فِيهِ مِنْ تَأْوِيلٍ غَيْرِ مُسْتَقِيمٍ. انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاضْطِرَابَ الْوَاقِعَ فِي مَقَالَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَعْظَمُ أَسْبَابِهِ اخْتِلَافُ أَقْوَالِهِمْ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا لَكَ مَا هُوَ الصَّوَابُ فِي تَحْقِيقِهِمَا، وَنَزِيدُكَ هَاهُنَا إِيضَاحًا وَبَيَانًا، فَنَقُولُ: إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فَوَاتِحَ السُّوَرِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مُتَّضِحَةِ الْمَعْنَى، وَلَا ظَاهِرَةِ الدَّلَالَةِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنْفُسِهَا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَنْ يَعْلَمُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَيَعْرِفُ عُرْفَ الشَّرْعَ مَا مَعْنَى الم، المر، حم، طس، طسم وَنَحْوِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بَيَانَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ كَلَامِ الشَّرْعِ، فَهِيَ غَيْرُ مُتَّضِحَةِ الْمَعْنَى، لَا بِاعْتِبَارِهَا نَفْسِهَا، وَلَا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ يُفَسِّرُهَا وَيُوَضِّحُهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ لُغَةِ الْعَجَمِ، وَالْأَلْفَاظُ الْغَرِيبَةُ الَّتِي لَا يُوجَدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا يُوَضِّحُهَا، وَهَكَذَا مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَالرُّوحِ وَمَا فِي قوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «1» إلى الآخر الْآيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَكَذَا مَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ، كَوُرُودِ الشَّيْءِ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ احْتِمَالًا لَا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ كَالْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ مَعَ عَدَمِ وُرُودِ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادُ مِنْ مَعْنَى ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ، وَكَذَلِكَ وُرُودُ دَلِيلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ تَعَارُضًا كُلِّيًّا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ يُرَجِّحُهُ. وَأَمَّا مَا كَانَ وَاضِحَ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ، بِأَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، أَوْ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَالْأُمُورِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي وَرَدَ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، أَوْ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، أَوِ الْأُمُورِ الَّتِي تَعَارَضَتْ دَلَالَتُهَا، ثُمَّ وَرَدَ مَا يُبَيِّنُ رَاجِحَهَا مِنْ مَرْجُوحِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، أَوْ سَائِرِ الْمُرَجِّحَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ الْمَقْبُولَةِ، عِنْدَ أَهْلِ الْإِنْصَافِ، فَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ مِنَ الْمُحْكَمِ لَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ فَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الصَّوَابُ، فَاشْدُدْ يَدَيْكَ عَلَى هَذَا فَإِنَّكَ تَنْجُو بِهِ مِنْ مَضَايِقَ وَمَزَالِقَ وَقَعَتْ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، حَتَّى صَارَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ تُسَمِّي مَا دَلَّ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ: مُحْكَمًا وَمَا دَلَّ عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مَنْ يُخَالِفُهَا: مُتَشَابِهًا: سِيَّمَا أَهْلُ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَعَلَيْهِ بِمُؤَلَّفَاتِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَمِيعُهُ مُحْكَمٌ، وَلَكِنْ لَا بِهَذَا الْمَعْنَى الْوَارِدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ بِمَعْنًى آخَرَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ «2» وقوله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ «3» وَالْمُرَادُ بِالْمُحْكَمِ بِهَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ صَحِيحُ الْأَلْفَاظِ، قَوِيمُ الْمَعَانِي، فَائِقٌ فِي الْبَلَاغَةِ، وَالْفَصَاحَةِ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ. وَوَرَدَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَمِيعُهُ مُتَشَابِهٌ لَكِنْ لَا بِهَذَا الْمَعْنَى الْوَارِدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، بَلْ بِمَعْنًى آخَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً «4» والمراد بالتشابه بِهَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الصِّحَّةِ، وَالْفَصَاحَةِ، وَالْحُسْنِ، وَالْبَلَاغَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ لِوُرُودِ الْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ فَوَائِدَ، مِنْهَا: أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ مَعَ وُجُودِهَا فِيهِ مَزِيدُ صُعُوبَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ لِلْمُسْتَخْرِجِينَ لِلْحَقِّ وَهُمُ الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ، وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمَا وُجُوهًا هَذَا أَحْسَنُهَا، وَبَقِيَّتُهَا لَا تَسْتَحِقُّ الذِّكْرَ هَاهُنَا. قَوْلُهُ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فِيهِ ضَمِيرٌ مُقَدَّرٌ عَائِدٌ عَلَى قِسْمَيِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، أَيْ: كُلُّهُ، أو المحذوف

_ (1) . لقمان: 34. (2) . هود: 1. (3) . يونس: 1. (4) . الزمر: 23.

غَيْرُ ضَمِيرٍ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْمَقُولِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أَيِ: الْعُقُولُ الْخَالِصَةُ، وَهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، الْوَاقِفُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ، الْعَالِمُونَ بِمُحْكَمِهِ، الْعَامِلُونَ بِمَا أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: رَبَّنا لَا تُزِغْ إِلَخْ، مِنْ تَمَامِ مَا يَقُولُهُ الرَّاسِخُونَ، أَيْ: يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَيَقُولُونَ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: سَأَلُوا أَلَّا يَزِيغُوا فَتَزِيغَ قُلُوبُهُمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ قَالُوا: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إِلَى الْحَقِّ، بِمَا أَذِنْتَ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ بِالْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ، وَالظَّرْفُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: بَعْدَ مُنْتَصِبٌ بِقَوْلِهِ: لَا تُزِغْ. قَوْلُهُ: وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أَيْ: كَائِنَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَمِنْ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَلَدُنْ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الدَّالِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفِيهِ لُغَاتٌ أُخَرُ، هَذِهِ أَفْصَحُهَا، وَهُوَ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَى الزَّمَانِ، وَتَنْكِيرُ: رَحْمَةً، لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: رَحْمَةً عَظِيمَةً وَاسِعَةً. وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تعليل للسؤال، أو لإعطاء المسؤول. وَقَوْلُهُ: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ أَيْ: بَاعِثُهُمْ وَمُحْيِيهِمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ لِيَوْمٍ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ: لِحِسَابِ يَوْمٍ، أَوْ لِجَزَاءِ يَوْمٍ، عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. قَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ: فِي وُقُوعِهِ، وَوُقُوعِ مَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الرَّيْبِ، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لِلتَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ: أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ شَأْنُ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَخُلْفُهُ يُخَالِفُ الْأُلُوهِيَّةَ، كَمَا أَنَّهَا تُنَافِيهِ، وَتُبَايِنُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُحْكَمَاتُ: نَاسِخُهُ، وَحَلَالُهُ، وَحَرَامُهُ، وَحُدُودُهُ، وَفَرَائِضُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَنَعْمَلُ بِهِ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ: مَنْسُوخُهُ، وَمُقَدِّمُهُ، وَمُؤَخِّرُهُ، وَأَمْثَالُهُ، وَأَقْسَامُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَعْمَلُ بِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ قَالَ: الثَّلَاثُ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ محكمات قُلْ تَعالَوْا «2» وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَخْرَجَهَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: آياتٌ مُحْكَماتٌ قَالَ: مِنْ هُنَا قُلْ تَعالَوْا إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، ومن هنا وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «3» إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ بَعْدَهَا. وَأَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ ابْنَ عَبَّاسٍ مَا أَقَلَّ جَدْوَى هَذَا الْكَلَامِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ. فَإِنَّ تَعْيِينَ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ عَشْرٍ أَوْ مِائَةٍ مِنْ جَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَوَصْفِهَا بِأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَيْسَ تَحْتَهُ مِنَ الْفَائِدَةِ شَيْءٌ، فَالْمُحْكَمَاتُ: هِيَ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ، حَتَّى عَلَى قَوْلِهِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ قَرِيبًا مِنْ أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ نَاسِخُهُ وَحَلَالُهُ إِلَخْ، فَمَا مَعْنَى تَعْيِينِ تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ؟ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: الْمُحْكَمَاتُ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلِلسَّلَفِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ هِيَ رَاجِعَةٌ إلى ما قدّمناه فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَعْنِي: أَهْلَ الشَّكِّ، فَيَحْمِلُونَ الْمُحْكَمَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ، وَالْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَيَلْبِسُونَ فَلَبَسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ قَالَ: تَأْوِيلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عن ابن مسعود

_ (1) . الصف: 5. (2) . الأنعام: 151. (3) . الإسراء: 23.

زَيْغٌ قَالَ: شَكٌّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ إِلَى قوله: أُولُوا الْأَلْبابِ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الذين عنى الله فَاحْذَرُوهُمْ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، وَالَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فَلَا تُجَالِسُوهُمْ» وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ قَالَ: هُمُ الْخَوَارِجُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: زَاجِرٍ، وَآمِرٍ، وَحَلَالٍ، وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ، وَمُتَشَابِهٍ، وَأَمْثَالٍ فَأَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَافْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَاعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِ، وَاعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَقُولُوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سلمة: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعبد الله ابن مَسْعُودٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ، مَا عَرَفْتُمْ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ» وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَفِيهِ: «وَاتَّبِعُوا الْمُحْكَمَ وَآمِنُوا بِالْمُتَشَابِهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آمَنَّا بِهِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَإِنْ حَقِيقَةُ تَأْوِيلِهِ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي الشَّعْثَاءِ وَأَبِي نَهِيكٍ قَالَ: إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَهِيَ مَقْطُوعَةٌ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فَانْتَهَى عِلْمُهُمْ إِلَى قَوْلِهِمُ الَّذِي قَالُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُرْوَةَ. قَالَ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبَدِ الْعَزِيزِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ مَا اسْتَبَانَ فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ فَآمِنْ بِهِ وَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، فَمَا عَرَفْتُمْ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ فَذَرُوهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُعَاذٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: تَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ العلماء، وتفسير لا يُعْذَرُ النَّاسُ بِجَهَالَتِهِ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، وَتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ بَلُغَتِهَا، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، مَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كذاب.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ على أربعة أَحْرُفٍ: حَلَالٍ وَحَرَامٍ، لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْجَهَالَةِ بِهِ، وَتَفْسِيرٍ تُفَسِّرُهُ الْعَرَبُ، وَتَفْسِيرٍ تُفَسِّرُهُ الْعُلَمَاءُ، وَمُتَشَابِهٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ نُؤْمِنُ بِالْمُحْكَمِ، وَنَدِينُ بِهِ، وَنُؤْمِنُ بِالْمُتَشَابِهِ، وَلَا نَدِينُ بِهِ وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كُلِّهِ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَنَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْحُجَّةِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: ضُبَيْعٌ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرَ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ ضُبَيْعٌ، فَقَالَ: وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ، فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! حَسْبُكَ، قَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي. وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ: أَنَّهُ ضَرَبَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَتْرُكُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى يَبْرَأَ، ثُمَّ يَضْرِبُهُ. وَأَخْرَجَ أَصْلَ الْقِصَّةِ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنْ لَا يُجَالِسُوا ضُبَيْعًا، وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّةَ جَمَاعَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ، وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؟ فَقَالَ: مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، وَمَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، فَذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْأَزْدِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْجِدَالُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ» . وَأَخْرَجَ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْحُجَّةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ وَرَاءِ حُجْرَتِهِ قَوْمٌ يَتَجَادَلُونَ بِالْقُرْآنِ، فَخَرَجَ مُحْمَرَّةً وَجْنَتَاهُ كَأَنَّمَا يَقْطُرَانِ دَمًا فَقَالَ: يَا قوم! لا تجادلوا بالقرآن فَإِنَّمَا ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِجِدَالِهِمْ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِيُكَذِّبَ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَكِنْ نَزَلَ لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا كَانَ مِنْ مُحْكَمِهِ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ مُتَشَابِهِهِ فَآمِنُوا بِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، ثُمَّ قَرَأَ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، والطبراني وابن مردويه عنه مَرْفُوعًا نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَ نَحْوُهُ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ الْآيَةَ. عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخَلَدِيِّ قَالَ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى شَيْءٍ ضَاعَ مِنْهُ رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ بَعْدَ قِرَاءَتِهَا: يَا جَامِعَ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ اجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَ مَالِي، إِنَّكَ على كل شيء قدير» .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 إلى 13]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 13] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا: جِنْسُ الْكَفَرَةِ، وَقِيلَ: وَفْدُ نَجْرَانَ، وَقِيلَ: قُرَيْظَةُ وَقِيلَ: النَّضِيرُ وَقِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: لَنْ يُغْنِيَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِسُكُونِ الْيَاءِ الْآخِرَةِ تَخْفِيفًا. قَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ وَقِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ: مِنْ، بِمَعْنَى عِنْدَ، أَيْ: لَا تُغْنِي عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى بَدَلٍ. وَالْمَعْنَى: بَدَلُ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ الْوَقُودُ: اسْمٌ لِلْحَطَبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. أَيْ: هُمْ حَطَبُ جَهَنَّمَ الَّذِي تُسَعَّرُ بِهِ، وَهُمْ: مُبْتَدَأٌ، وَوَقُودُ: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ: خَبَرُ أُولَئِكَ، أَوْ هُمْ: ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، مُقَرِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَطِلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وُقُودُ بِضَمِّ الْوَاوِ وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَكَذَلِكَ الْوَقُودُ بِفَتْحِ الْوَاوِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْحَطَبِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، لِأَنَّهُ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي تَأْتِي عَلَى وَزْنِ الْفَعُولِ فَتَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ: أَيْ هُمْ أَهْلُ وَقُودِ النَّارِ. قَوْلُهُ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الدَّأْبُ: الِاجْتِهَادُ، يُقَالُ: دَأَبَ الرَّجُلُ في عمله، يدأب، دأبا، ودؤوبا: إِذَا جَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَالدَّائِبَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالدَّأْبُ: الْعَادَةُ وَالشَّأْنُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا ... وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بمأسل والمراد هنا: كعادة آل فرعون وشأنهم وَحَالِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَافِ، فَقِيلَ: هِيَ فِي موضع رفع، تقديره: دأبهم كدأب آلُ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْمَعْنَى: كَفَرَتِ الْعَرَبُ كَكُفْرِ آلِ فِرْعَوْنَ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ مُتَعَلِّقَةً بِكَفَرُوا، لِأَنَّ كَفَرُوا دَاخِلَةٌ فِي الصِّلَةِ وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَخَذَهَمُ اللَّهُ، أَيْ: أَخَذَهُمْ أَخْذَةً كَمَا أَخَذَ آلَ فِرْعَوْنَ وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِلَنْ تُغْنِيَ، أَيْ: لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ غِنَاءً، كَمَا لَمْ تُغْنِ عَنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَامِلَ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ مِنْ لَفْظِ الْوَقُودِ، وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي نَفْسِ الْإِحْرَاقِ. قَالُوا: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا «1» . أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ، وَمِنْهُمُ الْأَزْهَرِيُّ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: مِنْ قَبْلِ آلِ فِرْعَوْنَ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ، أَيْ: وَكَدَأْبِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. قَوْلُهُ: كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ يَحْتَمِلُ: أَنْ يُرِيدَ الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ، وَيَحْتَمِلُ: أَنْ يُرِيدَ الْآيَاتِ الْمَنْصُوبَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْجَمِيعِ. وَالْجُمْلَةُ: بَيَانٌ تفسير لِدَأْبِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، أَيْ: دَأْبُ هَؤُلَاءِ كَدَأْبِ أُولَئِكَ قَدْ كَذَّبُوا إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: بِذُنُوبِهِمْ أَيْ: بِسَائِرِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْذِيبُهُمْ. قَوْلُهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ وقيل: هم مشركو مكة،

_ (1) . غافر: 46، وتمامها النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.

وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: سَتُغْلَبُونَ قُرِئَ: بِالْفَوْقِيَّةِ، وَالتَّحْتِيَّةِ، وَكَذَلِكَ: تُحْشَرُونَ. وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ بِقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، وَفَتْحِ خَيْبَرَ، وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى سَائِرِ الْيَهُودِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قَوْلُهُ: وَبِئْسَ الْمِهادُ يَحْتَمِلُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقوله لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ: أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً تَهْوِيلًا وَتَفْظِيعًا. قَوْلُهُ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ أَيْ: عَلَامَةٌ عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ: جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَهِيَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: كَانَتْ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ ذَكَرَ الْفِعْلَ لِأَجْلِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْمِ بِقَوْلِهِ: لَكُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْفِئَتَيْنِ: الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا الْتَقَوْا يَوْمَ بَدْرٍ. قَوْلُهُ: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِرَفْعِ فِئَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ: «فئة» و «كافرة» بِالْخَفْضِ، فَالرَّفْعُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِحْدَاهُمَا فِئَةٌ. وَقَوْلُهُ: تُقاتِلُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الصِّفَةِ، وَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: فِئَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَأُخْرى أَيْ: وَفِئَةٌ أُخْرَى كَافِرَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. قَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ عَلَى الْحَالِ، أَيِ: الْتَقَتَا مُخْتَلِفَتَيْنِ، مُؤْمِنَةً وَكَافِرَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي وَسُمِّيَتِ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ: فِئَةٌ، لِأَنَّهُ يُفَاءُ إِلَيْهَا أَيْ: يُرْجَعُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ. وَقَالَ الزجاج: الفئة: الفرقة، مأخوذة مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، إِذَا قَطَعْتَهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِئَتَيْنِ هُمَا الْمُقْتَتِلَتَانِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذَا الْخِطَابِ فَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ وَقِيلَ: الْيَهُودُ. وَفَائِدَةُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ تَثْبِيتُ نُفُوسِهِمْ وَتَشْجِيعُهَا، وَفَائِدَتُهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْيَهُودِ عَكْسُ الْفَائِدَةِ الْمَقْصُودَةِ بِخِطَابِ الْمُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرُّؤْيَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: رَأْيَ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يَرَى الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ: بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: مِثْلَيْهِمْ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أن فاعل ترون هم: المؤمنون، والمفعول هم: الكفار. والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين، أي: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ، وَفِيهِ بُعْدٌ أَنْ يُكْثِرَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا: أَنَّهُ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْكُمْ فِي الْعَدَدِ وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِمْ، فَقَلَّلَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهُمْ مِثْلَيْ عُدَّتِهِمْ لِتَقْوَى أَنْفُسُهُمْ. وَقَدْ كَانُوا أُعْلِمُوا أَنَّ الْمِائَةَ مِنْهُمْ تَغْلِبُ الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي مِثْلَيْهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، أَيْ: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَكُمْ مِثْلَيْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ لِتَقْوَى بِذَلِكَ أَنْفُسُكُمْ، وَقَدْ قَالَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ: أَعْنِي: أَنَّ فَاعِلَ الرُّؤْيَةِ الْمُشْرِكُونَ، وَأَنَّهُمْ رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ أَنَّهُ لَا يُنَاقِضُ هَذَا مَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ «1» بَلْ قُلِّلُوا أَوَّلًا فِي أَعْيُنِهِمْ لِيُلَاقُوهُمْ وَيَجْتَرِئُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَاقَوْهُمْ كَثُرُوا فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى غَلَبُوا. قَوْلُهُ: رَأْيَ الْعَيْنِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: تَرَوْنَهُمْ أَيْ: رُؤْيَةً ظَاهِرَةً مَكْشُوفَةً، لَا لَبْسَ فِيهَا وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُقَوِّي مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُقَوِّيَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَأْيِيدُ أَهْلِ بَدْرٍ بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ، إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في

_ (1) . الأنفال: 4.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 إلى 17]

رُؤْيَةِ الْقَلِيلِ كَثِيرًا لَعِبْرَةً فِعْلَةً مِنَ الْعُبُورِ، كَالْجِلْسَةِ مِنَ الْجُلُوسِ. وَالْمُرَادُ الِاتِّعَاظُ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَوْعِظَةٌ جَسِيمَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ قَالَ: كَصَنِيعِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: كَفِعْلِ. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: كَسُنَّتِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَصَابَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ مَا أَصَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَمَعَ الْيَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ! أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِمَا أَصَابَ قُرَيْشًا، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! لَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنْ قَتَلْتَ نَفَرًا كَانُوا غِمَارًا لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ وَاللَّهِ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: لِأُولِي الْأَبْصارِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أبي حاتم، عن عاصم بن عمر عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ فِنْحَاصُّ الْيَهُودِيُّ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ: عِبْرَةٌ وَتَفَكُّرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ وَأُخْرى كافِرَةٌ فِئَةُ قُرَيْشٍ الْكُفَّارُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ يَقُولُ: قَدْ كَانَ لَكُمْ في هؤلاء عبرة وتفكر، أَيَّدَهُمُ اللَّهُ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَكَانَ أَصْحَابُ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْنَاهُمْ يَضْعُفُونَ عَلَيْنَا، ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي التَّخْفِيفِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مِثْلَيْهِمْ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَعِشْرِينَ فأيّد الله المؤمنين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) قَوْلُهُ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ إِلَخْ: كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ حَقَارَةِ مَا تَسْتَلِذُّهُ الأنفس في هَذِهِ الدَّارِ، وَالْمُزَيِّنُ: قِيلَ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وغيره، ويؤيده قوله تعالى:

_ (1) . آل عمران: 12- 13.

إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ «1» . وَقِيلَ: الْمُزَيِّنُ: هُوَ الشَّيْطَانُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، حَكَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ زُيِّنَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْجِنْسُ. وَالشَّهَوَاتُ: جَمْعُ شَهْوَةٍ وَهِيَ: نُزُوعُ النَّفْسِ إِلَى مَا تُرِيدُهُ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُشْتَهَيَاتُ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالشَّهَوَاتِ مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهَا مَرْغُوبًا فِيهَا، أَوْ تَحْقِيرًا لَهَا لِكَوْنِهَا مُسْتَرْذَلَةً عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِنْ صِفَاتِ الطَّبَائِعِ الْبَهِيمِيَّةِ، وَوَجْهُ تَزْيِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهَا ابْتِلَاءُ عِبَادِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. وَقَوْلُهُ: مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، أَيْ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ حَالَ كَوْنِهَا مِنَ النِّسَاءِ والبنين إلخ. وبدأ بالنساء لكثرة تشوق النُّفُوسِ إِلَيْهِنَّ لِأَنَّهُنَّ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ، وَخَصَّ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ لِعَدَمِ الِاطِّرَادِ فِي مَحَبَّتِهِنَّ. وَالْقَنَاطِيرُ: جَمْعُ قِنْطَارٍ، وَهُوَ: اسْمٌ لِلْكَثِيرِ مِنَ الْمَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْقِنْطَارُ مَأْخُوذٌ مِنْ عَقْدِ الشَّيْءِ وَإِحْكَامِهِ: تَقُولُ الْعَرَبُ: قَنْطَرْتُ الشَّيْءَ: إِذَا أَحْكَمْتَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ: الْقَنْطَرَةُ، لِإِحْكَامِهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ عَلَى أَقْوَالٍ لِلسَّلَفِ، سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى: الْمُقَنْطَرَةِ، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهَا الْمُضَعَّفَةُ، وَقَالَ الْقَنَاطِيرُ: ثَلَاثَةٌ، والمقنطرة تسعة. وقال الفراء: القناطير: جمع القنطار، وَالْمُقَنْطَرَةُ: جَمْعُ الْجَمْعِ، فَتَكُونُ تِسْعَ قَنَاطِيرَ وَقِيلَ: الْمُقَنْطَرَةُ: الْمَضْرُوبَةُ وَقِيلَ: الْمُكَمَّلَةُ، كَمَا يُقَالُ: بَدْرَةٌ مُبَدَّرَةٌ، وَأُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَبِهِ قَالَ مَكِّيٌّ وَحَكَاهُ الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَا تَكُونُ الْمُقَنْطَرَةُ أَقَلَّ مِنْ سَبْعِ قَنَاطِيرَ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بَيَانٌ لِلْقَنَاطِيرِ، أَوْ حَالٌ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ قِيلَ هِيَ الْمَرْعِيَّةُ فِي الْمُرُوجِ وَالْمَسَارِحِ، يُقَالُ سَامَتِ الدَّابَّةُ وَالشَّاةُ: إِذَا سَرَحَتْ وَقِيلَ هِيَ الْمُعَدَّةُ لِلْجِهَادِ وَقِيلَ: هِيَ الْحِسَانُ وَقِيلَ: الْمُعَلَّمَةُ، مِنَ السُّومَةِ، وَهِيَ: الْعَلَامَةُ، أَيِ: الَّتِي يُجْعَلُ عَلَيْهَا عَلَامَةٌ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ: الْمُسَوَّمَةُ: الْمُرْسَلَةُ وَعَلَيْهَا رُكْبَانُهَا. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْبُلْقُ. وَالْأَنْعَامُ: هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَإِذَا قُلْتَ نَعَمٌ فَهِيَ الْإِبِلُ خَاصَّةً قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَابْنُ كَيْسَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ: وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسُ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ وَالْحَرْثُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُحْرَثُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الْمَحْرُوثُ، يَقُولُ: حَرَثَ الرَّجُلُ حَرْثًا: إِذَا أَثَارَ الْأَرْضَ، فَيَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ الْحَرْثُ: التَّفْتِيشُ. قَوْلُهُ: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ وَلَا يَبْقَى، وَفِيهِ تَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَتَرْغِيبٌ في الآخرة. والمآب: المرجع آب يؤوب إِيَابًا: إِذَا رَجَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ قوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أَيْ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تِلْكَ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَإِبْهَامُ الْخَيْرِ لِلتَّفْخِيمِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ وَعِنْدَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ جَنَّاتٍ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ اللَّامُ بِخَيْرٍ. وَجَنَّاتٌ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: هُوَ جَنَّاتٌ، وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَا بعده. قوله:

_ (1) . الكهف: 7.

الَّذِينَ يَقُولُونَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَالصَّابِرِينَ وَمَا بَعْدَهُ: نَعْتٌ لِلْمَوْصُولِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ بَدَلًا، أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ خَبَرًا يَكُونُ الصَّابِرِينَ وَمَا بَعْدَهُ: مَنْصُوبَةً عَلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الصَّبْرِ وَالصِّدْقِ وَالْقُنُوتِ. قَوْلُهُ: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ هُمُ السَّائِلُونَ لِلْمَغْفِرَةِ بِالْأَسْحَارِ، وَقِيلَ: الْمُصَلُّونَ. وَالْأَسْحَارُ: جَمْعُ سَحَرٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ حِينِ يُدْبِرُ اللَّيْلُ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَخَصَّ الْأَسْحَارَ لِأَنَّهَا مِنْ أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، لَمَّا نَزَلَتْ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قَالَ: الْآنَ يَا رَبِّ حِينَ زَيَّنْتَهَا لَنَا، فَنَزَلَتْ: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ بِلَفْظِ خَيْرٍ. انْتَهَى إلى قوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ فَبَكَى وَقَالَ: بَعْدَ مَاذَا، بَعْدَ مَاذَا، بَعْدَ مَا زَيَّنْتَهَا؟. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْقِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الوراث عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي بكر ابن أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا أَصَحُّ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ فَقَالَ: «الْقِنْطَارُ أَلْفُ أُوقِيَّةٍ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «الْقِنْطَارُ أَلْفُ أُوقِيَّةٍ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ» . وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وأخرجه ابن جرير مِنْ قَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: الْقِنْطَارُ مِلْءُ مَسْكِ (جِلْدِ) الثَّوْرِ ذَهَبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْقِنْطَارُ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْقِنْطَارُ ثَمَانُونَ أَلْفًا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: الْقِنْطَارُ مِائَةُ رَطْلٍ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: الْقِنْطَارُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ مثقال، والمثال أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ. وَأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمُقَنْطَرَةَ: الْمَضْرُوبَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ قَالَ: الرَّاعِيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: هِيَ الرَّاعِيَةُ وَالْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هِيَ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ. وَأَخْرَجَا عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: تَسْوِيمُهَا: حُسْنُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ الْغِرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: الصَّابِرِينَ قَالَ: قَوْمٌ صَبَرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَصَبَرُوا عَنْ محارمه، وَالصَّادِقِينَ: قَوْمٌ صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ، وَصَدَقُوا في السرّ والعلانية، وَالْقانِتِينَ هم المطيعون وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ أَهْلُ الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 إلى 20]

عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ صَلَاةَ الصُّبْحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَغْفِرَ بِالْأَسْحَارِ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ! أَيُّ اللَّيْلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: يَا دَاوُدُ! مَا أَدْرِي إِلَّا أَنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ فِي السَّحَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخَرِ، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مستغفر فأغفر له؟» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) قَوْلُهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَيْ: بَيَّنَ وَأَعْلَمَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الشَّاهِدُ: هو الذين يعلم الشيء ويبينه، فقد دلنا الله عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِمَا خَلَقَ وَبَيَّنَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: شَهِدَ اللَّهُ بِمَعْنَى: قَضَى، أَيْ: أَعْلَمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مَرْدُودٌ مِنْ جِهَاتٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا شَبَّهَتْ دَلَالَتَهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِأَفْعَالِهِ، ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبينة. وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ: بِأَنَّهُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْبَاءُ، كَمَا فِي: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، أَيْ: بِالْخَيْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّهُ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، بِتَضْمِينِ شَهِدَ مَعْنَى قَالَ. وَقَرَأَ أَبُو الْمُهَلَّبِ: شُهَداءَ لِلَّهِ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الصَّابِرِينَ وَمَا بَعْدَهُ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ وَالْمَلائِكَةُ عَطْفٌ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ، وَشَهَادَتُهُمْ: إِقْرَارُهُمْ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: وَأُولُوا الْعِلْمِ مَعْطُوفٌ أَيْضًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَشَهَادَتُهُمْ: بِمَعْنَى الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، وَمَا يَقَعُ مِنَ الْبَيَانِ لِلنَّاسِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَعْنًى يَشْمَلُ شَهَادَةَ اللَّهِ، وَشَهَادَةَ الْمَلَائِكَةِ، وَأُولِي الْعِلْمِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي: أُولِي الْعِلْمِ هَؤُلَاءِ، مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَقِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ وَقِيلَ: مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ، وَهُوَ الْحَقُّ، إِذْ لَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ. وَفِي ذَلِكَ فضيلة لأهل العلم جليلة، ومنقبة نبيلة لقرنهم بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْعِلْمِ هُنَا: عُلَمَاءُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَتِهِمَا، إِذْ لَا اعْتِدَادَ بِعِلْمٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ. وَقَوْلُهُ: قائِماً بِالْقِسْطِ: أَيِ الْعَدْلِ، أَيْ: قَائِمًا بِالْعَدْلِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ أَوْ مُقِيمًا لَهُ، وَانْتِصَابُ قَائِمًا: عَلَى الْحَالِ مِنَ الِاسْمِ الشَّرِيفِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهَا حال مؤكدة كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «1» وَجَازَ إِفْرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ دُونَ مَا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ لِعَدَمِ اللبس وقيل: إنه منصوب على

_ (1) . البقرة: 91. [.....]

الْمَدْحِ وَقِيلَ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: إِلهَ أَيْ: لَا إِلَهَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا هُوَ، أَوْ هُوَ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا هُوَ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَلَمَّا قطعت نصب كقوله: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «1» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ. وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ تَكْرِيرٌ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كَالدَّعْوَى، وَالْأَخِيرَةُ كَالْحُكْمِ. وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: الْأُولَى: وَصْفٌ وَتَوْحِيدٌ، وَالثَّانِيَةُ: رَسْمٌ وَتَعْلِيمٌ. وَقَوْلُهُ: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مُرْتَفِعَانِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الضَّمِيرِ، أَوِ الْوَصْفِيَّةِ لِفَاعِلِ شَهِدَ، لِتَقْرِيرِ مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ. قَوْلُهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِكَسْرِ إِنَّ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَقُرِئَ: بِفَتْحِ أَنَّ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَنْصِبُهُمَا جَمِيعًا يَعْنِي قَوْلَهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ وَقَوْلَهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ بِمَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ كَذَا وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّ الثَّانِيَةَ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَا فِي الْأَصْلِ مُتَغَايِرَيْنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَمَعْنَى الْإِيمَانِ، وَصَدَّقَهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمِ الْآخَرِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَوْلُهُ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَانَ لِمُجَرَّدِ الْبَغْيِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الدُّخُولُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُمُ الْمُنَزَّلَةُ إِلَيْهِمْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ: هُوَ خِلَافُهُمْ فِي كون نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَبِيًّا أَمْ لَا؟ وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي نُبُوَّةِ عِيسَى وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي ذَاتِ بَيْنِهِمْ، حتى قالت اليهود: ليس النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليس الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ أَيْ: بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فَيُجَازِيهِ، وَيُعَاقِبُهُ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِهِ، وَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ، مَعَ كَوْنِهِ مَقَامَ الْإِضْمَارِ: لِلتَّهْوِيلِ عَلَيْهِمْ وَالتَّهْدِيدِ لَهُمْ. قَوْلُهُ: فَإِنْ حَاجُّوكَ أَيْ: جَادَلُوكَ بِالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَقْوَالِ الْمُحَرَّفَةِ، فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أَيْ: أَخْلَصْتُ ذَاتِي لِلَّهِ، وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنْ سَائِرِ الذَّاتِ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ، وَأَجْمَعَهَا لِلْحَوَاسِّ، وَقِيلَ: الْوَجْهُ هُنَا: بِمَعْنَى الْقَصْدِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنِ اتَّبَعَنِ عَطْفٌ عَلَى فَاعِلِ أَسْلَمْتُ، وَجَازَ لِلْفَصْلِ، وَأَثْبَتَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ الْيَاءَ فِي: اتَّبَعَنِ، عَلَى الْأَصْلِ وَحَذَفَهَا الْآخَرُونَ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى: مَعَ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمِّيِّينَ هُنَا: مشركو العرب. وقوله: أَأَسْلَمْتُمْ استفهام تقرير يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ، أَيْ: أَسْلِمُوا، كَذَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَأَسْلَمْتُمْ تَهْدِيدٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَدْ أَتَاكُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ مَا يُوجِبُ الإسلام، فهل عملتم بِمُوجِبِ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ تَبْكِيتًا لَهُمْ وَتَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ فِي الْإِنْصَافِ وَقَبُولِ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: فَقَدِ اهْتَدَوْا أَيْ: ظَفِرُوا بِالْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ الْحَظُّ الْأَكْبَرُ، وَفَازُوا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الْحُجَّةِ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمُوجِبِهَا: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أَيْ: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُبْلِغَهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَلَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر، فلا

_ (1) . النحل: 52.

تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَالْبَلَاغُ: مَصْدَرٌ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فِيهِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ، لِتَضَمُّنِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: قائِماً بِالْقِسْطِ قَالَ: بِالْعَدْلِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قَالَ: الْإِسْلَامُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَ لِنَفْسِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءَهُ، لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا إِلَّا بِالْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ صَنَمٍ، لِكُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ صَنَمٌ أَوْ صَنَمَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْآيَةَ، فَأَصْبَحَتِ الْأَصْنَامُ كُلُّهَا قَدْ خَرَّتْ سُجَّدًا لِلْكَعْبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَأَبُو مَنْصُورٍ الشَّحَامِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَالْآيَتَيْنِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ «1» إِلَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ «2» هُنَّ مُعَلَّقَاتٌ بِالْعَرْشِ مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ، يَقُلْنَ يَا رَبِّ تَهَبَّطْنَا إِلَى أَرْضِكَ وَإِلَى مَنْ يَعْصِيكَ؟ قَالَ اللَّهُ: إِنِّي حَلَفْتُ لَا يَقْرَؤُكُنَّ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَإِلَّا أَسْكَنْتُهُ حَظِيرَةَ الْقُدُسِ، وَإِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنِي الْمَكْنُونَةِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ نَظْرَةً، وَإِلَّا قَضَيْتُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ حَاجَةً أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ، وَإِلَّا أَعَذْتُهُ مِنْ كُلِّ عَدُّوٍ وَنَصَرْتُهُ مِنْهُ» . وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وفيه: «لا يتلو كنّ عَبْدٌ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ إِلَّا غَفَرْتُ لَهُ مَا كَانَ مِنْهُ، وَأَسْكَنْتُهُ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَقَضَيْتُ لَهُ سَبْعِينَ حَاجَةً أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَةَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَقَالَ: وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» وَلَفْظُ الطَّبَرَانِيِّ: «وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَضَعَّفَهُ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ قَالَ: أَتَيْتُ الْكُوفَةَ فِي تجارة فنزلت قريبا من الأعمش، فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام فتهجد من الليل فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ «3» شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فَقَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ بِهِ اللَّهُ، وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لِي وَدِيعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَهَا مِرَارًا، فَقُلْتُ: لَقَدْ سَمِعَ فِيهَا شَيْئًا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:

_ (1) . آل عمران: 26. (2) . آل عمران: 27. (3) . الصواب: الآيتين.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 إلى 25]

«يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ: عَبْدِي عَهِدَ إِلَيَّ وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِالْعَهْدِ أَدْخِلُوا عَبْدِيَ الْجَنَّةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَالَ: بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: بَغْياً بَيْنَهُمْ يَقُولُ: بَغْيًا عَلَى الدُّنْيَا وَطَلَبِ مُلْكِهَا وَسُلْطَانِهَا، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الدُّنْيَا مِنْ بَعْدِ مَا كَانُوا عُلَمَاءَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ قَالَ: إِنْ حَاجَّكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْأُمِّيِّينَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يكتبون. [سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 25] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قَوْلُهُ: بِآياتِ اللَّهِ ظَاهِرُهُ: عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ آيَةٍ وَآيَةٍ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَعْنِي: الْيَهُودَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ أَيْ: بِالْعَدْلِ. وَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَانَ نَاسٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُمُ النَّبِيُّونَ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَتَلُوهُمْ، فَقَامَ أُنَاسٌ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَرُوهُمْ بِالْإِسْلَامِ، فَقَتَلُوهُمْ. فَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَوْلُهُ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ إِلَخْ، وَدَخَلَتْهُ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ النَّحْوِ: إِلَى أَنَّ الْخَبَرَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَقَالُوا إِنَّ الْفَاءَ لَا تَدْخُلُ فِي خَبَرِ إِنَّ وَإِنْ تَضَمَّنَ اسْمُهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ قَدْ نُسِخَ بِدُخُولِ إِنَّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ سِيبَوَيْهِ، وَالْأَخْفَشُ وَذَهَبَ غَيْرُهُمَا: إِلَى أَنَّ مَا يَتَضَمَّنُهُ الْمُبْتَدَأُ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَا يُنْسَخُ بِدُخُولِ إِنَّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ الْمَكْسُورَةِ الْمَفْتُوحَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ «1» . وَقَوْلُهُ: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِحْبَاطِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا حَبِطَتْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِحَسَنَاتِهِمْ أَثَرٌ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُعَامَلُوا فِيهَا مُعَامَلَةُ أَهْلِ الْحَسَنَاتِ، بَلْ عُومِلُوا مُعَامَلَةَ أَهْلِ السَّيِّئَاتِ، فَلُعِنُوا، وَحَلَّ بِهِمُ الْخِزْيُ وَالصَّغَارُ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ. قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فِيهِ تَعْجِيبٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِكُلِّ مَنْ تَصِحُّ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ: أَحْبَارُ الْيَهُودِ. وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، وَتَنْكِيرُ النَّصِيبِ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: نَصِيبًا عَظِيمًا، كَمَا يُفِيدُهُ مَقَامَ الْمُبَالَغَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّحْقِيرِ فَلَمْ يُصِبْ. فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ، وَذَلِكَ بأنهم

_ (1) . الأنفال: 41.

يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ الذي أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ وَهُوَ التَّوْرَاةُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ والحال مُعْرِضُونَ عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى مَا دُعُوا إِلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ، وذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا مَرَّ مِنَ التَّوَلِّي والإعراض بسبب بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَهِيَ مِقْدَارُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ مِنَ الْأَكَاذِيبِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا الْقَوْلُ. قَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ هُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالٌ لِمَا غَرَّهُمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ، أَيْ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ الَّذِي لَا يَرْتَابُ مُرْتَابٌ فِي وُقُوعِهِ؟، فَإِنَّهُمْ يَقَعُونَ لَا مَحَالَةَ، وَيَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِهِ بِالْحِيَلِ وَالْأَكَاذِيبِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أَيْ: جَزَاءَ مَا كَسَبَتْ، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ. وَالْمُرَادُ: كُلُّ النَّاسِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ نَفْسٍ قَالَ الْكِسَائِيُّ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَوْمٍ بِمَعْنَى: فِي، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْمَعْنَى: لِحِسَابِ يَوْمٍ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى: لِمَا يَحْدُثُ فِي يَوْمٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ رَجُلًا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ! قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا أَوَّلَ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: بَعَثَ عِيسَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، فَكَانَ يَنْهَى عَنْ نِكَاحِ بِنْتِ الْأَخِ، وَكَانَ مَلِكٌ لَهُ بِنْتُ أَخٍ تُعْجِبُهُ فَأَرَادَهَا وَجَعَلَ يَقْضِي لَهَا كُلَّ يَوْمٍ حَاجَةً، فَقَالَتْ لَهَا أُمُّهَا: إِذَا سَأَلَكِ عَنْ حَاجَةٍ فَقُولِي حَاجَتِي أَنْ تَقْتُلَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَقَالَ: سَلِي غَيْرَ هَذَا، فَقَالَتْ: لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَ هَذَا، فَلَمَّا أَبَتْ أَمَرَ بِهِ فَذُبِحَ فِي طَسْتٍ، فَبَدَرَتْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ بُخَتُنَصَّرَ، فَدَلَّتْ عَجُوزٌ عَلَيْهِ، فَأَلْقَى فِي نَفْسِهِ أَنْ لَا يَزَالَ يَقْتُلُ حَتَّى يَسْكُنَ هَذَا الدَّمُ، فَقَتَلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ وَسِنٍّ وَاحِدٍ سَبْعِينَ أَلْفًا فَسَكَنَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن معقل ابن أَبِي مِسْكِينٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الْوَحْيُ يَأْتِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِمْ كِتَابٌ، فَيَقُومُ رِجَالٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ وَصَدَّقَهُمْ فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ، فَيُقْتَلُونَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ: وُلَاةُ الْعَدْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ يَهُودَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَتَيْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: «عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ» قَالَ: فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا. قَالَ لهما النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «فَهَلُمَّا إِلَى التَّوْرَاةِ فَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» فَأَبَيَا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً

[سورة آل عمران (3) : الآيات 26 إلى 27]

مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: نَصِيباً قَالَ: حَظًّا مِنَ الْكِتابِ قَالَ: التَّوْرَاةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قَالَ: يَعْنُونَ الْأَيَّامَ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا آدَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ حِينَ قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ يَعْنِي تُوَفَّى كُلُّ نَفْسِ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ مَا كَسَبَتْ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ يعني: من أعمالهم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27] قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُمَّ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجَمِيعُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنْ أَصْلَ اللَّهُمَّ يَا اللَّهُ، فَلَمَّا اسْتُعْمِلَتِ الْكَلِمَةُ دُونَ حرف النداء الَّذِي هُوَ «يَا» جَعَلُوا بَدَلَهُ هَذِهِ الْمِيمَ المشددة، فجاؤوا بِحَرْفَيْنِ وَهُمَا الْمِيمَانِ عِوَضًا مِنْ حَرْفَيْنِ وَهُمَا الْيَاءُ وَالْأَلِفُ وَالضَّمَّةُ فِي الْهَاءِ: هِيَ ضَمَّةُ الِاسْمِ الْمُنَادَى الْمُفْرَدِ. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَالْكُوفِيُّونَ: إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّهُمَّ يَا اللَّهُ أُمَّنَا بخير، فحذف وخلط الكلمتين وَالضَّمَّةُ الَّتِي فِي الْهَاءِ: هِيَ الضَّمَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي أُمَّنَا، لَمَّا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ انْتَقَلَتِ الحركة. قال النحاس: هذا عند الكوفيين مِنَ الْخَطَأِ الْعَظِيمِ، وَالْقَوْلُ فِي هَذَا: مَا قاله الخليل وسيبويه. وقال الْكُوفِيُّونَ: وَقَدْ يُدْخَلُ حَرْفُ النِّدَاءِ عَلَى اللَّهُمَّ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الرَّاجِزِ: غَفَرْتَ أَوْ عَذَّبْتَ يَا اللَّهُمَّا وَقَوْلَ الْآخَرِ: وَمَا عَلَيْكَ أن تقولي كلّما ... سبّحت أو هلّلت يا اللهمّ ما وَقَوْلَ الْآخَرِ: إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا ... أقول يا اللهمّ يا اللهمّا قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْمِيمُ عِوَضًا مِنْ حَرْفِ النداء لما اجتمعا. قال الزجاج: هذا شَاذٌّ لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ، فَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ. قَوْلُهُ: مالِكَ الْمُلْكِ أَيْ: مَالِكَ جِنْسِ الْمُلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَالِكَ: مَنْصُوبٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ نِدَاءٌ ثَانٍ، أَيْ: يَا مَالِكَ الْمُلْكِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ لِأَنَّ الْمِيمَ عِنْدَهُ تَمْنَعُ الْوَصْفِيَّةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ، وَمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ أَصْوَبُ وَأَبْيَنُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسم مفرد ضم إليه

_ (1) . الزمر: 46.

صَوْتٌ، وَالْأَصْوَاتُ لَا تُوصَفُ، نَحْوَ: غَاقْ وَمَا أَشْبَهَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى مَالِكُ الْعِبَادِ وَمَا مَلَكُوا وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَالِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقِيلَ: الْمُلْكُ هُنَا: النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: الْغَلَبَةُ وَقِيلَ: الْمَالُ وَالْعَبِيدُ. وَالظَّاهِرُ شُمُولُهُ لِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُلْكِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أَيْ: مَنْ تَشَاءُ إِيتَاءَهُ إِيَّاهُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ نَزْعَهُ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِمَا يُؤْتِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَيَنْزِعُهُ: هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْمُلْكِ الْعَامِّ. قَوْلُهُ: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا، يُقَالُ: عَزَّ، إِذَا غَلَبَ، وَمِنْهُ: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «1» وَقَوْلُهُ: وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا، يُقَالُ: ذَلَّ ذُلًّا، إِذَا غَلَبَ وَقَهَرَ. قَوْلُهُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلتَّخْصِيصِ، أَيْ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ لَا بِيَدِ غَيْرِكَ، وَذَكَرَ الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ: لِأَنَّ الْخَيْرَ بِفَضْلٍ مَحْضٍ، بِخِلَافِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ يَكُونُ جَزَاءً لِعَمَلٍ وُصِلَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ شَرٍّ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مِنْ قَضَائِهِ سُبْحَانَهُ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْخَيْرِ، فَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا خَيْرٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ حُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» وَأَصْلُهُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَقِيلَ: خَصَّ الْخَيْرَ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ دُعَاءٍ. قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: تَعْلِيلٌ لِمَا سَبَقَ وَتَحْقِيقٌ لَهُ. قَوْلُهُ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أَيْ: تُدْخِلُ مَا نَقَصَ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: تُعَاقِبُ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ زَوَالُ أَحَدِهِمَا وُلُوجًا فِي الْآخَرِ. قَوْلُهُ: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قِيلَ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُ الْحَيَوَانِ وَهُوَ حَيٌّ مِنَ النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ، وَإِخْرَاجُ النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ مِنَ الْحَيَوَانِ وَهُوَ حَيٌّ وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُ الطَّائِرِ وَهُوَ حَيٌّ مِنَ الْبَيْضَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ، وَإِخْرَاجُ الْبَيْضَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ مِنَ الدَّجَاجَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ. قَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ: بِغَيْرِ تَضْيِيقٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يُعْطِي بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْبَاءُ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ فِي أُمَّتِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذٍ: «أَنَّهُ شَكَا إِلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ أَنْ يَتْلُوَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ يَقُولَ: رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا، تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُمَا وَتَمْنَعُ مَنْ تَشَاءُ، ارْحَمْنِي رَحْمَةً تُغْنِينِي بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ، اللَّهُمَّ أَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ وَاقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ» . وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: «أَلَا أُعَلِّمَكَ دُعَاءً تَدْعُو بِهِ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ دَيْنًا لَأَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ» فَذَكَرَهُ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ «3» بَعْضُ فَضَائِلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ قَالَ: النُّبُوَّةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ الْآيَةَ، قَالَ: تَأْخُذُ الصَّيْفَ مِنَ الشِّتَاءِ، وَتَأْخُذُ الشِّتَاءَ مِنَ الصَّيْفِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ تُخْرِجُ الرَّجُلَ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ تُخْرِجُ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الرَّجُلِ الحيّ. وأخرج عبد بن حميد، وابن

_ (1) . ص: 23. (2) . النحل: 81. (3) . آل عمران: 18.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 28 إلى 30]

جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ قَالَ: مَا نَقَصَ مِنَ النَّهَارِ تَجْعَلُهُ فِي اللَّيْلِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ اللَّيْلِ تَجْعَلُهُ فِي النَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قَالَ: تُخْرِجُ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الْحَيِّ، ثُمَّ تُخْرِجُ مِنَ النُّطْفَةِ بَشَرًا حَيًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قَالَ: هِيَ الْبَيْضَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحَيِّ وَهِيَ مَيْتَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا الْحَيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: النَّخْلَةُ مِنَ النَّوَاةِ، وَالنَّوَاةُ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالْحَبَّةُ مِنَ السُّنْبُلَةِ، وَالسُّنْبُلَةُ مِنَ الْحَبَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ. وَالْمُؤْمِنُ عَبْدٌ حَيُّ الْفُؤَادِ، وَالْكَافِرُ عَبْدٌ مَيِّتُ الْفُؤَادِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْهُ، أَوْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ خَالِدَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قِيلَ: خَالِدَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ، قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً، وَكَانَ أَبُوهَا كَافِرًا. وأخرج ابن سعد عن عائشة مثله. [سورة آل عمران (3) : الآيات 28 الى 30] لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قَوْلُهُ: لَا يَتَّخِذِ فِيهِ النَّهْيُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ «1» الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ «2» وقوله: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «3» الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «4» ، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ «5» . وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، أَيْ: مُتَجَاوِزِينَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكَافِرِينَ اسْتِقْلَالًا أَوِ اشْتِرَاكًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إِلَى الاتخاذ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أَيْ: مِنْ وِلَايَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ هُوَ مُنْسَلِخٌ عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ. قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً عَلَى صِيغَةِ الْخِطَابِ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ أَمْرًا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ. وَتُقَاةٌ: مَصْدَرٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ، وَأَصْلُهَا: وِقْيَةٌ، عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً وَالْيَاءُ أَلِفًا، وَقَرَأَ رَجَاءٌ، وَقَتَادَةُ تَقِيَّةً. وَفِي ذلك دليل على

_ (1) . آل عمران: 118. (2) . المائدة: 51. (3) . المجادلة: 22. (4) . المائدة: 51. (5) . الممتحنة: 1. [.....]

جَوَازِ الْمُوَالَاةِ لَهُمْ مَعَ الْخَوْفِ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ، فَقَالُوا: لَا تَقِيَّةَ بَعْدَ أَنْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ. قَوْلُهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أَيْ: ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ، وَإِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ جَائِزٌ فِي الْمُشَاكَلَةِ كَقَوْلِهِ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ «1» وَفِي غَيْرِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. إِلَى مَنْعِ ذَلِكَ إِلَّا مُشَاكَلَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ اسْتَغْنَوْا عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا وَصَارَ الْمُسْتَعْمَلَ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ فَمَعْنَاهُ: تَعْلَمُ مَا عِنْدِي وَمَا فِي حَقِيقَتِي وَلَا أَعْلَمُ مَا عِنْدَكَ وَلَا مَا فِي حَقِيقَتِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَاهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ الله عقابه مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» فَجُعِلَتِ النَّفْسُ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَتَخْوِيفٌ عَظِيمٌ لِعِبَادِهِ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِعِقَابِهِ بِمُوَالَاةِ أَعْدَائِهِ. قَوْلُهُ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ الْآيَةَ، فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُضْمِرُهُ الْعَبْدُ وَيُخْفِيهِ، أَوْ يُظْهِرُهُ وَيُبْدِيهِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِمَّا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُخْفُونَهَا أَوْ يُبْدُونَهَا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: يَوْمَ تَجِدُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ، أي: اذكر، ومُحْضَراً حَالٌ، وَقَوْلُهُ: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا الْأُولَى، أَيْ: وَتَجِدُ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مُحْضَرًا تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا. فَحَذَفَ مُحْضَرًا لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ تَجِدُ مِنْ وِجْدَانِ الضَّالَّةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ: وَجَدَ، بِمَعْنَى: عَلِمَ، كَانَ مُحْضَرًا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، وَيَكُونُ مَا فِي: مَا عَمِلَتْ، مُبْتَدَأٌ، وَيَوَدُّ خَبَرُهُ. وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ، وَجَمْعُهُ آمَادٌ، أَيْ: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَمِلَتْ مِنَ السُّوءِ أَمَدًا بَعِيدًا وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ تَجِدُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: تَوَدُّ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَبَيْنَهُ لِلْيَوْمِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ لِلتَّأْكِيدِ وَلِلِاسْتِحْضَارِ لِيَكُونَ هَذَا التَّهْدِيدُ الْعَظِيمُ عَلَى ذِكْرٍ مِنْهُمْ، وَفِي قوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْذِيرَ الشَّدِيدَ مُقْتَرِنٌ بِالرَّأْفَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ لُطْفًا بِهِمْ. وَمَا أَحْسَنَ مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَمُوتُ وَتُبْعَثُ وَتَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ: أَتُهَدِّدُونَنِي بِمَنْ لَمْ أَرَ الْخَيْرَ قَطُّ إِلَّا مِنْهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو حَلِيفَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَقَيْسِ بْنِ زَيْدٍ قَدْ بَطَّنُوا بِنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ خثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النَّفَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ قَالَ: نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّارَ وَيَتَّخِذُوهُمْ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ ظَاهِرِينَ فَيُظْهِرُونَ لَهُمُ اللُّطْفَ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فقد برىء الله منه. وأخرج

_ (1) . المائدة: 116. (2) . يوسف: 82.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 31 إلى 34]

ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قَالَ: التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ: مَنْ حُمِلَ عَلَى أَمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَهُوَ معصية لله فَيَتَكَلَّمُ بِهِ مَخَافَةَ النَّاسِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ، إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: التُّقَاةُ: التَّكَلُّمُ بِاللِّسَانِ، وَالْقَلْبُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَا يَبْسُطُ يَدَهُ فَيَقْتُلُ وَلَا إِلَى إِثْمٍ فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي الْعَالِيَةِ فِي الْآيَةِ قَالَ: التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ، وَلَيْسَ بِالْعَمَلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قَالَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ فَتَصِلُهُ لِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا نَبَشُّ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّقِيَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «1» وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ التَّقِيَّةِ بِاللِّسَانِ: أَبُو الشَّعْثَاءِ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا الْآيَةَ قَالَ: أَخْبَرَهُمْ: أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا أَسَرُّوا وَمَا أَعْلَنُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مُحْضَرًا: يَقُولُ: مُوَفَّرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسُرُّ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَلْقَى عَمَلَهُ ذَلِكَ أَبَدًا، يَكُونُ ذَلِكَ مُنَاهُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ كَانَتْ خَطِيئَتُهُ يَسْتَلِذِّهَا. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَداً بَعِيداً قَالَ: مَكَانًا بَعِيدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَمَدًا قَالَ: أَجَلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ قَالَ: مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ حَذَّرَهُمْ نَفْسَهُ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 34] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) الْحُبُّ وَالْمَحَبَّةُ: مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَحَبَّهُ فَهُوَ مُحِبٌّ، وَحَبَّهُ يَحِبُّهُ بِالْكَسْرِ، فَهُوَ مَحْبُوبٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهَذَا شَاذٌّ، لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي فِي الْمُضَاعَفِ يَفْعِلُ بِالْكَسْرِ. قَالَ ابْنُ الدِّهَانِ: فِي حَبَّ لُغَتَانِ: حَبَّ، وَأَحَبَّ، وأصل حبّ في هذه الْبَابِ: حَبَبَ، كَطَرَقَ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْمَحَبَّةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِرَادَةِ طَاعَتِهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: طَاعَتُهُ لَهُمَا وَاتِّبَاعُهُ أَمْرَهُمَا، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لِلْعِبَادِ: إِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ بِالْغُفْرَانِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: فَاتَّبِعُونِي بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ أبي عمرة بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ أَدْغَمَ الرَّاءَ مِنْ يَغْفِرْ فِي اللَّامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يُجِيزُ الْخَلِيلُ وسيبويه إدغام الراء في اللام، وأبو عمرة أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَغْلَطَ فِي هَذَا، وَلَعَلَّهُ كان يخفي الحركة كما يفعل في أَشْيَاءَ كَثِيرَةً. قَوْلُهُ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ، أَيْ: في جميع الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا يَحْتَمِلُ أَنْ يكون من تمام مقول القول،

_ (1) . النحل: 106.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 35 إلى 37]

فيكون مضارعا حذفت فيه إحدى التاءين: أي تتولوا، ويحتمل أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ مَاضِيًا. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ نَفْيُ الْمَحَبَّةِ كِنَايَةٌ عَنِ الْبُغْضِ وَالسُّخْطِ. وَوَجْهُ الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ كَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ إِضْمَارٍ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ أَوِ التَّعْمِيمِ. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ إِلَخْ. لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ بَيَانِ أَنَّ الدِّينَ الْمَرْضِيَّ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِبَّ اللَّهَ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِ، وَأَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الْبَغْيِ عَلَيْهِ وَالْحَسَدِ لَهُ، شَرَعَ فِي تَقْرِيرِ رِسَالَةِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ. وَالِاصْطِفَاءُ: الِاخْتِيَارُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اخْتَارَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيِ: اصْطَفَى دِينَ آدَمَ، إِلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ الْعَالَمِينَ، وَتَخْصِيصُ آدَمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ، وَكَذَلِكَ نُوحٌ، فَإِنَّهُ آدَمُ الثَّانِي، وَأَمَّا آلُ إِبْرَاهِيمَ، فلكون النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مَعَ كَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا آلُ عِمْرَانَ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ كَانَ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ وَجْهٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِآلِ إِبْرَاهِيمَ: إِبْرَاهِيمُ نَفْسُهُ، وَبِآلِ عِمْرَانَ: عِمْرَانُ نَفْسُهُ. قَوْلُهُ: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ نَصْبُ ذَرِّيَّةً عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِمَّا قَبْلَهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ: أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الذُّرِّيَّةِ، وَبَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى صِفَةِ الذُّرِّيَّةِ، وَمَعْنَاهُ: مُتَنَاسِلَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ، أَوْ مُتَنَاصِرَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ فِي الدِّينِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أبي حاتم عن الْحَسَنِ مِنْ طُرُقٍ قَالَ: قَالَ أَقْوَامٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ! إِنَّا لِنُحِبُّ رَبَّنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ أَيْ: إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِكُمْ فِي عِيسَى حُبًّا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أَيْ: مَا مَضَى مِنْ كُفْرِكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَآلِ يَاسِينَ، وَآلِ مُحَمَّدٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ قَالَ فِي النية والعمل، والإخلاص والتوحيد. [سورة آل عمران (3) : الآيات 35 الى 37] إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) قَوْلُهُ: إِذْ قالَتِ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِذْ زَائِدَةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ إِذْ قَالَتْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: اصْطَفى وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: سَمِيعٌ عَلِيمٌ

وَامْرَأَةُ عِمْرَانَ اسْمُهَا: حَنَّةُ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، بِنْتُ فَاقُودَ بْنِ قُبَيْلٍ أُمُّ مَرْيَمَ، فَهِيَ جَدَّةُ عِيسَى. وَعِمْرَانُ: هُوَ ابْنُ مَاثَانَ جَدُّ عِيسَى. قَوْلُهُ: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي تَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ، وَهَذَا النَّذْرُ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ. وَمَعْنَى: لَكَ أَيْ: لِعِبَادَتِكَ. وَمُحَرَّرًا: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: عَتِيقًا خَالِصًا لِلَّهِ خَادِمًا لِلْكَنِيسَةِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْحُرِّيَّةُ الَّتِي هِيَ ضِدُّ الْعُبُودِيَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُحَرَّرِ هُنَا: الْخَالِصُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، الَّذِي لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَرَجَّحَ هَذَا بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ عِمْرَانَ وَامْرَأَتَهُ حُرَّانِ. قَوْلُهُ: فَتَقَبَّلْ مِنِّي التَّقَبُّلُ: أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا، أَيْ: تَقَبَّلْ مِنِّي نَذْرِي بِمَا فِي بَطْنِي. قَوْلُهُ: فَلَمَّا وَضَعَتْها التَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ مَا عُلِمَ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّ الَّذِي فِي بَطْنِهَا أُنْثَى، أَوْ لِكَوْنِهِ أُنْثَى فِي عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ بِتَأْوِيلِ مَا فِي بَطْنِهَا بِالنَّفْسِ أَوِ النَّسَمَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى إِنَّمَا قَالَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُقْبَلُ فِي النَّذْرِ إِلَّا الذَّكَرُ دُونَ الْأُنْثَى، فَكَأَنَّهَا تَحَسَّرَتْ وَتَحَزَّنَتْ لِمَا فَاتَهَا مِنْ ذَلِكَ الَّذِي كَانَتْ تَرْجُوهُ وَتُقَدِّرُهُ، وَأُنْثَى: حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ مِنَ الضَّمِيرِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، بِضَمِّ التَّاءِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهَا وَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ، وَفِيهِ مَعْنَى: التَّسْلِيمِ لِلَّهِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّنْزِيهِ لَهُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَضَعَتْ، فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لِمَا وَضَعَتْهُ، وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهِ، وَالتَّجْلِيلِ لَهَا، حَيْثُ وَقَعَ مِنْهَا التَّحَسُّرُ وَالتَّحَزُّنُ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأُنْثَى الَّتِي وَضَعَتْهَا سَيَجْعَلُهَا اللَّهُ وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ وَعِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَيَخْتَصُّهَا بِمَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِما وَضَعَتْ بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهَا، أَيْ: إِنَّكِ لَا تَعْلَمِينَ قَدْرَ هَذَا الْمَوْهُوبِ، وَمَا عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَقَاصَرُ عَنْهَا الْأَفْهَامُ، وَتَتَضَافَرُ عِنْدَهَا الْعُقُولُ. قَوْلُهُ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى أَيْ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبَتْ كَالْأُنْثَى الَّتِي وَضَعَتْ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا أَرَادَتْ مِنْ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا خَادِمًا لِلْكَنِيسَةِ، وَأَمْرُ هَذِهِ الْأُنْثَى عَظِيمٌ وَشَأْنُهَا فَخِيمٌ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ تَعْظِيمِ الْمَوْضُوعِ وَرَفْعِ شَأْنِهِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ، وَاللَّامُ فِي: الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِلْعَهْدِ، هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهَا وَمِنْ تَمَامِ تَحَسُّرِهَا وَتَحَزُّنِهَا، أَيْ: لَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا، وَيَصْلُحُ لِلنُّذُرِ، كَالْأُنْثَى الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَكَأَنَّهَا أَعْذَرَتْ إِلَى رَبِّهَا مِنْ وُجُودِهَا لَهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَصَدَتْ. قَوْلُهُ: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ عَطْفٌ عَلَى إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَمَقْصُودُهَا مِنْ هَذَا الْإِخْبَارِ بِالتَّسْمِيَةِ: التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا مُطَابِقًا لِمَعْنَى اسْمِهَا، فَإِنَّ مَعْنَى مَرْيَمَ خَادِمُ الرَّبِّ بِلُغَتِهِمْ، فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِخِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْعَابِدَاتِ. قَوْلُهُ: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ، وَالرَّجِيمُ الْمَطْرُودُ، وَأَصْلُهُ الْمَرْمِيُّ بِالْحِجَارَةِ، طَلَبَتِ الْإِعَاذَةَ لَهَا وَلِوَلَدِهَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَأَعْوَانِهِ. قَوْلُهُ: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ أَيْ: رَضِيَ بِهَا فِي النُّذُرِ، وَسَلَكَ بِهَا مَسْلَكَ السُّعَدَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى التَّقَبُّلِ التَّكَفُّلُ وَالتَّرْبِيَةُ وَالْقِيَامُ بِشَأْنِهَا، وَالْقَبُولُ: مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ السَّابِقِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْأَصْلُ: تَقَبُّلًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَأَصْلُهُ: إِنْبَاتًا،

فَحُذِفَ الْحَرْفُ الزَّائِدُ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَنَبَتَتْ نَبَاتًا حَسَنًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سَوَّى خَلْقَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ قِيلَ، إِنَّهَا كَانَتْ تَنْبُتُ فِي الْيَوْمِ مَا يَنْبُتُ الْمَوْلُودُ فِي عَامٍ وَقِيلَ هُوَ مَجَازٌ عَنِ التَّرْبِيَةِ الْحَسَنَةِ الْعَائِدَةِ عَلَيْهَا بِمَا يُصْلِحُهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا، قَوْلُهُ: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أَيْ: ضَمَّهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضَمِنَ الْقِيَامَ بِهَا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَكَفَّلَها بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: جَعَلَهُ اللَّهُ كَافِلًا لَهَا وَمُلْتَزِمًا بِمَصَالِحِهَا، وَفِي مَعْنَاهُ: مَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَأَكْفَلَهَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالتَّخْفِيفِ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى زَكَرِيَّا، وَمَعْنَاهُ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ ضَمَّهَا إِلَيْهِ وَضَمِنَ الْقِيَامَ بِهَا. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ مُوسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزمني: وَكَفِلَهَا بِكَسْرِ الْفَاءِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: لَمْ أَسْمَعْ كفل. وقرأ مجاهد فتقبلها بإسكان اللام، على المسألة والطلب، ونصب ربها على أنه مُنَادَى مُضَافٌ. وَقَرَأَ أَيْضًا وَأَنْبِتْهَا بِإِسْكَانِ التَّاءِ وَكَفِّلْهَا بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَنَصَبَ زكرياء مَعَ الْمَدِّ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: زَكَرِيَّا بِغَيْرِ مَدٍّ، وَمَدَّهُ الْبَاقُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَمُدُّونَ زَكَرِيَّا وَيَقْصُرُونَهُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: فِيهِ لغات: المد والقصر، وزكريّا: بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيفِ مَعَ أَلِفِ التَّأْنِيثِ. قَوْلُهُ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ قُدِّمَ الظَّرْفُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَكَلِمَةُ: كُلَّ: ظَرْفٌ، وَالزَّمَانُ مَحْذُوفٌ، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَالْعَامِلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَجَدَ أَيْ: كُلَّ زَمَانِ دُخُولِهِ عَلَيْهَا وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا، أَيْ: نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ. وَالْمِحْرَابُ فِي اللُّغَةِ: أَكْرَمُ مَوْضِعٍ فِي الْمَجْلِسِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّوَسُّعِ قِيلَ: إِنَّ زَكَرِيَّا جَعَلَ لَهَا مِحْرَابًا: لَا يرتقى إليه إلا بسلم، وكان يغلق عَلَيْهَا حَتَّى كَبِرَتْ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا وَجَدَ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ وَفَاكِهَةَ الصيف في الشتاء، فقال: يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا أَيْ: مِنْ أَيْنَ يَجِيءُ لَكَ هَذَا الرِّزْقُ الَّذِي لَا يُشْبِهُ أَرْزَاقَ الدُّنْيَا؟ قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَجِيبٍ وَلَا مُسْتَنْكَرٍ، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تَعْلِيلِيَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِهَا، وَمَنْ قال إنه كَلَامِ زَكَرِيَّا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً قَالَ: كَانَتْ نَذَرَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي الْكَنِيسَةِ يَتَعَبَّدُ بِهَا، وَكَانَتْ تَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: نَذَرَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ مُحَرَّرًا لِلْعِبَادَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أبي حاتم عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مُحَرَّراً قَالَ: خَادِمًا لِلْبَيْعَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مُحَرَّرًا خَالِصًا لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُوَلَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» . وَلِلْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا أَحُدُهَا، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا الْمِحْرَابَ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا عِنَبًا فِي مِكْتَلٍ فِي غَيْرِ حِينِهِ، فَقَالَ: أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ الَّذِي يَرْزُقُكِ الْعِنَبَ فِي غَيْرِ حِينِهِ لَقَادِرٌ أَنْ يَرْزُقَنِي مِنَ الْعَاقِرِ الْكَبِيرِ الْعَقِيمِ وَلَدًا هُنالِكَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 38 إلى 44]

دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ مَرْيَمُ ابْنَةَ سَيِّدِهِمْ وَإِمَامِهِمْ، فَتَشَاحَّ عَلَيْهَا أَحْبَارُهُمْ فَاقْتَرَعُوا فِيهَا بِسِهَامِهِمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا، وَكَانَ زَكَرِيَّا زَوْجَ أُخْتِهَا، فَكَفَلَهَا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ وَحَضَنَهَا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا قَالَ: جَعَلَهَا مَعَهُ فِي مِحْرَابِهِ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 44] هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) قَوْلُهُ: هُنالِكَ ظَرْفٌ يُسْتَعْمَلُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَصْلُهُ لِلْمَكَانِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلزَّمَانِ خَاصَّةً، وَهُنَاكَ لِلْمَكَانِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، وَاللَّامُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْبُعْدِ، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ دَعَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ فِيهِ عِنْدَ مَرْيَمَ، أَوْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ: أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ ذَرِّيَّةً طَيِّبَةً، وَالَّذِي بَعَثَهُ عَلَى ذَلِكَ: مَا رَآهُ مِنْ وِلَادَةِ حَنَّةَ لِمَرْيَمَ وَقَدْ كَانَتْ عَاقِرًا، فَحَصَلَ لَهُ رَجَاءُ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، وَامْرَأَتُهُ عَاقِرًا، أَوْ بَعَثَهُ عَلَى ذَلِكَ: مَا رَآهُ مِنْ فَاكِهَةِ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ وَالصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ عِنْدَ مَرْيَمَ، لِأَنَّ مَنْ أَوْجَدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ يَقْدِرُ عَلَى إِيجَادِ الْوَلَدِ مِنَ الْعَاقِرِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ قِصَّةً مُسْتَأْنَفَةً سِيقَتْ فِي غُضُونِ قِصَّةِ مَرْيَمَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِارْتِبَاطِ. وَالذُّرِّيَّةِ: النسل، يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَيَكُونُ لِلْجَمْعِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا هُنَا لِلْوَاحِدِ، قَوْلُهُ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَلَمْ يَقُلْ أَوْلِيَاءَ، وَتَأْنِيثُ طَيِّبَةٍ: لِكَوْنِ لَفْظِ الذُّرِّيَّةِ مُؤَنَّثًا. قَوْلُهُ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قَرَأَ حمزة والكسائي: فناده، وَبِذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قِيلَ الْمُرَادُ هُنَا جِبْرِيلُ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَنِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ فِي العربية، ومنه: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ وَقِيلَ: نَادَاهُ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْجَمْعِ وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ مُقَدَّمٌ، فَلَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا لِقَرِينَةٍ. قَوْلُهُ: وَهُوَ قائِمٌ جملة حالية، ويُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: قائِمٌ أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ. قَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ قُرِئَ: بِفَتْحٍ أَنَّ، وَالتَّقْدِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ، وَقُرِئَ: بِكَسْرِهَا، عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: يُبَشِّرُكَ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بن قيس المكي بكسر الشين وَضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ ثَلَاثُ لُغَاتٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي وردت كثيرا في القرآن، ومنه: فَبَشِّرْ عِبادِ «1» فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ «2» فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ» قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ «4» وهي قراءة الجمهور.

_ (1) . الزمر: 17. (2) . يس: 11. (3) . هود: 71. (4) . الفجر: 55.

وَالثَّانِيَةُ: لُغَةُ أَهْلِ تِهَامَةَ، وَبِهَا قَرَأَ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَالثَّالِثَةُ: مِنْ أَبْشَرَ يُبْشِرُ إِبْشَارًا. وَيَحْيَى: مُمْتَنِعٌ، إِمَّا لِكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا، أَوْ لِكَوْنِ فِيهِ وَزْنُ الْفِعْلِ، كَيَعْمَرَ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ حَاكِيًا عَنِ النَّقَّاشِ: كَانَ اسْمُهُ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ حَنَّا. انْتَهَى. وَالَّذِي رَأَيْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْإِنْجِيلِ أَنَّهُ: يُوحَنَّا قِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ: لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ النَّاسَ بِالْهُدَى. وَالْمُرَادُ هُنَا: التَّبْشِيرُ بِوِلَادَتِهِ، أَيْ: يُبَشِّرُكَ بِوِلَادَةِ يَحْيَى. وَقَوْلُهُ: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ: بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسُمِّيَ: كَلِمَةَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ كَانَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: كُنْ وَقِيلَ: سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ: لِأَنَّ النَّاسَ يَهْتَدُونَ بِهِ كَمَا يَهْتَدُونَ بِكَلَامِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَى بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ: بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَنْشَدَنِي كَلِمَتَهُ، أَيْ: قَصِيدَتَهُ، كَمَا رُوِيَ: أَنَّ الْحُوَيْدِرَةَ ذُكِرَ لِحَسَّانَ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ كَلِمَتَهُ، يَعْنِي: قَصِيدَتَهُ. انْتَهَى. وَيَحْيَى أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى وَصَدَّقَ، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ عِيسَى بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالسَّيِّدُ: الَّذِي يَسُودُ قَوْمَهُ قَالَ الزَّجَّاجُ: السَّيِّدُ: الَّذِي يَفُوقُ أَقْرَانَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ. وَالْحَصُورُ: أَصْلُهُ مِنَ الْحَصْرِ، وَهُوَ الْحَبْسُ، يُقَالُ: حَصَرَنِي الشَّيْءُ وَأَحْصَرَنِي، إِذَا حَبَسَنِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ ... عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ وَالْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، كَأَنَّهُ يُحْجِمُ عَنْهُنَّ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ حَصُورٌ، وَحَصِيرٌ: إِذَا حَبَسَ رِفْدَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ، فَيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حَصُورًا عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ: أَيْ: مَحْصُورًا لَا يَأْتِيهِنَّ كَغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ إِمَّا لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لِكَوْنِهِ يَكُفُّ عَنْهُنَّ مَنْعًا لِنَفْسِهِ عَنِ الشَّهْوَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَقَدْ رُجِّحَ الثَّانِي بِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ مَدْحٍ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى أَمْرٍ مُكْتَسَبٍ يَقْدِرُ فَاعِلُهُ عَلَى خِلَافِهِ، لَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَفِي نَفْسِ الْجِبِلَّةِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ: نَاشِئًا مِنَ الصَّالِحِينَ، لِكَوْنِهِ مِنْ نَسْلِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ كَائِنًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّالِحُ: الَّذِي يُؤَدِّي لِلَّهِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَإِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمْ. قَوْلُهُ: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْخِطَابَ مِنْهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ الْوَاصِلُ إِلَيْهِ هُوَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ لِمَزِيدِ التَّضَرُّعِ وَالْجِدُّ فِي طَلَبِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِالرَّبِّ جِبْرِيلَ، أَيْ: يَا سَيِّدِي قِيلَ: وَفِي مَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَأَلَ هَلْ يُرْزَقُ هَذَا الْوَلَدَ مِنِ امْرَأَتِهِ الْعَاقِرِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا؟ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِأَيِّ سَبَبٍ أَسْتَوْجِبُ هَذَا، وَأَنَا وَامْرَأَتِي عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ اسْتَبْعَدَ حُدُوثَ الْوَلَدِ مِنْهُمَا مَعَ كَوْنِ الْعَادَةِ قَاضِيَةً بِأَنَّهُ لَا يَحْدُثُ مَنْ مِثْلِهِمَا لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمُ التَّبْشِيرِ كَبِيرًا قِيلَ: فِي تِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ فِي ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أَيْ: وَالْحَالُ ذَلِكَ، جَعَلَ الْكِبَرَ كَالطَّالِبِ لَهُ لِكَوْنِهِ طَلِيعَةً مِنْ طَلَائِعِ الْمَوْتِ فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ. وَالْعَاقِرُ: الَّتِي لَا تَلِدُ أَيْ ذَاتُ عُقْرٍ عَلَى النَّسَبِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ لَقَالَ عَقِيرَةٌ أَيْ: بِهَا عُقْرٌ يَمْنَعُهَا مِنَ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَ دُعَائِهِ بِأَنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، وَمُشَاهَدَتُهُ لِتِلْكَ الْآيَةِ الْكُبْرَى فِي مَرْيَمَ اسْتِعْظَامًا لِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا لِمَحْضِ الِاسْتِبْعَادِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَرَّ بَعْدَ دُعَائِهِ إِلَى وَقْتٍ يَشَاءُ رَبُّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَقِيلَ: عِشْرُونَ سَنَةً فَكَانَ

الِاسْتِبْعَادُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. قَوْلُهُ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ أَيْ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْعَجِيبَةِ مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهُوَ إِيجَادُ الْوَلَدِ مِنَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ، وَالْكَافُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَصْدَرِ يَفْعَلُ أَوِ الْكَافُ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ، أَيْ: عَلَى هَذَا الشَّأْنِ الْعَجِيبِ شَأْنِ اللَّهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَفْعَلُ مَا يَشاءُ بَيَانًا لَهُ، أَوِ الْكَافُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَفْعَلُ اللَّهُ الْفِعْلَ كَائِنًا مِثْلَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ: عَلَامَةً أَعْرِفُ بِهَا صِحَّةَ الْحَبَلِ، فَأَتَلَقَّى هَذِهِ النِّعْمَةَ بالشكر قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً أَيْ: عَلَامَتُكَ أَنْ تَحْبِسَ لِسَانَكَ عَنْ تَكْلِيمِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ، وَوَجْهُ جَعْلِ الْآيَةِ هَذَا: لِتَخْلُصَ تِلْكَ الْأَيَّامُ لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَقِيلَ: بِأَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ بِسَبَبِ سُؤَالِهِ الْآيَةَ بَعْدَ مُشَافَهَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالرَّمْزُ فِي اللُّغَةِ: الْإِيمَاءُ بِالشَّفَتَيْنِ، أَوِ الْعَيْنَيْنِ، أَوِ الْحَاجِبَيْنِ، أَوِ الْيَدَيْنِ، وَأَصْلُهُ: الْحَرَكَةُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِكَوْنِ الرَّمْزِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْكَلَامَ مَا حَصَلَ بِهِ الْإِفْهَامُ مِنْ لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ. قَوْلُهُ: وَسَبِّحْ أَيْ: سَبِّحْهُ بِالْعَشِيِّ وَهُوَ جَمْعُ عَشِيَّةٍ وَقِيلَ: هُوَ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغِيبَ وَقِيلَ: مِنَ الْعَصْرِ إِلَى ذَهَابِ صَدْرِ اللَّيْلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَالْإِبْكارِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الضُّحَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ: الصَّلَاةُ. قوله: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، كَالظَّرْفِ الْأَوَّلِ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ اخْتَارَكِ وَطَهَّرَكِ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ مِنَ الأدناس عَلَى عُمُومِهَا وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ قِيلَ: هَذَا الِاصْطِفَاءُ الْآخَرُ غَيْرُ الِاصْطِفَاءِ الْأَوَّلِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ حَيْثُ تَقَبَلَّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَالْآخَرُ لِوِلَادَةِ عِيسَى. وَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ هُنَا: قِيلَ: نِسَاءُ عَالَمِ زَمَانِهَا وَهُوَ الْحَقُّ وَقِيلَ: نِسَاءُ جَمِيعِ الْعَالَمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ الِاصْطِفَاءُ الْآخَرُ تَأْكِيدٌ لِلِاصْطِفَاءِ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا جَمِيعًا: واحد. قوله: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أَيْ: أَطِيلِي الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ، أو أديميها، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعَانِي الْقُنُوتِ، وَقَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ، أَوْ لِكَوْنِ صَلَاتِهِمْ لَا تَرْتِيبَ فِيهَا، مَعَ كَوْنِ الْوَاوِ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ بِلَا تَرْتِيبٍ، وَقَوْلُهُ: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ظَاهِرُهُ: أَنَّ رُكُوعَهَا يَكُونُ مَعَ رُكُوعِهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهَا تَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِمْ وَإِنْ لَمْ تُصَلِّ مَعَهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا سَبَقَ من الأمور التي أخبره اللَّهُ بِهَا. وَالْوَحْيُ فِي اللُّغَةِ: الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ، يُقَالُ: وَحَى وَأَوْحَى بِمَعْنَى: قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْوَحْيُ: الْإِشَارَةُ، وَالْكِتَابَةُ، وَالرِّسَالَةُ، وَكُلُّ مَا ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه. قوله: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي: تحضرنهم، يَعْنِي: الْمُتَنَازِعِينَ فِي تَرْبِيَةِ مَرْيَمَ، وَإِنَّمَا نَفَى حُضُورَهُ عِنْدَهُمْ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الوحي، كَانَ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ صَحِيحًا لَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ للعلم له إِلَّا الْمُشَاهَدَةُ وَالْحُضُورُ، وَهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ فثبت كونه وحيا تَسْلِيمِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ وَلَا مِمَّنْ يُلَابِسُ أَهْلَهَا. وَالْأَقْلَامُ: جَمْعُ قَلَمٍ، مِنْ قلمه: إذا قطعه، أي: أقلامهم يَكْتُبُونَ بِهَا وَقِيلَ: قُدَّاحُهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ أَيْ: يَحْضُنُهَا، أَيْ: يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَيُّهُمْ يكفلها، وذلك

عِنْدَ اخْتِصَامِهِمْ فِي كَفَالَتِهَا، فَقَالَ زَكَرِيَّا: هُوَ أَحَقُّ بِهَا، لَكَوْنِ خَالَتِهَا عِنْدَهُ، وَهِيَ: أَشْيَعُ أُخْتُ حَنَّةَ أُمِّ مَرْيَمَ، وَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا، لِكَوْنِهَا بِنْتَ عَالِمِنَا، فَاقْتَرَعُوا، وَجَعَلُوا أَقْلَامَهُمْ فِي الْمَاءِ الْجَارِي، عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ قَلَمُهُ وَلَمْ يَجْرِ مَعَ الْمَاءِ فَهُوَ صَاحِبُهَا، فَجَرَتْ أَقْلَامُهُمْ وَوَقَفَ قَلَمُ زَكَرِيَّا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ أَثْبَتَ الْقُرْعَةَ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي اعْتِبَارِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى زَكَرِيَّا ذَلِكَ، يَعْنِي: فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ عِنْدَ مَرْيَمَ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَتَى بِهَذَا مَرْيَمَ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ قَادِرٌ أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَدًا، فَذَلِكَ حِينَ دَعَا رَبَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً يَقُولُ: مُبَارَكَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أَيْ: جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْمِحْرَابُ: الْمُصَلَّى. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا هَذِهِ الْمَذَابِحَ» يَعْنِي الْمَحَارِيبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَّخِذُوا فِي مَسَاجِدِهِمْ مَذَابِحَ كَمَذَابِحِ النَّصَارَى» وَقَدْ رُوِيَتْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ: يَحْيَى، لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ. وَأَخْرَجُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ قال: عيسى ابن مَرْيَمَ، هُوَ الْكَلِمَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ يَحْيَى وَعِيسَى ابْنَيِ الْخَالَةِ، وَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى تَقُولُ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَجِدُ الَّذِي فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِلَّذِي فِي بَطْنِكِ، فَذَلِكَ تَصْدِيقُهُ بِعِيسَى سُجُودُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ بِعِيسَى. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَسَيِّداً قَالَ: حَلِيمًا تَقِيًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: السَّيِّدُ: الْكَرِيمُ عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: السَّيِّدُ: الْفَقِيهُ الْعَالِمُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَيِّداً وَحَصُوراً قَالَ: السَّيِّدُ: الْحَلِيمُ، وَالْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْحَصُورِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْحَصُورُ: الَّذِي لَا يُنْزِلُ الْمَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ ذَكَرُهُ مِثْلَ هُدْبَةِ الثَّوْبِ» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَقْوَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ قَالَ: اسْمُ أُمِّ يَحْيَى: أَشْيَعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ: بِالْحَمْلِ بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ قَالَ: إِنَّمَا عُوقِبَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ شَافَهَتْهُ بِذَلِكَ مُشَافَهَةً فَبَشَّرَتْهُ بِيَحْيَى، فَسَأَلَ الْآيَةَ بَعْدَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَمْزاً قَالَ: الرَّمْزُ: بِالشَّفَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 45 إلى 51]

عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الرَّمْزُ: الْإِشَارَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ قَالَ: الْعَشِيُّ: مَيْلُ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ، وَالْإِبْكَارُ: أَوَّلُ الْفَجْرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نسائها خديجة بنت خويلد «1» » . وأخرج ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ خَدِيجَةُ وَفَاطِمَةُ وَمَرْيَمُ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى الطَّعَامِ» وَفِي الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّهَا تُفِيدُ أَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، لَا نِسَاءِ جَمِيعِ الْعَالَمِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعُ نِسْوَةٍ سَادَاتِ نِسَاءِ عَالَمِهِنَّ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَأَفْضَلُهُنَّ عَالَمًا فَاطِمَةُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مجاهد في قوله: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ قال: أطيلي الركوع يَعْنِي الْقِيَامَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: اقْنُتِي لِرَبِّكِ قَالَ: أَخْلِصِي. وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَطِيعِي رَبَّكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ قَالَ: إِنَّ مَرْيَمَ لَمَّا وُضِعَتْ فِي الْمَسْجِدِ اقْتَرَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْمُصَلَّى، وَهُمْ يَكْتُبُونَ الْوَحْيَ، فَاقْتَرَعُوا بِأَقْلَامِهِمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا. قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ فِي الْمَاءِ فَذَهَبَتْ مَعَ الْجَرْيَةِ، وَصَعِدَ قَلَمُ زَكَرِيَّا، فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْأَقْلَامَ هِيَ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن عطاء أنها القداح. [سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 51] إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

_ (1) . المعنى: أن كلا منهما خير نساء الأرض في عصرها.

قَوْلُهُ: إِذْ قالَتِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَتِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: يَخْتَصِمُونَ وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ. والمسيح اختلف فيه ممّا ذا أُخِذَ؟ فَقِيلَ: مِنَ الْمَسْحِ، لِأَنَّهُ: مَسَحَ الْأَرْضَ، أَيْ: ذَهَبَ فِيهَا فَلَمْ يَسْتَكِنَّ بِكُنٍّ وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَا يَمْسَحُ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا برىء، فَسُمِّيَ مَسِيحًا، فَهُوَ عَلَى هَذَيْنِ: فَعَيْلٌ، بِمَعْنَى: فَاعِلٍ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ بِالدُّهْنِ الَّذِي كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَمْسَحُ بِهِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ مَمْسُوحَ الْأَخْمَصَيْنِ وَقِيلَ: لِأَنَّ الْجَمَالَ مَسَحَهُ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالتَّطْهِيرِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَقْوَالِ: فَعِيلٌ، بِمَعْنَى: مَفْعُولٍ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الْمَسِيحُ ضِدُّ الْمَسِيخِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمَسِيحُ: الصِّدِّيقُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَصْلُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ: مَشِيخًا، بِالْمُعْجَمَتَيْنِ، فَعُرِّبَ كَمَا عُرِّبَ مُوشَى بِمُوسَى. وَأَمَّا الدَّجَّالُ فَسُمِّيَ مَسِيحًا: لِأَنَّهُ مَمْسُوحُ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَمْسَحُ الْأَرْضَ، أَيْ: يَطُوفُ بُلْدَانَهَا إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَقَوْلُهُ: عِيسَى عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ بَدَلٌ، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ وَقِيلَ: هُوَ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مَنْ عَاسَهُ يَعُوسُهُ إِذَا سَاسَهُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: هُوَ مُعَرَّبٌ مِنْ أَيْشُوعَ. انْتَهَى. وَالَّذِي رَأَيْنَاهُ فِي الْإِنْجِيلِ فِي مَوَاضِعَ أَنَّ اسْمَهُ يَشُوعُ بِدُونِ هَمْزَةٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ: ابْنُ مَرْيَمَ، مَعَ كَوْنِ الْخِطَابِ مَعَهَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يُوَلَدُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَنُسِبَ إِلَى أُمِّهِ. وَالْوَجِيهُ: ذُو الْوَجَاهَةِ، وَهِيَ: الْقُوَّةُ وَالْمَنَعَةُ، وَوَجَاهَتُهُ فِي الدُّنْيَا النُّبُوَّةُ، وَفِي الْآخِرَةِ الشَّفَاعَةُ وَعُلُوُّ الدَّرَجَةِ، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ: كَلِمَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ نَكِرَةً فَهِيَ مَوْصُوفَةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَجِيهًا. وَالْمَهْدُ: مَضْجَعُ الصَّبِيِّ فِي رَضَاعِهِ، وَمَهَّدْتُ الْأَمْرَ: هَيَّأْتُهُ وَوَطَّأْتُهُ. وَالْكَهْلُ: هُوَ مَنْ كَانَ بَيْنَ سِنِّ الشَّبَابِ وَالشَّيْخُوخَةِ، أَيْ: يُكَلِّمُ النَّاسَ حَالَ كَوْنِهِ رَضِيعًا فِي الْمَهْدِ وَحَالَ كَوْنِهِ كَهْلًا بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ كَهْلًا مَعْطُوفٌ عَلَى وَجِيهًا. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَمِنَ الصَّالِحِينَ عَطْفٌ عَلَى وَجِيهًا، أَيْ: هُوَ مِنَ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ. قَوْلُهُ: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ؟ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِبْعَادِ الْعَادِيِّ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ عَلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ كَوْنِ لَهُ أَبٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَصْلُ الْقَضَاءِ: الْأَحْكَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ هُنَا الْإِرَادَةُ: أَيْ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا مُزَاوَلَةٍ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ. قَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ قِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى يُبَشِّرُكَ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ وَإِنَّ اللَّهَ يُعَلِّمُهُ وَقِيلَ: عَلَى يَخْلُقُ: أَيْ: وَكَذَلِكَ يُعَلِّمُهُ اللَّهُ، أَوْ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ سِيقَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا. وَالْكِتَابُ: الْكِتَابَةُ. وَالْحِكْمَةُ: الْعِلْمُ وَقِيلَ: تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ، وَانْتِصَابُ: رَسُولًا، عَلَى تَقْدِيرِ: وَيَجْعَلُهُ

رَسُولًا، أَوْ وَيُكَلِّمُهُمْ رَسُولًا، أَوْ وَأَرْسَلْتُ رَسُولًا وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَجِيهاً فَيَكُونُ حَالًا، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى النُّطْقِ، أَيْ: وَنَاطِقًا، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْوَاوَ فِي قوله: ورسولا، مقحمة، والرسول: حالا. وقوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مَعْمُولٌ لِرَسُولٍ، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى النُّطْقِ كَمَا مَرَّ وَقِيلَ: أَصْلُهُ: بِأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ، فَحُذِفَ الْجَارُ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: تَقُولُ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَحْوَالِ السَّابِقَةِ. وَقَوْلُهُ: بِآيَةٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِعَلَامَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ. وَقَوْلُهُ: أَنِّي أَخْلُقُ أَيْ: أُصَوِّرُ، وَأُقَدِّرُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أَوْ بَدَلٌ مِنْ آيَةٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ أَنِّي، وَقُرِئَ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ: نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَخْلُقُ لَكُمْ خَلْقًا أَوْ شَيْئًا مِثْلَ هَيْئَةِ الطَّيْرِ. وَقَوْلُهُ: فَأَنْفُخُ فِيهِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ، أَوْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكَافِ فِي قَوْلِهِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الطَّيْرِ، أَيِ: الْوَاحِدُ مِنْهُ وَقِيلَ: إِلَى الطِّينِ، وَقُرِئَ: فَيَكُونُ طَائِرًا وَطَيْرًا، مِثْلَ تَاجِرٍ وَتَجْرٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ غَيْرَ الْخُفَّاشِ لِمَا فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ الصَّنْعَةِ، فَإِنَّ لَهُ ثَدْيًا وَأَسْنَانًا وَأُذُنًا وَيَحِيضُ وَيَطْهُرُ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ طَلَبُوا خَلْقَ الْخُفَّاشِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِكَوْنِهِ يَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ، وَيَلِدُ كَمَا يَلِدُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الطَّيْرِ، وَلَا يَبِيضُ كَمَا يَبِيضُ سَائِرُ الطُّيُورِ، وَلَا يُبْصِرُ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ، وَلَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا يَرَى فِي سَاعَتَيْنِ: بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ سَاعَةً، وَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَاعَةً، وَهُوَ يَضْحَكُ كَمَا يَضْحَكُ الْإِنْسَانُ وَقِيلَ: إِنَّ سُؤَالَهُمْ لَهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ، قِيلَ: كَانَ يَطِيرُ مَا دَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَهُ، فَإِذَا غَابَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ سَقَطَ مَيِّتًا، لِيَتَمَيَّزَ فِعْلُ اللَّهِ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ فِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا الْإِذْنُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ خَلْقَ ذَلِكَ كَانَ بِفِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَجْرَاهُ عَلَى يَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قِيلَ: كَانَتْ تَسْوِيَةُ الطِّينِ وَالنَّفْخِ مِنْ عِيسَى، وَالْخَلْقُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ: وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ الْأَكْمَهُ: الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْكَمَهُ: الْعَمَى يُوَلَدُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَقَدْ يَعْرِضُ، يُقَالُ: كَمِهَ، يَكْمَهُ، كَمَهًا: إِذَا عَمِيَ، وَكَمِهْتُ عَيْنَهُ: إِذَا أَعْمَيْتَهَا وَقِيلَ: الْأَكْمَهُ: الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَقِيلَ: هُوَ الْمَمْسُوحُ الْعَيْنِ. وَالْبَرَصُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ: بَيَاضٌ يَظْهَرُ فِي الْجِلْدِ. وَقَدْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُبْرِئُ مِنْ أَمْرَاضٍ عِدَّةٍ كَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هذين المرضين بالذكر لأنهما لا يبرءان فِي الْغَالِبِ بِالْمُدَاوَاةِ، وَكَذَلِكَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، قَدِ اشْتَمَلَ الْإِنْجِيلُ عَلَى قَصَصٍ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ أَيْ: أَخْبِرُكُمْ بِالَّذِي تَأْكُلُونَهُ، وَبِالَّذِي تَدَّخِرُونَهُ. قَوْلُهُ: وَمُصَدِّقاً عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَرَسُولًا وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَجِئْتُكُمْ مُصَدِّقًا. قَوْلُهُ: وَلِأُحِلَّ أَيْ: وَلِأَجْلِ أَنْ أُحِلَّ، أَيْ: جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَجِئْتُكُمْ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَطْعِمَةِ فِي التَّوْرَاةِ، كَالشُّحُومِ، وَكُلِّ ذِي ظُفُرٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَحَلَّ لَهُمْ مَا حَرَّمَتْهُ عَلَيْهِمُ الْأَحْبَارُ وَلَمْ تُحَرِّمْهُ التَّوْرَاةُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ، بِمَعْنَى: كُلَّ، وَأَنْشَدَ:

تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ غَلَطٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، لِأَنَّ الْبَعْضَ وَالْجُزْءَ لَا يَكُونَانِ بِمَعْنَى الْكُلِّ، وَلِأَنَّ عِيسَى لَمْ يُحَلِّلْ لَهُمْ جَمِيعَ مَا حَرَّمَتْهُ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَلِّلِ الْقَتْلَ ولا السرقة وَلَا الْفَاحِشَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الْإِنْجِيلِ، مَعَ كَوْنِهَا ثَابِتَةً فِي التَّوْرَاةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَيْنِ، ولكنه قد يقع البعض موضع الْكُلِّ مَعَ الْقَرِينَةِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ أَيْ: بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ كُلِّهِ. قَوْلُهُ: بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ هِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ آيَةً، لِأَنَّ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ، فَمَجِيئُهُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ يَكُونُ عَلَامَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هذه الآية هي الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فَتَكُونُ تَكْرِيرًا لِقَوْلِهِ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ الْآيَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِكَلِمَةٍ قَالَ: عِيسَى هُوَ الْكَلِمَةُ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَهْدُ: مَضْجَعُ الصَّبِيِّ فِي رَضَاعِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى، وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَةٍ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي، قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمُصُّهُ، ثُمَّ مَرَّ بِأَمَةٍ تجرر وَيُلْعَبُ بِهَا فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ لَهَا: زَنَيْتِ، وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَيَقُولُونَ: سَرَقْتِ، وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا عِيسَى، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ مَاشِطَةِ فِرْعَوْنَ» . وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا قَالَ: يُكَلِّمُهُمْ صَغِيرًا وَكَبِيرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَهْلُ: هُوَ مَنْ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْكَهْلُ: الْحَلِيمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ قَالَ: الْخَطُّ بِالْقَلَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا خَلَقَ عِيسَى طائرا واحدا وهو الخفاش. وأخرج ابن جريج، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 إلى 58]

الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَكْمَهُ: الَّذِي يولد أعمى. وأخرج ابن جريج، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَكْمَهُ: الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْأَكْمَهُ: الْأَعْمَى الْمَمْسُوحُ الْعَيْنَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْأَكْمَهُ: الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ. وَأَخْرَجُوا عَنْ عِكْرِمَةَ قَالُوا: الْأَكْمَهُ: الْأَعْمَشُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ قَالَ: كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِذَا سَرَّحَ رُسُلَهُ يُحْيُونَ الْمَوْتَى يَقُولُ لَهُمْ قُولُوا: كَذَا، فَإِذَا وَجَدْتُمْ قَشْعَرِيرَةً وَدَمْعَةً فَادْعُوا عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ قَالَ: بِمَا أَكَلْتُمُ الْبَارِحَةَ مِنْ طَعَامٍ وَمَا خَبَّأْتُمْ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ مِنَ الْمَائِدَةِ وَما تَدَّخِرُونَ مِنْهَا، وَكَانَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَائِدَةِ حِينَ نَزَلَتْ أَنْ يَأْكُلُوا وَلَا يَدَّخِرُوا، فَأَكَلُوا، وَادَّخَرُوا، وَخَانُوا، فَجُعِلُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ وَهْبٍ: أَنَّ عِيسَى كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى، وَكَانَ يُسْبِتُ وَيَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنِّي لَمْ أَدْعُكُمْ إِلَى خِلَافِ حَرْفٍ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ إِلَّا لِأَحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَأَضَعَ عَنْكُمْ مِنَ الْآصَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي الْآيَةِ: قَالَ كَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى أَلَيْنُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَكَانَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى لُحُومُ الْإِبِلِ وَالثُّرُوبِ «1» ، فَأَحَلَّهَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ عِيسَى، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَأُحِلَّتْ لَهُمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ عِيسَى، وَفِي أَشْيَاءَ مِنَ السَّمَكِ، وَفِي أَشْيَاءَ مِنَ الطَّيْرِ، وَفِي أَشْيَاءَ أُخَرَ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِيهَا، فَجَاءَهُمْ عِيسَى بِالتَّخْفِيفِ مِنْهُ فِي الْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ قال: ما بين لهم من الأشياء كلها وما أعطاه ربه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 58] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) قَوْلُهُ: فَلَمَّا أَحَسَّ أَيْ: عَلِمَ وَوَجَدَ: قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى: أَحَسَّ: عَرَفَ، وَأَصْلُ ذلك: وجود الشيء بالحاسة، والإحساس: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ «2» . وَالْمُرَادُ بِالْإِحْسَاسِ هُنَا: الْإِدْرَاكُ الْقَوِيُّ الْجَارِي مَجْرَى الْمُشَاهَدَةِ. وَبِالْكُفْرِ: إِصْرَارُهُمْ عَلَيْهِ وَقِيلَ: سَمِعَ مِنْهُمْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادُوا قَتْلَهُ. وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَلَمَّا أَدْرَكَ مِنْهُمْ عِيسَى إرادة قتله التي هي كفر

_ (1) . الثروب: جمع ثرب، وهو شحم رقيق على الكرش والأمعاء. (2) . مريم: 98.

قَالَ: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ. الْأَنْصَارُ: جَمْعُ نَصِيرٍ. وَقَوْلُهُ: إِلَى اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حالا، أي: متوجها إلى الله، أو ملتجئا إِلَيْهِ، أَوْ ذَاهِبًا إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِلَى: بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «1» وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَنْ أَنْصَارِي فِي السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَنْ يَضُمُّ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَةِ اللَّهِ. وَالْحَوَارِيُّونَ: جَمْعُ حَوَارِيٍّ، وَحَوَارِيُّ الرَّجُلِ: صَفْوَتُهُ وَخُلَاصَتُهُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَوَرِ وَهُوَ الْبَيَاضُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، حَوَّرْتُ الثِّيَابَ بَيَّضْتُهَا. وَالْحَوَارِيُّ مِنَ الطَّعَامِ: مَا حُوِّرَ: أَيْ بُيِّضَ، وَالْحَوَارِيُّ أَيْضًا: النَّاصِرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ» وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهِمْ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ وَقِيلَ: لِخُلُوصِ نِيَّاتِهِمْ وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ خَاصَّةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَمَعْنَى أَنْصَارِ اللَّهِ: أَنْصَارُ دِينِهِ وَرُسُلِهِ. وَقَوْلُهُ: آمَنَّا بِاللَّهِ اسْتِئْنَافٌ جَارٍ مَجْرَى الْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَبْعَثُ عَلَى النُّصْرَةِ، قَوْلُهُ: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أَيِ: اشْهَدْ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّا مُخْلِصُونَ لِإِيمَانِنَا مُنْقَادُونَ لِمَا تُرِيدُ مِنَّا. وَمَعْنَى بِما أَنْزَلْتَ: مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كُتُبِهِ. وَالرَّسُولُ: عِيسَى، وَحَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ، أَيِ: اتَّبَعْنَاهُ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي بِهِ، فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ لَكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلِرَسُولِكَ بِالرِّسَالَةِ. أَوِ: اكْتُبْنَا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِأُمَمِهِمْ، وَقِيلَ مَعَ أُمَّةِ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ: وَمَكَرُوا أَيِ: الَّذِينَ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ، وَهُمْ كُفَّارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَمَكْرُ اللَّهِ: اسْتِدْرَاجُهُ لِلْعِبَادِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَكْرُ اللَّهِ: مُجَازَاتُهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ، فَسُمِّيَ الْجَزَاءُ بِاسْمِ الِابْتِدَاءِ، كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «2» وَهُوَ خادِعُهُمْ «3» وَأَصْلُ الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ: الِاغْتِيَالُ وَالْخَدْعُ: حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ وَقِيلَ: مَكْرُ اللَّهِ هُنَا: إِلْقَاءُ شِبْهِ عِيسَى عَلَى غَيْرِهِ، وَرَفْعُ عِيسَى إِلَيْهِ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أَيْ: أَقْوَاهُمْ مَكْرًا، وَأَنْفَذُهُمْ كَيْدًا، وَأَقْوَاهُمْ عَلَى إِيصَالِ الضَّرَرِ بِمَنْ يُرِيدُ إِيصَالَهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، قَوْلُهُ: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى الْعَامِلُ فِي إِذْ: مَكَرُوا، أَوْ: قَوْلُهُ: خَيْرُ الْماكِرِينَ أَوْ: فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وَقَعَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا تَقْدِيرُهُ: إِنِّي رَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ إِنْزَالِكَ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: مُتَوَفِّيكَ: قَابِضُكَ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: مُسْتَوْفِي أَجَلَكَ، وَمَعْنَاهُ: إِنِّي عَاصِمُكَ مِنْ أَنْ يَقْتُلَكَ الْكُفَّارُ، وَمُؤَخِّرٌ أَجَلَكَ إِلَى أَجَلٍ كَتَبْتُهُ لَكَ، وَمُمِيتُكَ حَتْفَ أَنْفِكَ لَا قَتْلًا بِأَيْدِيهِمْ. وَإِنَّمَا احْتَاجَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى تَأْوِيلِ الْوَفَاةِ بِمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ وَفَاةٍ، كَمَا رَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نُزُولُهُ وَقَتْلُهُ الدَّجَّالَ، وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَوَفَّاهُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَفَاةِ هُنَا: النَّوْمُ، وَمِثْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «4» أَيْ: يُنِيمُكُمْ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرُونَ. قَوْلُهُ: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: من خبث جوارهم بِرَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَبُعْدِهِ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: الذي اتَّبَعُوا مَا جِئْتَ بِهِ وَهُمْ خُلَّصُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا فِي الْغُلُوِّ فِيهِ إِلَى مَا بَلَغَ مِنْ جَعْلِهِ إِلَهًا، وَمِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السلام، ووصفوه بما يستحقه من دون

_ (1) . النساء: 2. (2) . البقرة: 15. (3) . النساء: 142. (4) . الأنعام: 60. [.....]

غُلُوٍّ، فَلَمْ يُفَرِّطُوا فِي وَصْفِهِ، كَمَا فَرَّطَتِ الْيَهُودُ، وَلَا أَفْرَطُوا كَمَا أَفْرَطَتِ النَّصَارَى. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ: أَنَّ النَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْيَهُودِ، غَالِبِينَ لَهُمْ، قَاهِرِينَ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا: هُمُ الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَقِيلَ: هُمُ الرُّومُ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقِيلَ: هُمُ الْحَوَارِيُّونَ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِالْمَسِيحِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَغَلَبَةُ النَّصَارَى لِطَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ أَوْ لِكُلِّ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ مَقْهُورِينَ مَغْلُوبِينَ بِطَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تُفِيدُهُ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ، بِأَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ ظَاهِرَةٌ عَلَى كُلِّ الْمِلَلِ، قَاهِرَةٌ لَهَا مُسْتَعْلِيَةٌ عَلَيْهَا. وَقَدْ أفردت هذه الآية بمؤلف سميته: [وبل الْغَمَامَةِ فِي تَفْسِيرِ- وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] فَمَنْ رَامَ اسْتِيفَاءَ مَا فِي الْمَقَامِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى ذَلِكَ. وَالْفَوْقِيَّةُ هُنَا: هِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالْحُجَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَحْكُمُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَيَكُونُ الْمُسْلِمُونَ أَنْصَارَهُ وَأَتْبَاعَهُ إِذْ ذَاكَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى هذه الحال. قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أَيْ: رُجُوعُكُمْ، وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلْقَصْرِ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَئِذٍ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. وَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ: تَفْسِيرٌ لِلْحُكْمِ. قَوْلُهُ: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَأُعَذِّبُهُمْ، أَمَّا تَعْذِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا: فَبِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ: فبعذاب النار. قوله: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أَيْ: نُعْطِيهِمْ إِيَّاهَا كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، قُرِئَ: بِالتَّحْتِيَّةِ وَبِالنُّونِ. وَقَوْلُهُ: لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ كِنَايَةٌ عَنْ بُغْضِهِمْ، وَهِيَ جُمْلَةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَلَفَ مِنْ نَبَأِ عِيسَى وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ ما بعده، ومِنَ الْآياتِ حَالٌ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَالْحَكِيمُ: الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْحُكْمِ، أَوِ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا خَلَلَ فِيهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ: كَفَرُوا وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَذَلِكَ حِينَ اسْتَنْصَرَ قَوْمِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ قَالَ: مَعَ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا لَهُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَشَهِدُوا لِلرُّسُلِ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ قَالَ: مَعَ الشَّاهِدِينَ مَعَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَصَرُوا عِيسَى وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَأْخُذُ صُورَتِي فَيُقْتَلُ وَلَهُ الْجَنَّةُ، فأخذها رجل منهم، وصعد بعيسى إِلَى السَّمَاءِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يَقُولُ: مُمِيتُكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مُتَوَفِّيكَ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ الْآخَرَانِ عَنْهُ قَالَ: وَفَاةُ الْمَنَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ: أَيْ: رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُتَوَفِّيكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ قَالَ: مُتَوَفِّيكَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 59 إلى 63]

بِوَفَاةِ مَوْتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبٍ قَالَ: تَوَفَّى اللَّهُ عِيسَى ثَلَاثَ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ حَتَّى رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: أَمَاتَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ وَرَفَعَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْهُ قَالَ: تَوَفَّى اللَّهُ عِيسَى سَبْعَ سَاعَاتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: رُفِعَ عِيسَى وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ وَهْبٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: طَهَّرَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَمِنْ كُفَّارِ قَوْمِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلَى فِطْرَتِهِ وَمِلَّتِهِ وَسُنَّتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يُبَالُونَ بِمَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» قَالَ النُّعْمَانُ: مَنْ قَالَ إِنِّي أَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْ فَإِنَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: النَّصَارَى فَوْقَ الْيَهُودِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ بَلَدٌ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى إِلَّا وَهُمْ فَوْقَ الْيَهُودِ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ، هُمْ فِي الْبُلْدَانِ كُلِّهَا مستذلّون. [سورة آل عمران (3) : الآيات 59 الى 63] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) تَشْبِيهُ عِيسَى بِآدَمَ فِي كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَآدَمَ، وَلَا يَقْدَحُ فِي التَّشْبِيهِ اشْتِمَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ عَلَى زِيَادَةٍ وَهُوَ كَوْنُهُ لَا أُمَّ لَهُ: كَمَا أَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ، فَذَلِكَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمُرَادِ بِالتَّشْبِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَشَدَّ غَرَابَةً مِنَ الْمُشَبَّهِ، وَأَعْظَمَ عَجَبًا، وَأَغْرَبَ أُسْلُوبًا. وَقَوْلُهُ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِمَا أُبْهِمَ فِي الْمَثَلِ، أَيْ: أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ وَلَا أُمٌّ، بَلْ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ تُرَابٍ. وَفِي ذَلِكَ دَفْعٌ لِإِنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَ خَلْقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَأُمٍّ. قَوْلُهُ: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ: كُنْ بَشَرًا فَكَانَ بَشَرًا. وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا. وَقَوْلُهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَرْفُوعٌ بِإِضْمَارِ هُوَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: مِنْ رَبِّكَ وَقِيلَ: هُوَ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ: جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. قَوْلُهُ: فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الْخِطَابُ إِمَّا لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ النَّاسِ، أَيْ: لَا يَكُنْ أَحَدٌ مِنْكُمْ مُمْتَرِيًا، أَوْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ النَّهْيُ لَهُ لِزِيَادَةِ التَّثْبِيتِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْهُ شَكٌّ فِي ذَلِكَ، قَوْلُهُ: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ هَذَا وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَالْمُرَادُ بِهِ: الْخَاصُّ، وَهُمُ النَّصَارَى الَّذِينَ وَفَدُوا إليه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ نَجْرَانَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ عَلَى عُمُومِهِ

وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا، فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ المباهلة منه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِكُلِّ مَنْ حَاجَّهُ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأُمَّتُهُ أُسْوَتُهُ، وَضَمِيرُ فِيهِ: لِعِيسَى، وَالْمُرَادُ بِمَجِيءِ الْعِلْمِ هُنَا: مَجِيءُ سَبَبِهِ، وَهُوَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، وَالْمُحَاجَّةُ: الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُجَادَلَةُ. وَقَوْلُهُ: تَعالَوْا أَيْ: هَلُمُّوا، وَأَقْبِلُوا، وَأَصْلُهُ: الطَّلَبُ لِإِقْبَالِ الذَّوَاتِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الرَّأْيِ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ حَاضِرًا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ هُوَ حَاضِرٌ عِنْدَكَ: تَعَالَ نَنْظُرْ فِي هَذَا الْأَمْرِ. قَوْلُهُ: نَدْعُ أَبْناءَنا إِلَخْ، اكْتُفِيَ بِذِكْرِ الْبَنِينَ عَنِ الْبَنَاتِ، إِمَّا لِدُخُولِهِنَّ فِي النِّسَاءِ، أَوْ لِكَوْنِهِمُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ مَوَاقِفَ الْخِصَامِ دُونَهُنَّ وَمَعْنَى الْآيَةِ: لِيَدْعُ كُلٌّ مِنَّا وَمِنْكُمْ أَبْنَاءَهُ وَنِسَاءَهُ وَنَفْسَهُ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ أَبْنَاءَ الْبَنَاتِ يُسَمَّوْنَ: أَبْنَاءً، لكونه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَرَادَ بِالْأَبْنَاءِ الْحَسَنَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي. قَوْلُهُ: نَبْتَهِلْ أَصْلُ الِابْتِهَالِ: الِاجْتِهَادُ فِي الدُّعَاءِ بِاللَّعْنِ وَغَيْرِهِ، يُقَالُ: بَهَلَهُ اللَّهُ: أَيْ لَعَنَهُ، وَالْبَهْلُ: اللَّعْنُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْكِسَائِيُّ: نَبْتَهِلْ: نَلْتَعِنْ، وَيُطْلَقُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: فِي كُهُولٍ سَادَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ... نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ أَيْ: فَاجْتَهَدَ فِي هَلَاكِهِمْ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ دُعَاءٍ يُجْتَهَدُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْتِعَانَا. قوله: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ عَطْفٌ عَلَى نَبْتَهِلْ مُبَيِّنٌ لِمَعْنَاهُ. قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا أَيِ: الَّذِي قَصَّهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ نَبَأِ عِيسَى لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ الْقَصَصُ: التَّتَابُعُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَقُصُّ أَثَرَ فُلَانٍ: أَيْ يَتْبَعُهُ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِلْحَصْرِ، وَدُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهِ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَزِيَادَةُ: مِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنْ إِلهٍ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ بِالتَّثْلِيثِ مِنَ النَّصَارَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَأَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لا نلاعنه، فو الله لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَنَا لَا نُفْلِحُ أَبَدًا نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا، فَقَالُوا لَهُ: نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ، فَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ: هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَهْطًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ فِيهِمُ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ، فَقَالُوا: مَا شَأْنُكَ تَذْكُرُ صَاحِبَنَا؟ قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالُوا: عِيسَى، تَزْعُمُ: أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، قَالُوا: فَهَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ عِيسَى وَأُنْبِئْتَ بِهِ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ إِذَا أَتَوْكَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى وُجُوهٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدِمَ على النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ، فَدَعَاهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَا: أَسْلَمْنَا يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: كَذَبْتُمَا إِنْ شِئْتُمَا أخبرتكم مَا يَمْنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ، قَالَا: فَهَاتِ. قَالَ: حُبُّ الصَّلِيبِ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ. قَالَ جَابِرٌ: فَدَعَاهُمَا إِلَى الْمُلَاعَنَةِ فَوَاعَدَاهُ عَلَى الْغَدِ، فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَأَبَيَا أَنْ يُجِيبَاهُ وَأَقَرَّا لَهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْ فَعَلَا لَأَمْطَرَ الْوَادِي عَلَيْهِمَا نَارًا. قَالَ جَابِرٌ: فِيهِمْ نَزَلَتْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا الْآيَةَ. قَالَ جَابِرٌ: أَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ

[سورة آل عمران (3) : آية 64]

رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَلِيٌّ، وَأَبْنَاءَنَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَنِسَاءَنَا فَاطِمَةُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ وَصَحَّحَهُ، وَفِيهِ: أَنَّهُمْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: هَلْ لَكَ أَنْ نُلَاعِنَكَ؟. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: فَقُلْ تَعالَوْا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا الْآيَةَ، قَالَ: فَجَاءَ بِأَبِي بَكْرٍ وَوَلَدِهِ، وَبِعُمَرَ وَوَلَدِهِ، وَبِعُثْمَانَ وَوَلَدِهِ، وَبِعَلِيٍّ وَوَلَدِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ نَبْتَهِلْ نَجْتَهِدْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا الْإِخْلَاصُ، يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، وَهَذَا الدُّعَاءُ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ منكبيه، وهذا الابتهال فرفع يديه مدّا. [سورة آل عمران (3) : آية 64] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) قِيلَ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ نَجْرَانَ، بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقِيلَ: لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ وَقِيلَ: لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِالْبَعْضِ، لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةٌ عَامَّةٌ لَا تَخْتَصُّ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ حَاجُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَالسَّوَاءُ: الْعَدْلُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ فِي معنى العدل سوى وسوى، فَإِذَا فَتَحْتَ السِّينَ مَدَدْتَ، وَإِذَا ضَمَمْتَ أَوْ كسرت قصرت. قال زهير: أروني خُطَّةً لَا ضَيْمَ فِيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِلَى كَلِمَةِ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» فَالْمَعْنَى: أَقْبِلُوا إِلَى مَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ، وَهِيَ: الْكَلِمَةُ الْعَادِلَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ: كَلِمَةٍ، أَوْ رفع إلى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هِيَ أَنْ لَا نَعْبُدَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: أَنْ، مُفَسِّرَةً لَا مَوْضِعَ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا، وَفِي قَوْلِهِ: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً تَبْكِيتٌ لِمَنِ اعْتَقَدَ رُبُوبِيَّةَ الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ وَبَعْضٌ مِنْهُمْ، وَإِزْرَاءٌ عَلَى مَنْ قَلَّدَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ فَحَلَّلَ مَا حَلَّلُوهُ لَهُ، وَحَرَّمَ مَا حَرَّمُوهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَ مَنْ قَلَّدَهُ رَبًّا، وَمِنْهُ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» وَقَدْ جَوَّزَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ الْجَزْمَ فِي: وَلا نُشْرِكَ وَلا يَتَّخِذَ عَلَى التَّوَهُّمِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: أَعْرَضُوا عَمَّا دُعُوا إِلَيْهِ فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أَيْ: مُنْقَادُونَ لِأَحْكَامِهِ، مُرْتَضُونَ بِهِ، مُعْتَرِفُونَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ، وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، إلى قوله:

_ (1) . التوبة: 34.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 إلى 68]

بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكُفَّارِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا يَهُودَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَجَاهَدَهُمْ حَتَّى أَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ دَعَا يَهُودَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى الْكَلِمَةِ السَّوَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ قَالَ: عَدْلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً قَالَ: لَا يُطِيعُ بَعْضُنَا بَعْضًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ أَنْ يطيع الناس سادتهم وَقَادَتَهُمْ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً قال: سجود بعضهم لبعض. [سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 68] يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) لَمَّا ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ طَائِفَتَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَبَانَ بِأَنَّ الْمِلَّةَ الْيَهُودِيَّةَ وَالْمِلَّةَ النَّصْرَانِيَّةَ إِنَّمَا كَانَتَا مِنْ بَعْدِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَبْيَنُ حُجَّةٍ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ نَزَلَا مِنْ بَعْدِهِ، وَلَيْسَ فِيهِمَا اسْمٌ لِوَاحِدٍ مِنَ الْأَدْيَانِ وَاسْمُ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ كِتَابٍ. انْتَهَى، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْإِنْجِيلَ مَشْحُونٌ بِالْآيَاتِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَذِكْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَالِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى الْيَهُودِ، وَكَذَلِكَ الزَّبُورُ فِيهِ فِي مَوَاضِعِ ذِكْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَفِي أَوَائِلِهِ التَّبْشِيرُ بِعِيسَى، ثُمَّ فِي التَّوْرَاةِ ذِكْرُ كَثِيرٍ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، يَعْرِفُ هَذَا كُلُّ مَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَالْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُقَالُ: كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى أَلْفُ سَنَةٍ، وَبَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى أَلْفَا سَنَةٍ. وَكَذَا فِي الْكَشَّافِ. قَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ أَيْ: تَتَفَكَّرُونَ فِي دُحُوضِ حُجَّتِكُمْ وَبُطْلَانِ قَوْلِكُمْ. قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ الأصل في ها أنتم: أَأَنْتُمْ، أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ الْأُولَى هَاءً، لِأَنَّهَا أُخْتُهَا، كَذَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَالْأَخْفَشُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقَرَأَ قُنْبُلٌ: هَانْتُمْ وَقِيلَ: الْهَاءُ لِلتَّنْبِيهِ دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَيْ: هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ الرِّجَالُ الْحَمْقَى حَاجَجْتُمْ، وَفِي هَؤُلَاءِ لُغَتَانِ: الْمَدُّ وَالْقَصْرُ. وَالْمُرَادُ بِمَا لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ: هُوَ مَا كَانَ فِي التَّوْرَاةِ وَإِنْ خَالَفُوا مُقْتَضَاهُ وَجَادَلُوا فِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَالَّذِي لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ هُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ لِجَهْلِهِمْ بِالزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ، بَلْ وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي تَرْكِ الْجِدَالِ مِنَ الْمُحِقِّ كَمَا فِي حَدِيثِ «مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَلَوْ مُحِقًّا فَأَنَا ضَمِينُهُ عَلَى اللَّهِ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ» . وَقَدْ وَرَدَ تَسْوِيغُ الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ

أَحْسَنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصُرَ جَوَازُهُ عَلَى الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِي فِعْلِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، أَوْ عَلَى الْمَوَاطِنِ الَّتِي الْمُجَادَلَةُ فِيهَا بِالْمُحَاسَنَةِ لَا بِالْمُخَاشَنَةِ. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَيْ: كُلَّ شَيْءٍ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا حَاجَجُوا بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحَنِيفِ. قَوْلُهُ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ أَيْ: أَحَقَّهُمْ بِهِ وَأَخَصَّهُمْ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوا مِلَّتَهُ وَاقْتَدَوْا بِدِينِهِ وَهذَا النَّبِيُّ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم، أفرده بالذكر تعظيما وتشريفا، وأولويته صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِإِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَمِنْ جِهَةِ مُوَافَقَتِهِ لِدِينِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَأَحْبَارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعُوا عِنْدَهُ، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إبراهيم إلا نصرانيا، فنزل فيهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يَقُولُ: فِيمَا شَهِدْتُمْ وَرَأَيْتُمْ وَعَايَنْتُمْ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يَقُولُ: فِيمَا لَمْ تَشْهَدُوا وَلَمْ تَرَوْا وَلَمْ تُعَايِنُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمَّا الَّذِي لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ وَمَا أُمِرُوا بِهِ، وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَشَأْنُ إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يُعْذَرُ مَنْ حَاجَّ بِعِلْمٍ وَلَا يُعْذَرُ مَنْ حَاجَّ بِالْجَهْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ قَالَ: أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَأَدْحَضَ حُجَّتَهُمْ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ غَنْمٍ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَذَكَرَ قِصَّتَهُمْ مَعَهُ، وَمَا قَالُوهُ لَهُ لَمَّا قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنَّهُمْ يَشْتُمُونَ عِيسَى، وَهِيَ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ ثُمَّ قَالَ: فَأُنْزِلَتْ ذَلِكَ الْيَوْمَ خُصُومَتُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الآية. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمْ أَبِي خَلِيلُ رَبِّي ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِينَاءٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّبِيِّ الْمُتَّقُونَ، فَكُونُوا أَنْتُمْ سَبِيلَ ذَلِكَ، فَانْظُرُوا أَنْ لَا يَلْقَانِي النَّاسُ يَحْمِلُونَ الْأَعْمَالَ، وَتَلْقَوْنِي بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا، فَأَصُدُّ عَنْكُمْ بِوَجْهِي، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ وَلِيُّ إِبْرَاهِيمَ مِمَّنْ مَضَى، وممن بقي.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 إلى 74]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 74] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) الطَّائِفَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ: يَهُودُ بَنِي النَّضِيرِ، وَقُرَيْظَةَ، وَبَنِي قَيْنُقَاعَ، حِينَ دَعَوْا جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى دِينِهِمْ وَسَيَأْتِي، وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَتَكُونُ: مِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَقَوْلُهُ: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ قَدَمِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ، فَلَا يَعُودُ وَبَالُ مَنْ أَرَادَ فِتْنَتَهُمْ إِلَّا عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللَّهِ: مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ دلائل نبوّة محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ مَا فِي كُتُبِكُمْ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ تَشْهَدُونَ بِمِثْلِهَا مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ، كَتْمُ كُلِّ الْآيَاتِ عِنَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا حَقٌّ. وَلَبْسُ الحق بالباطل: خلطه بما يعتمدونه مِنَ التَّحْرِيفِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَوْلُهُ: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَشْرَافُهُمْ، قَالُوا لِلسَّفَلَةِ مِنْ قَوْمِهِمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَوَجْهُ النَّهَارِ: أَوَّلُهُ، وَسُمِّيَ: وَجْهًا، لِأَنَّهُ أَحْسَنُهُ، قَالَ: وَتُضِيءُ فِي وَجْهِ النَّهَارِ مُنِيرَةً ... كَجُمَانَةِ الْبَحْرِيِّ سُلَّ نِظَامُهَا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، أَمَرُوهُمْ بِذَلِكَ لِإِدْخَالِ الشَّكِّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لِكَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَدَيْهِمْ عِلْمٌ، فَإِذَا كَفَرُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ وَقَعَ الرَّيْبُ لِغَيْرِهِمْ، وَاعْتَرَاهُ الشَّكُّ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ ثَبَّتَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَكَّنَ أَقْدَامَهُمْ، فَلَا تُزَلْزِلُهُمْ أَرَاجِيفُ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَلَا تُحَرِّكُهُمْ رِيحُ الْمُعَانِدِينَ. قوله: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ: قَالَ ذَلِكَ الرُّؤَسَاءُ لِلسَّفَلَةِ: لَا تُصَدِّقُوا تَصْدِيقًا صَحِيحًا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ قَدْ أَسْلَمَ فَأَظْهَرُوا لَهُمْ ذَلِكَ خِدَاعًا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لِيَفْتَتِنُوا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ عَلَى هَذَا: مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، يَعْنِي: أَنَّ مَا بِكُمْ مِنَ الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ دَعَاكُمْ إِلَى أَنْ قُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ. وَقَوْلُهُ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى: أَنْ يُؤْتَى، أَيْ: لا تؤمنوا إِيمَانًا صَحِيحًا، وَتُقِرُّوا بِمَا فِي صُدُورِكُمْ إِقْرَارًا صادقا لغير من تبع دينكم، إن فعلتم ذلك ودبرتموه فإن الْمُسْلِمِينَ يُحَاجُّوكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ بِالْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: لَا تُؤْمِنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَتَكْفُرُوا آخِرَهُ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، أَيْ: لِمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، لِأَنَّ إِسْلَامَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُمْ غَيْظًا وَأَمَاتَهُمْ حَسْرَةً وَأَسَفًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتى عَلَى هَذَا: مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ كَالْأَوَّلِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهَ: أَنْ يُؤْتى مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا تُؤْمِنُوا أي: لا تظهروا إيمانكم ب أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَيْ: أَسِرُّوا تَصْدِيقَكُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أُوتُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَلَا تُفْشُوهُ إِلَّا لِأَتْبَاعِ دِينِكُمْ

وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دينكم، آن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، بالمدّ على الاستفهام، تأكيدا للإنكار الذي قالوه أنه لا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتُوهُ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا: أَنْ وَمَا بَعْدَهَا: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ تُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: تُقِرُّونَ أَنْ يُؤْتَى، وَقَدْ قَرَأَ «آنْ يُؤْتَى» بِالْمَدِّ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَحُمَيْدٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: أَنْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَالْخَافِضُ مَحْذُوفٌ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْتَى وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تُخْبِرُوا بِمَا فِي كِتَابِكُمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيمَانِ غَيْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِ انْقَطَعَ كَلَامُ الْيَهُودِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ثم قال الله لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَيْ: إِنَّ الْبَيَانَ الْحَقَّ بَيَانُ اللَّهِ، بَيَّنَ أَنْ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، عَلَى تَقْدِيرِ: لَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «1» أي: لئلا تضلوا، و «أو» فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ بِمَعْنَى: حَتَّى، وَكَذَلِكَ قَالَ الْكِسَائِيُّ، وَهِيَ عِنْدَ الْأَخْفَشِ: عَاطِفَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ بَدَلٌ مِنَ الْهُدَى، وَأَنْ يُؤْتَى خَبَرُ إِنَّ، عَلَى مَعْنَى: قُلْ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَعْظَمُ آيِ هَذِهِ السُّورَةِ إِشْكَالًا وَذَلِكَ صَحِيحٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: يُؤْتِي، بِكَسْرِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنْ يُؤْتَى، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهَا النَّافِيَةُ. وَقَوْلُهُ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قِيلَ: هِيَ النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: أَعَمُّ مِنْهَا، وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَدَفْعٌ لِمَا قَالُوهُ وَدَبَّرُوهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي آلِ عِمْرَانَ مِنْ ذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ فِي النَّصَارَى، وَيَدْفَعُ هَذَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ خِطَابَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى النَّصَارَى أَلْبَتَّةَ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي وَدَّتْ إِضْلَالَ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ الطَّائِفَةُ الْقَائِلَةُ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وهي مِنَ الْيَهُودِ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ قَالَ: تَشْهَدُونَ أَنَّ نَعْتَ نَبِيِّ اللَّهِ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِكُمْ، ثُمَّ تَكْفُرُونَ بِهِ، وَتُنْكِرُونَهُ، وَلَا تُؤْمِنُونَ بِهِ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ لَيْسَ لِلَّهِ دِينٌ غَيْرُهُ. وَأَخْرَجَا عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ يَقُولُ: لَمْ تَخْلِطُونَ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِالْإِسْلَامِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ: الْإِسْلَامُ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ يَقُولُ: تَكْتُمُونَ شَأْنَ مُحَمَّدٍ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عبد الله بن الصيف، وعديّ ابن زَيْدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غَدْوَةً، وَنَكْفُرُ بِهِ عَشِيَّةً، حَتَّى نَلْبِسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ، فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ، فأنزل الله فيهم:

_ (1) . النساء: 176.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 إلى 77]

يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالَتْ طائِفَةٌ الْآيَةَ، قَالَ: كَانُوا يَكُونُونَ مَعَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَيُجَالِسُونَهُمْ، وَيُكَلِّمُونَهُمْ، فَإِذَا أَمْسَوْا وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ كَفَرُوا بِهِ وَتَرَكُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قَالَ: هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ حَسَدًا مِنْ يَهُودَ أَنْ تَكُونَ النُّبُوَّةُ فِي غَيْرِهِمْ، وَإِرَادَةُ أَنْ يُتَابَعُوا عَلَى دِينِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ قال: أمة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ يَقُولُ الْيَهُودُ: فَعَلَ اللَّهُ بِنَا كَذَا وَكَذَا مِنَ الْكَرَامَةِ، حَتَّى أَنْزَلَ عَلَيْنَا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، فَإِنَّ الَّذِي أَعْطَيْتُكُمْ أَفْضَلَ فَقُولُوا: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَقُولُ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ كِتَابًا مِثْلَ كِتَابِكُمْ، وَبَعَثَ نَبِيًّا كَنَبِيِّكُمْ حَسَدْتُمُوهُ عَلَى ذَلِكَ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَقُولُ: هَذَا الأمر الذي أنتم عليه مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قَالَ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تُخْبِرُوهُمْ بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ لِيُحَاجُّوكُمْ قَالَ: لِيُخَاصِمُوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَتَكُونُ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ قَالَ: الْإِسْلَامُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قَالَ: الْقُرْآنُ وَالْإِسْلَامُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قَالَ: النُّبُوَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: رَحْمَتُهُ الإسلام يختص بها من يشاء. [سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 77] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ خِيَانَةِ الْيَهُودِ فِي الْمَالِ بَعْدَ بَيَانِ خِيَانَتِهِمْ فِي الدِّينِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، عَلَى مَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ «1» وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقِنْطَارِ. وَقَوْلُهُ: تَأْمَنْهُ هَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: تيمنه بكسر

_ (1) . البقرة: 8.

التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى لُغَةِ بَكْرٍ وَتَمِيمٍ، وَمِثْلُهُ: قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: نِسْتَعِينُ بِكَسْرِ النُّونِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ: يُؤَدِّهِ بِكَسْرِ الْهَاءِ فِي الدُّرْجِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَاتَّفَقَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: عَلَى إِسْكَانِ الْهَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِسْكَانُ الْهَاءِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ عِنْدَ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُجِيزُهُ أَلْبَتَّةَ، وَيَرَى أَنَّهُ غَلَطَ مَنْ قَرَأَ بِهِ، وَيُوهِمُ أَنَّ الْجَزْمَ يَقَعُ عَلَى الْهَاءِ وَأَبُو عَمْرٍو أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَكْسِرُ الْهَاءَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَذْهَبُ بَعْضِ الْعَرَبِ يُسَكِّنُونَ الْهَاءَ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قبلها، فيقولون: ضربته ضَرْبًا شَدِيدًا، كَمَا يُسَكِّنُونَ مِيمَ أَنْتُمْ وَقُمْتُمْ، وَأَنْشَدَ: لَمَّا رَأَى أَنْ لَا دَعَهْ وَلَا شِبَعْ ... مَالَ إِلَى أَرْطَاهْ «1» حِقْفٍ فَاضْطَجَعْ وَقَرَأَ أَبُو الْمُنْذِرِ سَلَّامٌ، وَالزُّهْرِيُّ: يُؤَدِّهُ بِضَمِّ الْهَاءِ بغير واو. وقرأ قتادة وحمزة ومجاهد: يؤدّ هو بِوَاوٍ فِي الْإِدْرَاجِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِمُ الْأَمِينُ الَّذِي يُؤَدِّي أَمَانَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً، وَفِيهِمُ الْخَائِنُ الَّذِي لَا يُؤَدِّي أَمَانَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ حَقِيرَةً، وَمَنْ كَانَ أَمِينًا فِي الْكَثِيرِ فَهُوَ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ بِالْأَوْلَى، وَمَنْ كَانَ خَائِنًا فِي الْقَلِيلِ فَهُوَ فِي الْكَثِيرِ خَائِنٌ بِالْأَوْلَى. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، أَيْ: لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا مُطَالِبًا لَهُ، مُضَيِّقًا عَلَيْهِ، مُتَقَاضِيًا لِرَدِّهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ، إِلَى تَرْكِ الْأَدَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا يُؤَدِّهِ. وَالْأُمِّيُّونَ: هُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ظُلْمِهِمْ حَرَجٌ لِمُخَالَفَتِهِمْ لَنَا فِي دِينِنَا، وَادَّعَوْا- لَعَنَهُمُ اللَّهُ- أَنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِمْ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ- بَلى أَيْ: بَلَى عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ لِكَذِبِهِمْ، وَاسْتِحْلَالِهِمْ أَمْوَالَ الْعَرَبِ، فَقَوْلُهُ: بَلى إِثْبَاتٌ لِمَا نَفَوْهُ مِنَ السَّبِيلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَمَّ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: بَلى ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ: أَيْ: مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَلَيْسَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. أَوْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِعَهْدِهِ رَاجِعٌ إِلَى: مَنْ، أَوْ إِلَى: اللَّهِ تَعَالَى، وَعُمُومُ الْمُتَّقِينَ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَائِدِ إِلَى: مَنْ، أَيْ: فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَيْ: يَسْتَبْدِلُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَعَهْدُ اللَّهِ: هُوَ مَا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الإيمان بالنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَيْمَانُ: هِيَ الَّتِي كَانُوا يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَنْصُرُونَهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: أُولئِكَ أَيِ: الْمَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْ: لَا نَصِيبَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَصْلًا، كَمَا يُفِيدُهُ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مِنَ التَّعْمِيمِ، أَوْ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ نَظَرَ رَحْمَةٍ، بَلْ يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ، وَيُعَذِّبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ قَالَ: هَذَا مِنَ النَّصَارَى وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ قَالَ: هَذَا مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قَالَ: إِلَّا مَا طَلَبْتَهُ وَاتَّبَعْتَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قتادة في قوله:

_ (1) . الأرطاة: واحدة الأرط، وهو شجر من شجر الرمل، والحقف: بالكسر، ما اعوجّ من الرمل.

[سورة آل عمران (3) : آية 78]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا أَصَبْنَا مِنْ مَالِ الْعَرَبِ سَبِيلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ قال النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ صَعْصَعَةَ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّا نُصِيبُ فِي الْغَزْوِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّجَاجَةَ وَالشَّاةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَقُولُونَ مَاذَا؟ قَالَ: نَقُولُ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ بَأْسٍ، قَالَ: هَذَا كَمَا قال أهل الكتاب: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ إِنَّهُمْ إِذَا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم إِلَّا بِطِيبِ نُفُوسِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى يَقُولُ: اتَّقَى الشِّرْكَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يَقُولُ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» . فَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ لَا، قَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِفْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذَنْ يَحْلِفُ فَيَذْهَبُ مَالِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ» . وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَحْلِفُ بِالسُّوقِ: لَقَدْ أَعْطَى بسلعته ما لم يعط بها. وأخرجه الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا: مُخَاصَمَةٌ كَانَتْ بَيْنَ الْأَشْعَثِ وَامْرِئِ الْقَيْسِ وَرَجُلٍ مِنَ حضرموت. وأخرجه النسائي وغيره. [سورة آل عمران (3) : آية 78] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) أَيْ: طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ يَلْوُونَ، أَيْ: يُحَرِّفُونَ وَيَعْدِلُونَ بِهِ عَنِ الْقَصْدِ، وَأَصْلُ اللَّيِّ: الْمَيْلُ، يَقُولُ لَوَى بِرَأْسِهِ: إِذَا أَمَالَهُ. وَقُرِئَ: يلوّون بالتشديد، ويلون بِقَلْبِ الْوَاوِ هَمْزَةً، ثُمَّ تَخْفِيفُهَا بِالْحَذْفِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِتَحْسَبُوهُ يَعُودُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ يَلْوُونَ وَهُوَ الْمُحَرَّفُ الَّذِي جَاءُوا بِهِ. قَوْلُهُ: وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَيْ: أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ مُفْتَرُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ، كَانُوا يَزِيدُونَ فِي الْكِتَابِ مَا لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يحرّفونه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 إلى 80]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80] مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) أَيْ: مَا كَانَ يَنْبَغِي وَلَا يَسْتَقِيمُ لِبَشَرٍ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَفِيهِ بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ: أَنَّ النَّصَارَى افْتَرَوْا عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ. وَالْحُكْمُ: الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ. قَوْلُهُ: وَلكِنْ كُونُوا أَيْ: وَلَكِنْ يَقُولُ النَّبِيُّ: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ، وَالرَّبَّانِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ، بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ لِعَظِيمِ اللِّحْيَةِ: لِحْيَانِيٌّ، وَلِعَظِيمِ الْجَمَّةِ: جَمَّانِيٌّ، وَلِغَلِيظِ الرَّقَبَةِ: رَقَبَانِيٌّ. قِيلَ: الرَّبَّانِيُّ: الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي تَيْسِيرِ الْأُمُورِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الرَّبَّانِيُّونَ: أَرْبَابُ الْعِلْمِ، وَاحِدُهُمْ رَبَّانِيٌّ، مِنْ قَوْلِهِ: رَبَّهُ، يُرَبِّهُ، فَهُوَ رَبَّانٍ: إِذَا دَبَّرَهُ وَأَصْلَحَهُ، وَالْيَاءُ لِلنَّسَبِ، فَمَعْنَى الرَّبَّانِيِّ: الْعَالِمُ بِدِينِ الرَّبِّ، القويّ التمسك بِطَاعَةِ اللَّهِ وَقِيلَ: الْعَالِمُ الْحَكِيمُ. قَوْلُهُ: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ أَيْ: بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ عَالِمِينَ، أَيْ: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ لِلْإِنْسَانِ وَالدِّرَاسَةِ لَهُ يَتَسَبَّبُ عَنْهُمَا الرَّبَّانِيَّةُ الَّتِي هِيَ التَّعْلِيمُ لِلْعِلْمِ، وَقُوَّةُ التَّمَسُّكِ بِطَاعَةِ اللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: «بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ» بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ بالتخفيف، واختار القراءة بِالتَّخْفِيفِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ: لِأَنَّهَا لِجَمْعِ الْمَعْنَيَيْنِ. قَالَ مَكِّيٌّ: التَّشْدِيدُ أَبْلَغُ لِأَنَّ الْعَالِمَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا غَيْرَ مُعَلِّمٍ، فَالتَّشْدِيدُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالتَّخْفِيفُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ فَقَطْ. وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ أَبُو حَاتِمٍ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَتَصْدِيقُهَا: تَدْرُسُونَ بِالتَّخْفِيفِ دُونَ التَّشْدِيدِ. انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ لَزِمَهُ أَنْ يَحْمِلَ الرَّبَّانِيَّ عَلَى أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُخْلِصًا أَوْ حَكِيمًا أَوْ حَلِيمًا حَتَّى تَظْهَرَ السَّبَبِيَّةُ وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ الرَّبَّانِيَّ عَلَى الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: كُونُوا مُعَلِّمِينَ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ عُلَمَاءَ، وَبِسَبَبِ كَوْنِكُمْ تَدْرُسُونَ الْعِلْمَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْظَمُ بَاعِثٍ لِمَنْ عَلَّمَ أَنْ يَعْمَلَ، وَإِنَّ مَنْ أَعْظَمِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ تَعْلِيمَهُ، وَالْإِخْلَاصَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى ثُمَّ يَقُولَ وَلا مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِعِبَادَةِ نَفْسِهِ، وَلَا يَأْمُرَ بِاتِّخَاذِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا، بَلْ يَنْتَهِي عَنْهُ، وَيَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى أَنْ يُؤْتِيَهُ، أَيْ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يَأْمُرَكُمْ بِأَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْقَطْعِ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، أَيْ: وَلَا يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ. وَالْهَمْزُ فِي قَوْلِهِ: أَيَأْمُرُكُمْ لِإِنْكَارِ مَا نُفِيَ عَنِ الْبَشَرِ. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ اسْتِئْذَانُ مَنِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيُّ حِينَ اجْتَمَعَتِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ! أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ، أَوْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي وَلَا بِذَلِكَ أَمَرَنِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 إلى 82]

مَا كانَ لِبَشَرٍ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَمَا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ أَفَلَا نَسْجُدُ لَكَ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ أَكْرِمُوا نَبِيَّكُمْ، وَاعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا كانَ لِبَشَرٍ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: رَبَّانِيِّينَ قَالَ: فُقَهَاءُ، عُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: حُكَمَاءُ، عُلَمَاءُ، حُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: عُلَمَاءُ، فُقَهَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حُكَمَاءُ، عُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ فِي قَوْلِهِ: وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ قَالَ: مُذَاكَرَةُ الْفِقْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا قَالَ: ولا يأمرهم النبيّ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 82] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) قَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَطَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهُ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْإِيمَانِ، وَيَأْمُرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ، فَهَذَا مَعْنَى النُّصْرَةِ لَهُ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، فَحَاصِلُهُ: أَنَّ اللَّهَ أَخَذَ مِيثَاقَ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الْآخِرُ وَيَنْصُرَهُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ بِمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. وَالْمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَتُعَلِّمُنَّ النَّاسَ لَمَا جَاءَكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُؤْمِنُوا، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْحَذْفِ قَوْلُهُ: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي وَمَا فِي قَوْلِهِ: لَما آتَيْتُكُمْ بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ سِيبَوَيْهِ: سَأَلْتُ الْخَلِيلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ فَقَالَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ النَّحَّاسُ: التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِ الْخَلِيلِ: الَّذِي آتَيْتُكُمُوهُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَاءُ لِطُولِ الِاسْمِ، وَاللَّامُ لام الابتداء، بهذا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَتَكُونُ: مَا، فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهَا: مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جاءَكُمْ وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مُصَدِّقٌ بِهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ وَالْكِسَائِيُّ: مَا شَرْطِيَّةٌ دَخَلَتْ عَلَيْهَا لَامُ التَّحْقِيقِ، كَمَا تَدْخُلُ عَلَى إِنْ، ولَتُؤْمِنُنَّ بِهِ جَوَابُ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ، إِذْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْلَافِ كَمَا تَقُولُ: أَخَذْتُ مِيثَاقَكَ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، وَهُوَ سَادٌّ مَسَدَّ الْجَزَاءِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ الْجَزَاءَ قَوْلُهُ: فَمَنْ تَوَلَّى. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لَما آتَيْتُكُمْ لَامُ التَّوْطِئَةِ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَتُؤْمِنُنَّ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَمَا: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ المتضمنة لمعنى الشرط، ولتؤمنن سادّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَالشَّرْطِ جَمِيعًا، وَأَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى: لِلَّذِي آتَيْتُكُمُوهُ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ. انْتَهَى وَقَرَأَ حَمْزَةُ: لَما آتَيْتُكُمْ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 83 إلى 85]

بكسر اللام، وما بمعنى الذي، وهي معلقة بِأَخَذَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: آتَيْنَاكُمْ عَلَى التَّعْظِيمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: آتَيْتُكُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَقِيلَ: إِنَّ مَا فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ اللَّامِ: مَصْدَرِيَّةٌ. وَمَعْنَاهُ: لِأَجْلِ إِيتَائِي إِيَّاكُمْ بَعْضَ الْكِتَابِ والحكمة، ثم لمجيء رسول الله مُصَدِّقٍ لِمَا مَعَكُمْ، وَاللَّامُ لَامُ التَّعْلِيلِ: أَيْ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ. قَوْلُهُ: أَقْرَرْتُمْ هُوَ مِنَ الْإِقْرَارِ. وَالْإِصْرُ فِي اللُّغَةِ: الثِّقْلُ، سُمِّيَ الْعَهْدُ إِصْرًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْدِيدِ. وَالْمَعْنَى: وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكَ عَهْدِي. قَوْلُهُ: قالُوا أَقْرَرْنا جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: قَالُوا: أَقْرَرْنَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدُهُمُ الْإِصْرَ اكْتِفَاءً بِذَلِكَ. قَوْلُهُ: قالَ فَاشْهَدُوا أَيْ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَاشْهَدُوا، أَيْ: لِيَشْهَدْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَيْ: وَأَنَا عَلَى إِقْرَارِكُمْ وَشَهَادَةِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الشَّاهِدِينَ. قَوْلُهُ: فَمَنْ تَوَلَّى أَيْ: أَعْرَضَ عَمَّا ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيِ: الْخَارِجُونَ عَنِ الطَّاعَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ يَقْرَءُونَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ وَنَحْنُ نَقْرَأُ: مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى قَوْمِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ طَاوُسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ قَالَ: هِيَ خَطَأٌ مِنَ الْكُتَّابِ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ: لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ، وَيَأْمُرُهُ فَيَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى قَوْمِهِ، ثُمَّ تَلَا: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِصْرِي قَالَ: عَهْدِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: قالَ فَاشْهَدُوا يَقُولُ: فَاشْهَدُوا عَلَى أُمَمِكُمْ بِذَلِكَ وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ فَمَنْ تَوَلَّى عَنْكَ يَا مُحَمَّدُ بَعْدَ هَذَا الْعَهْدِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ هم العاصون في الكفر. [سورة آل عمران (3) : الآيات 83 الى 85] أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) قَوْلُهُ: أَفَغَيْرَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَتَتَوَلَّوْنَ فَتَبْغُونَ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ: لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْإِنْكَارِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ يَبْغُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَتَرْجِعُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، قَالَ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ وَالثَّانِي عَامٌّ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى. وَقَرَأَ حَفْصٌ بِالتَّحْتِيَّةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بالفوقية

فِيهِمَا، وَانْتَصَبَ: طَوْعًا وَكَرْهًا، عَلَى الْحَالِ، أَيْ: طَائِعِينَ وَمُكْرَهِينَ. وَالطَّوْعُ: الِانْقِيَادُ وَالِاتِّبَاعُ بِسُهُولَةٍ، وَالْكُرْهُ: مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَهُوَ مِنْ أَسْلَمَ مَخَافَةَ الْقَتْلِ، وَإِسْلَامُهُ اسْتِسْلَامٌ مِنْهُ. قَوْلُهُ: آمَنَّا إِخْبَارٌ منه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أُمَّتِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كَمَا فُرِّقَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فآمنوا بِبَعْضٍ، وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أَيْ: مُنْقَادُونَ مُخْلِصُونَ. قَوْلُهُ: دِيناً مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ، أَيْ: يَبْتَغِ دِينًا حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ: غَيْرَ الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ الْفِعْلِ، وَدِينًا: إِمَّا تَمْيِيزٌ، أَوْ حَالٌ، إِذَا أُوِّلَ بِالْمُشْتَقِّ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ: غَيْرَ. قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ إِمَّا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ: مِنَ الْوَاقِعِينَ فِي الْخُسْرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال: أما من في السموات: فَالْمَلَائِكَةُ، وَأَمَّا مَنْ فِي الْأَرْضِ: فَمَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا كُرْهًا: فَمَنْ أُتِيَ بِهِ مِنْ سَبَايَا الْأُمَمِ فِي السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَهُمْ كَارِهُونَ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ: «الْمَلَائِكَةُ أَطَاعُوهُ فِي السَّمَاءِ، وَالْأَنْصَارُ، وَعَبْدُ الْقَيْسِ أَطَاعُوهُ فِي الْأَرْضِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُ أَسْلَمَ قَالَ: الْمَعْرِفَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمَّا الْمُؤْمِنُ: فَأَسْلَمَ طَائِعًا، فَنَفَعَهُ ذَلِكَ وَقُبِلَ مِنْهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ: فَأَسْلَمَ حِينَ رَأَى بِأْسَ اللَّهِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ مِنَ الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ وَالصِّبْيَانِ فاقرؤوا فِي أُذُنِهِ: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: لَيْسَ رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى دَابَّةٍ صَعْبَةٍ فَيَقْرَأُ فِي أُذُنِهَا: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ الْآيَةَ، إِلَّا ذَلَّتْ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «تَجِيءُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَا الصَّلَاةُ، فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، وَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ فَتَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَا الصَّدَقَةُ، فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، وَيَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ: أَنَا الصِّيَامُ، فَيَقُولُ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ يَجِيءُ الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ، فَيَقُولُ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 إلى 91]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 91] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) قَوْلُهُ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ: الْجَحْدُ، أَيْ: لَا يَهْدِي اللَّهُ، وَنَظِيرُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَيْفَ نَوْمِي عَلَى الْفِرَاشِ وَلَمَّا ... تَشْمَلِ الشَّامَ «1» غَارَةٌ شَعْوَاءُ أَيْ: لَا نَوْمَ لِي. وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا إِلَى الْحَقِّ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَبَعْدَ مَا شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ، وَبَعْدَ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمُعْجِزَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: كَيْفَ يَهْدِي الْمُرْتَدِّينَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يَهْدِي مَنْ حَصَلَ مِنْهُمْ مُجَرَّدُ الظُّلْمِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَمِنْهُمُ الْبَاقُونَ عَلَى الْكُفْرِ؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَنْبَ الْمُرْتَدِّ أَشَدُّ مِنْ ذَنْبِ مَنْ هُوَ بَاقٍ عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ قَدْ عَرَفَ الْحَقَّ ثُمَّ أَعْرَضَ عِنَادًا وَتَمَرُّدًا. قَوْلُهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَوْمِ الْمُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ: الْجُمْلَةُ الَّتِي بعده. وقد تقدّم تفسير اللعن. وقوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ مَعْنَاهُ: يُؤَخِّرُونَ وَيُمْهِلُونَ. ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ، فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ الِارْتِدَادِ وَأَصْلَحُوا بِالْإِسْلَامِ مَا كَانَ قَدْ أَفْسَدُوهُ مِنْ دِينِهِمْ بِالرِّدَّةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ إِذَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، مُخْلِصًا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فِيمَا أَحْفَظُ. قَوْلُهُ: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً. قَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِنَعْتِهِ وَصَفَتِهِ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بِإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَقِيلَ: ازْدَادُوا كُفْرًا بِالذُّنُوبِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَجَعَلَهَا فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ «2» مع كون التوبة مقبولة فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «3» غير ذَلِكَ فَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ «4» وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَكْفُرُوا، لِأَنَّ الْكُفْرَ أحبطها، وَقِيلَ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِذَا تَابُوا مِنْ كُفْرِهِمْ إِلَى كُفْرٍ آخَرَ، وَالْأَوْلَى: أَنْ يُحْمَلَ عدم قبول توبتهم فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ مَاتَ كَافِرًا غَيْرَ تَائِبٍ، فَكَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ بِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَتَكُونُ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فِي حُكْمِ الْبَيَانِ لَهَا. قَوْلُهُ: مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً الْمِلْءُ بِالْكَسْرِ: مِقْدَارُ مَا يَمْلَأُ الشَّيْءَ، وَالْمَلْءُ بِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ مَلَأْتُ الشَّيْءَ، وَذَهَبًا: تَمْيِيزٌ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وقال الكسائي: نصب

_ (1) . في القرطبي (4/ 129) : يشمل القوم. (2) . آل عمران: 90. (3) . الشورى: 25. (4) . النساء: 18.

عَلَى إِضْمَارِ: مِنْ ذَهَبٍ. كَقَوْلِهِ: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً «1» أَيْ: مِنْ صِيَامٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: ذَهَبٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ: مَلْءٍ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ قِيلَ: هِيَ مُقْحَمَةٌ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: لَوِ افْتَدَى بِهِ وَقِيلَ: فِيهِ حَمْلٌ عَلَى الْغَنِيِّ كَأَنَّهُ قِيلَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَلَوِ افْتَدَى بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مَلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَوِ افْتَدَى بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: بِمِثْلِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ: أَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ فَأَسْلَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ، عَرَفُوا مُحَمَّدًا، ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عباس: أن قوما أَسْلَمُوا، ثُمَّ ارْتَدُّوا، فَأَرْسَلُوا إِلَى قَوْمِهِمْ يَسْأَلُونَ لَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قَالَ السُّيُوطِيُّ: هَذَا خَطَأٌ مِنَ الْبَزَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ كَفَرُوا بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِذُنُوبٍ أَذْنَبُوهَا، ثُمَّ ذَهَبُوا يَتُوبُونَ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ فِي كُفْرِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قَالَ: نَمَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قَالَ: مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قَالَ: إِذَا تَابَ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قال: تابوا مِنَ الذُّنُوبِ وَلَمْ يَتُوبُوا مِنَ الْأَصْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ قَالَ: هُوَ كُلُّ كَافِرٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لو كان مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: لَقَدْ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الآية.

_ (1) . المائدة: 95.

[سورة آل عمران (3) : آية 92]

[سورة آل عمران (3) : آية 92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَقِبَ ذِكْرِ مَا لَا يَنْفَعُ الْكُفَّارَ. قَوْلُهُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ يُقَالُ: نَالَنِي مِنْ فُلَانٍ مَعْرُوفٌ يَنَالُنِي، أَيْ: وَصَلَ إِلَيَّ، وَالنَّوَالُ: الْعَطَاءُ، مِنْ قَوْلِكَ: نَوَّلْتُهُ تَنْوِيلًا، أَعْطَيْتُهُ. وَالْبِرُّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وعمر بْنُ مَيْمُونٍ، وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْجَنَّةُ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: لَنْ تَنَالُوا الْعَمَلَ الصَّالِحَ أَوِ الْجَنَّةَ، أَيْ: تَصِلُوا إِلَى ذَلِكَ، وَتَبْلُغُوا إِلَيْهِ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، أَيْ: حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُكُمْ مِنْ أموالكم التي تحبونها، ومن تَبْعِيضِيَّةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَتَّى تُنْفِقُوا بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ وَقِيلَ: بَيَانِيَّةٌ وَمَا مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَالْمُرَادُ: النَّفَقَةُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَاتِ وَقِيلَ الْمُرَادُ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: مَا تُنْفِقُوا أَيْ: مَا تُنْفِقُوا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ سَوَاءً كَانَ طَيِّبًا أَوْ خَبِيثًا فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وَمَا: شَرْطِيَّةٌ جَازِمَةٌ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَعْلِيلٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ» الْحَدِيثَ. وَقَدْ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَضَرَتْنِي هَذِهِ الْآيَةُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فَذَكَرْتُ مَا أَعْطَانِي اللَّهُ، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ مَرْجَانَةَ، جَارِيَةٍ لِي رُومِيَّةٍ، فَقُلْتُ: هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَلَوْ أَنِّي أَعُودُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ لِلَّهِ لَنَكَحْتُهَا، فَأَنْكَحْتُهَا نَافِعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ جَلُولَاءَ، فَدَعَا بِهَا عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فَأَعْتَقَهَا عُمَرُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بن منصور، وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: إِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ، جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بفرس له يقال لها: سُبُلٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، فَقَالَ: هِيَ صَدَقَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ قَالَ: الْجَنَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَالسُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَسْرُوقٍ مثله. [سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) قَوْلُهُ: كُلُّ الطَّعامِ أَيِ: الْمَطْعُومِ، وَالْحِلُّ: مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَهُوَ الْحَلَالُ، وَإِسْرَائِيلُ: هُوَ يَعْقُوبُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ كُلَّ الْمَطْعُومَاتِ كَانَتْ حَلَالًا لِبَنِي يَعْقُوبَ، لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ،

وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ مِنِ اسْمِ كَانَ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: كانَ حِلًّا أَيْ: أَنَّ كُلَّ الْمَطْعُومَاتِ كَانَتْ حَلَالًا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ أَيْ: كَانَ مَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى حَلَالًا لَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ لِظُلْمِهِمْ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ لَمَّا أَنْكَرُوا مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ على رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، مِنْ أَنَّ سَبَبَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُوَ ظُلْمُهُمْ وَبَغْيُهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1» . الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما «2» إلى قوله: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ «3» وقالوا: إنها محرّمة عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ تَكْذِيبَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى الله عليه وسلّم في كتابه العزيز، ثم أمره سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُحَاجَّهُمْ بِكِتَابِهِمْ، وَيَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حكما ما أنزله عليهم، لا ما أنزل عَلَيْهِ فَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ حَتَّى تَعْلَمُوا صِدْقَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ شَيْءٌ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ. وَفِي هَذَا مِنَ الْإِنْصَافِ لِلْخُصُومِ مَا لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ، وَلَا يَبْلُغُ مَدَاهُ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِحْضَارِ التَّوْرَاةِ وَتِلَاوَتِهَا فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: الْمُفَرِّطُونَ فِي الظُّلْمِ الْمُتَبَالِغُونَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا أَظْلَمَ مِمَّنْ حُوكِمَ إِلَى كِتَابِهِ وَمَا يَعْتَقِدُهُ شَرْعًا صَحِيحًا، ثُمَّ جَادَلَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَا يَفْتَرُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِكِتَابِهِمْ بَاطِلًا مَدْفُوعًا، وَكَانَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ وَصَدَّقَتْهُ التَّوْرَاةُ صَحِيحًا صَادِقًا، وَكَانَ ثُبُوتُ هَذَا الصِّدْقِ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْخَصْمُ دَفْعَهُ، أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنَادِيَ بِصِدْقِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْكَذِبَ، فَقَالَ: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أَيْ: مِلَّةَ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْحَنِيفِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِذَا تَبَيَّنَ لَكُمْ صِدْقِي، وَصِدْقُ مَا جِئْتُ بِهِ، فَادْخُلُوا فِي دِينِي، فإن من جملة ما أنزله اللَّهُ عَلَيَّ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «4» . وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قال: كان يسكن البدو، فاشتكى عرق النّسا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا تَحْرِيمَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا، فَلِذَلِكَ حَرَمَّهَا، قَالُوا: صَدَقْتَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْعِرْقُ أَجِدُهُ عِرْقَ النَّسَاءِ، فَكَانَ يَبِيتُ لَهُ زِقٌّ، يَعْنِي: صِيَاحٌ، فَجَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ إِنْ شَفَاهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ لَحْمًا فِيهِ عِرْقٌ، فَحَرَّمَتْهُ الْيَهُودُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ سَابِقًا عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ زَائِدَتَا الْكَبِدِ، وَالْكُلْيَتَانِ، وَالشَّحْمَ، إِلَّا مَا كَانَ عَلَى الظَّهْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ بِتَحْرِيمِ الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ، فقال الله لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وكذبوا ليس في التوراة.

_ (1) . النساء: 160. (2) . الأنعام: 146. (3) . الأنعام: 146. (4) . آل عمران: 85.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 إلى 97]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ شَيْءٍ آخَرَ مِمَّا جَادَلَتْ فِيهِ الْيَهُودُ بِالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ، لِكَوْنِهِ: مُهَاجَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ. فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ الْآيَةَ، فَقَوْلُهُ: وُضِعَ صِفَةٌ لِبَيْتٍ، وَخَبَرُ إِنَّ: قَوْلُهُ: لَلَّذِي بِبَكَّةَ فَنَبَّهَ تَعَالَى بِكَوْنِهِ: أَوَّلَ مُتَعَبِّدٍ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غيره، وقد اختلف في الباني فِي الِابْتِدَاءِ: فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: آدَمُ، وَقِيلَ: إِبْرَاهِيمُ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ: بِأَوَّلِ مَنْ بَنَاهُ الملائكة، جَدَّدَهُ آدَمُ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ. وَبَكَّةُ: عَلَمٌ لِلْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَكَذَا مَكَّةُ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَكَّةَ: اسْمٌ لِمَوْضِعِ الْبَيْتِ، وَمَكَّةُ: اسْمٌ لِلْبَلَدِ الْحَرَامِ وَقِيلَ: بَكَّةُ: لِلْمَسْجِدِ، وَمَكَّةُ: لِلْحَرَمِ كُلِّهِ قِيلَ: سُمِّيَتْ بَكَّةُ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِي الطَّوَافِ، يُقَالُ: بَكَّ الْقَوْمُ: ازْدَحَمُوا وَقِيلَ: الْبَكُّ: دَقُّ الْعُنُقِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَدُقُّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا: بِمَكَّةَ، فَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ: لقلة ما بها وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تَمُكُّ الْمُخَّ مِنَ الْعَظْمِ، بِمَا يَنَالُ سَاكِنَهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَمِنْهُ مَكَكْتُ الْعَظْمَ: إذا أخرجت ما فيه، وأمكته: إِذَا امْتَصَّهُ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ: لِأَنَّهَا تَمُكُّ مِنْ ظَلَمَ فِيهَا، أَيْ: تُهْلِكُهُ. قَوْلُهُ: مُبارَكاً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وُضِعَ، أَوْ مِنْ مُتَعَلِّقِ الظَّرْفِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَلَّذِي اسْتَقَرَّ بِبَكَّةَ مُبَارَكًا، وَالْبَرَكَةُ: كَثْرَةُ الْخَيْرِ الْحَاصِلِ لِمَنْ يَسْتَقِرُّ فِيهِ أَوْ يَقْصِدُهُ، أَيِ: الثَّوَابُ الْمُتَضَاعِفُ. وَالْآيَاتُ البينات: الواضحات، مِنْهَا: الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، وَمِنْهَا: أَثَرُ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، وَمِنْهَا: أَنَّ الْغَيْثَ إِذَا كَانَ بِنَاحِيَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ كَانَ الْخِصْبُ فِي الْيَمَنِ، وَإِنْ كَانَ بِنَاحِيَةِ الشَّامِيِّ كَانَ الْخِصْبُ بِالشَّامِ، وَإِذَا عَمَّ الْبَيْتَ كَانَ الْخِصْبُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، وَمِنْهَا: انْحِرَافُ الطُّيُورِ عَنْ أَنْ تَمُرَّ عَلَى هَوَائِهِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَمِنْهَا: هَلَاكُ مَنْ يَقْصِدُهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: مَقامُ إِبْراهِيمَ بَدَلٌ مِنْ آيَاتٌ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْهَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بَيَانَ الْآيَاتِ- وَهِيَ جَمْعٌ-: بِالْمَقَامِ- وَهُوَ فَرْدٌ- وَأَجَابَ: بِأَنَّ الْمَقَامَ جُعِلَ وَحْدَهُ بِمَنْزِلَةِ آيَاتٍ، لِقُوَّةِ شَأْنِهِ، أَوْ: بِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى آيَاتٍ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمْنُ مَنْ دَخْلَهُ، لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ نَوْعٌ مِنَ الْجَمْعِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لِبَيَانِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَرَمِ، وَهُوَ: أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا. وَبِهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنَ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا: تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ فِي الْحَرَمِ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ: وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ كَقَوْلِهِ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ «1» أَيْ: لَا تَرْفُثُوا، وَلَا تَفْسُقُوا، وَلَا تُجَادِلُوا. قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: لَامُ الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ، ثُمَّ زَادَ هَذَا الْمَعْنَى تَأْكِيدًا حَرْفُ عَلَى، فَإِنَّهُ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَالَاتِ على الوجوب

_ (1) . البقرة: 197. [.....]

عِنْدَ الْعَرَبِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا، فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَجَّ بِأَبْلَغِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، تَأْكِيدًا لِحَقِّهِ وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، وَهَذَا الْخِطَابُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إِلَّا مَنْ خَصَّصَهُ الدَّلِيلُ، كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ. وَقَوْلُهُ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ بَعْضٍ مِنَ النَّاسِ. وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِحِجٍّ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ يَحُجَّ الْبَيْتَ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَقِيلَ: إِنَّ: مَنْ، حَرْفُ شَرْطٍ، وَالْجَزَاءُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الِاسْتِطَاعَةِ مَاذَا هِيَ؟ فَقِيلَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْحَقُّ. قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَثِقَ بِقُوَّتِهِ لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ، إِذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّكَسُّبِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنْ كَانَ شَابًّا قَوِيًّا صَحِيحًا وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا: أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ إِلَى الْحَجِّ آمِنَةً، بِحَيْثُ يَأْمَنُ الْحَاجُّ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ الَّذِي لَا يَجِدُ زَادًا غَيْرَهُ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ آمِنَةٍ فَلَا اسْتِطَاعَةَ، لَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَهَذَا الْخَائِفُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَيْهِ سَبِيلًا بِلَا شَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا كَانَ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الظَّلَمَةِ من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُعْطِي حَبَّةً، وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ، وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ، وَخَالَفَهُ آخَرُونَ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَكَانَتِ الطَّرِيقُ آمِنَةً، بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُرُورِهَا، وَلَوْ بِمُصَانَعَةِ بَعْضِ الظَّلَمَةِ لِدَفْعِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، يتمكن منه الْحَاجُّ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ زَادِهِ وَلَا يُجْحِفُ بِهِ، فَالْحَجُّ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْهُ، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَطَاعَ السَّبِيلَ بِدَفْعِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ هَذَا الْمَالُ الْمَدْفُوعُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الِاسْتِطَاعَةُ، فَلَوْ وَجَدَ الرَّجُلُ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَجِدْ مَا يَدْفَعُهُ لِمَنْ يَأْخُذُ الْمَكْسَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يُنَافِي تَفْسِيرَ الِاسْتِطَاعَةِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ الْمُرُورُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ لِمَنْ وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ إِلَّا بِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمَكَّاسُونَ، وَلَعَلَّ وَجْهَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ سَقَطَ الْحَجُّ: أَنَّ أَخْذَ هَذَا الْمَكْسِ مُنْكَرٌ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يَدْخُلَ فِي مُنْكَرٍ، وَأَنَّهُ بِذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ: أَنْ يَكُونَ الْحَاجُّ صَحِيحَ الْبَدَنِ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ الرُّكُوبُ، فَلَوْ كَانَ زَمِنًا بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، وَلَا عَلَى الرُّكُوبِ، فَهَذَا وَإِنْ وَجَدَ الزَّادَ والراحلة فهو لم يستطيع السَّبِيلَ. قَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ قِيلَ: إِنَّهُ عَبَّرَ بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَنْ تَرْكِ الْحَجِّ، تَأْكِيدًا لِوُجُوبِهِ، وَتَشْدِيدًا عَلَى تَارِكِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَنْ كَفَرَ بِفَرْضِ الْحَجِّ وَلَمْ يَرَهُ وَاجِبًا، وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ تَرَكَ الْحَجَّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَقْتِ تَارِكِ الْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَخِذْلَانِهِ، وَبُعْدِهِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، مَا يَتَعَاظَمُهُ سَامِعُهُ، وَيَرْجُفُ لَهُ قَلْبُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا شَرَعَ لِعِبَادِهِ هَذِهِ الشَّرَائِعَ لِنَفْعِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، وَهُوَ تَعَالَى شَأْنُهُ، وَتَقَدَّسَ سُلْطَانُهُ، غَنِيٌّ لَا تَعُودُ إِلَيْهِ طَاعَاتُ عِبَادِهِ بِأَسْرِهَا بِنَفْعٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ الْآيَةَ، قَالَ:

كَانَتِ الْبُيُوتُ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَكَانَ إِذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ زُبْدَةً بَيْضَاءَ، وَكَانَتِ الأرض تحته كأنّها حشفة دحيت الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْأَزْرَقِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَغْنَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ لِأَنَّهُ مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ أَعْظَمُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ: بَكَّةُ، لِأَنَّ النَّاسَ يَجِيئُونَ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حُجَّاجًا. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ: بَكَّةُ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَاكَوْنَ فِيهَا، أَيْ: يَزْدَحِمُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ: مُبارَكاً قَالَ: جُعِلَ فِيهِ الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ: وَهُدىً لِلْعالَمِينَ يَعْنِي: بِالْهُدَى قِبْلَتَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ فَمِنْهُنَّ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَشْعَرُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ قَالَ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. وَأَخْرَجَ الْأَزْرَقِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قَالَ: كَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ لَوْ جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَنَاوَلْ وَلَمْ يُطْلَبْ، فَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، مَنْ سَرَقَ فِيهِ قُطِعَ، وَمَنْ زَنَى فِيهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَمَنْ قَتَلَ فِيهِ قُتِلَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْأَزْرَقِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ فِيهِ قَاتِلَ الْخَطَّابِ مَا مَسِسْتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قَالَ: مَنْ عَاذَ بِالْبَيْتِ أَعَاذَهُ الْبَيْتُ، وَلَكِنْ لَا يُؤْوَى، وَلَا يُطْعَمُ، وَلَا يُسْقَى، فَإِذَا خَرَجَ أُخِذَ بِذَنْبِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ أَبِي فِي الْحَرَمِ لَمْ أَعْرِضْ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ أَبِي فِي الْحَرَمِ مَا هِجْتُهُ. وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: قَامَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَقَالَ: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يُعْضَدَ بِهَا شَجَرَةٌ، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً من نهار ثم عادت حرمتها كَحُرْمَتِهَا أَمْسِ» . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَقِيلَ: مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» .

وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: أَنَّهُ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا السَّبِيلُ؟ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا السَّبِيلُ إِلَى الْحَجِّ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَضُرُّهُ مَا وَقَعَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضِ طُرُقِهِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا فِي الْآيَةِ: «أَنَّهُ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَجِدُ ظَهْرَ بَعِيرٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. وَأَخْرَجَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: السَّبِيلُ: أَنْ يَصِحَّ بَدَنُ الْعَبْدِ، وَيَكُونَ لَهُ ثَمَنُ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْحِفَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: سَبِيلًا مَنْ وَجَدَ إِلَيْهِ سَعَةً، وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: الِاسْتِطَاعَةُ: الْقُوَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: إِنَّ الْمُحْرِمَ لِلْمَرْأَةِ مِنَ السَّبِيلِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النَّهْيُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ. وَاخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ فَفِي لَفْظٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِي لَفْظٍ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَفِي لَفْظٍ بَرِيدٌ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي تَشْدِيدِ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَحُجَّ. فَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللَّهِ فَلَا عَلَيْهِ بِأَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. وَفِي إِسْنَادِهِ هِلَالُ الْخُرَاسَانِيُّ، أو هَاشِمٍ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ مَجْهُولٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَمْنَعْهُ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ، فَلْيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جِدَةٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمِ الْجِزْيَةَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عنه يقول: «من أطاق الحجّ، فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ يَهُودِيًّا مَاتَ أَوْ نَصْرَانِيًّا» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ إِسْنَادَهُ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُوسِرٌ، وَلَمْ يَحُجَّ، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَيْنَ عَيْنَيْهِ مكتوب كافر» .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 إلى 103]

وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ «مَنْ وَجَدَ إِلَى الْحَجِّ سَبِيلًا سَنَةً ثُمَّ سَنَةً ثُمَّ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَا يُدْرَى مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ تَرَكَ النَّاسُ الْحَجَّ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ كَمَا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس في قوله: مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ فَلَمْ يَرَ حَجَّهُ بِرًّا وَلَا تَرْكَهُ مَأْثَمًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَجَّ الْبَيْتِ، فَقَالُوا: لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا، وَأَبَوْا أَنْ يَحُجُّوا، قَالَ اللَّهُ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الْآيَةَ، جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْمِلَلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ إِلَّا الْمُسْلِمُونَ، وَكَفَرَتْ بِهِ خَمْسُ مِلَلٍ، قَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا نُصَلِّي إِلَيْهِ، وَلَا نَسْتَقْبِلُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عن أَبِي دَاوُدَ نُفَيْعٍ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الْآيَةَ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ تَرَكَهُ كَفَرَ؟ فَقَالَ: مَنْ تَرَكَهُ لَا يَخَافُ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ حَجَّ لَا يَرْجُو ثَوَابَهُ فَهُوَ ذَاكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِالْبَيْتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قول الله: مَنْ كَفَرَ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَرَأَ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ: سَبِيلًا ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَلَمْ يُؤْمِنْ به: فهو الكافر. [سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 103] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

قوله: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَكْفُرُونَ: لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، مُؤَكِّدَةٌ لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ، وَهَكَذَا الْمَجِيءُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي: شَهِيدٍ، يُفِيدُ مَزِيدَ التَّشْدِيدِ وَالتَّهْوِيلِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَصُدُّونَ يُفِيدُ مَا أَفَادَهُ الِاسْتِفْهَامُ الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَصُدُّونَ مِنْ أَصُدُّ، وَهُمَا لُغَتَانِ: مِثْلُ: صَدَّ اللَّحْمُ، وَأَصَدَّ: إِذَا تَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، وَسَبِيلُ اللَّهِ: دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَالْعِوَجُ: الْمَيْلُ وَالزَّيْغُ، يُقَالُ: عِوَجٌ بِالْكَسْرِ: إِذَا كَانَ فِي الدِّينِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَبِالْفَتْحِ: فِي الْأَجْسَامِ كَالْجِدَارِ وَنَحْوِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَغَيْرِهِ، وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: تَبْغُونَها عِوَجاً النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: تَطْلُبُونَ لَهَا اعْوِجَاجًا، وَمَيْلًا عَنِ الْقَصْدِ وَالِاسْتِقَامَةِ، بِإِبْهَامِكُمْ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهَا كَذَلِكَ، تَثْقِيفًا لِتَحْرِيفِكُمْ، وَتَقْوِيمًا لِدَعَاوِيكُمُ الْبَاطِلَةِ: وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: كَيْفَ تَطْلُبُونَ ذَلِكَ بِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَشْهَدُونَ أَنَّهَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غيره كما عرفتم ذلك من كتبكم المنزلة على أنبيائكم؟ قيل: إن في التوراة: أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، وَأَنَّ فِيهِ نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أَيْ: عُقَلَاءُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بَيْنَ أَهْلِ دِينِكُمْ، مَقْبُولُونَ عِنْدَهُمْ، فَكَيْفَ تَأْتُونَ بِالْبَاطِلِ الَّذِي يُخَالِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ دِينِكُمْ؟ ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ثُمَّ خَاطَبَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ مُحَذِّرًا لَهُمْ عَنْ طَاعَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّ تلك الطاعة تفضي إلى أن يردونهم بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كَافِرِينَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: مِنْ أَيْنَ يَأْتِيكُمْ ذَلِكَ وَلَدَيْكُمْ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ وَيَقْطَعُ أَثَرَهُ، وَهُوَ تِلَاوَةُ آيَاتِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَكَوْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ وَمَا بَعْدَهُ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ، لِيَحْصُلَ لَهُمْ بِذَلِكَ الْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، وَفِي وَصْفِ الصِّرَاطِ بِالْاسْتِقَامَةِ رَدٌّ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْعِوَجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الخطاب لأصحاب محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَاصَّةً، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِمْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ آثَارَهُ وَعَلَامَتَهُ وَالْقُرْآنَ الَّذِي أُوتِيَهُ فِينَا، فَكَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينا وإن لم نشاهد. انْتَهَى. وَمَعْنَى الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ: التَّمَسُّكُ بِدِينِهِ وَطَاعَتِهِ، وَقِيلَ: بِالْقُرْآنِ، يُقَالُ: اعْتَصَمَ بِهِ وَاسْتَعْصَمَ وَتَمَسَّكَ وَاسْتَمْسَكَ: إِذَا امْتَنَعَ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَعَصَمَهُ الطَّعَامُ: مُنِعَ الْجُوعُ مِنْهُ. قَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أَيِ: التَّقْوَى الَّتِي تَحِقُّ لَهُ، وَهِيَ: أَنْ لَا يَتْرُكَ الْعَبْدُ شَيْئًا مِمَّا يلزمه فعله، ولا يفعل شَيْئًا مِمَّا يَلْزَمُهُ تَرْكُهُ، وَيَبْذُلُ فِي ذَلِكَ جُهْدَهُ وَمُسْتَطَاعَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ يَقْوَى عَلَى هَذَا؟ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ، وَابْنِ زَيْدٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَلَيْسَ فِي آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْمَنْسُوخِ شَيْءٌ إِلَّا هَذَا. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ مُبَيَّنٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «1» وَالْمَعْنَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ. قَالَ: وَهَذَا أَصْوَبُ، لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ، فَهُوَ أَوْلَى. قَوْلُهُ: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ: لَا تكونن على حال

_ (1) . التغابن: 16.

سِوَى حَالِ الْإِسْلَامِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ: أَعْنِي قَوْلَهُ: وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وقد تقدم تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً الْحَبْلُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: السَّبَبُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْبُغْيَةِ، وَهُوَ إِمَّا تَمْثِيلٌ، أَوِ اسْتِعَارَةٌ. أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ بِالْقُرْآنِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ النَّاشِئِ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْدَاءَ مختلفين يقتل بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَيَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَأَصْبَحُوا بِسَبَبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ إِخْوَانًا، وَكَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَأَنْقَذَهُمُ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْحُفْرَةِ بِالْإِسْلَامِ. وَمَعْنَى قوله: فَأَصْبَحْتُمْ صِرْتُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ: مَعْنَاهُ الْأَصْلِيَّ، وَهُوَ: الدُّخُولُ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ، وَشَفَا كُلِّ شَيْءٍ: حَرْفُهُ، وَكَذَلِكَ شَفِيرُهُ، وَأَشْفَى عَلَى الشَّيْءِ: أَشْرَفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْبَيَانِ الْبَلِيغِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إِرْشَادٌ لَهُمْ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْهُدَى وَالِازْدِيَادِ مِنْهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: مَرَّ شَاسُ بن قيس- وكان شيخا قد عسا «1» فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَظِيمَ الْكُفْرِ، شَدِيدَ الطَّعْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ- عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي مَجْلِسٍ، قَدْ جَمَعَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ. فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ أُلْفَتِهِمْ، وَجَمَاعَتِهِمْ، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ «2» بِهَذِهِ الْبِلَادِ، وَاللَّهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ، فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا مَعَهُ مِنْ يَهُودَ، فَقَالَ: اعْمَدْ إِلَيْهِمْ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ، وَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنْشَدَهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا يَتَقَاوَلُونَ فِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ، وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ الظَّفَرُ فِيهِ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ، فَفَعَلَ، فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَتَنَازَعُوا، وَتَفَاخَرُوا، حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنَ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرَّكْبِ: أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَجُبَارُ بْنُ صَخْرٍ أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، فَتَقَاوَلَا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللَّهِ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، السِّلَاحَ السِّلَاحَ، مَوْعِدُكُمُ الظَّاهِرَةَ، وَالظَّاهِرَةُ: الْحَرَّةُ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا وَانْضَمَّتِ الْأَوْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَالْخَزْرَجُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، عَلَى دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى جَاءَهُمْ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! اللَّهَ اللَّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، واستقذكم بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كُفَّارًا، فَعَرَفَ الْقَوْمُ أنها نزغة من

_ (1) . عسا الشيخ عسيّا: كبر وولّى. (2) . قيلة: بطن من الأزد، من كهلان، من القحطانية، وهم أبناء الأوس والخزرج.

الشَّيْطَانِ، وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ لَهُمْ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَبَكَوْا، وَعَانَقَ الرِّجَالُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، قَدْ أَطْفَأَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوِّ اللَّهِ شَاسٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَأَنْزَلَ فِي أَوْسِ بْنِ قَيْظِيٍّ، وَجُبَارِ بْنِ صَخْرٍ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا الَّذِينَ صَنَعُوا مَا صنعوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُخْتَصَرَةً وَمُطَوَّلَةً مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: كَانُوا إِذَا سَأَلَهُمْ أَحَدٌ تَجِدُونَ مُحَمَّدًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَصَدُّوا النَّاسَ عَنْهُ، وَبَغَوْا مُحَمَّدًا، عِوَجًا: هَلَاكًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: لِمَ تَصُدُّونَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَعَنْ نَبِيِّ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ فيما تقرؤون مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَجْزِي إِلَّا بِهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؟ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ قَالَ: يُؤْمِنْ بِهِ. وَأَخْرَجُوا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: الِاعْتِصَامُ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِدُونِ قَوْلِهِ: وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ: أن يطاع فلا يعصى، فلم يستطيعوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «1» وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَقَّ تُقاتِهِ قَالَ: لَمْ تُنْسَخْ وَلَكِنْ حَقَّ تُقَاتِهِ: أَنْ يُجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا يَأْخُذَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَيَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ قَالَ: حَبْلُ اللَّهِ: الْقُرْآنُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ: بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بِطَاعَتِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بِعَهْدِهِ وَأَمْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: بِالْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ فَأَطْفَأَ اللَّهُ ذَلِكَ وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ يَقُولُ: كُنْتُمْ عَلَى طَرَفِ النَّارِ، مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ وَقَعَ فِي النَّارِ، فَبَعَثَ اللَّهُ محمدا صلّى الله عليه وسلم واستنقذكم به من تلك الحفرة.

_ (1) . التغابن: 16.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 إلى 109]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 109] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) قَوْلُهُ: وَلْتَكُنْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِ اللَّامِ، وَقُرِئَ: بِكَسْرِ اللَّامِ، عَلَى الْأَصْلِ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ لِلتَّبْعِيضِ، وَقِيلَ: لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ: بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ كَوْنَ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ: مَعْرُوفًا، وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ: مُنْكَرًا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَدْ عَيَّنَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ «1» الْآيَةَ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَفْسِيرٌ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَلَامٌ مِنْ كَلَامِهِ، غَلَطَ فِيهِ بَعْضُ النَّاقِلِينَ، فَأَلْحَقَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ عُثْمَانَ قَرَأَهَا كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكْتُبْهَا فِي مُصْحَفِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَوُجُوبُهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَأَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِهَا، وَرُكْنٌ مُشَيَّدٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَبِهِ يَكْمُلُ نِظَامُهَا وَيَرْتَفِعُ سَنَامُهَا. وَقَوْلُهُ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، إِظْهَارًا لِشَرَفِهِمَا، وَأَنَّهُمَا الْفَرْدَانِ الْكَامِلَانِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، كَمَا قِيلَ فِي عَطْفِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَحَذْفِ مُتَعَلِّقِ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ: أَيْ: يَدْعُونَ، وَيَأْمُرُونَ، وَيَنْهَوْنَ: لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ: كُلُّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ تَرْجِعُ إِلَى الْأُمَّةِ بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهَا بِمَا ذُكِرَ بَعْدَهَا هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْمُخْتَصُّونَ بِالْفَلَاحِ، وَتَعْرِيفُ الْمُفْلِحِينَ: لِلْعَهْدِ، أَوْ: لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ. قَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَقِيلَ: هُمُ الْمُبْتَدِعَةُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقِيلَ: الْحَرُّورِيَّةُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. وَالْبَيِّنَاتُ: الْآيَاتُ الْوَاضِحَةُ، الْمُبَيِّنَةُ لِلْحَقِّ، الْمُوجِبَةُ لِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ. قِيلَ: وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ يَخْتَصُّ بِالْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْفُرُوعِيَّةُ الِاجْتِهَادِيَّةُ فَالِاخْتِلَافُ فِيهَا جَائِزٌ، وَمَا زَالَ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ مَا زَالَ فِي تِلْكَ الْعُصُورِ الْمُنْكِرُ لِلِاخْتِلَافِ مَوْجُودًا، وَتَخْصِيصُ بَعْضِ مَسَائِلِ الدِّينِ بِجَوَازِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ ليس بصواب، فالمسائل الشرعية متساوية الْأَقْدَامِ فِي انْتِسَابِهَا إِلَى الشَّرْعِ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ مُنْتَصِبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيِ: اذْكُرْ وقيل: بما يدل عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ: اسْتَقَرَّ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ، أي: يوم القيامة، حين يبعثون

_ (1) . الحج: 41.

مِنْ قُبُورِهِمْ، تَكُونُ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ مُبْيَضَّةً وَوُجُوهُ الْكَافِرِينَ مُسْوَدَّةً. وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، إِذَا قَرَأَ الْمُؤْمِنُ كِتَابَهُ رَأَى حَسَنَاتِهِ فَاسْتَبْشَرَ وَابْيَضَّ وَجْهُهُ، وَإِذَا قَرَأَ الْكَافِرُ كِتَابَهُ رَأَى سَيِّئَاتِهِ فَحَزِنَ وَاسْوَدَّ وَجْهُهُ، وَالتَّنْكِيرُ فِي وُجُوهٍ: لِلتَّكْثِيرِ، أَيْ: وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: تَبْيَضُّ وَتَسْوَدُّ: بِكَسْرِ التَّاءَيْنِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: تَبْيَاضُّ وَتَسْوَادُّ. قَوْلُهُ: أَكَفَرْتُمْ أَيْ: فَيُقَالُ لهم: أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجب مِنْ حَالِهِمْ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، وَقَدَّمَ بَيَانَ حَالِ الْكَافِرِينَ لِكَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ تَحْذِيرٍ وَتَرْهِيبٍ قِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وقيل: المرتدون وقيل: المنافقون وقيل: المبتدعون. قوله: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أَيْ: فِي جَنَّتِهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ، عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالرَّحْمَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِدُخُولِ صَاحِبِهِ الْجَنَّةَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَوْلُهُ: هُمْ فِيها خالِدُونَ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ. وَتِلْكَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْذِيبِ الْكَافِرِينَ، وَتَنْعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: مُتَلَبِّسَةٌ بِالْحَقِّ وَهُوَ الْعَدْلُ. وَقَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ جُمْلَةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَفِي تَوَجُّهِ النَّفْيِ إِلَى الْإِرَادَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى النَّكِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُرِيدُ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الظُّلْمِ الْوَاقِعَةِ عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَالَمِ. وَالْمُرَادُ بِمَا في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ: مَخْلُوقَاتُهُ سُبْحَانَهُ، أَيْ: لَهُ ذَلِكَ، يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَعَلَى مَا يريد، وعبر بما تغليبا لغير الْعُقَلَاءِ لِكَثْرَتِهِمْ، أَوْ لِتَنْزِيلِ الْعُقَلَاءِ مَنْزِلَةَ غَيْرِهِمْ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ، وَصَلَهُ بِذِكْرِ اتِّسَاعِ قُدْرَتِهِ وَغِنَاهُ عَنِ الظُّلْمِ، لِكَوْنِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي قَبْضَتِهِ وَقِيلَ: هُوَ ابتداء كلام يتضمن البيان بأن جميع ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ حَتَّى يَسْأَلُوهُ وَيَعْبُدُوهُ، وَلَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ. وَقَوْلُهُ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أَيْ: لَا إِلَى غَيْرِهِ، لَا شَرِكَةً وَلَا اسْتِقْلَالًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ قَالَ: الْخَيْرُ: اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَسُنَّتِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كُلُّ آيَةٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ: فَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: فَهُوَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَالشَّيْطَانِ. انْتَهَى. وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، فَلَيْسَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ أَيِ: الْإِسْلَامِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ: بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ: عَنْ مَعْصِيَةِ رَبِّهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَهُمُ الرُّوَاةُ. انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُ هَذَا التَّخْصِيصِ، فَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَالْخِطَابِ بِسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَكَلَّفَهُمْ بِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَزَادَ: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 إلى 112]

عن عبد الله بن عمر مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا، وَزَادَ «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَقِيلَ لَهُ: مَا الْوَاحِدَةُ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا نحوه، فيه: «فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ» وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِيهِ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ» . وَقَدْ وَرَدَتْ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْكَوْنِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْفُرْقَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ قَالَ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم عن أبي كَعْبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: صَارُوا فِرْقَتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لِمَنِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ؟ فَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ فِي صُلْبِ آدَمَ حَيْثُ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ: فَهُمُ الَّذِينَ اسْتَقَامُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَأَخْلَصُوا لَهُ الدِّينَ، فَبَيَّضَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رِضْوَانِهِ وَجَنَّتَهُ. وَقَدْ رُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) قَوْلُهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، يَتَضَمَّنُ بَيَانَ حَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَكَانَ، قِيلَ: هِيَ التَّامَّةُ، أَيْ: وُجِدْتُمْ وَخُلِقْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، وَمِثْلُهُ مَا أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ: وَجِيرَانٌ لَنَا كَانُوا كِرَامُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا «1» وقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ «2» . وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُرِيدُ: أَهْلَ أُمَّةٍ، أَيْ: خَيْرَ أَهْلِ دِينٍ، وَأَنْشَدَ: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: كُنْتُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقِيلَ: كُنْتُمْ مُنْذُ آمَنْتُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وأن هذه الخيرية مُشْتَرَكَةٌ مَا بَيْنَ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاضِلَةً فِي ذَاتِ بَيْنِهَا. كَمَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ: أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أَيْ: أُظْهِرَتْ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ إِلَخْ، كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، يَتَضَمَّنُ بَيَانَ كَوْنِهِمْ خَيْرَ أُمَّةٍ مَعَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ مَا أَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ وَاتَّصَفُوا بِهِ، فَإِذَا تَرَكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ،

_ (1) . مريم: 29. (2) . الأعراف: 86.

زَالَ عَنْهُمْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ عَلَى الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي، أَنْ يَكُونَ: تَأْمُرُونَ وَمَا بَعْدَهُ، فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ حَالَ كَوْنِكُمْ آمِرِينَ، نَاهِينَ، مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَبِمَا يَجِبُ عَلَيْكُمُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَمَا شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ. قَوْلُهُ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أَيِ: الْيَهُودُ، إِيمَانًا كَإِيمَانِ الْمُسْلِمِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، بَلْ قَالُوا: نُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أَيِ: الْخَارِجُونَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، الْمُتَمَرِّدُونَ فِي بَاطِلِهِمُ، المكذبون لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلِمَا جَاءَ بِهِ، فَيَكُونُ هَذَا التَّفْصِيلُ على هذا كلاما مستأنفا، جوابا عن سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ فَاسْتَحَقَّ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ؟ قَوْلُهُ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أَيْ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ بِنَوْعٍ من أنواع الضرر إلا بنوع الأذى، وهو الكذب، والتحريف، والبهت، لا يَقْدِرُونَ عَلَى الضَّرَرِ الَّذِي هُوَ الضَّرَرُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْحَرْبِ وَالنَّهْبِ وَنَحْوِهِمَا، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَغْلِبُونَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. وَالْمَعْنَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ أَلْبَتَّةَ، لَكِنْ يُؤْذُونَكُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا نَفَاهُ مِنَ الضَّرَرِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ أَيْ: يَنْهَزِمُونَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُقَاوَمَتِكُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَضُرُّوكُمْ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، أَيْ: ثُمَّ لَا يُوجَدُ لَهُمْ نَصْرٌ وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ غَلَبٌ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، بَلْ شَأْنُهُمُ الْخِذْلَانُ مَا دَامُوا. وَقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا سُبْحَانَهُ حَقًّا، فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمْ تَخْفِقْ لَهُمْ رَايَةُ نَصْرٍ، وَلَا اجْتَمَعَ لَهُمْ جَيْشٌ غَلَبَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَهِيَ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ «1» . قَوْلُهُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى هَذَا التَّرْكِيبِ. وَالْمَعْنَى: صَارَتِ الذِّلَّةُ مُحِيطَةٌ بِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَيْنَما ثُقِفُوا فِي أَيِّ مَكَانٍ وُجِدُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ: إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ: أَيْ: بِذِمَّةِ اللَّهِ أَوْ بِكِتَابِهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أَيْ: بِذِمَّةٍ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ: النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم وَباؤُ أَيْ: رَجَعُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَقِيلَ: احْتَمَلُوا، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: اللُّزُومُ وَالِاسْتِحْقَاقُ، أَيْ: لَزِمَهُمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لَهُ. وَمَعْنَى ضَرْبِ الْمَسْكَنَةِ: إِحَاطَتُهَا بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَهَكَذَا حَالُ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ تَحْتَ الْفَقْرِ الْمُدْقِعِ، وَالْمَسْكَنَةِ الشَّدِيدَةِ إِلَّا النَّادِرَ الشَّاذَّ مِنْهُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ، إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْغَضَبِ، أَيْ: وَقَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ، إِلَى الْكُفْرِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ لِلَّهِ وَاعْتِدَائِهِمْ لِحُدُودِهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ وَالْبَوَاءَ بِالْغَضَبِ مِنْهُ لِكَوْنِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِهِ، وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُ، بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ.

_ (1) . إن ما حصل من قيام دولة لليهود على أرض فلسطين العربية المسلمة هو بسبب ما آل إليه حال المسلمين من الفرقة والبعد عن دين الله وعدم تحقيق شروط الخيرية فيهم المشار إليها بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ....

[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 إلى 117]

وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَقَالَ: أَنْتُمْ، فَكُنَّا كُلَّنَا، وَلَكِنْ قَالَ: كُنْتُمْ، فِي خَاصَّةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ومن صنع مِثْلَ صُنْعِهِمْ، كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَكُونُ لِأَوَّلِنَا، وَلَا يَكُونُ لِآخِرِنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَّةِ فَلْيُؤَدِّ شَرْطَ اللَّهِ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ يَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عن مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْآيَةِ: إِنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ نَحْوَهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يَدْخُلُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، وَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ كَوْنِهَا خَيْرَ الْأُمَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً قَالَ: تَسْمَعُونَ مِنْهُمْ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ، يَدْعُونَكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: إِشْرَاكُهُمْ فِي عُزَيْرٍ وَعِيسَى وَالصَّلِيبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ قَالَا: يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ قَالَ: بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعَهْدٍ مِنَ الناس. [سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 117] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) قَوْلُهُ: لَيْسُوا سَواءً أَيْ: أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرُ مُسْتَوِينَ، بَلْ مُخْتَلِفِينَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، سِيقَتْ لِبَيَانِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ: أُمَّةٌ قائِمَةٌ هُوَ اسْتِئْنَافٌ أَيْضًا، يَتَضَمَّنُ بَيَانَ الْجِهَةِ الَّتِي تَفَاوَتُوا فِيهَا، مِنْ كَوْنِ بَعْضِهِمْ أُمَّةً قَائِمَةً إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ذُو أُمَّةٍ،

أَيْ: ذُو طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ، وَأَنْشَدَ: وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ وَأُخْرَى غَيْرُ قَائِمَةٍ، فَتَرَكَ الْأُخْرَى اكْتِفَاءً بِالْأُولَى، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ: عَصَيْتُ «1» إِلَيْهَا الْقَلْبَ إِنِّي لِأَمْرِهَا ... مُطِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا؟ أَرَادَ أَرُشْدٌ أَمْ غَيٌّ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: أُمَّةٌ: رُفِعَ بِسَوَاءٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ يَسْتَوِي أُمَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ وَأُمَّةٌ كَافِرَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَرْفَعُ أُمَّةً بِسَوَاءٍ فَلَا يَعُودُ عَلَى اسْمِ لَيْسَ شَيْءٌ، وَيَرْفَعُ بِمَا لَيْسَ جَارِيًا عَلَى الْفِعْلِ، وَيُضْمِرُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكَافِرَةِ، فَلَيْسَ لِإِضْمَارِ هَذَا وَجْهٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَذَهَبُوا أَصْحَابُكَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَأَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ. انْتَهَى. وَعِنْدِي: أَنَّ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ قَوِيٌّ قَوِيمٌ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَسْتَوِي أُمَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ شَأْنُهَا كَذَا وَأُمَّةٌ أُخْرَى شَأْنُهَا كَذَا، وَلَيْسَ تَقْدِيرُ هَذَا الْمَحْذُوفِ مِنْ بَابِ تَقْدِيرِ مَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّحَّاسُ، فَإِنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِ الْكَافِرَةِ لَا يُفِيدُ مَفَادَ تَقْدِيرِ ذِكْرِهَا هُنَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يَعُودُ عَلَى اسْمِ لَيْسَ شَيْءٌ، فَيَرُدُّهُ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْعَائِدِ شَائِعٌ مُشْتَهِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْفَنِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَرْفَعُ بِمَا لَيْسَ جَارِيًا عَلَى الْفِعْلِ، فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ. وَالْقَائِمَةُ: الْمُسْتَقِيمَةُ الْعَادِلَةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَقَمْتُ الْعُودَ فَقَامَ، أَيِ: استقام. وقوله: يَتْلُونَ: في محل رفع أَنَّهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِأُمَّةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ آناءَ اللَّيْلِ سَاعَاتِهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَسْجُدُونَ ظَاهِرُهُ: أَنَّ التِّلَاوَةَ كَائِنَةٌ مِنْهُمْ فِي حَالِ السُّجُودِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الْآيَةِ: هُمْ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي السُّجُودِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا الظَّاهِرِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ يَسْجُدُونَ: وَهُمْ يُصَلُّونَ، كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالسُّجُودِ عَنْ مَجْمُوعِ الصَّلَاةِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ. وَظَاهِرُ هَذَا: أَنَّهُمْ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ فِي صَلَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ بِصَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا: الصَّلَاةُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وقيل: صلاة الليل مطلقا. وقوله: وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ صِفَةٌ أُخْرَى لِأُمَّةٍ، أَيْ: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَرَأْسُ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ صِفَتَانِ أَيْضًا لِأُمَّةٍ، أَيْ: أَنَّ هَذَا مِنْ شَأْنِهِمْ وَصَفَتِهِمْ. وَظَاهِرُهُ يُفِيدُ: أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْعُمُومِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ هُنَا: أَمْرُهُمْ بِاتِّبَاعِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَبِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: نَهْيُهُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ: مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ أيضا، أي: يبادرون

_ (1) . في ديوان أبي ذؤيب، والقرطبي (4/ 176) : عصاني إليها القلب إنّي لأمره

بِهَا غَيْرَ مُتَثَاقِلِينَ عَنْ تَأْدِيَتِهَا لِمَعْرِفَتِهِمْ بِقَدْرِ ثَوَابِهَا. وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَقِيلَ: مِنْ: بِمَعْنَى: مَعَ، أَيْ: مَعَ الصَّالِحِينَ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ صَالِحٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْأُمَّةِ الْمَوْصُوفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ. قَوْلُهُ: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أَيَّ خَيْرٍ كَانَ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أَيْ: لَنْ تَعْدِمُوا ثَوَابَهُ، وَعَدَّاهُ إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ وَهُوَ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ لِأَنَّهُ ضَمَّنَهُ مَعْنَى الْحِرْمَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنْ تُحْرَمُوهُ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَحَفْصٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِي الْفِعْلَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فوق، فيهما، وكان أبو عمرة يَرَى الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا. وَالْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ: كُلُّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ صِفَةُ التَّقْوَى وَقِيلَ: الْمُرَادُ: مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُمُ الْأُمَّةُ الْمَوْصُوفَةُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ مَدْحًا لَهُمْ، وَرَفْعًا مِنْ شَأْنِهِمْ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قِيلَ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ ذَكَرَ كُفَّارَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ. وَمَعْنَى: لَنْ تُغْنِيَ: لَنْ تَدْفَعَ، وَخَصَّ الْأَوْلَادَ أنهم أَحَبُّ الْقَرَابَةِ وَأَرْجَاهُمْ لِدَفْعِ مَا يَنُوبُهُ. وَقَوْلُهُ: ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ بَيَانٌ لِعَدَمِ إِغْنَاءِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يُعَوِّلُونَ عَلَيْهَا. وَالصِّرُّ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ، أَصْلُهُ: مِنَ الصَّرِيرِ الَّذِي هُوَ: الصَّوْتُ، فَهُوَ صَوْتُ الرِّيحِ الشَّدِيدِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: صَوْتُ لَهَبِ النَّارِ الَّتِي فِي تِلْكَ الرِّيحِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَثَلُ نَفَقَةِ الْكَافِرِينَ فِي بُطْلَانِهَا، وَذَهَابِهَا، وَعَدَمِ مَنْفَعَتِهَا، كَمَثَلِ زَرْعٍ أَصَابَهُ رِيحٌ بَارِدَةٌ، أَوْ نَارٌ، فَأَحْرَقَتْهُ، أَوْ أَهْلَكَتْهُ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ أَصْحَابُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَلَى طَمَعٍ مِنْ نَفْعِهِ وَفَائِدَتِهِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَيُقَالُ: كَمَثَلِ زَرْعٍ أَصَابَتْهُ رِيحٌ فِيهَا صِرٌّ، أَوْ: مَثَلُ إِهْلَاكِ مَا يُنْفِقُونَ كَمَثَلِ إِهْلَاكِ رِيحٍ فِيهَا صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ أي: المنفقين من الكافرين لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بِالْكُفْرِ الْمَانِعِ مِنْ قَبُولِ النَّفَقَةِ الَّتِي أَنْفَقُوهَا، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ: لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ لَا لِلتَّخْصِيصِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْفَاعِلِ، لَا بِالْمَفْعُولِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سلام، وثعلبة، وأسيد ابن سَعِيدٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودَ مَعَهُمْ، فَآمَنُوا، وَصَدَّقُوا، وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ. قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ مِنْهُمْ: مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَتَبِعَهُ إِلَّا شِرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا خِيَارَنَا مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ وَذَهَبُوا إِلَى غَيْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسُوا سَواءً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَقُولُ: مُهْتَدِيَةٌ، قَائِمَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَمْ تَنْزِعْ عَنْهُ، ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيعوه. وخرج عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: أُمَّةٌ قائِمَةٌ عَادِلَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: آناءَ اللَّيْلِ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: سَاعَاتِ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: لَيْسُوا سَواءً قَالَ: لَا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلّى الله عليه وسلم يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 إلى 120]

قَالَ: صَلَاةُ الْعَتَمَةِ هُمْ يُصَلُّونَهَا، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُصَلُّونَهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ لَيْلَةً، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ أَحَدٌ يَذْكُرُ اللَّهَ هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ» وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَيْسُوا سَواءً وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر، وابن أبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَنْصُورٍ. قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قَالَ: لَنْ يَضِلَّ عَنْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ: فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قَالَ: لَنْ تَظْلِمُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ يقول: ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ أَيِ: الْمُشْرِكُونَ، وَلَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ، كَمَثَلِ هَذَا الزَّرْعِ إِذَا زَرَعَهُ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ فَأَصَابَهُ رِيحٌ فِيهَا صِرٌّ فَأَهْلَكَتْهُ، فَكَذَلِكَ أَنْفَقُوا فَأَهْلَكَهُمْ شِرْكُهُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن عباس: يها صِرٌّ قال: برد شديد. [سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) الْبِطَانَةُ: مَصْدَرٌ، يُسَمَّى بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ: خَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ، وَأَصْلُهُ: الْبَطْنُ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الظَّهْرِ، وَبَطْنُ فُلَانٍ بِفُلَانٍ، يُبْطِنُ بُطُونًا وبطانة: إذا كان خاصا بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَهُمْ خُلَصَائِي «1» كُلُّهُمْ وَبِطَانَتِي ... وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ قَوْلُهُ: مِنْ دُونِكُمْ أَيْ: مِنْ سِوَاكُمْ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، أَيْ: مِنْ دُونِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الْكُفَّارُ، أَيْ: بِطَانَةٌ كَائِنَةٌ مِنْ دُونِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا وَقَوْلُهُ: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا: في محل نصب صفة لبطانة، يُقَالُ: لَا أَلُوكَ جَهْدًا: أَيْ لَا أُقَصِّرُ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَمَا الْمَرْءُ مَا دَامَتْ حَشَاشَةُ نَفْسِهِ ... بِمُدْرِكِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ وَلَا آلِ

_ (1) . في القرطبي (4/ 178) : أولئك خلصائي نعم وبطانتي ...

وَالْمُرَادُ: لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا فِيهِ الْفَسَادُ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: لِكَوْنِهِ مُضَمِّنًا مَعْنَى المنع، أي: لا يمنعونكم خَبَالًا، وَالْخَبَالُ وَالْخَبَلُ: الْفَسَادُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَبْدَانِ وَالْعُقُولِ. قَالَ أَوْسُ: أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمْ بِيَدٍ ... إِلَّا يَدًا مَخْبُولَةَ الْعَضُدِ أَيْ: فَاسِدَةَ الْعَضُدِ. قَوْلُهُ: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ مَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: وَدُّوا عَنَتَكُمْ، وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَشِدَّةُ الضَّرَرِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّهْيِ. قَوْلُهُ: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ هِيَ شِدَّةُ الْبُغْضِ، كَالضَّرَّاءِ: لِشِدَّةِ الضُّرِّ. وَالْأَفْوَاهُ: جَمْعُ فَمٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا قَدْ ظَهَرَتِ الْبَغْضَاءُ فِي كَلَامِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا خَامَرَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْبُغْضِ وَالْحَسَدِ أَظْهَرَتْ أَلْسِنَتُهُمْ مَا فِي صُدُورِهِمْ، فَتَرَكُوا التَّقِيَّةَ، وَصَرَّحُوا بِالتَّكْذِيبِ. أَمَّا الْيَهُودُ: فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاضِحٌ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ: فَكَانَ يَظْهَرُ مِنْ فَلَتَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ مَا يَكْشِفُ عَنْ خُبْثِ طويتهم. وهذه الجملة لِبَيَانِ حَالِهِمْ: وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لِأَنَّ فلتات اللسان أقل مما تكنه الصُّدُورُ، بَلْ تِلْكَ الْفَلَتَاتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي الصُّدُورِ قَلِيلَةٌ جِدًّا. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِخْلَاصِ، إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ الْمُدْرِكَةِ لِذَلِكَ الْبَيَانِ. قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ جُمْلَةٌ مُصَدَّرَةٌ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ، أَيْ: أَنْتُمْ أُولَاءِ الْخَاطِئُونَ فِي مُوَالَاتِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ خَطَأَهُمْ بِتِلْكَ الْمُوَالَاةِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ التَّذْيِيلِيَّةِ. فَقَالَ: تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: تُحِبُّونَهُمْ خَبَرٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ وَقِيلَ: إِنَّ أُولَاءِ: مَوْصُولٌ، وَتُحِبُّونَهُمْ: صِلَتُهُ، أَيْ: تُحِبُّونَهُمْ لِمَا أَظْهَرُوا لَكُمُ الْإِيمَانَ، أَوْ لِمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَلا يُحِبُّونَكُمْ لِمَا قَدِ اسْتَحْكَمَ فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ وَالْحَسَدِ. قَوْلُهُ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أَيْ: بِجِنْسِ الْكِتَابِ جَمِيعًا، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا يُحِبُّونَكُمْ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ بِكُتُبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا كِتَابُهُمْ، فَمَا بَالُكُمْ تُحِبُّونَهُمْ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ. وَفِيهِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ شَدِيدٌ، لِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ الْحَقُّ أَحَقُّ بِالصَّلَابَةِ وَالشِّدَّةِ مِمَّنْ هُوَ عَلَى الْبَاطِلِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا نِفَاقًا وَتَقِيَّةً. وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ تَأَسُّفًا وَتَحَسُّرًا، حَيْثُ عَجَزُوا عَنِ الِانْتِقَامِ مِنْكُمْ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ الْمُغْتَاظَ وَالنَّادِمَ بِعَضِّ الْأَنَامِلِ وَالْبَنَانِ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ اسْتِمْرَارَ غَيْظِهِمْ ماداموا فِي الْحَيَاةِ حَتَّى يَأْتِيَهُمُ الْمَوْتُ وَهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَصُدُورِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِذَاتِ الصُّدُورِ: الْخَوَاطِرُ الْقَائِمَةُ بِهَا، وَهُوَ كَلَامٌ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: قُلْ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ. قَوْلُهُ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَنَاهِي عَدَاوَتِهِمْ، وَحَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ: يَعُمَّانِ كُلَّ مَا يُحْسِنُ وَمَا يَسُوءُ. وَعَبَّرَ بِالْمَسِّ فِي الْحَسَنَةِ، وَبِالْإِصَابَةِ فِي السَّيِّئَةِ، لِلدَّلَالَةِ: عَلَى أَنَّ مُجَرَّدِ مَسِّ الْحَسَنَةِ يَحْصُلُ بِهِ الْمَسَاءَةُ، وَلَا يَفْرَحُونَ إِلَّا بِإِصَابَةِ السَّيِّئَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَسَّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِصَابَةِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَتُهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِأَنْ يُتَّخَذَ بِطَانَةً وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى عَدَاوَتِهِمْ أَوْ عَلَى التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ وَتَتَّقُوا مُوَالَاتِهِمْ، أو ما حرّمه الله عليكم ولا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، يُقَالُ: ضَارَّهُ يَضُورُهُ وَيَضِيرُهُ ضَيْرًا وَضُيُورًا، بِمَعْنَى: ضَرَّهُ يَضُرُّهُ، وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ: لَا يَضُرُّكُمْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا مِنْ ضَرَّ يَضُرُّ، فَهُوَ عَلَى الْقِرَاءَةِ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 إلى 129]

الْأَوْلَى: مَجْزُومٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: مَرْفُوعٌ عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ الْفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى نِيَّةِ التَّقْدِيمِ، أَيْ: لَا يَضُرُّكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ: لَا يَضُرُّكُمْ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَشَيْئًا: صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنَ يَهُودَ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ لِخَوْفِ الفتنة عليهم منهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هُمُ الْخَوَارِجُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أَيْ: بِكِتَابِكُمْ وَبِكِتَابِهِمْ وَبِمَا مَضَى مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكِتَابِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِالْبَغْضَاءِ لَهُمْ مِنْهُمْ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ يَعْنِي: النَّصْرَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَالرِّزْقَ، وَالْخَيْرَ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَعْنِي: الْقَتْلَ، وَالْهَزِيمَةَ، والجهد. [سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) الْعَامِلُ فِي «إِذْ» فِعْلٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَاذْكُرْ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ مَنْزِلِ أَهْلِكَ، أَيْ: مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُكَ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي يَوْمِ بَدْرٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ: فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. قَوْلُهُ: تُبَوِّئُ أَيْ: تَتَّخِذُ لَهُمْ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، وَأَصْلُ التَّبَوُّءِ: اتِّخَاذُ الْمَنْزِلِ، يُقَالُ: بَوَّأْتُهُ مَنْزِلًا: إِذَا أَسْكَنْتَهُ إِيَّاهُ، وَالْفِعْلُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَاذْكُرْ إِذْ خَرَجْتَ مِنْ مَنْزِلِ أَهْلِكَ تَتَّخِذُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، أَيْ: أَمَاكِنَ يَقْعُدُونَ فِيهَا، وَعَبَّرَ عَنِ الْخُرُوجِ بِالْغُدُوِّ الَّذِي هُوَ الْخُرُوجُ غَدْوَةً، مع كونه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَرَجَ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ كَمَا سَيَأْتِي، لِأَنَّهُ قَدْ يُعَبِّرُ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ عَنِ الْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَصْلِ مَعْنَاهُمَا، كَمَا يُقَالُ: أَضْحَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِ الضحى. قوله:

إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا هُوَ بَدَلٌ مِنْ إِذْ غَدَوْتَ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تُبَوِّئُ، أَوْ بِقَوْلِهِ: سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَالطَّائِفَتَانِ: بَنُو سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَكَانَا جَنَاحَيِ الْعَسْكَرِ يَوْمَ أُحُدٍ وَالْفَشَلُ: الْجُبْنُ وَالْهَمُّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ بَعْدَ الْخُرُوجِ، لَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَحَفِظَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، سِيقَتْ لِتَصْبِيرِهِمْ، بِتَذْكِيرِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الصَّبْرِ مِنَ النَّصْرِ. وَبَدْرٌ: اسْمٌ لِمَاءٍ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ الْمَوْضِعِ نَفْسِهِ، وَسَيَأْتِي سِيَاقُ قِصَّةِ بَدْرٍ فِي الْأَنْفَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَذِلَّةٌ: جَمْعُ قِلَّةٍ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا بِسَبَبِ قِلَّتِهِمْ أَذِلَّةً، وَهُوَ: جَمْعُ ذَلِيلٍ، اسْتُعِيرَ لِلْقِلَّةِ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَذِلَّةً، بَلْ كَانُوا أَعِزَّةً، وَالنَّصْرُ: الْعَوْنُ. وَقَدْ شَرَحَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ غَزْوَةَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ بِأَتَمِّ شَرْحٍ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي سِيَاقِ ذَلِكَ هَاهُنَا. قَوْلُهُ: إِذْ تَقُولُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: نَصَرَكُمُ وَالْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ لِلْإِنْكَارِ مِنْهُ صَلَّى الله عليه وسلّم عليهم عَدَمَ اكْتِفَائِهِمْ بِذَلِكَ الْمَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَعْنَى الْكِفَايَةِ: سَدُّ الْخَلَّةِ وَالْقِيَامُ بِالْأَمْرِ وَالْإِمْدَادُ فِي الْأَصْلِ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَالْمَجِيءُ بِلَنْ: لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَأَصْلُ الْفَوْرِ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْأَخْذُ فِيهِ بِجِدٍّ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَارَتِ الْقِدْرُ، تَفُورُ فَوْرًا وَفَوَرَانًا، إِذَا غَلَتْ، وَالْفَوْرُ: الْغَلَيَانُ، وَفَارَ غَضَبُهُ: إِذَا جَاشَ، وَفَعَلَهُ مِنْ فَوْرِهِ: أَيْ قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ، وَالْفَوَّارَةُ مَا يَفُورُ مِنَ الْقِدْرِ، اسْتُعِيرَ لِلسُّرْعَةِ، أَيْ: إِنْ يَأْتُوكُمْ مِنْ سَاعَتِهِمْ هَذِهِ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ فِي حَالِ إِتْيَانِهِمْ، لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: مُسَوِّمِينَ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ، أي: معلمين بعلامات، وقرأ أبو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ: مُسَوِّمِينَ بِكَسْرِ الْوَاوِ اسْمُ فَاعِلٍ، أَيْ: مُعَلِّمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِعَلَامَةٍ. وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَالتَّسْوِيمُ: إِظْهَارُ سِيمَا الشَّيْءِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: مُسَوِّمِينَ أَيْ: مُرْسِلِينَ خَيْلَهُمْ فِي الْغَارَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ اعْتَمَّتْ بِعَمَائِمَ بِيضٍ وَقِيلَ: حُمْرٍ، وَقِيلَ: خُضْرٌ وقيل: صفر، فهذه الْعَلَامَةُ الَّتِي عَلَّمُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الزَّجَّاجِ وَقِيلَ: كَانُوا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَقُولِ الْقَوْلِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ لِلْإِمْدَادِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ، أَوْ لِلتَّسْوِيمِ، أَوْ لِلْإِنْزَالِ، وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ الزَّجَّاجُ، وَصَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا بُشْرى اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، وَالْبُشْرَى: اسْمٌ مِنَ الْبِشَارَةِ، أَيْ: إِلَّا لِتُبَشَّرُوا بِأَنَّكُمْ تُنْصَرُونَ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ، أَيْ: بِالْإِمْدَادِ، وَاللَّامُ لَامُ كَيْ، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْإِمْدَادَ بُشْرَى بِالنَّصْرِ وَطُمَأْنِينَةً لِلْقُلُوبِ، وَفِي قَصْرِ الْإِمْدَادِ عَلَيْهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ مُبَاشَرَةِ الْمَلَائِكَةِ لِلْقِتَالِ يَوْمَئِذٍ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ، فَلَا تَنْفَعُ كَثْرَةُ الْمُقَاتَلَةِ وَوُجُودُ الْعُدَّةِ. قَوْلُهُ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يُمْدِدْكُمْ وَالطَّرَفُ: الطَّائِفَةُ، وَالْمَعْنَى: نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ لِيَقْطَعَ طَائِفَةً مِنَ الْكُفَّارِ، وَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ أَوْ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَقْطَعَ تِلْكَ الطَّائِفَةَ، أَوْ يُمْدِدْكُمْ لِيَقْطَعَ. وَمَعْنَى يَكْبِتَهُمْ: يُحْزِنَهُمْ، وَالْمَكْبُوتُ: الْمَحْزُونُ. وَقَالَ بَعْضُ أهل اللغة: معناه: يكبدهم،

أَيْ: يُصِيبُهُمْ بِالْحُزْنِ وَالْغَيْظِ فِي أَكْبَادِهِمْ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ مَعْنَى كَبَتَ: أَحْزَنَ وَأَغَاظَ وَأَذَلَّ، وَمَعْنَى كَبَدَ أَصَابَ الْكَبِدَ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ أَيْ: غَيْرُ ظَافِرِينَ بِمَطْلَبِهِمْ. قَوْلُهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ أَمْرِهِمْ يَصْنَعُ بِهِمْ مَا يَشَاءُ مِنَ الْإِهْلَاكِ، أَوِ الْهَزِيمَةِ، أَوِ التَّوْبَةِ إِنْ أَسْلَمُوا، أَوِ الْعَذَابِ، فَقَوْلُهُ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ يَكْبِتَهُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ: أَوْ: بِمَعْنَى: إِلَّا أَنْ، بِمَعْنَى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، فَتَفْرَحُ بِذَلِكَ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، فَتُشْفَى بِهِمْ. قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ سَعَةِ مُلْكِهِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أَنْ يُعَذِّبَهُ، يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يَشَاءُ، ويحكم ما يريد لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» وَفِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَتَبْشِيرٌ لِعِبَادِهِ بِأَنَّهُ الْمُتَّصِفُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ، وَمَا أوقع هذا التذييل الْجَلِيلَ وَأَحَبَّهُ إِلَى قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِأَسْرَارِ التَّنْزِيلِ!. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ مُعَاذٍ قَالُوا: كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ، اخْتَبَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَقَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْكُفْرِ، وَيَوْمَ أَكْرَمَ اللَّهُ فِيهِ مَنْ أَرَادَ كَرَامَتَهُ بِالشَّهَادَةِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ. وَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ سِتُّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ، فِيهَا صِفَةُ مَا كَانَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَمُعَاتَبَةُ مَنْ عَاتَبَ مِنْهُمْ يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ الْآيَةَ قَالَ: يَوْمَ أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: تُوَطِّنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْآيَةَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّارِيخِ كَيْفِيَّةُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَشُورَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، فَمِنْ قَائِلٍ نَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، وَمِنْ قَائِلٍ نَبْقَى فِي الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُشِيرِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ رَأْيُهُ الْبَقَاءَ فِي الْمَدِينَةِ وَالْمُقَاتَلَةَ فِيهَا، ثُمَّ لَمَّا خُولِفَ فِي رَأْيِهِ انْخَزَلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ المنافقين، وهم الثُّلُثِ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ خَرَجَ بِهِمُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ فِي بَنِي حَارِثَةَ وَبَنِي سَلَمَةَ: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَمَا يَسُرُّنِي أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ لِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ قَالَ: ذَلِكَ يَوْمُ أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمْ بَنُو حَارِثَةَ، وَبَنُو سَلَمَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مجاهد وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ إلى بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ يَقُولُ: وَأَنْتُمْ قَلِيلٌ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثُمِائَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَلَغَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ: أَنَّ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيَّ يَمُدُّ الْمُشْرِكِينَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ إِلَى قَوْلِهِ: مُسَوِّمِينَ قَالَ: فَبَلَغَتْ كُرْزًا

_ (1) . الأنبياء: 23.

فَلَمْ يُمِدَّ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يُمِدَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْخَمْسَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يَعْنِي: كُرْزًا وَأَصْحَابَهُ: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ فَبَلَغَ كُرْزًا وَأَصْحَابَهُ الْهَزِيمَةَ، فَلَمْ يُمِدَّهُمْ، وَلَمْ يَنْزِلِ الْخَمْسَةُ، وَأُمِدُّوا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ فَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أُمِدُّوا بِأَلْفٍ، ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ صَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا يَوْمُ أُحُدٍ، فَلَمْ يَصْبِرُوا، وَلَمْ يَتَّقُوا، فَلَمْ يُمَدُّوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَوْ أُمِدُّوا لَمْ يَنْهَزِمُوا يَوْمَئِذٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يَقُولُ: مِنْ سَفَرِهِمْ هَذَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ فَوْرِهِمْ قَالَ: مِنْ وَجْهِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ فَوْرِهِمْ قَالَ: مِنْ غَضَبِهِمْ. وَأَخْرَجَا عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: مُسَوِّمِينَ قَالَ: مُعَلِّمِينَ، وَكَانَتْ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ سَوْدَاءَ، وَيَوْمَ أُحُدٍ عَمَائِمَ حَمْرَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ مُعْتَجِرًا بِهَا، فَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ صُفْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ: عَمَائِمَ بَيْضَاءَ، قَدْ أَرْسَلُوهَا فِي ظُهُورِهِمْ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ: عَمَائِمَ حَمْرَاءَ، وَلَمْ تَضْرِبِ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَكَانُوا يُكَوِّنُونَ عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يَضْرِبُونَ. وَفِي بَيَانِ التَّسْوِيمِ عَنِ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: قَطَعَ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ طَرَفًا مِنَ الْكُفَّارِ، وقتل صناديدهم ورؤوسهم وَقَادَتَهُمْ فِي الشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً قَالَ: هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ، قَطَعَ اللَّهُ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَبَقِيَتْ طَائِفَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ذَكَرَ اللَّهُ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ بِأُحُدٍ، وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَقَالَ: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ الشُّهَدَاءَ فَقَالَ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ قَالَ: يُحْزِنَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ، فَقَالَ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى فِي رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللَّهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ الْعَنْ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، اللَّهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

_ (1) . آل عمران: 169.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 إلى 136]

صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ، أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ، قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ. يَجْهَرُ بِذَلِكَ. وَكَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا» لِأَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَفِي لَفْظٍ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ لَحْيَانَ وَرَعْلًا وَذَكْوَانَ وَعَصِيَّةَ، عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية. [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِلتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا ذُكِرَ وَقِيلَ: هُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَثْنَاءِ قِصَّةِ أُحُدٍ. وَقَوْلُهُ: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لَيْسَ لِتَقْيِيدِ النَّهْيِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَادَةِ الَّتِي يَعْتَادُونَهَا فِي الرِّبَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُرْبُونَ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ زَادُوا فِي الْمَالِ مِقْدَارًا يَتَرَاضَوْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَزِيدُونَ فِي أَجَلِ الدَّيْنِ، فَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يَأْخُذَ الْمُرْبِي أَضْعَافَ دَيْنِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَأَضْعَافًا: حَالٌ، وَمُضَاعَفَةً: نَعْتٌ لَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْرَارِ التَّضْعِيفِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تُفِيدُ تَأْكِيدَ التَّوْبِيخِ. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فِيهِ الْإِرْشَادُ إِلَى تَجَنُّبِ مَا يَفْعَلُهُ الْكُفَّارُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: وَفِيهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ مَنِ اسْتَحَلَّ الرِّبَا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: اتَّقَوُا الرِّبَا الَّذِي يَنْزِعُ مِنْكُمُ الْإِيمَانَ، فَتَسْتَوْجِبُونَ النَّارَ. وَإِنَّمَا خَصَّ الرِّبَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِأَنَّهُ الَّذِي تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْحَرْبِ مِنْهُ لِفَاعِلِهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ، أَيْ: فِي كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَيْ: رَاجِينَ الرَّحْمَةَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَوْلُهُ: وَسارِعُوا عَطْفٌ عَلَى أَطِيعُوا، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: سارِعُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْوَاوِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كِلَا الْأَمْرَيْنِ سَائِغٌ مُسْتَقِيمٌ، وَالْمُسَارَعَةُ: الْمُبَادَرَةُ، وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ، أَيْ: سَارِعُوا إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَقَوْلُهُ: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي: عرضها كعرض السموات وَالْأَرْضِ، وَمِثْلُهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى: عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ

وَالْأَرْضِ «1» وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إلى أنها تقرن السموات وَالْأَرْضَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ كَمَا تُبْسَطُ الثِّيَابُ وَيُوَصَلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَذَلِكَ عَرْضُ الْجَنَّةِ، وَنَبَّهَ بِالْعَرْضِ عَلَى الطُّولِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الطُّولَ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنَ الْعَرْضِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَاءَ عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الاستعارة دون الحقيقة، وذلك أنها لمّا كَانَتِ الْجَنَّةُ مِنَ الِاتِّسَاعِ وَالِانْفِسَاحِ فِي غَايَةٍ قصوى، حسن التعبير عنها بعرض السموات وَالْأَرْضِ مُبَالَغَةً، لِأَنَّهُمَا أَوْسَعُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَعْلَمُهُ عِبَادُهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ التَّحْدِيدَ. وَالسَّرَّاءُ: الْيُسْرُ، وَالضَّرَّاءُ: الْعُسْرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرَهُمَا. وَقِيلَ: السَّرَّاءُ: الرَّخَاءُ، وَالضَّرَّاءُ: الشِّدَّةُ، وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَقِيلَ: السَّرَّاءُ فِي الْحَيَاةِ، وَالضَّرَّاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَوْلُهُ: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يُقَالُ: كَظَمَ غَيْظَهُ: أَيْ: سَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْهُ، وَمِنْهُ كَظَمْتُ السِّقَاءَ: أَيْ: مَلَأْتُهُ. وَالْكِظَامَةُ: مَا يَسُدُّ بِهِ مَجْرَى الْمَاءِ، وَكَظَمَ الْبَعِيرُ جَرَّتَهُ «2» : إِذَا رَدَّهَا فِي جَوْفِهِ. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي قَبْلَهُ. قَوْلُهُ: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ أَيِ: التَّارِكِينَ عُقُوبَةَ مَنْ أَذْنَبَ إِلَيْهِمْ وَاسْتَحَقَّ الْمُؤَاخَذَةَ، وَذَلِكَ مِنْ أَجَلِّ ضُرُوبِ الْخَيْرِ. وَظَاهِرُهُ الْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْمَمَالِيكِ أَمْ لَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِهِمُ: الْمَمَالِيكُ. وَاللَّامُ فِي الْمُحْسِنِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مُحْسِنٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، فَيَخْتَصُّ بِهَؤُلَاءِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السِّيَاقِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ مُسَمَّى الْإِحْسَانِ، أَيَّ إِحْسَانٍ كَانَ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً هَذَا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: أُولئِكَ وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُتَّقِينَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهَؤُلَاءِ هُمْ صِنْفٌ دُونَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ مُلْحَقِينَ بِهِمْ، وَهُمُ التَّوَّابُونَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَالْفَاحِشَةُ: وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فِعْلَةٌ فَاحِشَةٌ، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَقَدْ كَثُرَ اخْتِصَاصُهَا بِالزِّنَا. وَقَوْلُهُ: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْ: بِاقْتِرَافِ ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَقِيلَ: أَوْ: بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَالْمُرَادُ مَا ذُكِرَ، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ: الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ: الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: ذَكَرُوا اللَّهَ أَيْ: بِأَلْسِنَتِهِمْ، أَوْ أَخْطَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ، أَوْ ذَكَرُوا وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أَيْ: طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ لَهَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَفْسِيرُهُ: بِالتَّوْبَةِ، خِلَافُ مَعْنَاهُ لُغَةً، وَفِي الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْإِنْكَارِ- مَعَ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الدَّلَالَةِ- عَلَى أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِذَلِكَ سُبْحَانَهُ دُونَ غَيْرِهِ، أَيْ: لَا يَغْفِرُ جِنْسَ الذُّنُوبِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَفِيهِ تَرْغِيبٌ لِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَتَنْشِيطٌ لِلْمُذْنِبِينَ أَنْ يَقِفُوا فِي مَوَاقِفِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا عَطْفٌ عَلَى: فَاسْتَغْفَرُوا، أَيْ: لَمْ يُقِيمُوا عَلَى قَبِيحِ فِعْلِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِصْرَارِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْعَزْمُ عَلَى مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ، وَعَدَمُ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: لَمْ يُصِرُّوا عَلَى فِعْلِهِمْ عَالِمِينَ بِقُبْحِهِ. قَوْلُهُ: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً. وَقَوْلُهُ: جَزاؤُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنِ اسم الإشارة. وقوله: مَغْفِرَةٌ خبر ومِنْ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً لِمَغْفِرَةٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المخصوص

_ (1) . الجرّة: ما يخرجه البعير ونحوه من بطنه ليمضغه ثم يبلعه. (2) . الحديد: 21. [.....]

بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَجْرُهُمْ، أَوْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجَنَّاتِ وَكَيْفِيَّةُ جَرْيِ الْأَنْهَارِ من تحتها. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: قَالَ: كَانُوا يَتَبَايَعُونَ إِلَى الْأَجَلِ، فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ زَادُوا عليهم وزادوا في الأجل، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفٌ تَدِينُ بَنِي المغيرة لأجل فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ اتَّقُوا لَا أُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فِي النَّارِ الَّتِي أَعْدَدْتُهَا لِلْكَافِرِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَبَنُو إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَّا؟ كَانُوا إِذَا أَذْنَبَ أَحَدُهُمْ ذَنْبًا أَصْبَحَ كَفَّارَةُ ذَنْبِهِ مَكْتُوبَةً فِي عَتَبَةِ بَابِهِ اجْدَعْ أَنْفَكَ اجْدَعْ أُذُنَكَ افْعَلْ كَذَا وَكَذَا، فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: وَسارِعُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِ وَسارِعُوا قَالَ: التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ سَابِقًا عَنِ الْجُمْهُورِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ يَقُولُ: فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يَقُولُ: كَاظِمِينَ عَلَى الْغَيْظِ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ: فِي ثَوَابِ مَنْ كَظَمَ الْغَيْظَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ النَّخَعِيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الظُّلْمُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَالْفَاحِشَةُ مِنَ الظُّلْمِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَآيَتَيْنِ مَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَرَأَهُمَا فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ إِلَّا غَفَرَ لَهُ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ إِبْلِيسَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَكَى وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا صَاحَ إِبْلِيسُ بِجُنُودِهِ، وَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ، وَدَعَا بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، حَتَّى جَاءَتْهُ جُنُودُهُ مِنْ كل برّ وبحر، فقالوا: مالك يَا سَيِّدَنَا؟ قَالَ: آيَةٌ نَزَلَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَا يَضُرُّ بَعْدَهَا أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَمَ ذَنْبٌ، قَالُوا: وَمَا هِيَ؟ فَأَخْبَرَهُمْ، قَالُوا: نَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ الْأَهْوَاءِ فَلَا يَتُوبُونَ، وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ، وَلَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، فَرَضِيَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالْحُمَيْدِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ، وَحَسَّنَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يَقُومُ عِنْدَ ذِكْرِ ذَنْبِهِ فَيَتَطَهَّرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذَنْبِهِ ذَلِكَ، إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بَرَازٍ من الأرض فصلى. وأخرج

_ (1) . النساء: 110.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 إلى 148]

عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يُصِرُّوا فَيَسْكُتُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ قَالَ: أَجْرُ الْعَامِلِينَ بِطَاعَةِ اللَّهِ الجنة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 148] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) قَوْلُهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ هَذَا رُجُوعٌ إِلَى وَصْفِ بَاقِي الْقِصَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالسُّنَنِ: مَا سَنَّهُ اللَّهُ فِي الْأُمَمِ مِنْ وَقَائِعِهِ، أَيْ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِ زَمَانِكُمْ وَقَائِعُ سَنَّهَا اللَّهُ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، وَأَصْلُ السُّنَنِ: جَمْعُ سُنَّةٍ، وَهِيَ: الطَّرِيقَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ: فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا وَالسُّنَّةُ: الْإِمَامُ الْمُتَّبَعُ الْمُؤْتَمُّ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ ... وَلِكُلِّ قوم سنّة وإمامها وَالسُّنَّةُ: الْأُمَّةُ، وَالسُّنَنُ: الْأُمَمُ، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَهْلُ سُنَنٍ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسِيرُوا سَبَبِيَّةٌ وَقِيلَ: شَرْطِيَّةٌ، أَيْ: إِنْ شَكَكْتُمْ فَسِيرُوا. وَالْعَاقِبَةُ: آخِرُ الْأَمْرِ. وَالْمَعْنَى: سِيرُوا فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، فَإِنَّهُمْ خَالَفُوا رُسُلَهُمْ بِالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا، ثُمَّ انْقَرَضُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنْ دُنْيَاهُمُ الَّتِي آثَرُوهَا أَثَرٌ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْمَطْلُوبُ مِنْ هَذَا السَّيْرِ

الْمَأْمُورِ بِهِ: هُوَ حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، فَإِنْ حَصَلَتْ بِدُونِهِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ لِمُشَاهَدَةِ الْآثَارِ زِيَادَةٌ غَيْرُ حَاصِلَةٍ لِمَنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِلَى قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ وَقَالَ الْحَسَنُ: إِلَى الْقُرْآنِ بَيانٌ لِلنَّاسِ أَيْ: تَبْيِينٌ لَهُمْ، وَتَعْرِيفُ النَّاسِ لِلْعَهْدِ، وَهُمُ: الْمُكَذِّبُونَ، أَوْ لِلْجِنْسِ، أَيْ: لِلْمُكَذِّبِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى النَّظَرِ فِي سُوءِ عَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ وَمَا انْتَهَى إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ. قَوْلُهُ: وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ أَيْ: هَذَا النَّظَرُ مَعَ كَوْنِهِ بَيَانًا فِيهِ هُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَطْفُ الْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ عَلَى الْبَيَانِ يَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ وَلَوْ بِاعْتِبَارِ الْمُتَعَلِّقِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ اللَّامَ فِي النَّاسِ إِنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ: فَالْبَيَانُ لِلْمُكَذِّبِينَ وَالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ: فَالْبَيَانُ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَحْدَهُمْ. قَوْلُهُ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا عَزَّاهُمْ وَسَلَّاهُمْ بِمَا نَالَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْعَجْزِ وَالْفَشَلِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمُ الْأَعْلَوْنَ عَلَى عَدُوِّهِمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكُمُ الْأَعْلَوْنَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ. وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ ظَفَرَ بِعَدُوِّهِ فِي جَمِيعِ وَقَعَاتِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَصَبْتُمْ مِنْهُمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَصَابُوا مِنْكُمُ الْيَوْمَ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلا تَهِنُوا وَمَا بَعْدَهُ، أَوْ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا، أَوْ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ. وَالْقَرْحُ: بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ: الْجُرْحُ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ بِالْفَتْحِ: الْجُرْحُ، وَبِالضَّمِّ: ألمه. وقرأ محمد بن السميقع «قَرَحٌ» بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ: عَلَى الْمَصْدَرِ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: إِنْ نَالُوا مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ نِلْتُمْ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَا تَهِنُوا لِمَا أَصَابَكُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَهِنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالصَّبْرِ مِنْهُمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ انْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، ثُمَّ انْتَصَرَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ مَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْكُفَّارِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ مَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ أَيِ: الْكَائِنَةُ بَيْنَ الْأُمَمِ فِي حُرُوبِهَا، وَالْآتِيَةُ فِيمَا بَعْدُ، كَالْأَيَّامِ الْكَائِنَةِ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ تَارَةً تَغْلِبُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ، وَتَارَةً تَغْلِبُ الْأُخْرَى، كَمَا وَقَعَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ فَقَوْلُهُ: تِلْكَ مُبْتَدَأٌ، وَالْأَيَّامُ: صِفَتُهُ، وَالْخَبَرُ: نُدَاوِلُهَا، وَأَصْلُ الْمُدَاوَلَةِ: الْمُعَاوَرَةُ، دَاوَلْتُهُ بَيْنَهُمْ: عَاوَرْتُهُ. وَالدَّوْلَةُ: الْكُرَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: الْأَيَّامُ: خَبَرًا وَنُدَاوِلُهَا: حَالًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِيَظْهَرَ أَمْرُكُمْ وَلِيُعْلَمَ، أَوْ يَكُونُ الْمُعَلَّلُ مَحْذُوفًا، أَيْ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فِعْلَنَا ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ: أَيْ: فِعْلُنَا فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا، أَوْ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ الذين آمنوا بصبره علما يقع عليه الجزاء، كما علمه أَزَلِيًّا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أَيْ: يُكْرِمَهُمْ بِالشَّهَادَةِ. وَالشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ: لِكَوْنِهِ مَشْهُودًا لَهُ بِالْجَنَّةِ، أَوْ جَمْعُ شَاهِدٍ: لِكَوْنِهِ كَالْمُشَاهِدِ لِلْجَنَّةِ، وَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ، وَهُمْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا

مِنْ جُمْلَةِ الْعِلَلِ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَالتَّمْحِيصُ: الِاخْتِبَارُ وَقِيلَ: التَّطْهِيرُ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: لِيُمَحِّصَ ذُنُوبَ الَّذِينَ آمَنُوا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَقِيلَ: يُمَحِّصُ: يُخْلِصُ، قَالَهُ الْخَلِيلُ وَالزَّجَّاجُ، أَيْ: لِيُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أَيْ: يَسْتَأْصِلَهُمْ بِالْهَلَاكِ، وَأَصْلُ التَّمْحِيقِ: مَحْوُ الْآثَارِ، وَالْمُحِقُّ: نَقْصُهَا. قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّمْيِيزِ، وَأَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: بَلْ أَحَسِبْتُمْ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ واو الحال. والجملة حالية، وَفِيهِ تَمْثِيلٌ كَالْأَوَّلِ، أَوْ عِلْمٌ يَقَعُ عَلَيْهِ الجزاء. وقوله: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ، كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَاوُ بِمَعْنَى: حَتَّى، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ: «وَيَعْلَمِ الصَّابِرِينَ» بِالْجَزْمِ، عَطْفًا عَلَى: وَلَمَّا يَعْلَمِ وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ، عَلَى الْقَطْعِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَلَمَّا يَعْلَمِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ الْمَعْلُومِ، وَهُوَ الْجِهَادُ. وَالْمَعْنَى: أَمْ حَسَبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْكُمُ الْجِهَادُ وَالصَّبْرُ، أَيِ: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَمَعْنَى: لَمَّا مَعْنَى: «لَمْ» عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ لَمْ: لِنَفْيِ الْمَاضِي، وَلَمَّا: لِنَفِيَ الْمَاضِي وَالْمُتَوَقَّعِ. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ هُوَ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ يَتَمَنَّى الْقِتَالَ وَالشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ يَوْمًا يَكُونُ فِيهِ قِتَالٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمُوا مَعَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ أَلَحُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ، وَلَمْ يَصْبِرْ مِنْهُمْ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ، مِثْلُ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ عَمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أَيِ: الْقِتَالُ أَوِ الشَّهَادَةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْمَوْتِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «مِنْ قَبْلِ أَنْ تُلَاقُوهُ» وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ هُنَا عَلَى الشَّهَادَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَتَمَنَّيِ الْمَوْتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَرْجِعُ إِلَى تَمَنِّي الشَّهَادَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ لَا إِلَى قَتْلِ الْكُفَّارِ لَهُمْ، لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ، وَلَا يَجُوزُ إِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ سُؤَالُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرْزُقَهُمُ الشَّهَادَةَ، فَيَسْأَلُونَ الصَّبْرَ عَلَى الْجِهَادِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقَتْلِ. قَوْلُهُ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أَيِ: الْقِتَالُ أَوْ مَا هُوَ سَبَبٌ لِلْمَوْتِ، وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَقَيْدُ الرُّؤْيَةِ بِالنَّظَرِ مَعَ اتِّحَادِ مَعْنَاهُمَا: لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ: قَدْ رَأَيْتُمُوهُ مُعَايِنِينَ لَهُ حِينَ قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ التَّكْرِيرَ بِمَعْنَى التَّأْكِيدِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: بُصَرَاءُ لَيْسَ فِي أَعْيُنِكُمْ عِلَلٌ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ مَا سَيَأْتِي: مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُصِيبَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ صَاحَ الشَّيْطَانُ قَائِلًا: قَدْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَفَشِلَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أُصِيبَ مُحَمَّدٌ فَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ فَإِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَقَالَ آخَرُ: لَوْ كَانَ رَسُولًا مَا قُتِلَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُمْ: بِأَنَّهُ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَسَيَخْلُو كَمَا خَلَوْا، فَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صِفَةٌ لِرَسُولٍ. وَالْقَصْرُ قَصْرُ إِفْرَادٍ، كَأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا هَلَاكَهُ فَأَثْبَتُوا لَهُ صِفَتَيْنِ: الرِّسَالَةُ، وَكَوْنُهُ لَا يَهْلَكُ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ لَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى صِفَةِ عَدَمِ الْهَلَاكِ وَقِيلَ: هُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ رُسُلٌ» ثُمَّ أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أَيْ: كَيْفَ تَرْتَدُّونَ وَتَتْرُكُونَ دِينَهُ إِذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ مَعَ عِلْمِكُمْ أَنَّ الرسل تخلو،

_ (1) . الأنعام: 38.

وَيَتَمَسَّكُ أَتْبَاعُهُمْ بِدِينِهِمْ، وَإِنْ فُقِدُوا بِمَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ. وَقِيلَ: الْإِنْكَارُ لِجَعْلِهِمْ خُلُوَّ الرُّسُلِ قَبْلَهُ سَبَبًا لِانْقِلَابِهِمْ بِمَوْتِهِ أَوْ قَتْلِهِ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْقَتْلُ مَعَ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ: لِكَوْنِهِ مُجَوَّزًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ أَيْ: بِإِدْبَارِهِ عَنِ الْقِتَالِ، أَوْ بِارْتِدَادِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً مِنَ الضَّرَرِ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ نَفْسَهُ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أَيِ: الَّذِينَ صَبَرُوا وَقَاتَلُوا وَاسْتَشْهَدُوا، لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ. وَمَنِ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فَقَدْ شَكَرَ النِّعْمَةَ التي أنعم الله بها عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، يَتَضَمَّنُ الْحَثَّ عَلَى الْجِهَادِ، وَالْإِعْلَامَ بِأَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَمَعْنَى: بِإِذْنِ اللَّهِ: بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ فَشَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِرْجَافِ بِقَتْلِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ: أَنَّ الْمَوْتَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِغَيْرِهِ مَنُوطٌ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى النَّفْسِ مَعَ كَوْنِهَا غَيْرَ مُخْتَارَةٍ لَهُ: لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: كِتاباً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: كَتَبَ اللَّهُ الْمَوْتَ كِتَابًا، وَالْمُؤَجَّلُ: الْمُؤَقَّتُ الَّذِي لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى أَجَلِهِ ولا يتأخر. قوله: وَمَنْ يُرِدْ أي: بعمله ثَوابَ الدُّنْيا كَالْغَنِيمَةِ وَنَحْوِهَا، وَاللَّفْظُ يَعُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى ثَوَابُ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا نُؤْتِهِ مِنْها أَيْ: مِنْ ثَوَابِهَا، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَمَنْ يُرِدْ بِعَمَلِهِ ثَوابَ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، نُؤْتِهِ مِنْ ثَوَابِهَا، وَنُضَاعِفْ لَهُ الْحَسَنَاتِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ بِامْتِثَالِ مَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ كَالْقِتَالِ، وَنَهَيْنَاهُمْ عَنْهُ كَالْفِرَارِ وَقَبُولِ الْإِرْجَافِ. وَقَوْلُهُ: وَكَأَيِّنْ قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: هِيَ: أَيُّ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ، وَثَبَتَتْ مَعَهَا، فَصَارَتْ بَعْدَ التَّرْكِيبِ بِمَعْنَى: كَمْ، وَصُوِّرَتْ فِي الْمُصْحَفِ نُونًا، لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ نُقِلَتْ عَنْ أَصْلِهَا فَغُيِّرَ لَفْظُهَا لِتَغْيِيرِ مَعْنَاهَا، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فَتَصَرَّفَتْ فِيهَا الْعَرَبُ بِالْقَلْبِ وَالْحَذْفِ، فَصَارَ فِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ قُرِئَ بِهَا: أَحَدُهَا: كَائِنٌ، مِثْلُ: كَاعِنٍ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشاعر: وكائن بالأباطح من صديق ... يراني لَوْ أُصِبْتَ هُوَ الْمُصَابَا وَقَالَ آخَرُ: وَكَائِنْ رددنا عنكم من مدجّج ... يجيء أَمَامَ الرَّكْبِ يُرْدِي مُقَنَّعَا «1» وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَكَائِنْ تَرَى مِنْ مُعْجِبٍ لَكَ شَخْصُهُ ... زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ وَكَأَيِّنْ: بِالتَّشْدِيدِ، مَثَلَ: كَعَيِّنْ، وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَالثَّالِثَةُ: كَأَيْنٍ، مِثْلَ: كَعَيْنٍ مُخَفَّفًا. وَالرَّابِعَةُ: كَيَئِنْ، بِيَاءٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ، وَوَقَفَ أَبُو عَمْرٍو بِغَيْرِ نُونٍ، فقال: كأي، لأنه تنوين، ووقف

_ (1) . يردى: يمشي الرّديان، وهو ضرب من المشي فيه تبختر. والمقنّع: الذي تقنّع بالسّلاح كالبيضة والمغفر.

الْبَاقُونَ بِالنُّونِ. وَالْمَعْنَى: كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، قُتِلَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِمٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي قُتِلَ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى النَّبِيِّ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ: مَعَهُ رِبِّيُّونَ: جُمْلَةً حَالِيَّةً، كَمَا يُقَالُ: قُتِلَ الْأَمِيرُ مَعَهُ جَيْشٌ، أَيْ: وَمَعَهُ جَيْشٌ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ وَاقِعًا عَلَى رِبِّيُّونَ، فَلَا يَكُونُ فِي قُتِلَ ضَمِيرٌ، وَالْمَعْنَى: قُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَهُمُ الرِّبِّيُّونَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: «قَاتَلَ» ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَمِدَ مَنْ قَاتَلَ كَانَ مَنْ قُتِلَ دَاخِلًا فِيهِ، وَإِذَا حمد من قتل لم يَدْخُلْ فِيهِ مَنْ قَاتَلَ وَلَمْ يُقْتَلْ، فَقَاتَلَ أَعَمُّ وَأَمْدَحُ، وَيُرَجِّحْ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى. وَالْوَجْهُ الثاني من القراءة الأولى: مَا قُتِلَ نَبِيٌّ فِي حَرْبٍ قَطُّ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَالرِّبِّيُّونَ: بِكَسْرِ الرَّاءِ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ: بِضَمِّهَا، وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِفَتْحِهَا، وَوَاحِدُهُ: رَبِّيٌّ بِالْفَتْحِ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ، وَالرِّبِّيُّ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، مَنْسُوبٌ إِلَى الرِّبَّةِ، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَلِهَذَا فَسَرَّهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِالْجَمَاعَاتِ الْكَثِيرَةِ وَقِيلَ هُمُ الْأَتْبَاعُ وَقِيلَ: هُمُ الْعُلَمَاءُ. قَالَ الْخَلِيلُ: الرِّبِّيُّ الْوَاحِدُ مِنَ الْعِبَادِ الَّذِينَ صَبَرُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ نُسِبُوا إِلَى التَّأَلُّهِ وَالْعِبَادَةِ وَمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الرُّبِّيُّونَ بِالضَّمِّ الْجَمَاعَاتُ. قَوْلُهُ: فَما وَهَنُوا عَطْفٌ عَلَى قَاتَلَ، أَوْ قُتِلَ. وَالْوَهْنُ انْكِسَارُ الْجِدِّ بِالْخَوْفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: «وَهِنُوا» بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: لُغَتَانِ، وَهَنَ الشَّيْءُ يَهِنُ وَهْنًا: ضَعُفَ، أَيْ: مَا وَهَنُوا لِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ أَوْ لِقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَما ضَعُفُوا أَيْ: عَنْ عَدُوِّهِمْ وَمَا اسْتَكانُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ. وَالِاسْتِكَانَةُ: الذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ وَقُرِئَ: «وَمَا وَهَنُوا وَمَا ضَعُفُوا» بِإِسْكَانِ الْهَاءِ وَالْعَيْنِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: ضَعَفُوا، بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَفِي هَذَا تَوْبِيخٌ لِمَنِ انْهَزَمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَذَلَّ وَاسْتَكَانَ وَضَعُفَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِرْجَافِ الْوَاقِعِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَصْنَعْ كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ مَنْ خَلَا مَنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ. قَوْلُهُ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ أَيْ: قَوْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ، وَقَوْلَهُمْ: مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا: بِرَفْعِ قَوْلِهِمْ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ قالُوا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، أَيْ: مَا كَانَ قَوْلَهُمْ عِنْدَ أَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ رَبَّانِيُّونَ، أَوْ قُتِلَ نَبِيُّهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا قِيلَ: هِيَ الصَّغَائِرُ. وَقَوْلُهُ: وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا قِيلَ: هِيَ الْكَبَائِرُ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الذُّنُوبَ تَعُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى ذَنْبًا مِنْ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ. وَالْإِسْرَافُ: مَا فِيهِ مُجَاوَزَةٌ لِلْحَدِّ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، قَالُوا ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِمْ رَبَّانِيِّينَ: هَضْمًا لِأَنْفُسِهِمْ وَثَبِّتْ أَقْدامَنا فِي مَوَاطِنِ الْقِتَالِ فَآتاهُمُ اللَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ثَوابَ الدُّنْيا مِنَ النَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَالْعِزَّةِ وَنَحْوِهَا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ: ثَوَابَ الْآخِرَةِ الْحَسَنِ، وَهُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ، جَعَلْنَا اللَّهُ مِنْ أَهْلِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ قَالَ: تَدَاوَلَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ آلِ عِمْرَانَ: هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ ثُمَّ أُنْزِلَ بَقِيَّتُهَا يَوْمَ أحد. وأخرج

ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا بَيانٌ يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يُرِيدُ أَنْ يَعْلُوَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا يَعْلُونَ عَلَيْنَا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: انْهَزَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَأَلُوا: مَا فعل النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَنَعَى بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وتحدّثوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ، فَكَانُوا فِي هَمٍّ وَحُزْنٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، عَلَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِخَيْلِ الْمُشْرِكِينَ فَوْقَهُمْ عَلَى الْجَبَلِ. وَكَانُوا عَلَى أَحَدِ مُجَنَّبَتَيِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ أَسْفَلَ مِنَ الشِّعْبِ، فَلَمَّا رَأَوُا النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَرِحُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا قُوَّةَ لَنَا إِلَّا بِكَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ بِهَذَا الْبَلَدِ غَيْرَ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ فَلَا تُهْلِكْهُمْ» وَثَابَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُمَاةٌ فَصَعِدُوا فَرَمَوْا خَيْلَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ، وَعَلَا الْمُسْلِمُونَ الْجَبَلَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ قَالَ: وَأَنْتُمُ الْغَالِبُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ قَالَ: جِرَاحٌ وَقَتْلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ قَالَ: إِنْ يُقْتَلْ مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ قَالَ: كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بِيَوْمِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ الْآيَةَ، قَالَ: أَدَالَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَبَلَغَنِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَتَلُوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين رجلا عَدَدَ الْأُسَارَى الَّذِينَ أُسِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ عَدَدُ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةً وسبعين رجلا. وأخرج ابن جريج، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَرِنَا يَوْمًا كَيَوْمِ بَدْرٍ نُقَاتِلُ فِيهِ الْمُشْرِكِينَ وَنُبْلِيكَ فِيهِ خَيْرًا، وَنَلْتَمِسُ فِيهِ الشَّهَادَةَ، فَلَقُوا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَاتَّخَذَ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ: يَبْتَلِيَهُمْ وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ قَالَ: يَنْقُصَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ: أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقُولُونَ: لَيْتَنَا نُقْتَلُ كَمَا قُتِلَ أَصْحَابُ بَدْرٍ وَنَسْتَشْهِدُ، أَوْ لَيْتَ لَنَا يَوْمًا كَيَوْمِ بَدْرٍ نُقَاتِلُ فِيهِ الْمُشْرِكِينَ، وَنُبْلَى فِيهِ خَيْرًا، وَنَلْتَمِسُ الشَّهَادَةَ وَالْجَنَّةَ وَالْحَيَاةَ وَالرِّزْقَ، فَأَشْهَدَهُمُ اللَّهُ أُحُدًا، فَلَمْ يَثْبُتُوا إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ. فَقَالَ اللَّهُ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ كُلَيْبٍ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: آلَ عِمْرَانَ، وَيَقُولُ: إِنَّهَا أُحُدِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّقْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَصَعِدْتُ الْجَبَلَ فَسَمِعَتْ يَهُودِيًّا يَقُولُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَقُلْتُ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَقُولُ قُتِلَ مُحَمَّدٌ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَنَظَرْتُ فإذا رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَرَاجَعُونَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: نَادَى مُنَادٍ يَوْمَ أُحُدٍ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَارْجِعُوَا إِلَى دِينِكُمُ الْأَوَّلِ، فأنزل الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ. أخرج أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 إلى 153]

عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قَالَ: الثَّابِتِينَ عَلَى دِينِهِمْ أَبَا بَكْرٍ وَأَصْحَابَهُ، فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَمِيرَ الشَّاكِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَاللَّهِ لَا نَنْقَلِبُ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ، وَاللَّهِ لَئِنْ مَاتَ، أَوْ قُتِلَ، لَأُقَاتِلَنَّ عَلَى مَا قُتِلَ عَلَيْهِ حَتَّى أَمُوتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: رِبِّيُّونَ قَالَ: أُلُوفٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الرِّبَّةُ الْوَاحِدَةُ أَلْفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رِبِّيُّونَ قَالَ: جُمُوعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: عُلَمَاءُ كَثِيرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا اسْتَكانُوا قَالَ: تَخَشَّعُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا قَالَ: خَطَايَانَا. [سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 153] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَنْصَارِ الأنبياء حذر عن طاعة الكفار، وهم مشركوا الْعَرَبِ وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقِيلَ: الْمُنَافِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ ارْجِعُوا إِلَى دِينِ آبائكم. وقوله: يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي: يخرجونكم مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أَيْ: تَرْجِعُوا مَغْبُونِينَ. وَقَوْلُهُ: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ إِضْرَابٌ عَنْ مَفْهُومِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَيْ: إِنْ تُطِيعُوا الْكَافِرِينَ يَخْذُلُوكُمْ، وَلَا يَنْصُرُوكُمْ، بَلِ اللَّهُ نَاصِرُكُمْ، لَا غَيْرُهُ وَقُرِئَ: «بَلِ اللَّهَ» بِالنَّصْبِ، عَلَى تَقْدِيرِ: بَلْ أَطِيعُوا اللَّهَ. قَوْلُهُ: سَنُلْقِي قَرَأَ السَّخْتِيَانِيُّ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالنُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ: الرُّعْبَ بِضَمِّ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالسُّكُونِ وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: رَعَبْتُهُ رُعْبًا وَرُعُبًا فَهُوَ مَرْعُوبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالرُّعُبُ بِالضَّمِّ: الِاسْمُ، وَأَصْلُهُ: الْمَلْءُ، يُقَالُ: سَيْلٌ رَاعِبٌ، أَيْ: يَمْلَأُ الْوَادِيَ، وَرَعَبْتُ الْحَوْضَ: مَلَأْتُهُ، فَالْمَعْنَى: سَنَمْلَأُ قُلُوبَ الْكَافِرِينَ رُعْبًا، أَيْ: خَوْفًا وَفَزَعًا، وَالْإِلْقَاءُ يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي الْأَجْسَامِ، وَمَجَازًا فِي غَيْرِهَا كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ نَدِمُوا أَنْ لَا يَكُونُوا اسْتَأْصَلُوا الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: بِئْسَمَا صَنَعْنَا قَتَلْنَاهُمْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ تَرَكْنَاهُمْ، ارْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ،

فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، حَتَّى رَجَعُوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: سَنُلْقِي وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أَيْ: مَا لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ بِجَعْلِهِ شَرِيكًا لَهُ حُجَّةً وَبَيَانًا وَبُرْهَانًا، وَالنَّفْيُ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ، أَيْ: لَا حُجَّةَ وَلَا إِنْزَالَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ لَمْ يَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمِلَلِ. وَالْمَثْوَى: الْمَكَانُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ، يُقَالُ: ثَوَى، يَثْوِي، ثَوَاءً. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ نَزَلَتْ لَمَّا قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا وَقَدْ وَعَدَنَا اللَّهُ النَّصْرَ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ الظَّفَرُ لَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ، حَتَّى قَتَلُوا صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَتِسْعَةَ نَفَرٍ بَعْدَهُ فَلَمَّا اشْتَغَلُوا بِالْغَنِيمَةِ وَتَرَكَ الرُّمَاةُ مَرْكَزَهُمْ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْهَزِيمَةِ. وَالْحِسُّ: الِاسْتِئْصَالُ بِالْقَتْلِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. يُقَالُ: جَرَادٌ مَحْسُوسٌ: إِذَا قَتَلَهُ البرد، وَسَنَةٌ حَسُوسٌ، أَيْ: جَدْبَةٌ تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ. قِيلَ: وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِسِّ الَّذِي هُوَ الْإِدْرَاكُ بِالْحَاسَّةِ، فَمَعْنَى حِسِّهِ: أَذْهَبَ حِسَّهُ بِالْقَتْلِ، وَتَحُسُّونَهُمْ: تَقْتُلُونَهُمْ وَتَسْتَأْصِلُونَهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ: حَسَسْنَاهُمْ بِالسَّيْفِ حِسًّا فَأَصْبَحَتْ ... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا وَقَالَ جَرِيرٌ: تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى ... حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجم الحصيد بِإِذْنِهِ أي: بعلمه، أو بقضائه حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أَيْ: جَبُنْتُمْ وَضَعُفْتُمْ، قِيلَ: جَوَابُ حَتَّى مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: امْتُحِنْتُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَوَابُ حَتَّى: قَوْلُهُ: وَتَنازَعْتُمْ وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ زَائِدَةٌ، كقوله: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ «1» وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: حَتَّى إِذَا تَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ فَشِلْتُمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ: عَصَيْتُمْ، وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ. وَقَدْ جَوَّزَ الْأَخْفَشُ مِثْلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ «2» وَقِيلَ: حَتَّى: بِمَعْنَى إِلَى، وَحِينَئِذٍ لَا جَوَابَ لَهَا، وَالتَّنَازُعُ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا وَقَعَ مِنَ الرُّمَاةِ حِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَلْحَقُ الْغَنَائِمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَثْبُتُ فِي مَكَانِنَا كَمَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ النَّصْرِ فِي الِابْتِدَاءِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يَعْنِي: الْغَنِيمَةَ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أَيِ: الْأَجْرُ بِالْبَقَاءِ فِي مَرَاكِزِهِمُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ أَيْ: رَدَّكُمُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالِانْهِزَامِ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْلَيْتُمْ عَلَيْهِمْ لِيَمْتَحِنَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ لَمَّا عَلِمَ مِنْ نَدَمِكُمْ، فَلَمْ يَسْتَأْصِلْكُمْ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُنْهَزِمِينَ، وَقِيلَ: لِلرُّمَاةِ فَقَطْ. قَوْلُهُ: إِذْ تُصْعِدُونَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: صَرَفَكُمْ أَوْ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ أَوْ بِقَوْلِهِ: لِيَبْتَلِيَكُمْ وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْعَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَقُنْبُلٌ: «يصعدون» بِالتَّحْتِيَّةِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَصْعَدْتُ: إِذَا مَضَيْتَ حِيَالَ وَجْهِكَ، وَصَعِدْتُ: إِذَا ارْتَقَيْتَ فِي جَبَلٍ، فَالْإِصْعَادُ: السَّيْرُ فِي مُسْتَوى الْأَرْضِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَالصُّعُودُ: الِارْتِفَاعُ عَلَى الْجِبَالِ وَالسُّطُوحِ وَالسَّلَالِمِ وَالدَّرَجِ، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل

_ (1) . الصافات: 103. (2) . التوبة: 118.

بَعْدَ إِصْعَادِهِمْ فِي الْوَادِي، فَيَصِحُّ الْمَعْنَى عَلَى القراءتين. وقال القتبي: أَصْعَدَ: إِذَا أَبْعَدَ فِي الذَّهَابِ وَأَمْعَنَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ أَصْعَدَتْ ... فَإِنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِصْعَادُ: الِابْتِدَاءُ فِي السَّفَرِ، وَالِانْحِدَارُ: الرُّجُوعُ مِنْهُ، يُقَالُ: أَصْعَدْنَا مِنْ بَغْدَادَ إِلَى مَكَّةَ، وَإِلَى خُرَاسَانَ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ: إِذَا خَرَجْنَا إِلَيْهَا وَأَخَذْنَا فِي السَّفَرِ، وَانْحَدَرْنَا: إِذَا رَجَعْنَا. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: صَعِدَ وَأَصْعَدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَعْنَى: تَلْوُونَ: تَعْرُجُونَ وَتُقِيمُونَ، أَيْ: لَا يَلْتَفِتُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ هَرَبًا، فَإِنَّ الْمُعَرِّجَ إِلَى الشَّيْءِ يَلْوِي إِلَيْهِ عُنُقَهُ أَوْ عُنُقَ دَابَّتِهِ عَلى أَحَدٍ أَيْ: عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ مَعَكُمْ وَقِيلَ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: «تَلُونَ» بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ. قَوْلُهُ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أَيْ: فِي الطَّائِفَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْكُمْ، يُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ فِي آخِرِ النَّاسِ، وَآخِرَةِ النَّاسِ، وَأُخْرَى النَّاسِ، وَأُخْرَيَاتِ النَّاسِ. وَكَانَ دُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا» . قَوْلُهُ: فَأَثابَكُمْ عَطْفٌ عَلَى صَرَفَكُمْ، أَيْ: فَجَازَاكُمُ اللَّهُ غَمًّا حِينَ صَرَفَكُمْ عَنْهُ بِسَبَبِ غَمٍّ أَذَقْتُمُوهُ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِعِصْيَانِكُمْ، أَوْ غَمًّا مَوْصُولًا بِغَمٍّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِرْجَافِ وَالْجُرْحِ وَالْقَتْلِ وَظَفَرِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْغَمُّ فِي الْأَصْلِ: التَّغْطِيَةُ، غَمَّيْتُ الشَّيْءَ: غَطَّيْتُهُ، وَيَوْمٌ غَمٌّ، وَلَيْلَةٌ غَمَّةٌ: إِذَا كَانَا مُظْلِمَيْنِ، وَمِنْهُ: غَمُّ الْهِلَالِ وَقِيلَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ: الْهَزِيمَةُ، وَالثَّانِي: إشراف أبي سفيان وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَلَيْهِمْ فِي الْجَبَلِ. قَوْلُهُ: لِكَيْلا تَحْزَنُوا اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَأَثابَكُمْ أَيْ: هَذَا الْغَمُّ بَعْدَ الْغَمِّ، لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَلَا مَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ، تَمْرِينًا لَكُمْ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَتَدْرِيبًا لِاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَعْنَى لِكَيْلا تَحْزَنُوا لِكَيْ تَحْزَنُوا، وَلَا زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أَيْ: أَنْ تَسْجُدَ، وَقَوْلُهُ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَيْ: لِيَعْلَمَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا قال: لا تنتصحوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى دِينِكُمْ، وَلَا تَصْدُقُوهُمْ بِشَيْءٍ فِي دِينِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ يَقُولُ: إِنْ تُطِيعُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ يَرُدُّكُمْ كُفَّارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ نَحْوَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عُرْوَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَعَدَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى: أَنْ يَمُدَّهُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَكَانَ قَدْ فَعَلَ، فَلَمَّا عَصَوْا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرَكُوا مَصَافَّهُمْ، وَتَرَكَتِ الرُّمَاةُ عَهْدَ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مَنَازِلَهُمْ، وَأَرَادُوا الدُّنْيَا رُفِعَ عَنْهُمْ مَدَدُ الْمَلَائِكَةِ. وَقِصَّةُ أُحُدٍ مُسْتَوْفَاةٌ فِي السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِطَالَةِ الشَّرْحِ هُنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ قَالَ: الْحَسُّ: الْقَتْلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ. قَالَ: الْفَشَلُ: الْجُبْنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ قَالَ: الْغَنَائِمُ وَهَزِيمَةُ الْقَوْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 154 إلى 155]

وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ أَنْ لَا أَكُونَ اسْتَأْصَلْتُكُمْ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ تُصْعِدُونَ قَالَ: أَصْعَدُوا فِي أُحُدٍ فِرَارًا وَالرَّسُولُ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ: «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن عبد الرحمن ابن عَوْفٍ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ قَالَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ: بِسَبَبِ الْهَزِيمَةِ، وَالثَّانِي: حِينَ قِيلَ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ مِنَ الْهَزِيمَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ قَالَ: فِرَةٌ بَعْدَ الْفِرَةِ، الْأُولَى: حِينَ سَمِعُوا الصَّوْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. [والثانية حين رجع الكفار فضربوهم مدبرين حتى قتلوا منهم سبعين رجلا] «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ: الْجِرَاحُ وَالْقَتْلُ، وَالْغَمُّ الْآخَرُ: حِينَ سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الربيع مثله. [سورة آل عمران (3) : الآيات 154 الى 155] ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) الْأَمَنَةُ وَالْأَمْنُ سَوَاءٌ، وَقِيلَ: الْأَمَنَةُ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ أَسْبَابِ الْخَوْفِ، وَالْأَمْنُ مَعَ عَدَمِهِ، وَهِيَ: مَنْصُوبَةٌ بِأَنْزَلَ. وَنُعَاسًا: بَدَلٌ مِنْهَا، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَمَنَةً: حَالٌ مِنْ نُعَاسًا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ، فَبَعِيدٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: «أَمْنَةً» بِسُكُونِ الْمِيمِ. قَوْلُهُ: يَغْشى قُرِئَ: بِالتَّحْتِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنُّعَاسِ، وبالفوقية، على أن الضمير لأمنة، والطائفة: تطلق على الواحد والجماعة، والطائفة الأولى: هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلبا للأجر، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى: هُمْ مُعَتَّبُ بْنُ قُشَيْرٍ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانُوا خَرَجُوا طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ، وَجَعَلُوا يُنَاشِدُونَ عَلَى الْحُضُورِ، وَيَقُولُونَ الْأَقَاوِيلَ. وَمَعْنَى: أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْهَمِّ، أَهَمَّنِي الْأَمْرُ: أَقْلَقَنِي، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَطائِفَةٌ لِلْحَالِ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِاعْتِمَادِهَا عَلَى وَاوِ الْحَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ صَارَتْ هَمَّهُمْ، لَا هَمَّ لَهُمْ غَيْرُهَا يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ، وَظَنُّ الْجَاهِلِيَّةِ: بَدَلٌ مِنْهُ. وَهُوَ الظَّنُّ الْمُخْتَصُّ بِمِلَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ ظَنُّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ: أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَاطِلٌ، وَأَنَّهُ لَا يُنْصَرُ وَلَا يَتِمُّ ما دعا إليه من دين الحق.

_ (1) . ما بين حاصرتين من تفسير ابن جرير الطبري [4/ 88] .

وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ بَدَلٌ مِنْ «يَظُنُّونَ» ، أَيْ: يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ: هَلْ لَنَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ نَصِيبٌ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ: الْجَحْدُ، أَيْ: مَا لَنَا شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرِ. وَهُوَ النَّصْرُ وَالِاسْتِظْهَارُ عَلَى الْعَدُوِّ وَقِيلَ: هُوَ الْخُرُوجُ، أَيْ: إِنَّمَا خَرَجْنَا مُكْرَهِينَ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَلَيْسَ لَكُمْ وَلَا لِعَدُوِّكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَالنَّصْرُ بِيَدِهِ وَالظُّفْرُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: يُضْمِرُونَ فِي أَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ وَلَا يُبْدُونَ لَكَ ذَلِكَ، بَلْ يَسْأَلُونَكَ سُؤَالَ الْمُسْتَرْشِدِينَ. وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ؟ فَقِيلَ: يَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا أَيْ: مَا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنَّا فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ أَيْ: لَوْ كُنْتُمْ قَاعِدِينَ فِي بُيُوتِكُمْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ خُرُوجِ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ إِلَى هذه المصارع الي صَرَعُوا فِيهَا، فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لَا يُرَدُّ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ عِلَّةٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ قَبْلَهَا، مَعْطُوفَةٌ عَلَى عِلَلٍ لَهُ أخرى مطوية للإيذان بكثرتها، كأنه قيل: فعل مَا فُعِلَ لِمَصَالِحَ جَمَّةٍ وَلِيَبْتَلِيَ إِلَخْ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مَطْوِيَّةٍ لِبَرَزَ، وَالْمَعْنَى: لِيَمْتَحِنَ مَا فِي صُدُورِكُمْ مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أَيِ: انْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ اسْتَدْعَى زَلَلَهُمْ بِسَبَبِ بَعْضِ مَا كَسَبُوا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي مِنْهَا مُخَالَفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لِتَوْبَتِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمِنَهُمُ اللَّهُ يَوْمَئِذٍ بِنُعَاسٍ غَشَّاهُمْ، وَإِنَّمَا يَنْعَسُ مَنْ يَأْمَنُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: غَشِينَا وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي، وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ، وَآخُذُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: رَفَعْتُ رَأْسِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ، وَمَا مِنْهُمْ من أحد إلا وهو يميل تحت حجفته مِنَ النُّعَاسِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَكَانَ سَيِّدَ الْمُنَافِقِينَ: قُتِلَ الْيَوْمَ بَنُو الْخَزْرَجِ، فَقَالَ: وَهَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ قَالَ: ظَنَّ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مُعَتَّبٌ هُوَ الَّذِي قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ قَالَ: هُمْ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاثْنَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ وَرَافِعِ بْنِ الْمُعَلَّى وخارجة ابن زَيْدٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَعْيِينِ «مِنْ» فِي الآية روايات كثيرة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 إلى 164]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 164] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) قَوْلُهُ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا. قَوْلُهُ: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ فِي النِّفَاقِ أَوْ فِي النَّسَبِ، أَيْ: قَالُوا لِأَجْلِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ إِذَا سَارُوا فِيهَا لِلتِّجَارَةِ أَوْ نَحْوِهَا قِيلَ: إِنَّ إِذَا هُنَا الْمُفِيدَةَ لِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ: بِمَعْنَى إِذِ الْمُفِيدَةِ لِمَعْنَى الْمُضِيِّ وَقِيلَ: هِيَ عَلَى مَعْنَاهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا حِكَايَةُ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا هُنَا تنوب عن ما مَضَى مِنَ الزَّمَانِ وَمَا يُسْتَقْبَلُ أَوْ كانُوا غُزًّى جَمْعُ غَازٍ، كَرَاكِعٍ وَرُكَّعٍ، وَغَائِبٍ وَغُيَّبٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: قُلْ لِلْقَوَافِلِ وَالْغُزَّى إِذَا غَزَوْا «1» ....... لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: قالُوا أَيْ: قَالُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوهُ لِيَكُونَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ صَارَ ظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَخْرُجُوا مَا قُتِلُوا حَسْرَةً، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: لَا تَكُونُوا أَيْ: لَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي اعْتِقَادِ ذَلِكَ، لِيَجْعَلَهُ اللَّهُ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ فَقَطْ دُونَ قُلُوبِكُمْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ عَدَمَ الْتِفَاتِكُمْ إِلَيْهِمْ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّدَامَةِ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ فِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ، أَيْ: ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَصْنَعُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فَيُحْيِي مَنْ يُرِيدُ، وَيُمِيتُ مَنْ يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلسَّفَرِ أَوِ الْغَزْوِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ مُوَطِّئَةٌ. وَقَوْلُهُ: لَمَغْفِرَةٌ جَوَابُ الْقَسَمِ سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ السَّفَرَ وَالْغَزْوَ لَيْسَا مِمَّا يَجْلِبُ الْمَوْتَ، وَلَئِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فبأمر اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أَيِ: الْكَفَرَةُ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا مُدَّةَ أَعْمَارِهِمْ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: بالياء التحتية، أو خير

_ (1) . هو صدر بيت لزياد الأعجم، وعجزه: والباكرين وللمجدّ الرّامح.

مِمَّا تَجْمَعُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: بِالْفَوْقِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ فِي الْآيَةِ: بَيَانُ مَزِيَّةِ الْقَتْلِ أَوِ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَزِيَادَةِ تَأْثِيرِهِمَا فِي اسْتِجْلَابِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. قَوْلُهُ: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ، حَسَبَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ، سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى: أَيْ: إِلَى الرَّبِّ الْوَاسِعِ الْمَغْفِرَةِ تُحْشَرُونَ، لَا إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا يُفِيدُهُ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى الْفِعْلِ، مَعَ مَا فِي تَخْصِيصِ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالذِّكْرِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ اللُّطْفِ وَالْقَهْرِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، قال سِيبَوَيْهَ وَغَيْرُهُ وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهَا نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْبَاءِ، وَرَحْمَةٍ: بَدَلٌ مِنْهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِثْلُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِنْتَ لَهُمْ وَقُدِّمَ عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، وَتَنْوِينُ رَحْمَةٍ لِلتَّعْظِيمِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ لِينَهُ لَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا بِسَبَبِ الرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْهُ وَقِيلَ: إِنَّ: مَا، اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ؟ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحُذِفَ الْأَلْفُ مِنْ مَا وَقِيلَ: فَبِمَ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَالْفَظُّ: الْغَلِيظُ الْجَافِي. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفَظُّ هُوَ الْكَرِيهُ الْخُلُقِ، وَأَصْلُهُ: فَظِظَ، كَحَذِرَ. وَغِلَظُ الْقَلْبِ: قَسَاوَتُهُ، وَقِلَّةُ إِشْفَاقِهِ، وَعَدَمُ انْفِعَالِهِ لِلْخَيْرِ. وَالِانْفِضَاضُ: التَّفَرُّقُ، يُقَالُ: فَضَضْتُهُمْ فَانْفَضُّوا، أَيْ: فَرَقْتُهُمْ فَتَفَرَّقُوا، وَالْمَعْنَى: لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَا تَرْفُقُ بِهِمْ لَتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِكَ، هَيْبَةً لَكَ، وَاحْتِشَامًا مِنْكَ، بِسَبَبِ مَا كَانَ مِنْ تَوَلِّيهِمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ فَاعْفُ عَنْهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِكَ مِنَ الْحُقُوقِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِيمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أَيِ: الَّذِي يَرِدُ عَلَيْكَ، أَيَّ أَمْرٍ كَانَ مِمَّا يُشَاوَرُ فِي مِثْلِهِ، أَوْ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ خَاصَّةً، كَمَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَطْيِيبِ خَوَاطِرِهِمْ وَاسْتِجْلَابِ مَوَدَّتِهِمْ، وَلِتَعْرِيفِ الْأُمَّةِ بِمَشْرُوعِيَّةٍ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَأْنَفَ مِنْهُ أَحَدٌ بَعْدَكَ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْمُشَاوَرَةُ فِي غَيْرِ الْأُمُورِ الَّتِي يَرِدُ الشَّرْعُ بِهَا. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الِاسْتِشَارَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: شُرْتُ الدَّابَّةَ وَشَوَّرْتُهَا: إِذَا عَلِمْتَ خَبَرَهَا وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ: شُرْتُ الْعَسَلَ: إِذَا أَخَذْتَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَمُشَاوَرَةِ وُجُوهِ الْجَيْشِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ، وَوُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ وَالْوُزَرَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ عَزْلِ مَنْ لَا يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ. قَوْلُهُ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أَيْ: إِذَا عَزَمْتَ عَقِبَ الْمُشَاوَرَةِ عَلَى شَيْءٍ، وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ نَفْسُكَ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي فِعْلِ ذَلِكَ، أَيِ: اعْتَمِدْ عَلَيْهِ وَفَوِّضْ إِلَيْهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: فَإِذَا عَزَمْتَ عَلَى أَمْرٍ أَنْ تَمْضِيَ فِيهِ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى الْمُشَاوَرَةِ. وَالْعَزْمُ فِي الْأَصْلِ: قَصْدُ الْإِمْضَاءِ أَيْ: فَإِذَا قَصَدْتَ إِمْضَاءَ أَمْرٍ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وَقَرَأَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: «فَإِذَا عَزَمْتُ» : بِضَمِّ التَّاءِ، بِنِسْبَةِ الْعَزْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: فَإِذَا عَزَمْتُ لَكَ عَلَى شَيْءٍ، وَأَرْشَدْتُكَ إِلَيْهِ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لِتَأْكِيدِ التَّوَكُّلِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ. وَالْخِذْلَانُ: تَرْكُ الْعَوْنِ، أَيْ: وَإِنْ يَتْرُكِ اللَّهُ عَوْنَكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ:

إِنْكَارِيٌّ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْخِذْلَانِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ أَوْ إِلَى اللَّهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ مَنْ نَصَرَهُ اللَّهُ لَا غَالِبَ لَهُ، وَمَنْ خَذَلَهُ لَا نَاصِرَ لَهُ، فَوَّضَ أُمُورَهُ إِلَيْهِ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِغَيْرِهِ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: لِإِفَادَةِ قَصْرِهِ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أَيْ مَا صَحَّ لَهُ ذَلِكَ لِتَنَافِي الْغُلُولِ وَالنُّبُوَّةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْغُلُولُ: مِنَ الْمَغْنَمِ خَاصَّةً، وَلَا نَرَاهُ مِنَ الْخِيَانَةِ وَلَا مِنَ الْحِقْدِ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ مِنَ الْخِيَانَةِ: أَغَلَّ يَغُلُّ، وَمِنَ الْحِقْدِ: غَلَّ يَغِلُّ بِالْكَسْرِ، وَمِنَ الْغُلُولِ: غَلَّ يَغُلُّ بِالضَّمِّ يُقَالُ: غَلَّ الْمَغْنَمُ غُلُولًا، أَيْ: خان بأن يأخذ لنفسه شيئا يستره عَلَى أَصْحَابِهِ فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ: مَا صَحَّ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ شَيْئًا مِنَ الْمَغْنَمِ، فَيَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعِ أَصْحَابِهِ. وَفِيهِ تَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الْغُلُولِ. وَمَعْنَاهَا عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ: مَا صَحَّ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَيْ: يَخُونُهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: نَهْيٌ لِلنَّاسِ عَنِ الْغُلُولِ فِي الْمَغَانِمِ وَإِنَّمَا خَصَّ خِيَانَةَ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ كَوْنِ خِيَانَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ حَرَامًا، لِأَنَّ خِيَانَةَ الْأَنْبِيَاءِ أَشَدُّ ذَنْبًا وَأَعْظَمُ وِزْرًا وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ: يَأْتِ بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، كَمَا صَحَّ ذلك عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَيَفْضَحُهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَالتَّنْفِيرِ مِنْهُ، بِأَنَّهُ ذَنْبٌ يختص فاعله بعقوبة على رؤوس الْأَشْهَادِ، يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ مَجِيئُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا غَلَّهُ حَامِلًا لَهُ، قَبْلَ أن يحاسب عليه يعاقب عليه. قوله: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي: تعطي جزاء ما كسبت وَافِيًا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ كَسَبَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَيَدْخُلُ تَحْتَهَا الْغَالُّ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، لِكَوْنِ السِّيَاقِ فِيهِ. قَوْلُهُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: لَيْسَ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَعَمِلَ بِأَمْرِهِ وَاجْتَنَبَ نَهْيَهُ كَمَنْ بَاءَ، أَيْ: رَجَعَ بِسَخَطٍ عَظِيمٍ كَائِنٍ مِنَ اللَّهِ، بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ، مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ بِتَرْكِ الْغُلُولِ وَاجْتِنَابِهِ، وَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْغُلُولِ. ثُمَّ أَوْضَحَ مَا بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ فَقَالَ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: مُتَفَاوِتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ وَالْمَعْنَى: هُمْ ذَوُو دَرَجَاتٍ، أَوْ: لَهُمْ دَرَجَاتٌ، فَدَرَجَاتُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ لَيْسَتْ كَدَرَجَاتِ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ فِي أَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ. وَالْآخَرِينَ فِي أَسْفَلِهَا. قَوْلُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِكَوْنِهِمُ الْمُنْتَفِعِينَ بِبَعْثَتِهِ. وَمَعْنَى: مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مِثْلُهُمْ وَقِيلَ: بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَوَجْهُ الْمِنَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ: أَنَّهُمْ يَفْقَهُونَ عَنْهُ، وَيَفْهَمُونَ كَلَامَهُ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تُرْجُمَانٍ. وَمَعْنَاهَا عَلَى الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَأْنَسُونَ بِهِ بِجَامِعِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ مَلِكًا لَمْ يَحْصُلْ كَمَالُ الْأُنْسِ بِهِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِيَّةِ، وَقُرِئَ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ: مِنْ أَشْرَفِهِمْ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنُو هَاشِمٍ أَفْضَلُ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ أَفْضَلُ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الِامْتِنَانِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَشْرَفِهِمْ كَانُوا أَطْوَعَ لَهُ وَأَقْرَبَ إِلَى تَصْدِيقِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْعَرَبِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التخصيص،

وَكَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: بِفَتْحِ الْفَاءِ، لَا حَاجَةَ إِلَى التَّخْصِيصِ، لِأَنَّ بَنِي هَاشِمٍ هُمْ أَنْفَسُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فِي شَرَفِ الْأَصْلِ وكرم النجاد وَرِفَاعَةِ الْمَحْتِدِ. وَيَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ وقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. قوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ هَذِهِ مِنَّةٌ ثَانِيَةٌ، أَيْ: يَتْلُو عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنَ الشَّرَائِعِ وَيُزَكِّيهِمْ أَيْ: يُطَهِّرُهُمْ مِنْ نَجَاسَةِ الْكُفْرِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهُمَا: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ صِفَةٍ لِرَسُولٍ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا: الْقُرْآنُ. وَالْحِكْمَةُ: السُّنَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ تَفْسِيرُ ذَلِكَ: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ، أَوْ: مِنْ قَبْلِ بَعْثَتِهِ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: وَاضِحٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَاللَّامُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، فَهِيَ تَدْخُلُ فِي خَبَرِ الْمُخَفَّفَةِ لَا النَّافِيَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ وَقِيلَ: إِنَّهَا النَّافِيَةُ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى: إِلَّا، أَيْ: وَمَا كَانُوا مِنْ قَبْلُ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَبِهِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ قَالَ: يُحْزِنُهُمْ قَوْلُهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ شَيْئًا. وَأَخْرَجُوا عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يَقُولُ: فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ قَالَ: لَانْصَرَفُوا عَنْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عَنْهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا رَحْمَةً لِأُمَّتِي، فَمَنِ اسْتَشَارَ مِنْهُمْ لَمْ يَعْدَمْ رُشْدًا، وَمَنْ تَرَكَهَا لَمْ يَعْدَمْ غَيًّا» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعَزْمِ، فَقَالَ: «مُشَاوَرَةُ أَهْلِ الرَّأْيِ ثُمَّ اتِّبَاعُهُمْ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ افْتُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قَالَ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَتَّهِمَهُ أَصْحَابُهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الْغُلُولِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ يَقُولُ: بِأَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ، قَالَتْ: هذه للعرب خاصة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 إلى 168]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168] أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) قَوْلُهُ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الْأَلِفُ لِلِاسْتِفْهَامِ بِقَصْدِ التَّقْرِيعِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ. وَالْمُصِيبَةُ: الْغَلَبَةُ وَالْقَتْلُ الَّذِي أُصِيبُوا بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ. وَقَدْ كَانُوا قَتَلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسِرُوا سَبْعِينَ، فَكَانَ مَجْمُوعُ الْقَتْلَى وَالْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ مِثْلَيِ الْقَتْلَى من المسلمين يوم أحد والمعنى: أحين أَصَابَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نِصْفُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْكُمْ قَبْلَ ذَلِكَ جَزِعْتُمْ وَقُلْتُمْ مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا؟ وَقَدْ وُعِدْنَا بِالنَّصْرِ. وَقَوْلُهُ: أَنَّى هَذَا أَيْ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا الِانْهِزَامُ وَالْقَتْلُ وَنَحْنُ نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَقَدْ وَعَدَنَا اللَّهُ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أَمْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْ سُؤَالِهِمْ بِهَذَا الْجَوَابِ، أي: هذا الذي سألتم عنه، وهو مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ الرُّمَاةِ لِمَا أمرهم به النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، مِنْ لُزُومِ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُمْ، وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهِمْ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ خُرُوجُهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ. وَيَرُدُّهُ أَنَّ الْوَعْدَ بِالنَّصْرِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقِيلَ: هُوَ اخْتِيَارُهُمُ الفداء يوم بدر على القتل، ويَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يَوْمَ أُحُدٍ أَيْ: مَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ وَالْهَزِيمَةِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ فَبِعِلْمِهِ، وَقِيلَ: بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَقِيلَ بِتَخْلِيَتِهِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَالْفَاءُ: دَخَلَتْ فِي جَوَابِ الْمَوْصُولِ لِكَوْنِهِ يُشْبِهُ الشَّرْطَ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ عَطْفُ سَبَبٍ عَلَى سَبَبٍ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، قِيلَ: أَعَادَ الْفِعْلَ لِقَصْدِ تَشْرِيفِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الْمُنَافِقِينَ وَاحِدًا، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا: التَّمْيِيزُ وَالْإِظْهَارُ، لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى ثَابِتٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ. قَوْلُهُ: وَقِيلَ لَهُمْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: نافَقُوا أَيْ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ نَافَقُوا وَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ وَقِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، أَيْ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَوِ ادْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَأَبَوْا جَمِيعَ ذَلِكَ وَقَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ وَقَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَلَكِنَّهُ لَا قِتَالَ هُنَالِكَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ كُنَّا نَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ وَنُحْسِنُهُ لَاتَّبَعْنَاكُمْ، وَلَكِّنَا لَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ولا نحسنه. وعبر عن نفي القدر عَلَى الْقِتَالِ: بِنَفْيِ الْعِلْمِ بِهِ، لِكَوْنِهَا مُسْتَلْزِمَةً لَهُ، وَفِيهِ بُعْدٌ لَا مُلْجِئَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَوْ نَعْلَمُ مَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ، وَلَكِنْ مَا أَنْتُمْ بِصَدَدِهِ لَيْسَ بِقِتَالٍ، وَلَكِنَّهُ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ مِنَّا وَمِنْكُمْ عَلَى دَفْعِ مَا وَرَدَ مِنَ الْجَيْشِ بِالْبُرُوزِ إِلَيْهِمْ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وهذا أيضا فيه بعد دون مَا قَبْلَهُ وَقِيلَ: مَعْنَى الدَّفْعِ هُنَا:

تَكْثِيرُ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: رَابِطُوا، وَالْقَائِلُ لِلْمُنَافِقِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ وَالِدُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أَيْ: هُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي انْخَذَلُوا فِيهِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ عِنْدَ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ بَيَّنُوا حَالَهُمْ، وَهَتَكُوا أَسْتَارَهُمْ، وَكَشَفُوا عَنْ نِفَاقِهِمْ إِذْ ذَاكَ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِأَهْلِ الْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ نُصْرَةً مِنْهُمْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَهَا، أَيْ: أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ، وَذِكْرُ الأفواه للتأكيد، مثل قوله: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» . قَوْلُهُ: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِلَخْ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ: وَاوِ يكتمون، أو منصوبا على الذمّ، أو وصف لِلَّذِينَ نَافَقُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى قالُوا لِإِخْوانِهِمْ أَيْ: قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ قَدْ قَعَدُوا عَنِ الْقِتَالِ لَوْ أَطاعُونا بِتَرْكِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ مَا قُتِلُوا، فَرَدَّ الله ذلك عليهم بقوله: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَالدَّرْءُ: الدَّفْعُ، أَيْ: لَا يَنْفَعُ الْحَذَرُ مِنَ الْقَدَرِ، فَإِنَّ الْمَقْتُولَ يُقْتَلُ بِأَجَلِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الْآيَةَ. يَقُولُ: إِنَّكُمْ قَدْ أَصَبْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مِثْلَيْ مَا أَصَابُوا مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا عِكْرِمَةُ. فَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ، وَقَتَلَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَمَّا رَأَوْا مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ قَالُوا مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ مَا كَانَ لِلْكُفَّارِ أَنْ يَقْتُلُوا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ: هُمْ بِالْأَسْرَى الَّذِينَ أَخَذْتُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. فَرَدَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَعَجَّلَ لَهُمْ عُقُوبَةَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لِيَسْلَمُوا مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَرِهَ مَا صَنَعَ قَوْمُكَ فِي أَخْذِهِمُ الْأُسَارَى، وَقَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُخَيِّرَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقَدَّمُوا فَتُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يقتل مِنْهُمْ عِدَّتَهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَشَائِرُنَا وَإِخْوَانُنَا، لَا، بَلْ نَأْخُذُ فِدَاءَهُمْ فَنَقْوَى بِهِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّنَا وَيَسْتَشْهِدُ مِنَّا عِدَّتُهُمْ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا نَكْرَهُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ رِجْلًا عِدَّةُ أُسَارَى أَهْلِ بَدْرٍ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ هُوَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الْحَفْرِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ. وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ نَحْوَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عبيدة، عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَإِسْنَادُ ابْنِ جَرِيرٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ هَكَذَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بن عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ سُنَيْدٌ: وَهُوَ حُسَيْنٌ، وَحَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة، حدثنا قراد ابن نُوحٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عمر بن الخطاب

_ (1) . الأنعام: 38.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 إلى 175]

قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ عُوقِبُوا بِمَا صَنَعُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَفَرَّ أَصْحَابُ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزّ وجلّ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الآية. وأخرج الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَزْوَانَ وَهُوَ قُرَادُ بْنُ نُوحٍ، بِهِ، وَلَكِنْ بِأَطْوَلَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى حَدِيثِ التَّخْيِيرِ السَّابِقِ: مَا نَزَلَ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ أَخَذَ الْفِدَاءَ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ «1» وَمَا رُوِيَ مِنْ بُكَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ نَدَمًا عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ، وَلَوْ كَانَ أَخْذُ ذَلِكَ بَعْدَ التَّخْيِيرِ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعَاتِبْهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا حَصَلَ مَا حَصَلَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّدَمِ وَالْحُزْنِ، وَلَا صوب النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ رَأْيَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَيْثُ أَشَارَ بِقَتْلِ الْأَسْرَى وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: لَوْ نَزَلَتْ عُقُوبَةٌ لَمْ يَنْجُ مِنْهَا إِلَّا عُمَرُ، وَالْجَمِيعُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ نُقَاتِلُ غَضَبًا لِلَّهِ وَهَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ. فَقَالَ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ عُقُوبَةٌ لكم بمعصيتكم النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ: لَا تَتْبَعُوهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَوِ ادْفَعُوا قَالَ: كَثِّرُوا بِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عَوْنِ الْأَنْصَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَوِ ادْفَعُوا قَالَ: رَابِطُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ فِي أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالشَّوْطِ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْمَدِينَةِ انْخَزَلَ عَنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثُلُثِ النَّاسِ، وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي، وَاللَّهِ مَا ندري على ما نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا؟ فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَأَهْلِ الرَّيْبِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ يَقُولُ: يَا قَوْمِ! أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ أَنْ تَخْذُلُوا نبيكم وقومكم عند ما حَضَرَهُمْ عَدُّوهُمْ، قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ مَا أَسْلَمْنَاكُمْ، وَلَا نَرَى أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، والحسن بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، فَذَكَرَهُ، وَزَادَ: أنهم لما استعصوا عليه وأبو إِلَّا الِانْصِرَافَ قَالَ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ أَعْدَاءَ اللَّهِ فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ قَالَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّا وَاجِدُونَ مَعَكُمْ مَكَانَ قِتَالٍ لَاتَّبَعْنَاكُمْ.

_ (1) . الأنفال: 67. [سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّ مَا جَرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ امْتِحَانًا لِيَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَالْكَاذِبُ مِنَ الصَّادِقِ، بَيَّنَ هَاهُنَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْهَزِمْ وَقُتِلَ فَلَهُ هَذِهِ الْكَرَامَةُ وَالنِّعْمَةُ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ، لَا مِمَّا يُخَافُ وَيُحْذَرُ، كَمَا قَالُوا مَنْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا وقالوا: لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقُرِئَ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الشُّهَدَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَقِيلَ: فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ، وَقِيلَ: فِي شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ خَاصٍّ فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ حَيَاةً مُحَقَّقَةً. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ فَيَتَنَعَّمُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرْزَقُونَ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، أَيْ: يَجِدُونَ رِيحَهَا وَلَيْسُوا فِيهَا، وَذَهَبَ مَنْ عَدَا الْجُمْهُورِ: إِلَى أَنَّهَا حَيَاةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ مستحقون للتنعم فِي الْجَنَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَا مُوجِبَ لِلْمَصِيرِ إِلَى الْمَجَازِ. وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ بِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ، وَأَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ يُرْزَقُونَ، وَيَأْكُلُونَ، وَيَتَمَتَّعُونَ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ قُتِلُوا هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ. وَالْحَاسِبُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَوْ كُلُّ أَحَدٍ كَمَا سَبَقَ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ هُوَ فَاعِلُ الْفِعْلِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَمْوَاتًا، وَهَذَا تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَالْجَلَاءِ. وَقَوْلُهُ: بَلْ أَحْياءٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ. وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ: بَلْ أَحْسَبُهُمْ أَحْيَاءً. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ إِمَّا خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ صِفَةٌ لِأَحْيَاءٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: عِنْدَ كَرَامَةِ رَبِّهِمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هَذِهِ عِنْدِيَّةُ الْكَرَامَةِ، لَا عِنْدِيَّةُ الْقُرْبِ. وَقَوْلُهُ: يُرْزَقُونَ يَحْتَمِلُ فِي إِعْرَابِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ هُنَا: هُوَ الرِّزْقُ الْمَعْرُوفُ فِي العادات على ما ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَا سَلَفَ، وَعِنْدَ مَنْ عَدَا الجمهور المراد: الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ، وَلَا وَجْهَ يَقْتَضِي تَحْرِيفَ الْكَلِمَاتِ الْعَرَبِيَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَمْلَهَا عَلَى مَجَازَاتٍ بَعِيدَةٍ، لَا لِسَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فَرِحِينَ حال من الضمير في يرزقون، وبما آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ: مُتَعَلِّقٌ بِهِ. وَقَرَأَ ابن السميقع: «فَارِحِينَ» وَهُمَا لُغَتَانِ، كَالْفَرِهِ وَالْفَارِهِ، وَالْحَذِرِ وَالْحَاذِرِ. وَالْمُرَادُ: بِما آتاهُمُ اللَّهُ مَا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْكَرَامَةِ بِالشَّهَادَةِ، وَمَا صَارُوا فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ، وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ لَمْ يُقْتَلُوا إِذْ ذَاكَ. فَالْمُرَادُ بِاللُّحُوقِ هُنَا: أَنَّهُمْ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْقَتْلِ وَالشَّهَادَةِ، بَلْ سَيَلْحَقُونَ بِهِمْ من بعد، وقيل: المراد: يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْفَضْلِ وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ فَضْلٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْوَاوُ: فِي وَيَسْتَبْشِرُونَ، عَاطِفَةٌ عَلَى يُرْزَقُونَ أَيْ: يُرْزَقُونَ وَيَسْتَبْشِرُونَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِإِخْوَانِهِمْ هُنَا: جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ الشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَايَنُوا ثَوَابَ اللَّهِ وَحَصَلَ لَهُمُ الْيَقِينُ بِحَقِّيَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ اسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الذين

هُمْ أَحْيَاءٌ لَمْ يَمُوتُوا، وَهَذَا أَقْوَى، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَوْسَعُ، وَفَائِدَتُهُ أَكْثَرُ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ، وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ فُورَكٍ. وَقَوْلُهُ: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بَدَلٌ مِنَ: الَّذِينَ، أَيْ يَسْتَبْشِرُونَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ أَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا حُزْنٌ، وَأَنْ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا: ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمَحْذُوفُ، وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: يَسْتَبْشِرُونَ لِتَأْكِيدِ الْأَوَّلِ وَلِبَيَانِ أَنَّ الِاسْتِبْشَارَ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ عَدَمِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، بَلْ بِهِ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ. وَالنِّعْمَةُ: مَا يُنْعِمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ. وَالْفَضْلُ: مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: النِّعْمَةُ: الثَّوَابُ. وَالْفَضْلُ: الزَّائِدُ وَقِيلَ: النِّعْمَةُ: الْجَنَّةُ، وَالْفَضْلُ دَاخِلٌ فِي النِّعْمَةِ، ذُكِرَ بَعْدَهَا لِتَأْكِيدِهَا وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِبْشَارَ الْأَوَّلَ: مُتَعَلِّقٌ بِحَالِ إِخْوَانِهِمْ، وَالِاسْتِبْشَارَ الثَّانِيَ: بِحَالِ أَنْفُسِهِمْ. قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ: أَنَّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِهَا، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: هُوَ مُسْتَأْنَفُ اعْتِرَاضٍ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى فَضْلٍ، دَاخِلَةٌ فِي جُمْلَةِ مَا يَسْتَبْشِرُونَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ اسْتَجابُوا صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ، أَوْ: مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ، أَوْ: هُوَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ بِجُمْلَتِهِ، أَوْ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقَرْحِ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا: نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَجَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ عَلَيْهِ: لِكَوْنِهِ مِنْ جِنْسِهِمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ: رَكْبُ عَبْدِ الْقَيْسِ الَّذِينَ مَرُّوا بِأَبِي سُفْيَانَ وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَزادَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، بَقَالَ، أَوْ إِلَى الْمَقُولِ، وَهُوَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ أَوْ إِلَى الْقَائِلِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَفْشَلُوا لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ وَلَا الْتَفَتُوا إِلَيْهِ، بَلْ أَخْلَصُوا لِلَّهِ، وَازْدَادُوا طُمَأْنِينَةً وَيَقِينًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَوْلُهُ: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ حَسْبُ: مَصْدَرُ حَسَبَهُ، أَيْ: كَفَاهُ، وَهُوَ بمعنى الفاعل، أي: محسب: بمعنى كافي. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُحْسِبِ: أَنَّكَ تَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ حَسْبُكَ، فَتَصِفُ بِهِ النَّكِرَةَ، لِأَنَّ إِضَافَتَهُ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ غَيْرُ حَقِيقِيَّةٍ. انْتَهَى. وَالْوَكِيلُ: هُوَ مَنْ تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، أَيْ: نِعْمَ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ أَمْرُنَا، أَوِ الْكَافِي، أَوِ الْكَافِلُ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: نِعْمَ الْوَكِيلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: فَانْقَلَبُوا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ، هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا. وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: رَجَعُوا مُتَلَبِّسِينَ بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَهِيَ السَّلَامَةُ مِنْ عَدُوِّهُمْ وَعَافِيَةٍ وَفَضْلٍ أَيْ: أَجْرٍ تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: رِبْحٌ فِي التِّجَارَةِ وَقِيلَ: النِّعْمَةُ خَاصَّةً بِمَنَافِعِ الدنيا، والفضل بمنافع الآخرة، وقد تقدّم تفسيرهما قَرِيبًا بِمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْمَقَامَ، لِكَوْنِ الْكَلَامِ فِيهِ مَعَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قَدْ صَارُوا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْكَلَامُ هُنَا مَعَ الْأَحْيَاءِ. قَوْلُهُ: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: سَالِمِينَ عَنْ سُوءٍ، لَمْ يُصِبْهُمْ قَتْلٌ، وَلَا جَرْحٌ، وَلَا مَا يَخَافُونَهُ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ فِي مَا يَأْتُونَ وَيَذْرُوَنَ، وَمِنْ ذَلِكَ: خُرُوجُهُمْ لِهَذِهِ الْغَزْوَةِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ وَلَا يَبْلُغُ مَدَاهُ، وَمِنْ تَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ:

تَثْبِيتُهُمْ، وَخُرُوجُهُمْ لِلِقَاءِ عَدُوِّهِمْ، وَإِرْشَادُهُمْ إِلَى أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ الَّتِي هِيَ جَالِبَةٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَدَافِعَةٌ لِكُلِّ شَرٍّ. قَوْلُهُ: إِنَّما ذلِكُمُ أَيِ: الْمُثَبِّطُ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الشَّيْطانُ هُوَ خَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ صِفَةً لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، أَوْ حَالِيَّةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا: الشَّيْطَانُ نَفْسُهُ، بِاعْتِبَارِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنَ الوسوسة المقتضية للتثبيط وقيل: المراد به: نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا قَالَ لَهُمْ تِلْكَ الْمَقَالَةَ وَقِيلَ: أَبُو سُفْيَانَ لَمَّا صَدَرَ مِنْهُ الْوَعِيدُ لَهُمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءَهُ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَوْلِياءَهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ أَوْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَرَدَّهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: بِأَنَّ التَّخْوِيفَ قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَلَا ضَرُورَةَ إِلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ وَمَنْ مَعَهُ: يَكُونُ مَفْعُولُ يُخَوِّفُ مَحْذُوفًا، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا، وَالثَّانِي مَذْكُورًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ، وَهُمُ الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَلَا حَذْفَ. قَوْلُهُ: فَلا تَخافُوهُمْ أَيْ: أَوْلِيَاءَهُ الَّذِينَ يُخَوِّفُكُمْ بِهِمُ الشَّيْطَانُ، أَوْ: فَلَا تَخَافُوا النَّاسَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ عَنْ أَنْ يَخَافُوهُمْ، فَيَجْبُنُوا عَنِ اللِّقَاءِ، وَيَفْشَلُوا عَنِ الْخُرُوجِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَخَافُوهُ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: وَخافُونِ فَافْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ، وَاتْرُكُوا مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، لِأَنِّي الْحَقِيقُ بِالْخَوْفِ مِنِّي، وَالْمُرَاقَبَةِ لِأَمْرِي وَنَهْيِي، لِكَوْنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِيَدِي، وَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي حَمْزَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَتْلَى أُحُدٍ وَحَمْزَةُ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا» ، وَفِي لَفْظٍ: «قَالُوا مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنَكِلُوا عَنِ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَبَاهُ سَأَلَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ وَرَاءَهُ مَا هُوَ فِيهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَهُوَ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ قَتْلَى أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَتْلَى بِئْرِ مَعُونَةَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْآيَةُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ لَفْظِهَا يَدْخُلُ تَحْتَهَا كُلُّ شَهِيدٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ، وَثَبَتَ فِي فَضْلِ الشُّهَدَاءِ مَا يَطُولُ تَعْدَادُهُ، وَيَكْثُرُ إِيرَادُهُ، مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ

مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ قَالُوا: لَا مُحَمَّدًا قَتَلْتُمْ، وَلَا الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ، بِئْسَ مَا صَنَعْتُمُ، ارْجِعُوا، فَسَمِعَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَنَدَبَ الْمُسْلِمِينَ، فَانْتَدَبُوا حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، أَوْ بِئْرَ أَبِي عُتْبَةَ، شَكَّ سُفْيَانُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَرْجِعُ مِنْ قَابِلٍ، فَرَجَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ تُعَدُّ غَزْوَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: يَا ابْنَ أُخْتِي! كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ، الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ نَبِيَّ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ انْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، فَقَالَ: مَنْ يَرْجِعُ فِي أَثَرِهِمْ؟ فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لحمراء الْأَسَدِ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِالرَّجْعَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَقَالُوا: رَجَعْنَا قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ، لَنَكُرَّنَّ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُهُمْ، فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ، وَمَرَّ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ: بَلِّغُوا مُحَمَّدًا أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا الرَّجْعَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ فَلَمَّا مَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ أَخْبَرُوهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مُغَازِيهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَ الْمُسْلِمِينَ لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ بَدْرًا. فَاحْتَمَلَ الشَّيْطَانُ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ النَّاسِ، فَمَشَوْا فِي النَّاسِ يُخَوِّفُونَهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أُخْبِرَنَا: أَنْ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ مِنَ النَّاسِ مِثْلَ اللَّيْلِ، يَرْجُونَ أَنْ يُوَاقِعُوكُمْ. وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا كُتُبُ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْقَرْحُ: الْجِرَاحَاتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ لَقُوا أَعْرَابِيًّا، فَجَعَلُوا لَهُ جُعْلًا عَلَى أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا لَهُمْ، فَأَخْبَرَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ هُوَ وَالصَّحَابَةُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، ثُمَّ رَجَعُوا مِنْ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ وَفِي الْأَعْرَابِيِّ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ: أَنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ مِنْ خُزَاعَةَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَعْنِي: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، أَحَادِيثُ مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَقَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ الْعَظِيمِ فَقُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، أَمَانُ كُلِّ خَائِفٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الذِّكْرِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَدَّ غَمُّهُ مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، ثُمَّ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وَقَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ حِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لما أدبر:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 إلى 180]

حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلُ، فَقَالَ: مَا قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسَّمَّعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ؟ ثُمَّ أَمَرَ الصَّحَابَةَ أَنْ يَقُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قَالَ: النِّعْمَةُ: أَنَّهُمْ سَلِمُوا، وَالْفَضْلُ: أَنَّ عِيرًا مَرَّتْ، وَكَانَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ، فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَرَبِحَ مَالًا، فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْفَضْلُ: مَا أَصَابُوا مِنَ التِّجَارَةِ وَالْأَجْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَمَّا النِّعْمَةُ: فَهِيَ الْعَافِيَةُ، وَأَمَّا الْفَضْلُ: فَالتِّجَارَةُ، وَالسُّوءُ: الْقَتْلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ قَالَ: لَمْ يُؤْذِهِمْ أَحَدٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ قَالَ: أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ قَالَ: يَقُولُ: الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ بِأَوْلِيَائِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: يُعَظِّمُ أَوْلِيَاءَهُ فِي أَعْيُنِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفَ الشَّيْطَانِ، وَلَا يَخَافُ الشَّيْطَانَ إِلَّا وليّ الشيطان. [سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 180] وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) قَوْلُهُ: وَلا يَحْزُنْكَ: قَرَأَ نَافِعٌ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالزَّايِ «1» ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، يقال: حزنني الأمر وأحزنني، والأول أفصح. وقرأ طلحة: يُسارِعُونَ قِيلَ: هُمْ قَوْمٌ ارْتَدُّوا، فَاغْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لِذَلِكَ، فَسَلَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَنَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ: بِأَنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شيئا، وإنما ضروا أنفسهم، بأن لاحظ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَقِيلَ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَقِيلَ: هو عام في جميع الكفار. قال

_ (1) . قال محقق تفسير القرطبي [4/ 284] : الصواب بضم الياء وكسر الزاي. قلنا: وهذا يوافق قراءة نافع.

الْقُشَيْرِيُّ: وَالْحُزْنُ عَلَى كُفْرِ الْكَافِرِ طَاعَةٌ، وَلَكِنَّ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ يُفْرِطُ فِي الْحُزْنِ، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ «1» فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «2» وعدى يسارعون بِفِي دُونَ إِلَى، لِلدَّلَالَةِ: عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَقِرُّونَ فِيهِ مُدِيمُونَ لِمُلَابَسَتِهِ، وَمِثْلُهُ: يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُفْرَهُمْ لَا يُنْقِصُ مِنْ مُلْكِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ شَيْئًا وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَنْ يَضُرُّوا أَوْلِيَاءَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: لَنْ يَضُرُّوا دِينَهُ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، وَشَيْئًا: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: بِشَيْءٍ. وَالْحَظُّ: النَّصِيبُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ: رَجُلٌ حَظِيظٌ، إِذَا كَانَ ذَا حَظٍّ مِنَ الرِّزْقِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْجَنَّةِ، أَوْ نَصِيبًا مِنَ الثَّوَابِ، وَصِيغَةُ الِاسْتِقْبَالِ: للدالة عَلَى دَوَامِ الْإِرَادَةِ وَاسْتِمْرَارِهَا وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بِسَبَبِ مُسَارَعَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ، فَكَانَ ضَرَرُ كُفْرِهِمْ عَائِدًا عَلَيْهِمْ، جَالِبًا لَهُمْ عَدَمَ الْحَظِّ فِي الْآخِرَةِ، وَمَصِيرَهُمْ فِي الْعَذَابِ الْعَظِيمِ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ أَيِ: اسْتَبْدَلُوا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً مَعْنَاهُ: كَالْأَوَّلِ، وَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَهُ وَقِيلَ: إِنَّ الْأَوَّلَ: خَاصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ، وَالثَّانِي يَعُمُّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَوْلُهُ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَغَيْرُهُمَا: يَحْسَبَنَّ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِالْفَوْقِيَّةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأُولَى: لَا يَحْسَبَنَّ الْكَافِرُونَ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ بِطُولِ الْعُمْرِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ، أَوْ بِمَا أَصَابُوا مِنَ الظَّفَرِ يَوْمَ أُحُدٍ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ! أَنَّ الْإِمْلَاءَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا بِمَا ذُكِرَ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ، وَنَازِلٌ بِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمْلَاءَ الَّذِي نُمْلِيهِ لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. فَالْمَوْصُولُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: فَاعِلُ الْفِعْلِ، وَأَنَّمَا نُمْلِي وَمَا بَعْدَهُ: سَادٌّ مَسَدَّ مَفْعُولَيِ الْحُسْبَانِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، أَوْ سَادٌّ مَسَدَّ أَحَدِهِمَا، وَالْآخَرُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْأَخْفَشِ. وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: فَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْمَوْصُولَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّمَا وَمَا بَعْدَهَا: بَدَلٌ مِنَ الْمَوْصُولِ، سَادٌّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَنَّمَا وَمَا بَعْدَهُ هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِي، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ: خَيْرًا، بِالنَّصْبِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَحْسَبَنَّ إِمْلَاءَ الَّذِينَ كَفَرُوا خَيْرًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّهُ يُقَدَّرُ تَكْرِيرُ الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ، فَسَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ صَحَّ مَجِيءُ الْبَدَلِ وَلَمْ يُذْكَرْ إِلَّا أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِفِعْلِ الْحُسْبَانِ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ؟ قُلْتُ: صَحَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّعْوِيلَ عَلَى الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ فِي حُكْمِ الْمُنَحَّى، أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ جَعَلْتَ مَتَاعَكَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ مَعَ امْتِنَاعِ سُكُوتِكَ عَلَى مَتَاعِكَ. انْتَهَى. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: أَنَّما نُمْلِي بِكَسْرِ إِنَّ فِيهِمَا، وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ بِاعْتِبَارِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، مُبَيِّنَةٌ لِوَجْهِ الْإِمْلَاءِ لِلْكَافِرِينَ. وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ: لِأَنَّهُ سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار

_ (1) . فاطر: 8. (2) . الكهف: 6.

الْكُفَّارِ، وَيَجْعَلُ عَيْشَهُمْ رَغْدًا لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَسَمِعْتُ الْأَخْفَشَ يَذْكُرُ كَسْرَ أَنَّما نُمْلِي الْأُولَى وَفَتْحَ الثَّانِيَةِ، وَيَحْتَجُّ بِذَلِكَ لِأَهْلِ الْقَدَرِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَيَجْعَلُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ ازْدِيَادَ الْإِثْمِ عِلَّةٌ، وما كل علة بعرض، ألا ترك تَقُولُ: قَعَدْتُ عَنِ الْغَزْوِ لِلْعَجْزِ وَالْفَاقَةِ، وَخَرَجْتُ مِنَ الْبَلَدِ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَعْرِضُ لَكَ، وَإِنَّمَا هِيَ عِلَلٌ وَأَسْبَابٌ. قَوْلُهُ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَالْخِطَابُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَتْرُكَكُمْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ حَتَّى يَمِيزَ بَعْضَكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ: مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ أَوْلَادَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ! عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِالْمُنَافِقِينَ حَتَّى يَمِيزَ بَيْنَكُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ. وَقُرِئَ يَمِيزَ بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُخَفَّفِ، مِنْ: مَازَ الشَّيْءَ، يَمِيزُهُ، مَيْزًا «1» : إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ أَشْيَاءَ قِيلَ: مَيَّزَهُ تَمْيِيزًا وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حَتَّى تُمَيِّزُوا بَيْنَ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ، فَإِنَّهُ الْمُسْتَأْثِرُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ، يَجْتَبِيهِ فَيُطْلِعَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْبِهِ، فَيُمَيِّزَ بَيْنَكُمْ، كَمَا وَقَعَ مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنْ تَعْيِينِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ لَهُ، لَا بِكَوْنِهِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ فِي مَنْ يَسْتَحِقُّ النُّبُوَّةَ، حَتَّى يَكُونَ الْوَحْيُ بِاخْتِيَارِكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أَيْ: يَخْتَارُ مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ. قَوْلُهُ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيِ: افْعَلُوا الْإِيمَانَ الْمَطْلُوبَ مِنْكُمْ، وَدَعُوا الِاشْتِغَالَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِكُمْ مِنَ التَّطَلُّعِ لِعِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا بِمَا ذُكِرَ وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ، وَلَا يُبْلَغُ كُنْهُهُ. قَوْلُهُ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ الْمَوْصُولُ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ الْفِعْلِ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الْبَاخِلُونَ الْبُخْلَ خَيْرًا لَهُمْ. قَالَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءُ. قَالُوا: وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ أَيْ: جَرَى إِلَى السَّفَهِ، فَالسَّفِيهُ دَلَّ عَلَى السَّفَهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْفَوْقِيَّةِ: فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ! بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ خَيْرًا لَهُمْ. قال الزجاج: هو مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، وَالضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ: هُوَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَالسِّينُ فِي قَوْلِهِ: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ سِينُ الْوَعِيدِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ قِيلَ: وَمَعْنَى

_ (1) . هذا التصريف هو للفعل المخفف يميز.

التَّطْوِيقِ هُنَا: أَنَّهُ يَكُونُ مَا بَخِلُوا بِهِ مِنَ الْمَالِ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ سَيَحْمِلُونَ عِقَابَ مَا بَخِلُوا بِهِ فَهُوَ مِنَ الطَّاقَةِ وَلَيْسَ مِنَ التَّطْوِيقِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ أَعْمَالَهُمْ كَمَا يَلْزَمُ الطَّوْقُ الْعُنُقَ، يُقَالُ: طَوَّقَ فُلَانٌ عَمَلَهُ طَوْقَ الْحَمَامَةِ، أَيْ: أُلْزِمَ جَزَاءَ عَمَلِهِ وَقِيلَ: إِنَّ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ مِنَ الْمَالِ يُمَثَّلُ لَهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ، حَتَّى يُطَوَّقَ بِهِ فِي عُنُقِهِ. كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْبُخْلُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَمْنَعَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ الْوَاجِبَ، فَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ. قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: لَهُ وَحْدَهُ لَا لِغَيْرِهِ، كَمَا يُفِيدُهُ التَّقْدِيمُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لَهُ مَا فِيهِمَا مِمَّا يَتَوَارَثُهُ أَهْلُهَا فَمَا بَالُهُمْ يَبْخَلُونَ بِذَلِكَ وَلَا يُنْفِقُونَهُ وَهُوَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَا لَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُمْ عَارِيَةً مُسْتَرَدَّةً وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها «1» وقوله: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «2» ، وَالْمِيرَاثُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ مَالِكٍ إِلَى آخَرَ، وَلَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِذَلِكَ الْآخَرِ قَبْلَ انْتِقَالِهِ إِلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ، وَمَعْلُومٌ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ بِالْحَقِيقَةِ لِجَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا مِنَ الْحَيَاةِ إِنْ كَانَ بَرًّا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ «3» وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا، فَقَدْ قَالَ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن أبي الدرداء نحوه. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالُوا: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فَلْيُخْبِرْنَا بِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَّا وَمَنْ يَكْفُرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَمِيزُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَمِيزُ بَيْنَهُمْ فِي الْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ قَالَ: وَلَا يُطْلَعُ عَلَى الْغَيْبِ إِلَّا رَسُولٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر، وابن أبي حاتم عن مُجَاهِدٍ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي قَالَ: يَخْتَصُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَسْتَخْلِصُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ بَخِلُوا أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمْ يَهُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: بَخِلُوا أَنْ يُنْفِقُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: لَمْ يُؤَدُّوا زَكَاتَهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مثل له يوم القيامة شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني: شدقيه- فَيَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ» وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَرْفَعُونَهَا.

_ (1) . مريم: 40. [.....] (2) . الحديد: 7. (3) . آل عمران: 198.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 إلى 184]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 184] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» قال قوم من اليهود: [إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا، وإنما قالوا] «2» هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَمْوِيهًا عَلَى ضُعَفَائِهِمْ لَا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، بَلْ أَرَادُوا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ صَحَّ مَا طَلَبَهُ مِنَّا مِنَ الْقَرْضِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ فَقِيرٌ، ليشككوا على إخوانهم في دين الإسلام. وقوله: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا سَنَكْتُبُهُ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ سَنَحْفَظُهُ، أَوْ سَنُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ: الْوَعِيدُ لَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَفُوتُ عَلَى اللَّهِ، بَلْ هُوَ مُعَدٌّ لَهُمْ لِيَوْمِ الْجَزَاءِ. وَجُمْلَةُ سَنَكْتُبُ عَلَى هَذَا: مُسْتَأْنَفَةٌ، جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا صَنَعَ اللَّهُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمِعَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ الشَّنِيعَ؟ فَقَالَ: قَالَ لَهُمْ: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: «سَيُكْتَبُ» بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ: بِرَفْعِ اللَّامِ مِنْ «قَتْلُهُمْ» ، «وَيَقُولُ» : بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ. قَوْلُهُ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ عَطْفٌ عَلَى مَا قَالُوا، أَيْ: وَنَكْتُبُ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ: أَيْ: قَتْلَ أَسْلَافِهِمْ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا نُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ رَضُوا بِهِ، جَعَلَ ذَلِكَ الْقَوْلَ قَرِينًا لِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، تَنْبِيهًا: عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعِظَمِ وَالشَّنَاعَةِ بِمَكَانٍ يَعْدِلُ قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ. قَوْلُهُ: وَنَقُولُ مَعْطُوفٌ عَلَى سَنَكْتُبُ أَيْ: نَنْتَقِمُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْكِتَابَةِ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي نَقُولُهُ لَهُمْ فِي النَّارِ، أَوْ عِنْدَ الْمَوْتِ، أَوْ عِنْدَ الْحِسَابِ. وَالْحَرِيقُ: اسْمٌ لِلنَّارِ الْمُلْتَهِبَةِ، وَإِطْلَاقُ الذَّوْقِ عَلَى إِحْسَاسِ الْعَذَابِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ بَلِيغَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَيُقَالُ ذُوقُوا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَأَشَارَ إِلَى الْقَرِيبِ بِالصِّيغَةِ الَّتِي يُشَارُ بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلته فِي الْفَظَاعَةِ، وَذِكْرِ الْأَيْدِي لِكَوْنِهَا الْمُبَاشِرَةَ لِغَالِبِ الْمَعَاصِي. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ معطوف على بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَوُجِّهَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَذَّبَهُمْ بِمَا أَصَابُوا مِنَ الذَّنْبِ، وَجَازَاهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظُلْمًا، أَوْ بِمَعْنَى: أَنَّهُ مَالِكُ الْمُلْكِ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَيْسَ بِظَالِمٍ لِمَنْ عَذَّبَهُ بِذَنْبِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ وَجْهَهُ: أَنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَدْلِ الْمُقْتَضِي لِإِثَابَةِ الْمُحْسِنِ وَمُعَاقَبَةِ الْمُسِيءِ، وَرَدَّ: بِأَنَّ تَرْكَ التَّعْذِيبِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، لَيْسَ بِظُلْمٍ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَقِيلَ: إِنَّ جُمْلَةَ قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَالْأَمْرُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَالتَّعْبِيرُ بِذَلِكَ عَنْ نَفْيِ الظُّلْمِ مَعَ أَنَّ تَعْذِيبَهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ لَيْسَ بِظُلْمٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ ظُلْمًا بَالِغًا: لِبَيَانِ تَنَزُّهِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَنَفْيُ ظَلَّامٍ الْمُشْعِرِ بِالْكَثْرَةِ: يُفِيدُ ثُبُوتَ أَصْلِ الظُّلْمِ. وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ الَّذِي تَوَعَّدَ بأن

_ (1) . البقرة: 245. (2) . ما بين الحاصرتين مستدرك من القرطبي [4/ 294] .

يَفْعَلَهُ بِهِمْ لَوْ كَانَ ظُلْمًا لَكَانَ عَظِيمًا، فَنَفَاهُ عَلَى حَدِّ عِظَمِهِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا. قَوْلُهُ: الَّذِينَ قالُوا هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: وَقِيلَ: نَعْتٌ لِلْعَبِيدِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ وَقِيلَ: هُوَ فِي مَحَلِّ جَرِّ بَدَلٍ مِنْ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ هُنَا، وَالْقَائِلُونَ هَؤُلَاءِ: هُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا الْمَقُولُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِالْقُرْبَانِ، هُوَ مِنْ جُمْلَةِ دَعَاوِيهِمُ الْبَاطِلَةِ. وَقَدْ كَانَ دَأْبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَرِّبُونَ الْقُرْبَانَ، فَيَقُومُ النَّبِيُّ فَيَدْعُو، فَتَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَحْرِقُهُ، وَلَمْ يَتَعَبَّدِ اللَّهُ بِذَلِكَ كُلَّ أَنْبِيَائِهِ، وَلَا جَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَلِهَذَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ مِنَ الْقُرْبَانِ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ كَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَشِعْيَاءَ، وَسَائِرِ مَنْ قُتِلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْقُرْبَانُ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْ نَسِيكَةٍ وَصَدَقَةٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَهُوَ فُعْلَانٌ مِنَ الْقُرْبَةِ. ثُمَّ سلى الله رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ. وَالزُّبُرِ: جَمْعُ زَبُورٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ: الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الْمُضِيءِ، يُقَالُ: نَارَ الشَّيْءَ، وَأَنَارَ، وَنَوَّرَهُ، وَاسْتَنَارَهُ، بِمَعْنًى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ أبو بكر بيت المدارس فَوَجَدَ يَهُودَ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: فِنْحَاصُ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيْحَكَ يَا فِنْحَاصُ! اتَّقِ الله وأسلم، فو الله إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَقَالَ فِنْحَاصُ: وَاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا بِنَا إِلَى اللَّهِ مِنْ فَقْرٍ وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لَفَقِيرٌ، وَمَا نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَضَرَّعُ إِلَيْنَا وَإِنَّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنَّا مَا اسْتَقْرَضَ مِنَّا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، يَنْهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا وَيُعْطِينَا، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنَّا مَا أَعْطَانَا الرِّبَا فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصٍ ضَرْبَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ: لَوْلَا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! فَذَهَبَ فِنْحَاصُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! انْظُرْ مَا صَنَعَ صَاحِبُكَ بِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا، يَزْعُمُ: أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، وَأَنَّهُمْ عَنْهُ أَغْنِيَاءُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، غَضِبْتُ لِلَّهِ مِمَّا قَالَ، فَضَرَبْتُ وَجْهَهُ، فَجَحَدَ فِنْحَاصُ فَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ تَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا الْآيَةَ، وَنَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَمَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَضَبِ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً «1» الآية. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّةَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَخْرَجَهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ بِأَخْصَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «2» فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! أَفَقِيرٌ رَبُّكَ يَسْأَلُ عِبَادَهُ الْقَرْضَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الْقَائِلَ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ بَدْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وهم لم يدركوا

_ (1) . آل عمران: 186. (2) . البقرة: 245.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 185 إلى 189]

ذَلِكَ، قَالَ: بِمُوَالَاتِهِمْ مَنْ قَتَلَ الْأَنْبِيَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ قَالَ: مَا أَنَا بِمُعَذِّبٍ مَنْ لَمْ يَجْتَرِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قَالَ: يَتَصَدَّقُ الرَّجُلُ مِنَّا، فَإِذَا تُقُبِّلَ مِنْهُ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النَّارُ مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا قَالَ: كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ قَالَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالزُّبُرِ قَالَ: كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ قال: هو القرآن. [سورة آل عمران (3) : الآيات 185 الى 189] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) قَوْلُهُ: ذائِقَةُ مِنَ الذَّوْقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً «1» يَمُتْ هَرِمًا ... الْمَوْتُ كَأْسٌ وَالْمَرْءُ ذَائِقُهَا وَهَذِهِ الْآيَةُ تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ لِلْمُصَدِّقِ وَالْمُكَذِّبِ بَعْدَ إِخْبَارِهِ عَنِ الْبَاخِلِينَ الْقَائِلِينَ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: ذائِقَةُ الْمَوْتِ بِالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ الْمَوْتِ. وقرأ الجهور بالإضافة. قوله: إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَجْرُ الْمُؤْمِنِ: الثَّوَابُ، وَأَجْرُ الْكَافِرِ: الْعِقَابُ، أَيْ: أَنَّ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ وَتَكْمِيلَهَا إِنَّمَا تَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا يَقَعُ مِنَ الْأُجُورِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْبَرْزَخِ فَإِنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْأُجُورِ. وَالزَّحْزَحَةُ: التَّنْحِيَةُ، وَالْإِبْعَادُ: تَكْرِيرُ الزَّحِّ وَهُوَ الْجَذْبُ بِعَجَلَةٍ، قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، أَيْ: فَمَنْ بَعُدَ عَنِ النَّارِ يَوْمَئِذٍ وَنُحِّيَ فَقَدْ فَازَ، أَيْ ظَفَرَ بِمَا يُرِيدُ وَنَجَا مِمَّا يَخَافُ، وَهَذَا هُوَ الْفَوْزُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي لَا فَوْزَ يُقَارِبُهُ، فَإِنَّ كُلَّ فَوْزٍ وَإِنْ كَانَ بِجَمِيعِ الْمَطَالِبِ دُونَ الْجَنَّةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا. اللَّهُمَّ لَا فَوْزَ إِلَّا فَوْزُ الْآخِرَةِ، وَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُهَا، وَلَا نَعِيمَ إِلَّا نَعِيمُهَا، فَاغْفِرْ ذُنُوبَنَا، وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا، وَارْضَ عَنَّا رِضًا لَا سُخْطَ بَعْدَهُ، وَاجْمَعْ لَنَا بَيْنَ الرِّضَا مِنْكَ عَلَيْنَا وَالْجَنَّةِ. وَالْمَتَاعُ: مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ ثُمَّ يَزُولُ وَلَا يَبْقَى، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. الْغُرُورُ: الشَّيْطَانُ يغرّ الناس بالأماني الباطلة

_ (1) . «مات عبطة» : أي شابا صحيحا.

وَالْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ، شَبَّهَ سُبْحَانَهُ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ الَّذِي يُدَلَّسُ بِهِ عَلَى مَنْ يُرِيدُهُ، وَلَهُ ظَاهِرٌ مَحْبُوبٌ وَبَاطِنٌ مَكْرُوهٌ. قَوْلُهُ: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ هَذَا الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ تَسْلِيَةً لَهُمْ عَمَّا سَيَلْقَوْنَهُ مِنَ الْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ، لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ. وَالِابْتِلَاءُ: الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، وَالْمَعْنَى: لَتُمْتَحَنُنَّ، وَلَتُخْتَبَرُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ بِالْمَصَائِبِ، وَالْإِنْفَاقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَسَائِرِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْوَالِ. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَنْفُسِ: بِالْمَوْتِ وَالْأَمْرَاضِ، وَفَقْدِ الْأَحْبَابِ، وَالْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ الْمُوطِئَةُ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَهُمْ سَائِرُ الطَّوَائِفِ الْكُفْرِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَذىً كَثِيراً مِنَ الطَّعْنِ فِي دِينِكُمْ وَأَعْرَاضِكُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ ذلِكَ إلى الصبر والتقوى المدلول عليها بِالْفِعْلَيْنِ. وَعَزْمُ الْأُمُورِ: مَعْزُومَاتُهَا، أَيْ: مِمَّا يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَعْزِمُوا عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِيَامَ بِهَا، يُقَالُ: عَزَمَ الْأَمْرَ: أَيْ شَدَّهُ وَأَصْلَحَهُ. قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هَذِهِ الْآيَةُ تَوْبِيخٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَوِ الْيَهُودُ فَقَطْ، عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ- وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: كُلُّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمَ شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ، أَيِّ كِتَابٍ كَانَ، كَمَا يُفِيدُهُ التَّعْرِيفُ الْجِنْسِيُّ فِي الْكِتَابِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ لِكُلِّ عَالِمٍ، وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَوْلَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَتُبَيِّنُنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنْ يُبَيِّنُوا نُبُوَّتَهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُوهَا فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: «لَيُبَيِّنُنَّهُ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِذْ أخذ الله ميثاق النبيّين ليبيّننّه وَيُشْكِلُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ: فَنَبَذُوهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَهُ النَّاسُ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَتُبَيِّنُونَهُ» . وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَراءَ ظُهُورِهِمْ مُبَالَغَةٌ فِي النَّبْذِ وَالطَّرْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي أُمِرُوا بِبَيَانِهِ وَنُهُوا عَنْ كِتْمَانِهِ. وَقَوْلُهُ: ثَمَناً قَلِيلًا أَيْ: حَقِيرًا يَسِيرًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَأَعْرَاضِهَا، قَوْلُهُ: فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ مَا: نَكِرَةٌ مَنْصُوبَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِفَاعِلِ بِئْسَ، وَيَشْتَرُونَ: صِفَةٌ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِئْسَ شَيْئًا يَشْتَرُونَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ. قَوْلُهُ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ. وَقَوْلُهُ: بِما أَتَوْا أَيْ: بِمَا فَعَلُوا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا لِكُلِّ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ مَا تَضَمَّنَتْهُ عَمَلًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ، فَمَنْ فَرِحَ بِمَا فَعَلَ، وَأَحَبَّ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، فَلَا تَحْسَبَنَّهُ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: «لَا يَحْسَبَنَّ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الْفَارِحُونَ فَرَحَهُمْ مُنْجِيًا لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ فَرَحُهُمْ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَوْلُهُ: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تَأْكِيدٌ لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ،

وَالْمَفَازَةُ: الْمَنْجَاةُ، مَفْعَلَةٌ، مِنْ: فَازَ، يَفُوزُ، إِذَا نَجَا، أَيْ: لَيْسُوا بِفَائِزِينَ، سُمِّيَ مَوْضِعُ الْخَوْفِ مَفَازَةً عَلَى جِهَةِ التَّفَاؤُلِ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مَوْضِعُ تَفْوِيزٍ وَمَظِنَّةُ هَلَاكٍ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فَوْزُ الرَّجُلِ: إِذَا مَاتَ. قَالَ ثَعْلَبٌ: حَكَيْتُ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَوْلَ الْأَصْمَعِيِّ فَقَالَ: أَخْطَأَ. قَالَ لِي أَبُو الْمَكَارِمِ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَفَازَةً لِأَنَّ مَنْ قَطَعَهَا فَازَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: بَلْ لِأَنَّهُ مُسْتَسْلِمٌ لِمَا أَصَابَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الْفَوْزَ التَّبَاعُدُ عَنِ الْمَكْرُوهِ. وَقَرَأَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَالْأَعْمَشُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: «آتَوْا» بِالْمَدِّ، أَيْ: يَفْرَحُونَ بِمَا أَعْطَوْا. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةُ وَغَيْرُهُمْ: «أَتَوْا» بِالْقَصْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَنَّادٌ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَوْضِعَ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَالَ: هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَانَ يُحَرِّضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي شِعْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْمَعُونَ مِنَ الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «1» ، ومن النصارى قولهم: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «2» وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ قَالَ: مِنَ الْقُوَّةِ مِمَّا عَزَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَكُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ قَالَ: فِنْحَاصُ، وَأَشْيَعُ، وَأَشْبَاهُهُمَا مِنَ الْأَحْبَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ قَالَ: كَانَ اللَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي افْتَرَضَهُ عَلَى عِبَادِهِ. وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَنَبَذُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ قَالَ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمَنْ عَلِمَ علما فليعلمه الناس، وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ كِتْمَانَ الْعِلْمِ هَلَكَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَوْلَا الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِكَثِيرٍ مِمَّا تَسْأَلُونَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكَمَ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ، إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَلَا وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سألهم النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سألهم عنه

_ (1) . التوبة: 30. (2) . التوبة: 30.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 190 إلى 194]

وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الغزو، وتخلفوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَزْوِ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصَ وَأَشْيَعَ وَأَشْبَاهِهِمَا. وَرُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: قَدْ نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نُحِبَّ أَنْ نُحْمَدَ بِمَا لَمْ نَفْعَلْ، وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْحَمْدَ، وَنَهَانَا عَنِ الْخُيَلَاءِ، وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْجَمَالَ، وَنَهَانَا أَنْ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فَوْقَ صَوْتِكَ، وَأَنَا رَجُلٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ، فَقَالَ: يَا ثَابِتُ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟» فَعَاشَ حَمِيدًا، وَقُتِلَ شَهِيدَا يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: بِمَفازَةٍ قَالَ: بِمَنْجَاةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 194] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) قَوْلُهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ اخْتِصَاصِهِ سُبْحَانَهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِيهَا. والمراد: ذات السموات والأرض وصفاتهما وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَيْ: تَعَاقُبِهِمَا، وَكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ، وَكَوْنِ زِيَادَةِ أَحَدِهِمَا فِي نُقْصَانِ الْآخَرِ، وَتَفَاوُتِهِمَا طُولًا وَقِصَرًا، وَحَرًّا وَبَرْدًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ لَآياتٍ أَيْ: دَلَالَاتٍ وَاضِحَةٍ، وَبَرَاهِينَ بَيِّنَةٍ، تَدُلُّ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ بَعْضِ مَا هُنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْأَلْبَابِ: أَهْلُ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ الخالصة عن شوائب النقص، فإن مجرد التفكر فِيمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَكْفِي الْعَاقِلَ، وَيُوصِلُهُ إِلَى الْإِيمَانِ الَّذِي لَا تُزَلْزِلُهُ الشُّبَهُ، وَلَا تَدْفَعُهُ التَّشْكِيكَاتُ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ الْمَوْصُولُ: نَعْتٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ- وَقِيلَ: هُوَ مَفْصُولٌ عَنْهُ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا: ذِكْرُهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِلَى أَنَّ الذِّكْرَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، أَيْ: لَا يُضَيِّعُونَهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيُصَلُّونَهَا قِيَامًا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ، وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ مَعَ الْعُذْرِ. قَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَذْكُرُونَ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَالِ، أَعْنِي: قِياماً وَقُعُوداً وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنِ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِي بَدِيعِ صنعهما، واتقانهما، مع عظم أجرامهما، فَإِنَّ هَذَا الْفِكْرَ إِذَا كَانَ صَادِقًا أَوْصَلَهُمْ إلى الإيمان

بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يَقُولُونَ مَا خَلَقْتَ هَذَا عَبَثًا وَلَهْوًا، بَلْ خَلَقْتَهُ دَلِيلًا عَلَى حِكْمَتِكَ وَقُدْرَتِكَ. وَالْبَاطِلُ: الزَّائِلُ الذَّاهِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ «1» ....... وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: خَلْقًا بَاطِلًا وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَخَلَقَ: بِمَعْنَى جَعَلَ، أَوْ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، والإشارة بقوله: هذا إلى السموات وَالْأَرْضِ، أَوْ إِلَى الْخَلْقِ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يَكُونَ خَلْقُكَ لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ بَاطِلًا. وَقَوْلُهُ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ هَذَا الدعاء على ما قبله. وقوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنِ اسْتِدْعَاءِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَبَيَانٌ لِلسَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ دَعَاهُ عِبَادُهُ بِأَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَدْخَلَهُ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَاهُ، أَيْ: أَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَعْنَى أَخْزَيْتَهُ: أَهْلَكْتَهُ، وَأَنْشَدَ: أَخْزَى الْإِلَهُ بَنِي الصَّلِيبِ عُنَيْزَةً «2» ... وَاللَّابِسِينَ مَلَابِسَ الرُّهْبَانِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: فَضَحْتَهُ وَأَبْعَدْتَهُ، يُقَالُ: أَخْزَاهُ اللَّهُ: أَبْعَدَهُ وَمَقَتَهُ، وَالِاسْمُ: الْخِزْيُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: خَزَى، يَخْزِي، خِزْيًا: إِذَا وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ. قَوْلُهُ: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ الْمُنَادِي عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَوْقَعَ السَّمَاعَ عَلَى الْمُنَادِي مَعَ كَوْنِ الْمَسْمُوعِ هُوَ النِّدَاءُ: لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَ الْمُنَادِيَ بِمَا يُسْمَعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ «يُنَادِي» هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَذَكَرَ يُنَادِي مَعَ أَنَّهُ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: مُنادِياً لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِ هَذَا الْمُنَادَى بِهِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْإِيمانِ: بِمَعْنَى إِلَى وَقِيلَ: إِنَّ يُنَادِي يَتَعَدَّى بِاللَّامِ وَبِإِلَى، يُقَالُ يُنَادِي لِكَذَا وَيُنَادِي إِلَى كَذَا، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ: لِأَجْلِ الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ: أَنْ آمِنُوا هِيَ: إِمَّا تَفْسِيرِيَّةٌ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَصْلُهَا: بِأَنْ آمِنُوا، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ. قَوْلُهُ: فَآمَنَّا أَيِ: امْتَثَلْنَا مَا يَأْمُرُ بِهِ هَذَا الْمُنَادِي مِنَ الْإِيمَانِ فَآمَنَّا، وَتَكْرِيرُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا لِإِظْهَارِ التَّضَرُّعِ وَالْخُضُوعِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالذُّنُوبِ هُنَا: الْكَبَائِرُ، وَبِالسَّيِّئَاتِ: الصَّغَائِرُ. وَالظَّاهِرُ: عَدَمُ اخْتِصَاصِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْآخَرِ بِالْآخَرِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَاحِدًا، وَالتَّكْرِيرُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْغَفْرِ وَالْكُفْرِ: السَّتْرُ. وَالْأَبْرَارُ: جَمْعُ بَارٍّ أَوْ بَرٍّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الِاتِّسَاعِ، فَكَأَنَّ الْبَارَّ مُتَّسِعٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمُتَّسِعَةٌ لَهُ رَحْمَتُهُ، قِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَمَعْنَى اللَّفْظِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ هَذَا دُعَاءٌ آخَرُ وَالنُّكْتَةُ فِي تَكْرِيرِ النِّدَاءِ مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَوْعُودُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ الرُّسُلِ هُوَ الثَّوَابُ الَّذِي وعد الله به

_ (1) . وعجزه: وكلّ نعيم لا محالة زائل. (2) . في القرطبي (4/ 316) : أخرى الإله من الصّليب عبيده ...

أَهْلَ طَاعَتِهِ، فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَهُوَ لَفْظُ الألسن، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» وَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ التَّصْدِيقُ، أَيْ: مَا وَعَدْتَنَا عَلَى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ وَقِيلَ: مَا وَعَدْتَنَا مُنَزَّلًا عَلَى رُسُلِكَ، أَوْ مَحْمُولًا عَلَى رُسُلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَصُدُورُ هَذَا الدُّعَاءِ مِنْهُمْ- مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ-، إِمَّا لِقَصْدِ التَّعْجِيلِ، أَوْ: لِلْخُضُوعِ بِالدُّعَاءِ، لِكَوْنِهِ مُخَّ الْعِبَادَةِ، وَفِي قَوْلِهِمْ: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا خُلْفَ الْوَعْدِ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ فَقَالُوا: مَا جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ؟ قَالُوا عَصَاهُ وَيَدُهُ بَيْضَاءَ لِلنَّاظِرِينَ، وَأَتَوُا النَّصَارَى فَقَالُوا: كَيْفَ كَانَ عِيسَى فِيكُمْ؟ قَالُوا: كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ، وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى، فَأَتَوُا النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَدَعَا رَبَّهُ، فَنَزَلَتْ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ النوم عن وجهه بيده، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ حَتَّى خَتَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ فِي الصَّلَاةِ، إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ قَائِمًا فَقَاعِدًا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَاعِدًا فَعَلَى جَنْبِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَتْ بِي بواسير، فسألت النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . وَثَبَتَ فِيهِ عَنْهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عن صلاة الرجل وهو قاعد قال: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذِهِ حَالَاتُكَ كُلُّهَا يَا ابْنَ آدَمَ، اذْكُرِ اللَّهَ وَأَنْتَ قَائِمٌ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاذْكُرْهُ جالسا، فإن لم تستطع فَاذْكُرْهُ وَأَنْتَ عَلَى جَنْبِكَ، يُسْرٌ مِنَ اللَّهِ وَتَخْفِيفٌ. وَأَقُولُ: هَذَا التَّقْيِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ تَعْمِيمِ الذِّكْرِ لَا وَجْهَ لَهُ، لَا مِنَ الْآيَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الذِّكْرُ مِنْ قُعُودٍ إِلَّا مَعَ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الذِّكْرِ مِنْ قِيَامٍ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى جَنْبٍ إِلَّا مَعَ عَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ مِنْ قُعُودٍ. وَإِنَّمَا يَصْلُحُ هَذَا التَّقْيِيدُ لِمَنْ جَعَلَ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا الصَّلَاةَ، كَمَا سَبَقَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي التَّفَكُّرِ عَنْ سُفْيَانَ رَفَعَهُ: «مَنْ قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا وَيْلَهُ، فَعَدَّ أَصَابِعَهُ عَشْرًا» . قِيلَ لِلْأَوْزَاعِيِّ: مَا غَايَةُ التَّفَكُّرِ فِيهِنَّ؟ قَالَ: يَقْرَؤُهُنَّ وَهُوَ يَعْقِلُهُنَّ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ عَنِ السَّلَفِ فِي اسْتِحْبَابِ التَّفَكُّرِ مُطْلَقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قال: من

_ (1) . يوسف: 82.

[سورة آل عمران (3) : آية 195]

تُخَلِّدْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذِهِ خَاصَّةٌ بِمَنْ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي عُمْرَةٍ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ أَنَا وَعَطَاءٌ فَقُلْتُ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُمُ الْكُفَّارُ، قُلْتُ لِجَابِرٍ: فَقَوْلُهُ: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قَالَ: وَمَا أَخْزَاهُ حِينَ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَإِنَّ دُونَ ذَلِكَ خِزْيًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ قَالَ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: هُوَ الْقُرْآنُ، لَيْسَ كُلَّ أَحَدٍ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ قَالَ: يستجزون مَوْعِدَ اللَّهِ عَلَى رُسُلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ قال: لا تفضحنا. [سورة آل عمران (3) : آية 195] فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) قَوْلُهُ: فَاسْتَجابَ الِاسْتِجَابَةُ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ وَقِيلَ: الإجابة عامة، والاستجابة خاصة بإعطاء المسؤول، وَهَذَا الْفِعْلُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِاللَّامِ، يُقَالُ: اسْتَجَابَهُ، وَاسْتَجَابَ لَهُ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ وَقِيلَ: عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: دَعَوْا بِهَذِهِ الْأَدْعِيَةِ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ وَقِيلَ: عَلَى قَوْلِهِ: وَيَتَفَكَّرُونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الِاسْتِجَابَةَ وَمَا بَعْدَهَا فِي جُمْلَةِ مَا لَهُمْ مِنَ الْأَوْصَافِ الْحَسَنَةِ: لِأَنَّهَا مِنْهُ، إِذْ مَنْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ فَقَدْ رُفِعَتْ دَرَجَتُهُ. قَوْلُهُ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أَيْ: بِأَنِّي، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عَمْرٍو: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: بِثُبُوتِ الْبَاءِ، وَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْإِضَاعَةِ: تَرْكُ الْإِثَابَةِ. قَوْلُهُ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى مِنْ: بَيَانِيَّةٌ، وَمُؤَكِّدَةٌ لِمَا تَقْتَضِيهِ النَّكِرَةُ الْوَاقِعَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنَ الْعُمُومِ. قَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أَيْ: رِجَالُكُمْ مِثْلُ نِسَائِكُمْ فِي الطَّاعَةِ، وَنِسَاؤُكُمْ مِثْلُ رِجَالِكُمْ فِيهَا، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، لِبَيَانِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ تَشَعُّبِهِمَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ. قَوْلُهُ: فَالَّذِينَ هاجَرُوا الْآيَةَ، هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ تَفْصِيلَ مَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ أَيْ: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ أَوْطَانِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقاتَلُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَقُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: وَقُتِلُوا عَلَى التَّكْثِيرِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَقَتَلُوا وَقَاتَلُوا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: تَصَابَى وَأَمْسَى عَلَاهُ الْكِبَرْ أَيْ: قَدْ عَلَاهُ الْكِبَرُ، وَأَصْلُ الْوَاوِ: لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ بِلَا تَرْتِيبٍ، كَمَا قَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُمْ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 إلى 200]

قَاتَلُوا وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمُ وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أَيْ: بِسَبَبِهِ، وَالسَّبِيلُ: الدِّينُ الْحَقُّ. وَالْمُرَادُ هُنَا: مَا نَالَهُمْ مِنَ الْأَذِيَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ، وَعَمَلِهِمْ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ. وَقَوْلُهُ: لَأُكَفِّرَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. وَقَوْلُهُ: ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ عِنْدَ البصريين، لأن معنى قوله: لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ لَأُثِيبَنَّهُمْ ثَوَابًا، أَيْ: إِثَابَةً أَوْ تَثْوِيبًا كَائِنًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ عَلَى التَّفْسِيرِ: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أَيْ: حُسْنُ الْجَزَاءِ، وَهُوَ مَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ جَزَاءِ عَمَلِهِ، مِنْ: ثَابَ، يَثُوبُ: إِذَا رَجَعَ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ بِشَيْءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، إِلَّا نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ» فَذُكِرَ لِلْحَسَنِ فَقَالَ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً إِلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إِلَى آخِرِهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْهِجْرَةِ أَحَادِيثُ كثيرة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 200] لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) قَوْلُهُ: لَا يَغُرَّنَّكَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ: تَثْبِيتُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، [والمراد الأمة] «1» كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أو: خطاب لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِقُبْحِ حَالِ الْكُفَّارِ بَعْدَ ذِكْرِ حُسْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَعْنَى: لَا يَغُرَّنَّكَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ تَقَلُّبِهِمْ فِي الْبِلَادِ بِالْأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ الَّتِي يَتَوَسَّعُونَ بِهَا فِي مَعَاشِهِمْ، فَهُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ثُمَّ مَصِيرُهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ، فَقَوْلُهُ: مَتاعٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ لَا اعْتِدَادَ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثواب الله سبحانه: ثُمَّ مَأْواهُمْ أَيْ: مَا يَأْوُونَ إِلَيْهِ. وَالتَّقَلُّبُ فِي الْبِلَادِ: الِاضْطِرَابُ فِي الْأَسْفَارِ إِلَى الْأَمْكِنَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ «2» والمتاع: ما يعجل

_ (1) . ما بين الحاصرتين مستدرك من تفسير القرطبي [4/ 319] . (2) . غافر: 4. [.....]

الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَسَمَّاهُ: قَلِيلًا، لِأَنَّهُ فَانٍ، وَكُلُّ فَانٍ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ قَلِيلٌ. وَقَوْلُهُ: وَبِئْسَ الْمِهادُ مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي جَهَنَّمَ بِكُفْرِهِمْ، أَوْ: مَا مَهَّدَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّارِ، فَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ: وَهُوَ هَذَا الْمُقَدَّرُ. قَوْلُهُ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ هُوَ اسْتِدْرَاكٌ مِمَّا تَقَدَّمَهُ، لأن معناه النَّفْيِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فِي الْبِلَادِ كَثِيرُ انْتِفَاعٍ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا لَهُمُ الِانْتِفَاعُ الْكَثِيرُ، وَالْخُلْدُ الدَّائِمُ. وَقَرَأَ يَزِيدُ ابن الْقَعْقَاعِ: لَكِنَّ، بِتَشْدِيدِ النُّونِ. قَوْلُهُ: نُزُلًا مَصْدَرٌ مؤكد عن الْبَصْرِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ثَواباً وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ مِثْلَ مَا قَالَا فِي: ثَوَابًا، وَالنُّزُلُ: مَا يُهَيَّأُ لِلنَّزِيلِ، وَالْجَمْعُ أَنَزَالٌ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَيْ: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا أَعَدَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْكُفَّارِ مِنَ الرِّبْحِ فِي الْأَسْفَارِ، فَإِنَّهُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، عَنْ قَرِيبٍ يَزُولُ. قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ سِيقَتْ لِبَيَانِ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُمْ حَظٌّ مِنَ الدِّينِ، وَلَيْسُوا كَسَائِرِهِمْ فِي فَضَائِحِهِمُ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَا سَبَقَ، وَفِيمَا سَيَأْتِي، فَإِنَّ هَذَا الْبَعْضَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ: خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ أَيْ: يَسْتَبْدِلُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، كَمَا يَفْعَلُهُ سَائِرُهُمْ، بَلْ يَحْكُونَ كُتُبَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا هِيَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى هَذِهِ الطَّائِفَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْ حَيْثُ اتِّصَافِهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ لَهُمْ أَجْرُهُمْ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ يُفِيدُ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْأَجْرِ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال. قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا إِلَخْ. هَذِهِ الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ خَتَمَ بِهَا هَذِهِ السُّورَةَ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَصَايَا الَّتِي جَمَعَتْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَحَضَّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالصَّبْرُ: الْحَبْسُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ. وَالْمُصَابَرَةُ مُصَابَرَةُ الْأَعْدَاءِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَيْ: غَالِبُوهُمْ فِي الصَّبْرِ على شدائد الحرب، وَخَصَّ الْمُصَابَرَةَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الصَّبْرَ: لِكَوْنِهَا أَشَدَّ مِنْهُ وَأَشَقَّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى صَابِرُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَقِيلَ: صَابِرُوا الْأَنْفُسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا وقيل: صابروا الوعد الذي وعدتم ولا تيأسوا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْنَى الْعَرَبِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: فَلَمْ أَرَ حَيًّا صَابَرُوا مِثْلَ صَبْرِنَا ... وَلَا كَافَحُوا مِثْلَ الَّذِينَ نُكَافِحُ أَيْ: صَابَرُوا الْعَدُوَّ فِي الْحَرْبِ. قَوْلُهُ: وَرابِطُوا أَيْ: أَقِيمُوا فِي الثُّغُورِ رَابِطِينَ خَيْلَكُمْ فِيهَا، كَمَا يَرْبُطُهَا أعداؤكم، هذا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابَطُ فِيهِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ هَذَا، وَالرِّبَاطُ اللُّغَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ، ولا ينافيه تسميته صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِغَيْرِهِ رِبَاطًا كَمَا سَيَأْتِي. وَيُمْكِنُ إِطْلَاقُ الرِّبَاطِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَعَلَى انْتِظَارِ الصَّلَاةِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الرِّبَاطُ مُلَازَمَةُ الثُّغُورِ وَمُوَاظَبَةُ الصَّلَاةِ، هَكَذَا قَالَ: وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ. وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ: مَاءٌ مُتَرَابِطٌ: دَائِمٌ لَا يَبْرَحُ، وَهُوَ يَقْتَضِي تَعْدِيَةَ الرِّبَاطِ إِلَى غَيْرِ ارْتِبَاطِ الْخَيْلِ فِي الثُّغُورِ. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ فَلَا تُخَالِفُوا مَا شَرَعَهُ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ:

تَكُونُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَائِزِينَ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ، وَهُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا تَقَلُّبُ لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَبِئْسَ الْمِهَادُ: أَيْ: بِئْسَ الْمَنْزِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي في قوله: تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ قَالَ: ضَرْبُهُمْ فِي الْبِلَادِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ قَالَ: إِنَّمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ أَبْرَارًا: لِأَنَّهُمْ بَرُّوا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ، كَمَا أَنَّ لِوَالِدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، كَذَلِكَ لولدك عليك حقا. وأخرج ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ قَالَهُ السُّيُوطِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ لِمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ قال صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: صَلُّوا عَلَيْهِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: انْظُرُوا إِلَى هَذَا، يَعْنِي: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى عِلْجٍ نَصْرَانِيٍّ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمْ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَالَّذِينَ اتبعوا محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابِطُونَ فِيهِ، وَلَكِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ يَعْمُرُونَ الْمَسَاجِدَ، يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ فِي مَوَاقِيتِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ، وَصَابِرُوا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدْتُكُمْ، وَرَابِطُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ تَفَاسِيرِ السَّلَفِ غَيْرُ هَذَا فِي سِرِّ الصَّبْرِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، وَالْمُصَابَرَةِ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ، وَلَا تَقُومُ بِذَلِكَ حُجَّةٌ، فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ الرِّبَاطِ، وَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ الرِّبَاطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ يَرُدُّ مَا قَالَهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَدَبَ إِلَى الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ الْجِهَادُ فَيُحْمَلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمَّى حِرَاسَةَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ رِبَاطًا، وأخرج الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَجْرِ الْمُرَابِطِ فَقَالَ: «مَنْ رَابَطَ لَيْلَةً حَارِسًا مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ خَلْفَهُ مِمَّنْ صَامَ وَصَلَّى» . وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْعَشْرِ الْآيَاتِ الَّتِي في آخر السُّورَةِ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سورة آل

عِمْرَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ» . وَفِي إِسْنَادِهِ مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْعَشْرَ الْآيَاتِ لَمَّا اسْتَيْقَظَ. وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ فِي ليلة كتب له قيام ليلة» .

سورة النساء

سورة النّساء هِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ: فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ الْحَجْبِيِّ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ النَّقَّاشُ: وَقِيلَ: نَزَلَتْ عِنْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ حَيْثُمَا وَقَعَ، فَإِنَّهُ مَكِّيٌّ يُلْزِمُ أَنْ يَكُونَ صدر هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيًّا، وَبِهِ قَالَ عَلْقَمَةُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي: قَدْ بَنَى بِهَا. وَلَا خِلَافَ بين العلماء أن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِنَّمَا بَنَى بِعَائِشَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَمَنْ تَبَيَّنَ أَحْكَامَهَا عَلِمَ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ لَا شَكَّ فِيهَا. قَالَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَكِّيٌّ حَيْثُ وَقَعَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الْبَقَرَةَ مَدَنِيَّةٌ وَفِيهَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ فِي مَوْضِعَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ فِي فَضَائِلِهِ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ بِالْمَدِينَةِ، وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَوْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَكَذَا أخرجه ابن مردويه عن عبد الله ابن الزُّبَيْرِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ: مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ لَخَمْسَ آيَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية، وإِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الْآيَةِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْآيَةَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِنْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَمْسُ آيَاتٍ مِنَ النِّسَاءِ هُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الْآيَةَ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها الْآيَةِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ الآية، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ الآية. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثَمَانُ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هُنَّ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ، وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وزاد: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ الآية، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ الآية، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ الآية. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، والبيهقي عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَخْذَ السَّبْعَ فَهُوَ حَبْرٌ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أعطيت مكان التوراة السبع، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل» «1» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، والحاكم،

_ (1) . في المطبوع: «أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ الطِّوَالَ، وَالْمِئِينُ: كُلُّ سُورَةٍ بَلَغَتْ مِائَةً فَصَاعِدًا، وَالْمَثَانِي: كُلُّ سُورَةٍ دون المئين، وفوق المفصل» .

[سورة النساء (4) : الآيات 1 إلى 4]

وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «وجد رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ شَيْئًا فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَثَرَ الْوَجَعِ عَلَيْكَ لَبَّيِّنٌ، قَالَ: أَمَا إِنِّي عَلَى مَا تَرَوْنَ بِحَمْدِ اللَّهِ قَدْ قَرَأْتُ السَّبْعَ الطِّوَالَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ السَّبْعَ الطِّوَالَ فِي سَبْعِ رَكَعَاتٍ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِالسَّبْعِ الطِّوَالِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «سَلُونِي عَنْ سُورَةِ النِّسَاءِ فَإِنِّي قَرَأْتُ الْقُرْآنَ وَأَنَا صَغِيرٌ» قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ النِّسَاءِ فَعَلِمَ مَا يُحْجَبُ مِمَّا لَا يُحْجَبُ علم الفرائض» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) الْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْمَوْجُودُونَ عِنْدَ الْخِطَابِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَدْخُلُ مَنْ سَيُوجَدُ، بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا كُلِّفَ بِهِ الْمَوْجُودُونَ، أَوْ تَغْلِيبُ الْمَوْجُودِينَ عَلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ، كَمَا غَلَّبَ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ فِي قَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ هُنَا: آدَمَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَاحِدٍ، بِغَيْرِ هَاءٍ، عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، فَالتَّأْنِيثُ: بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَالتَّذْكِيرُ: بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى. قَوْلُهُ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها قِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ خَلَقَهَا أَوَّلًا، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَقِيلَ: عَلَى: خَلْقِكُمْ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ الثَّانِي دَاخِلًا مَعَ الْأَوَّلِ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ. وَالْمَعْنَى: وَخَلَقَ مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ آدَمَ زَوْجَهَا، وَهِيَ حَوَّاءُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى: التَّقْوَى، وَالرَّبِّ، وَالزَّوْجِ، وَالْبَثِّ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْها رَاجِعٌ إلى آدم وحواء المعبر عنهما بالنفس والزوج. وقوله: كَثِيراً وصف مؤكد، تُفِيدُهُ صِيغَةُ الْجَمْعِ، لِكَوْنِهَا مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: بَثًّا كَثِيرًا. وَقَوْلُهُ: وَنِساءً أَيْ: كَثِيرَةً، وَتَرَكَ التَّصْرِيحَ بِهِ اسْتِغْنَاءً بِالْوَصْفِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ: قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِحَذْفِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ، وَأَصْلُهُ تَتَسَاءَلُونَ، تَخْفِيفًا لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي

السِّينِ وَالْمَعْنَى: يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْرِنُونَ بَيْنَهُمَا فِي السُّؤَالِ وَالْمُنَاشَدَةِ، فَيَقُولُونَ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، وَأَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: وَالْأَرْحامَ بِالْجَرِّ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ النَّحْوِ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ الْجَرِّ، فَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَقَالُوا: هِيَ لَحْنٌ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَقَالُوا: هِيَ قِرَاءَةٌ قَبِيحَةٌ. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي تَوْجِيهِ هَذَا الْقُبْحِ: إِنَّ الْمُضْمَرَ الْمَجْرُورَ بِمَنْزِلَةِ التَّنْوِينِ، وَالتَّنْوِينُ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ: بِقُبْحِ عَطْفِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي الْخَفْضِ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ كَقَوْلِهِ تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ وَجَوَّزَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَأَنْشَدَ: فَالْيَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتَمْدَحُنَا «1» ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيّام من عجب ومثله قول الآخر: نعلّق فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ... وَمَا بَيْنَهَا وَالْكَعْبِ مهوى «2» نَفَانِفُ بِعَطْفِ الْكَعْبِ عَلَى الضَّمِيرِ فِي بَيْنِهَا. وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أَنَّ الْمُبَرِّدَ قَالَ: لَوْ صَلَّيْتُ خَلْفَ إِمَامٍ يَقْرَأُ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ بِالْجَرِّ، لَأَخَذْتُ نَعْلَيَّ وَمَضَيْتُ. وَقَدْ رَدَّ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ مَا قَالَهُ الْقَادِحُونَ فِي قِرَاءَةِ الْجَرِّ فَقَالَ: وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ مَرْدُودٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الدِّينِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ تَوَاتُرًا، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنْ دَعْوَى التَّوَاتُرِ بَاطِلَةٌ يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ يَعْرِفُ الْأَسَانِيدَ الَّتِي رَوَوْهَا بِهَا، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَجَّ لِلْجَوَازِ بِوُرُودِ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ كَمَا تقدم، وكما في قول بعضهم: فحسبك وَالضَّحَّاكِ سَيْفُ مُهَنَّدُ وَقَوْلِ الْآخَرِ: وَقَدْ رَامَ آفَاقُ السَّمَاءِ فَلَمْ يَجِدْ ... لَهُ مِصْعَدًا فِيهَا وَلَا الْأَرْضِ مَقْعَدَا وَقَوْلِ الْآخَرِ: مَا إِنْ بِهَا وَالْأُمُورِ مِنْ تَلَفٍ «3» ............... وَقَوْلِ الْآخَرِ: أَكُرُّ عَلَى الْكَتِيبَةِ لَسْتُ أَدْرِي ... أَحَتْفِي كَانَ فِيهَا أَمْ سِوَاهَا فَسِوَاهَا: فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي فِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ

_ (1) . في القرطبي (5/ 3) : وتشتمنا. (2) . المهوى والمهواة: ما بين الجبلين ونحو ذلك. والنفانف: الهواء، وقيل: الهواء بين الشيئين، وكل شيء بينه وبين الأرض مهوى فهو نفنف. (3) . وعجزه: ما حمّ من أمر غيبه وقعا.

لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ «1» . وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَمَعْنَاهَا وَاضِحٌ جَلِيٌّ، لِأَنَّهُ عَطَفَ الرَّحِمَ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ، أَيِ: اتَّقُوا الله واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، فإنهما مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَقِيلَ: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: بِهِ كَقَوْلِكَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعُمْرًا، أَيِ: اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَتَتَسَاءَلُونَ بِالْأَرْحَامِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: وَالْأَرْحَامُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: وَالْأَرْحَامُ صِلُوهَا، أَوْ: وَالْأَرْحَامُ أَهْلٌ أَنْ تُوصَلَ، وَقِيلَ: إِنَّ الرَّفْعَ عَلَى الْإِغْرَاءِ عِنْدَ مَنْ يَرْفَعُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ عَمِيرٌ وَأَشْبَا ... هُـ عَمِيرٍ وَمِنْهُمُ السَّفَّاحُ لجديرون باللّقاء إذا قا ... ل أخو النَّجْدَةِ: السِّلَاحُ السِّلَاحُ وَالْأَرْحَامُ: اسْمٌ لِجَمِيعِ الْأَقَارِبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِهِ، لَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَلَا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَدْ خَصَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الزَّيْدِيَّةِ الرَّحِمَ بِالْمُحَرَّمِ فِي مَنْعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ مَعَ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا أَعَمُّ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اتَّفَقَتِ الْمِلَّةُ عَلَى أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ، وَأَنْ قَطِيعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ. انْتَهَى. وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الصَّحِيحَةُ. وَالرَّقِيبُ: الْمُرَاقِبُ، وَهِيَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، يُقَالُ: رَقَبْتُ، أَرْقُبُ، رُقْبَةً وَرُقْبَانًا: إِذَا انْتَظَرْتَ. قَوْلُهُ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَالْيَتِيمُ: مَنْ لَا أَبَ لَهُ. وَقَدْ خَصَّصَهُ الشَّرْعُ بِمَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعْنَاهُ فِي الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى، وَأَطْلَقَ اسْمَ الْيَتِيمِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ إِعْطَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ- مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَهَا إِلَّا بَعْدَ ارتفاع اسم اليتيم بِالْبُلُوغِ- مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: بِالْيَتَامَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ، وَبِالْإِيتَاءِ: مَا يَدْفَعُهُ الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَوْصِيَاءُ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، لا دفعها جميعا، وهذا الْآيَةُ مُقَيَّدَةٌ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ «2» فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ ارْتِفَاعِ الْيُتْمِ بِالْبُلُوغِ مُسَوِّغًا لِدَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُمُ الرُّشْدُ. قَوْلُهُ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَصْنَعُوا صُنْعَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الطَّيِّبَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَيُعَوِّضُونَهُ بِالرَّدِيءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى- وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ خَبِيثَةٌ- وَتَدَعُوا الطَّيِّبَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: لَا تَتَعَجَّلُوا أَكْلَ الْخَبِيثِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَتَدَعُوا انْتِظَارَ الرِّزْقِ الْحَلَالِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّ تَبَدُّلَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُهُ مَكَانَهُ، وَكَذَلِكَ اسْتِبْدَالُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «3» وَقَوْلُهُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ «4» . وَأَمَّا التَّبْدِيلُ: فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كَذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ «5» ، وَأُخْرَى بِالْعَكْسِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: بَدَّلْتُ الْحَلْقَةَ بِالْخَاتَمِ: إِذَا أَذَبْتَهَا وَجَعَلْتَهَا خَاتَمًا، نَصَّ عَلَيْهِ الْأَزْهَرِيُّ. قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ الْخَلْطُ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ مُضَمَّنًا مَعْنَى الضَّمِّ، أَيْ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ مَضْمُومَةً إِلَى أَمْوَالِكُمْ، ثُمَّ نَسَخَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «6» وَقِيلَ: إِنَّ: إِلَى، بِمَعْنَى: مَعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «7» . وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْحُوبُ: الْإِثْمُ، يُقَالُ: حَابَ الرَّجُلُ، يَحُوبُ، حُوبًا: إِذَا أَثِمَ، وَأَصْلُهُ: الزَّجْرُ لِلْإِبِلِ،

_ (1) . الحجر: 20. (2) . النساء: 6. (3) . البقرة: 108. (4) . البقرة: 61. (5) . سبأ: 16. (6) . البقرة: 220. (7) . آل عمران: 52.

فَسُمِّيَ الْإِثْمُ: حُوبًا، لِأَنَّهُ يُزْجَرُ عَنْهُ. وَالْحَوْبَةُ: الْحَاجَةُ. وَالْحُوبُ أَيْضًا: الْوَحْشَةُ، وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: ضَمُّ الْحَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَفَتْحُ الْحَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَالثَّالِثَةُ: الْحَابُ، وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: حَابًا، عَلَى الْمَصْدَرِ، كَقَالَ قَالًا. وَالتَّحَوُّبُ: التَّحَزُّنُ، وَمِنْهُ قَوْلُ طُفَيْلٍ: فَذُوقُوا كَمَا ذُقْنَا غَدَاةَ محجّر ... من الغيظ في أكبادنا والتّحوّب «1» وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا وَجْهُ ارْتِبَاطِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكْفُلُ الْيَتِيمَةَ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا لَهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَا يُقْسِطُ لَهَا فِي مَهْرِهَا، أَيْ: يَعْدِلُ فِيهِ، وَيُعْطِيهَا مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى مَا هُوَ لَهُنَّ مِنَ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طاب لهنّ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ، فَهَذَا سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، فَهُوَ نَهْيٌ يَخُصُّ هَذِهِ الصُّورَةَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، مِنْ أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ الْحَرَائِرِ مَا شَاءَ، فَقَصَرَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَرْبَعٍ، فَيَكُونُ وَجْهُ ارْتِبَاطِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ أَنَّهُمْ إِذَا خَافُوا أَلَّا يُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَكَذَلِكَ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْسِطُوا فِي النِّسَاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ فِي الْيَتَامَى وَلَا يَتَحَرَّجُونَ فِي النِّسَاءِ، وَالْخَوْفُ مِنَ الْأَضْدَادِ، فَإِنَّ الْمَخُوفَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا، وَقَدْ يَكُونُ مَظْنُونًا، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي مَعْنَاهُ فِي الْآيَةِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ خِفْتُمْ: بِمَعْنَى: أَيْقَنْتُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: خِفْتُمْ: بِمَعْنَى: ظَنَنْتُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْحُذَّاقُ، وَأَنَّهُ عَلَى بَابِهِ مِنَ الظَّنِّ، لَا مِنَ الْيَقِينِ وَالْمَعْنَى: مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ التَّقْصِيرُ فِي الْعَدْلِ لِلْيَتِيمَةِ فَلْيَتْرُكْهَا وَيَنْكِحْ غَيْرَهَا. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ: تَقْسِطُوا بِفَتْحِ التَّاءِ، مِنْ: قَسَطَ: إِذَا جَارَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى تَقْدِيرِ زِيَادَةِ لَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ خفتم أن لا تَقْسِطُوا. وَحَكَى الزَّجَّاجُ: أَنَّ أَقْسَطَ، يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ قَسَطَ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّ أَقْسَطَ بمعنى: عدل، وقسط: بمعنى جار، و «ما» في قوله: ما طابَ موصولة، وجاء بها مَكَانَ مِنْ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَتَعَاقَبَانِ فَيَقَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَما بَناها «2» فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ «3» . وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّ «مَا» تَقَعُ لِلنُّعُوتِ كَمَا تَقَعُ لِمَا لَا يَعْقِلُ، يُقَالُ مَا عِنْدَكَ، فَيُقَالُ: ظَرِيفٌ وَكَرِيمٌ، فَالْمَعْنَى: فَانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ، أَيِ: الْحَلَالَ، وَمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَلَيْسَ بِطَيِّبٍ، وَقِيلَ: إِنَّ «مَا» هُنَا: مُدِّيَّةٌ، أَيْ: مَا دُمْتُمْ مُسْتَحْسِنِينَ لِلنِّكَاحِ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقال الفراء: إن «ما» ها هنا: مَصْدَرِيَّةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ فَانْكِحُوا مَنْ طَابَ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَخَفْ أَنْ يُقْسِطَ فِي اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة، و «من» فِي قَوْلِهِ: مِنَ النِّساءِ إِمَّا: بَيَانِيَّةٌ، أَوْ: تَبْعِيضِيَّةٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ الْيَتَائِمِ. قَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ «مَا» كَمَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وقيل: على الحال، وهذه الألفاظ لا تنصرف لِلْعَدْلِ وَالْوَصْفِيَّةِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ النحو والأصل: انكحوا ما طاب

_ (1) . محجّر: اسم موضع. وفي الديوان: «أجوافنا» بدل: أكبادنا. (2) . الشمس: 2. (3) . النور: 45. [.....]

لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ: عَلَى تَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَبَيَّنُوا ذَلِكَ: بِأَنَّهُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ كُلَّ نَاكِحٍ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَا أَرَادَ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ، كَمَا يُقَالُ لِلْجَمَاعَةِ: اقْتَسِمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ: هَذَا الْمَالَ الَّذِي فِي الْبُدْرَةِ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً. وَهَذَا مُسَلَّمٌ إِذَا كَانَ الْمَقْسُومُ قَدْ ذُكِرَتْ جُمْلَتُهُ أَوْ عُيِّنَ مَكَانُهُ، أَمَّا: لَوْ كَانَ مُطْلَقًا، كَمَا يُقَالُ: اقْتَسِمُوا الدَّرَاهِمَ، وَيُرَادُ بِهِ: مَا كَسَبُوهُ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى هَكَذَا. وَالْآيَةُ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ لَا مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ. عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِقَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مَالًا مُعَيَّنًا كَثِيرًا: اقْتَسِمُوهُ مَثْنَى، وَثُلَاثَ، وَرُبَاعَ، فَقَسَمُوا بَعْضَهُ بَيْنَهُمْ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَبَعْضَهُ: ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَبَعْضَهُ: أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً كَانَ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْعَرَبِيُّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: جَاءَنِي الْقَوْمُ مَثْنَى وَهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ، كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جاءوه اثنين اثنين، وهكذا جاءني الْقَوْمُ ثُلَاثَ وَرُبَاعَ، وَالْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ لكل فرد فرد، كما في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «1» أَقِيمُوا الصَّلاةَ آتُوا الزَّكاةَ وَنَحْوِهَا فَقَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَعْنَاهُ لِيَنْكِحْ كُلُّ فَرْدٍ مِنْكُمْ مَا طَابَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَثَلَاثًا وثلاثا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا، هَذَا مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ. فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْجَمِيعِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ. فَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ بِالسُّنَّةِ لَا بِالْقُرْآنِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ التِّسْعِ بِاعْتِبَارِ الْوَاوِ الْجَامِعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: انْكِحُوا مَجْمُوعَ هَذَا الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، فَهَذَا جَهْلٌ بالمعنى العربي، ولو قال: انكحوا ثنتين وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ وَأَمَّا مَعَ الْمَجِيءِ بِصِيغَةِ الْعَدْلِ فَلَا، وَإِنَّمَا جَاءَ سُبْحَانَهُ بِالْوَاوِ الْجَامِعَةِ دُونَ أَوْ: لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا أَحَدُ الْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: ثُلُثَ وَرُبُعَ بِغَيْرِ أَلِفٍ. قَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً: فَانْكِحُوا وَاحِدَةً، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فَالْزَمُوا أَوْ فَاخْتَارُوا وَاحِدَةً. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَالْمَعْنَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ وَنَحْوِهِ فَانْكِحُوا وَاحِدَةً، وَفِيهِ الْمَنْعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِمَنْ خَافَ ذلك. وقريء: بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ: فَوَاحِدَةٌ تُقْنِعُ وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فَوَاحِدَةٌ فِيهَا كِفَايَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْمُقْنِعُ وَاحِدَةٌ. قَوْلُهُ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى وَاحِدَةٍ، أَيْ: فَانْكِحُوا وَاحِدَةً أَوِ انْكِحُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ السَّرَارِيِّ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُنَّ كَمَا يُفِيدُهُ الْمَوْصُولُ. وَالْمُرَادُ: نِكَاحُهُنَّ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ، لَا بِطَرِيقِ النِّكَاحِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ، عَلَى أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَمْلُوكَاتِ فِي الْقَسْمِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جَعْلُهُ قَسِيمًا لِلْوَاحِدَةِ فِي الْأَمْنِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ. وَإِسْنَادُ الْمِلْكِ إِلَى الْيَمِينِ: لِكَوْنِهَا الْمُبَاشِرَةَ لِقَبْضِ الْأَمْوَالِ وَإِقْبَاضِهَا، وَلِسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى الشَّخْصِ فِي الْغَالِبِ، وَمِنْهُ: إِذَا مَا رَايَةٌ نُصِبَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ باليمين

_ (1) . التوبة: 5.

قَوْلُهُ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أَيْ: ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى أَلَّا تَعُولُوا، أَيْ: تَجُورُوا، مِنْ: عَالَ الرَّجُلُ، يَعُولُ: إِذَا مَالَ وَجَارَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَالَ السَّهْمُ عَنِ الْهَدَفِ: مَالَ عَنْهُ، وَعَالَ الْمِيزَانُ: إِذَا مَالَ، وَمِنْهُ: قَالُوا اتَّبَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ وَاطَّرَحُوا ... قَوْلَ الرَّسُولِ وَعَالُوا فِي الْمَوَازِينِ وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ: بِمِيزَانِ صِدْقٍ لَا يَغُلُّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ وَمِنْهُ أَيْضًا: فَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ «1» ... لَقَدْ عَالَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِ وَالْمَعْنَى: إِنْ خِفْتُمْ عَدَمَ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فَهَذِهِ الَّتِي أُمِرْتُمْ بِهَا أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الْجَوْرِ، وَيُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ، يَعِيلُ: إِذَا افْتَقَرَ وَصَارَ عَالَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً «2» ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَلَّا تَعُولُوا أَلَّا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَمَا قَالَ هَذَا غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَعَالَ يُعِيلُ: إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ: عَالَ تَأْتِي لِسَبْعَةِ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: عَالَ: مَالَ. الثَّانِي: زَادَ. الثَّالِثُ: جَارَ. الرَّابِعُ: افْتَقَرَ. الْخَامِسُ: أَثْقَلَ. السَّادِسُ: قَامَ بِمَئُونَةِ الْعِيَالِ، ومنه: قوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . السَّابِعُ: عَالَ: غَلَبَ، وَمِنْهُ: عِيلَ صَبْرِي، قَالَ: وَيُقَالُ: أَعَالَ الرَّجُلُ: كَثُرَ عِيَالُهُ. وَأَمَا: عَالَ، بِمَعْنَى كَثُرَ عِيَالُهُ، فَلَا يَصِحُّ، وَيُجَابُ عَنْ إِنْكَارِ الثَّعْلَبِيِّ لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَذَلِكَ إِنْكَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ لِذَلِكَ: بِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ الشَّافِعِيَّ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ زيد بن أسلم، وجابر بن زيد، وهم إِمَامَانِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يُفَسِّرَانِ الْقُرْآنَ هُمَا وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بِمَا لَا وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ. وَقَدْ حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَأَبِي عُمَرَ الدُّورِيِّ، وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ الشَّافِعِيُّ أَعْلَمَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِنَّا، وَلَعَلَّهُ لُغَةٌ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَالَ أُسْتَاذُنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ: سَأَلْتُ أَبَا عُمَرَ الدُّورِيَّ عَنْ هَذَا وَكَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ غَيْرَ مُدَافَعٍ، فَقَالَ: هِيَ لُغَةُ حِمْيَرٍ، وَأَنْشَدَ: وَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْخُذُ كُلَّ حَيٍّ ... بِلَا شَكٍّ وَإِنْ أَمَشَى وَعَالَا أَيْ: وَإِنْ كَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ وَعِيَالُهُ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: أَنْ لَا تُعِيلُوا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدَحَ الزَّجَّاجُ فِي تَأْوِيلِ عَالَ مِنَ الْعِيَالِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَبَاحَ كَثْرَةَ السَّرَارِيِّ، وَفِي ذَلِكَ تَكْثِيرُ الْعِيَالِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى أَنْ لَا يُكْثِرُوا. وَهَذَا الْقَدْحُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ السَّرَارِيَّ إِنَّمَا هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما

_ (1) . في القرطبي (5/ 21) : ثلاثة أنفس وثلاث ذود.... (2) . التوبة: 28.

الْعِيَالُ الْحَرَائِرُ ذَوَاتُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: عَالَ الرَّجُلُ: إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ، وَكَفَى بِهَذَا. وَقَدْ وَرَدَ عَالَ لَمَعَانٍ غَيْرِ السَّبْعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ، مِنْهَا: عَالَ: اشْتَدَّ وَتَفَاقَمَ، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَعَالَ الرَّجُلُ فِي الْأَرْضِ: إِذَا ضَرَبَ فِيهَا، حَكَاهُ الْهَرَوِيُّ، وَعَالَ: إِذَا أَعْجَزَ، حَكَاهُ الْأَحْمَرُ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ غَيْرُ السَّبْعَةِ وَالرَّابِعُ: عَالَ: كَثُرَ عِيَالُهُ، فَجُمْلَةُ مَعَانِي عَالَ: أَحَدَ عَشَرَ مَعْنًى. قَوْلُهُ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً الْخِطَابُ لِلْأَزْوَاجِ، وَقِيلَ: لِلْأَوْلِيَاءِ. وَالصَّدُقَاتُ: بِضَمِّ الدَّالِ، جَمْعُ صَدَقَةٍ، كَثَمَرَةٍ، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَبَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ: صَدَقَةٌ، وَالْجَمَعُ صَدَقَاتٌ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتَ، وَإِنْ شِئْتَ أَسْكَنْتَ. وَالنِّحْلَةُ بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ، وَأَصْلُهَا: الْعَطَاءُ، نَحَلْتُ فُلَانًا: أَعْطَيْتُهُ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِيتَاءَ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ وَقِيلَ: النِّحْلَةُ: التَّدَيُّنُ، فَمَعْنَى: نِحْلَةً: تَدَيُّنًا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: النِّحْلَةُ: الْفَرِيضَةُ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ وَقِيلَ: النِّحْلَةُ: طِيبَةُ النَّفْسِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَا تَكُونُ النِّحْلَةُ إِلَّا عَنْ طِيبَةِ نَفْسٍ. وَمَعْنَى الْآيَةِ- عَلَى كَوْنِ الْخِطَابِ لِلْأَزْوَاجِ-: أَعْطُوا النِّسَاءَ اللَّاتِي نَكَحْتُمُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ الَّتِي لَهُنَّ عَلَيْكُمْ عَطِيَّةً، أَوْ دِيَانَةً مِنْكُمْ، أَوْ فَرِيضَةً عَلَيْكُمْ، أَوْ طِيبَةً مِنْ أَنْفُسِكُمْ. وَمَعْنَاهَا- عَلَى كَوْنِ الْخِطَابِ لِلْأَوْلِيَاءِ-: أَعْطُوا النِّسَاءَ- مِنْ قَرَابَاتِكُمُ الَّتِي قَبَضْتُمْ مُهُورَهُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ- تِلْكَ الْمُهُورَ. وَقَدْ كَانَ الْوَلِيُّ يَأْخُذُ مَهْرَ قَرِيبَتِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُعْطِيهَا شَيْئًا، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَالْكَلْبِيِّ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الضَّمَائِرَ مِنْ أَوَّلِ السِّيَاقِ لِلْأَزْوَاجِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ لِلنِّسَاءِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِكَثِيرِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَلِيلِهِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: «صُدْقَاتِهِنَّ» بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الدَّالِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: بِضَمِّهِمَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّ الدَّالِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً الضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، رَاجِعٌ إِلَى الصَّدَاقِ الَّذِي هُوَ وَاحِدُ الصَّدُقَاتِ، أَوْ إِلَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الصَّدُقَاتُ، أَوْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ مِنْ ذَلِكَ. وَنَفْسًا: تَمْيِيزٌ. وَقَالَ أَصْحَابُ سِيبَوَيْهِ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، لَا تَمْيِيزٌ، أَيْ: أَعْنِي نَفْسًا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ طِبْنَ، أَيِ: النِّسَاءُ لَكُمْ أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ أَوِ الْأَوْلِيَاءُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَهْرِ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً وَفِي قَوْلِهِ: طِبْنَ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَحْلِيلِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ لَهُمْ إِنَّمَا هُوَ طِيبَةُ النَّفْسِ، لَا مُجَرَّدَ مَا يَصْدُرُ مِنْهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَتَحَقَّقُ مَعَهَا طِيبَةُ النَّفْسِ، فَإِذَا ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ طِيبَةِ نَفْسِهَا لَمْ يَحِلَّ لِلزَّوْجِ وَلَا لِلْوَلِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَلَفَّظَتْ بِالْهِبَةِ أَوِ النَّذْرِ أَوْ نَحْوِهِمَا. وَمَا أَقْوَى دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَا يَصْدُرُ مِنَ النِّسَاءِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّمْلِيكِ بِمُجَرَّدِهَا، لِنُقْصَانِ عُقُولِهِنَّ، وَضَعْفِ إِدْرَاكِهِنَّ، وَسُرْعَةِ انخذاعهن، وَانْجِذَابِهِنَّ إِلَى مَا يُرَادُ مِنْهُنَّ بِأَيْسَرِ تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ، وَقَوْلُهُ: هَنِيئاً مَرِيئاً مَنْصُوبَانِ عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَكْلًا هَنِيئًا مَرِيئًا، أَوْ قَائِمَانِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، أَوْ عَلَى الحال، يقال: هناه الطعام والشراب، يهنئه، وَمَرَأَهُ، وَأَمْرَأَهُ، مِنَ الْهَنِيءِ وَالْمَرِيءِ، وَالْفِعْلُ: هَنَأَ وَمَرَأَ، أَيْ: أَتَى مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا غيظ وقيل:

هُوَ الطَّيِّبُ الَّذِي لَا تَنْغِيصَ فِيهِ وَقِيلَ: الْمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ، الطَّيِّبُ الْهَضْمِ وَقِيلَ: مَا لَا إِثْمَ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ حَلَالٌ لَهُمْ خَالِصٌ عَنِ الشَّوَائِبِ، وَخَصَّ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يُرَادُ بِالْمَالِ وَإِنْ كَانَ سَائِرُ الِانْتِفَاعَاتِ بِهِ جَائِزَةً كَالْأَكْلِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ قَالَ آدَمُ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها قَالَ: حَوَّاءُ مِنْ قَصِيرَيْ آدَمَ، أَيْ: قَصِيرَيْ أَضْلَاعِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: خُلِقَتْ حَوَّاءُ مِنْ خُلْفِ آدَمَ الْأَيْسَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: مِنْ ضِلْعِ الْخُلْفِ وَهُوَ مِنْ أَسْفَلِ الْأَضْلَاعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ قَالَ: تَعَاطَوْنَ بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أبي حاتم عن الرَّبِيعِ قَالَ: تُعَاقِدُونَ وَتُعَاهِدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَقُولُ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جرير عن الحسن ونحوه. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ وَصِلُوهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً قَالَ: حَفِيظًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ غَطَفَانَ كَانَ مَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لِابْنِ أَخٍ لَهُ فَلَمَّا بَلَغَ الْيَتِيمُ طَلَبَ مَالَهُ، فَمَنَعَهُ عَمُّهُ، فَخَاصَمَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ يَعْنِي الْأَوْصِيَاءَ، يَقُولُ: أَعْطُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ يَقُولُ: لَا تَسْتَبْدِلُوا الْحَرَامَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْحَلَالِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، يَقُولُ: لَا تَذَرُوا أَمْوَالَكُمُ الْحَلَالَ، وَتَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمُ الْحَرَامَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمان عن مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا تَعْجَلْ بِالرِّزْقِ الْحَرَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ الْحَلَالُ الَّذِي قُدِّرَ لَكَ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ قَالَ: مَعَ أَمْوَالِكُمْ، تَخْلِطُونَهَا، فَتَأْكُلُونَهَا جَمِيعًا إِنَّهُ كانَ حُوباً إِثْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الآية قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النِّسَاءَ، وَلَا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ، يَأْخُذُهُ الْأَكْبَرُ، فَنَصِيبُهُ من الميراث طيب، وهذا الذي يأخذه خَبِيثٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَعَ أَمْوَالِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى كَرِهُوا أَنْ يُخَالِطُوهُمْ، وَجَعَلَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ يَعْزِلُ مَالَ الْيَتِيمِ عَنْ مَالِهِ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «1» قَالَ: فَخَالَطُوهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ عُرْوَةَ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي! هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ في حجر وليها تشركه في ماله وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلَيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَنِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ، وَأَنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ «2» قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ «3» رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أن

_ (1) . البقرة: 220. (2) . النساء: 127. (3) . النساء: 127.

يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهِ وَجَمَالِهِ مِنْ بَاقِي النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ يَتِيمَةٌ فَنَكَحَهَا، وَكَانَ لَهَا عَذْقٌ فَكَانَ يُمْسِكُهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ، فَنَزَلَتْ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى أَحْسَبُهُ قَالَ: كَانَتْ شَرِيكَتَهُ فِي ذَلِكَ الْعَذْقِ وَفِي مَالِهِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ بِمَالِ الْيَتِيمِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: قَصَرَ الرِّجَالَ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ مِنْ أَجْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ مَا شَاءَ فَقَالَ: كَمَا تَخَافُونَ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي الْيَتَامَى فَخَافُوا أَلَّا تَعْدِلُوا فِيهِنَّ، فَقَصَرَهُمْ عَلَى الْأَرْبَعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَنْكِحُونَ عَشْرًا مِنَ النِّسَاءِ الْأَيَامَى، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ شَأْنَ الْيَتِيمِ، فَتَفَقَّدُوا مِنْ دِينِهِمْ شَأْنَ الْيَتَامَى وَتَرَكُوا مَا كَانُوا يَنْكِحُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَمَا خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي الْيَتَامَى فَخَافُوا أَلَّا تَعْدِلُوا فِي النِّسَاءِ إِذَا جَمَعْتُمُوهُنَّ عِنْدَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْهُ قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمُ الزِّنَا فَانْكِحُوهُنَّ، يَقُولُ: كَمَا خِفْتُمْ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى أَلَّا تُقْسِطُوا فِيهَا فَكَذَلِكَ فَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا لَمْ تَنْكِحُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن أَبِي مَالِكٍ: مَا طابَ لَكُمْ قَالَ: مَا أُحِلَّ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: اخْتَرْ مِنْهُنَّ» وَفِي لَفْظٍ: «أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ هَؤُلَاءِ- المذكورين- من طرق عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ، وَغُنْدَرٍ، وَزَيْدِ بْنِ زُرَيْعٍ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيِّ، وَالْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَهُ. وَقَدْ عَلَّلَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ، فَحَكَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ شُعَيْبٍ وَغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ: حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوِيدٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ، فَذَكَرَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ طَلَّقَ نِسَاءَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَأَرْجُمَنَّ قَبْرَكَ كَمَا رُجِمَ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ. وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا، وَهَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: وَهُوَ أَصَحُّ. وَرَوَاهُ عُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: بَلَغَنَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُوِيدٍ قَالَ أَبُو حاتم: وهذا وهم، إنما هو الزهري عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُوِيدٍ. وَقَدْ سَامَهُ أَحْمَدُ بِرِجَالِ الصَّحِيحِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي حَدِيثِهِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ غَيْلَانَ، فَذَكَرَهُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ مَعْمَرٍ والزهري، فأخرجه

الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ وَسَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ غَيْلَانَ، فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِمَا عَنْ عُمَيْرٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي ثَمَانُ نِسْوَةٍ، فَذَكَرْتُ للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ إِسْنَادَهُ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي مسنده عن نوفل بن معاوية الديلمي قَالَ: أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي خَمْسُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقِ الْأُخْرَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: «أَسْلَمْتُ وَكَانَ تَحْتِي ثَمَانُ نسوة، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَخَلِّ سَائِرَهُنَّ، فَفَعَلْتُ» وَهَذِهِ شَوَاهِدُ لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ الْحَكَمِ قَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَجْمَعُ مِنَ النِّسَاءِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ يَقُولُ: إِنْ خِفْتَ أَلَّا تَعْدِلَ فِي أَرْبَعٍ فَثَلَاثٌ، وَإِلَّا فَثِنْتَيْنِ، وَإِلَّا فَوَاحِدَةٌ، فَإِنْ خِفْتَ أَلَّا تَعْدِلَ فِي وَاحِدَةٍ فَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا قَالَ: فِي الْمُجَامَعَةِ وَالْحُبِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قَالَ: السَّرَارِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا قَالَ: أَلَّا تَجُورُوا. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ أَبِي: هَذَا حَدِيثٌ خَطَأٌ، وَالصَّحِيحُ عَنْ عَائِشَةَ مَوْقُوفٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَعُولُوا قَالَ: أَلَّا تَمِيلُوا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَلَّا تَمِيلُوا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ أَبِي طَالِبٍ: بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شَعِيرَةً ... وَوَازِنِ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ «1» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ: قَالَ: أَلَّا تَمِيلُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي رَزِينٍ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَالضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي الْآيَةِ، قَالَ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: قَالَ: أَلَّا تَفْتَقِرُوا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا زَوَّجَ أَيِّمَةً أَخَذَ صَدَاقَهَا دُونَهَا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَنَزَلَتْ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: نِحْلَةً قَالَ: يَعْنِي بِالنِّحْلَةِ: الْمَهْرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَائِشَةَ: نِحْلَةً قَالَتْ: وَاجِبَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً قَالَ: فَرِيضَةً مُسَمَّاةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ قال:

_ (1) . البيت للحطيئة وهو في القرطبي: بِمِيزَانِ صِدْقٍ لَا يَغُلُّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ من نفسه غير عائل

[سورة النساء (4) : الآيات 5 إلى 6]

هِيَ لِلْأَزْوَاجِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ قَالَ: مِنَ الصَّدَاقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً يَقُولُ: إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ضِرَارٍ وَلَا خَدِيعَةٍ فَهُوَ هَنِيءٌ مَرِيءٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: [سورة النساء (4) : الآيات 5 الى 6] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) هَذَا رُجُوعٌ إِلَى بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِدَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا أَنَّ السَّفِيهَ وَغَيْرَ الْبَالِغِ لَا يَجُوزُ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ: مَعْنَى السَّفِيهِ لُغَةً. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمُ الْيَتَامَى، لَا تُؤْتُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُمُ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ، لَا تُعْطُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ فَيُفْسِدُوهَا، وَتَبْقَوْا بِلَا شَيْءٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النِّسَاءُ. قَالَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَصِحُّ، إِنَّمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: سَفَائِهُ أَوْ سَفِيهَاتٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ إِضَافَةِ الْأَمْوَالِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ وَهِيَ لِلسُّفَهَاءِ، فَقِيلَ: أَضَافَهَا إِلَيْهِمْ: لِأَنَّهَا بِأَيْدِيهِمْ وَهُمُ النَّاظِرُونَ فِيهَا، كقوله: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «1» ، وقوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2» أَيْ: لِيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلْيَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَقِيلَ: أَضَافَهَا إِلَيْهِمْ: لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ جُعِلَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْأَصْلِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: أَمْوَالُ الْمُخَاطَبِينَ حَقِيقَةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ. وَالْمُرَادُ: النَّهْيُ عَنْ دَفْعِهَا إِلَى مَنْ لَا يُحْسِنُ تَدْبِيرَهَا، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَمَنْ هُوَ ضَعِيفُ الْإِدْرَاكِ لَا يَهْتَدِي إِلَى وُجُوهِ النَّفْعِ الَّتِي تُصْلِحُ الْمَالَ، وَلَا يَتَجَنَّبُ وُجُوهَ الضَّرَرِ الَّتِي تُهْلِكُهُ وَتَذْهَبُ بِهِ. قَوْلُهُ: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَكُمْ، وَ «قَيِّمًا» : قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبِي عَامِرٍ، وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ: «قياما» ، وقرأ عبد الله ابن عُمَرَ: «قِوَامًا» وَالْقِيَامُ، وَالْقِوَامُ: مَا يُقِيمُكَ، يُقَالُ: فُلَانٌ قِيَامُ أَهْلِهِ، وَقِوَامُ بَيْتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ شَأْنَهُ، أَيْ: يُصْلِحُهُ، وَلَمَّا انْكَسَرَتِ الْقَافُ فِي قِوَامٍ أَبْدَلُوا الْوَاوَ يَاءً. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: قَيِّمًا، وَقِوَامًا: بِمَعْنَى قِيَامًا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: لَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا أُمُورُكُمْ فَتَقُومُونَ بِهَا قِيَامًا، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى: قَائِمَةٌ بِأُمُورِكُمْ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا جَمْعٌ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: قِيَمًا: جَمْعُ قِيمَةٍ، كَدِيمَةٍ وَدِيَمٍ، أَيْ: جَعَلَهَا اللَّهُ قِيمَةً لِلْأَشْيَاءِ. وَخَطَّأَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: هِيَ مَصْدَرٌ، كَقِيَامٍ وَقِوَامٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا صَلَاحٌ لِلْحَالِ وَثَبَاتٌ لَهُ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ: أَمْوَالُهُمْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ

_ (1) . النور: 61. (2) . البقرة: 54.

ظَاهِرُ الْإِضَافَةِ، فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا أَمْوَالُ الْيَتَامَى، فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا من جنس ما تقوم به مَعَايِشُكُمْ، وَيَصْلُحُ بِهِ حَالُكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: «اللَّاتِي جَعَلَ» قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ النِّسَاءُ اللَّوَاتِي، وَالْأَمْوَالُ الَّتِي، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْأَمْوَالِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. قَوْلُهُ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ أَيِ: اجْعَلُوا لَهُمْ فِيهَا رِزْقًا أَوِ افْرِضُوا لَهُمْ، وَهَذَا فِيمَنْ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ مِنَ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ وَنَحْوِهِمْ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَمْوَالَ هِيَ أَمْوَالُ اليتامى، فالمعنى: اتجروا فيها حتى تربحوا وتنفقوا عليهم مِنَ الْأَرْبَاحِ، أَوِ اجْعَلُوا لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ رِزْقًا يُنْفِقُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَكْتَسُونَ بِهِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ عَلَى السُّفَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُحْجَرُ عَلَى مَنْ بَلَغَ عَاقِلًا، وَاسْتُدِلَّ بِهَا أَيْضًا: عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْقَرَابَةِ. وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاطِنِهِ. قَوْلُهُ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قِيلَ: ادْعُوا لَهُمْ: بَارَكَ الله فيكم، وح، وَصَنَعَ لَكُمْ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: عِدُوهُمْ وَعْدًا حَسَنًا، قُولُوا لَهُمْ: إِنْ رَشَدْتُمْ دَفَعْنَا إِلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَيَقُولُ الْأَبُ لِابْنِهِ: مَالِي سَيَصِيرُ إِلَيْكَ، وَأَنْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَاحِبُهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ من الآية من يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْقَوْلِ الْجَمِيلِ، فَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ، أَوْ مَعَ الْأَيْتَامِ الْمَكْفُولِينَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي» . قَوْلُهُ: وَابْتَلُوا الْيَتامى الِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الِاخْتِبَارِ، فَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْوَصِيُّ أَخْلَاقَ يَتِيمِهِ لِيَعْلَمَ بِنَجَابَتِهِ وَحُسْنِ تَصَرُّفِهِ فَيَدْفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ إِذَا بَلَغَ النِّكَاحَ وَآنَسَ مِنْهُ الرُّشْدَ وَقِيلَ: مَعْنَى الِاخْتِبَارِ: أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ وَيَأْمُرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ حَتَّى يَعْلَمَ حَقِيقَةَ حَالِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى الِاخْتِبَارِ: أَنْ يَرُدَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الدَّارِ لِيَعْرِفَ كَيْفَ تَدْبِيرُهُ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً رَدَّ إِلَيْهَا مَا يَرُدُّ إِلَى رَبَّةِ الْبَيْتِ مِنْ تَدْبِيرِ بَيْتِهَا. وَالْمُرَادُ بِبُلُوغِ النِّكَاحِ: بُلُوغُ الْحُلُمِ، لِقَوْلِهِ تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ «1» وَمِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ: الْإِنْبَاتُ، وَبُلُوغُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا: لَا يَحْكُمُ لِمَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ بِالْبُلُوغِ إِلَّا بَعْدَ مُضِيِّ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ تَعُمُّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَتَخْتَصُّ الْأُنْثَى: بِالْحَبَلِ وَالْحَيْضِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ أَيْ: أَبْصَرْتُمْ وَرَأَيْتُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً «2» . قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ اذْهَبْ فَاسْتَأْنِسْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، مَعْنَاهُ: تَبَصَّرْ وَقِيلَ: هُوَ هُنَا بِمَعْنَى: وَجَدَ وَعَلِمَ، أَيْ: فَإِنْ وَجَدْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: «رُشْدًا» بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالسُّلَمِيُّ، وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ: بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ، قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ وَقِيلَ: هُوَ بِالضَّمِّ مَصْدَرُ رَشِدَ، وَبِالْفَتْحِ مَصْدَرُ رَشَدَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى الرُّشْدِ هَاهُنَا، فَقِيلَ: الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَقِيلَ: فِي الْعَقْلِ خَاصَّةً. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ لَا يُدْفَعُ إِلَى الْيَتِيمِ مَالُهُ إِذَا لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ وَإِنْ كَانَ شَيْخًا. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَإِنْ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرُّشْدَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَعَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْشُدْ بَعْدَ بُلُوغِ الْحُلُمِ لَا يَزُولُ عَنْهُ الْحَجْرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُحْجَرُ عَلَى الْحَرِّ الْبَالِغِ وَإِنْ كَانَ أَفْسَقَ النَّاسِ وَأَشَدَّهُمْ تَبْذِيرًا، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَزُفَرُ، وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ: أنه لَا تُدْفَعُ إِلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِ غاية، هي: بلوغ

_ (1) . النور: 59. (2) . القصص: 29.

النِّكَاحِ، مُقَيَّدَةٌ هَذِهِ الْغَايَةُ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَا تُدْفَعُ إِلَى الْيَتَامَى أَمْوَالُهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَإِنْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالرُّشْدِ، وَلَا بَعْدَ الْبُلُوغِ إِلَّا بَعْدَ إِينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالرُّشْدِ: نَوْعُهُ، وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِحُسْنِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ، وَعَدَمِ التَّبْذِيرِ بِهَا، وَوَضْعِهَا فِي مَوَاضِعِهَا. قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا الْإِسْرَافُ فِي اللُّغَةِ: الْإِفْرَاطُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: السَّرَفُ والتبذير، والبدار: المبادرة وأَنْ يَكْبَرُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِقَوْلِهِ: بِداراً أَيْ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى أَكْلَ إِسْرَافٍ وَأَكْلَ مُبَادَرَةٍ لِكِبَرِهِمْ، أَوْ: لَا تَأْكُلُوا لِأَجْلِ السَّرَفِ، وَلِأَجْلِ الْمُبَادَرَةِ، أَوْ: لَا تَأْكُلُوهَا مُسْرِفِينَ وَمُبَادِرِينَ لِكِبَرِهِمْ، وَتَقُولُوا: نُنْفِقُ أَمْوَالَ الْيَتَامَى فِيمَا نَشْتَهِي قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا فَيَنْتَزِعُوهَا مِنْ أَيْدِينَا. قَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَحِلُّ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَأَمَرَ الْغَنِيَّ بِالِاسْتِعْفَافِ وَتَوْفِيرِ مَالِ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ تَنَاوُلِهِ مِنْهُ، وَسَوَّغَ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْقَرْضُ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَيَقْضِي مَتَى أَيْسَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، والشعبي، ومجاهد، وأبو العالية، والأوزاعي، وقال النَّخَعِيُّ، وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَا قَضَاءَ عَلَى الْفَقِيرِ فِيمَا يَأْكُلُ بِالْمَعْرُوفِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الفقهاء. وَهَذَا بِالنَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ أَلْصَقُ فَإِنَّ إِبَاحَةَ الْأَكْلِ لِلْفَقِيرِ مُشْعِرَةٌ بِجَوَازٍ ذَلِكَ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَرْضٍ. وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ: الْمُتَعَارَفُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا يَتَرَفَّهُ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَيُبَالِغُ فِي التَّنَعُّمِ بِالْمَأْكُولِ، وَالْمَشْرُوبِ، وَالْمَلْبُوسِ، وَلَا يَدَعُ نَفْسَهُ عَنْ سَدِّ الْفَاقَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ. وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَوْلِيَاءِ الْأَيْتَامِ الْقَائِمِينَ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، كَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَوَصِيِّهِمَا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ: الْيَتِيمُ إِنْ كَانَ غَنِيًّا: وُسِّعَ عَلَيْهِ وَعُفَّ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا: كَانَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ لَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ. قَوْلُهُ: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أَيْ: إِذَا حَصَلَ مُقْتَضَى الدَّفْعِ فَدَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ قَبَضُوهَا مِنْكُمْ، لِتَنْدَفِعَ عَنْكُمُ التُّهَمُ، وَتَأْمَنُوا عَاقِبَةَ الدَّعَاوَى الصَّادِرَةِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشْهَادَ الْمَشْرُوعَ: هُوَ مَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهِمُ الْأَوْلِيَاءُ قَبْلَ رُشْدِهِمْ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى رَدِّ مَا اسْتَقْرَضَهُ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ: مَشْرُوعِيَّةُ الْإِشْهَادِ عَلَى مَا دُفِعَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَهُوَ يَعُمُّ الْإِنْفَاقَ قَبْلَ الرُّشْدِ، وَالدَّفْعَ لِلْجَمِيعِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الرُّشْدِ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أَيْ: حَاسِبًا لِأَعْمَالِكُمْ، شَاهِدًا عَلَيْكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَعْمَلُونَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: مُعَامَلَتُكُمْ لِلْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمْ، وَفِيهِ وَعِيدٌ عَظِيمٌ، وَالْبَاءِ: زَائِدَةٌ، أَيْ: كَفَى اللَّهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ يَقُولُ: لَا تَعْمِدْ إِلَى مَالِكَ وَمَا خَوَّلَكَ اللَّهُ وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو بنتك، ثُمَّ تُضْطَرُّ إِلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَكِنْ أَمْسِكْ مَالَكَ، وَأَصْلِحْهُ، وَكُنْ أَنْتَ الَّذِي تُنْفِقُ عَلَيْهِمْ فِي كُسْوَتِهِمْ وَرِزْقِهِمْ وَمَؤُونَتِهِمْ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: قِياماً يَعْنِي: قِوَامَكُمْ مِنْ مَعَايِشِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ فِي الْآيَةِ يَقُولُ: لَا تُسَلِّطِ السَّفِيهَ مِنْ وَلَدِكَ عَلَى مَالِكَ، وَأْمُرْهُ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنْهُ وَيَكْسُوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هُمْ بَنُوكَ وَالنِّسَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنّ

النِّسَاءُ السُّفَهَاءُ إِلَّا الَّتِي أَطَاعَتْ قَيِّمَهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: هُمُ الْخَدَمُ، وَهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: هم النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حَضْرَمِيٍّ: أَنَّ رَجُلًا عَمَدَ فَدَفَعَ مَالَهُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَوَضَعَتْهُ فِي غَيْرِ الْحَقِّ، فَقَالَ اللَّهُ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هم اليتامى والنساء. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: هُوَ مَالُ الْيَتِيمِ يَكُونُ عِنْدَكَ، يَقُولُ: لَا تُؤْتِهِ إِيَّاهُ، وَأَنْفِقْ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ يَقُولُ: أَنْفِقُوا عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قَالَ: أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا فِي الْبَرِّ وَالصِّلَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قَالَ: عِدَةً تَعِدُونَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَابْتَلُوا الْيَتامى يَعْنِي: اخْتَبِرُوا الْيَتَامَى عِنْدَ الْحُلُمِ فَإِنْ آنَسْتُمْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فِي حَالِهِمْ، وَالْإِصْلَاحَ فِي أَمْوَالِهِمْ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً يَعْنِي: تَأْكُلُ مَالَ الْيَتِيمِ بِبَادِرَةٍ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ فَتَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بِقَدْرِ قِيَامِهِ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ قَالَ: بِغِنَاهُ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ: يَأْكُلُ مِنْ مَالِهِ يَقُوتُ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى مَالِ الْيَتِيمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: هُوَ الْقَرْضُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَخَذَ مِنْ فَضْلِ اللَّبَنِ، وَأَخَذَ مِنْ فَضْلِ الْقُوتِ، وَلَا يُجَاوِزُهُ، وَمَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ مِنَ الثِّيَابِ، فَإِنْ أَيْسَرَ قَضَاهُ، وَإِنْ أَعْسَرَ فَهُوَ فِي حِلٍّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ مَنْزِلَةَ وَلِيِّ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ، وَإِنِ احْتَجْتُ أَخَذْتُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ قَضَيْتُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ وَلِيَ يَتِيمٌ فَقَالَ: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلَا مُبَذِّرٍ وَلَا مُتَأَثِّلٍ «1» مَالًا وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّحَّاسُ كِلَاهُمَا فِي النَّاسِخِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ «2» قَالَ: نَسَخَتْهَا: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى الآية.

_ (1) . قال في النهاية [1/ 23] : غير متأثل: غير جامع، يقال: مال مؤثّل، ومجد مؤثل: أي مجموع ذو أصل، وأثلة الشيء: أصله. (2) . النساء: 10.

[سورة النساء (4) : الآيات 7 إلى 10]

[سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 10] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَصَلَهُ بِأَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ، وَكَيْفِيَّةِ قِسْمَتِهَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ. وَأَفْرَدَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ النِّسَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّجَالِ، وَلَمْ يَقُلْ: لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ نُصِيبٌ، لِلْإِيذَانِ بِأَصَالَتِهِنَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَدَفْعِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ، وَفِي ذِكْرِ الْقَرَابَةِ بَيَانٌ لِعِلَّةِ الْمِيرَاثِ، مَعَ التَّعْمِيمِ لِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْقَرَابَةِ مِنْ دُونِ تَخْصِيصٍ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل من قوله: مِمَّا تَرَكَ بإعادة الجار، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: نَصِيباً مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ السَّبَبِ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ شَاءَ الله، وَقَدْ أَجْمَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قَدْرَ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ، ثُمَّ أَنْزَلَ قَوْلَهُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فبين مِيرَاثُ كُلِّ فَرْدٍ. قَوْلُهُ: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى الْمُرَادُ بِالْقَرَابَةِ هُنَا: غَيْرُ الْوَارِثِينَ، وَكَذَا الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ، شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُمْ إِذَا حضروا قسمة التركة كان لهم رِزْقٌ، فَيَرْضَخُ «1» لَهُمُ الْمُتَقَاسِمُونَ شَيْئًا مِنْهَا. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ لِلْقَرَابَةِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ، لَيْسَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمِيرَاثِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، إِلَّا أن يقولوا: إِنَّ أُولِي الْقُرْبَى الْمَذْكُورِينَ هُنَا هُمُ الْوَارِثُونَ كَانَ لِلنَّسْخِ وَجْهٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ هَذَا الرَّضْخَ لِغَيْرِ الْوَارِثِ مِنَ الْقَرَابَةِ وَاجِبٌ بِمِقْدَارِ مَا تَطِيبُ بِهِ أَنْفُسُ الْوَرَثَةِ، وَهُوَ مَعْنَى الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ، فَلَا يُصَارُ إِلَى النَّدْبِ إِلَّا لِقَرِينَةٍ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ رَاجِعٌ إِلَى المال الْمَقْسُومِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْقِسْمَةِ، وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى مَا تُرِكَ. وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ: هُوَ الْقَوْلُ الْجَمِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَنٌّ بِمَا صَارَ إِلَيْهِمْ مِنَ الرَّضْخِ، وَلَا أَذًى. قَوْلُهُ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا هُمُ الْأَوْصِيَاءُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِيهِ وَعْظٌ لَهُمْ بِأَنْ يَفْعَلُوا بِالْيَتَامَى الَّذِينَ فِي حُجُورِهِمْ مَا يُحِبُّونَ أَنْ يُفْعَلَ بِأَوْلَادِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ: جَمِيعُ النَّاسِ أُمِرُوا بِاتِّقَاءِ اللَّهِ فِي الْأَيْتَامِ، وَأَوْلَادِ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي حُجُورِهِمْ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ: مَنْ يَحْضُرُ الْمَيِّتَ عِنْدَ مَوْتِهِ، أُمِرُوا بِتَقْوَى اللَّهِ، وبأن يقولوا للمحتضر قولا سديدا، من إرشاده إِلَى التَّخَلُّصِ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَحُقُوقِ بَنِي آدَمَ، وَإِلَى الْوَصِيَّةِ بِالْقُرَبِ الْمُقَرِّبَةِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِلَى تَرْكِ التَّبْذِيرِ بِمَالِهِ، وَإِحْرَامِ «2» وَرَثَتِهِ، كَمَا يَخْشَوْنَ عَلَى وَرَثَتِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ لَوْ تَرَكُوهُمْ فُقَرَاءَ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: النَّاسُ صِنْفَانِ، يَصْلُحُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُقَالَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ مَا لَا يَصْلُحُ لِلْآخَرِ،

_ (1) . قال في النهاية [1/ 228] : الرّضخ: العطية القليلة. [.....] (2) . قال في اللسان: أحرمه: منعه العطية، وهي لغة ليست بالعالية.

وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَرَكَ وَرَثَتَهُ مُسْتَقِلِّينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَغْنِيَاءَ، حَسُنَ أَنْ يَنْدُبَ إِلَى الْوَصِيَّةِ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنْ يُقَدِّمَ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا تَرَكَ ورثته ضُعَفَاءَ مُفْلِسِينَ، حَسُنَ أَنْ يَنْدُبَ إِلَى التَّرْكِ لَهُمْ وَالِاحْتِيَاطِ، فَإِنَّ أَجْرَهُ فِي قَصْدِ ذَلِكَ كَأَجْرِهِ فِي الْمَسَاكِينِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا التَّفْصِيلُ صَحِيحٌ. قَوْلُهُ: لَوْ تَرَكُوا صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَتَّقُوا لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا وَالْمَعْنَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا خَلْفَهُمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا، وَذَلِكَ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ، خَافُوا عَلَيْهِمُ الضَّيَاعَ بَعْدَهُمْ لِذَهَابِ كَافِلِهِمْ وَكَاسِبِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالْقَوْلِ السَّدِيدِ لِلْمُحْتَضَرِينَ، أَوْ لِأَوْلَادِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى مَا سَبَقَ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى اسْتِئْنَافٌ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ ظُلْمِ الْأَيْتَامِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ. وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ: ظُلْماً عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: أَكْلَ ظُلْمٍ، أَوْ على الحالية، أي: ظالمين لهم. وقوله: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا أَيْ: مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلنَّارِ، تَعْبِيرًا بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: وَسَيَصْلَوْنَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَابْنِ عَامِرٍ: بِضَمِّ الْيَاءِ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، مِنَ التَّصْلِيَةِ، بِكَثْرَةِ الْفِعْلِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ، مِنْ: صَلَى النَّارَ، يَصْلَاهَا، وَالصَّلَى: هُوَ التَّسَخُّنُ بِقُرْبِ النَّارِ أَوْ مُبَاشَرَتِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ عَبَّادٍ: لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ ... هُـ وَإِنِّي لِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِي وَالسَّعِيرُ: الْجَمْرُ الْمُشْتَعِلُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ وَلَا الصِّغَارَ حَتَّى يُدْرِكُوا، فَمَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ، وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَابْنًا صَغِيرًا، فَجَاءَ ابْنَا عَمِّهِ وَهُمَا عُصْبَتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَا مِيرَاثَهُ كُلَّهُ، فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: لَا تُحَرِّكَا مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْئًا، فَإِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ شَيْءٌ احْتَرْتُ فِيهِ، إِنَّ لِلذِّكْرِ وَالْأُنْثَى نَصِيبًا، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ، ثُمَّ نَزَلَ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فَدَعَا بِالْمِيرَاثِ، فَأَعْطَى الْمَرْأَةَ الثُّمُنَ، وَقَسَمَ مَا بَقِيَ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُمِّ كلثوم وابنة أم كحلة، أو أم كجّة، وَثَعْلَبَةَ بْنِ أَوْسٍ، وَسُوَيْدٍ، وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، كان أحدهم زوجا وَالْآخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تُوُفِّيَ زَوْجِي وَتَرَكَنِي وَابْنَتَهُ فَلَمْ نُورَثْ مِنْ مَالِهِ، فَقَالَ عَمُّ وَلَدِهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لا تركب فرسا، ولا تنكي عدوا، ويكسب عليها ولا تكتسب، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ خَطَّابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: قَضَى بِهَا أَبُو مُوسَى. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ مَا طَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ، قَالَا: هِيَ مُحْكَمَةٌ مَا طَابَتْ

بِهِ أَنْفُسُهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَرْضَخُ لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ فِي مَالِهِ تَقْصِيرٌ، اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، فَهُوَ: قَوْلًا مَعْرُوفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا لَمْ تُنْسَخْ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنْ كَانُوا كِبَارًا يُرْضَخُوا، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا اعْتَذَرُوا إِلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا قَالَ: هَذَا فِي الرَّجُلِ يَحْضُرُ الرَّجُلَ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَيَسْمَعُهُ يُوصِي وَصِيَّةً تَضُرُّ بِوَرَثَتِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ الَّذِي يَسْمَعُهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيُوَفِّقَهُ وَيُسَدِّدَهُ لِلصَّوَابِ، وَلِيَنْظُرَ لِوَرَثَتِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُصْنَعَ لِوَرَثَتِهِ إِذَا خَشِيَ عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْمٌ مِنْ قُبُورِهِمْ، تَأَجَّجُ أَفْوَاهُهُمْ نَارًا، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ هُمْ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ قَالَ: «نَظَرْتُ فإذا أنا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشَافِرِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنْ نَارٍ، فَيَقْذِفُ فِي فِي أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ أَسَافِلِهِمْ، وَلَهُمْ جُؤَارٌ وَصُرَاخٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ حِينَ كَانُوا لَا يورثونهم ويأكلون أموالهم.

[سورة النساء (4) : الآيات 11 إلى 14]

[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) وهذا تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ الآية، وقد استدل لذلك عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَعُمْدَةٌ مِنْ عُمَدِ الْأَحْكَامِ، وَأُمٌّ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا يُهِمُّ مِنْ عِلْمِ الْفَرَائِضِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ أَجَلِّ عُلُومِ الصَّحَابَةِ، وَأَكْثَرُ مُنَاظَرَاتِهِمْ فِيهِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ كَمَالِ تَفْسِيرِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ مِنَ الْفَرَائِضِ ذِكْرُ بَعْضِ فَضَائِلِ هَذَا الْعِلْمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَوْلُهُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أَيْ: فِي بَيَانِ مِيرَاثِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ أَمْ لَا، فَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَتَنَاوَلُهُمْ لَفْظُ الْأَوْلَادِ حَقِيقَةً إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَوْلَادُ الصُّلْبِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ بَنِي الْبَنِينَ كَالْبَنِينَ فِي الْمِيرَاثِ مَعَ عَدَمِهِمْ، وَإِنَّمَا هَذَا الْخِلَافُ فِي دَلَالَةِ لَفْظِ الْأَوْلَادِ عَلَى أَوْلَادِهِمْ مَعَ عَدَمِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْأَوْلَادِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا، وَيَخْرُجُ بِالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ الْقَاتِلُ عَمْدًا، وَيَخْرُجُ أَيْضًا بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْخُنْثَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ: أَنَّهُ يُوَرَّثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ، فَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا: فَمِنْ حَيْثُ سَبَقَ، فَإِنْ خَرَجَ الْبَوْلُ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ أَحَدِهِمَا: فَلَهُ نِصْفُ نصيب الذَّكَرِ وَنِصْفُ نَصِيبِ الْأُنْثَى، وَقِيلَ: يُعْطَى أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ، وَهُوَ نَصِيبُ الْأُنْثَى، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ آدَمَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُوَارَثَةِ بِالْحَلِفِ وَالْهِجْرَةِ وَالْمُعَاقَدَةِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ: عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْأَوْلَادِ مَنْ لَهُ فَرْضٌ مُسَمًّى أُعْطِيهِ، وَكَانَ مَا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، لِلْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِلَفْظِ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» إِلَّا إِذَا كَانَ سَاقِطًا مَعَهُمْ، كَالْإِخْوَةِ لِأُمٍّ. وَقَوْلُهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لِبَيَانِ الْوَصِيَّةِ فِي الْأَوْلَادِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ: وَيُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ للذكر منهم حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَالْمُرَادُ: حَالَ اجْتِمَاعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَأَمَّا حَالَ الِانْفِرَادِ: فَلِلذَّكَرِ جَمِيعُ الْمِيرَاثِ، وَلِلْأُنْثَى النِّصْفُ، وَلِلِاثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ أَيْ: فَإِنْ كُنَّ الْأَوْلَادُ، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ، أَوِ الْبَنَاتِ، أَوِ الْمَوْلُودَاتِ نِسَاءً لَيْسَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. أَيْ: زَائِدَاتٍ عَلَى اثْنَتَيْنِ، عَلَى أَنَّ: فَوْقَ، صِفَةٌ لِنِسَاءٍ، أَوْ يَكُونُ خَبَرًا ثَانِيًا لِكَانَ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ، الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ: أَنَّ الثُّلُثَيْنِ فَرِيضَةُ الثَّلَاثِ مِنَ الْبَنَاتِ فَصَاعِدًا، وَلَمْ يُسَمِّ لِلِاثْنَتَيْنِ فَرِيضَةً، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي فَرِيضَتِهِمَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أن لَهُمَا إِذَا انْفَرَدَتَا عَنِ الْبَنِينَ الثُّلُثَيْنِ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَى أَنَّ فَرِيضَتَهُمَا النِّصْفُ، احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأُخْتَيْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي شَأْنِهِمَا فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ فَأَلْحَقُوا الْبِنْتَيْنِ بِالْأُخْتَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِهِمَا الثُّلُثَيْنِ، كَمَا أَلْحَقُوا الْأَخَوَاتِ إِذَا زِدْنَ عَلَى اثْنَتَيْنِ بِالْبَنَاتِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْوَاحِدَةِ مَعَ أَخِيهَا الثُّلُثُ كانا لِلِابْنَتَيْنِ إِذَا انْفَرَدَتَا

الثُّلْثَانِ، هَكَذَا احْتَجَّ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَالْمُبَرِّدُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ غَلَطٌ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْبِنْتَيْنِ إِذَا انْفَرَدَتَا عَنِ الْبَنِينَ، وَأَيْضًا لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ إِذَا تَرَكَ بِنْتَيْنِ وَابْنًا فَلِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا فَرْضُهُمَا، وَيُمْكِنُ تَأْيِيدُ مَا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا فَرَضَ لِلْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ إِذَا انْفَرَدَتِ النِّصْفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ كَانَ فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ إِذَا انْفَرَدَتَا فَوْقَ فَرْضِ الْوَاحِدَةِ، وَأَوْجَبَ الْقِيَاسُ عَلَى الْأُخْتَيْنِ الِاقْتِصَارَ لِلْبِنْتَيْنِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّ: فَوْقَ، زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ كُنَّ نِسَاءً اثْنَتَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ «1» أَيِ: الْأَعْنَاقَ، وَرَدَّ هَذَا النَّحَّاسُ، وَابْنُ عَطِيَّةَ فَقَالَا: هُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الظُّرُوفَ وَجَمِيعَ الْأَسْمَاءِ لَا تَجُوزُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ تُزَادَ لِغَيْرِ مَعْنًى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَوْقَ الْأَعْناقِ هُوَ الْفَصِيحُ، وَلَيْسَتْ فَوْقَ زَائِدَةٌ، بَلْ هِيَ مُحْكَمَةُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ ضَرْبَةَ الْعُنُقِ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ الْعِظَامِ فِي الْمَفْصَلِ دُونَ الدِّمَاغِ، كَمَا قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ: اخْفِضْ عَنِ الدِّمَاغِ، وَارْفَعْ عَنِ الْعَظْمِ، فَهَكَذَا كُنْتُ أَضْرِبُ أَعْنَاقَ الْأَبْطَالِ. انْتَهَى. وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ لَفْظُ فَوْقَ زَائِدًا كَمَا قَالُوا: لَقَالَ: فَلَهُمَا ثُلُثَا مَا تَرَكَ، وَلَمْ يَقُلْ: فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ، وَأَوْضَحُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْجُمْهُورِ: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتِ امرأة سعد بن الربيع رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا، فَلَمْ يدع لهما مالا، ولا تنكحان إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ، فَقَالَ: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ الْآيَةَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ، أَخْرَجُوهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ. قَوْلُهُ: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ قَرَأَ نَافِعٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: «وَاحِدَةٌ» بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّ: كَانَ، تَامَّةٌ بِمَعْنَى: فَإِنْ وُجِدَتْ وَاحِدَةٌ أَوْ حَدَثَتْ وَاحِدَةٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالنَّصْبِ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، أَيْ: وَإِنْ كَانَتِ الْمَتْرُوكَةُ أَوِ الْمَوْلُودَةُ وَاحِدَةً. قَوْلُهُ: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ أَيْ: لِأَبَوَيِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه وفَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِأَبَوَيْهِ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّفْصِيلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَنُعَيْمُ بن ميسرة «السدس» بسكون الدال، وكذلك قرءا: الثُّلْثَ، وَالرُّبْعَ إِلَى الْعُشْرِ: بِالسُّكُونِ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ وَرَبِيعَةَ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالتَّحْرِيكِ ضَمًّا، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ فِي جَمِيعِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْأَبَوَيْنِ: الْأَبُ وَالْأُمُّ، وَالتَّثْنِيَةُ عَلَى لَفْظِ الْأَبِ: لِلتَّغْلِيبِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَدِّ: هَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فَتَسْقُطُ بِهِ الْإِخْوَةُ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةُ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَاحْتَجُّوا بِمِثْلِ قَوْلِهِ تعالى:

_ (1) . الأنفال: 12.

مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ» وقوله: يا بَنِي آدَمَ «2» وقوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «ارْمُوا يَا بَنِي إِسْمَاعِيلَ» . وَذَهَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: إِلَى تَوْرِيثِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ، وَلَا يُنْقِصُ مَعَهُمْ مِنَ الثُّلْثِ، وَلَا يُنْقِصُ مَعَ ذَوِي الْفُرُوضِ مِنَ السُّدُسِ في قول زيد، ومالك، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعي. وقيل: يشرك بين الإخوة والجد إِلَى السُّدُسِ، وَلَا يَنْقُصُهُ مِنَ السُّدْسِ شَيْئًا مَعَ ذَوِي الْفُرُوضِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَطَائِفَةٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يُسْقِطُ بَنِي الْإِخْوَةِ، وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ أَجْرَى بَنِي الْإِخْوَةِ فِي الْقَاسِمَةِ مَجْرَى الْإِخْوَةِ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ: عَلَى أَنَّ الْجَدَّ لَا يَرِثُ مَعَ الْأَبِ شَيْئًا، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ: عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ للميت أم، وأجمعوا: على أنها ساقطة مع وجود الأم، وَأَجْمَعُوا: عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يُسْقِطُ الْجَدَّةَ أُمَّ الْأُمَّ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ وَابْنُهَا حَيٌّ، فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ: أَنَّهَا لَا تَرِثُ وَابْنُهَا حَيٌّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى: أَنَّهَا تَرِثُ مَعَهُ، وَرُوِيَ أَيْضًا: عَنْ عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَجَابِرُ بْنُ زيد، وعبيد الله ابن الْحَسَنِ، وَشَرِيكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَوْلُهُ: إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ الْوَلَدُ: يَقَعُ عَلَى الذكر والأنثى، لكنه إذا كان الموجود من الذَّكَرَ مِنَ الْأَوْلَادِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْأُنْثَى مِنْهُمْ: فَلَيْسَ لِلْجَدِّ إِلَّا السُّدُسُ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْجُودُ أُنْثَى: كَانَ لِلْجَدِّ السُّدُسُ بِالْفَرْضِ، وَهُوَ عُصْبَةٌ فِيمَا عَدَا السُّدُسَ، وَأَوْلَادُ ابْنِ الْمَيِّتِ كَأَوْلَادِ الْمَيِّتِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ أَيْ: وَلَا وَلَدُ ابْنٍ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِجْمَاعِ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ مُنْفَرِدِينَ عَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الْأُمَّ لَا تَأْخُذُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ غَيْرُ الْأَبَوَيْنِ، أَمَّا لَوْ كَانَ مَعَهُمَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ: فَلَيْسَ لِلْأُمِّ إلّا ثلث الباقي بعد الموجودين مِنَ الزَّوْجَيْنِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ الْأَصْلِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَفْضِيلَ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ منها عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا عَنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ إِطْلَاقُ الْإِخْوَةِ يَدُلُّ: عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا. وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ: على أن الاثنين من الإخوة يقومان مَقَامَ الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا فِي حَجْبِ الْأُمِّ إِلَى السُّدُسِ، إِلَّا مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ جَعَلَ الِاثْنَيْنِ كَالْوَاحِدِ فِي عَدَمِ الْحَجْبِ. وَأَجْمَعُوا أَيْضًا: عَلَى أَنَّ الْأُخْتَيْنِ فَصَاعِدًا كَالْأَخَوَيْنِ فِي حَجْبِ الْأُمِّ. قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ: «يُوصَى» بِفَتْحِ الصَّادِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِكَسْرِهَا، وَاخْتَارَ الْكَسْرَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُ الْمَيِّتِ قَبْلَ هَذَا. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: يُوصِينَ وتُوصُونَ. وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ تَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ مَعَ كَوْنِهِ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَقِيلَ: الْمَقْصُودُ تَقْدِيمُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْمِيرَاثِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى التَّرْتِيبِ بَيْنَهُمَا- وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ أَقَلَّ لُزُومًا مِنَ الدَّيْنِ قُدِّمَتِ اهْتِمَامًا بِهَا وَقِيلَ: قُدِّمَتْ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا، فَصَارَتْ كَالْأَمْرِ اللَّازِمِ لِكُلِّ مَيِّتٍ وَقِيلَ: قُدِّمَتْ لِكَوْنِهَا حَظَّ الْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ، وَأُخِّرَ الدَّيْنُ لِكَوْنِهِ حَظَّ غَرِيمٍ يَطْلُبُهُ بِقُوَّةٍ وَسُلْطَانٍ وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ نَاشِئَةً من جهة الميت

_ (1) . الحج: 78. (2) . الأعراف: 26 و 27 و 31 و 35.

قُدِّمَتْ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ مُؤَدًّى ذُكِرَ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ وَقِيلَ: قُدِّمَتْ لِكَوْنِهَا تُشْبِهُ الْمِيرَاثَ فِي كَوْنِهَا مَأْخُوذَةً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، فَرُبَّمَا يَشُقُّ عَلَى الْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّ نُفُوسَهُمْ مُطْمَئِنَّةٌ بِأَدَائِهِ، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَوْلُهُ: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قِيلَ: خَبَرُ قَوْلِهِ: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ مُقَدَّرٌ، أَيْ: هُمُ الْمَقْسُومُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخَبَرَ قَوْلُهُ: لَا تَدْرُونَ وَمَا بعده، أَقْرَبُ خَبَرٌ قَوْلُهُ: أَيُّهُمْ ونَفْعاً تَمْيِيزٌ، أَيْ: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ قَرِيبٌ لَكُمْ نَفْعُهُ فِي الدُّعَاءِ لَكُمْ، وَالصَّدَقَةِ عَنْكُمْ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: قَدْ يَكُونُ الِابْنُ أَفْضَلَ فَيُشَفَّعُ فِي أَبِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الِابْنَ إِذَا كَانَ أَرْفَعَ دَرَجَةً مِنْ أَبِيهِ فِي الْآخِرَةِ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ أَبَاهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَبُ أَرْفَعَ دَرَجَةً مِنَ ابْنِهِ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَرْفَعَ ابْنَهُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ النَّفْعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَنْ أَنْفَعُ لَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ، أَمَنْ أَوْصَى مِنْهُمْ، فَعَرَّضَكُمْ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ بِإِمْضَاءِ وَصِيَّتِهِ، فَهُوَ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا، أَوْ مَنْ تَرَكَ الْوَصِيَّةَ وَوَفَّرَ عَلَيْكُمْ عَرَضَ الدُّنْيَا؟ وَقَوَّى هَذَا صَاحِبُ الْكَشَّافِ، قَالَ: لِأَنَّ الْجُمْلَةَ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَمِنْ حَقِّ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يُؤَكِّدَ مَا اعْتُرِضَ بَيْنَهُ، وَيُنَاسِبَهُ قَوْلُهُ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ، إِذْ مَعْنَى: يُوصِيكُمُ يَفْرِضُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ مكي وغيره: هي حال مؤكدة، والعالم يُوصِيكُمْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بِقِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ حَكِيماً حَكَمَ بِقِسْمَتِهَا وَبَيَّنَهَا لِأَهْلِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلِيماً بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ خَلْقِهَا حَكِيماً فِيمَا يُقَدِّرُهُ وَيُمْضِيهِ مِنْهَا. قَوْلُهُ: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ الْخِطَابُ هُنَا لِلرِّجَالِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَلَدِ: وَلَدُ الصُّلْبِ، أَوْ وَلَدُ الْوَلَدِ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْإِجْمَاعِ. فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَنَّ لِلزَّوْجِ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ النِّصْفَ، وَمَعَ وُجُودِهِ وَإِنْ سَفَلَ الرُّبُعَ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ إِلَخِ، الْكَلَامُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ هَذَا النَّصِيبُ مَعَ الْوَلَدِ، وَالنَّصِيبُ مَعَ عَدَمِهِ تَنْفَرِدُ بِهِ الْوَاحِدَةُ مِنَ الزَّوْجَاتِ، وَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً الْمُرَادُ بِالرَّجُلِ: الْمَيِّتُ ويُورَثُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، مِنْ وَرِثَ لَا من لا من أورث، وهو خبر كان وكَلالَةً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُورَثُ أَيْ: يُورَثُ حَالَ كَوْنِهِ ذَا كَلَالَةٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ كَلَالَةٌ وَيُورَثُ صِفَةٌ لِرَجُلٍ أَيْ: إِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ ذَا كَلَالَةٍ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، وَقُرِئَ: يُورَثُ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا، فَيَكُونُ كَلَالَةٌ: مَفْعُولًا، أَوْ: حَالًا وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يُورَثُ وَأُرِيدَ حَالَ كَوْنِهِ ذَا كَلَالَةٍ، أَوْ يَكُونُ مَفْعُولًا لَهُ: أَيْ لِأَجْلِ الْكَلَالَةِ. وَالْكَلَالَةُ: مَصْدَرٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ، أَيْ: أَحَاطَ بِهِ، وَبِهِ سُمِّي الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ. وَهُوَ الْمَيِّتُ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدٌ. هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبِهِ قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ الْعَيْنِ، وأبي منصور اللغوي، وابن عرفة والقتبي، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَبِهِ يَقُولُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ،

وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَجُمْهُورِ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ، بَلْ جَمِيعِهِمْ. وقد حكى الإجماع غير واحد، وورد في حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ. انْتَهَى. وَرَوَى أَبُو حَاتِمٍ، وَالْأَثْرَمُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْكَلَالَةُ: كُلُّ مَنْ لَمْ يَرِثْهُ أَبٌ أَوِ ابْنٌ أَوْ أَخٌ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ كَلَالَةٌ. قَالَ أَبُو عمرو بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذِكْرُ أَبِي عُبَيْدَةَ الْأَخَ هُنَا مَعَ الْأَبِ وَالِابْنِ فِي شَرْطِ الْكَلَالَةِ غَلَطٌ، لَا وَجْهَ لَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي شَرْطِ الْكَلَالَةِ غَيْرُهُ، وَمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: مِنْ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ خَاصَّةً فَقَدْ رَجَعَا عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَلَالَةُ: الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا سَمَّوُا الْقَرَابَةَ: كَلَالَةً، لِأَنَّهُمْ أَطَافُوا بِالْمَيِّتِ مِنْ جَوَانِبِهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ وَلَا هُوَ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ الِابْنِ وَالْأَبِ فَإِنَّهُمَا طَرَفَانِ لَهُ، فَإِذَا ذَهَبَا تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَالَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْكَلَالِ، وَهُوَ الْإِعْيَاءُ، فَكَأَنَّهُ يَصِيرُ الْمِيرَاثُ إِلَى الْوَارِثِ عَنْ بُعْدٍ وَإِعْيَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: إِنَّ الْكَلَالَةَ بَنُو الْعَمِّ الْأَبَاعِدُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ قَرَأَ يُوَرِّثُ كَلَالَةً بِكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً، وَهُوَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ، أَوْ مُخَفَّفَةً، وَهُوَ الْحَسَنُ وَأَيُّوبُ، وجعل الْكَلَالَةَ: الْقَرَابَةَ، وَمَنْ قَرَأَ: يُورَثُ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَالَةُ الْمَيِّتَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْقَرَابَةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا كَانَ سِوَى الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ مِنَ الْوَرَثَةِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: الصَّوَابُ: أَنَّ الْكَلَالَةَ: هُمُ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْمَيِّتَ مِنْ عَدَا وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، لِصِحَّةِ خَبَرِ جَابِرٍ: «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ، أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا» . انْتَهَى. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: الْكَلَالَةُ: الْمَالُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ لَا وَجْهَ لَهُ. وقال صاحب الكشاف: إن الكلالة تطلق عَلَى ثَلَاثَةٍ: عَلَى مَنْ لَمْ يُخْلِفْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا، وَعَلَى مَنْ لَيْسَ بِوَلَدٍ وَلَا وَالِدٍ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ، وَعَلَى الْقَرَابَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ: انْتَهَى. قَوْلُهُ: أَوِ امْرَأَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى رَجُلٌ، مُقَيَّدٌ بِمَا قُيِّدَ بِهِ، أَيْ: أَوِ امْرَأَةٌ تُورَثُ كَلَالَةً. قَوْلُهُ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ قَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: مِنْ أُمٍّ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَنْ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ: أَنَّ الْإِخْوَةَ هَاهُنَا هُمُ الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ لِلْأَبِ لَيْسَ مِيرَاثُهُمْ هَكَذَا، فَدَلَّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ هُمُ الْإِخْوَةُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا جَرَتْ بِذَلِكَ عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرُوا اسْمَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ فِي الحكم فإنه قَدْ يَذْكُرُونَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَيْهِمَا مُفْرَدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ «1» وَقَوْلُهُ: يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ «2» . وَقَدْ يَذْكُرُونَهُ مُثَنًّى، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا كَلَامًا أَطْوَلَ مِنَ الْمَذْكُورِ هُنَا. قَوْلُهُ: فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: «مِنْ ذلِكَ» إِلَى قَوْلِهِ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ أَيْ: أَكْثَرَ مِنَ الْأَخِ الْمُنْفَرِدِ أَوِ الْأُخْتِ الْمُنْفَرِدَةِ بِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ، أَوْ ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِذَلِكَ: عَلَى أَنَّ الذَّكَرَ كَالْأُنْثَى مِنَ الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ، لِأَنَّ اللَّهَ شَرَّكَ بَيْنَهُمْ فِي الثُّلُثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فَضْلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ: عَلَى أَنَّ الإخوة لأمّ إذا استكملت بهم

_ (1) . البقرة: 45. (2) . التوبة: 34.

الْمَسْأَلَةُ كَانُوا أَقْدَمَ مِنَ الْإِخْوَةِ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ، وَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْحِمَارِيَّةِ، وَهِيَ: إِذَا تَرَكَتِ الْمَيِّتَةُ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ وَإِخْوَةً لِأَبَوَيْنِ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثَ وَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ لِأَبَوَيْنِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ الَّذِي يَرِثُ عِنْدَهُ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ وَهُوَ كَوْنُ الْمَيِّتِ كَلَالَةً، وَيُؤَيِّدُ هَذَا حَدِيثُ «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ قَرَّرْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا «الْمَبَاحِثَ الدُّرِّيَّةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحِمَارِيَّةِ» . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مَعْرُوفٌ. قوله: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ الْكَلَامُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ: غَيْرَ مُضَارٍّ أَيْ: يُوصِي حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُضَارٍّ لِوَرَثَتِهِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الضِّرَارِ، كَأَنْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ، أَوْ يُوصِيَ بِوَصِيَّةٍ لَا مَقْصِدَ لَهُ فِيهَا إِلَّا الْإِضْرَارَ بِالْوَرَثَةِ. أَوْ يُوصِيَ لِوَارِثٍ مُطْلَقًا، أَوْ لِغَيْرِهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثلث ولم تجزه الورثة، وهذا القيد، أي قَوْلَهُ: غَيْرَ مُضَارٍّ رَاجِعٌ إِلَى الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَهُوَ قَيْدٌ لَهُمَا، فَمَا صَدَرَ مِنَ الإقرارات بالديون عنه أو الوصايا المنهي عنها، أَوِ الَّتِي لَا مَقْصِدَ لِصَاحِبِهَا إِلَّا الْمَضَارَّةَ لِوَرَثَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ لَا يَنْفُذُ مِنْهُ شَيْءٌ، لَا الثُّلُثُ وَلَا دُونَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ: عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لَا تَجُوزُ. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَيْدُ، أَعْنِي: عَدَمَ الضِّرَارِ، هُوَ قَيْدٌ لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَصِيَّةِ وَالدِّينِ. قَالَ أَبُو السُّعُودِ فِي تَفْسِيرِهِ: وَتَخْصِيصُ الْقَيْدِ بِهَذَا الْمَقَامِ: لِمَا أَنَّ الْوَرَثَةَ مَظِنَّةٌ لِتَفْرِيطِ الْمَيِّتِ فِي حَقِّهِمْ. قَوْلُهُ: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: يُوصِيكُمْ بِذَلِكَ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا: مُضَارٍّ. وَالْمَعْنَى: أَنْ يَقَعَ الضَّرَرُ بِهَا أَوْ بِسَبَبِهَا فَأُوقِعَ عَلَيْهَا تَجَوُّزًا، فَتَكُونُ: وَصِيَّةً، عَلَى هَذَا مَفْعُولًا بِهَا، لِأَنَّ الِاسْمَ الْفَاعِلَ قَدِ اعْتَمَدَ عَلَى ذِي الْحَالِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مَنْفِيًّا مَعْنًى، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ: بِالْجَرِّ، عَلَى إِضَافَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ: يَا سَارِقَ اللَّيْلَةَ أَهْلِ الدَّارِ. وَفِي كَوْنِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَصَّى عِبَادَهُ بِهَذِهِ التَّفَاصِيلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَرَائِضِ، وَأَنَّ كُلَّ وَصِيَّةٍ مِنْ عِبَادِهِ تُخَالِفُهَا فَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِوَصِيَّةِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كَالْوَصَايَا الْمُتَضَمِّنَةِ لِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ، أَوِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الضِّرَارِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَسَمَّاهَا حُدُودًا: لِكَوْنِهَا لَا تَجُوزُ مُجَاوَزَتُهَا، وَلَا يَحِلُّ تَعَدِّيهَا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا يُفِيدُهُ عُمُومُ اللَّفْظِ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: نُدْخِلْهُ بِالنُّونِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. قَوْلُهُ: وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ: وَلَهُ بَعْدَ إِدْخَالِهِ النَّارَ عَذَابٌ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرٍ قال: عادني رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي يَا رسول الله! فنزلت [يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ] «1» . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ: سُؤَالُ امْرَأَةِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي

_ (1) . ما بين حاصرتين استدرك من الدر المنثور [2/ 444] .

قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْجَوَارِيَ وَلَا الضُّعَفَاءَ مِنَ الْغِلْمَانِ، لَا يَرِثُ الرَّجُلَ مِنْ وَلَدِهِ إِلَّا مَنْ أَطَاقَ الْقِتَالَ. فَمَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخُو حَسَّانَ الشَّاعِرِ، وَتَرَكَ امْرَأَةً يقال لها: أم كجّة، وَتَرَكَ خَمْسَ جَوَارٍ، فَأَخَذَ الْوَرَثَةُ مَالَهُ، فَشَكَتْ ذلك أمّ كجّة إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ فِي أُمُّ كجّة: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا سَلَكَ بِنَا طَرِيقًا فَاتَّبَعْنَاهُ وَجَدْنَاهُ سَهْلًا، وَأَنَّهُ سُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: إِنَّ الْأَخَوَيْنِ لَا يَرُدَّانِ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ. قَالَ اللَّهُ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ والأخوان ليسا بِلِسَانِ قَوْمِكَ إِخْوَةً، فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ مَا كَانَ قَبَلِي وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ، وَتَوَارَثَ بِهِ النَّاسُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْأَخَوَيْنِ: إِخْوَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أبي حاتم، والحاكم، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ علي قال: إنكم تقرؤون هَذِهِ الْآيَةَ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَأَنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً يَقُولُ: أَطْوَعُكُمْ لِلَّهِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ أَرْفَعُكُمْ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شفع المؤمنين بَعْضَهُمْ فِي بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قَالَ: فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَا وَرَّثَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ مَعَ الْجِدِّ شَيْئًا قَطُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَضَى عُمَرُ أَنَّ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ بَيْنَهُمْ لِلذِّكْرِ مِثْلُ الْأُنْثَى، قَالَ: وَلَا أَرَى عُمَرَ قَضَى بِذَلِكَ حَتَّى عَلِمَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ قَرَأَ: غَيْرَ مُضَارٍّ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَفِي إِسْنَادِهِ عُمَرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَبُو حَفْصٍ الْمِصِّيصِيُّ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ: وَيُعْرَفُ بِمُفْتِي الْمَسَاكِينِ، وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هُوَ شَيْخٌ. قَالَ: وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ هُوَ مَجْهُولٌ لَا أَعْرِفُهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّحِيحُ الْمَوْقُوفُ. انْتَهَى. وَرِجَالُ إِسْنَادِ هَذَا الْمَوْقُوفِ رِجَالُ الصَّحِيحِ، فَإِنَّ النَّسَائِيَّ رَوَاهُ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عنه. وأخرج أحمد، وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ

[سورة النساء (4) : الآيات 15 إلى 18]

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سبعين سَنَةً، فَإِذَا أَوْصَى حَافَ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً، فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: عَذابٌ مُهِينٌ وفي إسناده شهر ابن حَوْشَبٍ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ قَطَعَ مِيرَاثَ وَارِثِهِ قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فذكره نَحْوَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَتَاهُ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ: إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثَيْنِ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ، يَعْنِي: الْوَصِيَّةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الثُّلُثُ كَثِيرٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عُمَرَ الثُّلُثُ فِي الْوَصِيَّةِ فَقَالَ: الثُّلُثُ وَسَطٌ لَا بَخْسَ وَلَا شَطَطَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ، وَلَأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ، وَمَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لَمْ يَتْرُكْ. [فَائِدَةٌ] وَرَدَ فِي التَّرْغِيبِ فِي تَعَلُّمِ الْفَرَائِضِ وَتَعْلِيمِهَا: مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، حَتَّى يَخْتَلِفَ الِاثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ، لَا يَجِدَانِ مَنْ يَقْضِي بِهَا» . وَأَخْرَجَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ، فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَإِنَّهُ يُنْسَى، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتِي» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ آثَارٌ فِي التَّرْغِيبِ فِي الْفَرَائِضِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. [سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 18] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِحْسَانَ إِلَى النِّسَاءِ، وَإِيصَالَ صَدُقَاتِهِنَّ إِلَيْهِنَّ، وَمِيرَاثَهُنَّ مع الرجال،

ذَكَرَ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَأْتِينَ بِهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمْنَ أَنَّهُ يُسَوِّغُ لَهُنَّ تَرْكَ التَّعَفُّفَ وَاللَّاتِي جَمْعُ الَّتِي بِحَسَبِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَفِيهِ لُغَاتٌ: اللَّاتِي بِإِثْبَاتِ التَّاءِ وَالْيَاءِ، وَاللَّاتِ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَإِبْقَاءِ الْكَسْرَةِ لِتَدُلَّ عَلَيْهَا، واللائي بالهمزة والياء، واللاء بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَحَذْفِ الْيَاءِ، وَيُقَالُ فِي جَمْعِ الْجَمْعِ: اللَّوَاتِي، وَاللَّوَائِي، وَاللَّوَاتِ، وَاللَّوَاءِ. وَالْفَاحِشَةُ: الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ، وَهِيَ مَصْدَرٌ، كَالْعَافِيَةِ، وَالْعَاقِبَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (بِالْفَاحِشَةِ) . وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الزِّنَا خَاصَّةً، وَإِتْيَانُهَا: فِعْلُهَا، وَمُبَاشَرَتُهَا. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْ نِسائِكُمْ الْمُسْلِمَاتُ، وَكَذَا مِنْكُمْ الْمُرَادُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. قَوْلُهُ: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا «1» ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْحَبْسَ الْمَذْكُورَ وَكَذَلِكَ الْأَذَى بَاقِيَانِ مَعَ الْجَلْدِ، لِأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا بَلِ الْجَمْعُ مُمْكِنٌ. قَوْلُهُ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا هُوَ مَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» الحديث. قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ اللَّذَانِ: تَثْنِيَةُ الَّذِي، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: اللَّذَيَانِ، كَرَحَيَانِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: حُذِفَتِ الْيَاءُ لِيُفَرَّقَ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الْمُمَكَّنَةِ وَبَيْنَ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: حُذِفَتِ الْيَاءُ تَخْفِيفًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (اللَّذَانِّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى وَهِيَ: (اللَّذَا) بِحَذْفِ النُّونِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِتَخْفِيفِ النُّونِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَعْنَى وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ اللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا، أَيِ: الْفَاحِشَةَ مِنْكُمْ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي الْجَوَابِ: لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَالْمُرَادُ بِاللَّذَانِ هُنَا: الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ تَغْلِيبًا وَقِيلَ: الْآيَةُ الْأُولَى: فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً مُحْصَنَاتٍ وَغَيْرِ مُحْصَنَاتٍ، وَالثَّانِيَةُ، فِي الرِّجَالِ خَاصَّةً، وَجَاءَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لِبَيَانِ صِنْفَيِ الرِّجَالِ، مَنْ أَحْصَنَ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ، فَعُقُوبَةُ النِّسَاءِ الْحَبْسُ، وَعُقُوبَةُ الرِّجَالِ الْأَذَى، وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَّاسُ، وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَاسْتَحْسَنَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا: الْآيَةُ الْأُولَى فِي النِّسَاءِ الْمُحْصَنَاتِ، وَيَدْخُلُ مَعَهُنَّ الرِّجَالُ الْمُحْصِنُونَ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْبِكْرَيْنِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، وَضَعَّفَهُ النَّحَّاسُ، وَقَالَ: تَغْلِيبُ الْمُؤَنَّثِ عَلَى الْمُذَكَّرِ بِعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ تَامٌّ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُقْلِقُ عَنْهُ، وَقِيلَ: كَانَ الْإِمْسَاكُ لِلْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ دُونَ الرَّجُلِ، فَخُصَّتِ الْمَرْأَةُ بِالذَّكَرِ فِي الْإِمْسَاكِ، ثُمَّ جُمِعَا فِي الْإِيذَاءِ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُحْبَسُ وَيُؤْذَيَانِ جَمِيعًا. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْأَذَى، فَقِيلَ: التوبيخ والتعبير وَقِيلَ: السَّبُّ وَالْجَفَاءُ مِنْ دُونِ تَعْيِيرٍ وَقِيلَ: النَّيْلُ بِاللِّسَانِ وَالضَّرْبُ بِالنِّعَالِ، وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْأَذَى مَنْسُوخٌ كَالْحَبْسِ وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَبْسِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ تَابَا أَيْ: مِنَ الْفَاحِشَةِ وَأَصْلَحا الْعَمَلَ فِيمَا بَعْدُ فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أَيِ: اتْرُكُوهُمَا، وَكُفُّوا عَنْهُمَا الْأَذَى، وَهَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْحُدُودِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ. قَوْلُهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ: أَنَّ التَّوْبَةَ لَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ: تَوَّاباً رَحِيماً بَلْ إِنَّمَا تُقْبَلُ مِنَ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، كَمَا بَيَّنَهُ النَّظْمُ الْقُرْآنِيُّ هَاهُنَا، فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ. وَقَوْلُهُ: عَلَى اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تقديم الحال التي

_ (1) . النور: 2.

هِيَ ظَرْفٌ عَلَى عَامِلِهَا الْمَعْنَوِيِّ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاجِبَاتٍ مِنْ جُمْلَتِهَا قَبُولُ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ وَقِيلَ: عَلَى، هُنَا: بِمَعْنَى عِنْدَ وَقِيلَ: بِمَعْنَى مِنْ. وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ: عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ «1» وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ دُونَ ذَنْبٍ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: عَلَى اللَّهِ هُوَ الْخَبَرُ. وَقَوْلُهُ: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا. وَالسُّوءُ هُنَا: الْعَمَلُ السَّيِّئُ. وَقَوْلُهُ: بِجَهالَةٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً أَوْ حَالًا. أَيْ: يَعْمَلُونَهَا مُتَّصِفِينَ بِالْجَهَالَةِ، أَوْ جَاهِلِينَ. وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ بِجَهَالَةٍ عَمْدًا كَانَتْ أَوْ جَهْلًا. وَحُكِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَا الْعَمْدُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أُمُورُ الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ «2» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: بِجَهَالَةِ اخْتِيَارِهِمُ اللَّذَّةَ الْفَانِيَةَ عَلَى اللَّذَّةِ الْبَاقِيَةِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كُنْهَ الْعُقُوبَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ فُورَكَ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَوْلُهُ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ مَعْنَاهُ: قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَهُمُ الْمَوْتُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ وَبِهِ قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَعِكْرِمَةُ، وَغَيْرُهُمْ، وَالْمُرَادُ: قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ لِلْمَلَائِكَةِ وَغَلَبَةِ الْمَرْءِ عَلَى نفسه، و «من» فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَرِيبٍ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: يَتُوبُونَ بعد زَمَانٍ قَرِيبٍ، وَهُوَ مَا عَدَا وَقْتَ حُضُورِ الْمَوْتِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: قَبْلَ الْمَرَضِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، بَلْ بَاطِلٌ لِمَا قَدَّمْنَا، وَلِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: يَتُوبُونَ عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ مِنَ الذَّنْبِ مِنْ غَيْرِ إِصْرَارٍ. قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُوَ وَعْدٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ بَيَانِهِ: أَنَّ التَّوْبَةَ لَهُمْ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ تَصْرِيحٌ بِمَا فُهِمْ مِنْ حَصْرِ التَّوْبَةِ فِيمَا سَبَقَ عَلَى مَنْ عَمِلَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ حَتَّى: حَرْفُ ابْتِدَاءٍ، وَالْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهَا: غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَحُضُورُ الْمَوْتِ: حُضُورُ عَلَامَاتِهِ، وَبُلُوغُ الْمَرِيضِ إِلَى حَالَةِ السِّيَاقِ، وَمَصِيرِهِ مَغْلُوبًا عَلَى نَفْسِهِ، مَشْغُولًا بِخُرُوجِهَا مِنْ بَدَنِهِ، وَهُوَ وَقْتُ الْغَرْغَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَهِيَ بُلُوغُ رُوحِهِ حُلْقُومَهُ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ. وَقَوْلُهُ: قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ أَيْ: وَقْتَ حُضُورِ الْمَوْتِ. قَوْلُهُ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَيْ: لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِأُولَئِكَ وَلَا لِلَّذِينِ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ رَأْسًا «3» ، وَإِنَّمَا ذُكِرُوا مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ، وَأَنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ

_ (1) . النور: 31. (2) . محمد: 36. (3) . أي: أصلا، أو: أساسا.

قَالَ كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا فَجَرَتْ حُبِسَتْ فِي الْبُيُوتِ، فَإِنْ مَاتَتْ مَاتَتْ، وَإِنْ عَاشَتْ عَاشَتْ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ النُّورِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا «1» فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. فَمَنْ عَمِلَ شَيْئًا جُلِدَ وَأُرْسِلَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: سَبِيلًا ثُمَّ جَمَعَهُمَا جَمِيعًا، فقال: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْجَلْدِ، وَقَدْ قَالَ بِالنَّسْخِ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ الْحَسَنِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا زَنَا أُوذِيَ بِالتَّعْيِيرِ وَضُرِبَ بِالنِّعَالِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ «2» فَإِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ رُجِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ قَالَ: الرَّجُلَانِ الْفَاعِلَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يَعْنِي: الْبِكْرَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ. الْآيَةَ. قَالَ: هَذِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي قَوْلِهِ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قَالَ: هَذِهِ لِأَهْلِ النِّفَاقِ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ قَالَ: هَذِهِ لِأَهْلِ الشِّرْكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَرَأَوْا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَصِيَ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ عَمْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانُوا يَقُولُونَ: كُلُّ ذَنْبٍ أَصَابَهُ عَبْدٌ فَهُوَ جَهَالَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الكلبي عن صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ، قَالَ: مَنْ عَمِلَ السُّوءَ فَهُوَ جَاهِلٌ، مِنْ جَهَالَتِهِ عَمَلُ السُّوءِ. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قَالَ: فِي الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْقَرِيبُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ قَبْلَ الْمَوْتِ فَهُوَ قَرِيبٌ، لَهُ التَّوْبَةُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُعَايِنَ مَلَكَ الْمَوْتِ، فَإِذَا تَابَ حِينَ يَنْظُرُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْقَرِيبُ: مَا لَمْ يُغَرْغِرْ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، ذَكَرَهَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَمِنْهَا الْحَدِيثُ الذي قدّمنا ذكره.

_ (1) . النور: 2. (2) . النور: 2.

[سورة النساء (4) : الآيات 19 إلى 22]

[سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 22] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) هَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الزَّوْجَاتِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الظُّلْمِ عَنْهُنَّ، وَالْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ يَتَّضِحُ بِمَعْرِفَةِ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً قَالَ: كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ. وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانَ الرَّجُلُ يَرِثُ امْرَأَةَ ذِي قرابته، فيعضلها حتى تموت، أَوْ تَرُدَّ إِلَيْهِ صَدَاقَهَا. وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ: فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً حَبَسَهَا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا السَّبَبُ بِأَلْفَاظٍ، فمعنى قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً أَيْ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُنَّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، فَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَحَقُّ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَتَحْبِسُونَهُنَّ لِأَنْفُسِكُمْ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ عَنْ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ غَيْرَكُمْ، لِتَأْخُذُوا مِيرَاثَهُنَّ إِذَا مُتْنَ، أَوْ لِيَدْفَعْنَ إِلَيْكُمْ صَدَاقَهُنَّ إِذَا أَذِنْتُمْ لَهُنَّ بِالنِّكَاحِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو مِجْلَزٍ: كَانَ مِنْ عَادَاتِهِمْ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَلَهُ زَوْجَةٌ أَلْقَى ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ ثَوْبَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَيَصِيرُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ نَفْسِهَا وَمِنْ أَوْلِيَائِهَا، فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ إِلَّا الصَّدَاقَ الَّذِي أَصْدَقَهَا الْمَيِّتُ، وَإِنْ شَاءَ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَأَخَذَ صَدَاقَهَا وَلَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا، وَإِنْ شَاءَ عَضَلَهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَا وَرِثَتْ مِنَ الْمَيِّتِ أَوْ تَمُوتَ فَيَرِثَهَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِأَزْوَاجِ النِّسَاءِ إِذَا حَبَسُوهُنَّ مَعَ سُوءِ الْعِشْرَةِ طَمَعًا فِي إِرْثِهِنَّ، أَوْ يَفْتَدِينَ بِبَعْضِ مُهُورِهِنَّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ: وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ إِذَا أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ حَبْسُهَا حَتَّى تَذْهَبَ بِمَالِهَا، إِجْمَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلزَّوْجِ. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا زَنَتِ الْبِكْرُ فَإِنَّهَا تُجْلَدُ مِائَةً، وَتُنْفَى، وَتَرُدُّ إِلَى زَوْجِهَا مَا أَخَذَتْ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: إِذَا زَنَتِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُضَارَّهَا وَيَشُقَّ عَلَيْهَا حَتَّى تَفْتَدِي مِنْهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَخُذُوا مُهُورَهُنَّ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْفَاحِشَةُ: الْبَذَاءَةُ بِاللِّسَانِ، وَسُوءُ الْعِشْرَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ النَّاشِزِ جَمِيعَ مَا تَمْلِكُ. هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَ لِلْأَزْوَاجِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا قَدَّمْنَا فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِمَنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَمْنَعُوهُنَّ مِنَ الزَّوَاجِ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ أَيْ: مَا آتَاهُنَّ مَنْ تَرِثُونَهُ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ جَازَ لَكُمْ حَبْسُهُنَّ عَنِ الْأَزْوَاجِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنَ التَّعَسُّفِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ حَبْسِ مَنْ أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ عَنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ وَتَسْتَعِفَّ مِنَ الزِّنَا، وَكَمَا أَنَّ جَعْلَ قَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ فِيهِ هَذَا التَّعَسُّفُ، كَذَلِكَ جَعْلُ قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ فِيهِ هَذَا التَّعَسُّفُ، كَذَلِكَ جَعْلُ قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ فِيهِ تَعَسُّفٌ ظَاهِرٌ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِسَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، أَيْ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ مُعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا كَمَا كانت تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ مُعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ

أَنْ تَعْضُلُوا أَزْوَاجَكُمْ: أَيْ تَحْبِسُوهُنَّ عِنْدَكُمْ مَعَ عَدَمِ رُغُوبِكُمْ «1» فِيهِنَّ، بَلْ لِقَصْدِ أَنْ تَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مِنَ الْمَهْرِ، يَفْتَدِينَ بِهِ مِنَ الْحَبْسِ وَالْبَقَاءِ تَحْتَكُمْ، وَفِي عُقْدَتِكُمْ مَعَ كَرَاهَتِكُمْ لَهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ جَازَ لَكُمْ مُخَالَعَتُهُنَّ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ. قَوْلُهُ: مُبَيِّنَةٍ قَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُبَيِّنَةٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، مِنْ أَبَانَ الشَّيْءَ فَهُوَ مُبِينٌ. قَوْلُهُ: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ أَوْ لِمَا هُوَ أَعَمُّ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْوَاجِ فِي الْغِنَى، وَالْفَقْرِ، وَالرِّفَاعَةِ، وَالْوَضَاعَةِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ فَاحِشَةٍ وَلَا نُشُوزٍ فَعَسى أن يؤول الْأَمْرُ إِلَى مَا تُحِبُّونَهُ مِنْ ذَهَابِ الْكَرَاهَةِ وَتَبَدُّلِهَا بِالْمَحَبَّةِ، فَيَكُونَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ مِنِ اسْتِدَامَةِ الصُّحْبَةِ وَحُصُولِ الْأَوْلَادِ، فَيَكُونُ الْجَزَاءُ عَلَى هَذَا مَحْذُوفًا مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِعِلَّتِهِ، أَيْ: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَاصْبِرُوا فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً «2» . قَوْلُهُ: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْمَالُ الْكَثِيرُ، فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا. قِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ «3» وَالْأَوْلَى: أَنَّ الْكُلَّ مُحْكَمٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا: غَيْرُ الْمُخْتَلِعَةِ لَا يَحِلُّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا آتَاهَا شَيْئًا. قَوْلُهُ: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّقْرِيعِ. وَالْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى النَّهْيِ. وَقَوْلُهُ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ إِنْكَارٌ بَعْدَ إِنْكَارٍ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي مَنْعَ الْأَخْذِ: وَهِيَ الْإِفْضَاءُ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَهُوَ إِذَا كَانَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، جَامَعَ أَوْ لَمْ يُجَامِعْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِفْضَاءُ: أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: الْإِفْضَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْجِمَاعُ، وَأَصْلُ الْإِفْضَاءِ فِي اللُّغَةِ الْمُخَالَطَةُ، يُقَالُ لِلشَّيْءِ الْمُخْتَلِطِ: فَضَاءٌ، وَيُقَالُ: الْقَوْمُ فَوْضَى وَفَضَاءٌ، أَيْ: مُخْتَلِطُونَ لَا أَمِيرَ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنْ قَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَدْ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «4» وَقِيلَ: هُوَ الْأَوْلَادُ. قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ نَهْيٌ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ نِكَاحِ نِسَاءِ آبَائِهِمْ إِذَا مَاتُوا، وَهُوَ شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهُ مِنَ النِّسَاءِ وَمَنْ لَا يَحْرُمُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَجْهَ النَّهْيِ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا هَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ تَدُلُّ: عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَقْبَحِهَا، وَقَدْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تُسَمِّيهِ نِكَاحَ الْمَقْتِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: سَأَلْتُ ابْنَ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ نِكَاحِ الْمَقْتِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةَ أَبِيهِ إِذَا طَلَّقَهَا، أو مات عنها، ويقال لهذا: الضيزن، وأصل

_ (1) . الأولى أن يقول: عدم رغبتكم فيهن، حيث لم نجد هذا المصدر «رغوب» فيما راجعناه من معاجم اللغة، انظر مصادر فعل «رغب» في لسان العرب وتاج العروس وغيرهما. [.....] (2) . البقرة: 229. (3) . البقرة: 229. (4) . البقرة: 229.

الْمَقْتِ: الْبُغْضُ، مِنْ: مَقَتَهُ، يَمْقُتُهُ، مَقْتًا، فَهُوَ: مَمْقُوتٌ، وَمَقِيتٌ. قَوْلُهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ مَا قَدْ سَلَفَ فَاجْتَنِبُوهُ وَدَعُوهُ وَقِيلَ: إِلَّا: بِمَعْنَى بَعْدَ، أَيْ: بَعْدَ مَا سَلَفَ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا مَا سَلَفَ وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّحْرِيمِ، بِإِخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ التَّعَلُّقِ بِالْمُحَالِ، يَعْنِي: إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَنْكِحُوا مَا قَدْ سَلَفَ فَانْكِحُوا، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ غَيْرُهُ. قَوْلُهُ: وَساءَ سَبِيلًا هِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى بِئْسَ فِي الذَّمِّ وَالْعَمَلِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: سَاءَ سَبِيلًا سَبِيلُ ذَلِكَ النِّكَاحِ وَقِيلَ: إِنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى سَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَفِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مَا قَبْلَهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي أمامة بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ أَرَادَ ابْنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فِي كُبَيْشَةَ بنت معمر بْنِ عَاصِمٍ مِنَ الْأَوْسِ، كَانَتْ عِنْدَ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا، فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: لَا أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي، وَلَا أَنَا تُرِكْتُ فَأُنْكَحُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ قَالَ: نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْأُخْرَى فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلا تَعْضُلُوهُنَّ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ قَالَ: لَا تَضُرَّ بِامْرَأَتِكَ لِتَفْتَدِيَ مِنْكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ يَعْنِي: أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، كَالْعَضْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ الْعَضْلُ فِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ: يَنْكِحُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الشَّرِيفَةَ فَلَعَلَّهَا لَا تُوَافِقُهُ فَيُفَارِقُهَا على أن تَتَزَوَّجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَيَأْتِيَ بِالشُّهُودِ فَيَكْتُبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَيُشْهِدَ، فَإِذَا خَطَبَهَا خَاطِبٌ فَإِنْ أَعْطَتْهُ وَأَرْضَتْهُ أَذِنَ لَهَا وَإِلَّا عَضَلَهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيَانِ السَّبَبِ مَا عَرَفْتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قَالَ: الْبُغْضُ وَالنُّشُوزُ، فَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مِنْهَا الْفِدْيَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْفَاحِشَةُ هُنَا: الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ: خَالِطُوهُنَّ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: صَحَّفَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ وَإِنَّمَا هُوَ خَالِقُوهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ. حَقُّهَا عَلَيْكَ الصُّحْبَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْكُسْوَةُ، وَالرِّزْقُ الْمَعْرُوفُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ يَعْنِي: صُحْبَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً فَيُطَلِّقَهَا، فَتَتَزَوَّجَ مِنْ بَعْدِهِ رَجُلًا، فَيَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهَا وَلَدًا، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِي تَزْوِيجِهَا خَيْرًا كَثِيرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ: أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا، فَتُرْزَقَ وَلَدَهَا، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِي وَلَدِهَا خَيْرًا كَثِيرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي نحوه. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَ مَا قَالَ مُقَاتِلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ

زَوْجٍ الْآيَةَ، قَالَ: إِنْ كَرِهْتَ امْرَأَتَكَ وَأَعْجَبَكَ غَيْرُهَا فَطَلَّقْتَ هَذِهِ وَتَزَوَّجْتَ تِلْكَ فَأَعْطِ هَذِهِ مَهْرَهَا وَإِنْ كَانَ قِنْطَارًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو يَعْلَى. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: أَنَّ عُمَرَ نَهَى النَّاسَ أَنْ يَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صَدَقَاتِهِنَّ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَاعْتَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَقُولُ: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَقَالَ: اللَّهُمَّ غَفْرًا كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ، فَرَكِبَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صَدَقَاتِهِنَّ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ من ماله ما أحبّ. قال أبو يعلى: فَمَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ فَلْيَفْعَلْ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، هَذَا أَحَدُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْإِفْضَاءُ: هُوَ الْجِمَاعُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَكْنِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قَالَ: الْغَلِيظُ: إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ وَقَالَ: وقد كان ذلك يؤخذ عند عَقْدُ النِّكَاحِ: اللَّهَ عَلَيْكَ لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَتُسَرِّحَنَّ بِإِحْسَانٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا نَكَحَ قَالَ: أَنَكَحْتُكِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قَالَ: أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: مَلَكْتُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَلِمَةُ النِّكَاحِ الَّتِي تُسْتَحَلُّ بِهَا فُرُوجُهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا أَرَادَ ابْنُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَقِيتُ خَالِي وَمَعَهُ الرَّايَةُ قُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَآخُذَ مَالَهُ.

[سورة النساء (4) : الآيات 23 إلى 28]

[سورة النساء (4) : الآيات 23 الى 28] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ أَيْ: نِكَاحُهُنَّ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ النِّسَاءِ فَحَرَّمَ سَبْعًا مِنَ النَّسَبِ، وَسِتًّا مِنَ الرَّضَاعِ وَالصِّهْرِ، وَأَلْحَقَتِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، وَوَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. فَالسَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ النَّسَبِ: الْأُمَّهَاتُ، وَالْبَنَاتُ، وَالْأَخَوَاتُ، وَالْعَمَّاتُ، وَالْخَالَاتُ، وَبَنَاتُ الْأَخِ، وَبَنَاتُ الْأُخْتِ. وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالصِّهْرِ وَالرَّضَاعِ: الْأُمَّهَاتُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ، وَالرَّبَائِبُ، وَحَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَهَؤُلَاءِ سِتٌّ، وَالسَّابِعَةُ: مَنْكُوحَاتُ الْآبَاءِ، وَالثَّامِنَةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، فَإِنْ جُمْهُورَ السَّلَفِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْأُمَّ تَحْرُمُ بِالْعَقْدِ عَلَى الِابْنَةِ، وَلَا تَحْرُمُ الِابْنَةُ إِلَّا بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْأُمُّ وَالرَّبِيبَةُ سَوَاءٌ لَا تُحْرُمُ مِنْهُمَا وَاحِدَةٌ إِلَّا بِالدُّخُولِ بِالْأُخْرَى. قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أَيِ: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، وَزَعَمُوا: أَنَّ قَيْدَ الدُّخُولِ رَاجِعٌ إِلَى الْأُمَّهَاتِ وَالرَّبَائِبِ جَمِيعًا، رَوَاهُ خِلَاسٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَرِوَايَةُ خِلَاسٍ عَنْ عَلِيٍّ لَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ، وَلَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ قَيْدَ الدُّخُولِ رَاجِعٌ إِلَى الْأُمَّهَاتِ وَالرَّبَائِبِ: بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْخَبَرَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَامِلِ لَمْ يَكُنْ نَعْتُهُمَا وَاحِدًا، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ مَرَرْتُ بِنِسَائِكَ وَهَوَيْتُ نِسَاءَ زَيْدٍ الظَّرِيفَاتِ، عَلَى أَنْ يكون الظريفات نَعْتًا لِلْجَمِيعِ، فَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ لَا يَجُوزُ أن يكون اللاتي دخلتم بهنّ نعتا لهما جَمِيعًا، لِأَنَّ الْخَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَانِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالصَّحِيحُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ: لِدُخُولِ جَمِيعِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ: مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا نَكَحَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا دَخَلَ بِالِابْنَةِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الْأُمَّ فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَ الِابْنَةَ» قَالَ ابْنُ

كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مُسْتَدِلًّا لِلْجُمْهُورِ: وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ غَيْرَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرًا، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ مَا فِيهِ، فَإِنَّ إِجْمَاعَ الْحُجَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ يُغْنِي عَنِ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى صِحَّتِهِ بِغَيْرِهِ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ مُبْهَمٌ دُونَ تَحْرِيمِ الرَّبَائِبِ عَلَى مَا عَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى. وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ مَدْفُوعَةٌ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَ. وَاعْلَمْ: أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْأُمَّهَاتِ: أُمَّهَاتُهُنَّ، وَجَدَّاتُهُنَّ، وَأُمُّ الْأَبِ، وَجَدَّاتُهُ، وَإِنْ عَلَوْنَ، لِأَنَّ كُلَّهُنَّ أُمَّهَاتٌ لِمَنْ وَلَدَهُ مِنْ وِلْدَتِهِ وَإِنْ سَفَلَ. وَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْبَنَاتِ: بَنَاتُ الْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفَلْنَ، وَالْأَخَوَاتُ تَصْدُقُ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، وَالْعَمَّةُ: اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى شَارَكَتْ أَبَاكَ أَوْ جَدَّكَ فِي أَصْلَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا. وَقَدْ تَكُونُ الْعَمَّةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ وَهِيَ أُخْتُ أَبِ الْأُمِّ. وَالْخَالَةُ: اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى شَارَكَتْ أُمَّكَ فِي أَصْلَيْهَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، وَقَدْ تَكُونُ الْخَالَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ أَبِيكَ، وَبِنْتُ الْأَخِ: اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى لِأَخِيكَ عَلَيْهَا وِلَادَةٌ بِوَاسِطَةٍ وَمُبَاشَرَةٍ وَإِنْ بَعُدَتْ، وَكَذَلِكَ بِنْتُ الْأُخْتِ. قَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ هَذَا مُطْلَقٌ مُقَيَّدٌ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ: مِنْ كَوْنِ الرَّضَاعِ فِي الْحَوْلَيْنِ إِلَّا فِي مِثْلِ قِصَّةِ إِرْضَاعِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ: أَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّضَاعِ بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الرَّضَاعِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَلَكِنَّهُ قَدْ وَرَدَ تَقْيِيدُهُ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، وَالْبَحْثُ عَنْ تَقْرِيرِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِهِ يَطُولُ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي مُصَنَّفَاتِنَا، وَقَرَّرْنَا مَا هُوَ الْحَقُّ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَبَاحِثِ الرَّضَاعِ. قَوْلُهُ: وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ الْأُخْتُ مِنَ الرَّضَاعِ: هِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أُمُّكَ بِلِبَانِ أَبِيكَ سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهَا مَعَكَ أَوْ مَعَ مَنْ قَبْلَكَ أَوْ بَعْدَكَ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأُخْتُ مِنَ الْأُمِّ: هِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أُمُّكَ بِلِبَانِ رَجُلٍ آخَرَ. قَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى اعْتِبَارِ الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ. وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ أَرْبَعٌ: أُمُّ الْمَرْأَةِ، وَابْنَتُهَا، وَزَوْجَةُ الْأَبِ، وَزَوْجَةُ الِابْنِ. قَوْلُهُ: وَرَبائِبُكُمُ الرَّبِيبَةُ: بِنْتُ امْرَأَةِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُرَبِّيهَا فِي حِجْرِهِ، فَهِيَ مَرْبُوبَةٌ، فَعِيلَةٌ: بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّبِيبَةَ تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا إِذَا دَخَلَ بِالْأُمِّ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الرَّبِيبَةُ فِي حِجْرِهِ، وَشَذَّ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، فَقَالُوا: لَا تَحْرُمُ الرَّبِيبَةُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ الْمُتَزَوِّجِ، فَلَوْ كَانَتْ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَفَارَقَ الْأُمَّ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّحَاوِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، لِأَنَّ رَاوِيَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عَلِيٍّ، وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا لَا يُعْرَفُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ: وَهَذَا إِسْنَادٌ قَوِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَالْحُجُورُ: جَمْعُ حجر: والمراد: أَنَّهُنَّ فِي حَضَانَةِ أُمَّهَاتِهِنَّ تَحْتَ حِمَايَةِ أَزْوَاجِهِنَّ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ- وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحُجُورِ: الْبُيُوتُ، أَيْ: فِي بُيُوتِكُمْ، حَكَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَيْ: فِي نِكَاحِ الرَّبَائِبِ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَفْهُومُ مَا قَبْلَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى الدُّخُولِ الْمُوجِبِ لِتَحْرِيمِ الرَّبَائِبِ: فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الدُّخُولُ: الْجِمَاعُ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالزَّيْدِيَّةُ: إِنَّ الزَّوْجَ إِذَا لَمَسَ الْأُمَّ لِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ

جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ: أَنَّ خَلْوَةَ الرَّجُلِ بِامْرَأَتِهِ لَا تُحَرِّمُ ابْنَتَهَا عَلَيْهِ إِذَا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها، أو قبل النَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا لِشَهْوَةٍ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ هُوَ الْوُصُولُ إِلَيْهَا بِالْجِمَاعِ. انْتَهَى. وَهَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا حَلَّ لَهُ نِكَاحُ ابْنَتِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي النَّظَرِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا نَظَرَ إِلَى شَعْرِهَا أَوْ صَدْرِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَحَاسِنِهَا لِلَذَّةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِذَا نَظَرَ إِلَى فَرْجِهَا لِلشَّهْوَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ اللَّمْسِ لِلشَّهْوَةِ، وَكَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّهْوَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا تَحْرُمُ بِالنَّظَرِ حَتَّى يَلْمِسَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْخِلَافِ: هُوَ النَّظَرُ فِي مَعْنَى: الدُّخُولِ، شَرْعًا أَوْ لُغَةً، فَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالْجِمَاعِ فَلَا وَجْهَ لِإِلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ مِنْ لَمْسٍ أَوْ نَظَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَوْسَعَ مِنَ الْجِمَاعِ بِحَيْثُ يَصْدُقُ عَلَى مَا حَصَلَ فِيهِ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ كَانَ مَنَاطُ التَّحْرِيمِ هُوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الرَّبِيبَةُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَلَمْ أَكُنْ لِأَفْعَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةً وَابْنَتَهَا مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ قَالَ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ وَمِلْكُ الْيَمِينِ عِنْدَهُمْ تَبَعٌ لِلنِّكَاحِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَلَا مَنْ تَبِعَهُمُ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الْحَلَائِلُ: جَمْعُ حَلِيلَةٍ وَهِيَ الزَّوْجَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ: لِأَنَّهَا تَحِلُّ مَعَ الزَّوْجِ حَيْثُ حَلَّ، فَهِيَ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ. وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ وَقَوْمٌ: إِلَى أَنَّهَا مِنْ لَفْظَةِ الْحَلَالِ، فَهِيَ حَلِيلَةٌ بِمَعْنَى مُحَلَّلَةٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحُلُّ إِزَارَ صَاحِبِهِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ عَلَى الْأَبْنَاءِ، وَمَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْأَبْنَاءُ عَلَى الْآبَاءِ، سَوَاءً كَانَ مَعَ الْعَقْدِ وَطْءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ وَقَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَقْدِ إِذَا كَانَ فَاسِدًا: هَلْ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ أَمْ لَا؟ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَطِئَ امْرَأَةً بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ وَعَلَى أَجْدَادِهِ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ: عَلَى أَنَّ عَقْدَ الشِّرَاءِ عَلَى الْجَارِيَةِ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ، فَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَلَمَسَ، أَوْ قَبَّلَ، حُرِّمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ، لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَوَجَبَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا لَهُمْ. وَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِهَا بِالنَّظَرِ دُونَ اللَّمْسِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِهِمْ قَالَ: ولا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافُ مَا قُلْنَاهُ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَصْفٌ لِلْأَبْنَاءِ، أَيْ: دُونَ مَنْ تَبَنَّيْتُمْ مِنْ أَوْلَادِ غَيْرِكُمْ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً «1» وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ «2» وَمِنْهُ: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ «3» وَأَمَّا زَوْجَةُ الِابْنِ مِنَ الرَّضَاعِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ، مَعَ أَنَّ الِابْنَ مِنَ الرَّضَاعِ لَيْسَ مِنْ أَوْلَادِ الصُّلْبِ. وَوَجْهُهُ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» وَلَا خِلَافَ أَنَّ أَوْلَادَ

_ (1) . الأحزاب: 37. (2) . الأحزاب: 4. (3) . الأحزاب: 40.

الْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفَلُوا بِمَنْزِلَةِ أَوْلَادِ الصُّلْبِ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ عَلَى آبَائِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وَطْءِ الزِّنَا: هَلْ يَقْتَضِي التحريم أو لَا؟ فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِذَا أَصَابَ رَجُلٌ امْرَأَةً بِزِنًا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ إِذَا زَنَا بِأُمِّهَا أَوْ بِابْنَتِهَا، وَحَسْبُهُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّ مَنْ زَنَى بِهَا وَبِابْنَتِهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الزِّنَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ: كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَبِقَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وَالْمَوْطُوءَةُ بِالزِّنَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا مِنْ نِسَائِهِمْ، وَلَا مِنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَوِ ابْنَتَهَا، فَقَالَ: «لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» . وَاحْتَجَّ الْمُحَرِّمُونَ: بِمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ جُرَيْجٍ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ فَقَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي، فَنَسَبَ الِابْنُ نَفْسَهُ إِلَى أَبِيهِ مِنَ الزِّنَا، وَهَذَا احْتِجَاجٌ سَاقِطٌ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا» وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا مُطْلَقٌ مُقَيَّدٌ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ: عَلَى أَنَّ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ. وَاخْتَلَفُوا فِي اللِّوَاطِ هَلْ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا لَاطَ بِالصَّبِيِّ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: إِذَا تَلَوَّطَ بِابْنِ امْرَأَتِهِ أَوْ أَبِيهَا أَوْ أَخِيهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا لَاطَ بِغُلَامٍ وَوُلِدَ لِلْمَفْجُورِ بِهِ بِنْتٌ لَمْ يَجُزْ لِلْفَاجِرِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا بِنْتُ مَنْ قَدْ دَخَلَ بِهِ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي قَوْلِ هَؤُلَاءِ مِنَ الضَّعْفِ وَالسُّقُوطِ النَّازِلِ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ وَطْءَ الْحَرَامِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بِدَرَجَاتٍ، لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ أُولَئِكَ مِنَ الشُّبَهِ، عَلَى مَا زَعَمَهُ هَؤُلَاءِ مِنِ اقْتِضَاءِ اللِّوَاطِ لِلتَّحْرِيمِ. قَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَيْ: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِالنِّكَاحِ وَالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِالْجَمْعِ فِي النِّكَاحِ، لَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا فِي الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ فَلَا حَقَّ بِالنِّكَاحِ، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَنْعِ جَمْعِهِمَا فِي عَقْدِ نكاح. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ: فَذَهَبَ كَافَّةُ العلماء: إلى أنه لا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ فَقَطْ. وَقَدْ تَوَقَّفَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى أُخْتِ الْجَارِيَةِ الَّتِي تُوطَأُ بِالْمِلْكِ: فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذا وطئ جارية له بملك اليمين لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِلْكُ الْيَمِينِ لَا يَمْنَعُ نِكَاحَ الْأُخْتِ. وَقَدْ ذَهَبَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْوَطْءِ، كَمَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ: وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ عُثْمَانَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتُلِفَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ

إِلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ، وَلَا بِالْعِرَاقِ، وَلَا مَا وَرَاءَهَا مِنَ الْمَشْرِقِ، وَلَا بِالشَّامِ، وَلَا الْمَغْرِبِ، إِلَّا مَنْ شَذَّ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، وَنَفْيِ الْقِيَاسِ. وَقَدْ تُرِكَ مَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ. وَجَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْوَطْءِ، كَمَا لَا يَحِلُّ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، أَنَّ النِّكَاحَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي هَؤُلَاءِ كُلِّهِنَّ سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا وَنَظَرًا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَالرَّبَائِبِ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ، وَهِيَ الْحُجَّةُ الْمَحْجُوجُ بِهَا مَنْ خَالَفَهَا وَشَذَّ عَنْهَا، وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ. انْتَهَى. وَأَقُولُ: هَاهُنَا إِشْكَالٌ، وَهُوَ: أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ النِّكَاحَ يُقَالُ عَلَى الْعَقْدِ فَقَطْ، وَعَلَى الْوَطْءِ فَقَطْ، وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً وَالْآخَرِ مَجَازًا، أَوْ كَوْنِهِمَا حَقِيقَتَيْنِ مَعْرُوفٌ، فَإِنْ حَمْلَنَا هَذَا التَّحْرِيمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إِلَى آخِرِهَا، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَمْلُوكَتَيْنِ فِي الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ، وَمَا وَقَعَ مِنْ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ إلى آخِرِهِ، يَسْتَوِي فِيهِ الْحَرَائِرُ وَالْإِمَاءُ، وَالْعَقْدُ وَالْمِلْكُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ الْخِلَافِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مِثْلُ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ، وَمُجَرَّدُ الْقِيَاسِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ النُّقُوضِ، وَإِنَّ حَمْلَنَا التَّحْرِيمَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْوَطْءِ فَقَطْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ إِلَى آخِرِهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حَمْلُ التَّحْرِيمِ فِي الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَيَحْتَاجُ الْقَائِلُ بِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ إِلَى دَلِيلٍ وَلَا يَنْفَعُهُ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، فَالْحَقُّ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ، فَإِنْ جَاءَ بِهِ خَالِصًا عَنْ شَوْبِ الْكَدَرِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلَّا كَانَ الْأَصْلُ الْحِلُّ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ النِّكَاحِ فِي الْآيَةِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ جَمِيعًا أَعْنِي الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، أَوْ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَعْنَيَيِ الْمُشْتَرَكِ، وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ فِي الْأُصُولِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَطَأُ مَمْلُوكَتَهُ بِالْمِلْكِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَطَأَ أُخْتَهَا بِالْمِلْكِ، فَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْءُ الثَّانِيَةِ حَتَّى يَحْرُمَ فَرْجُ الْأُخْرَى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ، أَوْ بِأَنْ يُزَوِّجَهَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ لِقَتَادَةَ: وَهُوَ أن ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها، ثم يمسك عنهما حَتَّى تَسْتَبْرِئَ الْمُحَرَّمَةُ ثُمَّ يَغْشَى الثَّانِيَةَ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُ وَاحِدَةً منهما، هكذا قال الحكم وَحَمَّادٌ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنِ النَّخَعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ أُخْتَانِ بِمِلْكٍ فَلَهُ أَنْ يَطَأَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ، وَالْكَفُّ عَنِ الْأُخْرَى مَوْكُولٌ إِلَى أَمَانَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ وَطْءَ الْأُخْرَى فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ فَرَجَ الْأُولَى بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ، مِنْ إِخْرَاجٍ عَنِ الْمِلْكِ، أَوْ تَزْوِيجٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ كِتَابَةٍ، أَوْ إِخْدَامٍ طَوِيلٍ، فَإِنْ كَانَ يَطَأُ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ وَثَبَ عَلَى الْأُخْرَى دُونَ أَنْ يُحَرِّمَ الْأُولَى وَقَفَ عَنْهُمَا، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ قُرْبَ إِحْدَاهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ الْأُخْرَى، وَلَمْ يُوكَلْ ذَلِكَ إِلَى أَمَانَتِهِ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ: عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَقَّ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ

عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا لَا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَهَا وَلَا رَابِعَةً حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الَّتِي طَلَّقَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ بن حنبل، وأصحاب الرأي. وقالت طَائِفَةٌ: لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَهَا وَيَنْكِحَ الرَّابِعَةَ لِمَنْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعٌ وَطَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ طَلَاقًا بَائِنًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالْقَاسِمِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا قَوْلَ مَالِكٍ. وَهُوَ أَيْضًا إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَطَاءٍ. قَوْلُهُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وَيَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ جَوَازُ مَا سَلَفَ، وَأَنَّهُ إِذَا جَرَى الْجَمْعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، وَإِذَا جَرَى فِي الْإِسْلَامِ خُيِّرَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَالصَّوَابُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ. قَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ «1» عَطْفٌ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَاتِ. وَأَصْلُ التَّحَصُّنِ: التَّمَنُّعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ أَيْ: لِتَمْنَعَكُمْ، وَمِنْهُ: الْحِصَانُ، بِكَسْرِ الْحَاءِ لِلْفَرَسِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنَ الْهَلَاكِ. وَالْحَصَانُ بِفَتْحِ الْحَاءِ: الْمَرْأَةُ الْعَفِيفَةُ لِمَنْعِهَا نَفْسَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تَزِنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ «2» وَالْمَصْدَرُ: الْحَصَانَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا: ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ. وَقَدْ وَرَدَ الْإِحْصَانُ فِي الْقُرْآنِ لَمَعَانٍ، هَذَا أَحُدُهَا. وَالثَّانِي: يُرَادُ بِهِ الْحُرَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ «3» وَقَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ «4» . وَالثَّالِثُ: يُرَادُ بِهِ الْعَفِيفَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ «5» ، مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ «6» . وَالرَّابِعُ: الْمُسْلِمَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا أُحْصِنَّ «7» . وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَمَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا: الْمَسْبِيَّاتُ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ خَاصَّةً، أَيْ: هُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِالسَّبْيِ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ تِلْكَ حَلَالٌ وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، أَيْ: إِنَّ السِّبَاءَ يَقْطَعُ الْعِصْمَةَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَرَوَيَاهُ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِبْرَائِهَا بِمَاذَا يَكُونُ؟ كَمَا هُوَ مُدَوَّنٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُحْصَنَاتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْعَفَائِفُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَرَوَاهُ عَبِيدَةُ عَنْ عُمَرَ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَهُمْ: كُلُّ النِّسَاءِ حَرَامٌ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، أَيْ: تَمْلِكُونَ عِصْمَتَهُنَّ بالنكاح، وتملكون الرقبة

_ (1) . الأنبياء: 80. (2) . تزن: تتّهم. وغرثى: جائعة. والمراد أنها لا تغتاب غيرها. (3) . النساء: 25. (4) . المائدة: 5. (5) . النساء: 25. (6) . النساء: 24. (7) . النساء: 27.

بِالشِّرَاءِ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَمَا رَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَمْ يَقُلْ فِيهَا شَيْئًا؟ فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَعْلَمُهَا. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ مَنْ يُفَسِّرُ لِي هَذِهِ الْآيَةَ لَضَرَبْتُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ. انْتَهَى. وَمَعْنَى الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاضِحٌ لَا سُتْرَةَ بِهِ، أَيْ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ، أَيِ: الْمُزَوَّجَاتُ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُنَّ مُسْلِمَاتٍ أَوْ كَافِرَاتٍ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْهُنَّ، إِمَّا بِسَبْيٍ: فَإِنَّهَا تَحِلُّ وَلَوْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، أَوْ بِشِرَاءٍ: فَإِنَّهَا تَحِلُّ وَلَوْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً، وَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا بِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِ سَيِّدِهَا الَّذِي زَوَّجَهَا، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد قُرِئَ: «الْمُحْصَنَاتُ» بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا، فَالْفَتْحُ: عَلَى أَنَّ الْأَزْوَاجَ أَحْصَنُوهُنَّ وَالْكَسْرُ: عَلَى أَنَّهُنَّ أَحْصَنَّ فُرُوجَهُنَّ عَنْ غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ، أَوْ أَحْصَنَّ أَزْوَاجَهُنَّ. قَوْلُهُ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: كَتَبَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ كِتَابًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْكُوفِيُّونَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: الْزَمُوا كِتَابَ اللَّهِ، أَوْ عَلَيْكُمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَاعْتَرَضَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: بِأَنَّ الْإِغْرَاءَ لَا يَجُوزُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْمَنْصُوبِ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِعَلَيْكُمُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «1» وَهُوَ بَعِيدٌ، بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحْرِيمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: وَأُحِلَّ، عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَعْلُومِ، عَطْفًا عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ فِي قَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَقِيلَ: عَلَى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْفِعْلَيْنِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ: عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُمْ نِكَاحُ مَا سِوَى الْمَذْكُورَاتِ، وَهَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا. وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَذْكُورَاتِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْآيَةِ هَذِهِ، لِأَنَّهُ حَرَّمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَيَكُونُ مَا فِي مَعْنَاهُ فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِمَنْ يَسْتَطِيعُ نِكَاحَ حُرَّةٍ كَمَا سَيَأْتِي، فَإِنَّهُ يُخَصِّصُ هَذَا الْعُمُومَ. قَوْلُهُ: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْعِلَّةِ أَيْ: حُرِّمَ عَلَيْكُمْ مَا حُرِّمَ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا أُحِلَّ لِأَجْلِ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمُ النِّسَاءَ اللَّاتِي أَحَلَّهُنَّ اللَّهُ لَكُمْ، وَلَا تَبْتَغُوا بِهَا الْحَرَامَ، فَتَذْهَبَ حَالَ كَوْنِكُمْ مُحْصِنِينَ أَيْ: مُتَعَفِّفِينَ عَنِ الزِّنَا غَيْرَ مُسافِحِينَ أَيْ: غَيْرَ زَانِينَ. وَالسِّفَاحُ: الزِّنَا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ: سَفْحِ الْمَاءِ: أَيْ: صَبِّهِ وَسَيَلَانِهِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَطْلُبُوا بِأَمْوَالِهِمُ النِّسَاءَ عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ، لَا عَلَى وَجْهِ السِّفَاحِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ بَدَلٌ مِنْ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَيْ: وَأُحِلَّ لَكُمُ الِابْتِغَاءُ بِأَمْوَالِكُمْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَأَرَادَ سُبْحَانَهُ بِالْأَمْوَالِ الْمَذْكُورَةِ: مَا يَدْفَعُونَهُ فِي مُهُورِ الْحَرَائِرِ وَأَثْمَانِ الْإِمَاءِ. قَوْلُهُ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ «مَا» مَوْصُولَةٌ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ لِتَضَمُّنِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَيْهِ.

_ (1) . النساء: 3. [.....]

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: فَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: الْمَعْنَى: فَمَا انْتَفَعْتُمْ وَتَلَذَّذْتُمْ بِالْجِمَاعِ مِنَ النِّسَاءِ بِالنِّكَاحِ الشَّرْعِيِّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أَيْ: مُهُورَهُنَّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ الَّذِي كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، كَمَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قال: نهى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَاللَّهُ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا» . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَهَذَا هُوَ النَّاسِخُ. وَقَالَ سعيد بن جبير: نسخها آيَاتُ الْمِيرَاثِ، إِذِ الْمُتْعَةُ لَا مِيرَاثَ فِيهَا. وَقَالَتْ عَائِشَةُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: تَحْرِيمُهَا وَنَسْخُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ- إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ «1» وَلَيْسَتِ الْمَنْكُوحَةُ بِالْمُتْعَةِ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَلَا مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الزَّوْجَةِ أَنْ تَرِثَ وَتُورَثَ، وَلَيْسَتِ الْمُسْتَمْتَعُ بِهَا كَذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: بِجَوَازِ الْمُتْعَةِ وَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ لَمْ تُنْسَخْ. وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَنْ بَلَغَهُ النَّاسِخُ. وَقَدْ قَالَ بِجَوَازِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الرَّوَافِضِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِأَقْوَالِهِمْ. وَقَدْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِتَكْثِيرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَقْوِيَةِ مَا قَالَهُ الْمُجَوِّزُونَ لَهَا، وَلَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ بَيَانِ بُطْلَانِ كَلَامِهِ. وَقَدْ طَوَّلْنَا الْبَحْثَ وَدَفَعْنَا الشُّبَهَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُجَوِّزُونَ لَهَا فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ: فَرِيضَةً مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَفْرُوضَةً. قَوْلُهُ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أَيْ: مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فِي الْمَهْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَائِغٌ عِنْدَ التَّرَاضِي، هَذَا عِنْدَ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْآيَةَ فِي النِّكَاحِ الشَّرْعِيِّ وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّهَا فِي الْمُتْعَةِ، فَالْمَعْنَى: التراضي في زيادة الْمُتْعَةِ أَوْ نُقْصَانِهَا، أَوْ فِي زِيَادَةِ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهَا إِلَى مُقَابِلِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا أَوْ نُقْصَانِهِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ الطَّوْلُ: الْغِنَى وَالسَّعَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ غِنًى وَسَعَةً فِي مَالِهِ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى نِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَلْيَنْكِحْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، يُقَالُ: طَالَ، يَطُولُ، طَوْلًا: فِي الْإِفْضَالِ وَالْقُدْرَةِ، وَفُلَانٌ ذُو طَوْلٍ: أَيْ: ذُو قُدْرَةٍ فِي مَالِهِ. وَالطُّولُ بِالضَّمِّ: ضِدُّ الْقِصَرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ: إِنَّ الطَّوْلَ: الصَّبْرُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ مَنْ كَانَ يَهْوَى أَمَةً حَتَّى صَارَ لِذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ وَخَافَ أَنْ يَبْغِيَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ سِعَةً فِي الْمَالِ لِنِكَاحِ حُرَّةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ: إِنِ الطَّوْلَ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ، فَمَنْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاحْتَجَّ لَهُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هو المطابق

_ (1) . المعارج: 29.

لِمَعْنَى الْآيَةِ، وَلَا يَخْلُو مَا عَدَاهُ عَنْ تَكَلُّفٍ، فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْحُرَّةِ، لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي نِكَاحِهَا مِنْ مَهْرٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَجَوَّزَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لِتُضَمِّنِ الْمُبْتَدَأَ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْمَمْلُوكَةِ إِلَّا بِشَرْطِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحُرَّةِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: مَا سَيَذْكُرُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آخِرَ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ فَلَا يَحِلُّ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْمَمْلُوكَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْأَمَةُ الْمَمْلُوكَةُ لِلْغَيْرِ، وَأَمَّا أَمَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ فَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يجوز أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَهِيَ تَحْتَ مِلْكِهِ لِتَعَارُضِ الْحُقُوقِ وَاخْتِلَافِهَا. وَالْفَتَيَاتُ: جَمْعُ فَتَاةٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْمَمْلُوكِ: فَتًى، وَلِلْمَمْلُوكَةِ: فَتَاةً. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي» قَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِمَنْ يَنْكِحُ الْأَمَةَ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الشَّرْطَانِ الْمَذْكُورَانِ، أَيْ: كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ، وَأَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، فَلَا تَسْتَنْكِفُوا مِنَ الزَّوَاجِ بِالْإِمَاءِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَرُبَّمَا كَانَ إِيمَانُ بَعْضِ الْإِمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانِ بَعْضِ الْحَرَائِرِ. وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ مُتَّصِلُونَ فِي الْأَنْسَابِ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا بَنُو آدَمَ، أَوْ مُتَّصِلُونَ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا: تَوْطِئَةُ نُفُوسِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَهْجِنُونَ أَوْلَادَ الْإِمَاءِ، وَيَسْتَصْغِرُونَهُمْ، وَيَغُضُّونَ مِنْهُمْ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أي: بإذن المالكين لهنّ، ولأن مَنَافِعَهُنَّ لَهُمْ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بِإِذْنِ مَنْ هِيَ لَهُ. قوله: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: أدّوا مُهُورَهُنَّ بِمَا هُوَ بِالْمَعْرُوفِ فِي الشَّرْعِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَمَةَ أَحَقُّ بِمَهْرِهَا مِنْ سَيِّدِهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْمَهْرَ لِلسَّيِّدِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إِلَيْهِنَّ: لِأَنَّ التَّأْدِيَةَ إِلَيْهِنَّ تَأْدِيَةٌ إِلَى سَيِّدِهِنَّ لِكَوْنِهِنَّ مَالَهُ. قَوْلُهُ: مُحْصَناتٍ أَيْ: عَفَائِفَ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: مُحْصِنَاتٍ بِكَسْرِ الصَّادِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْفَتْحِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. قَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحاتٍ أَيْ: غَيْرَ مُعْلِنَاتٍ بِالزِّنَا. وَالْأَخْدَانُ: الْأَخِلَّاءُ، وَالْخِدْنُ، وَالْخَدِينُ: الْمُخَادِنُ، أَيِ: الْمُصَاحِبُ- وَقِيلَ: ذَاتُ الْخِدْنِ: هِيَ الَّتِي تَزْنِي سِرًّا، فَهُوَ مُقَابِلٌ لِلْمُسَافِحَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُجَاهِرُ بِالزِّنَا، وَقِيلَ: الْمُسَافِحَةُ: الْمَبْذُولَةُ، وَذَاتُ الْخِدْنِ: الَّتِي تَزْنِي بِوَاحِدٍ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعِيبُ الْإِعْلَانَ بِالزِّنَا، وَلَا تَعِيبُ اتِّخَاذَ الْأَخْدَانِ، ثُمَّ رَفَعَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ «1» قَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ قَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِضَمِّهَا، وَالْمُرَادُ بِالْإِحْصَانِ هُنَا: الْإِسْلَامُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابن عمرو، وَأَنَسٍ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالسُّدِّيِّ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَبِهِ قال الجمهور. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَطَاوُسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ: إِنَّهُ التزويج. وروي عن

_ (1) . الأنعام: 151.

الشَّافِعِيِّ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: لَا حَدَّ عَلَى الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: لَا حَدَّ عَلَى الْأَمَةِ الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّجْ. وَقَالَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ: إِحْصَانُهَا: إِسْلَامُهَا وَعَفَافُهَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ، فَمَنْ قَرَأَ: أُحْصِنَّ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، فَمَعْنَاهُ: التَّزْوِيجُ. وَمَنْ قَرَأَ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، فَمَعْنَاهُ: الْإِسْلَامُ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْإِحْصَانَ المذكور في الآية هو التزوج، وَلَكِنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَى الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ إِذَا زَنَتْ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالسُّنَّةِ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ظَاهِرُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْأَمَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً إِلَّا بَعْدَ التَّزْوِيجِ، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِجَلْدِهَا وَإِنْ لَمْ تُحْصَنْ، وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةَ بَيَانٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَهْرُ الْمُسْلِمِ حِمًى لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاخْتِلَافِ لَوْلَا مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ مِنَ الْجَلْدِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ هُنَا: التَّزْوِيجُ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ فَالسِّيَاقُ كُلُّهُ فِي الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَإِذا أُحْصِنَّ أَيْ: تَزَوَّجْنَ، كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، قَالَ: وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِشْكَالٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَمَةَ إِذَا زَنَتْ فَعَلَيْهَا خَمْسُونَ جَلْدَةً، سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً، أَوْ كَافِرَةً، مُزَوَّجَةً، أَوْ بِكْرًا، مَعَ أَنَّ مَفْهُومَ الْآيَةِ يَقْتَضِي: أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ مِنَ الْإِمَاءِ. وَقَدِ اختلف أَجْوِبَتُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ وَهُمُ الْجُمْهُورَ: بِتَقْدِيمِ مَنْطُوقِ الْأَحَادِيثِ عَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَمِلَ عَلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ، وَقَالَ: إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا تُضْرَبُ تَأْدِيبًا. قَالَ: وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَاوُسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، فَهَؤُلَاءِ قَدَّمُوا مَفْهُومَ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَأَجَابُوا عَنْ مَثَلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ؟ قَالَ: إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَلْدِ هُنَا: التَّأْدِيبُ، وَهُوَ تَعَسُّفٌ، وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبَ عَلَيْهَا. ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ» . وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ مَنْ أُحْصِنَ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ، فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم زنت فأمرني أن أجلدها» . وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى الْأَمَةِ حَدٌّ حَتَّى تُحْصَنَ بِزَوْجٍ، فَإِذَا أُحْصِنَتْ بِزَوْجٍ فَعَلَيْهَا نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ» فَقَدْ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ: إِنَّ رَفْعَهُ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ وَقْفُهُ. قَوْلُهُ: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ الْفَاحِشَةُ هُنَا: الزِّنَا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ أَيِ: الْحَرَائِرِ الْأَبْكَارِ، لِأَنَّ الثَّيِّبَ عَلَيْهَا الرَّجْمُ، وَهُوَ لَا يَتَبَعَّضُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا: الْمُزَوَّجَاتُ، لِأَنَّ عَلَيْهِنَّ الْجَلْدَ وَالرَّجْمَ، وَالرَّجْمُ لَا يَتَبَعَّضُ، فَصَارَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَيْهِنَّ مِنَ الْجَلْدِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُنَا: الْجَلْدُ، وَإِنَّمَا نَقَصَ حَدُّ الْإِمَاءِ عَنْ حَدِّ الْحَرَائِرِ لِأَنَّهُنَّ أَضْعَفُ وَقِيلَ: لِأَنَّهُنَّ لَا يَصِلْنَ إِلَى مُرَادِهِنَّ كَمَا تَصِلُ الْحَرَائِرُ وَقِيلَ: لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تَجِبُ عَلَى قَدْرِ النِّعْمَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُضاعَفْ لَهَا

الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ «1» ولم يذكر الله سبحانه في هذا الْآيَةِ الْعَبِيدَ، وَهُمْ لَاحِقُونَ بِالْإِمَاءِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وكما يكون على الإماء والعبيد الْحَدِّ فِي الزِّنَا، كَذَلِكَ يَكُونُ عَلَيْهِمْ نِصْفُ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ إِلَى نِكَاحِ الْإِمَاءِ. وَالْعَنَتُ: الْوُقُوعُ فِي الْإِثْمِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: انْكِسَارُ الْعَظْمِ بَعْدَ الْجَبْرِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَشَقَّةٍ وَأَنْ تَصْبِرُوا عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ نِكَاحِهِنَّ، أَيْ: صَبْرُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، لِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ يُفْضِي إِلَى إِرْقَاقِ الْوَلَدِ وَالْغَضِّ مِنَ النَّفْسِ. قَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ اللَّامُ هُنَا هِيَ لَامُ كَيِ الَّتِي تُعَاقِبُ «أَنْ» . قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ لَامِ كَيْ وَأَنْ، فَتَأْتِي بِاللَّامِ الَّتِي عَلَى مَعْنَى كَيْ فِي مَوْضِعِ أَنْ فِي أَرَدْتُ وَأَمَرْتُ، فَيَقُولُونَ: أَرَدْتُ أَنْ تَفْعَلَ وَأَرَدْتُ لِتَفْعَلَ، وَمِنْهُ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ «2» وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ «3» وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «4» وَمِنْهُ: أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا ... تُمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ وَحَكَى الزَّجَّاجُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: لَوْ كَانَتِ اللَّامُ بِمَعْنَى أَنْ لَدَخَلَتْ عَلَيْهَا لَامٌ أُخْرَى كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ كَيْ تُكْرِمَنِي، ثُمَّ تَقُولُ: جِئْتُ لِكَيْ تُكْرِمَنِي، وَأَنْشَدَ: أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا ... سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ وَقِيلَ: اللَّامُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، أَوْ لِتَأْكِيدِ إِرَادَةِ التَّبْيِينِ، وَمَفْعُولُ يُبَيِّنَ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: لِيُبَيِّنَ لَكُمْ مَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَقِيلَ: مَفْعُولُ يُرِيدُ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: يُرِيدُ اللَّهُ هَذَا لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، وَبِهِ قَالَ الْبَصْرِيُّونَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَقِيلَ: اللَّامُ بِنَفْسِهَا نَاصِبَةٌ لِلْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارِ أَنْ، وَهِيَ وَمَا بَعْدَهَا مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْفَرَّاءِ السَّابِقِ، وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: إن قوله: يُرِيدُ مؤول بِالْمَصْدَرِ، مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، مِثْلَ: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ مَصَالِحَ دِينِكُمْ، وَمَا يَحِلُّ لَكُمْ، وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَيْ: طُرُقَهُمْ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ، لِتَقْتَدُوا بِهِمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أَيْ: وَيُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عليكم، فتوبوا إليه، وتلاقوا مَا فُرِّطَ مِنْكُمْ بِالتَّوْبَةِ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ هَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا قَدْ فُهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ الْمُتَقَدِّمِ وَقِيلَ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ لِلْإِرْشَادِ إِلَى الطَّاعَاتِ. وَالثَّانِي: فِعْلُ أَسْبَابِهَا وَقِيلَ: إِنَّ الثَّانِيَ لِبَيَانِ كَمَالِ مَنْفَعَةِ إِرَادَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَكَمَالِ ضَرَرِ مَا يُرِيدُهُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ إِرَادَةِ التَّوْبَةِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ لِلتَّأْكِيدِ. قِيلَ: هَذِهِ الْإِرَادَةُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَقِيلَ: فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ فَقَطْ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْمُتَّبِعِينَ لِلشَّهَوَاتِ، فَقِيلَ: هُمُ الزُّنَاةُ، وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقِيلَ: الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَقِيلَ: هُمُ الْمَجُوسُ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَتَّبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي نِكَاحِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَيْلُ: الْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِوَاءِ. وَالْمُرَادُ بِالشَّهَوَاتِ هُنَا مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ دون ما أحله، ووصف الميل بالعظم

_ (1) . الأحزاب: 30. (2) . الصف: 8. (3) . الشورى: 15. (4) . الأنعام: 71.

بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَيْلِ مَنِ اقْتَرَفَ خَطِيئَةً نَادِرًا. قَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ بِمَا مَرَّ مِنَ التَّرْخِيصِ لَكُمْ، أَوْ بِكُلِّ مَا فِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً عَاجِزًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى مَلْكِ نَفْسِهِ وَدَفْعِهَا عَنْ شَهَوَاتِهَا وَفَاءً بِحَقِّ التَّكْلِيفِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ إِلَى التَّخْفِيفِ، فَلِهَذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ التَّخْفِيفَ عَنْهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حُرِّمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ، ثُمَّ قَرَأَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَبَناتُ الْأُخْتِ هَذَا مِنَ النَّسَبِ، وَبَاقِي الْآيَةِ مِنَ الصِّهْرِ، وَالسَّابِعَةُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي قَوْلِهِ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ قَالَ: هِيَ مُبْهَمَةٌ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ مُبْهَمَةٌ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَاتَتْ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ إِلَّا الْبَيْهَقِيَّ عَنْ عَلِيٍّ: فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا هَلْ تَحِلُّ لَهُ أُمُّهَا؟ قَالَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّبِيبَةِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا مَاتَتْ عِنْدَهُ فَأَخَذَ مِيرَاثَهَا كُرِهَ أَنْ يَخْلُفَ عَلَى أُمِّهَا، وَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أمها. وأخرج عبد الرزاق، وابن شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فِي قَوْلِهِ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ أُرِيدَ بِهِمَا الدُّخُولُ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: الرَّبِيبَةُ وَالْأُمُّ سَوَاءٌ لَا بَأْسَ بِهِمَا إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْمَرْأَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ فَتُوُفِّيَتْ، وَقَدْ وَلَدَتْ لِي فَوَجَدْتُ عَلَيْهَا، فَلَقِيَنِي عليّ بن أبي طالب فقال: مالك؟ فَقُلْتُ: تُوُفِّيَتِ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَهَا ابْنَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ وَهِيَ بِالطَّائِفِ، قَالَ: كَانَتْ فِي حِجْرِكَ؟ قُلْتُ لَا: قَالَ: فَانْكِحْهَا، قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُ اللَّهِ: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ؟ قَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ إِسْنَادٌ ثَابِتٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الدُّخُولُ: الْجِمَاعُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُنَّا نتحدث: أن محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَمَّا نَكَحَ امْرَأَةَ زَيْدٍ قَالَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَنَزَلَتْ: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» وَنَزَلَتْ: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ قَالَ يَعْنِي فِي النِّكَاحِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذَلِكَ فِي الْحَرَائِرِ، فَأَمَّا الْمَمَالِيكُ فَلَا بَأْسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنِ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ هَلْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَمَا كُنْتُ لِأَصْنَعَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَاهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَسَأَلَهُ عن ذلك، فقال:

_ (1) . الأحزاب: 4. (2) . الأحزاب: 40.

لَوْ كَانَ لِي مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ثُمَّ وَجَدْتُ أَحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ لَجَعَلْتُهُ نَكَالًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ أَمَتَانِ أختان، وطأ إِحْدَاهُمَا وَأَرَادَ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى، فَقَالَ: لَا حَتَّى يُخْرِجَهَا مِنْ مِلْكِهِ وَقِيلَ: فَإِنْ زَوَّجَهَا عَبْدَهُ؟ قَالَ: لَا حَتَّى يُخْرِجَهَا مِنْ مِلْكِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْأَمَتَيْنِ، فَكَرِهَهُ، فَقِيلَ: يَقُولُ اللَّهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَقَالَ: وَبَعِيرُكَ أَيْضًا مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: قَالَ فِي الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَلَا آمُرُ وَلَا أُنْهِي، وَلَا أُحِلُّ وَلَا أُحَرِّمُ، وَلَا أَفْعَلُ أَنَا وَأَهْلَ بَيْتِي. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَابْنَتِهَا مَمْلُوكَتَيْنِ لَهُ؟ فَقَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَلَمْ أَكُنْ لِأَفْعَلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ: فِي الْأُخْتَيْنِ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ جَارِيَتَانِ أُخْتَانِ فَغَشِيَ إِحْدَاهُمَا فَلَا يَقْرَبُ الْأُخْرَى حَتَّى يُخْرِجَ الَّتِي غَشِيَ مِنْ مِلْكِهِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ فِي نِسَاءِ الْآبَاءِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَنْكِحُونَ نِسَاءَ الْآبَاءِ، ثُمَّ حُرِّمَ النَّسَبُ وَالصِّهْرُ فَلَمْ يَقُلْ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَنْكِحُ النَّسَبَ وَالصِّهْرَ. وَقَالَ فِي الْأُخْتَيْنِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَهُمَا فَحَرَّمَ جَمْعَهُمَا جَمِيعًا، إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لِمَا كَانَ مِنْ جِمَاعِ الْأُخْتَيْنِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ يَوْمَ حُنَيْنٍ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ، فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا، فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَرَّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَقُولُ: إِلَّا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ قَالَ: كُلُّ ذَاتِ زَوْجٍ إِتْيَانُهَا زِنًا إِلَّا مَا سُبِيَتَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قَالَ: عَلَى الْمُشْرِكَاتِ إِذَا سُبِينَ حَلَّتْ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْمُشْرِكَاتُ وَالْمُسْلِمَاتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا بِيعَتِ الْأَمَةُ وَلَهَا زَوْجٌ فَسَيِّدُهَا أَحَقُّ بِبُضْعِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ قَالَ: ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ قَالَ: الْعَفِيفَةُ الْعَاقِلَةُ مِنْ مُسْلِمَةٍ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فَوْقَ الْأَرْبَعِ، فَمَا زَادَ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ كَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ

قَالَ: يَقُولُ انْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، ثُمَّ حَرَّمَ مَا حَرَّمَ مِنَ النَّسَبِ وَالصِّهْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ فَرَجَعَ إِلَى أَوَّلِ السُّورَةِ فَقَالَ: هُنَّ حَرَامٌ أَيْضًا، إِلَّا لِمَنْ نَكَحَ بِصَدَاقٍ وَسُنَّةٍ وَشُهُودٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبِيدَةَ قَالَ: أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أَرْبَعًا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَحَرَّمَ نِكَاحَ كُلِّ مُحْصَنَةٍ بَعْدَ الْأَرْبَعِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِحْصَانُ إِحْصَانَانِ: إِحْصَانُ نِكَاحٍ، وَإِحْصَانُ عَفَافٍ» فَمَنْ قَرَأَهَا: وَالْمُحْصِنَاتُ بِكَسْرِ الصَّادِ، فَهُنَّ الْعَفَائِفُ، وَمَنْ قَرَأَهَا: وَالْمُحْصَنَاتُ بِالْفَتْحِ، فَهُنَّ الْمُتَزَوِّجَاتُ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَالَ أَبِي: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ قَالَ: مَا وَرَاءَ هَذَا النَّسَبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: مَا دُونَ الْأَرْبَعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: مَا وَرَاءَ ذَاتِ الْقَرَابَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ قَالَ: مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ قَالَ: غَيْرَ زَانِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يَقُولُ: إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ مِنْكُمُ الْمَرْأَةَ ثُمَّ نَكَحَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ وَجَبَ صَدَاقُهَا كُلُّهُ، وَالِاسْتِمْتَاعُ: هُوَ النِّكَاحُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا يَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى الْآيَةَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَّجُ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يَفْرَغُ مِنْ حَاجَتِهِ، لِيَحْفَظَ مَتَاعَهُ وَيُصْلِحَ شَأْنَهُ. حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ فَنَسَخَتِ الْأُولَى، فَحُرِّمَتِ الْمُتْعَةُ، وَتَصْدِيقُهَا مِنَ الْقُرْآنِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ «1» وَمَا سِوَى هَذَا الْفَرْجِ فَهُوَ حَرَامٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ. أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ. وَالْأَحَادِيثُ فِي تَحْلِيلِ الْمُتْعَةِ ثُمَّ تَحْرِيمِهَا، وَهَلْ كَانَ نَسْخُهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ؟ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَاذَا صَنَعْتَ؟ ذَهَبَتِ الرِّكَابُ بِفُتْيَاكَ، وَقَالَتْ فِيهَا الشُّعَرَاءُ، قَالَ: وَمَا قَالُوا؟ قُلْتُ: قَالُوا: أَقُولُ لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ ... يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسِ هَلْ لَكَ فِي رخصة الْأَعْطَافِ آنِسَةً ... تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَصْدَرِ النَّاسِ «2»

_ (1) . المؤمنون: 6. (2) . البيتان في القرطبي (5/ 133) : أقول للرّكب إذ طال الثّواء بنا ... يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابْنِ عبّاس في بضّة رخصة الأطراف ناعمة ... تكون مثواك حتى مرجع النّاس

فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، لَا وَاللَّهِ مَا بِهَذَا أَفْتَيْتُ، وَلَا هَذَا أَرَدْتُ، وَلَا أَحْلَلْتُهَا إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ، وَفِي لَفْظٍ: وَلَا أَحْلَلْتُ مِنْهَا إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حَضْرَمِيٍّ: أَنَّ رِجَالًا كَانُوا يَفْرِضُونَ الْمَهْرَ ثُمَّ عَسَى أَنْ تُدْرِكَ أَحَدَهُمُ الْعُسْرَةُ، فَقَالَ اللَّهُ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ قال: التراضي أَنْ يُوَفِّيَ لَهَا صَدَاقَهَا ثُمَّ يُخَيِّرُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنْ وَضَعَتْ لَكَ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ سَائِغٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَعَةٌ أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ يَقُولُ: الْحَرَائِرُ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فَلْيَنْكِحْ مِنْ إِمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ يعني: عفائف، غير زوان فِي سِرٍّ وَلَا عَلَانِيَةٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ يَعْنِي: أَخِلَّاءَ فَإِذا أُحْصِنَّ ثُمَّ إِذَا تَزَوَّجَتْ حُرًّا ثُمَّ زَنَتْ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ قَالَ: مِنَ الْجَلْدِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ هُوَ الزِّنَا، فَلَيْسَ لأحد من الأحرار أن ينكح أمة إِلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى حُرَّةٍ وَهُوَ يَخْشَى الْعَنَتَ وَأَنْ تَصْبِرُوا عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ خَيْرٌ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا يَعْنِي: مَنْ لَا يَجِدْ مِنْكُمْ غِنًى أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ يَعْنِي: الْحَرَائِرَ، فَلْيَنْكِحِ الْأَمَةَ الْمُؤْمِنَةَ وَأَنْ تَصْبِرُوا عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ خَيْرٌ لَكُمْ وَهُوَ حَلَالٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: مِمَّا وَسَّعَ اللَّهُ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ نِكَاحُ الْأَمَةِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا. وأخرج عبد الرزاق، وسعيد ابن مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: لَا يَصْلُحُ نِكَاحُ إِمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ وَالْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ، وَمَنْ وَجَدَ طَوْلًا لِحُرَّةٍ فَلَا يَنْكِحْ أَمَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَتَزَوَّجُ الْحُرُّ مِنَ الْإِمَاءِ إِلَّا وَاحِدَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يَقُولُ: أَنْتُمْ إِخْوَةٌ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ قَالَ: بِإِذْنِ مُوَالِيهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ قَالَ: مُهُورُهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُسَافِحَاتُ: الْمُعْلِنَاتُ بِالزِّنَا، وَالْمُتَّخِذَاتُ أَخْدَانٍ: ذَاتُ الْخَلِيلِ الْوَاحِدِ. قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذا أُحْصِنَّ قَالَ: إِحْصَانُهَا إِسْلَامُهَا. وَقَالَ عَلِيٌّ: اجْلِدُوهُنَّ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.

_ (1) . الأنعام: 151.

[سورة النساء (4) : الآيات 29 إلى 31]

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِي إِسْنَادِهِ ضَعِيفٌ وَمُبْهَمٌ لَمْ يُسَمَّ، وَمِثْلُهُ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدُّ الْعَبْدِ يَفْتَرِي عَلَى الْحُرِّ أَرْبَعُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: الْعَنَتُ: الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ قَالَ: الزِّنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يَقُولُ: فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ يُسْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ قَالَ: رَخَّصَ لَكُمْ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً قَالَ: لَوْ لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثماني آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هُنَّ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ، أَوَّلُهُنَّ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالثَّانِيَةُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً وَالثَّالِثَةُ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً، وَالرَّابِعَةُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً، وَالْخَامِسَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية، وَالسَّادِسَةُ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ الآية، وَالسَّابِعَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْآيَةَ، وَالثَّامِنَةُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ لِلَّذِينِ عَمِلُوا مِنَ الذُّنُوبِ غَفُوراً رَحِيماً. [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 31] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) الْبَاطِلُ: مَا لَيْسَ بِحَقٍّ، وَوُجُوهُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَمِنَ الْبَاطِلِ: الْبُيُوعَاتُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا الشَّرْعُ. والتجارة في اللغة: عبارة عن المعاوضة، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ جَائِزَةٌ بَيْنَكُمْ، أَوْ: لَكِنَّ كَوْنَ تِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ حَلَالًا لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: عَنْ تَراضٍ صفة لتجارة، أَيْ: كَائِنَةً عَنْ تَرَاضٍ، وَإِنَّمَا نَصَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى التِّجَارَةِ دُونَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْمُعَاوَضَاتِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَهَا وَأَغْلَبَهَا، وَتُطْلَقُ التِّجَارَةُ عَلَى جَزَاءِ الْأَعْمَالِ مِنَ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ «1» . وقوله: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ «2» . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّرَاضِي، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَمَامُهُ وُجُوبُهُ بِافْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ أَوْ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ» . وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، والثوري، والأوزاعي، والليث،

_ (1) . الصف: 10. (2) . فاطر: 29.

وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَإِسْحَاقُ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: تَمَامُ الْبَيْعِ: هُوَ أَنْ يُعْقَدَ الْبَيْعُ بِالْأَلْسِنَةِ فَيَرْتَفِعَ بِذَلِكَ الْخِيَارُ. وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَقَدْ قُرِئَ: تِجَارَةٌ بِالرَّفْعِ: عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَتِجَارَةً بِالنَّصْبِ: عَلَى أَنَّهَا نَاقِصَةٌ قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَيْ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْضًا إِلَّا بِسَبَبٍ أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ، أَوْ: لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِاقْتِرَافِ الْمَعَاصِي. أَوِ الْمُرَادُ: النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَقْتُلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ حَقِيقَةً. وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: احْتِجَاجُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِهَا حِينَ لَمْ يَغْتَسِلْ بِالْمَاءِ حِينَ أَجْنَبَ فِي غَزَاةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ، فَقَرَّرَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ احْتِجَاجَهُ، وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَسُنَنِ أبي داود، وغيرهما. وقوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أَيِ: الْقَتْلَ خَاصَّةً، أَوْ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ ظُلْمًا، وَالْقَتْلَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ آخر وعيد وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً «1» لِأَنَّ كُلَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ، إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ فَإِنَّهُ لَا وَعِيدَ بَعْدَهُ، إِلَّا قَوْلَهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً وَالْعُدْوَانُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ. وَالظُّلْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ وَاحِدٌ، وَتَكْرِيرُهُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: ............. وَأُلْفِي قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا «2» وَخَرَجَ بِقَيْدِ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ مَا كَانَ مِنَ الْقَتْلِ بِحَقٍّ، كَالْقِصَاصِ، وَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ، وَسَائِرِ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْخَطَأِ. قَوْلُهُ: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَيْ: نُدْخِلُهُ نَارًا عَظِيمَةً وَكانَ ذلِكَ أَيْ: إِصْلَاؤُهُ النَّارَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لأنه لا يعجزه بشيء. وَقُرِئَ: نُصْلِيهِ بِفَتْحِ النُّونِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَنْقُولٌ مِنْ: صَلَى، وَمِنْهُ: شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ. قَوْلُهُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أَيْ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ الذُّنُوبِ الَّتِي نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهَا نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أَيْ: ذُنُوبَكُمُ الَّتِي هِيَ صَغَائِرُ، وَحَمْلُ السَّيِّئَاتِ عَلَى الصَّغَائِرِ هُنَا مُتَعَيِّنٌ لِذِكْرِ الْكَبَائِرِ قَبْلَهَا، وَجَعْلِ اجْتِنَابِهَا شَرْطًا لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْكَبَائِرِ ثُمَّ فِي عَدَدِهَا، فَأَمَّا فِي تَحْقِيقِهَا فَقِيلَ: إِنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا: صَغِيرَةٌ، بِالْإِضَافَةِ إلى ما هو أكبر منها، يُقَالُ: الزِّنَا صَغِيرَةٌ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى الزِّنَا، وَقَدْ رُوِيَ نحو هذا عن الإسفرايني وَالْجُوَيْنِيِّ، وَالْقُشَيْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْكَبَائِرِ الَّتِي يَكُونُ اجْتِنَابُهَا سَبَبًا لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ: هِيَ الشِّرْكُ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبِيرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجَمْعِ، فَالْمُرَادُ: أَجْنَاسُ الْكُفْرِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا قَالُوهُ: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «3» قالوا: فهذه

_ (1) . النساء: 19. [.....] (2) . هذا عجز بيت لعديّ بن زيد، وصدره: فقدّدت الأديم لراهشيه. (3) . النساء: 48.

الْآيَةُ مُقَيِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكَبِيرَةُ: كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللَّهُ بِنَارٍ، أَوْ غَضَبٍ، أَوْ لَعْنَةٍ، أَوْ عَذَابٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْكَبَائِرُ: مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ آيَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كُلُّ ذَنْبٍ نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَى النَّارِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: الْكَبَائِرُ: كُلُّ ذَنْبٍ رَتَّبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحَدَّ، أَوْ صَرَّحَ بِالْوَعِيدِ فِيهِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ. وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي عَدَدِهَا فَقِيلَ: إِنَّهَا سَبْعٌ، وَقِيلَ: سَبْعُونَ، وَقِيلَ: سَبْعُمِائَةٍ، وَقِيلَ: غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، وَلَكِنَّ بَعْضَهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، وَسَيَأْتِي مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَوْلُهُ: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا أَيْ: مَكَانَ دُخُولٍ، وَهُوَ الْجَنَّةُ كَرِيماً أَيْ: حَسَنًا مَرْضِيًّا، وَقَدْ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكُوفِيُّونَ: مُدْخَلًا بِضَمِّ الْمِيمِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَكِلَاهُمَا: اسْمُ مَكَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قَالَ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ، مَا نُسِخَتْ، وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَنَسَخَ ذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي فِي النُّورِ: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ» وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَعِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قَالَا: نَهَاهُمْ عَنْ قَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قَالَ: أَهْلُ دِينِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً يَعْنِي: مُتَعَمِّدًا اعْتِدَاءً بِغَيْرِ حَقٍّ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يَقُولُ: كَانَ عَذَابُهُ عَلَى اللَّهِ هَيِّنًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جريح قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا فِي كُلِّ ذَلِكَ أَمْ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ؟ قَالَ: بَلْ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: هَانَ مَا سَأَلَكُمْ رَبُّكُمْ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وأخرج عبد بن جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ مَا نَهَى الله عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَقَدْ ذُكِرَتِ الطَّرْفَةُ، يَعْنِي: النَّظْرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ عُصِيَ اللَّهُ فِيهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: كُلُّ مَا وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ كَبِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ قَالَ: الْكَبَائِرُ: كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللَّهُ بِنَارٍ، أَوْ غَضَبٍ، أَوْ لَعْنَةٍ، أَوْ عَذَابٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ما قدّمنا عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ أَسَبْعٌ هِيَ؟ قَالَ: هِيَ إِلَى السَبْعِينَ أَقْرَبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ كَمِ الْكَبَائِرُ أَسَبْعٌ هِيَ؟ قَالَ: هِيَ إلى

_ (1) . النور: 61.

سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى سَبْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ: كُلُّ ذَنْبٍ أَصَرَّ عَلَيْهِ الْعَبْدُ كَبِيرَةٌ، وَلَيْسَ بِكَبِيرَةٍ مَا تَابَ عَنْهُ الْعَبْدُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْكَبَائِرُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، أو قتل النَّفْسِ- شَكَّ شُعْبَةُ- وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قَالُوا: وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي تَعْدَادِ الْكَبَائِرِ وَتَعْيِينِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَمَنْ رَامَ الْوُقُوفَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ الزَّوَاجِرِ فِي الْكَبَائِرِ، فَإِنَّهُ قَدْ جَمَعَ فَأَوْعَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ بِمُجَرَّدِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ بِمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إِنَّهَا لَتَصْفِقُ، ثُمَّ تَلَا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ خَمْسَ آيَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ إِذَا مَرُّوا بِهَا يَعْرِفُونَهَا، قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «1» الآية، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «2» الآية، وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ «3» الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ «4» الْآيَةَ.

_ (1) . النساء: 40. (2) . النساء: 48 و 116. (3) . النساء: 64. (4) . النساء: 110.

[سورة النساء (4) : الآيات 32 إلى 34]

[سورة النساء (4) : الآيات 32 الى 34] وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) قَوْلُهُ: وَلا تَتَمَنَّوْا التَّمَنِّي: نَوْعٌ مِنَ الْإِرَادَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، كَالتَّلَهُّفِ: نَوْعٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَتَمَنَّى الْإِنْسَانُ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ عَدَمِ الرِّضَا بِالْقِسْمَةِ الَّتِي قَسَمَهَا اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ عَلَى مُقْتَضَى إِرَادَتِهِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا نَوْعٌ مِنَ الْحَسَدِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِذَا صَحِبَهُ إِرَادَةُ زَوَالِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنِ الْغَيْرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْغِبْطَةِ هَلْ تَجُوزُ أَمْ لَا؟ وَهِيَ: أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ بِهِ حَالٌ مِثْلُ حَالِ صَاحِبِهِ، مِنْ دُونِ أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَ ذَلِكَ الْحَالِ عَنْ صَاحِبِهِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ: «بَابَ الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ» . وَعُمُومُ لَفْظِ الْآيَةِ يَقْتَضِي: تَحْرِيمَ تَمَنِّي مَا وَقَعَ بِهِ التَّفْضِيلُ سَوَاءٌ كَانَ مَصْحُوبًا بِمَا يَصِيرُ بِهِ مِنْ جِنْسِ الْحَسَدِ أَمْ لَا، وَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ فِي أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ يَكُونُ مُخَصِّصًا لِهَذَا الْعُمُومِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ إِلَخْ، فِيهِ تَخْصِيصٌ بَعْدَ التَّعْمِيمِ، وَرُجُوعٌ إِلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ: مِنْ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو وَلَا نُقَاتِلُ فَنَسْتَشْهِدُ، وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، فَنَزَلَتْ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا السَّبَبِ مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نَصِيبًا عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ إِرَادَتُهُ وَحِكْمَتُهُ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْعُولِ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْ فَرِيقَيِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بِالنَّصِيبِ مِمَّا اكْتَسَبُوا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، شَبَّهَ اقْتِضَاءَ حَالِ كُلِّ فَرِيقٍ لِنَصِيبِهِ بِاكْتِسَابِهِ إِيَّاهُ. قَالَ قَتَادَةُ: لِلرِّجَالِ نُصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَلِلنِّسَاءِ كَذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: الْمِيرَاثِ، وَالِاكْتِسَابِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بمعنى ما ذكرنا. قوله: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا تَتَمَنَّوْا وَتَوْسِيطُ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ إِلَخْ. بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِتَقْرِيرِ مَا تَضَمَّنَهُ النَّهْيُ، وَهَذَا الْأَمْرُ يَدُلُّ: عَلَى وُجُوبِ سُؤَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ فَضْلِهِ، كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أَيْ: جَعَلْنَا لِكُلِّ إِنْسَانٍ وَرَثَةً مَوَالِيَ يَلُونَ مِيرَاثَهُ، فَلِكُلٍّ: مَفْعُولٌ ثَانٍ قُدِّمَ عَلَى الْفِعْلِ لِتَأْكِيدِ الشُّمُولِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرَّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ: لِيَتْبَعَ كُلُّ أَحَدٍ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَلَا يَتَمَنَّ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَهَا: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ وَقِيلَ الْعَكْسُ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ النَّاسِخَ لِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «1» والموالي: جمع مولى، وهو يطلق

_ (1) . الأنفال: 75.

على المعتق، وَالنَّاصِرِ، وَابْنِ الْعَمِّ، وَالْجَارِ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ هُنَا الْعَصَبَةُ، أَيْ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا عَصَبَةً يَرِثُونَ مَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ الْمُرَادُ بِهِمْ مَوَالِي الْمُوَالَاةِ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ: أَيْ يُحَالِفُهُ فَيَسْتَحِقُّ مِنْ مِيرَاثِهِ نَصِيبًا، ثُمَّ ثَبَتَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بهذه الآية، ثم نسخ بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وقراءة الجمهور: وعاقدت وَرُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: «عَقَّدَتْ» بِتَشْدِيدِ الْقَافِ عَلَى التَّكْثِيرِ «1» ، أَيْ: وَالَّذِينَ عَقَّدَتْ لَهُمْ أَيْمَانُكُمُ الْحِلْفَ، أَوْ عَقَّدَتْ عُهُودَهُمْ أَيْمَانُكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَالَّذِينَ عَاقَدَتْهُمْ أَيْمَانُكُمْ فَآتَوْهُمْ نَصِيبَهُمْ: أَيْ مَا جَعَلْتُمُوهُ لَهُمْ بِعَقْدِ الْحِلْفِ. قَوْلُهُ: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَيَانِ الْعِلَّةِ الَّتِي اسْتَحَقَّ بِهَا الرِّجَالُ الزِّيَادَةَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَحَقَّ الرِّجَالُ مَا اسْتَحَقُّوا مِمَّا لَمْ تُشَارِكْهُمْ فِيهِ النِّسَاءُ؟ فَقَالَ: الرِّجالُ قَوَّامُونَ إِلَخْ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يُقَوِّمُونَ بِالذَّبِّ عَنْهُنَّ، كَمَا تُقَوِّمُ الْحُكَّامُ وَالْأُمَرَاءُ بِالذَّبِّ عن الرعية، وهم أيضا: يقومون بما يَحْتَجْنَ إِلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ، وَالْكُسْوَةِ، وَالْمَسْكَنِ. وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِ: قَوَّامُونَ لِيَدُلَّ: عَلَى أَصَالَتِهِمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما فَضَّلَ اللَّهُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، أَيْ: إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا هَذِهِ الْمَزِيَّةَ لِتَفْضِيلِ اللَّهِ لِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، بِمَا فَضَّلَهُمْ بِهِ مِنْ كَوْنِ فِيهِمُ: الْخُلَفَاءُ، وَالسَّلَاطِينُ، وَالْحُكَّامُ، وَالْأُمَرَاءُ، وَالْغُزَاةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ. قَوْلُهُ: وَبِما أَنْفَقُوا أَيْ: وَبِسَبَبِ مَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قَوْلِهِ: بِما فَضَّلَ اللَّهُ وَمِنْ: تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ مَا أَنْفَقُوهُ: فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى النِّسَاءِ، وَبِمَا دَفَعُوهُ فِي مُهُورِهِنَّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا يُنْفِقُونَهُ فِي الْجِهَادِ، وَمَا يَلْزَمُهُمْ فِي الْعَقْلِ «2» . وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: عَلَى جَوَازِ فَسْخِ النِّكَاحِ إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وكسوتها، وبه قال مالك والشافعي وغيرهما. فَالصَّالِحاتُ أَيْ: مِنَ النِّسَاءِ قانِتاتٌ أَيْ: مُطِيعَاتٌ لِلَّهِ، قَائِمَاتٌ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَحُقُوقِ أَزْوَاجِهِنَّ. حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أَيْ: لِمَا يُجِبُ حِفْظُهُ عِنْدَ غَيْبَةِ أَزْوَاجِهِنَّ عَنْهُنَّ: مِنْ حفظ نفوسهنّ، وحفظ أموالهم، «وما» : فِي قَوْلِهِ: بِما حَفِظَ اللَّهُ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِحِفْظِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُنَّ حَافِظَاتٌ لِغَيْبِ أَزْوَاجِهِنَّ بِحِفْظِ اللَّهِ لَهُنَّ، وَمَعُونَتِهِ، وَتَسْدِيدِهِ، أَوْ: حَافِظَاتٌ له لما اسْتَحْفَظَهُنَّ مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، أَوْ: حَافِظَاتٌ لَهُ بِحِفْظِ اللَّهِ لَهُنَّ بِمَا أَوْصَى بِهِ الْأَزْوَاجَ فِي شَأْنِهِنَّ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» : مَوْصُولَةً، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِما حَفِظَ اللَّهُ بِنَصْبِ الِاسْمِ الشَّرِيفِ. وَالْمَعْنَى: بِمَا حَفِظْنَ اللَّهَ، أَيْ: حَفِظْنَ أَمْرَهُ، أَوْ حَفِظْنَ دِينَهُ، فَحُذِفَ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إِلَيْهِنَّ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَ «مَا» عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ مَوْصُولَةٌ، كَالْقِرَاءَةِ الْأُولَى، أَيْ: بِحِفْظِهِنَّ اللَّهَ، أَوْ: بِالَّذِي حَفِظْنَ اللَّهَ بِهِ. قوله: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ

_ (1) . والمشهور عن حمزة: (عقدت) مخففة القاف وهي قراءة عاصم والكسائي. [القرطبي 5/ 167] . (2) . عقل القتيل: أعطى وليه ديته.

هَذَا خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ، قِيلَ: الْخَوْفُ هُنَا عَلَى بَابِهِ، وَهُوَ: حَالَةٌ تَحْدُثُ فِي الْقَلْبِ عِنْدَ حُدُوثِ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ، أَوْ: عِنْدَ ظَنِّ حُدُوثِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَوْفِ هُنَا: الْعِلْمُ. وَالنُّشُوزُ: الْعِصْيَانُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَصْلِ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: يُقَالُ نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ: اسْتَعْصَتْ عَلَى بَعْلِهَا، وَنَشَزَ بَعْلُهَا عَلَيْهَا: إِذَا ضَرَبَهَا وَجَفَاهَا. فَعِظُوهُنَّ أَيْ: ذَكِّرُوهُنَّ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ مِنَ الطَّاعَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَرَغِّبُوهُنَّ، وَرَهِّبُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ يُقَالُ: هَجَرَهُ، أَيْ: تَبَاعَدَ مِنْهُ. وَالْمَضَاجِعُ: جَمْعُ مَضْجَعٍ، وَهُوَ مَحَلُّ الِاضْطِجَاعِ، أَيْ: تَبَاعَدُوا عَنْ مُضَاجَعَتِهِنَّ، وَلَا تُدْخِلُوهُنَّ تَحْتَ مَا تَجْعَلُونَهُ عَلَيْكُمْ حَالَ الِاضْطِجَاعِ مِنَ الثِّيَابِ وَقِيلَ: هُوَ: أَنْ يُوَلِّيَهَا ظَهْرَهُ عِنْدَ الِاضْطِجَاعِ وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ جِمَاعِهَا وَقِيلَ: لَا تَبِيتُ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ الَّذِي يَضْطَجِعُ فِيهِ وَاضْرِبُوهُنَّ أَيْ: ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنَّ يَفْعَلَ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ عِنْدَ مَخَافَةِ النُّشُوزِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَهْجُرُهَا إِلَّا بَعْدَ عَدَمِ تَأْثِيرِ الْوَعْظِ، فَإِنْ أَثَّرَ الْوَعْظُ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الْهَجْرِ، وَإِنْ كَفَاهُ الْهَجْرُ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الضَّرْبِ. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ كَمَا يَجِبُ وَتَرَكْنَ النُّشُوزَ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أَيْ: لَا تَتَعَرَّضُوا لَهُنَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يَكْرَهْنَ لَا بِقَوْلٍ وَلَا بِفِعْلٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تُكَلِّفُوهُنَّ الْحُبَّ لَكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِهِنَّ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً إِشَارَةً إِلَى الْأَزْوَاجِ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ وَلِينِ الْجَانِبِ، أَيْ: وَإِنْ كُنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَيْهِنَّ فَاذْكُرُوا قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهَا فَوْقَ كُلِّ قُدْرَةٍ، وَاللَّهُ بِالْمِرْصَادِ لَكُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ يَقُولُ: لَا يَتَمَنَّى الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لَيْتَ أَنَّ لِي مَالَ فُلَانٍ وَأَهْلَهُ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا يَعْنِي: مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ: أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ: لَوْ جُعِلَ أَنْصِبَاؤُنَا فِي الْمِيرَاثِ كَأَنْصِبَاءِ الرِّجَالِ؟ وَقَالَ الرِّجَالُ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ نُفَضَّلَ عَلَى النِّسَاءِ بِحَسَنَاتِنَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا فُضِّلْنَا عَلَيْهِنَّ فِي الْمِيرَاثِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَبَبِ النُّزُولِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ قَالَ: لَيْسَ بِعَرَضِ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ سعيد بن جبير: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ قَالَ: الْعِبَادَةُ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَذَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ وَاقِدٍ وَلَيْسَ بِالْحَافِظِ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدِيثُ أَبِي نُعَيْمٍ أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ أَصَحَّ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ قَالَ: وَرَثَةً وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ، لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ نُسِخَتْ، ثُمَّ قَالَ:

وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصَى لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ قَالَ: عَصَبَةٌ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قَالَ: كَانَ الرَّجُلَانِ أَيُّهُمَا مَاتَ وَرِثَهُ الْآخَرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً يَقُولُ: إِلَّا أَنْ يُوصُوا لِأَوْلِيَائِهِمُ الَّذِينَ عَاقَدُوا وَصِيَّةً، فَهُوَ لَهُمْ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ يَقُولُ: تَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَكَانَ الْأَحْيَاءُ يَتَحَالَفُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ عَقْدٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَلَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً، وَلَا عَقْدَ وَلَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ» فنسختها هذه الآية وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «1» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُحَالِفُ الرَّجُلَ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ، فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الآخر، فنسخ ذلك في الأنفال: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «2» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر، وابن أبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ لَطَمَ امْرَأَتَهُ فَجَاءَتْ تَلْتَمِسُ الْقِصَاصَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا الْقِصَاصَ، فَنَزَلَ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «3» فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَدْنَا أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ يَعْنِي أُمَرَاءَ عَلَيْهِنَّ أَنْ تُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَهَا اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَطَاعَتُهُ: أَنْ تَكُونَ مُحْسِنَةً إِلَى أَهْلِهِ، حَافِظَةً لِمَالِهِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ فَضَّلَهُ عَلَيْهَا نفقته وَسَعْيِهِ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ قَالَ: مُطِيعَاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ يَعْنِي: إِذَا كُنَّ كَذَا فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ قَالَ: حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا اسْتَوْدَعَهُنَّ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ، وَحَافِظَاتٌ لِغَيْبِ أَزْوَاجِهِنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ لِلْأَزْوَاجِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: تَحْفَظُ عَلَى زَوْجِهَا مَالَهُ وَفَرْجَهَا حَتَّى يَرْجِعَ كَمَا أَمَرَهَا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ قَالَ: تِلْكَ الْمَرْأَةُ تَنْشُزُ وَتَسْتَخِفُّ بِحَقِّ زَوْجِهَا وَلَا تُطِيعُ أَمْرَهُ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَعِظَهَا، وَيُذَكِّرَهَا بِاللَّهِ، وَيُعَظِّمَ حَقَّهُ عَلَيْهَا، فَإِنْ قَبِلَتْ، وَإِلَّا هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ وَلَا يُكَلِّمُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذَرَ نِكَاحَهَا، وَذَلِكَ عَلَيْهَا تَشْدِيدٌ، فَإِنْ رَجَعَتْ، وَإِلَّا ضَرَبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَا يَكْسِرُ لَهَا عَظْمًا، وَلَا يَجْرَحُ بِهَا جُرْحًا فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا يَقُولُ: إِذَا أَطَاعَتْكَ فَلَا تَتَجَنَّى عَلَيْهَا الْعِلَلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ قَالَ: لَا يُجَامِعُهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ يَهْجُرُهَا بلسانه، ويلغظ لَهَا بِالْقَوْلِ، وَلَا يَدَعُ الْجِمَاعَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الضَّرْبِ غَيْرِ الْمُبَرِّحِ، فَقَالَ: بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ: أَنَّهُ شَهِدَ خُطْبَةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ

_ (1) . الأنفال: 75. (2) . الأنفال: 75. (3) . طه: 114.

[سورة النساء (4) : آية 35]

الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَفِيهَا أَنَّهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ «1» عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ، فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» . وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهم عن عبد الله ابن زَمْعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ؟ ثم يجامعها في آخر اليوم» . [سورة النساء (4) : آية 35] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الشِّقَاقِ فِي الْبَقَرَةِ، وَأَصْلُهُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ شِقًّا غَيْرَ شِقِّ صَاحِبِهِ، أَيْ: نَاحِيَةً غَيْرَ نَاحِيَتِهِ، وَأُضِيفَ الشِّقَاقُ إِلَى الظَّرْفِ لِإِجْرَائِهِ مَجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَقَوْلِهِ: يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أَهْلَ الدَّارِ وَالْخِطَابُ لِلْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنِهِما لِلزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ ذِكْرُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَابْعَثُوا إِلَى الزَّوْجَيْنِ حَكَماً يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا مِمَّنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، عَقْلًا، وَدِينًا، وَإِنْصَافًا، وَإِنَّمَا نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يَكُونَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّهُمَا أَقْعَدُ بِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِمَا، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْحُكْمِ بَيْنَهُمَا كَانَ الْحَكَمَانِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا إِذَا أَشْكَلَ أَمْرُهُمَا، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ مَنْ هُوَ الْمُسِيءُ مِنْهُمَا فَأَمَّا إِذَا عُرِفَ الْمُسِيءُ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ لِصَاحِبِهِ الْحَقُّ مِنْهُ، وَعَلَى الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَسْعَيَا فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ جُهْدَهُمَا، فَإِنْ قَدَرَا عَلَى ذَلِكَ عَمِلَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَعْيَاهُمَا إِصْلَاحُ حَالِهِمَا وَرَأَيَا التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا جَازَ لَهُمَا ذَلِكَ مِنْ دُونِ أَمْرٍ مِنَ الْحَاكِمِ فِي الْبَلَدِ، وَلَا تَوْكِيلٍ بِالْفُرْقَةِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ الْجُمْهُورِ، قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها وَهَذَا نَصٌّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمَا قَاضِيَانِ، لَا وَكِيلَانِ، وَلَا شَاهِدَانِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ التَّفْرِيقَ هُوَ إِلَى الْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ فِي الْبَلَدِ، لَا إِلَيْهِمَا، مَا لَمْ يُوَكِّلْهُمَا الزَّوْجَانِ، أَوْ يَأْمُرْهُمَا الْإِمَامُ وَالْحَاكِمُ، لِأَنَّهُمَا رَسُولَانِ شَاهِدَانِ، فَلَيْسَ إِلَيْهِمَا التَّفْرِيقُ، وَيُرْشِدُ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ: إِنْ يُرِيدا أَيِ: الْحَكَمَانِ إِصْلاحاً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما لِاقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ الْإِصْلَاحِ دُونَ التَّفْرِيقِ. وَمَعْنَى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما أَيْ: يُوقِعِ الْمُوَافَقَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى يَعُودَا إِلَى الْأُلْفَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ. وَمَعْنَى الْإِرَادَةِ: خُلُوصُ نِيَّتِهِمَا لِصَلَاحِ الْحَالِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما لِلْحَكَمَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً أي:

_ (1) . عوان: أصلها: عواني: جمع عانية وهي الأسيرة. [.....]

[سورة النساء (4) : آية 36]

يُوَفِّقِ بَيْنَ الْحَكَمَيْنِ فِي اتِّحَادِ كَلِمَتِهِمَا وَحُصُولِ مَقْصُودِهِمَا وَقِيلَ: كِلَا الضَّمِيرَيْنِ لِلزَّوْجَيْنِ، أَيْ: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الشِّقَاقِ أَوْقَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا الْأُلْفَةَ وَالْوِفَاقَ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْحَكَمَانِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُمَا، وَلَا يَلْزَمُ قَبُولُ قَوْلِهِمَا، بِلَا خِلَافٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ إِذَا تَفَاسَدَ الَّذِي بَيْنَهُمَا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تَبْعَثُوا رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَرَجُلًا مِثْلَهُ من أهل المرأة فينظران أيهما المسيئ، فإن كان الرجل هو المسيئ حَجَبُوا امْرَأَتَهُ عَنْهُ وَقَسَرُوهُ عَلَى النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسِيئَةُ قَسَرُوهَا عَلَى زَوْجِهَا وَمَنَعُوهَا النَّفَقَةَ، فَإِنِ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمَا عَلَى أَنْ يُفَرِّقَا أَوْ يَجْمَعَا فَأَمْرُهُمَا جَائِزٌ، فَإِنْ رَأَيَا أَنْ يَجْمَعَا فَرَضِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَكَرِهَ الْآخَرُ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ الَّذِي رَضِيَ يَرِثُ الَّذِي كَرِهَ، وَلَا يَرِثُ الْكَارِهُ الرَّاضِيَ إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً قَالَ: هُمَا الْحَكَمَانِ يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما وَكَذَلِكَ كَلُّ مُصْلِحٍ يُوَفِّقُهُ لِلْحَقِّ وَالصَّوَابِ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ وَمَعَهُمَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَمَرَهُمْ عَلِيٌّ فَبَعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا أَنْ تَجْمَعَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا أَنْ تُفَرِّقَا، قَالَتِ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ بِمَا عَلَيَّ فِيهِ وَلِي، وَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ حَتَّى تُقِرَّ مِثْلَ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ حَكَمَيْنِ، فَقِيلَ لَنَا: إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا، وَالَّذِي بَعَثَهُمَا عُثْمَانُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّمَا يُبْعَثُ الْحَكَمَانِ لِيُصْلِحَا وَيَشْهَدَا عَلَى الظَّالِمِ بِظُلْمِهِ، فَأَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَيْسَتْ بِأَيْدِيهِمَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِذَا حَكَمَ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ وَلَمْ يَحْكُمِ الْآخَرُ فَلَيْسَ حكمه بشيء حتى يجتمعا. [سورة النساء (4) : آية 36] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ. وَشَيْئًا إِمَّا مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ: لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ، وَجَمَادٍ وَحَيَوَانٍ، وَإِمَّا مَصْدَرٌ، أَيْ: لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ، وَالْوَاضِحِ وَالْخَفِيِّ. وَقَوْلُهُ: إِحْساناً مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالرَّفْعِ، وَقَدْ دَلَّ ذِكْرُ الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِهِ عَلَى عِظَمِ حَقِّهِمَا، ومثله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ «1» فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُشْكَرَا مَعَهُ. قَوْلُهُ: وَبِذِي الْقُرْبى

_ (1) . لقمان: 14.

أَيْ: صَاحِبِ الْقَرَابَةِ، وَهُوَ مَنْ يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْقُرْبَى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا. وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ: قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمْ، وَالْمَعْنَى: وَأَحْسِنُوا بِذِي الْقُرْبَى إِلَى آخِرِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى أَيِ: الْقَرِيبُ جِوَارُهُ وَقِيلَ: هُوَ مَنْ لَهُ مَعَ الْجِوَارِ فِي الدَّارِ قُرْبٌ فِي النَّسَبِ وَالْجارِ الْجُنُبِ: الْمُجَانِبِ، وَهُوَ مُقَابِلٌ لِلْجَارِّ ذِي الْقُرْبَى، وَالْمُرَادُ: مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْجِوَارِ مَعَ كَوْنِ دَارِهِ بَعِيدَةً، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَعْمِيمِ الْجِيرَانِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، سَوَاءٌ كَانَتِ الدِّيَارُ مُتَقَارِبَةً أَوْ مُتَبَاعِدَةً، وَعَلَى أَنَّ الْجِوَارَ حُرْمَةٌ مَرْعِيَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْجَارَ مُخْتَصٌّ بِالْمُلَاصِقِ دُونَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَائِلٌ، أَوْ مُخْتَصٌّ بِالْقَرِيبِ دُونَ الْبَعِيدِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْجَارِ الْجُنُبِ هُنَا: هُوَ الْغَرِيبُ وَقِيلَ: هُوَ الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُجَاوِرِ لَهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَالْمُفَضَّلُ: وَالْجارِ الْجُنُبِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ، أَيْ: ذِي الْجَنْبِ، وَهُوَ النَّاحِيَةُ، وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ: النَّاسُ جَنْبٌ وَالْأَمِيرُ جَنْبُ «1» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى: الْمُسْلِمُ، وَبِالْجَارِ الْجُنُبِ: الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْجِوَارِ وَيَثْبُتُ لِصَاحِبِهِ الْحَقُّ، فَرُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَالْحَسَنِ: أَنَّهُ إِلَى حَدِّ أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوُهُ وَقِيلَ: مَنْ سَمِعَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَقِيلَ: إِذَا جَمَعَتْهُمَا مَحَلَّةٌ وَقِيلَ: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُرْجَعَ فِي مَعْنَى الْجَارِ إِلَى الشَّرْعِ، فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي بَيَانَهُ وَأَنَّهُ يَكُونُ جَارًا إِلَى حَدِّ كَذَا مِنَ الدُّورِ، أَوْ مِنْ مَسَافَةِ الْأَرْضِ، كَانَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رُجِعَ إِلَى مَعْنَاهُ لُغَةً أَوْ عُرْفًا. وَلَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْجَارَ هُوَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارِهِ مِقْدَارُ كَذَا، وَلَا وَرَدَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَيْضًا مَا يُفِيدُ ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ بِالْجَارِ فِي اللُّغَةِ: الْمُجَاوِرُ، وَيُطْلِقُ عَلَى مَعَانٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْجَارُ: الْمُجَاوِرُ، وَالَّذِي أَجَرْتَهُ مِنْ أَنْ يُظْلَمَ، وَالْمُجِيرُ، وَالْمُسْتَجِيرُ، وَالشَّرِيكُ فِي التِّجَارَةِ، وَزَوْجُ الْمَرْأَةِ، وَهِيَ جَارَتُهُ، وَفَرْجُ الْمَرْأَةِ، وَمَا قَرُبَ مِنَ الْمَنَازِلِ، وَالِاسْتُ، كَالْجَارَةِ، وَالْقَاسِمُ، وَالْحَلِيفُ، وَالنَّاصِرُ. انْتَهَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي نَزَلْتُ مَحَلَّةَ قَوْمٍ، وَإِنَّ أَقْرَبَهُمْ إِلَيَّ جِوَارًا أَشَدُّهُمْ لِي أَذًى، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَلِيًّا يَصِيحُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ: أَلَا إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» . انْتَهَى. وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا لَكَانَ مُغْنِيًا عَنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ رَوَاهُ كَمَا تَرَى مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ لَهُ إِلَى أَحَدِ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفَةِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ إِمَامًا فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ، فَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِمَا يَرْوِيهِ بِغَيْرِ سَنَدٍ مَذْكُورٍ وَلَا نَقْلٍ عَنْ كِتَابٍ مَشْهُورٍ، ولا سيما وَهُوَ يَذْكُرُ الْوَاهِيَاتِ كَثِيرًا، كَمَا يَفْعَلُ فِي تَذْكِرَتِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَاكَنَةَ فِي مَدِينَةٍ مُجَاوِرَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا «2» فجعل اجتماعهم

_ (1) . كأن الأمير عدل بجميع الناس. (2) . الأحزاب: 60.

فِي الْمَدِينَةِ جِوَارًا. وَأَمَّا الْأَعْرَافُ فِي مُسَمَّى الْجِوَارِ فَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَهْلِهَا، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى أَعْرَافٍ مُتَعَارَفَةٍ وَاصْطِلَاحَاتٍ مُتَوَاضِعَةٍ. قَوْلُهُ: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قِيلَ: هُوَ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُوَ الزَّوْجَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ الَّذِي يَصْحَبُكَ وَيَلْزَمُكَ رَجَاءَ نَفْعِكَ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَتَنَاوَلَ الْآيَةُ جَمِيعَ مَا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَعَ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا، وَهُوَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَاحِبٌ بِالْجَنْبِ، أَيْ: بِجَنْبِكَ، كَمَنْ يَقِفُ بِجَنْبِكَ فِي تَحْصِيلِ عِلْمٍ أَوْ تَعَلُّمِ صِنَاعَةٍ أَوْ مُبَاشَرَةِ تِجَارَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَابْنِ السَّبِيلِ قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يَجْتَازُ بِكَ مَارًّا، وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ، فَنُسِبَ الْمُسَافِرُ إِلَيْهِ لِمُرُورِهِ عَلَيْهِ وَلُزُومِهِ إِيَّاهُ، فَالْأَوْلَى تَفْسِيرُهُ بِمَنْ هُوَ عَلَى سَفَرٍ، فَإِنَّ عَلَى الْمُقِيمِ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ وَقِيلَ: هُوَ الْمُنْقَطِعُ بِهِ وَقِيلَ: هو الضعيف. قَوْلُهُ: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أَيْ: وَأَحْسِنُوا إِلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِحْسَانًا، وَهُمُ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ، وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِأَنَّهُمْ يَطْعَمُونَ مِمَّا يَطْعَمُ مَالِكُهُمْ، وَيَلْبَسُونَ مِمَّا يَلْبَسُ. وَالْمُخْتَالُ: ذُو الْخُيَلَاءِ، وَهُوَ الْكِبْرُ وَالتِّيهُ، أَيْ: لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُتَكَبِّرًا تَائِهًا عَلَى النَّاسِ مُفْتَخِرًا عَلَيْهِمْ. وَالْفَخْرُ: الْمَدْحُ لِلنَّفْسِ، وَالتَّطَاوُلُ، وَتَعْدِيدُ الْمَنَاقِبِ، وَخَصَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَحْمِلَانِ صَاحِبَهُمَا عَلَى الْأَنَفَةِ مِمَّا نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى يَعْنِي: الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ وَالْجارِ الْجُنُبِ يَعْنِي: الَّذِي لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ قَالَ: الْجَارُ ذِي الْقُرْبَى: الْمُسْلِمُ، وَالْجَارُ الْجُنُبِ: الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قَالَ: الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الحكيم، والترمذي فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قَالَ: هُوَ جَلِيسُكَ فِي الْحَضَرِ، وَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ، وَامْرَأَتُكَ الَّتِي تُضَاجِعُكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هُوَ الْمَرْأَةُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قَالَ: مِمَّا خَوَّلَكَ اللَّهُ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُ كُلُّ هذا أوصى بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ نَحْوَهُ، وَقَدْ وَرَدَ مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَفِي صِلَةِ الْقَرَابَةِ، وَفِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى، وَفِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ، وَفِي الْقِيَامِ بِمَا يَحْتَاجُهُ الْمَمَالِيكُ، أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا كُتُبُ السُّنَّةِ لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى بَسْطِهَا هُنَا، وَهَكَذَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الْكِبْرِ وَالِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ مَا هُوَ معروف.

[سورة النساء (4) : الآيات 37 إلى 42]

[سورة النساء (4) : الآيات 37 الى 42] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ هُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ كانَ مُخْتالًا أَوْ عَلَى الذَّمِ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مقدّر، أَيْ: لَهُمْ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْعَذَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: مُخْتالًا فَخُوراً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى تَقْدِيرِ: أَعْنِي، أَوْ مَرْفُوعًا عَلَى الْخَبَرِ، وَالْمُبْتَدَأُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ. وَالْبُخْلُ الْمَذْمُومُ فِي الشَّرْعِ: هُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ، وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ضَمُّوا إِلَى مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْبُخْلِ الَّذِي هُوَ أَشَرُّ خِصَالِ الشَّرِّ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْهُ وَأَدَلُّ عَلَى سُقُوطِ نَفْسِ فَاعِلِهِ، وَبُلُوغِهِ فِي الرَّذَالَةِ إِلَى غَايَتِهَا، وَهُوَ أَنَّهُمْ مَعَ بُخْلِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَكَتْمِهِمْ لِمَا أَنْعَمَ الله به عليهم من فضله يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ كَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ جُودِ غَيْرِهِمْ بِمَالِهِ حَرَجًا وَمَضَاضَةً، فَلَا كَثَّرَ فِي عِبَادِهِ مِنْ أَمْثَالِكُمْ، هَذِهِ أَمْوَالُكُمْ قَدْ بَخِلْتُمْ بِهَا لِكَوْنِكُمْ تَظُنُّونَ انْتِقَاصَهَا بِإِخْرَاجِ بَعْضِهَا فِي مَوَاضِعِهِ، فَمَا بَالُكُمْ بَخِلْتُمْ بِأَمْوَالِ غَيْرِكُمْ؟ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُكُمْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، وهل هذا إلا غاية اللؤم، وَنِهَايَةُ الْحُمْقِ وَالرَّقَاعَةِ، وَقُبْحِ الطِّبَاعِ، وَسُوءِ الِاخْتِيَارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَاتِ فِي الْبُخْلِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: الْيَهُودُ، فَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ وَالْبُخْلِ بِالْمَالِ وَكِتْمَانِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا: الْمُنَافِقُونَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ اللَّفْظَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ شُمُولًا، وَأَعَمُّ فَائِدَةً، قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْأَوَّلِينَ قَدْ فَرَّطُوا بِالْبُخْلِ، وَبِأَمْرِ النَّاسِ بِهِ، وَبِكَتْمِ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَهَؤُلَاءِ أَفْرَطُوا بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، لِمُجَرَّدِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَسَامَعَ النَّاسُ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ، وَيَتَطَاوَلَ عَلَى غَيْرِهِ بِذَلِكَ، وَيَشْمَخَ بِأَنْفِهِ عَلَيْهِ، مَعَ مَا ضُمَّ إِلَى هَذَا الْإِنْفَاقِ الَّذِي يَعُودُ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ مِنْ عدم الإيمان بالله واليوم الْآخِرِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَرِينُهُمُ الشَّيْطَانُ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً وَالْقَرِينُ: الْمُقَارِنُ، وهو الصاحب والخليل. والمعنى: من قبل من الشَّيْطَانَ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَارَنَهُ فِيهَا، أَوْ فَهُوَ قَرِينُهُ فِي النَّارِ، فَسَاءَ الشَّيْطَانُ قَرِينًا وَماذا عَلَيْهِمْ أَيْ: عَلَى هَذِهِ الطَّوَائِفِ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ابْتِغَاءً لِوَجْهِهِ، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، أَيْ: وَمَاذَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ مِنْ ضَرَرٍ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الْمِثْقَالُ: مِفْعَالٌ مِنَ الثِّقَلِ، كَالْمِقْدَارِ مِنَ الْقَدْرِ، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لَا يَظْلِمُ شَيْئًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَالذَّرَّةُ: وَاحِدَةُ الذَّرِّ. وَهِيَ النَّمْلُ الصِّغَارُ وَقِيلَ: رَأْسُ النَّمْلَةِ، وَقِيلَ: الذَّرَّةُ: الْخَرْدَلَةُ وَقِيلَ: كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَبَاءِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيمَا يَدْخُلُ مِنَ الشَّمْسِ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا ذَرَّةٌ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الَّذِي يَجِبُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ كَثِيرًا وَلَا قَلِيلًا، أَيْ: لَا

يَبْخَسُهُمْ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَزِيدُ فِي عِقَابِ ذُنُوبِهِمْ وَزَنَ ذَرَّةٍ فَضْلًا عَمَّا فَوْقَهَا. قَوْلُهُ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ: حَسَنَةٌ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُمْ: بِالنَّصْبِ وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: إِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ، عَلَى أَنَّ كَانَ هِيَ التَّامَّةُ لَا النَّاقِصَةُ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: إِنْ تَكُ فِعْلَتُهُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ: إِنْ تَكُ مِثْقَالُ الذرّة حسنة، وأنت ضَمِيرَ الْمِثْقَالِ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى الْمُؤَنَّثِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: نُضَاعِفْهَا بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْيَاءِ، وَهِيَ الْأَرْجَحُ لِقَوْلِهِ: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمُضَاعَفَةِ، وَالْمُرَادُ: مُضَاعَفَةُ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ، قَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ كَيْفَ: مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، كَمَا هُوَ رَأْيُ سِيبَوَيْهِ، أَوْ مَحَلُّهَا: رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، كَمَا هُوَ رَأْيُ غَيْرِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هؤُلاءِ إِلَى الْكُفَّارِ، وَقِيلَ: إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ خَاصَّةً. وَالْمَعْنَى: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ شَهِيدًا؟ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ: التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: تُسَوَّى بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ: أَنَّ الْأَرْضَ هِيَ الَّتِي تُسَوَّى بِهِمْ، أَيْ: أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا لَوِ انْفَتَحَتْ لَهُمُ الْأَرْضُ فَسَاخُوا فِيهَا وَقِيلَ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِهِمُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: تُسَوَّى عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ: الْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: لَوْ سَوَّى اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ فَيَجْعَلُهُمْ وَالْأَرْضَ سَوَاءً حَتَّى لَا يُبْعَثُوا. قَوْلُهُ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً عَطْفٌ عَلَى يَوَدُّ أَيْ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَيَوْمَئِذٍ لَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قال بعضهم لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً مُسْتَأْنَفٌ، لِأَنَّ مَا عَمِلُوهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى كِتْمَانِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَعْطُوفٌ. وَالْمَعْنَى: يَوَدُّونَ أَنَّ الْأَرْضَ سُوِّيَتْ بِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُمُوا اللَّهَ حَدِيثًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ كَرْدَمُ بْنُ يَزِيدَ حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأُسَامَةُ بْنُ حَبِيبٍ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ، وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ يَأْتُونَ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ يَنْتَصِحُونَ لَهُمْ فَيَقُولُونَ: لَا تُنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ فَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَقْرَ فِي ذَهَابِهَا، وَلَا تُسَارِعُوا النَّفَقَةِ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا يَكُونُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ إِلَى قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وابن أبي حاتم عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ قَالَ: رَأَسَ نَمْلَةٍ حَمْرَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير في قوله: إِنْ تَكُ حَسَنَةً وَزْنَ ذَرَّةٍ، زَادَتْ عَلَى سَيِّئَاتِهِ يُضاعِفْها فَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيُخَفِّفُ بِهِ عَنْهُ الْعَذَابَ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَبَدًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ!

[سورة النساء (4) : آية 43]

أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً قَالَ: حَسْبُكَ الْآنَ فإذا عيناه تذرقان» . وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ يَعْنِي: أَنْ تسوّى الأرض بالجبال عَلَيْهِمْ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ: يَقُولُ: وَدُّوا لَوِ انْخَرَقَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ فَسَاخُوا فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً قال: بجوارحهم. [سورة النساء (4) : آية 43] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا جَعَلَ الْخِطَابَ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَبُونَ الصَّلَاةَ حَالَ السُّكْرِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ: فَهُمْ لَا يَقْرَبُونَهَا سُكَارَى وَلَا غَيْرَ سُكَارَى. قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إِذَا قِيلَ لَا تَقْرَبْ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَعْنَاهُ: لَا تَدْنُ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: النَّهْيُ عَنِ التَّلَبُّسِ بِالصَّلَاةِ وَغِشْيَانِهَا. وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مَوَاضِعُ الصَّلَاةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، وَيُقَوِّي هَذَا قَوْلُهُ: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ: الصَّلَاةُ وَمَوَاضِعُهَا مَعًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ لَا يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ إِلَّا لِلصَّلَاةِ، وَلَا يُصَلُّونَ إِلَّا مُجْتَمِعِينَ، فَكَانَا مُتَلَازِمَيْنِ. قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ سُكارى الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَسُكَارَى: جَمْعُ سَكْرَانَ، مِثْلُ: كُسَالَى جَمْعُ كَسْلَانَ. وقرأ النخعي: سكارى بِفَتْحِ السِّينِ، وَهُوَ تَكْسِيرُ سَكْرَانَ: وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: سُكارى كَحُبْلَى، صِفَةٌ مُفْرَدَةٌ. وَقَدْ ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّكْرِ هُنَا: سُكْرُ الْخَمْرِ، إِلَّا الضَّحَّاكُ فَإِنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ: سُكْرُ النَّوْمِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا يُخَالِفُ الصَّوَابَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. قَوْلُهُ: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ هَذَا غَايَةُ النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ، أَيْ: حَتَّى يَزُولَ عَنْكُمْ أَثَرُ السُّكْرِ وَتَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَهُ، فَإِنَّ السَّكْرَانَ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُهُ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُهُ انْتَفَى الْقَصْدُ. وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَالْقَاسِمُ، وَرَبِيعَةُ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيِّ. وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ وَقَالَ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ لَا يَجُوزُ، وَالسَّكْرَانُ مَعْتُوهٌ كَالْمُوَسْوِسِ. وَأَجَازَتْ طَائِفَةٌ وُقُوعَ طَلَاقِهِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَمُعَاوِيَةَ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، وَالْقَوَدُ فِي الْجِرَاحِ، والقتل،

وَلَا يَلْزَمُهُ النِّكَاحُ، وَالْبَيْعُ. قَوْلُهُ: وَلا جُنُباً عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ سُكارى وَالْجُنُبُ: لَا يُؤَنَّثُ، وَلَا يُثَنَّى، وَلَا يُجْمَعُ، لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْمَصْدَرِ، كَالْبُعْدِ وَالْقُرْبِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ جَنُبَ الرَّجُلُ وَأَجْنَبَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَقِيلَ: يُجْمَعُ الْجُنُبُ فِي لُغَةٍ عَلَى أَجَنَابٍ، مِثْلُ: عُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ، وَطُنُبٍ وَأَطْنَابٍ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، أَيْ: لَا تَقْرَبُوهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ عُبُورِ السَّبِيلِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا السَّفَرُ، وَيَكُونُ مَحَلُّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفْرَّغِ النَّصْبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا تَقْرَبُوا بَعْدَ تَقْيِيدِهِ بِالْحَالِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا جُنُباً لَا بِالْحَالِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ سُكارى فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ حَالَ كَوْنِكُمْ جُنُبًا إِلَّا حَالَ السَّفَرِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تُصَلُّوا بِالتَّيَمُّمِ، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وابن جبير، ومجاهد، وَالْحَكَمِ، وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَبَ الصَّلَاةَ وَهُوَ جُنُبٌ إِلَّا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ، إِلَّا الْمُسَافِرَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يُعْدَمُ فِي السَّفَرِ لَا فِي الْحَضَرِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يُعْدَمُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: عَابِرُ السَّبِيلِ: هُوَ الْمُجْتَازُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ: وَهِيَ الْمَسَاجِدُ فِي حَالِ الْجَنَابَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا مُجْتَازِينَ فِيهَا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قُوَّةٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الصَّلَاةِ فيه باقية عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ بِالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَكُونُ فِي الْحَاضِرِ إِذَا عُدِمَ الْمَاءُ، كَمَا يَكُونُ فِي الْمُسَافِرِ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي قُوَّةٌ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّكَلُّفِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وَضَعْفٌ مِنْ جِهَةِ حَمْلِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوَاضِعِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَالُ الْأُولَى، أَعْنِي قَوْلَهُ: وَأَنْتُمْ سُكارى تُقَوِّي بَقَاءَ الصَّلَاةِ عَلَى مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ مِنْ دُونِ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، وَكَذَلِكَ مَا سَيَأْتِي مِنْ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ يُقَوِّي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يُقَوِّي تَقْدِيرَ الْمُضَافِ: أَيْ لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَعْضَ قُيُودِ النَّهْيِ أَعْنِي: لَا تَقْرَبُوا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ سُكارى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيُّ، وَبَعْضُ قُيُودِ النَّهْيِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يدل على أن الْمُرَادُ: مَوَاضِعُ الصَّلَاةِ، وَلَا مَانِعَ مِنِ اعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ قَيْدِهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، ويكون ذلك عَلَيْهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَهْيَيْنِ مُقَيَّدٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَيْدٍ، وَهُمَا: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ ذَاتُ الْأَذْكَارِ وَالْأَرْكَانِ وَأَنْتُمْ سُكَارَى، وَلَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ حَالَ كَوْنِكُمْ جُنُبًا إِلَّا حَالَ عُبُورِكُمْ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَغَايَةُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا: أَنَّهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَهُوَ جَائِزٌ بِتَأْوِيلٍ مَشْهُورٍ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ حكايته للقولين: والأولى قَوْلُ مَنْ قَالَ: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ إِلَّا مُجْتَازِي طَرِيقٍ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ بُيِّنَ حُكْمُ الْمُسَافِرِ إِذَا عُدِمَ الْمَاءُ، وَهُوَ جُنُبٌ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «1» فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ، أَيْ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا لَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ الْمُسَافِرُ لَمْ يَكُنْ لِإِعَادَةِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ مَعْنًى مَفْهُومٌ. وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ حُكْمِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فإذا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الْمَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ مُصَلِّينَ فِيهَا وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَلَا تَقْرَبُوهَا أَيْضًا جُنُبًا حَتَّى تَغْتَسِلُوا إِلَّا عابري

_ (1) . المائدة: 5.

سَبِيلٍ. قَالَ: وَالْعَابِرُ السَّبِيلِ: الْمُجْتَازُ مَرًّا وَقَطْعًا، يُقَالُ مِنْهُ: عَبَرْتُ هَذَا الطَّرِيقَ فَأَنَا أَعْبُرُهُ عَبْرًا وَعُبُورًا، وَمِنْهُ قِيلَ: عَبَرَ فُلَانٌ النَّهَرَ إِذَا قَطَعَهُ وَجَاوَزَهُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّاقَةِ الْقَوِيَّةِ: هِيَ عَبْرُ أَسْفَارٍ، لِقُوَّتِهَا عَلَى قَطْعِ الْأَسْفَارِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُ، يَعْنِي: ابْنَ جَرِيرٍ، هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ. انْتَهَى. قَوْلُهُ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا غَايَةٌ لِلنَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ أَوْ مَوَاضِعِهَا حَالَ الْجَنَابَةِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَقْرَبُوهَا حَالَ الْجَنَابَةِ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إِلَّا حَالَ عُبُورِكُمُ السَّبِيلَ. قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الْمَرَضُ: عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ الْبَدَنِ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ وَالِاعْتِيَادِ إِلَى الِاعْوِجَاجِ وَالشُّذُوذِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ كَثِيرٍ وَيَسِيرٍ. وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ أَوِ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، أَوْ كَانَ ضَعِيفًا فِي بَدَنِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَوْضِعِ الْمَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَتَطَهَّرُ وَإِنْ مَاتَ، وَهَذَا بَاطِلٌ يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2» وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ «3» قَوْلُهُ: أَوْ عَلى سَفَرٍ فِيهِ جَوَازُ التَّيَمُّمِ لِمَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُسَافِرِ، وَالْخِلَافُ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ سَفَرَ قَصْرٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْمُسَافِرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَاضِرِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ الصَّحِيحِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِلَّا أَنْ يَخَافَ التَّلَفَ. قَوْلُهُ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ، وَالْمَجِيءُ مِنْهُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْحَدَثِ، وَالْجَمْعُ: الْغِيطَانُ وَالْأَغْوَاطُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقْصِدُ هَذَا الصِّنْفَ مِنَ الْمَوَاضِعِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ تَسَتُّرًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، ثُمَّ سُمِّيَ الْحَدَثُ الْخَارِجُ مِنَ الْإِنْسَانِ غَائِطًا تَوَسُّعًا، وَيَدْخُلُ فِي الْغَائِطِ جَمِيعُ الْأَحْدَاثِ النَّاقِضَةِ لِلْوُضُوءِ. قَوْلُهُ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: لامَسْتُمُ وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: لَمَسْتُمْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا بِمَا فِي الْقِرَاءَتَيْنِ: الْجِمَاعُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ: مُطْلَقُ الْمُبَاشَرَةِ وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: الْأَوْلَى فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ لامَسْتُمُ بِمَعْنَى قَبَّلْتُمْ وَنَحْوِهِ، وَلَمَسْتُمْ بِمَعْنَى غَشِيتُمْ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمُلَامَسَةُ هُنَا مُخْتَصَّةٌ بِالْيَدِ دُونَ الْجِمَاعِ، قَالُوا: وَالْجُنُبُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى التَّيَمُّمِ بَلْ يَغْتَسِلُ أَوْ يَدَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِهِمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ، وَحَمَلَةِ الْآثَارِ. انْتَهَى. وَأَيْضًا: الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَدْفَعُهُ وَتُبْطِلُهُ، كَحَدِيثِ عَمَّارٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَبِي ذَرٍّ فِي تيمم الجنب. وقال طَائِفَةٌ: هُوَ الْجِمَاعُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ «4» ، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ «5» وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمُقَاتِلِ بن حبان، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُلَامِسُ بِالْجِمَاعِ يَتَيَمَّمُ، وَالْمُلَامِسُ بِالْيَدِ يَتَيَمَّمُ إِذَا الْتَذَّ، فَإِنْ لَمَسَهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَا وُضُوءَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَفْضَى الرَّجُلُ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ إِلَى بَدَنِ الْمَرْأَةِ سَوَاءً كَانَ بِالْيَدِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ انْتَقَضَتْ بِهِ الطَّهَارَةُ وَإِلَّا فَلَا. وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابن مسعود، وابن عمر، والزهري،

_ (1) . الحج: 78. (2) . النساء: 29. (3) . البقرة: 185. (4) . الأحزاب: 49. (5) . البقرة: 237.

وَرَبِيعَةَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا كَانَ اللَّمْسُ بِالْيَدِ نَقَضَ الطُّهْرَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْيَدِ لَمْ يَنْقُضْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ وَقَدِ احْتَجُّوا بِحُجَجٍ تَزْعُمُ كُلُّ طَائِفَةٍ أَنَّ حُجَّتَهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُلَامَسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي مَعْنَى الْمُلَامَسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي الْجِمَاعِ، فَقَدْ ثَبَتَتِ الْقِرَاءَةُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ بِلَفْظِ أَوْ لَمَسْتُمْ وَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ بِلَا شَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ فَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِالْمُحْتَمَلِ. وَهَذَا الْحُكْمُ تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَيُثْبِتُ بِهِ التَّكْلِيفُ الْعَامُّ، فَلَا يَحِلُّ إثباته بمحتمل قط، وَقَدْ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي مَفْهُومِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ عَلَى مَنِ اجْتَنَبَ وَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، فَكَانَ الْجُنُبُ دَاخِلًا فِي الْآيَةِ بِهَذَا الدَّلِيلِ، وَعَلَى فَرْضِ عَدَمِ دُخُولِهِ فَالسُّنَّةُ تَكْفِي فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْوُضُوءِ أَوِ التَّيَمُّمِ عَلَى مَنْ لَمَسَ الْمَرْأَةَ بِيَدِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ فَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِهِ اسْتِدْلَالًا بِهَذِهِ الْآيَةِ لِمَا عَرَفْتَ مِنَ الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ: مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَقِيَ امْرَأَةً لَا يَعْرِفُهَا؟ وَلَيْسَ يَأْتِي الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ شَيْئًا إِلَّا قَدْ أَتَاهُ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا، فأنزل الله أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وأخرجه أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، قَالُوا: فَأَمَرَهُ بِالْوُضُوءِ لِأَنَّهُ لَمَسَ الْمَرْأَةَ وَلَمْ يُجَامِعْهَا، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ على محمل النزاع، فإن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالْوُضُوءِ لِيَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِوُضُوءٍ. وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذٍ وَلَمْ يَلْقَهُ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْأَصْلُ: الْبَرَاءَةُ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، فَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ خَالِصٍ عَنِ الشَّوَائِبِ الْمُوجِبَةِ لِقُصُورِهِ عَنِ الْحُجَّةِ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يُقَبِّلُ، ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يتوضأ» . وقد روي هذه الحديث بألفاظ مختلفة، ورواه أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَمَا قِيلَ: مِنْ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ، فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَوْقٍ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ السَّهْمِيَّةِ. وَلَفْظُ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ» . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ زَيْنَبَ السَّهْمِيَّةِ عَنْ عَائِشَةَ. قَوْلُهُ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً هَذَا الْقَيْدُ إِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ بَعْدَ الشَّرْطِ، وَهُوَ الْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، وَالْمَجِيءُ مِنَ الْغَائِطِ، وَمُلَامَسَةُ النِّسَاءِ، كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ وَالسَّفَرَ بِمُجَرَّدِهِمَا لَا يُسَوِّغَانِ التَّيَمُّمَ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَ وُجُودِ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ مِنْ عَدَمِ الْمَاءِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِلَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنَّ يَتَيَمَّمَ إِلَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً، وَلَكِنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا أَنَّ الصَّحِيحَ كَالْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ تَيَمَّمَ، وكذلك المقيم كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم، فلا بد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر فقيل: وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ عَدَمُ الْمَاءِ فِي حَقِّهِ غَالِبٌ، وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الصُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، أَعْنِي: قوله:

أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ كَانَ فِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَرِيضِ أَوِ الْمُسَافِرِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ رَجَعَ هَذَا الْقَيْدُ إِلَى الْآخَرَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ مُعْتَبَرًا فِي الْأَوَّلَيْنِ لِنُدْرَةِ وُقُوعِهِ فِيهِمَا. وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ هَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ وَتَوْجِيهٌ بَارِدٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ: ذَكَرَ اللَّهُ الْمَرَضَ وَالسَّفَرَ فِي شَرْطِ التَّيَمُّمِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ فِي مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ بِخِلَافِ الْحَاضِرِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ وَجُودُهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرَضَ بِمُجَرَّدِهِ مُسَوِّغٌ لِلتَّيَمُّمِ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا إِذَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ، وَلَا تُعْتَبَرُ خَشْيَةُ التَّلَفِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ «1» وَيَقُولُ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» ، والنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الدِّينُ يُسْرٌ» وَيَقُولُ: «يَسُرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا» وَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ» وَيَقُولُ: «أُمِرْتُ بِالشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ» فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ قَيْدَ عَدَمِ وُجُودِ الْمَاءِ رَاجِعٌ إِلَى الْجَمِيعِ، كَانَ وَجْهُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْمَرَضِ: هُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَالْمَاءُ حَاضِرٌ مَوْجُودٌ إِذَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ يَضُرُّهُ، فَيَكُونُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْقَيْدِ فِي حَقِّهِ إِذَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَضُرُّهُ، فَإِنَّ فِي مُجَرَّدِ الْمَرَضِ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَا يَكُونُ مَظِنَّةً لِعَجْزِهِ عَنِ الطَّلَبِ، لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ بِالْمَرَضِ نَوْعُ ضَعْفٍ. وَأَمَّا وَجْهُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْمُسَافِرِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ مَظِنَّةٌ لِإِعْوَازِ الْمَاءِ فِي بَعْضِ الْبِقَاعِ دُونَ بَعْضٍ. قَوْلُهُ: فَتَيَمَّمُوا التَّيَمُّمُ لُغَةً: الْقَصْدُ، يُقَالُ: تَيَمَّمْتُ الشَّيْءَ: قَصَدْتُهُ، وَتَيَمَّمْتُ الصَّعِيدَ: تَعَمَّدْتُهُ، وَتَيَمَّمْتُهُ بِسَهْمِي وَرُمْحِي: قَصَدْتُهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ: يَمَّمْتُهُ الرُّمْحَ شَزْرًا ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ... هَذِي الْبَسَالَةُ لَا لِعْبُ الزَّحَالِيقِ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: تَيَمَّمْتُهَا مِنْ أَذَرِعَاتٍ وَأَهْلُهَا ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي وَقَالَ: تَيَمَّمَتِ الْعَيْنُ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجِ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طامي «3» قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: قَوْلُهُ: فَتَيَمَّمُوا أَيِ: اقْصِدُوا، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ حَتَّى صَارَ التَّيَمُّمُ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِالتُّرَابِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِمْ قَدْ تَيَمَّمَ الرَّجُلُ: مَعْنَاهُ: قَدْ مَسَحَ التُّرَابَ عَلَى وَجْهِهِ، وَهَذَا خَلْطٌ مِنْهُمَا لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْرِفُ التَّيَمُّمَ بِمَعْنَى مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْنًى شَرْعِيٌّ فَقَطْ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ذَلِكَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي هذا الباب كثيرة، وتفاصيل التيمم وصفاته مبينة في السنة المطهرة، ومقالات أهل العلم مدوّنة في كتب الفقه، قَوْلُهُ: صَعِيداً الصَّعِيدُ: وَجْهُ الْأَرْضِ سَوَاءً كَانَ عَلَيْهِ تُرَابٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَالزَّجَّاجُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً

_ (1) . البقرة: 185. (2) . الحج: 78. (3) . ضارج اسم موضع. والعرمض: الطحلب، وقيل: الخضرة على الماء. وطامي: مرتفع.

جُرُزاً «1» أَيْ: أَرْضًا غَلِيظَةً لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، وَقَالَ تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً «2» وقال ذو الرمة: كأنّه بالضّحى تزمي الصّعيد به ... دبّابة فِي عِظَامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ «3» وَإِنَّمَا سُمِّيَ صَعِيدًا لِأَنَّهُ نِهَايَةُ مَا يُصْعَدُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَمْعُ الصَّعِيدِ: صُعَدَاتٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يُجْزِئُ التَّيَمُّمُ بِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ: إِنَّهُ يُجْزِئُ بِوَجْهِ الْأَرْضِ كُلِّهِ تُرَابًا كَانَ أَوْ رَمْلًا أَوْ حِجَارَةً، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: طَيِّباً عَلَى الطَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ بِنَجِسٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُهُمَا: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِالتُّرَابِ فَقَطْ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تعالى: صَعِيداً زَلَقاً أَيْ: تُرَابًا أَمْلَسَ طَيِّبًا، وَكَذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: طَيِّباً قَالُوا: وَالطَّيِّبُ: التُّرَابُ الَّذِي يُنْبِتُ. وَقَدْ تُنُوزِعَ فِي مَعْنَى الطَّيِّبِ، فَقِيلَ: الطَّاهِرُ كَمَا تَقَدَّمَ وَقِيلَ: الْمُنْبِتُ كَمَا هُنَا وَقِيلَ: الْحَلَالُ. وَالْمُحْتَمَلُ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُتَيَمَّمُ بِهِ إِلَّا مَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، لَكَانَ الْحَقُّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «فضلنا النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» وَفِي لَفْظٍ: «وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا» فَهَذَا مُبَيِّنٌ لِمَعْنَى الصَّعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، أَوْ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِهِ، أَوْ مُقَيِّدٌ لِإِطْلَاقِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا حَكَاهُ ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد، أَيْ: أَخَذَ مِنْ غُبَارِهِ. انْتَهَى، وَالْحَجَرُ الصَّلْدُ لَا غُبَارَ لَهُ. قَوْلُهُ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ هَذَا الْمَسْحُ مُطْلَقٌ، يَتَنَاوَلُ الْمَسْحَ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ، وَيَتَنَاوَلُ الْمَسْحَ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، أَوْ إِلَى الرُّسْغَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بَيَانًا شَافِيًا، وَقَدْ جَمَعْنَا بَيْنَ مَا وَرَدَ فِي الْمَسْحِ بِضَرْبَةٍ وَبِضَرْبَتَيْنِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْمَسْحِ إِلَى الرُّسْغِ وَإِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى وَغَيْرِهِ مِنْ مُؤَلَّفَاتِنَا بِمَا لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً أَيْ: عَفَا عَنْكُمْ وَغَفَرَ لَكُمْ تَقْصِيرَكُمْ، وَرَحِمَكُمْ بِالتَّرْخِيصِ لَكُمْ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرحمن ابن عَوْفٍ طَعَامًا، فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ فَأَخَذَتِ الْخَمْرُ مِنَّا، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: أَنَّ الَّذِي صلّى به عَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ، وعمر، وعليّ، وعبد الرحمن بن ابن عَوْفٍ طَعَامًا، فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ فَأَخَذَتِ الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت:

_ (1) . الكهف: 8. (2) . الكهف: 40. [.....] (3) . الصّعيد: التراب، والدبّابة: الخمر. والخرطوم: الخمر وصفوتها. يقول: ولد الظبية لا يرفع رأسه، وكأنه رجل سكران من ثقل نومه في وقت الضحى.

الْكَافِرُونَ حَتَّى خَتَمَهَا فَقَالَ: لَيْسَ لِي دِينٌ وَلَيْسَ لَكُمْ دِينٌ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: نسختها إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَمْ يَعْنِ بِهَا الْخَمْرَ، إِنَّمَا عَنِيَ بِهَا سُكْرَ النَّوْمِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأَنْتُمْ سُكارى قَالَ: النُّعَاسُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ. قَوْلُهُ: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: لَا يَقْرَبُ الصَّلَاةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فَلَا يَجِدُ الْمَاءَ، فَيَتَيَمَّمُ، وَيُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ يَقُولُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ جُنُبٌ إِذَا وَجَدْتُمُ الْمَاءَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا الْمَاءَ فَقَدْ أَحْلَلْتُ أَنْ تَمْسَحُوا بِالْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا يَمُرُّ الْجُنُبُ وَلَا الْحَائِضُ فِي الْمَسْجِدِ، إِنَّمَا أُنْزِلَتْ: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ لِلْمُسَافِرِ يَتَيَمَّمُ ثُمَّ يُصَلِّي. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ الأسلع ابن شَرِيكٍ قَالَ: كُنْتُ أُرَحِّلُ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، وَأَرَادَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الرِّحْلَةَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُرَحِّلَ نَاقَتَهُ وَأَنَا جُنُبٌ، وَخَشِيتُ أَنْ أَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَأَمُوتَ أَوْ أَمْرَضَ، فَأَمَرْتُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَرَحَّلَهَا، ثُمَّ رَضَفْتُ أَحْجَارًا فَأَسْخَنْتُ بِهَا مَاءً فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ لَحِقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ: يَا أَسْلَعُ! مَا لِي أرى رَاحِلَتَكَ تَغَيَّرَتْ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَمْ أُرَحِّلْهَا، رَحَّلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: وَلِمَ؟ قلت: إني أصابتني جَنَابَةٌ فَخَشِيتُ الْقَرَّ عَلَى نَفْسِي، فَأَمَرْتُهُ أَنْ يُرَحِّلَهَا وَرَضَفْتُ أَحْجَارًا فَأَسْخَنْتُ بِهَا مَاءً فَاغْتَسَلْتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَسْلَعَ قَالَ: كُنْتُ أَخْدِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَأُرَحِّلُ لَهُ، فَقَالَ لِي ذَاتَ لَيْلَةٍ: يَا أَسْلَعُ! قُمْ فَأَرْحِلْ لِي» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، فَسَكَتَ عَنِّي سَاعَةً، حَتَّى جَاءَ جِبْرِيلُ بِآيَةِ الصَّعِيدِ، فَقَالَ: «قُمْ يَا أَسْلَعُ فَتَيَمَّمْ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ قَالَ: الْمَسَاجِدَ. وَأَخْرَجَ عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْهُ: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قَالَ: لَا تَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ وَأَنْتُمْ جُنُبٌ إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ، قَالَ: تَمُرُّ بِهِ مَرًّا وَلَا تَجْلِسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُرَخِّصُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا يَجْلِسَ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ مُجْتَازًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ مَرِيضًا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُومَ فَيَتَوَضَّأَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَيُنَاوِلُهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابن المنذر، وابن

_ (1) . المائدة: 90.

[سورة النساء (4) : الآيات 44 إلى 48]

أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ الْمَجْدُورُ، أَوْ بِهِ الْجِرَاحُ، أَوِ الْقُرْحُ، يُجْنِبُ فَيُخَافُ إِنِ اغْتَسَلَ أَنْ يَمُوتَ فَيَتَيَمَّمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: نَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِرَاحٌ فَفَشَتْ فِيهِمْ، ثُمَّ ابْتُلُوا بِالْجَنَابَةِ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قَالَ: اللَّمْسُ: مَا دُونَ الْجِمَاعِ، وَالْقُبْلَةُ مِنْهُ، وَفِيهِ الْوُضُوءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ قُبْلَةِ الْمَرْأَةِ، وَيَقُولُ هِيَ اللِّمَاسِ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عُمَرَ قَالَ: إِنِ الْقُبْلَةَ مِنَ اللَّمْسِ فَتَوَضَّأْ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: اللَّمْسُ هُوَ الْجِمَاعُ وَلَكِنَّ اللَّهَ كَنَى عَنْهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنَّا فِي حُجْرَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَعَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَنَفَرٌ مِنَ الْمَوَالِي وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَنَفَرٌ مِنَ الْعَرَبِ فَتَذَاكَرْنَا اللمس، فَقُلْتُ أَنَا وَعَطَاءٌ وَالْمَوَالِي: اللَّمْسُ بِالْيَدِ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَالْعَرَبُ: هُوَ الْجِمَاعُ، فَدَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: غُلِبَتِ الْمَوَالِي وَأَصَابَتِ الْعَرَبُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّمْسَ وَالْمَسَّ والمباشرة: الجماع «1» ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَكْنِي مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إن أطيب الصعيد أرض الحرث. [سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 48] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ، وَالْمُرَادُ: الْيَهُودُ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ التَّوْرَاةِ. وَقَوْلُهُ: يَشْتَرُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِالِاشْتِرَاءِ: الِاسْتِبْدَالُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْيَهُودَ اسْتَبْدَلُوا الضَّلَالَةَ، وَهِيَ الْبَقَاءُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ بَعْدَ وُضُوحِ الْحُجَّةِ عَلَى صحة نبوّة نبينا صلّى الله عليه وسلّم قوله: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ

_ (1) . في المطبوع: والمباشرة إلى الجماع ما هو. والمثبت من تفسير الطبري (ط دار الكتب العلمية 4/ 105) .

عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَشْتَرُونَ مُشَارِكٌ لَهُ فِي بَيَانِ سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَضِعْفِ اخْتِيَارِهِمْ، أَيْ: لَمْ يَكْتَفُوا بِمَا جَنَوْهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنِ اسْتِبْدَالِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى، بَلْ أَرَادُوا مَعَ ضَلَالِهِمْ: أَنْ يَتَوَصَّلُوا بِكَتْمِهِمْ وَجَحْدِهِمْ إِلَى أَنْ تَضِلُّوا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ السَّبِيلَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي هُوَ سَبِيلُ الْحَقِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَمَا يُرِيدُونَهُ بِكُمْ مِنَ الْإِضْلَالِ، وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا لَكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً يَنْصُرُكُمْ فِي مُوَاطِنِ الْحَرْبِ، فَاكْتَفُوا بِوِلَايَتِهِ وَنَصْرِهِ، وَلَا تَتَوَلَّوْا غَيْرَهُ وَلَا تَسْتَنْصِرُوهُ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِاللَّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: زَائِدَةٌ. قَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنْ جُعِلَتْ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلُ فَلَا يُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ: نَصِيراً وَإِنْ جُعِلَتْ مُنْقَطِعَةً، فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى نَصِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا قَوْمٌ يُحَرِّفُونَ، ثُمَّ حُذِفَ، وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَوْ قُلْتَ مَا فِي قَوْمِهَا لَمْ أَيْثَمِ ... يَفْضُلُهَا فِي حَسَبٍ وَمِيسَمِ قَالُوا: الْمَعْنَى: لَوْ قُلْتَ مَا فِي قَوْمِهَا أَحَدٌ يَفْضُلُهَا، ثُمَّ حُذِفَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَحْذُوفُ لَفْظُ مَنْ، أَيْ: مِنَ الَّذِينَ هَادَوْا مَنْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ كَقَوْلِهِ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «1» أَيْ مَنْ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دمعه سابق له ... وآخر يذري عبرة العين بالهمل «2» أَيْ: مَنْ دَمْعُهُ، وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ، لِأَنَّ حَذْفَ الْمَوْصُولِ كَحَذْفِ بَعْضِ الْكَلِمَةِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ. وَالتَّحْرِيفُ: الْإِمَالَةُ وَالْإِزَالَةُ، أَيْ: يُمِيلُونَهُ، وَيُزِيلُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَيَجْعَلُونَ مَكَانَهُ غَيْرَهُ أَوِ الْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَذَمَّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ عِنَادًا وَبَغْيًا، وَتَأْثِيرًا لِغَرَضِ الدُّنْيَا. قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا أَيْ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ، وَعَصَيْنَا أَمْرَكَ، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أَيِ: اسْمَعْ حَالَ كَوْنِكَ غَيْرَ مُسْمَعٍ. وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دعاء على النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى: اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكْرُوهًا، أَوِ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ جَوَابًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي رَاعِنَا. وَمَعْنَى: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ: أَنَّهُمْ يَلْوُونَهَا عَنِ الْحَقِّ، أَيْ: يُمِيلُونَهَا إِلَى مَا فِي قلوبهم، وأصل اللّي: القتل، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ. قَوْلُهُ: وَطَعْناً فِي الدِّينِ مَعْطُوفٌ عَلَى لَيًّا، أَيْ: يَطْعَنُونَ فِي الدِّينِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَعَلِمَ أَنَّا نَسُبُّهُ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا قَوْلَكَ: وَأَطَعْنا أَمْرَكَ وَاسْمَعْ مَا نَقُولُ وَانْظُرْنا أَيْ: لَوْ قَالُوا هَذَا مَكَانَ قَوْلِهِمْ رَاعِنَا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِمَّا قَالُوهُ، وَأَقْوَمَ أَيْ: أَعْدَلَ وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لِمَا فِي هَذَا مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَسُوءِ الْأَدَبِ، وَاحْتِمَالِ الذَّمِّ فِي رَاعِنَا، وَلكِنْ لَمْ يَسْلُكُوا الْمَسْلَكَ الْحَسَنَ، وَيَأْتُوا بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ وَأَقُومُ، وَلِهَذَا: لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِبَعْضِ الْكُتُبِ دُونَ بَعْضٍ، وَبِبَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ. قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ذكر

_ (1) . الصافات: 164. (2) . بالهمل: هملان العين: فيضانها بالدمع. ويذري: يصيب.

سُبْحَانَهُ أَوَّلًا أَنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَهُنَا ذَكَرَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِجَمِيعِ مَا فِيهِ، بَلْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا. وَقَوْلُهُ: مُصَدِّقاً «1» مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالطَّمْسُ: اسْتِئْصَالُ أَثَرِ الشَّيْءِ، ومنه فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ يُقَالُ: نَطْمِسُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا: لُغَتَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُقَالُ: طَمَسَ الْأَثَرَ، أَيْ: مَحَاهُ كُلَّهُ، ومنه رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ «2» أَيْ: أَهْلِكْهَا وَيُقَالُ: هُوَ مَطْمُوسُ الْبَصَرِ، وَمِنْهُ وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ «3» أَيْ: أَعْمَيْنَاهُمْ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ؟ فَيَجْعَلُ الْوَجْهَ كَالْقَفَا، فَيَذْهَبُ بِالْأَنْفِ وَالْفَمِ وَالْحَاجِبِ وَالْعَيْنِ أَوْ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّلَالَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَسَلْبِهِمُ التَّوْفِيقَ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ طَائِفَةٌ، وَذَهَبَ إِلَى الْآخَرِ آخَرُونَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها نَجْعَلُهَا قَفًا، أَيْ: نَذْهَبُ بِآثَارِ الْوَجْهِ، وَتَخْطِيطِهِ، حَتَّى يَصِيرَ عَلَى هَيْئَةِ الْقَفَا وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعْدَ الطَّمْسِ يَرُدُّهَا إِلَى مَوْضِعِ الْقَفَا، وَالْقَفَا إِلَى مَوَاضِعِهَا، وَهَذَا هُوَ أَلْصَقُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها فإن قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُهَدِّدَهُمْ بِطَمْسِ الْوُجُوهِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِهِمْ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا آمَنَ هَؤُلَاءِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ رُفِعَ الْوَعِيدُ عَنِ الْبَاقِينَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْوَعِيدُ بَاقٍ مُنْتَظَرٌ، وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ طَمْسٍ في اليهود، ومسخ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَصْحَابِ الْوُجُوهِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِاللَّعْنِ هُنَا الْمَسْخُ لِأَجْلِ تَشْبِيهِهِ بِلَعْنِ أَصْحَابِ السَّبْتِ، وَكَانَ لَعْنُ أَصْحَابِ السَّبْتِ مَسْخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ اللَّعْنَةِ وَهُمْ مَلْعُونُونَ بِكُلِّ لِسَانٍ. وَالْمُرَادُ وُقُوعُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الطَّمْسُ، أَوِ اللَّعْنُ. وَقَدْ وَقَعَ اللَّعْنُ، وَلَكِنَّهُ يُقَوِّي الْأَوَّلَ تَشْبِيهُ هَذَا اللَّعْنِ بِلَعْنِ أَهْلِ السَّبْتِ. قَوْلُهُ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أَيْ: كَائِنًا مَوْجُودًا لَا مَحَالَةَ، أَوْ يُرَادُ بِالْأَمْرِ الْمَأْمُورُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَتَى أَرَادَهُ كَانَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «4» . قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «5» هَذَا الْحُكْمُ يَشْمَلُ جَمِيعَ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَخْتَصُّ بِكُفَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالُوا: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. لا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَغْفِرَةِ الَّتِي تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهَا عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الشِّرْكِ حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَدَاخِلُونَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَدْ أَبَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ كُلَّ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرَتُهُ شِرْكًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَظَاهِرُهُ: أَنَّ الْمَغْفِرَةَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ تَكُونُ لِمَنِ اقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُهُ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْ ذَلِكَ الْمُذْنِبِ تَوْبَةٌ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِالتَّوْبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «6» وَهِيَ تَدُلُّ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَغْفِرُ سَيِّئَاتِ مَنِ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، فَيَكُونُ مُجْتَنِبُ الْكَبَائِرِ مِمَّنْ قَدْ شَاءَ اللَّهُ غُفْرَانَ سَيِّئَاتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بن التابوت من عظماء اليهود، إذا كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لوى لسانه وقال: أرعنا

_ (1) . المرسلات: 8. (2) . يونس: 88. (3) . يس: 66. (4) . يس: 82. (5) . النساء: 48. (6) . النساء: 31.

سَمْعَكَ يَا مُحَمَّدُ حَتَّى نَفْهَمَكَ، ثُمَّ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ وَعَابَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يَعْنِي: يُحَرِّفُونَ حُدُودَ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ قَالَ: تَبْدِيلُ الْيَهُودِ التَّوْرَاةَ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا قَالُوا: سَمِعْنَا مَا تَقُولُ وَلَا نُطِيعُكَ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ قَالَ: غَيْرَ مَقْبُولٍ مَا تَقُولُ لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ قَالَ: خِلَافًا يَلْوُونَ بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا قَالَ: أَفْهِمْنَا لَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ قَالَ: يَقُولُونَ اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤَسَاءُ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ! اتَّقُوا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا، فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق. فَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ! وَأَنْزَلَ الله فيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً قَالَ: طَمْسُهَا أَنْ تَعْمَى فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها يَقُولُ: نَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ مِنْ قِبَلِ أَقْفِيَتِهِمْ فَيَمْشُونَ الْقَهْقَرَى، وَنَجْعَلُ لِأَحَدِهِمْ عَيْنَيْنِ فِي قَفَاهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً يَقُولُ: عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها قَالَ: فِي الضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ لِيَ ابْنَ أَخٍ لَا يَنْتَهِي عَنِ الْحَرَامِ، قَالَ: وَمَا دِينُهُ؟ قَالَ: يُصَلِّي وَيُوَحِّدُ اللَّهَ، قَالَ: اسْتَوْهِبْ مِنْهُ دِينَهُ فَإِنْ أَبَى فَابْتَعْهُ مِنْهُ، فَطَلَبَ الرَّجُلُ مِنْهُ ذَلِكَ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: وَجَدْتُهُ شَحِيحًا عَلَى دِينِهِ، فَنَزَلَتْ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية. وأخرج ابن الضريس، وأبو الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَدِيٍّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نُمْسِكُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ حَتَّى سَمِعْنَا مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَقَالَ: «إِنِّي ادَّخَرْتُ دَعْوَتِي وَشَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي، فَأَمْسَكْنَا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا كَانَ فِي أَنْفُسِنَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عرم قال: لما نزلت يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «1» الْآيَةَ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: وَالشِّرْكُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ أَنَّ سُؤَالَ هَذَا الرَّجُلِ هُوَ سَبَبُ نُزُولِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَغْفِرَةَ عَلَى مَنْ مَاتَ وَهُوَ كَافِرٌ، وَأَرْجَأَ أَهْلَ التَّوْحِيدِ إِلَى مَشِيئَتِهِ، فَلَمْ يُؤَيِّسْهُمْ مِنَ الْمَغْفِرَةِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَحَبُّ آيَةٍ إِلَيَّ فِي الْقُرْآنِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية.

_ (1) . الزمر: 53.

[سورة النساء (4) : الآيات 49 إلى 55]

[سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 55] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: الْيَهُودُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي زَكَّوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «1» وَقَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «2» وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ قَوْلُهُمْ: لَا ذُنُوبَ لَنَا وَنَحْنُ كَالْأَطْفَالِ وَقِيلَ: قَوْلُهُمْ: إِنَّ آبَاءَهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ وَقِيلَ: ثَنَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَمَعْنَى التَّزْكِيَةِ: التَّطْهِيرُ وَالتَّنْزِيهُ، فَلَا يَبْعُدُ صِدْقُهَا عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ وَعَلَى غَيْرِهَا، وَاللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِحَقٍّ أَوْ بِبَاطِلٍ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا التَّلَقُّبُ بِالْأَلْقَابِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلتَّزْكِيَةِ: كَمُحْيِي الدِّينِ، وَعِزِّ الدِّينِ، وَنَحْوِهِمَا. قَوْلُهُ: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أَيْ: ذَلِكَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ الْعَالِمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ التَّزْكِيَةَ مِنْ عِبَادِهِ وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، فَلْيَدَعِ الْعِبَادُ تَزْكِيَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَيُفَوِّضُوا أَمْرَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ تَزْكِيَتَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُجَرَّدُ دَعَاوَى فَاسِدَةٍ، تُحْمَلُ عَلَيْهَا مَحَبَّةُ النَّفْسِ، وَطَلَبُ الْعُلُوِّ، وَالتَّرَفُّعِ وَالتَّفَاخُرِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى «3» . قوله: وَلا يُظْلَمُونَ أَيْ: هَؤُلَاءِ الْمُزَكُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ فَتِيلًا وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي فِي نَوَاةِ التَّمْرِ، وَقِيلَ: الْقِشْرَةُ الَّتِي حَوْلَ النَّوَاةِ وَقِيلَ: هُوَ مَا يَخْرُجُ بَيْنَ أُصْبُعَيْكَ أَوْ كَفَّيْكَ مِنَ الْوَسَخِ إِذَا فَتَلْتَهُمَا، فَهُوَ فَتِيلٌ بِمَعْنَى مَفْتُولٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الْكِنَايَةُ عَنِ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ، وَمِثْلُهُ: وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً وَهُوَ النُّكْتَةُ الَّتِي فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَزْكِيَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِقَدْرِ هَذَا الذَّنْبِ، وَلَا يُظْلَمُونَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى مَنْ يَشاءُ أَيْ: لَا يُظْلَمُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُزَكِّيهِمُ اللَّهُ فَتِيلًا مِمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الثَّوَابِ، ثُمَّ عَجِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنْ تَزْكِيَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ فَقَالَ: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ. وَالِافْتِرَاءُ: الِاخْتِلَاقُ، وَمِنْهُ: افْتَرَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ: رَمَاهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَفَرَيْتُ الشَّيْءَ: قَطَعْتُهُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً مِنْ تَعْظِيمِ الذَّنْبِ وَتَهْوِيلِهِ مَا لَا يَخْفَى. قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ بَعْدَ التَّعْجِيبِ الْأَوَّلِ وَهُمُ الْيَهُودُ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْجِبْتِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: الْجِبْتُ: السَّاحِرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَالطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ الْجِبْتَ: السِّحْرُ، وَالطَّاغُوتَ: الشَّيْطَانُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ الْجِبْتَ وَالطَّاغُوتَ هَاهُنَا: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجِبْتُ: الشَّيْطَانُ، وَالطَّاغُوتُ الْكَاهِنُ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الطَّاغُوتَ: مَا عُبِدَ من دون الله، والجبت: الشيطان وقيل:

_ (1) . المائدة: 18. (2) . البقرة: 111. [.....] (3) . النجم: 32.

هُمَا كَلُّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْ مُطَاعٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَأَصْلُ الْجِبْتِ: الْجِبْسُ «1» ، وهو الذي لا خير فِيهِ، فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ مِنَ السِّينِ قَالَهُ قُطْرُبٌ وَقِيلَ: الْجِبْتُ: إِبْلِيسُ، وَالطَّاغُوتُ: أَوْلِيَاؤُهُ. قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ بَعْدَ التعجيب الأوّل، وهم اليهود، أَيْ: يَقُولُ الْيَهُودُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ: أَنْتُمْ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ سَبِيلًا، أَيْ: أَقْوَمُ دِينًا، وَأَرْشَدُ طَرِيقًا. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَائِلِينَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَيْ: طَرَدَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً يَدْفَعُ عَنْهُ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ. قَوْلُهُ: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ أَمْ: مُنْقَطِعَةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، يَعْنِي: لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً وَالْفَاءُ: لِلسَّبَبِيَّةِ الْجَزَائِيَّةِ لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْ جُعِلَ لَهُمْ نَصِيبٌ من الملك فإذن لا يعطون الناس نقيرا منه لشدّة بخلهم وقوّة حسدهم وقيل: المعنى: بل لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَمْ: الْإِضْرَابُ عَنِ الْأَوَّلِ وَالِاسْتِئْنَافِ لِلثَّانِي وَقِيلَ: هِيَ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَهُمْ أَوْلَى بِالنُّبُوَّةِ مِمَّنْ أَرْسَلْتُهُ، أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذَنْ لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا؟ وَالنَّقِيرُ: النَّقْرَةُ فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ وَقِيلَ: مَا نَقَرَ الرَّجُلُ بِأُصْبُعِهِ كَمَا يَنْقُرُ الْأَرْضَ. وَالنَّقِيرُ أَيْضًا: خَشَبَةٌ تُنْقَرُ وَيُنْبَذُ فِيهَا. وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ النَّقِيرِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَالنَّقِيرُ: الْأَصْلُ، يُقَالُ: فُلَانٌ كَرِيمُ النَّقِيرِ، أَيْ: كَرِيمُ الْأَصْلِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحَقَارَةِ، كَالْقِطْمِيرِ وَالْفَتِيلِ. وَإِذَنْ هُنَا: مُلْغَاةٌ غَيْرُ عَامِلَةٍ، لِدُخُولِ فَاءِ الْعَطْفِ عَلَيْهَا، وَلَوْ نَصَبَ لَجَازَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِذَنْ: فِي عَوَامِلِ الْأَفْعَالِ بِمَنْزِلَةِ أَظُنُّ فِي عوامل الأسماء التي تلغى إذا لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَكَانَ الَّذِي بَعْدَهَا مُسْتَقْبَلًا نَصَبَتْ. قَوْلُهُ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَمْ: مُنْقَطِعَةٌ مُفِيدَةٌ لِلِانْتِقَالِ عَنْ تَوْبِيخِهِمْ بِأَمْرٍ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ بِآخَرَ: أَيْ: بَلْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ، يَعْنِي: الْيَهُودَ يَحْسُدُونَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَطْ، أَوْ يَحْسُدُونَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالنَّصْرِ وَقَهْرِ الْأَعْدَاءِ. قَوْلُهُ: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ هَذَا إِلْزَامٌ لِلْيَهُودِ بِمَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ وَلَا يُنْكِرُونَهُ، أَيْ: لَيْسَ مَا آتَيْنَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ مِنْ فَضْلِنَا بِبِدْعٍ حَتَّى يَحْسُدَهُمُ الْيَهُودُ عَلَى ذَلِكَ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ بِمَا آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ، وَهُمْ أَسْلَافُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ. وَالْمُلْكِ الْعَظِيمِ: قِيلَ: هُوَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فَمِنْهُمْ أَيِ: الْيَهُودِ مَنْ آمَنَ بِهِ أي: بالنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أَيْ: أَعْرَضَ عَنْهُ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ: رَاجِعٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. وَالْمَعْنَى: فَمِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ مَنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أَيْ: نَارًا مُسَعَّرَةً. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إن آباءنا قد توفوا وهم لنا

_ (1) . قال في لسان العرب: الجبس: الجبان الفدم، وقيل: الضعيف اللئيم، وقيل: الثقيل الذي لا يجيب إلى خير.

قُرْبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَسَيَشْفَعُونَ لَنَا وَيُزَكُّونَنَا، فَقَالَ الله لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ يُقَدِّمُونَ صِبْيَانَهُمْ يُصَلُّونَ بِهِمْ، وَيُقَرِّبُونَ قُرْبَانَهُمْ، وَيَزْعُمُونَ: أَنَّهُمْ لَا خَطَايَا لَهُمْ وَلَا ذُنُوبَ، وكذبوا. قال الله: إني لا أطهر ذَا ذَنْبٍ بِآخَرَ لَا ذَنْبَ لَهُ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ التَّزْكِيَةَ: قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «1» وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «2» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا قَالَ: الْفَتِيلُ: مَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ الْأُصْبُعَيْنِ. وَفِي لَفْظٍ آخَرَ عَنْهُ: هُوَ أَنْ تُدَلِّكَ بَيْنَ أُصْبُعَيْكَ، فَمَا خَرَجَ مِنْهُمَا فَهُوَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: النَّقِيرُ: النَّقْرَةُ تَكُونُ فِي النَّوَاةُ الَّتِي نَبَتَتْ مِنْهَا النَّخْلَةُ. وَالْفَتِيلُ: الَّذِي يَكُونُ عَلَى شِقِّ النَّوَاةِ. وَالْقِطْمِيرُ: الْقِشْرُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى النَّوَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ: قَالَ: الْفَتِيلُ: الَّذِي فِي الشِّقِّ الَّذِي فِي بَطْنِ النَّوَاةِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ عَلَى قُرَيْشٍ فحالفوهم عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ الْقَدِيمِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فَأَخْبِرُونَا عَنَّا وَعَنْ مُحَمَّدٍ، قَالُوا: مَا أَنْتُمْ وَمَا مُحَمَّدٌ؟ قَالُوا: نَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ، وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ، وَنَفُكُّ الْعُنَاةَ، وَنَسْقِي الْحَجِيجَ، وَنَصِلُ الْأَرْحَامَ، قَالُوا: فَمَا مُحَمَّدٌ؟ قَالُوا: صُنْبُورٌ، أَيْ: فَرْدٌ ضَعِيفٌ، قَطَعَ أَرْحَامَنَا، وَاتَّبَعَهُ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ بَنُو غِفَارٍ فَقَالُوا: لَا بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَهْدَى سَبِيلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ بِلَفْظٍ آخَرَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْجِبْتُ وَالطَّاغُوتُ صَنَمَانِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ فِي تَفْسِيرِ الْجِبْتِ والطاغوت ما قدّمناه عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْجِبْتُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَالطَّاغُوتُ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْجِبْتُ: الْأَصْنَامُ، وَالطَّاغُوتُ: الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ الْأَصْنَامِ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا الْكَذِبَ لِيُضِلُّوا النَّاسَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْجِبْتُ: اسْمُ الشَّيْطَانِ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَالطَّاغُوتُ: كُهَّانُ الْعَرَبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ قَالَ: فَلَيْسَ لهم نصيب، ولو كان لهن نَصِيبٌ لَمْ يُؤْتُوا النَّاسَ نَقِيرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: النَّقِيرُ: النُّقْطَةُ الَّتِي فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: زَعَمَ مُحَمَّدٌ: أَنَّهُ أُوتِيَ مَا أُوتِيَ فِي تَوَاضُعٍ وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ وَلَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا النِّكَاحَ، فَأَيُّ مُلْكٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ: مُلْكاً عَظِيماً يَعْنِي: مُلْكَ سُلَيْمَانَ. وَأَخْرَجَ عبد بن حميد،

_ (1) . المائدة: 18. (2) . البقرة: 111.

[سورة النساء (4) : الآيات 56 إلى 57]

وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: النَّبِيُّ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هُمُ هذا الحيّ من العرب. [سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) قَوْلُهُ: بِآياتِنا الظَّاهِرُ عَدَمُ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْآيَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وسَوْفَ كلمة تذكر للتهديد قال سِيبَوَيْهِ: وَيَنُوبُ عَنْهَا السِّينُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى: نُصْلِي، فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَالْمُرَادُ: سَوْفَ نُدْخِلُهُمْ نَارًا عَظِيمَةً. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: نُصْلِيهِمْ بِفَتْحِ النُّونِ. قَوْلُهُ: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ يُقَالُ: نَضِجَ الشَّيْءُ نُضْجًا وَنِضَاجًا، وَنَضِجَ اللَّحْمُ، وَفُلَانٌ نَضِجُ الرَّأْيِ: أَيْ: مُحْكَمُهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا كُلَّمَا احْتَرَقَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلَهُمُ اللَّهُ جُلُودًا غَيْرَهَا، أَيْ: أَعْطَاهُمْ مَكَانَ كُلِّ جِلْدٍ مُحْتَرِقٍ جِلْدًا آخَرَ غَيْرَ مُحْتَرِقٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْعَذَابِ لِلشَّخْصِ، لِأَنَّ إِحْسَاسَهُ لِعَمَلِ النَّارِ فِي الْجِلْدِ الَّذِي لَمْ يَحْتَرِقْ أَبْلَغُ مِنْ إِحْسَاسِهِ لِعَمَلِهَا فِي الْجِلْدِ الْمُحْتَرِقِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْجُلُودِ: السَّرَابِيلُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ «1» وَلَا مُوجِبَ لِتَرْكِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ هَاهُنَا، وَإِنْ جَازَ إِطْلَاقُ الْجُلُودِ عَلَى السَّرَابِيلِ مَجَازًا كَمَا في قول الشاعر: كسا اللّوم تَيْمًا خُضْرَةً فِي جُلُودِهَا ... فَوَيْلٌ لِتَيْمٍ مِنْ سَرَابِيلِهَا الْخُضْرِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَعَدْنَا الْجِلْدَ الْأَوَّلَ جَدِيدًا، وَيَأْبَى ذَلِكَ مَعْنَى التَّبْدِيلِ. قَوْلُهُ: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أَيْ: لِيَحْصُلَ لَهُمُ الذَّوْقُ الْكَامِلُ بِذَلِكَ التَّبْدِيلِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لِيَدُومَ لَهُمُ الْعَذَابُ وَلَا يَنْقَطِعَ، ثُمَّ أَتْبَعَ وَصْفَ حَالِ الْكُفَّارِ بِوَصْفِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجَنَّاتِ الَّتِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. قَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أَيْ: مِنَ الْأَدْنَاسِ الَّتِي تَكُونُ فِي نِسَاءِ الدُّنْيَا. وَالظِّلُّ الظَّلِيلُ: الْكَثِيفُ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ مَا يَدْخُلُ ظِلَّ الدُّنْيَا مِنَ الْحَرِّ وَالسَّمُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقِيلَ: هُوَ مَجْمُوعُ ظِلِّ الْأَشْجَارِ وَالْقُصُورِ وَقِيلَ: الظِّلُّ الظَّلِيلُ: هُوَ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَزُولُ، وَاشْتِقَاقُ الصِّفَةِ مِنْ لَفْظِ الْمَوْصُوفِ: لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ أَلِيلٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ قَالَ: إِذَا احْتَرَقَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا بَيْضَاءَ أَمْثَالَ الْقَرَاطِيسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ قَالَ: قُرِئَ عِنْدَ عُمَرَ كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ الْآيَةَ، فَقَالَ مُعَاذٌ: عِنْدِي تَفْسِيرُهَا: تُبَدَّلُ فِي سَاعَةٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَكَذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ: أَنَّ الْقَائِلَ كَعْبٌ، وَأَنَّهُ قَالَ: تُبَدَّلُ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةَ مَرَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ غِلَظَ جِلْدِ الْكَافِرِ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: ظِلًّا ظَلِيلًا قَالَ: هُوَ ظِلُّ العرش الذي لا يزول.

_ (1) . إبراهيم: 50.

[سورة النساء (4) : آية 58]

[سورة النساء (4) : آية 58] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْخِطَابَ يَشْمَلُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: أَنَّهَا خِطَابٌ لِوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَوُرُودُهَا عَلَى سَبَبٍ كَمَا سَيَأْتِي لَا يُنَافِي مَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَتَدْخُلُ الْوُلَاةُ فِي هَذَا الْخِطَابِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ تَأْدِيَةُ مَا لَدَيْهِمْ مِنَ الْأَمَانَاتِ، وَرَدُّ الظُّلَامَاتِ، وَتَحَرِّي الْعَدْلِ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَيَدْخُلُ غَيْرُهُمْ مِنَ النَّاسِ فِي الْخِطَابِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ رَدٌّ مَا لَدَيْهِمْ مِنَ الْأَمَانَاتِ، وَالتَّحَرِّي فِي الشَّهَادَاتِ وَالْأَخْبَارِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِعُمُومِ هَذَا الْخِطَابِ: الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَاخْتَارَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَجْمَعُوا: عَلَى أَنَّ الْأَمَانَاتِ مَرْدُودَةٌ إِلَى أَرْبَابِهَا: الْأَبْرَارُ مِنْهُمْ وَالْفُجَّارُ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَالْأَمَانَاتُ: جَمْعُ أَمَانَةٍ، وَهِيَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. قَوْلُهُ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أَيْ: وَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. وَالْعَدْلُ: هُوَ فَصْلُ الْحُكُومَةِ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا الْحُكْمُ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ، إِلَّا إِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلُ تِلْكَ الْحُكُومَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، فَلَا بَأْسَ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ مِنَ الْحَاكِمِ الَّذِي يَعْلَمُ بِحُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَبِمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ، وَأَمَّا الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يَدْرِي بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا بِمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِمَا، فَهُوَ لَا يَدْرِي مَا هُوَ الْعَدْلُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْحُجَّةَ إِذَا جَاءَتْهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا بَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: نِعِمَّا مَا مَوْصُوفَةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْبَحْثَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فتح مكة، وقبض مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، نزل جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِرَدِّ الْمِفْتَاحِ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ وَرَدَّهُ إِلَيْهِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ لَمَّا قبض منه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ فَدَعَاهُ وَدَفَعَهُ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: حَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَأَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ، وَأَنْ يُطِيعُوا، وَأَنْ يُجِيبُوا إِذَا دُعُوا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ مَنْ خَانَ إِذَا اؤْتُمِنَ فَفِيهِ خَصْلَةٌ من خصال النفاق. [سورة النساء (4) : آية 59] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)

لَمَّا أَمَرَ سُبْحَانَهُ الْقُضَاةَ وَالْوُلَاةَ إِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْحَقِّ، أَمْرَ النَّاسَ بِطَاعَتِهِمْ هَاهُنَا، وَطَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هِيَ: امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ هِيَ: فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. وَأُولِي الْأَمْرِ: هُمُ الْأَئِمَّةُ، وَالسَّلَاطِينُ، وَالْقُضَاةُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا وِلَايَةٌ طَاغُوتِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً، فَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ أُولِي الْأَمْرِ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالضَّحَّاكُ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُمْ أصحاب محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُمْ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، وَالرَّاجِحُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الْمُنَازَعَةُ: الْمُجَاذَبَةُ، وَالنَّزْعُ: الْجَذْبُ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَنْتَزِعُ حُجَّةَ الْآخَرِ وَيَجْذِبُهَا، وَالْمُرَادُ: الِاخْتِلَافُ وَالْمُجَادَلَةُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فِي شَيْءٍ يَتَنَاوَلُ أُمُورَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ يَخْتَصُّ بِأُمُورِ الدِّينِ دُونَ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ: هُوَ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ: هُوَ الرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَالرَّدُّ إِلَيْهِ: سُؤَالُهُ، هَذَا مَعْنَى الرَّدِّ إِلَيْهِمَا وَقِيلَ: مَعْنَى الرَّدِّ: أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ قَوْلٌ سَاقِطٌ، وَتَفْسِيرٌ بَارِدٌ، وَلَيْسَ الرَّدُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الرَّدَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «1» قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّدَّ مُتَحَتِّمٌ عَلَى الْمُتَنَازِعِينَ، وَإِنَّهُ شَأْنُ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الرَّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَيْ: مرجعا، من الأوّل: آل، يؤول إِلَى كَذَا، أَيْ: صَارَ إِلَيْهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الرَّدَّ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَحْسَنُ مَرْجِعًا تَرْجِعُونَ إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ الرَّدَّ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا مِنْ تَأْوِيلِكُمُ الَّذِي صِرْتُمْ إِلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ، إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، وَقِصَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: طَاعَةُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ: اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأُولِي الْأَمْرِ قَالَ: أُولِي الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ هُمُ الْأُمَرَاءُ، وَفِي لَفْظٍ: هُمْ أُمَرَاءُ السَّرَايَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قَالَ: أَهْلُ الْعِلْمِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ قَالَ: إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. ثُمَّ قَرَأَ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مَيْمُونِ بن مهران في الآية قال: الردّ

_ (1) . النساء: 83.

[سورة النساء (4) : الآيات 60 إلى 65]

إِلَى اللَّهِ: الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى رَسُولِهِ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا قُبِضَ فَإِلَى سُنَّتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا يَقُولُ: ذَلِكَ أَحْسَنُ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عَاقِبَةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا قَالَ: وَأَحْسَنُ جَزَاءً. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ، ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، مُقَيَّدَةٌ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْمَعْرُوفِ، وَأَنَّهُ لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. [سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 65] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ فِيهِ تَعْجِيبٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ادَّعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- وَهُوَ الْقُرْآنُ- وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قبله من الأنبياء، فجاؤوا بِمَا يَنْقُضُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَيُبْطِلُهَا مِنْ أَصْلِهَا، وَيُوَضِّحُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا، وَهُوَ إِرَادَتُهُمُ التَّحَاكُمُ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَدْ أُمِرُوا فِيمَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلَى مَنْ قَبْلَهُ، أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَبِهِ يَتَّضِحُ مَعْنَاهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الطَّاغُوتِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي مَعْنَاهُ. قَوْلُهُ: وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ وَالْجُمْلَتَانِ مَسُوقَتَانِ لِبَيَانِ مَحَلِّ التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَفْعَلُونَ؟ فَقِيلَ: يُرِيدُونَ كَذَا، وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ كذا. وقوله: ضَلالًا مصدر لفعل الْمَذْكُورِ بِحَذْفِ الزَّوَائِدِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «1» أَوْ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الْمَذْكُورُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يضلهم فيضلون ضلالا. وَالصُّدُودُ: اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ، وَهُوَ الصَّدُّ عِنْدَ الْخَلِيلِ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ: أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ، أَيْ: يُعْرِضُونَ عَنْكَ إِعْرَاضًا. قَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بَيَانٌ لِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَمَا صَارَ إِلَيْهِ حَالُهُمْ، أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ؟ أَيْ: وَقْتَ إِصَابَتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَعْجِزُونَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الدَّفْعِ. وَالْمُرَادُ: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا: التَّحَاكُمُ إِلَى الطَّاغُوتِ، ثُمَّ جاؤُكَ يَعْتَذِرُونَ عَنْ فِعْلِهِمْ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى أَصابَتْهُمْ وَقَوْلُهُ: يَحْلِفُونَ حَالٌ: أَيْ: جَاءُوكَ حَالَ كَوْنِهِمْ حالفين إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً

_ (1) . نوح: 17.

أَيْ: مَا أَرَدْنَا بِتَحَاكُمِنَا إِلَى غَيْرِكَ إِلَّا الْإِحْسَانَ لَا الْإِسَاءَةَ، وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ لَا الْمُخَالَفَةَ لَكَ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَعْنَاهُ: مَا أَرَدْنَا إِلَّا عَدْلًا وَحَقًّا، مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى «1» فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالْعَدَاوَةِ لِلْحَقِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيْ: عَنْ عِقَابِهِمْ، وَقِيلَ: عَنْ قَبُولِ اعْتِذَارِهِمْ وَعِظْهُمْ أَيْ: خَوِّفْهُمْ مِنَ النِّفَاقِ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: قُلْ لَهُمْ خَالِيًا بِهِمْ لَيْسَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ قَوْلًا بَلِيغاً أَيْ: بَالِغًا فِي وَعْظِهِمْ إِلَى الْمَقْصُودِ، مُؤَثِّرًا فِيهِمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَوَعَّدَهُمْ بِسَفْكِ دِمَائِهِمْ، وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ، وَسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ مِنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ إِلَّا لِيُطاعَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ بِعِلْمِهِ، وَقِيلَ: بِتَوْفِيقِهِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ طَاعَتِكَ والتحاكم إلى غيرك جاؤُكَ مُتَوَسِّلِينَ إِلَيْكَ، مُتَنَصِّلِينَ عَنْ جِنَايَاتِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لِذُنُوبِهِمْ، وَتَضَرَّعُوا إِلَيْكَ حَتَّى قُمْتَ شَفِيعًا لَهُمْ فَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، لِقَصْدِ التَّفْخِيمِ لِشَأْنِ الرسول صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً أَيْ: كَثِيرَ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ، وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ. قَوْلُهُ: فَلا وَرَبِّكَ قال ابن جرير: فَلا رَدٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرَهُ، تَقْدِيرُهُ: فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ بِقَوْلِهِ: وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدَّمَ «لَا» عَلَى الْقَسَمِ اهْتِمَامًا بِالنَّفْيِ، وَإِظْهَارًا لِقُوَّتِهِ، ثُمَّ كَرَّرَهُ بَعْدَ الْقَسَمِ تَأْكِيدًا وَقِيلَ: لَا: مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقَسَمِ لَا لِتَأْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَوَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «2» حَتَّى يُحَكِّمُوكَ أي: يجعلوك حَكَمًا بَيْنَهُمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، لَا يُحَكِّمُونَ أَحَدًا غَيْرَكَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْكَ، وَلَا مُلْجِئَ لِذَلِكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أَيِ: اخْتَلَفَ بَيْنَهُمْ وَاخْتَلَطَ، وَمِنْهُ: الشَّجَرُ لِاخْتِلَافِ أَغْصَانِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ طُرْفَةَ: وَهُمُ الْحُكَّامُ أَرْبَابُ الْهُدَى ... وَسُعَاةُ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ الشَّجَرْ أَيِ: الْمُخْتَلِفِ، وَمِنْهُ: تَشَاجُرُ الرِّمَاحِ، أَيْ: اخْتِلَافُهَا ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ قِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَنْسَاقُ إِلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ: فَتَقْضِيَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا. وَالْحَرَجُ: الضِّيقُ: وَقِيلَ: الشَّكُّ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ: حَرَجٌ، وَحَرِجَةٌ، وَجَمْعُهَا: حِرَاجٌ وَقِيلَ: الْحَرَجُ: الْإِثْمُ، أَيْ: لَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ إِثْمًا بِإِنْكَارِهِمْ مَا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أَيْ: يَنْقَادُوا لِأَمْرِكَ وَقَضَائِكَ انْقِيَادًا لَا يُخَالِفُونَهُ فِي شَيْءٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَسْلِيماً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، أَيْ: وَيُسَلَّمُونَ لِحُكْمِكَ تَسْلِيمًا لَا يُدْخِلُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَكًّا وَلَا شُبْهَةً فِيهِ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذَا شَامِلٌ لِكُلِّ فَرْدٍ من كُلِّ حُكْمٍ، كَمَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ فلا يختص بالمقصودين بقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وهذا في حياته صلّى الله عليه وسلم، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ: فَتَحْكِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَتَحْكِيمُ الْحَاكِمِ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ إِذَا كَانَ لَا يَحْكُمُ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، وَكَانَ يَعْقِلُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ حُجَجِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بِأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وما يتعلق بها: من نحو، وتصريف،

_ (1) . التوبة: 107. (2) . الواقعة: 75.

ومعاني، وَبَيَانٍ، عَارِفًا بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، بَصِيرًا بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، مُمَيِّزًا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَمَا يَلْحَقُ بِهِ، وَالضَّعِيفِ وَمَا يَلْحَقُ بِهِ، مُنْصِفًا غَيْرَ مُتَعَصِّبٍ لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ وَلَا لِنِحْلَةٍ مِنَ النِّحَلِ. وَرِعًا لَا يَحِيفُ وَلَا يَمِيلُ فِي حُكْمِهِ، فَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ قَائِمٌ فِي مَقَامِ النُّبُوَّةِ، مُتَرْجَمٌ عَنْهَا، حَاكِمٌ بِأَحْكَامِهَا، وَفِي هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ: مَا تَقْشَعِرُّ لَهُ الْجُلُودُ، وَتَرْجُفُ لَهُ الْأَفْئِدَةُ. فَإِنَّهُ أَوَّلًا أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ، مُؤَكِّدًا لِهَذَا الْقَسَمِ بِحَرْفِ النَّفْيِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَنَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ رَأْسُ مَالِ صَالِحِي عِبَادِ اللَّهِ، حَتَّى تَحْصُلَ لَهُمْ غَايَةٌ، هِيَ: تَحْكِيمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ فَضَمَّ إِلَى التَّحْكِيمِ أَمْرًا آخَرَ، هُوَ عَدَمُ وُجُودِ حَرَجٍ، أَيْ حَرَجٍ، فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ التَّحْكِيمِ وَالْإِذْعَانِ كَافِيًا حَتَّى يَكُونَ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ عَنْ رِضًا، وَاطْمِئْنَانٍ، وَانْثِلَاجِ قَلْبٍ، وَطِيبِ نَفْسٍ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِهَذَا كُلِّهِ، بَلْ ضَمَّ إِلَيْهِ قَوْلَهُ: وَيُسَلِّمُوا أَيْ: يُذْعِنُوا وَيَنْقَادُوا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ، بَلْ ضَمَّ إِلَيْهِ الْمَصْدَرَ الْمُؤَكِّدَ فَقَالَ: تَسْلِيماً فَلَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ لِعَبْدٍ حَتَّى يَقَعَ مِنْهُ هَذَا التَّحْكِيمُ، وَلَا يَجِدَ الْحَرَجَ فِي صَدْرِهِ بِمَا قُضِيَ عَلَيْهِ، وَيُسَلِّمُ لِحُكْمِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ، تَسْلِيمًا لَا يُخَالِطُهُ رَدٌّ وَلَا تَشُوبُهُ مُخَالَفَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: كان أبو بَرْزَةُ الْأَسْلَمِيُّ كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ فِيمَا يَتَنَافَرُونَ فِيهِ، فَتَنَافَرَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ الْجُلَاسُ بْنُ الصَّامِتِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ، وَمُعَقِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَرَافِعُ بْنُ زَيْدٍ، كَانُوا يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ، فَدَعَاهُمْ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي خُصُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْكُهَّانِ، حُكَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ قَالَ: الطَّاغُوتُ: رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ كَانَ يُقَالُ لَهُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَانُوا إِذَا مَا دُعُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ قَالُوا: بَلْ نُحَاكِمُكُمْ إِلَى كَعْبٍ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ خَاصَمَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مع النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجٍ مِنَ الْحَرَّةِ، وَكَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كِلَاهُمَا النَّخْلَ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، وَاسْتَوْعَى «1» رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ أَرَادَ فِيهِ سَعَةً لَهُ وَلِلْأَنْصَارِيِّ، فَلَمَّا أَحْفَظَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، اسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِلَّا فِي ذَلِكَ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حاتم، وابن

_ (1) . استوعى له حقه: أي استوفاه كله.

[سورة النساء (4) : الآيات 66 إلى 70]

مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ: أَنَّهُ اخْتَصَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَقَضَى بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: رُدَّنَا إِلَى عُمَرَ، فَرَدَّهُمَا، فَقَتَلَ عُمَرُ الَّذِي قَالَ رُدَّنَا، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَأَهْدَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم دم المقتول. وأخرجه التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ مَكْحُولٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ عُمَرُ كَانَ مُنَافِقًا، وَهُمَا مُرْسَلَانِ، وَالْقِصَّةُ غَرِيبَةٌ، وَابْنُ لَهِيعَةَ فيه ضعف. [سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 70] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) لَوْ: حَرْفُ امْتِنَاعٍ، وَأَنْ: مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ تَفْسِيرِيَّةٌ، لَأَنَّ كَتَبْنا فِي مَعْنَى: أَمَرْنَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَوْ كَتَبَ الْقَتْلَ وَالْخُرُوجَ مِنَ الدِّيَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَوْجُودِينَ مِنَ الْيَهُودِ مَا فَعَلَهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، أَوْ: لَوْ كَتَبَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا فَعَلَهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَعَلُوهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَكْتُوبِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَتَبْنَا، أَوْ إِلَى الْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِمَا بِالْفِعْلَيْنِ، وَتَوْحِيدُ الضَّمِيرِ فِي مِثْلِ هَذَا قَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَهُ. قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلٌ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: إِلَّا قَلِيلًا: بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَكَذَا هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ، وَالرَّفْعُ أَجْوَدُ عِنْدَ النُّحَاةِ. قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّرْعِ وَالِانْقِيَادِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لَكانَ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً لِأَقْدَامِهِمْ عَلَى الْحَقِّ فَلَا يضطربون في أمر دينهم وَإِذاً أَيْ: وَقْتَ فِعْلِهِمْ لِمَا يُوعَظُونَ بِهِ لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً لَا عِوَجَ فِيهِ، لِيَصِلُوا إِلَى الْخَيْرِ الَّذِي يَنَالُهُ مَنِ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَانْقَادَ لِمَنْ يَدْعُوهُ إِلَى الْحَقِّ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، لِبَيَانِ فَضْلِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ إِلَى الْمُطِيعِينَ، كَمَا تُفِيدُهُ مِنْ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالْوُصُولِ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ. وَالصِّدِّيقُ: الْمُبَالِغُ فِي الصِّدْقِ، كَمَا تُفِيدُهُ الصِّيغَةُ وَقِيلَ: هُمْ فُضَلَاءُ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالشُّهَدَاءِ: مَنْ ثَبَتَتْ لَهُمُ الشَّهَادَةُ، وَالصَّالِحِينَ: أَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَالرَّفِيقُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الرِّفْقِ، وَهُوَ لِينُ الْجَانِبِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُصَاحِبُ، لِارْتِفَاقِكَ بِصُحْبَتِهِ، وَمِنْهُ: الرُّفْقَةُ، لِارْتِفَاقِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوِ الْحَالِ، كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ هُمْ يَهُودُ، كَمَا أَمَرَ أَصْحَابَ مُوسَى أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ سُفْيَانَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ: لَوْ فَعَلَ رَبُّنَا لَفَعَلْنَا. أَخْرَجَهُ ابْنُ

[سورة النساء (4) : الآيات 71 إلى 76]

الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، وَحَسَّنَهُ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وموتك عرفت أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لَا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نحوه. [سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 76] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَذَا خِطَابٌ لِخُلَّصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمْرٌ لَهُمْ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ، وَالْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْحَذَرُ وَالْحِذْرُ لُغَتَانِ، كَالْمَثَلِ وَالْمِثْلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَكْثَرُ الْكَلَامِ الْحِذْرُ، وَالْحَذَرُ مَسْمُوعٌ أَيْضًا. يُقَالُ: خُذْ حَذَرَكَ، أَيِ: احْذَرْ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: الْأَمْرُ لَهُمْ بِأَخْذِ السِّلَاحِ حِذْرًا، لِأَنَّ بِهِ الْحِذْرَ. قَوْلُهُ: فَانْفِرُوا نَفَرَ، يَنْفِرُ، بِكَسْرِ الْفَاءِ، نَفِيرًا، وَنَفَرَتِ الدَّابَّةُ، تَنْفُرُ، بِضَمِّ الْفَاءِ، نُفُورًا. وَالْمَعْنَى: انْهَضُوا لِقِتَالِ الْعَدُوِّ. أَوِ النَّفِيرُ: اسْمٌ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ، وَأَصْلُهُ: مِنَ النِّفَارِ وَالنُّفُورِ، وَهُوَ الْفَزَعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً «1» أَيْ: نَافِرِينَ. قَوْلُهُ: ثُباتٍ جَمْعُ ثُبَةٍ: أَيْ جَمَاعَةٍ، وَالْمَعْنَى: انْفِرُوا جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ. قَوْلُهُ: أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أَيْ: مُجْتَمِعِينَ جَيْشًا وَاحِدًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ: الْأَمْرُ لَهُمْ بِأَنْ يَنْفِرُوا عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَلِيَأْمَنُوا مِنْ أَنْ يَتَخَطَّفَهُمُ الْأَعْدَاءُ إِذَا نَفَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَحْدَهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وبقوله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا مُحْكَمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى نُفُورِ الْجَمِيعِ، وَالْأُخْرَى: عِنْدَ الِاكْتِفَاءِ بِنُفُورِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ التَّبْطِئَةُ وَالْإِبْطَاءُ: التَّأَخُّرُ، وَالْمُرَادُ: الْمُنَافِقُونَ كَانُوا يَقْعُدُونَ عَنِ الْخُرُوجِ وَيُقْعِدُونَ غَيْرَهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ دُخَلَائِكُمْ وَجِنْسِكُمْ، وَمَنْ أَظْهَرَ إِيمَانَهُ لَكُمْ نِفَاقًا، مَنْ يُبَطِّئُ المؤمنين ويثبطهم. واللام في قوله: لَمَنْ

_ (1) . الإسراء: 46.

لَامُ تَوْكِيدٍ. وَفِي قَوْلِهِ: لَيُبَطِّئَنَّ لَامُ جَوَابِ القسم، و «من» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَصِلَتُهَا: الْجُمْلَةُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْكَلْبِيُّ لَيُبَطِّئَنَّ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ مِنْ قَتْلٍ أَوْ هَزِيمَةٍ أَوْ ذَهَابِ مَالٍ. قَالَ هَذَا الْمُنَافِقُ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ حَتَّى يُصِيبَنِي مَا أصابهم وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ غَنِيمَةٌ أَوْ فَتْحٌ لَيَقُولَنَّ هَذَا الْمُنَافِقُ قَوْلَ نادم حاسد: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً. قَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ لَيَقُولُنَّ وَبَيْنَ مَفْعُولِهِ، وَهُوَ: يَا لَيْتَنِي وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا- وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ، أَيْ: كَأَنْ لَمْ يُعَاقِدْكُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَيَقُولَنَّ بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى مَنْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ: بِالتَّاءِ، عَلَى لَفْظِ الْمَوَدَّةِ. قَوْلُهُ: فَأَفُوزَ بِالنَّصْبِ، عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فَأَفُوزَ بِالرَّفْعِ. قَوْلُهُ: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَذَا أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَدَّمَ الظَّرْفَ عَلَى الْفَاعِلِ لِلِاهْتِمَامِ به، والَّذِينَ يَشْرُونَ مَعْنَاهُ: يَبِيعُونَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْفَاءُ فِي قوله: فَلْيُقاتِلْ جواب الشرط مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِنْ لَمْ يُقَاتِلْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ سَابِقًا الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّ مِنْهُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ، فَلْيُقَاتِلِ الْمُخْلِصُونَ الْبَاذِلُونَ أَنْفُسَهُمُ، الْبَائِعُونَ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ. ثُمَّ وَعَدَ الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَنَّهُ سَيُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ: إِذَا قُتِلَ فَازَ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْأُجُورِ، وَإِنْ غَلَبَ وَظَفِرَ كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ مَا قَدْ نَالَهُ مِنَ الْعُلُوِّ فِي الدُّنْيَا وَالْغَنِيمَةِ، وَظَاهِرُ هَذَا: يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَنْ قُتِلَ شَهِيدًا أَوِ انْقَلَبَ غَانِمًا، وَرُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هِيَ فِي إِيتَاءِ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَجْرُهُمَا مُسْتَوِيًا، فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ عَظِيمًا هُوَ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ بَعْضُهَا عَظِيمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ دُونَهُ، وَحَقِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ فَوْقَهُ. قَوْلُهُ: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُورِينَ بِالْقِتَالِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ. قَوْلُهُ: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مَجْرُورٌ عَطْفًا عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ، أَيْ: مَا لَكَمَ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ حَتَّى تُخَلِّصُوهُمْ مِنَ الْأَسْرِ، وَتُرِيحُوهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيْ: وَأَخُصُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ سَبِيلُ اللَّهِ، واختار الأوّل الزجاج والأزهري. قال مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: أَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ، فَيَكُونَ عَطْفًا عَلَى السَّبِيلِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ هُنَا: مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْتَ إِذْلَالِ الْكُفَّارِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ يَدْعُو لهم النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» كَمَا فِي الصَّحِيحِ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ لَفْظَ الْآيَةِ أَوْسَعُ، وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَوْلَا تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها فَإِنَّهُ يُشْعِرُ: بِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ الْكَائِنِينَ فِي مَكَّةَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ: عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا: مَكَّةُ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ بَيَانٌ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَذَا تَرْغِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَنْشِيطٌ لَهُمْ بِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِهَذَا الْمَقْصِدِ لَا لِغَيْرِهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ أَيْ: سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، أَوِ الْكُهَّانِ،

أَوِ الْأَصْنَامِ، وَتَفْسِيرُ الطَّاغُوتِ هُنَا بِالشَّيْطَانِ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أَيْ: مَكْرَهَ وَمَكْرَ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْكُفَّارِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَانْفِرُوا ثُباتٍ قَالَ: عُصُبًا، يَعْنِي سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً يَعْنِي: كُلَّكُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ، قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً نَسَخَتْهَا وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «1» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ثُباتٍ أَيْ: فِرَقًا قَلِيلًا. وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أَيْ: إِذَا نَفَرَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نحوه. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ إِلَى قَوْلِهِ: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً مَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ ابن حَيَّانَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ فِيمَا بَلَغَنَا عبد الله بن أبي ابن سلول رأس الْمُنَافِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ: فَلْيُقاتِلْ يَعْنِي: يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ يَعْنِي: يَقْتُلْهُ الْعَدُوُّ أَوْ يَغْلِبْ يَعْنِي يَغْلِبُ الْعَدُوَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً يَعْنِي: جَزَاءً وَافِرًا فِي الْجَنَّةِ، فَجَعَلَ الْقَاتِلَ وَالْمَقْتُولَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ شَرِيكَيْنِ فِي الْأَجْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ قَالَ: وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: وَسَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ قَالَ: الْمُسْتَضْعَفُونَ: أُنَاسٌ مُسْلِمُونَ كَانُوا بِمَكَّةَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ قَالَ: «أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: الْقَرْيَةُ الظَّالِمُ أَهْلُهَا: مَكَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الشَّيْطَانَ فَلَا تَخَافُوهُ وَاحْمِلُوا عَلَيْهِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ الشَّيْطَانُ يَتَرَاءَى لِي فِي الصَّلَاةِ، فَكُنْتُ أَذْكُرُ قَوْلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَأَحْمِلُ عليه، فيذهب عني.

_ (1) . التوبة: 122.

[سورة النساء (4) : الآيات 77 إلى 81]

[سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 81] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الْآيَةَ، قِيلَ: هُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أُمِرُوا بِتَرْكِ الْقِتَالِ فِي مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ تَسَرَّعُوا إِلَيْهِ. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ بِالْمَدِينَةِ تَثَبَّطُوا عَنِ الْقِتَالِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي الدِّينِ، بَلْ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ، وَفَرَقًا مِنْ هَوْلِ الْقَتْلِ وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَقِيلَ: فِي الْمُنَافِقِينَ، أَسْلَمُوا قَبْلَ فَرْضِ الْقِتَالِ، فَلَمَّا فُرِضَ كَرِهُوهُ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالسِّيَاقِ لِقَوْلِهِ: وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ الْآيَةَ، وَيَبْعُدُ صُدُورُ مِثْلِ هَذَا مِنَ الصَّحَابَةِ. قَوْلُهُ: كَخَشْيَةِ اللَّهِ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: خَشْيَةٌ كَخَشْيَةِ اللَّهِ، أَوْ حَالٌ، أَيْ: تَخْشَوْنَهُمْ مُشْبِهِينَ أَهْلَ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ: كَخَشْيَتِهِمُ اللَّهَ. وَقَوْلُهُ: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً مَعْطُوفٌ عَلَى كَخَشْيَةِ اللَّهِ، فِي مَحَلِّ جَرٍّ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ جَمِيعًا، فَيَكُونُ: في محل الحال، كالمعطوف عليه، وأو: لِلتَّنْوِيعِ، عَلَى مَعْنَى: أَنَّ خَشْيَةَ بَعْضِهِمْ كَخَشْيَةِ اللَّهِ، وَخَشْيَةُ بَعْضِهِمْ أَشَدُّ مِنْهَا. قَوْلُهُ: وَقالُوا عَطْفٌ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَيْ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ فَاجَأَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ خَشْيَةَ النَّاسِ وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا أَيْ: هَلَّا أَخَّرْتَنَا، يُرِيدُونَ الْمُهْلَةَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ قَرِيبٍ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِيهِ القتال، فَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ: سَرِيعُ الْفَنَاءِ لَا يَدُومُ لِصَاحِبِهِ، وَثَوَابُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْمَتَاعِ الْقَلِيلِ لِمَنِ اتَّقى مِنْكُمْ، وَرَغِبَ فِي الثَّوَابِ الدَّائِمِ وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ: شَيْئًا حَقِيرًا يَسِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْفَتِيلِ قَرِيبًا، وَإِذَا كُنْتُمْ تُوَفَّرُونَ أُجُورَكُمْ وَلَا تُنْقَصُونَ شَيْئًا مِنْهَا، فَكَيْفَ ترغبون عن ذلك وتشغلون بِمَتَاعِ الدُّنْيَا مَعَ قِلَّتِهِ وَانْقِطَاعِهِ؟ وَقَوْلُهُ: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَفِيهِ حَثٌّ لِمَنْ قَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ خَشْيَةَ الْمَوْتِ. وَبَيَانٌ لفساد ما خالطه من الجبن، وَخَامَرَهُ مِنَ الْخَشْيَةِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ إِذَا كَانَ كائنا لا محالة، وَالْبُرُوجُ: جَمْعُ بُرْجٍ: وَهُوَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ، وَالْمُشَيَّدَةُ: الْمُرَفَّعَةُ، مِنْ شَادَ الْقَصْرَ: إِذَا رَفَعَهُ وَطَلَاهُ بِالشَّيْدِ وَهُوَ الْجِصُّ. وَجَوَابُ لَوْلَا: مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ: فمن لم يمت بالسّيف مات بغيره «1» ....... وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْبُرُوجِ مَا هِيَ؟ فَقِيلَ: الْحُصُونُ الَّتِي فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: هِيَ القصور. قال الزجاج والقتبي: وَمَعْنَى مُشَيَّدَةٍ: مُطَوَّلَةٌ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: مَطْلِيَّةٌ بِالشَّيْدِ وَهُوَ الْجِصُّ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبُرُوجِ: بُرُوجٌ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ، حَكَاهُ مَكِّيٌّ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ: أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ «2»

_ (1) . وعجزه: تعددت الأسباب والموت واحد. (2) . البروج: 1. [.....]

جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً «1» وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً «2» وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ هُنَا: قُصُورٌ مِنْ حَدِيدٍ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ: يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ: بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقَالَ رَائِدُهُمْ أَرْسُوا نُزَاوِلُهَا قَوْلُهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مُخْتَصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ، أَيْ: إِنْ تُصِبْهُمْ نِعْمَةٌ نَسَبُوهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ تُصِبْهُمْ بَلِيَّةٌ وَنِقْمَةٌ نَسَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ كَمَا تَزْعُمُونَ، ثُمَّ نَسَبَهُمْ إِلَى الْجَهْلِ وَعَدَمِ الْفَهْمِ فَقَالَ: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أَيْ: مَا بَالُهُمْ هَكَذَا. قَوْلُهُ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ هَذَا الْخِطَابُ إِمَّا لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ النَّاسِ، أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضًا لِأُمَّتِهِ، أَيْ: مَا أَصَابَكَ مِنْ خَصْبٍ وَرَخَاءٍ وَصِحَّةٍ وَسَلَامَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ جَهْدٍ وَبَلَاءٍ وَشِدَّةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، بِذَنْبٍ أَتَيْتَهُ فَعُوقِبْتَ عَلَيْهِ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ حَدِيثًا، أَيْ: فَيَقُولُونَ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، وَقِيلَ: إِنَّ أَلْفَ الِاسْتِفْهَامِ مُضْمَرَةٌ، أَيْ: أَفَمِنْ نَفْسِكَ؟ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ «3» والمعنى: أو تلك نِعْمَةٌ؟ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي «4» أَيْ: أَهَذَا رَبِّي، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ: رَمَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ ... فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ أَيْ: أَهُمُ أهم؟ وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مَا يُفِيدُ مُفَادَ هَذِهِ الْآيَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «5» ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ «6» . وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلِقَوْلِهِ: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ «7» ، وقوله: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَقَوْلِهِ: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ «8» وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاطِنِهِ. قَوْلُهُ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا فِيهِ الْبَيَانُ لِعُمُومِ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجَمِيعِ، كَمَا يُفِيدُهُ التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ، وَالْعُمُومِ فِي النَّاسِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «9» ، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «10» وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «11» عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ فِيهِ: أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةٌ لِلَّهِ، وَفِي هَذَا مِنَ النِّدَاءِ بِشَرَفِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعُلُوِّ شَانِهِ وَارْتِفَاعِ مَرْتَبَتِهِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَلَا يُبْلَغُ مَدَاهُ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَمَنْ تَوَلَّى أَيْ: أَعْرَضَ فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أَيْ: حَافِظًا لِأَعْمَالِهِمْ، إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَقَدْ نُسِخَ هَذَا بِآيَةِ السَّيْفِ وَيَقُولُونَ طاعَةٌ بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَمْرُنَا طَاعَةٌ، أَوْ شَأْنُنَا طَاعَةٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ: أَيْ: نُطِيعُ طَاعَةً، وَهَذِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، أَيْ: يَقُولُونَ إِذَا كَانُوا عِنْدَكَ طَاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أي: خرجوا من عندك

_ (1) . الفرقان: 61. (2) . الحجر: 16. (3) . الشعراء: 22. (4) . الأنعام: 77. (5) . الشورى: 30. (6) . آل عمران: 165. (7) . آل عمران: 166. (8) . الرعد: 11. (9) . سبأ: 28. (10) . الأعراف: 158. (11) الفتح: 28.

بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ «1» أَيْ: زَوَّرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَهُمْ أَنْتَ وَتَأْمُرُهُمْ بِهِ، أَوْ: غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَكَ هِيَ مِنَ الطَّاعَةِ لَكَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا وَحَرَّفُوا قَوْلَكَ فِيمَا عَهِدْتَ إِلَيْهِمْ، وَالتَّبْيِيتُ: التَّبْدِيلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَتَوْنِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا ... وَكَانُوا أَتَوْنِي بِأَمْرٍ نُكُرْ يُقَالُ: بيت الرجل الأمر: إذا دبره لَيْلًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ أَيْ: يُثْبِتُهُ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: يُنْزِلُهُ عَلَيْكَ فِي الْكِتَابِ، قَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيْ: دَعْهُمْ وَشَأْنَهُمْ، حَتَّى يُمْكِنَ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا تُخْبِرْ بِأَسْمَائِهِمْ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا تُعَاقِبْهُمْ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالثِّقَةِ بِهِ فِي النَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِ، قِيلَ: وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! كُنَّا فِي عِزَّةٍ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً؟ فَقَالَ: إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ، فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر عن قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ الْآيَةَ، قَالَ: نَهَى اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَنْ يَصْنَعُوا صَنِيعَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قَالَ: هُوَ الْمَوْتُ. وَأَخْرَجَا نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ قَالَ: فِي قُصُورٍ مُحَصَّنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُ: نِعْمَةٌ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ قَالَ: مُصِيبَةٌ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَالَ: النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ قَالَ: هَذِهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَفِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ قَالَ: هَذِهِ فِي الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَمَّا الْحَسَنَةُ: فَأَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكَ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ: فَابْتَلَاكَ بِهَا، وَفِي قَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ قَالَ: مَا أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: أَنْ شُجَّ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ قَالَ: هَذَا يَوْمُ أُحُدٍ، يَقُولُ: مَا كَانَتْ مِنْ نَكْبَةٍ فَبِذَنْبِكَ، وَأَنَا قَدَّرْتُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْرَأُ: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَنَا كَتَبْتُهَا عَلَيْكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ أبيّ وابن

_ (1) . النساء: 108.

[سورة النساء (4) : الآيات 82 إلى 83]

مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ هَذَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ قَالَ: هُمْ أُنَاسٌ كَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، لِيَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُ: خَالَفُوا إِلَى غَيْرِ مَا قَالُوا عِنْدَهُ فَعَابَهُمُ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: غَيَّرَ أُولَئِكَ مَا قَالَهُ النبي صلّى الله عليه وسلم. [سورة النساء (4) : الآيات 82 الى 83] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ: لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَيُعْرِضُونَ عَنِ الْقُرْآنِ فَلَا يَتَدَبَّرُونَهُ؟ يُقَالُ: تَدَبَّرْتُ الشَّيْءَ. تَفَكَّرْتُ فِي عَاقِبَتِهِ وَتَأَمَّلْتُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ تَأَمُّلٍ، وَالتَّدْبِيرُ: أَنْ يُدَبِّرَ الْإِنْسَانُ أَمْرَهُ، كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى مَا تَصِيرُ إِلَيْهِ عَاقِبَتُهُ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1» عَلَى وُجُوبِ التَّدَبُّرِ لِلْقُرْآنِ لِيُعْرَفَ مَعْنَاهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَوْ تَدَبَّرُوهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ لَوَجَدُوهُ مُؤْتَلِفًا غَيْرَ مُخْتَلِفٍ، صَحِيحَ الْمَعَانِي، قَوِيَّ الْمَبَانِي، بَالِغًا فِي الْبَلَاغَةِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِهَا وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً أَيْ: تَفَاوُتًا وَتَنَاقُضًا، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا اخْتِلَافُ مَقَادِيرِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ: اخْتِلَافُ التَّنَاقُضِ، وَالتَّفَاوُتِ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ، وَهَذَا شأن كلام البشر، لا سيما إِذَا طَالَ وَتَعَرَّضَ قَائِلُهُ لِلْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ صَحِيحًا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ إِلَّا القليل النادر. قوله: أَذَاعَ الشَّيْءَ وَأَذَاعَ بِهِ: إِذَا أَفْشَاهُ وَأَظْهَرَهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ أَمْنٌ- نَحْوَ ظَفَرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَتْلِ عَدُوِّهِمْ، أَوْ فِيهِ خَوْفٌ نَحْوَ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقَتْلِهِمْ- أَفْشَوْهُ، وَهُمْ يَظُنُّونَ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ فِي أُمُورِهِمْ، أَوْ هُمُ الْوُلَاةُ عَلَيْهِمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي: يستخرجونه بتدبيرهم وَصِحَّةِ عُقُولِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْإِذَاعَةَ لِلْأَخْبَارِ حَتَّى يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يُذِيعُهَا، أَوْ يَكُونَ أُولُو الْأَمْرِ مِنْهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْشَى وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَمَ. وَالِاسْتِنْبَاطُ: مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتَنْبَطْتُ الْمَاءَ: إِذَا اسْتَخْرَجْتَهُ. وَالنَّبَطُ: الْمَاءُ الْمُسْتَنْبَطُ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ عِنْدَ حَفْرِهَا وَقِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الضَّعَفَةَ كَانُوا يَسْمَعُونَ إِرْجَافَاتِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيُذِيعُونَهَا فَتَحْصُلُ بِذَلِكَ الْمَفْسَدَةُ. قَوْلُهُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: لَوْلَا مَا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ إِرْسَالِ رَسُولِهِ، وَإِنْزَالِ كِتَابِهِ، لا تبعتم الشَّيْطَانَ فَبَقِيتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ، أَوْ: إِلَّا أَتْبَاعًا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَذَاعُوا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُذِعْ وَلَمْ يُفْشِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَالْأَخْفَشُ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، قاله الزجاج.

_ (1) . محمد: 24.

[سورة النساء (4) : الآيات 84 إلى 87]

وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً يَقُولُ: إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ لَا يَخْتَلِفُ، وَهُوَ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ بَاطِلٌ، وَإِنَّ قَوْلَ النَّاسِ يَخْتَلِفُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَوَجَدْتُ النَّاسَ يَنْكُتُونَ بالحصى وَيَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: هَذَا فِي الْإِخْبَارِ إِذَا غَزَتْ سَرِيَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَخْبَرَ النَّاسُ عَنْهَا، فَقَالُوا: أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَدُوِّهِمْ كَذَا وَكَذَا، وَأَصَابَ الْعَدُوُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَذَا وَكَذَا. فَأَفْشَوْهُ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ هُوَ يُخْبِرُهُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: وَإِذا جاءَهُمْ قَالَ: هُمْ أَهْلُ النِّفَاقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ قَالَ: فَانْقَطَعَ الْكَلَامُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا فَهُوَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ يُخْبِرُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وإِلَّا قَلِيلًا يعني بالقليل المؤمنين. [سورة النساء (4) : الآيات 84 الى 87] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقاتِلْ قِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَخْ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ هَذَا فَقَاتِلْ وَقِيلَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَاتِلْ وَقِيلَ: هِيَ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، تَقْدِيرُهُ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ طَاعَةِ الْمُنَافِقِينَ فَقَاتِلْ، أَوْ إِذَا أَفْرَدُوكَ وَتَرَكُوكَ فَقَاتِلْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِهَادِ وَإِنْ قَاتَلَ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ النَّصْرَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجيء فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّ الْقِتَالَ فُرِضَ عَلَيْهِ دُونَ الْأُمَّةِ، فَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لَهُ فِي اللَّفْظِ، وَفِي الْمَعْنَى لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، أَيْ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُمَّتِكَ يُقَالُ لَهُ: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أَيْ: لَا تُكَلَّفُ غَيْرَ نَفْسِكَ وَلَا تُلْزَمُ فِعْلَ غَيْرِكَ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ مُقَرِّرٌ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ اخْتِصَاصَ تَكْلِيفِهِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ مِنْ مُوجِبَاتِ مُبَاشَرَتِهِ لِلْقِتَالِ وَحْدَهُ، وَقُرِئَ: لَا تُكَلَّفُ بِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ، وَقُرِئَ: بِالنُّونِ. قَوْلُهُ: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: حُضَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَالْجِهَادِ، يُقَالُ: حَرَّضْتُ فُلَانًا عَلَى كَذَا: إِذَا أَمَرْتَهُ بِهِ، وَحَارَضَ فُلَانٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِ، وَوَاظَبَ عَلَيْهِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَوْلُهُ:

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِيهِ إِطْمَاعٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِكَفِّ بَأْسِ الَّذِينَ كَفَّرُوا عَنْهُمْ، وَالْإِطْمَاعُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاجِبٌ، فَهُوَ وَعْدٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَوَعْدُهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً أَيْ: أَشَدُّ صَوْلَةً، وَأَعْظَمُ سُلْطَانًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أَيْ: عُقُوبَةً، يُقَالُ: نَكَّلْتُ بِالرَّجُلِ تَنْكِيلًا: مِنَ النَّكَالِ، وَهُوَ الْعَذَابُ. وَالْمُنَكِّلُ: الشَّيْءُ الَّذِي يُنَكِّلُ بِالْإِنْسَانِ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها أَصْلُ الشَّفَاعَةِ وَالشُّفْعَةِ وَنَحْوِهِمَا: مِنَ الشَّفْعِ، وَهُوَ الزَّوْجُ، وَمِنْهُ: الشَّفِيعُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ صَاحِبِ الْحَاجَةِ شَفْعًا، وَمِنْهُ نَاقَةٌ شَفُوعٌ: إِذَا جَمَعَتْ بَيْنَ مِحْلَبَيْنِ فِي حَلْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَنَاقَةٌ شَفِيعٌ: إِذَا اجْتَمَعَ لَهَا حَمْلٌ وَوَلَدٌ يَتْبَعُهَا. وَالشَّفْعُ: ضَمُّ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ. وَالشُّفْعَةُ: ضَمُّ مِلْكِ الشَّرِيكِ إلى ملكك، فَالشَّفَاعَةُ: ضَمُّ غَيْرِكَ إِلَى جَاهِكَ وَوَسِيلَتِكَ، فَهِيَ عَلَى التَّحْقِيقِ إِظْهَارٌ لِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْمُشَفَّعِ، وَاتِّصَالُ مَنْفَعَةٍ إِلَى الْمَشْفُوعِ لَهُ. وَالشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ: هِيَ فِي الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ. وَالشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ: فِي الْمَعَاصِي، فَمَنْ شَفَعَ فِي الْخَيْرِ لِيَنْفَعَ فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا: أَيْ مِنْ أَجْرِهَا، وَمَنْ شَفَعَ فِي الشَّرِّ- كَمَنْ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ- كَانَ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا، أَيْ: نَصِيبٌ مِنْ وِزْرِهَا. وَالْكِفْلُ: الْوِزْرُ وَالْإِثْمُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْكِسَاءِ الَّذِي يَجْعَلُهُ الرَّاكِبُ عَلَى سَنَامِ الْبَعِيرِ لِئَلَّا يَسْقُطَ يقال: اكتفلت البعير: إذا أدرت عَلَى سَنَامِهِ كِسَاءً وَرَكِبْتَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلِ الظَّهْرَ كُلَّهُ، بَلِ اسْتَعْمَلَ نَصِيبًا مِنْهُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي النَّصِيبِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَمِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْخَيْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ «1» . وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أَيْ: مُقْتَدِرًا، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَقِيتُ: الَّذِي يُعْطِي كُلَّ إِنْسَانٍ قُوتَهُ، يُقَالُ: قُتُّهُ، أَقُوتُهُ، قُوتًا، وَأَقَتُّهُ، أُقِيتُهُ، إِقَاتَةً، فَأَنَا قَائِتٌ، وَمُقِيتٌ، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: أَقَاتَ يُقِيتُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُقِيتُ: الْحَافِظُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُوتِ، وَالْقُوتُ مَعْنَاهُ: مِقْدَارُ مَا يَحْفَظُ الْإِنْسَانَ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ: الْمُقِيتُ: الْمُقْتَدِرُ. وَالْمَقِيتُ: الْحَافِظُ وَالشَّاهِدُ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إِذَا حُو ... سِبْتُ إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: إِنَّهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى. قَوْلُهُ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها التَّحِيَّةُ: تَفْعِلَةٌ مِنْ حَيَيْتُ، وَالْأَصْلُ تَحْيِيَةٌ، مِثْلَ: تَرْضِيَةٍ وَتَسْمِيَةٍ، فَأَدْغَمُوا الْيَاءَ فِي الْيَاءِ، وَأَصْلُهَا: الدُّعَاءُ بِالْحَيَاةِ. وَالتَّحِيَّةُ: السَّلَامُ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَمِثْلُهُ قوله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ «2» وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحِيَّةِ هُنَا: تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ. وقال أصحاب أبي حنيفة، التحية هُنَا: الْهَدِيَّةُ، لِقَوْلِهِ: أَوْ رُدُّوها وَلَا يُمْكِنُ رَدُّ السَّلَامِ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها: أَنْ يَزِيدَ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَا قَالَهُ المبتدئ بالتحية، فَإِذَا قَالَ الْمُبْتَدِئُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، قَالَ الْمُجِيبُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَإِذَا زَادَ الْمُبْتَدِئُ لَفْظًا، زَادَ الْمُجِيبُ عَلَى جُمْلَةِ مَا جَاءَ بِهِ الْمُبْتَدِئُ لَفْظًا أَوْ أَلْفَاظًا نَحْوَ: وَبَرَكَاتُهُ وَمَرْضَاتُهُ وَتَحِيَّاتُهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالسَّلَامِ سُنَّةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا، وَرَدَّهُ فَرِيضَةٌ، لِقَوْلِهِ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها وَاخْتَلَفُوا إِذَا رَدَّ وَاحِدٌ مِنْ جَمَاعَةٍ هَلْ يجزئ أولا؟ فذهب مالك والشافعي إلى

_ (1) . الحديد: 28. [.....] (2) . المجادلة: 8.

الْإِجْزَاءِ، وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْ غَيْرِهِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يجزئ عن الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ سَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ الْمَدَنِيُّ وَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَدْ حَسَّنَ الْحَدِيثَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَوْ رُدُّوها الِاقْتِصَارُ عَلَى مِثْلِ اللَّفْظِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمُبْتَدِئُ، فَإِذَا قَالَ: السَّلَامُ عليكم، قال المجيب: وعليك السَّلَامُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فِي تَعْيِينِ مَنْ يَبْتَدِئُ بِالسَّلَامِ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ التَّحِيَّةَ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا: مَا يُغْنِي عَنِ الْبَسْطِ هَاهُنَا. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً يُحَاسِبُكُمْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: حَفِيظًا وَقِيلَ: كَافِيًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْسَبَنِي كذا، أي: كفاني، ومثله: «حسبك الله» . قَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاللَّهِ لَيَجْمَعَنَّكُمُ اللَّهُ بِالْحَشْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ: إِلَى حِسَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ: إِلَى: بِمَعْنَى فِي وَقِيلَ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ. وَالْمَعْنَى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ويَوْمِ الْقِيامَةِ: يَوْمُ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ: فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ: فِي الْجَمْعِ، أَيْ: جَمْعًا لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً إِنْكَارٌ لِأَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَصْدَقَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: وَمَنْ «أَزْدَقُ» بِالزَّايِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالصَّادِ، وَالصَّادُ الْأَصْلُ. وَقَدْ تُبْدَلُ زَايًا لِقُرْبِ مَخْرَجِهَا مِنْهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي سِنَانٍ فِي قَوْلِهِ: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: عِظْهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أبي حاتم عن مجاهد في قوله: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً الْآيَةَ، قَالَ: شَفَاعَةُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها قَالَ: حَظٌّ مِنْهَا. وَقَوْلِهِ: كِفْلٌ مِنْها قَالَ: الْكِفْلُ: هُوَ الْإِثْمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْكِفْلُ: الْحَظُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً قَالَ: حَفِيظًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً قَالَ: يُقِيتُ كُلَّ إِنْسَانٍ بِقَدْرِ عَمَلِهِ. وَفِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مُقِيتاً قَالَ: شَهِيدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ: مُقِيتاً قَالَ: شَهِيدًا حَسِيبًا حَفِيظًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: مُقِيتاً قَالَ: قَادِرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْمَقِيتُ: الْقَدِيرُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْمُقِيتُ: الرَّزَّاقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَارْدُدْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا، أَوْ مَجُوسِيًّا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ أَتَى

[سورة النساء (4) : الآيات 88 إلى 91]

آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ لَهُ: وَعَلَيْكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَتَاكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَسَلَّمَا عَلَيْكَ فَرَدَدْتَ عَلَيْهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا رَدَدْتَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَدَعْ لَنَا شَيْئًا، قَالَ اللَّهُ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها فَرَدَدْنَاهَا عَلَيْكَ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَقَالَ: عَشْرُ حَسَنَاتٍ، فَمَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ: عِشْرُونَ حَسَنَةً، فَمَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ: ثَلَاثُونَ حَسَنَةً» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا، وَزَادَ بَعْدَ كُلِّ مَرَّةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: عَشْرٌ إِلَى آخِرِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَبَرَكَاتُهُ: وَمَغْفِرَتَهُ: فَقَالَ: أَرْبَعُونَ، يَعْنِي: حَسَنَةً. [سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) الاستفهام في قوله: فَما لَكُمْ لِلْإِنْكَارِ، وَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ: مُبْتَدَأٌ، وَمَا بَعْدَهُ: خَبَرُهُ. وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ كَائِنٌ لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ؟ أَيْ: فِي أَمْرِهِمْ، وَشَأْنِهِمْ حَالَ كَوْنِكُمْ فِئَتَيْنِ فِي ذَلِكَ. وَحَاصِلُهُ: الْإِنْكَارُ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شَيْءٌ يُوجِبُ اخْتِلَافَهُمْ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي انْتِصَابِ فِئَتَيْنِ، فَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْبَصْرِيُّونَ: عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِكَ: مالك قَائِمًا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِكَانَ، وَهِيَ مُضْمَرَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَا لَكَمْ فِي الْمُنَافِقِينَ كُنْتُمْ فِئَتَيْنِ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ مَا سَيَأْتِي، وَبِهِ يَتَّضِحُ الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ مَعْنَاهُ: رَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بِما كَسَبُوا وَحَكَى الْفَرَّاءُ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَالْكِسَائِيُّ: أَرْكَسَهُمْ وَرَكَسَهُمْ، أَيْ: رَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَنَكَسَهُمْ، فَالرَّكْسُ وَالنَّكْسُ: قَلْبُ الشَّيْءِ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ رَدُّ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَالْمَنْكُوسُ: الْمَرْكُوسُ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ: وَاللَّهُ رَكَسَهُمْ

وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: أُرْكِسُوا في فتنة مُظْلِمَةٍ ... كَسَوَادِ اللَّيْلِ يَتْلُوهَا فِتَنْ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كَسَبُوا: سَبَبِيَّةٌ، أَيْ: أَرْكَسَهُمْ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ، وَهُوَ لُحُوقُهُمْ بِدَارِ الْكُفْرِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ لَا تُنْجِعُ فِيهِ هِدَايَةُ الْبِشْرِ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» . قَوْلُهُ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أَيْ: طَرِيقًا إِلَى الْهِدَايَةِ. قَوْلُهُ: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، يَتَضَمَّنُ بَيَانَ حَالِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِيضَاحَ أَنَّهُمْ يَوَدُّونَ أَنْ يَكْفُرَ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا كَفَرُوا، وَيَتَمَنَّوْا ذَلِكَ عِنَادًا وَغُلُوًّا فِي الْكُفْرِ، وَتَمَادِيًا فِي الضَّلَالِ، فَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما: نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: كُفْرًا مِثْلَ كَفْرِهِمْ. أَوْ حَالٌ، كَمَا رُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ. قَوْلُهُ: فَتَكُونُونَ سَواءً عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: تَكْفُرُونَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهِ، أَيْ: وَدُّوا كُفْرَكُمْ كَكُفْرِهِمْ، وَوَدُّوا مُسَاوَاتَكُمْ لَهُمْ. قَوْلُهُ: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِذَا كَانَ حَالُهُمْ مَا ذُكِرَ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيُحَقِّقُوا إِيمَانَهُمْ بِالْهِجْرَةِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ فَخُذُوهُمْ إِذَا قَدَرْتُمْ عَلَيْهِمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا تُوَالُونَهُ وَلا نَصِيراً تَسْتَنْصِرُونَ بِهِ. قَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ هو مستثنى من فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ أي: إلا الذين يتصلون ويداخلون فِي قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ بِالْجِوَارِ وَالْحِلْفِ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ لِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ فَإِنَّ الْعَهْدَ يَشْمَلُهُمْ، هَذَا أصلح ما قيل في الْآيَةِ. وَقِيلَ: الِاتِّصَالُ هُنَا هُوَ اتِّصَالُ النَّسَبِ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْقِتَالِ بِالْإِجْمَاعِ، فَقَدْ كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْسَابٌ وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنَ الْقِتَالِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيثَاقٌ، فَقِيلَ: هُمْ قُرَيْشٌ، كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيثَاقٌ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قُرَيْشٍ هُمْ بَنُو مُدْلِجٍ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ، وَسُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ وَقِيلَ: خُزَاعَةُ وَقِيلَ: بَنُو بَكْرِ بن زيد. قوله: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَصِلُونَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى صِفَةِ قَوْمٍ، أَيْ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، أَيْ: ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ عَنِ الْقِتَالِ فَأَمْسَكُوا عَنْهُ، وَالْحَصْرُ: الضِّيقُ وَالِانْقِبَاضُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ أَيْ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، حَالٌ مِنَ الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ فِي جَاءُوكُمْ كَمَا تَقُولُ: جَاءَ فُلَانٌ ذَهَبَ عَقْلُهُ، أَيْ: قَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَيْ: جَاءُوكُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ فَقَالَ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ فَعَلَى هَذَا: يَكُونُ حَصِرَتْ: بَدَلًا مِنْ جَاءُوكُمْ وَقِيلَ: حَصِرَتْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى النَّعْتِ لقوم وقيل: التقدير: أو جاءوكم أَوْ قَوْمٌ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ

_ (1) . القصص: 56.

نَصْبًا عَلَى الْحَالِ. وَقُرِئَ: حَصِرَاتٍ وَحَاصِرَاتٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ: هُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، كَمَا تَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ الْكَافِرَ، وَضَعَّفَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَقِيلَ: أَوْ: بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَيْ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ وَالْقِتَالِ مَعَكُمْ لِقَوْمِهِمْ، فَضَاقَتْ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَكَرِهُوا ذَلِكَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ ابْتِلَاءً مِنْهُ لَكُمْ، وَاخْتِبَارًا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ «1» . أَوْ تَمْحِيصًا لَكُمْ، أَوْ عُقُوبَةً بِذُنُوبِكُمْ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: فَلَقاتَلُوكُمْ جَوَابُ لَوْ، عَلَى تَكْرِيرِ الْجَوَابِ، أَيْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ وَلَقَاتَلُوكُمْ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِقِتَالِكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أَيِ: اسْتَسْلَمُوا لَكُمْ وَانْقَادُوا فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أَيْ: طَرِيقًا، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ قَتْلُهُمْ، وَلَا أَسْرُهُمْ، وَلَا نَهْبُ أَمْوَالِهِمْ، فَهَذَا الِاسْتِسْلَامُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُحَرِّمُهُ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فَيُظْهِرُونَ لَكُمُ الْإِسْلَامَ، وَيُظْهِرُونَ لِقَوْمِهِمُ الْكُفْرَ، لِيَأْمَنُوا مِنْ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، طَلَبُوا الْأَمَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَأْمَنُوا عِنْدَهُ وَعِنْدَ قَوْمِهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: فِي نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَأْمَنُ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ: وَقِيلَ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَقِيلَ: فِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أَيْ: دَعَاهُمْ قَوْمُهُمْ إِلَيْهَا وَطَلَبُوا مِنْهُمْ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ أُرْكِسُوا فِيها أَيْ: قُلِبُوا فِيهَا، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ، وَمَعْنَى الِارْتِكَاسِ: الِانْتِكَاسُ فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أَيْ: يَسْتَسْلِمُونَ لَكُمْ وَيَدْخُلُونَ فِي عَهْدِكُمْ وَصُلْحِكُمْ وَيَنْسَلِخُونَ عَنْ قَوْمِهِمْ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أَيْ: حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَتَمَكَّنْتُمْ مِنْهُمْ وَأُولئِكُمْ الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أَيْ: حُجَّةً وَاضِحَةً، تَتَسَلَّطُونَ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَتَقْهَرُونَهُمْ بِهَا، بِسَبَبِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْمَرَضِ، وَمَا فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الدَّغَلِ، وَارْتِكَاسِهِمْ فِي الْفِتْنَةِ بِأَيْسَرِ عَمَلٍ وَأَقَلِّ سَعْيٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ، فَرَجَعَ نَاسٌ خَرَجُوا مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةٌ تَقُولُ: نَقْتُلُهُمْ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ: لَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الْآيَةَ كُلَّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا طَيِّبَةٌ، وَإِنَّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ» . هَذَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَقَدْ رُوِيَتْ أَسْبَابٌ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ يَقُولُ: أَوْقَعَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: رَدَّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ قَالَ: نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ وَسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَفِي خُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ الْآيَةَ، قَالَ: نسختها براءة فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ

_ (1) . محمد: 31.

[سورة النساء (4) : الآيات 92 إلى 93]

الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ يَقُولُ: ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ: وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ قَالَ: الصُّلْحَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ الْآيَةَ، قَالَ: نَسَخَتْهَا فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: نَسَخَتْهَا بَرَاءَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ الْآيَةَ، قَالَ: نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُونَ رِيَاءً، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمِهِمْ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الْأَوْثَانِ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمَنُوا هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيُصَالِحُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُمْ نَاسٌ كَانُوا بِتِهَامَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ في نعيم بن مسعود. [سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) قَوْلُهُ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ هَذَا النَّفْيُ هُوَ بِمَعْنَى النَّهْيِ الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ، كَقَوْلِهِ: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «2» وَلَوْ كَانَ هَذَا النَّفْيُ عَلَى مَعْنَاهُ لَكَانَ خَبَرًا، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ صِدْقَهُ، فَلَا يُوجَدُ مُؤْمِنٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا قَطُّ وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فِي عَهْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ، كَمَا لَيْسَ لَهُ الْآنَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَقَالَ: إِلَّا خَطَأً، أَيْ: مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ أَلْبَتَّةَ، لَكِنْ إِنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ كَذَا، هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالزَّجَّاجِ وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ وَالْمَعْنَى: وَمَا تبت، وَلَا وُجِدَ، وَلَا سَاغَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً إِذْ هُوَ مَغْلُوبٌ حِينَئِذٍ وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَا خَطَأً. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْخَطَأَ لَا يُحْظَرُ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتُلَهُ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِلْخَطَأِ وَحْدَهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: خَطَأً، مُنْتَصِبًا بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ ينتصب على الحال، والتقدير: لا يقتله فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الخطأ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِلَّا قَتْلًا خَطَأً، وَوُجُوهُ الْخَطَأِ كَثِيرَةٌ، وَيَضْبُطُهَا عدم القصد، والخطأ: الاسم من أخطأ خطأ: إِذَا لَمْ يُتَعَمَّدْ. قَوْلُهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أَيْ: فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ يُعْتِقُهَا كَفَّارَةً عَنْ قَتْلِ الْخَطَأِ، وَعَبَّرَ بِالرَّقَبَةِ عَنْ جَمِيعِ الذات.

_ (1) . التوبة: 5. (2) . الأحزاب: 53.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ، فَقِيلَ: هِيَ الَّتِي صَلَّتْ وَعَقَلَتِ الْإِيمَانَ، فَلَا تُجْزِئُ الصَّغِيرَةُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رباح: إنها تجزئ الصغيرة المولودة بين مسلمين. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُ كُلُّ مَنْ حُكِمَ لَهُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ، وَلَا يُجْزِئُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَعْمَى، وَلَا مُقْعَدٌ، وَلَا أَشَلُّ، وَيُجْزِئُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ الْأَعْرَجُ وَالْأَعْوَرُ. قَالَ مَالِكٌ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَرَجًا شَدِيدًا. وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمُ الْمَجْنُونُ، وَفِي الْمَقَامِ تَفَاصِيلُ طَوِيلَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْفُرُوعِ. قَوْلُهُ: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ الدِّيَةُ: مَا تُعْطَى عِوَضًا عَنْ دَمِ الْمَقْتُولِ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَالْمُسَلَّمَةُ: الْمَدْفُوعَةُ الْمُؤَدَّاةُ، وَالْأَهْلُ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْوَرَثَةُ. وَأَجْنَاسُ الدِّيَةِ وَتَفَاصِيلُهَا قَدْ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ. قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أَيْ: إِلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ أَهْلُ الْمَقْتُولِ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ، سُمِّيَ الْعَفْوُ عَنْهَا: صَدَقَةً، تَرْغِيبًا فِيهِ. وقرأ أبيّ: إلّا أن يَتَصَدَّقُوا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ أَيْ: فَعَلَيْهِ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَّا أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ مِنَ الْوَرَثَةِ عَنْهَا. قَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أَيْ: فَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ، وَهُمُ الْكُفَّارُ الْحَرْبِيُّونَ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْتُلُهُ الْمُسْلِمُونَ فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانَ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ، وَأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَلَا دِيَةَ عَلَى قَاتِلِهِ بَلْ عَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ سُقُوطِ الدِّيَةِ، فَقِيلَ: وَجْهُهُ: أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْقَتِيلِ كُفَّارٌ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الدِّيَةِ وَقِيلَ: وَجْهُهُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ حُرْمَتُهُ قَلِيلَةٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ دِيَتَهُ وَاجِبَةٌ لِبَيْتِ الْمَالِ. قَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَيْ: مُؤَقَّتٌ أَوْ مُؤَبَّدٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ فِدْيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ أَيْ: فَعَلَى قَاتِلِهِ دِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ إِلَى أَهْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ وَرَثَتُهُ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أَيِ: الرَّقَبَةَ، وَلَا اتَّسَعَ مَالُهُ لِشِرَائِهَا فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أَيْ: فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ صَوْمِهِمَا إِفْطَارٌ فِي نَهَارٍ، فَلَوْ أَفْطَرَ اسْتَأْنَفَ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا الْإِفْطَارُ لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ كَالْحَيْضِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُوجِبُ الِاسْتِئْنَافَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْإِفْطَارِ لِعَرَضِ الْمَرَضِ. قَوْلُهُ: تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: شَرَعَ ذَلِكَ لَكُمْ تَوْبَةً، أَيْ: قَبُولًا لِتَوْبَتِكُمْ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: تَابَ عَلَيْكُمْ تَوْبَةً، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ ذَا تَوْبَةٍ كَائِنَةٍ مِنَ اللَّهِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الْقَاتِلِ خَطَأً بَيَّنَ حُكْمَ الْقَاتِلِ عَمْدًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى الْعَمْدِ فَقَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ الْقَتْلُ بِحَدِيدَةٍ، كَالسَّيْفِ، وَالْخِنْجَرِ، وَسِنَانِ الرُّمْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَدَّدِ، أَوْ بِمَا يُعْلَمُ أَنَّ فِيهِ الْمَوْتَ، مِنْ ثقال الحجارة ونحوهما. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ كُلُّ قَتْلٍ مِنْ قَاتِلٍ قاصد للفعل، بحديدة، أو بحجر، أو بعصا، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنْ يَكُونَ بِمَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ فِي الْعَادَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: عَمْدٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ، وَخَطَأٌ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ لَيْسَ هَذَا مَقَامُ بَسْطِهَا. وَذَهَبَ آخَرُونَ: إِلَى أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا الْقِسْمَانِ. وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ:

بِأَنَّ اقْتِصَارَ الْقُرْآنِ عَلَى الْقِسْمَيْنِ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ قِسْمٍ ثَالِثٍ بِالسُّنَّةِ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ. وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِتَغْلِيظِ عُقُوبَةِ الْقَاتِلِ عَمْدًا، فَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ فِيهَا بَيْنَ كَوْنِ جَهَنَّمَ جَزَاءً لَهُ، أَيْ: يَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبِ هَذَا الذَّنْبِ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ خَالِدًا فِيهَا، وَبَيْنَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلَعْنَتِهِ لَهُ، وَإِعْدَادِهِ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا. وَلَيْسَ وَرَاءَ هَذَا التَّشْدِيدِ تَشْدِيدٌ، وَلَا مِثْلَ هَذَا الْوَعِيدِ وَعِيدٌ. وَانْتِصَابُ خَالِدًا: عَلَى الْحَالِ. وَقَوْلُهُ: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ: جَعَلَ جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ، أَوْ حَكَمَ عَلَيْهِ، أَوْ جَازَاهُ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَأَعَدَّ لَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ لِقَاتِلِ الْعَمْدِ مِنْ تَوْبَةٍ أَمْ لَا تَوْبَةَ لَهُ؟ فَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: اخْتَلَفَ فِيهَا عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً وَهِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ وَمَا نسخها شَيْءٌ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْهُ نَحْوَ هَذَا. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَحْوَهُ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ: إِلَى أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ مِنَ السَّلَفِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُمْ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْهُ مَقْبُولَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «1» وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «2» . وَقَوْلِهِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «3» ، قَالُوا أَيْضًا: وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ بَيْنَ آيَةِ النِّسَاءِ هَذِهِ وَآيَةِ الْفُرْقَانِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُمَا: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ إلّا من تاب، لا سيما وَقَدِ اتَّحَدَ السَّبَبُ- وَهُوَ الْقَتْلُ- وَالْمُوجَبُ، وَهُوَ التَّوَعُّدُ بِالْعِقَابِ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلى الله إن شاء عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ: فِي الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا دَاخِلٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ تَابَ أَوْ لَمْ يَتُبْ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ فِي شَرْحِي عَلَى الْمُنْتَقَى «4» مُتَمَسَّكَ كُلِّ فَرِيقٍ. وَالْحَقُّ: أَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ لَمْ يُغْلَقْ دُونَ كُلِّ عَاصٍ، بَلْ هُوَ مَفْتُوحٌ لِكُلِّ مَنْ قَصَدَهُ وَرَامَ الدُّخُولَ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ وَأَشَدُّهَا تَمْحُوهُ التَّوْبَةُ إِلَى اللَّهِ، وَيُقْبَلُ مَنْ صَاحِبِهِ الْخُرُوجُ مِنْهُ، وَالدُّخُولُ فِي بَابِ التَّوْبَةِ، فَكَيْفَ بِمَا دُونَهُ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْقَتْلُ عَمْدًا؟ لَكِنْ لَا بُدَّ فِي تَوْبَةِ قَاتِلِ الْعَمْدِ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْقَتْلِ، وَتَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلْقِصَاصِ إِنْ كَانَ وَاجِبًا، أَوْ تَسْلِيمِ الدِّيَةِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْقِصَاصُ وَاجِبًا، وَكَانَ الْقَاتِلُ غَنِيًّا مُتَمَكِّنًا مِنْ تَسْلِيمِهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَأَمَّا مُجَرَّدُ التَّوْبَةِ مِنَ الْقَاتِلِ عَمْدًا، وَعَزْمُهُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى قَتْلِ أَحَدٍ، مِنْ دُونِ اعْتِرَافٍ، وَلَا تَسْلِيمِ نَفْسٍ، فَنَحْنُ لَا نَقْطَعُ بِقَبُولِهَا، وَاللَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يختلفون.

_ (1) . هود: 114. (2) . الشورى: 25. (3) . النساء: 48. (4) . هو كتاب «نيل الأوطار» .

وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً يَقُولُ: مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا أَتَاهُ مِنْ رَبِّهِ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ الْآيَةَ، قَالَ: إن عياش ابن أَبِي رَبِيعَةَ قَتَلَ رَجُلًا مُؤْمِنًا كَانَ يُعَذِّبُهُ هُوَ وَأَبُو جَهْلٍ- وَهُوَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ- فِي اتباع النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَيَّاشٌ يَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ كَافِرٌ. وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جرير عن عكرمة قال: كان الحارث ابن يَزِيدَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ يُعَذِّبُ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ مَعَ أَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، يَعْنِي: الْحَارِثَ، فَلَقِيَهُ عَيَّاشٌ بِالْحَرَّةِ فَعَلَاهُ بِالسَّيْفِ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَنَزَلَتْ وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً الْآيَةَ، فَقَرَأَهَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: قُمْ فَحَرِّرْ. وأخرجه ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ غَيْرِ هَذِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ قَتَلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ، فَعَدَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِلَى شِعْبٍ يُرِيدُ حَاجَةً لَهُ، فَوَجَدَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ فِي غَنَمٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَضَرَبَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِيهِ: أَنَّ الَّذِي قَتَلَ الْمُتَعَوِّذَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ هُوَ بَكْرُ بْنُ حَارِثَةَ الْجُهَنِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ قَالَ: يَعْنِي بِالْمُؤْمِنَةِ: مَنْ قَدْ عَقَلَ الْإِيمَانَ وَصَلَّى، وَكُلُّ رَقَبَةٍ فِي الْقُرْآنِ لَمْ تُسَمَّ مُؤْمِنَةٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْمَوْلُودُ فَمَا فَوْقَهُ مِمَّنْ لَيْسَ بِهِ زَمَانَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا قَالَ: عَلَيْهِ الدِّيَةُ مُسَلَّمَةً إِلَّا أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: فِي حَرْفِ أُبَيٍّ «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَا يُجْزِئُ فِيهَا صَبِيٌّ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ عَلَيَّ عِتْقَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ اللَّهُ؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ بِأُصْبُعِهَا، فَقَالَ لَهَا: فَمَنْ أَنَا؟ فَأَشَارَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى السَّمَاءِ. أَيْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي تَقْدِيرِ الدِّيَةِ، وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ دِيَةِ الْخَطَأِ وِدِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَدِيَةِ الْمُسْلِمِ وَدِيَةِ الْكَافِرِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي ذِكْرِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ قَالَ: هَذَا الْمُسْلِمُ الَّذِي وَرَثَتُهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ وَقَوْمُهُ مُشْرِكُونَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْدٌ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ قال: هذا الرجل المسلم وقومه المشركون، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْدٌ، فَيُقْتَلُ، فَيَكُونُ مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَتَكُونُ دِيَتُهُ لِقَوْمِهِ، لِأَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ يَقُولُ: فَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَقَتَلَهُ خَطَأً، فَعَلَى قَاتِلِهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِتَحْرِيرِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ يَقُولُ: إِذَا كَانَ كَافِرًا فِي ذِمَّتِكُمْ فَقُتِلَ،

[سورة النساء (4) : آية 94]

فَعَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ مُسَلَّمَةً إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ ابن السائب عن أبي عياض قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيُسْلِمُ، ثُمَّ يَأْتِي قومه وهم مشركون فيقيم فيهم، فتغزوهم جيوش النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَيُقْتَلُ الرَّجُلُ فِيمَنْ يُقْتَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وليست لَهُ دِيَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ يَعْنِي: تَجَاوُزًا مِنَ اللَّهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، حَيْثُ جَعَلَ فِي قَتْلِ الْخَطَّأِ الْكَفَّارَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ رَجُلًا من الأنصار قتل أخا مقيس ابن صبابة، فأعطاه النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الدِّيَةَ، فَقَبِلَهَا، ثُمَّ وَثَبَ عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ، وَفِيهِ نَزَلَتِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ، وَفِيهِ: أَنَّ مِقْيَسَ بْنَ صُبَابَةَ لَحِقَ بِمَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً بَعْدَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ بِثَمَانِ سِنِينَ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِلَى قَوْلِهِ: غَفُوراً رَحِيماً «1» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالْآثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا كثيرة جدّا، والحق ما عرّفناك. [سورة النساء (4) : آية 94] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) هَذَا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ، وَالضَّرْبُ: السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَرَبْتُ فِي الْأَرْضِ: إِذَا سِرْتَ لِتِجَارَةٍ أَوْ غَزْوٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَتَقُولُ: ضَرَبْتُ الْأَرْضَ، بِدُونِ فِي: إِذَا قَصَدْتَ قَضَاءَ حَاجَةِ الإنسان، ومنه قوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لَا يَخْرُجُ رَجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ» . قَوْلُهُ: فَتَبَيَّنُوا مِنَ التَّبَيُّنِ، وَهُوَ التَّأَمُّلُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الجماعة إلّا حمزة، فإنه قرأ: «فثبتوا» مِنَ التَّثَبُّتِ. وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ قَالَا: لِأَنَّ مَنْ أُمِرَ بِالتَّبَيُّنِ فَقَدْ أُمِرَ بِالتَّثَبُّتِ، وَإِنَّمَا خَصَّ السَّفَرَ بِالْأَمْرِ بِالتَّبَيُّنِ، مَعَ أَنَّ التَّبَيُّنَ وَالتَّثَبُّتَ فِي أَمْرِ الْقَتْلِ وَاجِبَانِ حَضَرًا وَسَفَرًا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ الْحَادِثَةَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَتْ فِي السَّفَرِ كَمَا سَيَأْتِي. قَوْلُهُ: وَلَا تَقُولُوا لمن ألقى إليكم السّلم وقريء السَّلامَ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ السَّلَامَ. وَخَالَفَهُ أَهْلُ النَّظَرِ فَقَالُوا: السَّلَمُ هُنَا أَشْبَهُ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَيْكُمْ وَاسْتَسْلَمَ: لَسْتَ مُؤْمِنًا، فَالسَّلَمُ وَالسَّلَامُ كِلَاهُمَا بِمَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ، أَيْ: لَا تَقُولُوا لِمَنْ ألقى إليكم السلام- أَيْ: كِلَمَتَهُ، وَهِيَ الشَّهَادَةُ-: لَسْتَ مُؤْمِنًا وَقِيلَ: هما بمعنى التسليم، الذي هو تحية

_ (1) . الفرقان: 68.

أَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَيْ: لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ التَّسْلِيمَ- فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ-: لَسْتَ مُؤْمِنًا. وَالْمُرَادُ: نَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يُهْمِلُوا مَا جَاءَ بِهِ الْكَافِرُ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى إِسْلَامِهِ، وَيَقُولُوا: إِنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بِذَلِكَ تَعَوُّذًا وَتَقِيَّةً، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَسْتَ مُؤْمِناً مِنْ آمنته: إِذَا أَجَرْتَهُ فَهُوَ مُؤَمَّنٌ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ كَافِرًا بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قُتِلَ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَصَمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ دَمَهُ وَمَالَهُ وَأَهْلَهُ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَتْلُ عَمَّنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا، وَظَنُّوا أَنَّ مَنْ قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا، وَلَا يَصِيرُ بِهَا دَمُهُ مَعْصُومًا، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَهُوَ مُطَمْئِنٌ غَيْرُ خَائِفٍ، وَفِي حُكْمِ التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ: إِظْهَارُ الِانْقِيَادِ، بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا مُسْلِمٌ، أَوْ: أَنَا عَلَى دِينِكُمْ، لِمَا عَرَفْتَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِكُلِّ مَا يُشْعِرُ بِالْإِسْلَامِ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةُ التَّسْلِيمِ، فَالْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ دَاخِلَانِ تَحْتَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا تَقُولُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ طَالِبِينَ الْغَنِيمَةَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ رَاجِعًا إِلَى الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ، لَا إِلَى الْقَيْدِ فَقَطْ، وَسُمِّيَ مَتَاعُ الدُّنْيَا عَرَضًا: لِأَنَّهُ عَارِضٌ زَائِلٌ غَيْرُ ثَابِتٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ جَمِيعُ مَتَاعِ الدُّنْيَا: عَرَضٌ، بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَأَمَّا الْعَرْضُ بِسُكُونِ الرَّاءِ: فَهُوَ مَا سِوَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، فَكُلُّ عَرْضٍ بِالسُّكُونِ عَرَضٌ بِالْفَتْحِ، وَلَيْسَ كُلُّ عَرَضٍ بِالْفَتْحِ عَرْضًا بِالسُّكُونِ. وَفِي كِتَابِ الْعَيْنِ: الْعَرَضُ مَا نِيلَ مِنَ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَجَمْعُهُ عُرُوضٌ. وَفِي الْمُجْمَلِ لِابْنِ فَارِسٍ: وَالْعَرَضُ: مَا يُعْتَرَضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ، وَعَرَضُ الدُّنْيَا: مَا كَانَ فِيهَا مِنْ مَالٍ قَلَّ أو كثر، وَالْعَرْضُ مِنَ الْأَثَاثِ: مَا كَانَ غَيْرَ نَقْدٍ. قَوْلُهُ: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ هُوَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ: عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا هُوَ حَلَالٌ لَكُمْ مِنْ دُونِ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ تَغْتَنِمُونَهَا، وَتَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ قَتْلِ مَنْ قَدِ اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ، وَاغْتِنَامِ مَالِهِ. كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أَيْ: كُنْتُمْ كُفَّارًا، فَحُقِنَتْ دِمَاؤُكُمْ لَمَّا تَكَلَّمْتُمْ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، أَوْ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ، تُخْفُونَ إِيمَانَكُمْ عَنْ قَوْمِكُمْ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ حَتَّى مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِإِعْزَازِ دِينِهِ فَأَظْهَرْتُمُ الْإِيمَانَ وَأَعْلَنْتُمْ بِهِ، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّبَيُّنِ للتأكيد عَلَيْهِمْ، لِكَوْنِهِ وَاجِبًا لَا فُسْحَةَ فِيهِ وَلَا رُخْصَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَحِقَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا مَعَهُ غَنِيمَةٌ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلُوهُ وأخذوا غنيمته، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ بِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَسُوقُ غَنَمًا لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَا سَلَّمَ عَلَيْنَا إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنَّا، فعمدوا إِلَيْهِ، فَقَتَلُوهُ، وَأَتَوْا بِغَنَمِهِ إِلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِضَمَ، فَخَرَجْتُ فِي نَفَرٍ مِنَ المسلمين فيهم أبو قتادة

[سورة النساء (4) : الآيات 95 إلى 96]

الحارث بْنُ رِبْعِيٍّ، وَمُحَلَّمُ بْنُ جَثَّامَةَ بْنِ قَيْسٍ اللَّيْثِيُّ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَطْنِ إِضَمَ، مَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ، مَعَهُ مُتَيْعٌ وَوَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ «1» ، فَلَمَّا مَرَّ بِنَا سَلَّمَ عَلَيْنَا بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلَّمُ بْنُ جَثَّامَةَ لِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ بَعِيرَهُ وَمُتَيْعَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا الْآيَةَ. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَدْرَدٍ هَذَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لمحلم: أقتلته بعد ما قَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ؟ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ مُحَلَّمًا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَقَامَ وَهُوَ يَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِبُرْدَيْهِ، فَمَا مَضَتْ بِهِ سَاعَةٌ حَتَّى مَاتَ وَدَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الأرض، فجاؤوا إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ تَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ صَاحِبِكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَعِظَكُمْ، ثُمَّ طَرَحُوهُ فِي جبل وألقوا عليه الحجارة، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ قَتَلَ رَجُلًا بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَفِي سَبَبِ النُّزُولِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَحْسَنُهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ قَالَ: تَسْتَخْفُونَ بِإِيمَانِكُمْ كَمَا اسْتَخْفَى هَذَا الرَّاعِي بِإِيمَانِهِ، يعني: الذي قَتَلُوهُ بَعْدَ أَنْ أَلْقَى إِلَيْهِمُ السَّلَامَ. وَفِي لَفْظٍ: تَكْتُمُونَ إِيمَانَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَأَعْلَنْتُمْ إِيمَانَكُمْ فَتَبَيَّنُوا قَالَ: وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ ثَانٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ قَالَ: كُنْتُمْ كُفَّارًا حَتَّى مَنَّ الله عليكم بالإسلام وهداكم له. [سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96] لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) التَّفَاوُتُ بَيْنَ دَرَجَاتِ مَنْ قَعَدَ عَنِ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَدَرَجَاتِ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا، لَكِنْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْإِخْبَارِ: تَنْشِيطَ الْمُجَاهِدِينَ لِيَرْغَبُوا، وَتَبْكِيتَ الْقَاعِدِينَ لِيَأْنَفُوا. قَوْلُهُ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْقَاعِدِينَ كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ، لِأَنَّهُمْ لَا يُقْصَدُ بِهِمْ قَوْمٌ بِأَعْيَانِهِمْ، فَصَارُوا كَالنَّكِرَةِ، فَجَازَ وَصْفُهُمْ بِغَيْرٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِ الرَّاءِ، عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ: بِفَتْحِ الرَّاءِ، عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْقَاعِدِينَ، أو من المؤمنين،

_ (1) . «متيّع» : تصغير متاع، وهو السلعة وأثاث البيت وما يستمتع به الإنسان من حوائجه أو ماله. و «الوطب» : سقاء اللبن.

أَيْ: إِلَّا أُولِي الضَّرَرِ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَوُونَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: مُنْتَصِبًا، عَلَى الْحَالِ مِنَ الْقَاعِدِينَ، أَيْ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الْأَصِحَّاءُ فِي حَالِ صِحَّتِهِمْ، وَجَازَتِ الْحَالُ مِنْهُمْ: لَأَنَّ لَفْظَهُمْ لَفْظُ الْمَعْرِفَةِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَهْلُ الضَّرَرِ: هُمْ أَهْلُ الْأَعْذَارِ، لِأَنَّهَا أَضَرَّتْ بِهِمْ حَتَّى مَنَعَتْهُمْ عَنِ الْجِهَادِ، وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ: أَنَّ صَاحِبَ الْعُذْرِ يُعْطَى مِثْلَ أَجْرِ الْمُجَاهِدِ- وَقِيلَ: يُعْطَى أَجْرَهُ مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ، فَيَفْضُلُهُ الْمُجَاهِدُ بِالتَّضْعِيفِ لِأَجْلِ الْمُبَاشَرَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا وَلَا سِرْتُمْ مَسِيرًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ أُولَئِكَ قَوْمٌ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» . قَالَ: وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى اكْتُبُوا لِعَبْدِي مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الصِّحَّةِ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ أَوْ أَقْبِضَهُ إِلَيَّ» . قَوْلُهُ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً هَذَا بَيَانٌ لِمَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ التَّفَاضُلِ الْمَفْهُومِ مِنْ ذِكْرِ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ إِجْمَالًا، وَالْمُرَادُ هُنَا: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَقَالَ هُنَا: دَرَجَةً، وَقَالَ فِيمَا بَعْدُ: دَرَجاتٍ فَقَالَ قَوْمٌ: التَّفْضِيلُ بِالدَّرَجَةِ ثُمَّ بِالدَّرَجَاتِ إِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ وَبَيَانٌ وَتَأْكِيدٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ بِدَرَجَاتٍ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمَا وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى دَرَجَةً: عُلُوًّا، أَيْ: أَعْلَى ذكرهم، ورفعهم بالثناء والمدح. ودرجة: مُنْتَصِبَةٌ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوِ الْمَصْدَرِيَّةِ، لِوُقُوعِهَا مَوْقِعَ الْمَرَّةِ مِنَ التَّفْضِيلِ، أَيْ: فَضَّلَ اللَّهُ تَفْضِيلَهُ، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ من المجاهدين، أي: ذوي درجة. قوله: وَكُلًّا مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِإِفَادَتِهِ الْقَصْرَ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ وَعَدَهُ اللَّهُ الْحُسْنَى، أَيْ: الْمَثُوبَةَ، وَهِيَ الْجَنَّةُ. قَوْلُهُ: أَجْراً هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، لِأَنَّ فَضَّلَ، بِمَعْنَى: آجَرَ، فالتقدير: آجرهم أجرا وقيل: مفعول ثان لفضل، لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ مِنْ دَرَجَاتٍ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا، وَأَمَّا انْتِصَابُ دَرَجَاتٍ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً: فَهِيَ بَدَلٌ مِنْ أَجْرًا وَقِيلَ: إِنَّ مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً نَاصِبُهُمَا أَفْعَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ: غَفَرَ لَهُمْ مَغْفِرَةً، وَرَحِمَهُمْ رَحْمَةً. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْلَى عَلَيْهِ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَجَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمْلِيهَا عَلَيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، وَكَانَ أَعْمَى، فَأَنْزَلَ الله على رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْمَعْنَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَى بَدْرٍ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانَتْ تشغلهم

[سورة النساء (4) : الآيات 97 إلى 100]

أَمْرَاضٌ وَأَوْجَاعٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَشَاهِدِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ اللِّوَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً قَالَ: عَلَى أَهْلِ الضَّرَرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى قَالَ: الْجَنَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: الْإِسْلَامُ دَرَجَةٌ، وَالْهِجْرَةُ دَرَجَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْجِهَادُ فِي الْهِجْرَةِ دَرَجَةٌ، وَالْقَتْلُ فِي الْجِهَادِ دَرَجَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ فِي قَوْلِهِ: دَرَجاتٍ قَالَ: الدَّرَجَاتُ سَبْعُونَ دَرَجَةً، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ عَدْوُ الْفَرَسِ الْجَوَادِ الْمُضَمَّرِ سَبْعِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنهار الجنة» . [سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) قَوْلُهُ: تَوَفَّاهُمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا وَحُذِفَتْ مِنْهُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا، وَالْأَصْلُ تَتَوَفَّاهُمُ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَحَكَى ابْنُ فُورَكٍ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ الْمَعْنَى: تَحْشُرُهُمْ إِلَى النَّارِ، وَقِيلَ: تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَالْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ: مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «1» . وَقَوْلُهُ: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ حَالٌ، أَيْ: فِي حَالِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: فِيمَ كُنْتُمْ سُؤَالُ توبيخ، أي: في أيّ شَيْءٍ كُنْتُمْ مِنْ أُمُورِ دِينِكُمْ؟ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَكُنْتُمْ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ كُنْتُمْ مُشْرِكِينَ وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى السُّؤَالِ: التَّقْرِيعُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ. وَقَوْلُهُمْ: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي مَكَّةَ، لِأَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ: مَنْ أَسْلَمَ بِهَا وَلَمْ يُهَاجِرْ، كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ أَوْقَفَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى دِينِهِمْ، وَأَلْزَمَتْهُمُ الْحُجَّةَ، وَقَطَعَتْ مَعْذِرَتَهُمْ، فَقَالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ: الْمَدِينَةُ، وَالْأَوْلَى: الْعُمُومُ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، كَمَا هُوَ الْحَقُّ، فَيُرَادُ بِالْأَرْضِ: كُلُّ بقعة من بقاع الأرض تصلح للهجرة إِلَيْهَا، وَيُرَادُ بِالْأَرْضِ الْأُولَى: كُلُّ أَرْضٍ يَنْبَغِي الْهِجْرَةُ مِنْهَا. قَوْلُهُ: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِأُولَئِكَ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وَدُخُولُ الْفَاءِ لِتَضَمُّنِ

_ (1) . السجدة: 11.

اسم إن معنى الشرط وَساءَتْ أَيْ: جَهَنَّمَ مَصِيراً أَيْ: مَكَانًا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مَأْوَاهُمْ، وَقِيلَ: اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِعَدَمِ دُخُولِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي الْمَوْصُولِ وَضَمِيرِهِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنِينَ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ: الزَّمْنَى وَنَحْوُهُمْ، وَالْوِلْدَانُ: كَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْوِلْدَانَ مَعَ عَدَمِ التَّكْلِيفِ لَهُمْ لِقَصْدِ الْمُبَالِغَةِ فِي أَمْرِ الْهِجْرَةِ، وَإِيهَامِ أَنَّهَا تَجِبُ لَوِ اسْتَطَاعَهَا غَيْرُ الْمُكَلَّفِ، فَكَيْفَ مَنْ كَانَ مُكَلَّفًا وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْوِلْدَانِ: الْمُرَاهِقِينَ وَالْمَمَالِيكَ. قَوْلُهُ: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً صِفَةٌ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ، أَوْ: لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، أَوْ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَقِيلَ: الْحِيلَةُ: لَفْظٌ عَامٌّ لِأَنْوَاعِ أَسْبَابِ التَّخَلُّصِ، أَيْ: لَا يَجِدُونَ حِيلَةً وَلَا طَرِيقًا إِلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: السَّبِيلُ: سَبِيلُ الْمَدِينَةِ فَأُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَجِيءَ بِكَلِمَةِ الْإِطْمَاعِ لِتَأْكِيدِ أَمْرِ الْهِجْرَةِ، حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ تَرْكَهَا مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ يَكُونُ ذَنْبًا يَجِبُ طَلَبُ الْعَفْوِ عَنْهُ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْهِجْرَةِ وَالتَّنْشِيطِ إِلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بِقَصْدٍ صَحِيحٍ، وَنِيَّةٍ خَالِصَةٍ غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بعدهم: المراغم: التحوّل وَالْمَذْهَبُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَاغَمُ: الْمُتَزَحْزَحُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَاغَمُ الْمُهَاجَرُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَّفِقَةُ الْمَعَانِي، فَالْمُرَاغَمُ: الْمَذْهَبُ وَالْمُتَحَوَّلُ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُرَاغَمُ فِيهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ، وَرَغِمَ أَنْفُ فُلَانٍ، أَيْ: لَصِقَ بِالتُّرَابِ، وَرَاغَمْتُ فُلَانًا: هَجَرْتُهُ وَعَادَيْتُهُ وَلَمْ أُبَالِ أَنَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ مُهَاجِرًا وَمُرَاغِمًا: لِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا أَسْلَمَ عَادَى قَوْمَهُ وَهَجَرَهُمْ، فَسُمِّيَ خُرُوجُهُ مُرَاغِمًا، وَسُمِّي مَسِيرُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ هِجْرَةً. وَالْحَاصِلُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْمُهَاجِرَ يَجِدُ فِي الْأَرْضِ مَكَانًا يَسْكُنُ فِيهِ على رغم أنف قومه الذين جاورهم، أَيْ: عَلَى ذُلِّهِمْ وَهَوَانِهِمْ. قَوْلُهُ: وَسَعَةً أَيْ: فِي الْبِلَادِ وَقِيلَ: فِي الرِّزْقِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ السَّعَةِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ قُرِئَ: يُدْرِكْهُ بِالْجَزْمِ، عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ، وَبِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ أَنْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَطْلُوبِهِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي قَصَدَ الْهِجْرَةَ إِلَيْهِ، أَوِ الْأَمْرُ الَّذِي قَصَدَ الْهِجْرَةَ لَهُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أَيْ: ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ ثُبُوتًا لَا يَتَخَلَّفُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً أَيْ: كَثِيرَ الْمَغْفِرَةِ رَحِيماً أَيْ: كَثِيرَ الرَّحْمَةِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ بِدَارِ الشِّرْكِ، أَوْ بِدَارٍ يُعْمَلُ فِيهَا بِمَعَاصِي اللَّهِ جِهَارًا، إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا كَمَا تَقَدَّمَ. وَظَاهِرُهَا: عدم الفرق

بَيْنَ مَكَانٍ وَمَكَانٍ وَزَمَانٍ وَزَمَانٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْهِجْرَةِ أَحَادِيثُ، وَوَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَا هُوَ الْحَقُّ فِي شَرْحِنَا عَلَى الْمُنْتَقَى فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ وَقُتِلَ الْبَعْضُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: قَدْ كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ وَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفِرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتْ بِهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالَ: فَكُتِبَ إِلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ، فَخَرَجُوا، فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَعْطَوْهُمُ الْفِتْنَةَ «1» ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ «2» إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَكَتَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَحَزِنُوا وَأَيِسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «3» فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا فَاخْرُجُوا، فَخَرَجُوا، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى نَجَا مَنْ نَجَا، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ مُقْتَصِرًا عَلَى أَوَّلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ إِلَى قَوْلِهِ: وَساءَتْ مَصِيراً قَالَ: نَزَلَتْ فِي قَيْسِ بْنِ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْحَارِثِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَقَيْسِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبِي الْعَاصِ بْنِ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَعَلِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعُهُمْ لِمَنْعِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَعِيرِ قُرَيْشٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَأَنْ يَطْلُبُوا مَا نِيلَ مِنْهُمْ يَوْمَ نَخْلَةَ، خَرَجُوا مَعَهُمْ بِشَبَابٍ كَارِهِينَ، كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا، وَاجْتَمَعُوا بِبَدْرٍ عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ، فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ كُفَّارًا، وَرَجَعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ هؤلاء الذين سميناهم. وقد أخرج نَحْوَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه تلا هذا الْآيَةَ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ فَقَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَنَا مِنَ الْوِلْدَانِ وَأُمِّي مِنَ النِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً قَالَ: قُوَّةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جرير، وابن المنذر، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً قَالَ: نُهُوضًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا قَالَ: طَرِيقًا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً قَالَ: الْمُرَاغَمُ: الْمُتَحَوَّلُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ. وَالسَّعَةُ: الرِّزْقُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: مُراغَماً قَالَ: مُتَزَحْزَحًا عَمَّا يَكْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَعَةً قَالَ: وَرَخَاءً. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ قَالَ: سَعَةُ الْبِلَادِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ: عَنِ ابْنِ عباس قال:

_ (1) . في ابن كثير، ط دار الأندلس [2/ 396] : التقية. (2) . العنكبوت: 10. [.....] (3) . النحل: 110.

[سورة النساء (4) : الآيات 101 إلى 102]

خَرَجَ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: احْمِلُونِي فَأَخْرِجُونِي مِنْ أَرْضِ الشِّرْكِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ الْوَحْيُ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَيْنَ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَخَرَّ عَنْ دَابَّتِهِ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ لَدَغَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» - يَعْنِي بِحَتْفِ أَنْفِهِ: عَلَى فِرَاشِهِ، وَاللَّهِ إِنَّهَا لَكَلِمَةٌ مَا سَمِعْتُهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «وَمَنْ قتل قعصا «1» فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الْجَنَّةَ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْحَاجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُعْتَمِرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْغَازِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا حَدِيثٌ غريب من هذا الوجه. [سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) قَوْلُهُ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ قَرِيبًا. قَوْلُهُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَذَهَبَ الْأَقَلُّونَ: إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَمِنْهُمْ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْكُوفِيُّونَ، وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ: «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ» . وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَتُهَا لِمَا رَوَتْ، فَالْعَمَلُ على الرواية الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِثْلُهُ: حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قُلْتُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فَقَالَ لِي عُمَرُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فسألت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَهْلُ السُّنَنِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: «فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» : أَنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ. قَوْلُهُ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ظَاهِرُ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الْقَصْرَ لا يجوز في السفر إِلَّا مَعَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ لَا مَعَ الْأَمْنِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ بِالسُّنَّةِ أَنَّ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قَصَرَ مَعَ الْأَمْنِ كَمَا عَرَفْتَ، فَالْقَصْرُ مَعَ الْخَوْفِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، وَالْقَصْرُ مَعَ الْأَمْنِ ثابت

_ (1) . قعصا: قعصه بالرمح قعصا: طعنه بالرمح طعنا سريعا، وقعصه: قتله مكانه.

بِالسُّنَّةِ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ لَا يَقْوَى عَلَى مُعَارَضَةِ ما تواتر عنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْقَصْرِ مَعَ الْأَمْنِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذْ ذَاكَ الْقَصْرُ لِلْخَوْفِ في الأسفار، ولهذا قال يعلى ابن أُمَيَّةَ لِعُمَرَ مَا قَالَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ يفتنكم الذين كفروا بِسُقُوطِ إِنْ خِفْتُمْ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا هِيَ مُبِيحَةٌ لِلْقَصْرِ فِي السَّفَرِ لِلْخَائِفِ مِنَ الْعَدُوِّ، فَمَنْ كَانَ آمِنًا فَلَا قَصْرَ لَهُ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ خِفْتُمْ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ وَأَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنَ الصَّلاةِ ثُمَّ افْتَتَحَ فَقَالَ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَأَقِمْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ صَلَاةَ الْخَوْفِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً مُعْتَرِضٌ، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الْجُرْجَانِيُّ، وَالْمَهْدَوِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَرَدَّهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْجُرْجَانِيُّ وَمَنْ مَعَهُ، وَمِمَّا يَرُدُّ هَذَا وَيَدْفَعُهُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالَ: إِنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ، وَإِنَّ الْجَوَابَ لِلشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: إِنْ خِفْتُمْ هُوَ قَوْلُهُ: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ الْخَوْفِ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ: حَدِيثُ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ. قَوْلُهُ: أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: فَتَنْتُ الرَّجُلَ، وَرَبِيعَةُ وَقَيْسٌ وَأَسَدٌ وَجَمِيعُ أَهْلِ نَجْدٍ يَقُولُونَ: أَفْتَنْتُ الرَّجُلَ، وَفَرَّقَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ بَيْنَهُمَا فَقَالَا: فَتَنْتُهُ: جَعَلْتُ فِيهِ فِتْنَةً مِثْلَ كَحَلْتُهُ، وَأَفْتَنْتُهُ: جَعَلْتُهُ مُفَتَّنًا، وَزَعَمَ الْأَصْمَعِيُّ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَفْتَنْتَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ: الْقِتَالُ وَالتَّعَرُّضُ بِمَا يَكْرَهُ. قَوْلُهُ: عَدُوًّا أَيْ أَعْدَاءً. قَوْلُهُ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ هَذَا خِطَابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَمْرِ، حُكْمُهُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً «1» وَنَحْوُهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَشَذَّ أَبُو يُوسُفَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ فَقَالَا: لَا تُصَلَّى صَلَاةُ الْخَوْفِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ خَاصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، قَالَا: وَلَا يَلْحَقُ غَيْرُهُ بِهِ لِمَا له صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْمَزِيَّةِ الْعُظْمَى، وَهَذَا مَدْفُوعٌ، فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ وَالتَّأَسِّي بِهِ، وَقَدْ قال صلّى الله عليه وَسَلَّمَ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَعْرَفُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ صَلَّوْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فِي غَيْرِ مَرَّةٍ كَمَا ذَلِكَ مَعْرُوفٌ. وَمَعْنَى: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أَرَدْتَ الْإِقَامَةَ، كَقَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ «2» ، وقوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «3» قَوْلُهُ: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ يَعْنِي: بَعْدَ أَنْ تَجْعَلَهُمْ طَائِفَتَيْنِ طَائِفَةٌ تَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةٌ تَقُومُ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي الصَّلَاةِ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ أَيْ: الطَّائِفَةُ الَّتِي تُصَلِّي مَعَهُ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الطَّائِفَةِ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْقَائِمَةَ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً بِأَسْلِحَتِهَا، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الْأَمْرِ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ حَالَ الصَّلَاةِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَكُونَ آخِذًا لِسِلَاحِهِ، أَيْ: غَيْرُ وَاضِعٍ لَهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَخْذَ بِالْيَدِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونُوا حَامِلِينَ لِسِلَاحِهِمْ لِيَتَنَاوَلُوهُ مِنْ قُرْبٍ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْطَعَ لِرَجَاءِ عَدُوِّهِمْ مِنْ إِمْكَانِ فُرْصَتِهِ فِيهِمْ. وَقَدْ قَالَ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ إِلَى الطَّائِفَةِ الْقَائِمَةِ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُصَلِّيَةَ لَا تحارب،

_ (1) . التوبة: 103. (2) . المائدة: 6. (3) . النحل: 98.

وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُصَلِّيَةِ، وَجَوَّزَ الزَّجَّاجُ، وَالنَّحَّاسُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا لِلطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ أَرْهَبُ لِلْعَدُوِّ. وَقَدْ أَوْجَبَ أَخْذَ السِّلَاحِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ أَهْلُ الظَّاهِرِ حَمْلًا لِلْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّينَ لَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ وَأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. قَوْلُهُ: فَإِذا سَجَدُوا أَيْ: الْقَائِمُونَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكُونُوا أَيْ: الطَّائِفَةُ الْقَائِمَةُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مِنْ وَرائِكُمْ أَيْ: مِنْ وَرَاءِ الْمُصَلِّينَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِذَا سَجَدَ الْمُصَلُّونَ مَعَهُ، أَيْ: أَتَمُّوا الرَّكْعَةَ، تَعْبِيرًا بِالسُّجُودِ عَنْ جَمِيعِ الرَّكْعَةِ، أَوْ عَنْ جَمِيعِ الصَّلَاةِ فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أَيْ: فَلْيَنْصَرِفُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ إِلَى مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ لِلْحِرَاسَةِ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى وَهِيَ الْقَائِمَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا الطَّائِفَةُ الْأُولَى وَلْيَأْخُذُوا أَيْ: هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ زِيَادَةَ التَّوْصِيَةِ لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى بِأَخْذِ الْحَذَرِ مَعَ أَخْذِ السِّلَاحِ. قِيلَ: وَجْهُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَرَّةَ مَظِنَّةٌ لِوُقُوفِ الْكَفَرَةِ عَلَى كَوْنِ الطَّائِفَةِ الْقَائِمَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ، وَأَمَّا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَرُبَّمَا يَظُنُّونَهُمْ قَائِمِينَ لِلْحَرْبِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْعَدُوَّ لَا يُؤَخِّرُ قَصْدَهُ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ آخِرُ الصَّلَاةِ، وَالسِّلَاحُ: مَا يَدْفَعُ بِهِ الْمَرْءُ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَمْ تُصَلِّي كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ؟ وَقَدْ وَرَدَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى أَنْحَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ مُجْزِئَةٌ، مَنْ فَعَلَ وَاحِدَةً مِنْهَا فَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَمَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى اخْتِيَارِ صِفَةٍ دُونَ غَيْرِهَا فَقَدْ أَبْعَدَ عَنِ الصَّوَابِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى، وَفِي سَائِرِ مُؤَلَّفَاتِنَا. قَوْلُهُ: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَمَرَهَمُ اللَّهُ بِالْحَذَرِ وَأَخْذِ السِّلَاحِ، أَيْ: وَدُّوا غَفْلَتَكُمْ عَنْ أَخْذِ السِّلَاحِ وَعَنِ الْحَذَرِ لِيَصِلُوا إِلَى مَقْصُودِهِمْ، وَيَنَالُوا فُرْصَتَهُمْ، فَيَشُدُّونَ عَلَيْكُمْ شَدَّةً وَاحِدَةً، وَالْأَمْتِعَةُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الْحَرْبِ، وَمِنْهُ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. قَوْلُهُ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ رَخَّصَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي وَضْعِ السِّلَاحِ إِذَا نَالَهُمْ أَذًى مِنَ الْمَطَرِ وَفِي حَالِ الْمَرَضِ، لِأَنَّهُ يَصْعُبُ مَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَمْلُ السِّلَاحِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَخْذِ الْحَذَرِ لِئَلَّا يَأْتِيهِمُ الْعَدُوُّ عَلَى غِرَّةٍ وَهُمْ غَافِلُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي حَنْظَلَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ السَّفَرِ، فَقَالَ: رَكْعَتَانِ، قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَنَحْنُ آمِنُونَ؟ قَالَ: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ؟ إِنَّا لَا نَجِدُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، إِنَّمَا نَجِدُ ذِكْرَ صَلَاةِ الْخَوْفِ، فَقَالَ ابْنُ عمر: يا ابن أَخِي! إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رأينا رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَفْعَلُ، وَقَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ سنها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِمِنًى- أَكْثَرَ مَا كَانَ النَّاسُ وَآمَنَهُ- رَكْعَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ

[سورة النساء (4) : الآيات 103 إلى 104]

الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَنَحْنُ آمِنُونَ لَا نَخَافُ شَيْئًا رَكْعَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلَ قَوْمٌ مِنَ التُّجَّارِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ فَكَيْفَ نُصَلِّي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ثُمَّ انْقَطَعَ الْوَحْيُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَوْلٍ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم فصلى الظهر، فقال المشركون: قد أمنكم مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ظُهُورِهِمْ هَلَّا شَدَدْتُمْ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنَّ لَهُمْ أُخْرَى مِثْلَهَا فِي أَثَرِهَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً فَنَزَلَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، والحاكم عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ، فَاسْتَقْبَلَنَا الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى بِنَا النبي صلّى الله عليه وسلّم الظهر، فَقَالُوا: قَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ لَوْ أَصَبْنَا غِرَّتَهُمْ، ثُمَّ قَالُوا: تَأْتِي عَلَيْهِمُ الْآنَ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ الصَّلَاةِ الَّتِي صلوها مع النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ مُسْتَوْفَاةٌ فِي مَوَاطِنِهَا، فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا هَاهُنَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، كان جريحا. [سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 104] فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) قَضَيْتُمُ بِمَعْنَى: فَرَغْتُمْ مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي الْقَضَاءِ، وَمِثْلُهُ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ «1» فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «2» قوله: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ «3» أَيْ: فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، حَتَّى فِي حَالِ الْقِتَالِ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِلَى أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ أَثَرُ صَلَاةِ الْخَوْفِ، أَيْ: إِذَا فَرَغْتُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ: إِذَا صَلَّيْتُمْ فَصَلُّوا قِيَامًا وَقُعُودًا أَوْ عَلَى جَنُوبِكُمْ، حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ عِنْدَ مُلَاحَمَةِ الْقِتَالِ، فَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً «4» . قَوْلُهُ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أَيْ: أَمِنْتُمْ وَسَكَنَتْ قُلُوبُكُمْ، وَالطُّمَأْنِينَةُ: سُكُونُ النَّفْسِ مِنَ الْخَوْفِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي: فأتوا بِالصَّلَاةِ الَّتِي دَخَلَ وَقْتُهَا عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ من الأذكار والأركان، ولا تغفلوا مَا أَمْكَنَ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَالِ الْخَوْفِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّهُمْ يَقْضُونَ مَا صَلَّوْهُ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ، لِأَنَّهَا حَالَةُ قَلَقٍ وَانْزِعَاجٍ وَتَقْصِيرٍ فِي الْأَذْكَارِ وَالْأَرْكَانِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أَيْ: مَحْدُودًا مُعَيَّنًا، يُقَالُ: وَقَتَهُ فَهُوَ مَوْقُوتٌ وَوَقَّتَّهُ فهو مؤقّت. وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ الصَّلَوَاتِ،

_ (1) . البقرة: 200. (2) . الجمعة: 10. (3) . البقرة: 239. (4) . البقرة: 239.

[سورة النساء (4) : الآيات 105 إلى 109]

وَكَتَبَهَا عَلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتِهَا الْمَحْدُودَةِ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ، مِنْ نَوْمٍ أَوْ سَهْوٍ أَوْ نَحْوِهِمَا. قَوْلُهُ: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أَيْ: لَا تَضْعَفُوا فِي طَلَبِهِمْ، وَأَظْهِرُوا الْقُوَّةَ وَالْجَلَدَ. قَوْلُهُ: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، أَيْ: لَيْسَ مَا تَجِدُونَهُ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ وَمُزَاوَلَةِ الْقِتَالِ مُخْتَصًّا بِكُمْ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، فَلَيْسُوا بِأَوْلَى مِنْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى حَرِّ الْقِتَالِ وَمَرَارَةِ الْحَرْبِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَكُمْ عَلَيْهِمْ مَزِيَّةٌ لَا تُوجَدُ فِيهِمْ، وَهِيَ: أَنَّكُمْ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْأَجْرِ وَعَظِيمِ الْجَزَاءِ مَا لَا يَرْجُونَهُ لِكُفْرِهِمْ وَجُحُودِهِمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِالصَّبْرِ مِنْهُمْ، وَأَوْلَى بِعَدَمِ الضَّعْفِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ أَنْفُسَكُمْ قَوِيَّةٌ، لِأَنَّهَا تَرَى الْمَوْتَ مَغْنَمًا، وَهُمْ يَرَوْنَهُ مَغْرَمًا. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ «1» وَقِيلَ: إِنَّ الرَّجَاءَ هُنَا بِمَعْنَى الْخَوْفِ، لِأَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا فَهُوَ غَيْرُ قَاطِعٍ بِحُصُولِهِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ خَوْفِ مَا يَرْجُو. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: لَا يُطْلَقُ الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ إِلَّا مَعَ النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «2» أَيْ: لَا تَخَافُونَ لَهُ عَظَمَةً. وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ: إِنْ تَكُونُوا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: لأن تكونوا، وقرأ منصور بن المعتمر: تئلمون، بِكَسْرِ التَّاءِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ كَسْرُ التَّاءِ لِثِقَلِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ قَالَ: بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَفِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالسَّقَمِ وَالصِّحَّةِ، وَالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الرَّجُلُ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا صَلَّى قَاعِدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ قَالَ: إِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ دَارِ السَّفَرِ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ قَالَ: أَتِمُّوهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً يَعْنِي مَفْرُوضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: الْمَوْقُوتُ الْوَاجِبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَهِنُوا قَالَ: وَلَا تَضْعُفُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: تَأْلَمُونَ قَالَ: تُوجَعُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ قال: ترجون الخير. [سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 109] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) قَوْلُهُ: بِما أَراكَ اللَّهُ إِمَّا بِوَحْيٍ، أَوْ بِمَا هُوَ جَارٍ عَلَى سُنَنِ مَا قَدْ أَوْحَى الله به، وليس المراد هنا

_ (1) . آل عمران: 140. (2) . نوح: 13.

رُؤْيَةُ الْعَيْنِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُرَى، بَلِ الْمُرَادُ: بِمَا عَرَّفَهُ اللَّهُ بِهِ وَأَرْشَدَهُ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ أَيْ: لِأَجْلِ الْخَائِنِينَ، خَصِيمًا: أَيْ: مُخَاصِمًا عَنْهُمْ، مُجَادِلًا لِلْمُحِقِّينَ بِسَبَبِهِمْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْ أَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُحِقٌّ. قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ أَمْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِغْفَارِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْمَعْنَى: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِنْ ذَنْبِكَ فِي خِصَامِكَ لِلْخَائِنِينَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ الْآيَةُ، وَبِهِ يَتَّضِحُ الْمُرَادُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِلْمُذْنِبِينَ مِنْ أُمَّتِكَ، وَالْمُخَاصِمِينَ بِالْبَاطِلِ. قَوْلُهُ: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ أَيْ: لَا تُحَاجِجْ عَنِ الَّذِينَ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَالْمُجَادَلَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ الْفَتْلُ وَقِيلَ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَدَالَةِ، وَهِيَ وَجْهُ الْأَرْضِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يُلْقِيَ صَاحِبَهُ عَلَيْهَا، وَسُمِّيَ ذَلِكَ: خِيَانَةً لِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ ضَرَرَ مَعْصِيَتِهِمْ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ. وَالْخَوَّانُ: كَثِيرُ الْخِيَانَةِ، وَالْأَثِيمُ: كَثِيرُ الْإِثْمِ، وَعَدَمُ الْمَحَبَّةِ: كِنَايَةٌ عَنِ الْبُغْضِ. قَوْلُهُ: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ أَيْ: يَسْتَتِرُونَ مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أي: مستتر وقيل: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ: أَيْ لَا يَسْتَتِرُونَ مِنْهُ، أَوْ لَا يَسْتَحْيُونَ مِنْهُ وَالْحَالُ أَنَّهُ مَعَهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، عَالِمٌ بِمَا هُمْ فِيهِ، فَكَيْفَ يَسْتَخْفُونَ مِنْهُ؟ إِذْ يُبَيِّتُونَ أَيْ: يُدِيرُونَ الرَّأْيَ بَيْنَهُمْ، وَسَمَّاهُ: تَبْيِيتًا لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ تَكُونَ إِدَارَةُ الرَّأْيِ بِاللَّيْلِ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ أَيْ: مِنَ الرَّأْيِ الَّذِي أَدَارُوهُ بَيْنَهُمْ، وَسَمَّاهُ: قَوْلًا، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الْمُقَاوَلَةِ بَيْنَهُمْ. قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ يَعْنِي: الْقَوْمَ الَّذِينَ جَادَلُوا عَنْ صَاحِبِهِمُ السَّارِقِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أُولَاءِ بِمَعْنَى الَّذِينَ وجادَلْتُمْ بِمَعْنَى حَاجَجْتُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: فَمَنْ يُخَاصِمُ وَيُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ تَعْذِيبِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ؟ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أَيْ: مُجَادِلًا وَمُخَاصِمًا، وَالْوَكِيلُ فِي الْأَصْلِ: الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ الْأُمُورِ. وَالْمَعْنَى: مَنْ ذَاكَ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ إِذَا أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِعَذَابِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو أُبَيْرِقٍ بِشْرٌ وَبُشَيْرٌ وَمُبَشِّرٌ، وَكَانَ بِشْرٌ رَجُلًا مُنَافِقًا يَقُولُ الشِّعْرَ، يَهْجُو بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَنْحَلُهُ بَعْضُ الْعَرَبِ، ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ فُلَانٌ: كَذَا وَكَذَا فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الشِّعْرَ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَقُولُ هذا الشعر إلا هذا الخبيث، فقال: أو كلّما قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً ... أَصْمُوا فَقَالُوا «1» ابْنُ الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا قَالَ: وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ «2» ، أَيْ: حَمُولَةٌ مِنَ الشام من الدرمك «3» ابتاع الرجل منها

_ (1) . في القرطبي (5/ 376) : نحلت وقالوا ... (2) . الضافط: الذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن. (3) . الدرمك: الدقيق الحوّارى. [.....]

فخصّ بها نَفْسَهُ، وَأَمَّا الْعِيَالُ فَإِنَّمَا طَعَامُهُمُ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنَ الشَّامِ، فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَةُ بن رافع جملا مِنَ الدَّرْمَكِ، فَجَعَلَهُ فِي مَشْرَبَةٍ «1» ، وَفِي الْمَشْرَبَةِ سِلَاحٌ لَهُ دِرْعَانِ وَسَيْفَاهُمَا وَمَا يُصْلِحُهُمَا، فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ اللَّيْلِ، فَنُقِبَتِ الْمَشْرَبَةُ، وَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلَاحُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فقال: يا ابن أَخِي! تَعَلَمُ أَنْ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ، فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنَا، فَذَهَبَ بِطَعَامِنَا وَسِلَاحِنَا، قَالَ: فَتَحَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا، فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا نَارًا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَلَا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلَّا على بعض طعامكم، وَكَانَ بَنُو أُبَيْرِقٍ قَالُوا وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ: وَاللَّهِ مَا نُرَى صَاحِبُكُمْ إِلَّا لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ رَجُلًا مِنَّا لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ لَبِيَدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ ثُمَّ أتى بني أبيرق وقال: أنا أسرق؟ فو الله لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، قالوا: إليك عنا أيها الرجل! فو الله مَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حَتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عَمِّي: يا ابن أخي أو أتيت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلَ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ فَنَقَبُوا مَشْرَبَةً لَهُ، وَأَخَذُوا سِلَاحَهُ وَطَعَامَهُ، فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلَاحَنَا، وَأَمَّا الطَّعَامُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ بَنُو أُبَيْرِقٍ أَتَوْا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ قَتَادَةَ بن النعمان وعمه عمدوا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبَتٍ، قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمْتُهُ فَقَالَ: عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ وَصَلَاحٌ تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبَتٍ؟ قَالَ قَتَادَةُ: فَرَجِعْتُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أكلم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَأَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ لِي: يَا بن أَخِي! مَا صَنَعْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً بَنِي أُبَيْرِقٍ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ أَيْ: مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً أي: لو استغفروا لهم وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً إِلَى قَوْلِهِ: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً قَوْلُهُمْ لِلَبِيدٍ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ يَعْنِي: أُسَيْرَ بْنَ عُرْوَةَ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّلَاحِ فَرَدَّهُ إِلَى رِفَاعَةَ قَالَ قَتَادَةُ: فَلَمَّا أَتَيْتُ عَمِّي بِالسِّلَاحِ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ غُشِيَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ: كَبُرَ، وَكُنْتُ أَرَى إِسْلَامَهُ مَدْخُولًا، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ بِالسِّلَاحِ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي! هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ صَحِيحًا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَحِقَ بُشَيْرٌ بِالْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى إلى قوله: ضَلالًا بَعِيداً «2» فَلَمَّا نَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ رَمَاهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرٍ، فَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَوَضَعَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا ثُمَّ خَرَجَتْ فَرَمَتْ بِهِ فِي الْأَبْطُحِ، ثُمَّ قَالَتْ: أَهْدَيْتَ لِي شِعْرَ حَسَّانَ؟ مَا كُنْتُ تَأْتِينِي بِخَيْرٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حديث غريب، لا

_ (1) . المشربة: بفتح الراء وضمها: الغرفة. (2) . النساء: 115- 116.

[سورة النساء (4) : الآيات 110 إلى 113]

نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيِّ. وَرَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ مُرْسَلًا، لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيِّ عَنْ محمد بن سلمة به ببعضه. ورواه ابن المنذر في تفسيره قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، يعني: الصَّانِعِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ، وَالْحَسَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: سَمِعَ مِنِّي هَذَا الْحَدِيثَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ أبي العباس الأصم، عن أحمد ابن عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِمَعْنَاهُ أَتَمَّ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: غَدَا بُشَيْرٌ، فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُخْتَصَرَةٌ وَمُطَوَّلَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ من التابعين. [سورة النساء (4) : الآيات 110 الى 113] وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) هَذَا مِنْ تَمَامِ الْقِصَّةِ السَّابِقَةِ، وَالْمُرَادُ بِالسُّوءِ: الْقَبِيحُ الَّذِي يَسُوءُ بِهِ أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بِفِعْلِ مَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي، أَوْ ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا قَارَفَهُ مِنَ الذَّنْبِ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً لِذَنْبِهِ رَحِيماً بِهِ، وَفِيهِ تَرْغِيبٌ لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ السَّرَقَ مِنْ بَنِي أُبَيْرِقٍ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرَهُ، وَأَنَّهُ غَفُورٌ لِمَنْ يَسْتَغْفِرُهُ رَحِيمٌ بِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ، أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَقَتَلَ حَمْزَةَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَهِيَ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله أذنب ذنبا ثم استغفره اللَّهَ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً مِنَ الْآثَامِ بِذَنْبٍ يَذْنِبُهُ فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ أَيْ: عَاقِبَتُهُ عَائِدَةٌ عَلَيْهِ، وَالْكَسْبُ: مَا يَجُرُّ بِهِ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا، وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى فِعْلُ الرَّبِّ كسبا، قال الْقُرْطُبِيُّ. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً قِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ الْخَطِيئَةَ تَكُونُ عَنْ عَمْدٍ وَعَنْ غَيْرِ عَمْدٍ، وَالْإِثْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عَمْدٍ، وَقِيلَ: الْخَطِيئَةُ: الصَّغِيرَةُ، وَالْإِثْمُ: الْكَبِيرَةُ. قَوْلُهُ: ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً تَوْحِيدُ الضَّمِيرِ لِكَوْنِ الْعَطْفِ بأو، أَوْ لِتَغْلِيبِ الْإِثْمِ عَلَى الْخَطِيئَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْكَسْبِ. قَوْلُهُ: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً لَمَّا كَانَتِ الذُّنُوبُ لَازِمَةً لِفَاعِلِهَا كَانَتْ كَالثِّقْلِ الَّذِي يُحْمَلُ، وَمِثْلُهُ: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «1» . والبهتان: مأخوذ من

_ (1) . العنكبوت: 13.

[سورة النساء (4) : الآيات 114 إلى 115]

الْبُهْتِ، وَهُوَ الْكَذِبُ عَلَى الْبَرِيءِ بِمَا يَنْبَهِتُ لَهُ وَيَتَحَيَّرُ مِنْهُ، يُقَالُ: بَهَتَهُ بَهْتًا وَبُهْتَانًا: إِذَا قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، وَيُقَالُ: بَهِتَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ: إِذَا دَهِشَ وَتَحَيَّرَ، وَبَهُتَ بالضم، ومنه: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ «1» ، وَالْإِثْمُ الْمُبِينُ: الْوَاضِحُ. قَوْلُهُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ خِطَابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ: أنه نبهه عَلَى الْحَقِّ فِي قِصَّةِ بَنِي أُبَيْرِقٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمَا: النُّبُوَّةُ وَالْعِصْمَةُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَيْ: مِنَ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ عَضَّدُوا بَنِي أُبَيْرِقٍ كَمَا تَقَدَّمَ أَنْ يُضِلُّوكَ عَنِ الْحَقِّ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ عَاصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، وَلِأَنَّكَ عَمِلْتَ بِالظَّاهِرِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْكَ فِي الْحُكْمِ بِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: وَمَا يَضُرُّونَكَ شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ. قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ قِيلَ: هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، وَقِيلَ: الْوَاوُ: لِلْحَالِ، أَيْ: وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ حَالَ إِنْزَالِ اللَّهِ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، أَوْ مَعَ إِنْزَالِ اللَّهِ ذَلِكَ عَلَيْكَ. قَوْلُهُ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْزَلَ، أَيْ: عَلَّمَكَ بِالْوَحْيِ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مِنْ قَبْلُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً إِذْ لَا فَضْلَ أَعْظَمُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ الْآيَةَ. قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ وَكَرَمِهِ وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَمَنْ أَذْنَبَ ذَنَبًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ثُمَّ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَوْ كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ «2» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ قَالَ: عَلَّمَهُ اللَّهُ بَيَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بَيَّنَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ لِيَحْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى خَلْقِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: عَلَّمَهُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَقَدْ وَرَدَ فِي قَبُولِ الِاسْتِغْفَارِ، وَأَنَّهُ يَمْحُو الذَّنْبَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُدَوَّنَةٌ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ. [سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115] لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) النَّجْوَى: السِّرُّ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ أَوِ الْجَمَاعَةٍ، تَقُولُ: نَاجَيْتُ فُلَانًا مُنَاجَاةً وَنِجَاءً وَهُمْ يَنْتِجُونَ وَيَتَنَاجَوْنَ، وَنَجَوْتُ فُلَانًا أَنْجُوهُ نَجْوًى، أَيْ: نَاجَيْتُهُ، فَنَجْوَى: مُشْتَقَّةٌ مَنْ نَجَوْتُ الشَّيْءَ أَنْجُوهُ، أَيْ: خَلَّصْتُهُ وَأَفْرَدْتُهُ. وَالنَّجْوَةُ مِنَ الْأَرْضِ: الْمُرْتَفِعُ، لِانْفِرَادِهِ بِارْتِفَاعِهِ عَمَّا حَوْلَهُ، فَالنَّجْوَى: الْمُسَارَّةُ، مَصْدَرٌ. وَقَدْ تُسَمَّى بِهِ الْجَمَاعَةُ كَمَا يُقَالُ قَوْمٌ عَدْلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى «3» فعلى الأوّل يكون الاستثناء منقطعا، أي: لكن مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ، أَوْ مُتَّصِلًا، عَلَى تَقْدِيرِ: إِلَّا نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ كَثِيرٍ. أَيْ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ إِلَّا فِيمَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ. وَقَدْ قَالَ جماعة من المفسرين:

_ (1) . البقرة: 258. (2) . النساء: 64. (3) . الإسراء: 47.

إِنَّ النَّجْوَى كَلَامُ الْجَمَاعَةِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوِ الِاثْنَيْنِ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ. قَوْلُهُ: بِصَدَقَةٍ الظَّاهِرُ أَنَّهَا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا صَدَقَةُ الْفَرْضِ. وَالْمَعْرُوفُ: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْرُوفُ: لَفْظٌ عَامٌّ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْبِرِّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْرُوفُ هُنَا: الْقَرْضُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازَيْهِ ... لَا يَذْهَبُ الْعُرْفَ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ» ، وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ: إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ. وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ عَامٌّ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ التَّدَاعِي فِيهِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، جَعَلَ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ بِهَا خَيْرًا، ثُمَّ رَغَّبَ فِي فِعْلِهَا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ لِأَنَّ فِعْلَهَا أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ بِهَا، إِذْ خَيْرِيَّةُ الْأَمْرِ بِهَا إِنَّمَا هِيَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى فِعْلِهَا. قَوْلُهُ: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِهَذَا الْمَدْحِ وَالْجَزَاءِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ نَاجٍ مِنَ الْوِزْرِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى الْمُشَاقَقَةُ: الْمُعَادَاةُ وَالْمُخَالَفَةُ. وَتَبَيُّنُ الْهُدَى: ظُهُورُهُ، بِأَنْ يَعْلَمَ صِحَّةَ الرِّسَالَةِ بِالْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَفْعَلُ الْمُشَاقَقَةُ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: غَيْرَ طَرِيقِهِمْ، وَهُوَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّمَسُّكِ بِأَحْكَامِهِ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى أَيْ: نَجْعَلْهُ واليا لما توالاه مِنَ الضَّلَالِ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ قَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو: نُوَلِّهْ وَنُصْلِهْ بِسُكُونِ الْهَاءِ فِي الموضعين. وقرأ الباقون: بكسر هما، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقُرِئَ: وَنَصْلِهِ بِفَتْحِ النُّونِ مِنْ صَلَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، لَأَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ هُنَا: هُوَ الْخُرُوجُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ، وَيَشْهَدُ بِهِ السَّبَبُ، فَلَا تَصْدُقُ عَلَى عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ اجْتَهَدَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى مُخَالَفَةِ مَنْ بِعَصْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا رَامَ السُّلُوكَ فِي سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الدِّينُ الْقَوِيمُ وَالْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ وَلَمْ يَتْبَعْ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَامُ ابْنِ آدَمَ كُلُّهُ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ ذِكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً «1» ، وَقَوْلُهُ: وَالْعَصْرِ- إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ- إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ «2» . وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي الصَّمْتِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَالتَّرْغِيبِ فِي حِفْظِهِ، وَفِي الْحَثِّ عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ تَصَدَّقَ أَوْ أَقْرَضَ أَوْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ أَبُو نَصْرٍ السَّجَزِيُّ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الله

_ (1) . النبأ: 38. (2) . العصر: 1- 3.

[سورة النساء (4) : الآيات 116 إلى 122]

أنزل عليّ في الْقُرْآنَ يَا أَعْرَابِيُّ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً يَا أَعْرَابِيُّ! الْأَجْرُ الْعَظِيمُ: الْجَنَّةُ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا يجمع الله بين هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى الضَّلَالَةِ أَبَدًا، وَيَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مرفوعا. [سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 122] إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ قَدْ تَقَدَّمَ تفسير هذه الآية، وتكريرها بلفظ لِلتَّأْكِيدِ وَقِيلَ: كُرِّرَتْ هُنَا لِأَجْلِ قِصَّةِ بَنِي أُبَيْرِقٍ وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ هُنَا لِسَبَبٍ غَيْرِ قِصَّةِ بَنِي أُبَيْرِقٍ. وَهُوَ مَا رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ، والقرطبي في تفسيريهما عن الضَّحَّاكِ: أَنَّ شَيْخًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي شَيْخٌ مُنْهَمِكٌ فِي الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا إِلَّا أَنِّي لَمْ أُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا مُذْ عَرَفْتُهُ وَآمَنْتُ بِهِ وَلَمْ أَتَّخِذْ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا وَلَمْ أُوقِعِ الْمَعَاصِي جُرْأَةً عَلَى اللَّهِ وَلَا مُكَابَرَةً لَهُ، وَإِنِّي لَنَادِمٌ وَتَائِبٌ وَمُسْتَغْفِرٌ، فَمَا حَالِي عِنْدَ اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْآيَةَ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ عَنِ الْحَقِّ ضَلالًا بَعِيداً لِأَنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الضَّلَالِ وَأَبْعَدُهَا مِنَ الصَّوَابِ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً أَيْ: مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا أَصْنَامًا لَهَا أَسْمَاءٌ مُؤَنَّثَةٌ كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنَاثِ: الْمَوَاتُ الَّتِي لَا رُوحَ لَهَا، كَالْخَشَبَةِ وَالْحَجَرِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنَاثِ: الْمَلَائِكَةُ، لِقَوْلِهِمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقُرِئَ «وُثُنًا» بِضَمِّ الْوَاوِ وَالثَّاءِ جَمْعُ وَثَنٍ، رَوَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِلَّا أُثُنًا» جَمْعُ وَثَنٍ أَيْضًا، وَأَصْلُهُ: وَثَنٌ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: إِلَّا أُنُثًا، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالنُّونِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، جَمْعُ أَنِيثٍ، كَغَدِيرٍ وَغَدْرٍ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: أَنَّهُ جَمْعُ إِنَاثٍ، كَثِمَارٍ وَثَمَرٍ. وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عَمْرٍو الداني عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَقَرَأَ بِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ. وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَهَذَا الْكَلَامُ خَارِجٌ مَخْرَجَ التَّوْبِيخِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّضْعِيفِ لِعُقُولِهِمْ، لِكَوْنِهِمْ عَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ نَوْعًا ضَعِيفًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً أَيْ: وَمَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا، وَهُوَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ إذا أطاعوه فيما سوّل فَقَدْ عَبَدُوهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ لَفْظِ الشَّيْطَانِ. وَالْمُرِيدُ: الْمُتَمَرِّدُ الْعَاتِي، مِنْ مَرَدَ:

إِذَا عَتَا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمُرِيدُ: الْخَارِجُ عَنِ الطَّاعَةِ. وَقَدْ مَرَدَ الرَّجُلُ مُرُودًا: إِذَا عَتَا وَخَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ، فَهُوَ مَارِدٌ وَمُرِيدٌ وَمُتَمَرِّدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: هُوَ الَّذِي ظَهَرَ شَرُّهُ، يُقَالُ: شَجَرَةٌ مَرْدَاءُ: إِذَا تَسَاقَطَ وَرَقَهَا وَظَهَرَتْ عِيدَانُهَا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّجُلِ: أَمْرَدُ، أَيْ: ظَاهِرُ مَكَانِ الشَّعْرِ مِنْ عَارِضَيْهِ. قَوْلُهُ: لَعَنَهُ اللَّهُ أَصْلُ اللَّعْنِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَهُوَ فِي الْعُرْفِ: إِبْعَادٌ مُقْتَرِنٌ بِسُخْطٍ. قَوْلُهُ: وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَعَنَهُ اللَّهُ، وَالْجُمْلَتَانِ صِفَةٌ لِشَيْطَانٍ، أَيْ: شَيْطَانًا مَرِيدًا جَامِعًا بَيْنَ لَعْنَةِ اللَّهِ لَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ الشَّنِيعِ. وَالنَّصِيبُ الْمَفْرُوضُ: هُوَ الْمَقْطُوعُ الْمُقَدَّرُ أَيْ: لَأَجْعَلَنَّ قِطْعَةً مُقَدَّرَةً مِنْ عِبَادِ اللَّهِ تَحْتَ غَوَايَتِي، وَفِي جَانِبِ إِضْلَالِي، حَتَّى أُخْرِجَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ إِلَى الْكُفْرِ بِهِ. قَوْلُهُ: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ اللَّامُ: جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. وَالْإِضْلَالُ: الصَّرْفُ عَنْ طَرِيقِ الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ الْغَوَايَةِ، وَهَكَذَا اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ وَالْمُرَادُ بِالْأَمَانِي الَّتِي يُمَنِّيهِمْ بِهَا الشَّيْطَانُ: هِيَ الأماني الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته. قوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي: ولآمرنهم ببتك آذَانِ الْأَنْعَامِ، أَيْ: تَقْطِيعِهَا فَلَيُبَتِّكُنَّهَا بِمُوجِبِ أَمْرِي. وَالْبَتْكُ: الْقَطْعُ، وَمِنْهُ سَيْفٌ بَاتِكٌ، يُقَالُ: بَتَكَهُ وَبَتَّكَهُ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: ....... طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكُ «1» أَيْ: قَطْعٌ. وَقَدْ فَعَلَ الْكُفَّارُ ذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ الشَّيْطَانِ وَاتِّبَاعًا لِرَسْمِهِ، فَشَقُّوا آذَانَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ، كَمَا ذَلِكَ مَعْرُوفٌ. قَوْلُهُ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ أَيْ: وَلَآمُرَنَّهُمْ بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ، فَلَيُغَيِّرُنَّهُ بِمُوجِبِ أَمْرِي لَهُمْ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا التَّغْيِيرِ مَا هُوَ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ الْخِصَاءُ، وَفَقْءُ الْأَعْيُنِ، وَقَطْعُ الْآذَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا التَّغْيِيرِ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْأَحْجَارَ وَالنَّارَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لِمَا خَلَقَهَا لَهُ، فَغَيَّرَهَا الْكُفَّارُ بِأَنْ جَعَلُوهَا آلِهَةً مَعْبُودَةً، وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا التَّغْيِيرِ: تَغْيِيرُ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ الناس عليها، ولا مانع من حملى الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ حَمْلًا شُمُولِيًّا أَوْ بَدَلِيًّا. وَقَدْ رَخَّصَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي خِصَاءِ الْبَهَائِمِ إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ زِيَادَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِسِمَنٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ آخَرُونَ، وَأَمَّا خِصَاءُ بَنِي آدَمَ فَحَرَامٌ، وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ شِرَاءَ الْخَصِيِّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ خِصَاءَ بَنِي آدَمَ لَا يَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ، وَأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَتَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ سَائِرِ أَعْضَائِهِمْ فِي غَيْرِ حَدٍّ ولا قود، قاله أبو عمر ابن عَبْدِ الْبَرِّ. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ بِاتِّبَاعِهِ وَامْتِثَالِ مَا يَأْمُرُ بِهِ، مِنْ دُونِ اتِّبَاعٍ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَلَا امْتِثَالَ لَهُ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أَيْ: وَاضِحًا ظَاهِرًا يَعِدُهُمْ الْمَوَاعِيدَ الْبَاطِلَةَ وَيُمَنِّيهِمْ الْأَمَانِي الْعَاطِلَةَ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أَيْ: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ بِمَا يُوقِعُهُ فِي خَوَاطِرِهِمْ مِنَ الْوَسَاوِسِ الْفَارِغَةِ إِلَّا غُرُوراً يَغُرُّهُمْ بِهِ، وَيُظْهِرُ لَهُمْ فِيهِ النَّفْعَ وَهُوَ ضَرَرٌ محض،

_ (1) . هذا عجز بيت، وصدره: حتّى إذا ما هوت كفّ الغلام لها.

وَانْتِصَابُ غُرُورًا: عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَعَدَا غُرُورًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، أَوْ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ لَفْظِهِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْغُرُورُ: مَا رَأَيْتَ لَهُ ظَاهِرًا تُحِبُّهُ وَلَهُ بَاطِنٌ مَكْرُوهٌ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. قَوْلُهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ. قَوْلُهُ: مَحِيصاً أَيْ: مَعْدِلًا، مِنْ حَاصَ يَحِيصُ وَقِيلَ: مَلْجَأً وَمَخْلَصًا وَالْمَحِيصُ: اسْمُ مَكَانٍ، وَقِيلَ: مَصْدَرٌ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ، جَعَلَ هَذَا الْوَعْدَ لِلَّذِينِ آمَنُوا مُقْتَرِنًا بِالْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمِ لِلْكَافِرِينَ. قَوْلُهُ: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا قَالَ فِي الْكَشَّافِ مَصْدَرَانِ: الْأَوَّلُ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ، وَالثَّانِي مُؤَكِّدٌ لِغَيْرِهِ، وَوَجْهُهُ، أَنَّ الْأَوَّلَ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَمَضْمُونُهَا وَعْدَ، وَالثَّانِي مُؤَكِّدٌ لِغَيْرِهِ. أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. قَوْلُهُ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْقِيلُ: مَصْدَرُ قَالَ كَالْقَوْلِ، أَيْ: لَا أَجِدُ أَصْدَقَ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقِيلَ: إِنَّ قِيلًا: اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ، وَإِنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً قَالَ: اللَّاتُ والعزى وَمَنَاةُ، كُلُّهَا مُؤَنَّثَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَعَ كُلِّ صَنَمٍ جِنِّيَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حاتم، عن ابن عباس: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً قَالَ: مَوْتًى. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ أَيْضًا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ. قَالَ: كَانَ لِكُلِّ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهَا يُسَمُّونَهَا: أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، قَالَ: اتَّخَذُوهُنَّ أَرْبَابًا، وَصَوَّرُوهُنَّ صُوَرَ الْجَوَارِي، فَحَلُّوا وَقَلَّدُوا، وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ يُشْبِهْنَ بَنَاتَ اللَّهِ الَّذِي نَعْبُدُهُ: يَعْنُونَ: الْمَلَائِكَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ إِلَخْ، قَالَ: هَذَا إِبْلِيسُ يَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عن الربيع بن أنس مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ قَالَ: التَّبْتِيكُ فِي الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ، يُبَتِّكُونَ آذَانَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ كَرِهَ الْإِخْصَاءَ وَقَالَ: فِيهِ نَزَلَتْ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خِصَاءِ الْبَهَائِمِ وَالْخَيْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَبْرِ الرُّوحِ وَإِخْصَاءِ الْبَهَائِمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ

[سورة النساء (4) : الآيات 123 إلى 126]

قَالَ: دِينُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الوشم. [سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 126] لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ مَنْ أَمَانِي فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَاسْمُ لَيْسَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَيْسَ دُخُولُ الْجَنَّةِ أَوِ الْفَضْلُ أَوِ الْقُرْبُ مِنَ اللَّهِ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ الْآتِي، وَقِيلَ: ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى وَعْدِ اللَّهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَمِنْ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ قَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «1» وقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «2» وَقَوْلُهُمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «3» . قَوْلُهُ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالسُّوءِ: الشِّرْكُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ سُوءًا أَيِّ سُوءٍ كَانَ فَهُوَ مَجْزِيٌّ بِهِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا تَرْجُفُ لَهُ الْقُلُوبُ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَقَدْ كَانَ لَهَا فِي صُدُورِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ نُزُولِهَا مَوْقِعٌ عَظِيمٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يَنْكُبُهَا وَالشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» . قَوْلُهُ: وَلا يَجِدْ لَهُ قَرَأَهُ الْجَمَاعَةُ: بِالْجَزْمِ، عَطْفًا عَلَى الْجَزَاءِ، وَرَوَى ابْنُ بَكَّارٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: وَلا يَجِدْ بِالرَّفْعِ اسْتِئْنَافًا أَيْ: لَيْسَ لِمَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يُوَالِيهِ، وَلَا نَصِيرًا يَنْصُرُهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أَيْ: بَعْضَهَا حَالَ كَوْنِهِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَحَالَ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا، وَالْحَالُ الْأُولَى: لِبَيَانِ مَنْ يَعْمَلُ، وَالْحَالُ الْأُخْرَى: لِإِفَادَةِ اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ فَأُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ الْمُتَّصِفِ بِالْإِيمَانِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ: يَدْخُلُونَ بضم حرف المضارعة على البناء المجهول. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَعْلُومِ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً أَيْ: لَا يُنْقَصُونَ شَيْئًا حَقِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النَّقِيرِ: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أَيْ: أَخْلَصَ نَفْسَهُ لَهُ حَالَ كَوْنِهِ مُحْسِنًا، أَيْ: عَامِلًا لِلْحَسَنَاتِ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أَيْ: دِينَهُ حَالَ كَوْنِ الْمُتَّبِعِ حَنِيفاً أَيْ: مَائِلًا عَنِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ إِلَى دِينِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا أَيْ: جَعَلَهُ صَفْوَةً لَهُ وَخَصَّهُ بِكَرَامَاتِهِ، قَالَ ثَعْلَبٌ: إِنَّمَا سُمِّي الْخَلِيلُ خَلِيلًا: لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ تَتَخَلَّلُ الْقَلْبَ فَلَا تَدَعُ فِيهِ خللا إِلَّا مَلَأَتْهُ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ بَشَّارٍ: قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِهِ سُمِّي الْخَلِيلُ خَلِيلًا

_ (1) . البقرة: 111. (2) . المائدة: 18. (3) . البقرة: 80.

[سورة النساء (4) : آية 127]

وَخَلِيلٌ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، كَالْعَلِيمِ بِمَعْنَى الْعَالِمِ، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَالْحَبِيبِ بِمَعْنَى الْمَحْبُوبِ، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ وَمُحِبًّا لَهُ وَقِيلَ: الْخَلِيلُ مِنَ الِاخْتِصَاصِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ اخْتَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِرِسَالَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاخْتَارَهُ لَهَا، وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَّاسُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْخَلِيلِ: الَّذِي لَيْسَ فِي مَحَبَّتِهِ خَلَلٌ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا لِطَاعَتِهِ، لَا لِحَاجَتِهِ، وَلَا لِلتَّكَثُّرِ بِهِ وَالِاعْتِضَادِ بِمُخَالَلَتِهِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها «1» . وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتِ الْعَرَبُ: لَا نُبْعَثُ وَلَا نُحَاسَبُ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «2» وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «3» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: احْتَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ، وَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ، فَنَزَلَتْ، فَفَلَجَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: تَفَاخَرَ النَّصَارَى وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ، فَنَزَلَتْ. وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَصَرَةٍ وَمُطَوَّلَةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: «أَمَّا أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَتُجْزَوْنَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ لَيْسَ لَكُمْ ذُنُوبٌ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَيُجْمَعُ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يُجْزُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ: أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» . وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَقِيَهُ فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ قَالَ: الْفَرَائِضُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ جُنْدَبٍ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَتَوَفَّى: «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ وَالْكَلَامُ لِمُوسَى والرؤية لمحمد صلّى الله عليه وسلم؟ [سورة النساء (4) : آية 127] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: سُؤَالُ قَوْمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَمْرِ النِّسَاءِ وَأَحْكَامِهِنَّ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمُ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ أَيْ: يُبَيِّنُ لَكُمْ حُكْمَ مَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ، وَهَذِهِ الآية رجوع إلى ما

_ (1) . الكهف: 49. (2) . البقرة: 111. [.....] (3) . البقرة: 80.

افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَتْ لَهُمْ أَحْكَامٌ لَمْ يَعْرِفُوهَا، فَسَأَلُوا، فَقِيلَ لَهُمُ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ. قَوْلُهُ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ وَالْمَعْنَى: وَالْقُرْآنُ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ. وَالْمَتْلُوُّ فِي الْكِتَابِ فِي مَعْنَى الْيَتَامَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى «1» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَما يُتْلى مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: يُفْتِيكُمْ الرَّاجِعُ إِلَى الْمُبْتَدَأِ، لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وفي الْكِتَابِ: خَبَرَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقَدْ قِيلَ فِي إِعْرَابِهِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ نَذْكُرْهُ لِضَعْفِهِ. وَقَوْلُهُ: فِي يَتامَى النِّساءِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي: صِلَةٌ لِقَوْلِهِ: يُتْلى وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: فِيهِنَّ. اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ أَيْ: مَا فُرِضَ لَهُنَّ مِنَ الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ وَتَرْغَبُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تُؤْتُونَهُنَّ عَطْفُ جُمْلَةٍ مُثْبَتَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ مَنْفِيَّةٍ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ فَاعِلِ تُؤْتُونَهُنَّ. وَقَوْلِهِ: أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فِي أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، أَيْ: تَرْغَبُونَ فِي أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِجَمَالِهِنَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَتَرْغَبُونَ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِعَدَمِ جَمَالِهِنَّ. قَوْلُهُ: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ مَعْطُوفٌ عَلَى يَتَامَى النِّسَاءِ، أَيْ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ، وَهُوَ قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ «2» وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ ومن كَانَ مُسْتَضْعَفًا مِنَ الْوِلْدَانِ كَمَا سَلَفَ، وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ الرِّجَالَ الْقَائِمِينَ بِالْقِتَالِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ. قَوْلُهُ: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فِي يَتامَى النِّساءِ كَالْمُسْتَضْعَفِينَ، أَيْ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ وَفِي أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ، أَيْ: الْعَدْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، أَيْ: وَيَأْمُرُكُمْ أَنْ تَقُومُوا. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فِي حقوق المذكورين فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً يُجَازِيكُمْ بِحَسَبِ فِعْلِكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْمَوْلُودَ حَتَّى يَكْبُرَ، وَلَا يُوَرِّثُونَ الْمَرْأَةَ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ قَالَ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي الْفَرَائِضِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الصِّبْيَانَ شَيْئًا، كَانُوا يَقُولُونَ: لَا يَغْزُونَ، وَلَا يَغْنَمُونَ خَيْرًا. فَفَرَضَ اللَّهُ لَهُنَّ الْمِيرَاثَ حَقًّا وَاجِبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانُوا إِذَا كَانَتِ الْجَارِيَةُ يَتِيمَةً دَمِيمَةً لَمْ يُعْطُوهَا مِيرَاثَهَا وَحَبَسُوهَا مِنَ التَّزْوِيجِ حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثُونَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إِلَى قَوْلِهِ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ قَالَتْ: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ هُوَ وَلِيُّهَا وَوَارِثُهَا قَدْ شَرَكَتْهُ فِي مَالِهِ حَتَّى فِي الْعَذْقِ «3» ، فَيَرْغَبُ أَنَّ يَنْكِحَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا فتشركه في ماله بما شركته، فيعضلها،

_ (1) . النساء: 3. (2) . النساء: 11. (3) . قال في القاموس: العذق بالفتح: النخلة بحملها، والعذق بالكسر: القنو منها، والعنقود من العنب.

[سورة النساء (4) : الآيات 128 إلى 130]

فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ أَحَدُهُمَا: تَرْغَبُونَ فِيهِنَّ، وقال الآخر: ترغبون عنهن. [سورة النساء (4) : الآيات 128 الى 130] وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) امْرَأَةٌ: مَرْفُوعَةٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: وَإِنْ خَافَتِ امْرَأَةٌ، وَخَافَتْ: بِمَعْنَى: تَوَقَّعَتْ مَا تَخَافُ مِنْ زَوْجِهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تَيَقَّنَتْ، وَهُوَ خَطَأٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها دَوَامَ النُّشُوزِ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْفَرْقُ بَيْنَ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ: أَنَّ النُّشُوزَ التَّبَاعُدُ، وَالْإِعْرَاضَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهَا وَلَا يَأْنَسَ بِهَا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهَا تَجُوزُ الْمُصَالَحَةُ عِنْدَ مَخَافَةِ أَيِّ نُشُوزٍ أَوْ أَيِّ إِعْرَاضٍ، وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ الَّذِي سَيَأْتِي، وَظَاهِرُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّصَالُحُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، إِمَّا بِإِسْقَاطِ النَّوْبَةِ أَوْ بَعْضِهَا، أَوْ بَعْضِ النَّفَقَةِ، أَوْ بَعْضِ الْمَهْرِ. قَوْلُهُ: أَنْ يُصَالِحَا هَكَذَا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: أَنْ يُصْلِحا وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى، لِأَنَّ قَاعِدَةَ الْعَرَبِ: أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا قِيلَ: تَصَالَحَ الرَّجُلَانِ أَوِ الْقَوْمُ، لَا أَصْلَحَ. وَقَوْلُهُ: صُلْحاً: مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَصْدَرٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مَحْذُوفُ الزَّوَائِدِ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَيُصْلِحُ حَالَهُمَا صُلْحًا وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَهُما ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَوْلُهُ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لَفْظٌ عَامٌّ يَقْتَضِي: أَنَّ الصُّلْحَ الَّذِي تَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَيَزُولُ بِهِ الْخِلَافُ خَيْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ أو من الخصومة، وهذه جملة اعْتِرَاضِيَّةٌ. قَوْلُهُ: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ إِخْبَارٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ: بِأَنَّ الشُّحَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ فِي كُلِّ الْأَنْفُسِ الْإِنْسَانِيَّةِ كَائِنٌ، وَأَنَّهُ جُعِلَ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ لَهَا لَا يَغِيبُ عَنْهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَأَنَّ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْجِبِلَّةِ وَالطَّبِيعَةِ، فَالرَّجُلُ يَشِحُّ بِمَا يَلْزَمُهُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَحُسْنِ النَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْمَرْأَةُ تَشِحُّ عَلَى الرَّجُلِ بِحُقُوقِهَا اللَّازِمَةِ لِلزَّوْجِ، فَلَا تَتْرُكُ لَهُ شَيْئًا مِنْهَا. وَشُحُّ الْأَنْفُسِ: بُخْلُهَا بِمَا يَلْزَمُهَا أَوْ يَحْسُنُ فِعْلُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمِنْهُ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» . قَوْلُهُ: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا أَيْ: تُحْسِنُوا عِشْرَةَ النِّسَاءِ وَتَتَّقُوا مَا لَا يَجُوزُ مِنَ النُّشُوزِ والإعراض فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فَيُجَازِيكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَزْوَاجِ بِمَا تَسْتَحِقُّونَهُ. قَوْلُهُ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: بِنَفْيِ اسْتِطَاعَتِهِمْ لِلْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا مَيْلَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ الطِّبَاعُ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَى هذه دون هذه، وزيادة فِي الْمَحَبَّةِ وَنُقْصَانِ هَذِهِ، وَذَلِكَ بِحُكْمِ الْخِلْقَةِ، بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُونَ قُلُوبَهُمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْقِيفَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى التَّسْوِيَةِ، وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ الصَّادِقُ المصدوق صلّى الله عليه وسلم: «اللهم

_ (1) . الحشر: 9.

هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» وَلَمَّا كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ وَلَوْ حَرَصُوا عَلَيْهِ وَبَالَغُوا فِيهِ نَهَاهُمْ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، لِأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ وَتَجَنُّبَ الْجَوْرِ كُلِّ الْجَوْرِ فِي وُسْعِهِمْ، وَدَاخِلٌ تَحْتِ طَاقَتِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَمِيلُوا عَنْ إِحْدَاهُنَّ إِلَى الْأُخْرَى كُلَّ الْمَيْلِ، حَتَّى يَذْرُوَا الْأُخْرَى كَالْمُعَلَّقَةِ الَّتِي لَيْسَتْ ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا مُطْلَقَةٍ، تَشْبِيهًا بِالشَّيْءِ الَّذِي هُوَ مُعَلَّقٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ عَلَى شَيْءٍ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: «فَتَذْرُوهَا كَالْمَسْجُونَةِ» قَوْلُهُ: وَإِنْ تُصْلِحُوا أَيْ: مَا أَفْسَدْتُمْ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَرَكْتُمْ مَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ فِيهَا مِنْ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ وَتَتَّقُوا كُلَّ الْمَيْلِ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا فُرِّطَ مِنْكُمْ. قَوْلُهُ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا أَيْ: لَمْ يَتَصَالَحَا بَلْ فَارَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْهُمَا، أَيْ: يجعله مستغنيا عن الآخر، بأن يهيء لِلرَّجُلِ امْرَأَةً تُوَافِقُهُ وَتَقَرُّ بِهَا عَيْنُهُ، وَلِلْمَرْأَةِ رَجُلًا تَغْتَبِطُ بِصُحْبَتِهِ، وَيَرْزُقُهُمَا مِنْ سَعَتِهِ رِزْقًا يُغْنِيهِمَا بِهِ عَنِ الْحَاجَّةِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً وَاسِعُ الْفَضْلِ، صَادِرَةٌ أَفْعَالَهُ عَلَى جِهَةِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا تُطَلِّقْنِي، وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ هُوَ قِصَّةُ سَوْدَةَ الْمَذْكُورَةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهَا فِي الْآيَةِ قَالَتْ: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ ابْنَةَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ كَانَتْ عِنْدَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، فَكَرِهَ مِنْهَا أَمْرًا، إِمَّا كِبَرًا أَوْ غَيْرَهُ، فَأَرَادَ طَلَاقَهَا فَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي وَاقْسِمْ لِي مَا بَدَا لَكَ، فَاصْطَلَحَا، وَجَرَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ، فَتَكُونُ إِحْدَاهُمَا قَدْ عَجَزَتْ، أَوْ تَكُونُ دَمِيمَةً، فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا، فَتُصَالِحُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا لَيْلَةً، وَعِنْدَ الْأُخْرَى لَيَالِيَ وَلَا يُفَارِقُهَا، فَمَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنْ رَجَعَتْ سِوِّيَ بَيْنِهِمَا. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَ هَذَا، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «لَمَّا كَبُرَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لَهَا بِيَوْمِ سَوْدَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ قَالَ: هَوَاهُ فِي الشَّيْءِ يَحْرِصُ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ قَالَ: فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ قَالَ: لَا هِيَ أَيِّمَةٌ وَلَا ذَاتُ زَوْجٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فيما

[سورة النساء (4) : الآيات 131 إلى 134]

تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهِمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا أَسْنَدَهُ هَمَّامٌ. وَرَوَاهُ هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ قَالَ: الْجِمَاعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الحبّ. [سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنِفَةٌ لِتَقْرِيرِ كَمَالِ سِعَتِهِ سُبْحَانَهُ وَشُمُولِ قُدْرَتِهِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَمَرْنَاهُمْ فِيمَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ، وَاللَّامُ فِي الْكِتَابِ: لِلْجِنْسِ وَإِيَّاكُمْ عَطْفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أَيْ: أَمَرْنَاهُمْ وَأَمَرْنَاكُمْ بِالتَّقْوَى، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِقَوْلِهِ: وَصَّيْنَا أَوْ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ: بِأَنِ اتَّقُوا اللَّهَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنْ: مُفَسِّرَةً، لِأَنَّ التَّوْصِيَةَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ. قَوْلُهُ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنِ اتَّقُوا أَيْ: وَصَّيْنَاهُمْ وَإِيَّاكُمْ بِالتَّقْوَى، وَقُلْنَا لَهُمْ ولكم: إن تكفروا، وفائدة هذا التكرير: لِيَتَنَبَّهَ الْعِبَادُ عَلَى سِعَةِ مُلْكِهِ، وَيَنْظُرُوا فِي ذلك، ويعلموا أنه غنيّ عن خلقه إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيْ: يُفْنِكُمْ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أَيْ: بِقَوْمٍ آخَرِينَ غَيْرِكُمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «1» . مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا هو مَنْ يَطْلُبُ بِعَمَلِهِ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، كَالْمُجَاهِدِ يَطْلُبُ الْغَنِيمَةَ دُونَ الْأَجْرِ فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَمَا بَالُهُ يَقْتَصِرُ عَلَى أَدْنَى الثَّوَابَيْنِ وَأَحْقَرِ الْأَجْرَيْنِ، وَهَلَا طَلَبَ بِعَمَلِهِ مَا عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ ثَوَابُ الدُّنْيَا والآخرة، فيحرزهما جَمِيعًا، وَيَفُوزُ بِهِمَا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: إِنَّهَا خَاصَّةً بِالْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَهُ، وَيُبْصِرُ مَا يَفْعَلُونَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا عَنْ خَلْقِهِ حَمِيداً قَالَ: مُسْتَحْمِدًا إِلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا قَالَ: حَفِيظًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ قَالَ: قَادِرٌ وَاللَّهِ رَبُّنَا عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُهْلِكَ مِنْ خَلْقِهِ مَا شاء، ويأتي بآخرين من بعدهم.

_ (1) . محمد: 38.

[سورة النساء (4) : الآيات 135 إلى 136]

[سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) قَوْلُهُ: قَوَّامِينَ صِيغَةٌ مُبَالَغَةٌ، أَيْ: لِيَتَكَرَّرَ مِنْكُمُ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ فِي شَهَادَتِكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا عَلَيْكُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُ عَلَى وَالِدَيْهِ: فَبِأَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَقْرَبِينَ، وَذَكَرَ الْأَبَوَيْنِ لِوُجُوبِ بِرِّهِمَا وَكَوْنِهِمَا أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَقْرَبِينَ، لِأَنَّهُمْ مَظِنَّةُ الْمَوَدَّةِ وَالتَّعَصُّبِ، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَى هَؤُلَاءِ بِمَا عَلَيْهِمْ فَالْأَجْنَبِيُّ مِنَ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى النَّفْسِ: أَنْ يَشْهَدَ بِحَقٍّ عَلَى مَنْ يَخْشَى لُحُوقَ ضَرَرٍ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَوْلُهُ: شُهَداءَ لِلَّهِ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِكَانَ، أَوْ حَالٌ، وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ فِيهِ أَلِفُ التَّأْنِيثِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْحَالُ فِيهِ ضَعِيفَةٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهَا تُخَصِّصُ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ إِلَى مَعْنَى الشَّهَادَةِ فَقَطْ. وَقَوْلُهُ: لِلَّهِ أَيْ: لِمَرْضَاتِهِ وَثَوَابِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِشُهَدَاءَ، هَذَا الْمَعْنَى الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ وَقِيلَ: مَعْنَى شُهَداءَ لِلَّهِ: بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ بِقَوَّامِينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَوْلُهُ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً اسْمُ كَانَ مُقَدَّرٌ، أَيْ: إِنْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ غَنِيًّا فلا يراعى لأجل غناه، استجلابا لنفعه، أو استدفاعا لضره، فَيَتْرُكُ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، أَوْ فَقِيرًا فَلَا يُرَاعَى لِأَجْلِ فَقْرِهِ رَحْمَةً لَهُ، وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِ، فَيَتْرُكُ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما وَلَمْ يَقُلْ: بِهِ، مَعَ أَنَّ التَّخْيِيرَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُصُولِ لِوَاحِدٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فَاللَّهُ أَوْلَى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: تَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ «1» . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مِثْلِ هَذَا مَا هُوَ أَبْسَطُ مِمَّا هُنَا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنْ يَكُنْ غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ عَلَى أَنَّ: كَانَ، تَامَّةٌ فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى نَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقَوْلُهُ: أَنْ تَعْدِلُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَهُوَ إِمَّا مِنَ الْعَدْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى كَرَاهَةَ أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النَّاسِ أَوْ مِنَ الْعُدُولِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى مَخَافَةَ أَنْ تَعْدِلُوا عَنِ الْحَقِّ، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تَعْدِلُوا عَنِ الْحَقِّ. قَوْلُهُ: وَإِنْ تَلْوُوا مِنَ اللَّيِّ، يُقَالُ: لَوَيْتُ فُلَانًا حَقَّهُ: إِذَا دَفَعْتَهُ عَنْهُ. وَالْمُرَادُ لَيُّ الشَّهَادَةِ مَيْلًا إِلَى الْمَشْهُودِ عليه. وقرأ ابن عامر والكوفيون: وَإِنْ تَلْوُوا مِنَ الْوِلَايَةِ، أَيْ: وَإِنْ تَلُوا الشَّهَادَةَ وَتَتْرُكُوا مَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ مِنْ تَأْدِيَتِهَا عَلَى وَجْهِ الحق. وقد قيل: إن هذه قراءة تُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ: الْوِلَايَةُ، وَالْإِعْرَاضُ. وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى تُفِيدُ مَعْنًى وَاحِدًا وَهُوَ الْإِعْرَاضُ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ غَلَطٌ وَلَحْنٌ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْوِلَايَةِ هَاهُنَا، قَالَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ: وَلَيْسَ يَلْزَمُ هَذَا، وَلَكِنْ يَكُونُ تَلُوا بِمَعْنَى تَلْوُوا، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهُ تَلَوُوا فَاسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْوَاوِ بَعْدَهَا وَاوٌ أُخْرَى فَأُلْقِيَتِ الْحَرَكَةُ عَلَى اللَّامِ وَحُذِفَتْ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَذَكَرَ الزجاج نحوه. قوله:

_ (1) . النساء: 12.

أَوْ تُعْرِضُوا أَيْ: عَنْ تَأْدِيَةِ الشَّهَادَةِ مِنَ الْأَصْلِ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي: لما تَعْمَلُونَ مِنَ اللَّيِّ وَالْإِعْرَاضِ أَوْ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ لَمْ يَأْتِ بِالشَّهَادَةِ كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَعُمُّ الْقَاضِيَ وَالشُّهُودَ، أَمَّا الشهود فظاهر، وأما القاضي فذلك بِأَنْ يُعْرِضَ عَنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ يَلْوِيَ عَنِ الْكَلَامِ مَعَهُ وَقِيلَ: هِيَ خَاصَّةٌ بِالشُّهُودِ. قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَيْ: اثْبُتُوا عَلَى إِيمَانِكُمْ وَدُومُوا عَلَيْهِ، وَالْخِطَابُ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ هُوَ كُلُّ كِتَابٍ، وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ: نزل وأنزل بِالضَّمِّ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْفَتْحِ فِيهِمَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ أَخْلِصُوا لِلَّهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى آمِنُوا بِاللَّهِ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَيْ: بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ عَنِ الْقَصْدِ ضَلالًا بَعِيداً وَذَكَرَ الرَّسُولَ فِيمَا سَبَقَ لِذِكْرِ الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الرُّسُلَ هُنَا لِذِكْرِ الْكُتُبِ جُمْلَةً، فَنَاسَبَهُ ذِكْرُ الرُّسُلِ جُمْلَةً، وَتَقْدِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الرُّسُلِ: لأنهم الْوَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ الْآيَةَ، قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا بِالْحَقِّ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَوْ آبَائِهِمْ، أَوْ أَبْنَائِهِمْ، لَا يُحَابُونَ غَنِيًّا لِغِنَاهُ، وَلَا يَرْحَمُونَ مِسْكِينًا لِمَسْكَنَتِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى فَتَذْرُوَا الْحَقَّ فَتَجُورُوا وَإِنْ تَلْوُوا يَعْنِي: بِأَلْسِنَتِكُمْ بِالشَّهَادَةِ أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَالَ: الرَّجُلَانِ يَجْلِسَانِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَيَكُونُ لَيُّ الْقَاضِي وَإِعْرَاضُهُ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانَتِ الْبَقَرَةُ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ ثُمَّ أَرْدَفَهَا سُورَةُ النِّسَاءِ، قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ قَبْلَ ابْنِ عَمِّهِ، أَوْ ذَوِي رَحِمِهِ، فَيَلْوِي بِهَا لِسَانَهُ، أَوْ يَكْتُمُهَا مِمَّا يَرَى مِنْ عُسْرَتِهِ حَتَّى يُوسِرَ، فَيَقْضِي حِينَ يُوسِرُ، فَنَزَلَتْ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا يَقُولُ: تَلْوِي لِسَانَكَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَهِيَ اللَّجْلَجَةُ، فَلَا تُقِيمُ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا. وَالْإِعْرَاضُ: التَّرْكُ. وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَأَسَدًا وَأُسَيْدًا ابْنِي كَعْبٍ وَثَعْلَبَةَ بْنَ قَيْسٍ وَسَلَامًا ابْنَ أُخْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلَمَةَ ابْنَ أَخِيهِ وَيَامِينَ بْنَ يَامِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نُؤْمِنُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَعُزَيْرٍ وَنَكْفُرُ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَكِتَابِهِ الْقُرْآنَ، وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَهُ. فَقَالُوا: لَا نفعل، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ الْآيَةَ» . وَيَنْبَغِي النَّظَرُ فِي صِحَّةِ هَذَا، فَالثَّعْلَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ مِنْ رِجَالِ الرِّوَايَةِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمَوْضُوعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ: أَهْلَ الْكِتَابِ، كَانَ اللَّهُ قَدْ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلم،

[سورة النساء (4) : الآيات 137 إلى 141]

فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ دَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ، وَذَكَّرَهُمُ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلّم واتبعه، ومنهم من كفر. [سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 141] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي آمَنَتْ ثُمَّ كَفَرَتْ، ثُمَّ آمَنَتْ ثُمَّ كَفَرَتْ، ثُمَّ ازْدَادَتْ كُفْرًا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ، وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إِلَى الْحَقِّ، وَيَسْلُكُونَهُ إِلَى الْخَيْرِ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ مِنْهُمْ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يُخْلِصُوا لِلَّهِ، وَيُؤْمِنُوا إِيمَانًا صَحِيحًا، فَإِنَّ هَذَا الِاضْطِرَابَ مِنْهُمْ- تَارَةً يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَتَارَةً يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَرْجِعُونَ إِلَى مَا هُوَ دَأْبُهُمْ وَشَأْنُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ الْمُسْتَمِرِّ وَالْجُحُودِ الدَّائِمِ- يَدُلُّ أَبْلَغَ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَلَاعِبُونَ بِالدِّينِ، لَيْسَتْ لَهُمْ نِيَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلَا قَصْدٌ خَالِصٌ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ: الْيَهُودُ، فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى ثُمَّ كَفَرُوا بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ آمَنُوا بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقِيلَ: آمَنُوا بِمُوسَى، ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، ثُمَّ آمَنُوا بِهِ عِنْدَ عَوْدِهِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ: أَنَّهُمُ ازْدَادُوا كُفْرًا، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِمْ، وَإِلَّا فَالْكَافِرُ إِذَا آمَنَ وَأَخْلَصَ إِيمَانَهُ وَأَقْلَعَ عَنِ الْكُفْرِ فَقَدْ هَدَاهُ اللَّهُ السَّبِيلَ الْمُوجِبَ لِلْمَغْفِرَةِ، وَالْإِسْلَامُ يَجِبُّ مَا قَبْلَهُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا مُسْتَبْعَدًا مِنْهُمْ جِدًّا كَانَ غُفْرَانُ ذُنُوبِهِمْ وَهِدَايَتُهُمْ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ مُسْتَبْعَدًا. قَوْلُهُ: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً إِطْلَاقُ الْبِشَارَةِ عَلَى مَا هُوَ شَرٌّ خَالِصٌ لَهُمْ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ وَصْفٌ لِلْمُنَافِقِينَ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ، أَيْ: يَجْعَلُونَ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءً لَهُمْ، يُوَالُونَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيُمَالِئُونَهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يُوَالُونَ الْكَافِرِينَ مُتَجَاوِزِينَ وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ. قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَوْبِيخِهِمْ بِابْتِغَاءِ الْعِزَّةِ عِنْدَ الْكَافِرِينَ، وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِزَّةِ وَأَفْرَادِهَا مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مَعَ غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ فَيْضِهِ وَتَفَضُّلِهِ كَمَا في قوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «1» وَالْعِزَّةُ: الْغَلَبَةُ، يُقَالُ: عَزَّهُ يَعِزَّهُ عِزًّا: إِذَا غَلَبَهُ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ،

_ (1) . المنافقون: 8.

لِأَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ فَقَدْ لَزِمَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَقِيلَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ فَقَطْ، كَمَا يُفِيدُهُ التَّشْدِيدُ وَالتَّوْبِيخُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ: نَزَّلَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالزَّايِ وَتَشْدِيدِهَا، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ: بِتَخْفِيفِ الزَّايِ مَفْتُوحَةً مَعَ فَتْحِ النُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِضَمِّ النُّونِ مَعَ كَسْرِ الزَّايِ مُشَدَّدَةً عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ نَزَلَ، وَفِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ، وَفِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ. وأن هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ إِذَا سمعتم آيات الله. فِي الْكِتابِ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَوْلُهُ: يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها حَالَانِ، أَيْ: إِذَا سَمِعْتُمُ الْكُفْرَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ، فَأَوْقَعَ السَّمَاعَ عَلَى الْآيَاتِ. وَالْمُرَادُ: سَمَاعُ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. وَقَوْلُهُ: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أَيْ: أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ في الكتاب أنكم عند هذا السماع والاستهزاء بآيات الله لا تعقدوا مَعَهُمْ مَا دَامُوا كَذَلِكَ، حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِ حَدِيثِ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا. وَالَّذِي أنزله الله عليهم في الْكِتَابَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ «1» وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ يَقْعُدُونَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ حَالَ سُخْرِيَتِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ- بِاعْتِبَارِ عُمُومِ لَفْظِهَا الَّذِي هُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ- دَلِيلٌ عَلَى اجْتِنَابِ كُلِّ مَوْقِفٍ يَخُوضُ فِيهِ أَهْلُهُ بِمَا يُفِيدُ التَّنَقُّصُ وَالِاسْتِهْزَاءُ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ أُسَرَاءِ التَّقْلِيدِ الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا آرَاءَ الرِّجَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ سِوَى: قَالَ إِمَامُ مَذْهَبِنَا كَذَا، وَقَالَ فُلَانٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ: بِكَذَا، وَإِذَا سَمِعُوا مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِآيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ أَوْ بِحَدِيثٍ نَبَوِيٍّ سَخِرُوا مِنْهُ، وَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَى مَا قَالَهُ رَأْسًا، وَلَا بَالَوْا بِهِ بَالَةً، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ، وَخَطْبٍ شَنِيعٍ، وَخَالَفَ مَذْهَبَ إِمَامِهِمُ الَّذِي نَزَلُوهُ مَنْزِلَةَ مُعَلِّمِ الشَّرَائِعِ، بَلْ بَالَغُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى جَعَلُوا رَأْيَهُ الْفَائِلَ «2» ، وَاجْتِهَادُهُ الَّذِي هُوَ عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ مَائِلٌ، مُقَدَّمًا عَلَى اللَّهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا صَنَعَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ بِأَهْلِهَا، وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ انْتَسَبَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ إِلَيْهِمْ بُرَآءُ مِنْ فِعْلِهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ بِ [الْقَوْلِ الْمُفِيدِ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ] وَفِي مُؤَلِّفِنَا الْمُسَمَّى بِ [أَدَبِ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ] اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَاجْعَلْنَا مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبَاعِدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ آرَاءِ الرِّجَالِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى شَفَا جَرْفٍ هَارٍ، يَا مُجِيبَ السَّائِلِينَ! قَوْلُهُ: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ: إِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ وَلَمْ تَنْتَهُوا فَأَنْتُمْ مِثْلُهُمْ فِي الْكُفْرِ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ لَيْسَتْ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنَّهُ إِلْزَامُ شِبْهٍ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: ................ وَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يقتدي «3»

_ (1) . الأنعام: 68. (2) . الفائل: رجل فائل الرأي أي: ضعيفه. (3) . وصدر البيت: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه.

وَهَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا مَا يُرْوَى عَنِ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ «1» وَهُوَ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ مِنَ التَّقْوَى اجْتِنَابُ مَجَالِسِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهَا. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً هَذَا تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِمْ مِثْلَهُمْ فِي الْكُفْرِ، قِيلَ: وَهُمُ الْقَاعِدُونَ وَالْمَقْعُودُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ مَنْ جَعَلَ الْخِطَابَ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُنَافِقِينَ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أَيْ: يَنْتَظِرُونَ بِكُمْ مَا يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ لَكُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَالْمَوْصُولُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ فَقَطْ دُونَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ التَّرَبُّصَ الْمَذْكُورَ هُوَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الذَّمِّ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا حِكَايَةٌ لِتَرَبُّصِهِمْ، أَيْ: إِنْ حَصَلَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ عَلَى مَنْ يُخَالِفُكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ قالُوا لَكُمْ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ فِي الِاتِّصَافِ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ، وَالْتِزَامِ أَحْكَامِهِ، وَالْمُظَاهَرَةِ وَالتَّسْوِيدِ وَتَكْثِيرِ الْعَدَدِ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ مِنَ الْغَلَبِ لَكُمْ وَالظَّفَرِ بِكُمْ قالُوا لِلْكَافِرِينَ: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أَيْ: أَلَمْ نَقْهَرْكُمْ وَنَغْلِبْكُمْ وَنَتَمَكَّنْ مِنْكُمْ وَلَكِنْ أَبْقَيْنَا عَلَيْكُمْ؟ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ ظَفِرُوا بِالْمُسْلِمِينَ: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ حَتَّى هَابَكُمُ الْمُسْلِمُونَ وَخَذَلْنَاهُمْ عَنْكُمْ؟ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّ مَعْنَى الِاسْتِحْوَاذِ: الْغَلَبُ، يُقَالُ: اسْتَحْوَذَ عَلَى كَذَا، أَيْ: غَلَبَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ «2» وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أَلَمْ نَغْلِبْكُمْ حَتَّى هَابَكُمُ الْمُسْلِمُونَ؟ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى: أَلَمْ نَغْلِبْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْكَافِرِينَ، وَنَتَمَكَّنْ مِنْكُمْ، فَتَرَكْنَاكُمْ وَأَبْقَيْنَا عَلَيْكُمْ حَتَّى حَصَلَ لَكُمْ هَذَا الظَّفَرَ بِالْمُسْلِمِينَ؟ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَتَخْذِيلِهِمْ وَتَثْبِيطِهِمْ عَنْكُمْ، حَتَّى ضَعُفَتْ قُلُوبُهُمْ عَنِ الدَّفْعِ لَكُمْ، وَعَجَزُوا عَنِ الِانْتِصَافِ مِنْكُمْ وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يَمِيلُونَ مَعَ مَنْ لَهُ الْغَلَبُ وَالظَّفَرُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَيُظْهِرُونَ لَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَهُمْ عَلَى الطَّائِفَةِ الْمَغْلُوبَةِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ، وَشَأْنُ مَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنَ التَّظَهُّرِ لِكُلِّ طَائِفَةٍ بِأَنَّهُ مَعَهَا عَلَى الْأُخْرَى، وَالْمَيْلُ إِلَى مَنْ معه الحظ في الدُّنْيَا فِي مَالٍ أَوْ جَاهٍ، فَيَلْقَاهُ بِالتَّمَلُّقِ وَالتَّوَدُّدِ وَالْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ، وَيَلْقَى مَنْ لَا حَظَّ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا بِالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ وَسُوءِ الْخُلُقِ، وَيَزْدَرِي بِهِ وَيُكَافِحُهُ بِكُلِّ مَكْرُوهٍ، فَقَبَّحَ اللَّهُ أَخْلَاقَ أَهْلِ النِّفَاقِ وَأَبْعَدَهَا. قَوْلُهُ: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُهُمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالْبُغْضِ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، فَفِي هَذَا الْيَوْمِ تَنْكَشِفُ الْحَقَائِقُ، وَتَظْهَرُ الضَّمَائِرُ، وَإِنْ حَقَنُوا فِي الدُّنْيَا دِمَاءَهُمْ، وَحَفِظُوا أَمْوَالَهُمْ بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ نِفَاقًا وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، هَذَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالسَّبِيلِ النَّصْرَ وَالْغَلَبَ، أَوْ فِي الدُّنْيَا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْحُجَّةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ فِيهِ، وَسَبَبُهُ تَوَهُّمُ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى أَوَّلِهِ، يَعْنِي قَوْلَهُ: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَذَلِكَ يُسْقِطُ فَائِدَتَهُ، إِذْ يَكُونُ تَكْرَارًا، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْعَلُ لِلْكَافِرِينَ سَبِيلًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يمحو به دولتهم، ويذهب آثارهم، ويستبيح ببضتهم، كَمَا يُفِيدُهُ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ: «وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، حتّى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي

_ (1) . الأنعام: 69. (2) . المجادلة: 19.

بَعْضُهُمْ بَعْضًا» وَقِيلَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لِلْكَافِرِينَ سَبِيلًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا عَامِلِينَ بِالْحَقِّ غَيْرَ رَاضِينَ بِالْبَاطِلِ وَلَا تَارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «1» قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا نَفِيسٌ جِدًّا وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْعَلُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا شَرْعًا، فَإِنْ وُجِدَ فَبِخِلَافِ الشَّرْعِ. هَذَا خُلَاصَةُ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ صَالِحَةٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا الْآيَةَ، قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، آمَنَتِ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَفَرَتْ، وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ كَفَرَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ذَكَرَ النَّصَارَى فَقَالَ: ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا يقول: آمنوا بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ آمَنُوا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ كَفَرُوا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قَالَ: تَمُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى مَاتُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ فِي الْمَجْلِسِ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الْكَذِبِ لِيُضْحِكَ بِهَا جُلَسَاءَهُ فَيَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، فَقَالَ: صَدَقَ أَبُو وَائِلٍ، أَوْ لَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أُنْزِلَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ «2» ثم نزل التَّشْدِيدِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ خَاضُوا وَاسْتَهْزَءُوا بِالْقُرْآنِ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ إن أصاب المسلمين مِنْ عَدُوِّهِمْ غَنِيمَةً قَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَمْ نَكُنْ قَدْ كُنَّا مَعَكُمْ فَأَعْطَوْنَا مِنَ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ مَا تَأْخُذُونَ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ يُصِيبُونَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الْمُنَافِقُونَ لِلْكُفَّارِ: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أَلَمْ نُبَيِّنْ لَكُمْ أَنَّا عَلَى مَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، قَدْ كُنَّا نُثَبِّطُهُمْ عَنْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ قَالَ: نَغْلِبُ عَلَيْكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابن جرير، ابن الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالْحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وَهُمْ يُقَاتِلُونَنَا فَيَظْهَرُونَ وَيَقْتُلُونَ، فَقَالَ: ادْنُهِ ادْنُهْ، ثُمَّ قَالَ: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ نَحْوَهُ أَيْضًا- وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السدّيّ سَبِيلًا قال: حجة.

_ (1) . الشورى: 30. [.....] (2) . الأنعام: 68.

[سورة النساء (4) : الآيات 142 إلى 147]

[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 147] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ بَعْضِ قَبَائِحِ الْمُنَافِقِينَ وَفَضَائِحِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْخَدْعِ فِي الْبَقَرَةِ، وَمُخَادَعَتُهُمْ لِلَّهِ هِيَ: أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطال الْكُفْرِ، وَمَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ خَادِعَهُمْ: أَنَّهُ صَنَعَ بِهِمْ صُنْعَ مَنْ يُخَادِعُ مَنْ خَادَعَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَرَكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّظَهُّرِ بِالْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا، فَعَصَمَ بِهِ أَمْوَالَهُمْ ودماءهم، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة، فجازاهم عَلَى خِدَاعِهِمْ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالْخَادِعُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: خَادَعْتُهُ فخدعته، إذا غلبته وكنت أخدع منه. والكسالى بِضَمِّ الْكَافِ: جَمْعُ كَسْلَانَ، وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَهُمْ مُتَكَاسِلُونَ مُتَثَاقِلُونَ، لَا يَرْجُونَ ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا. وَالرِّيَاءُ: إِظْهَارُ الْجَمِيلِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، لَا لِاتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَالْمُرَاءَاةُ الْمُفَاعَلَةُ. قَوْلُهُ: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مَعْطُوفٌ عَلَى يُرَاءُونَ، أَيْ: لَا يَذْكُرُونَهُ سُبْحَانَهُ إِلَّا ذِكْرًا قَلِيلًا، أَوْ لَا يُصَلُّونَ إِلَّا صَلَاةً قَلِيلَةً، وَوَصْفُ الذِّكْرِ بِالْقِلَّةِ لِعَدَمِ الْإِخْلَاصِ، أَوْ لِكَوْنِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، أَوْ لِكَوْنِهِ قَلِيلًا فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ الَّذِي يَفْعَلُ الطَّاعَةَ لِقَصْدِ الرِّيَاءِ، إِنَّمَا يَفْعَلُهَا فِي الْمَجَامِعِ وَلَا يَفْعَلُهَا خَالِيًا كَالْمُخْلِصِ. قَوْلُهُ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ الْمُذَبْذَبُ: الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَالذَّبْذَبَةُ الِاضْطِرَابُ، يُقَالُ: ذَبْذَبَهُ فَتَذَبْذَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلِكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ قَالَ ابْنُ جِنِّي: الْمُذَبْذَبُ الْقَلِقُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى حَالٍ، فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، لَا مُخْلِصِينَ الْإِيمَانَ وَلَا مُصَرِّحِينَ بِالْكُفْرِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَحَقِيقَةُ الْمُذَبْذَبِ: الَّذِي يَذُبُّ عَنْ كِلَا الْجَانِبَيْنِ، أَيْ: يُذَادُ وَيُدْفَعُ فَلَا يَقَرُّ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَرْمِي بِهِ الرحوان، إِلَّا أَنَّ الذَّبْذَبَةَ فِيهَا تَكْرِيرٌ لَيْسَ فِي الذَّبِّ كَأَنَّ الْمَعْنَى: كُلَّمَا مَالَ إِلَى جَانِبٍ ذَبَّ عَنْهُ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الذَّالَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِكَسْرِ الذَّالِ الثَّانِيَةِ، وَفِي حِرَفِ أُبَيٍّ: «مُتَذَبْذِبِينَ» ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالذَّالَّيْنِ، وَانْتِصَابِ مُذَبْذَبِينَ: إِمَّا عَلَى الْحَالِ، أَوْ عَلَى الذَّمِّ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: بَيْنَ ذَلِكَ: إِلَى الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. قَوْلُهُ: لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ أَيْ: لَا مَنْسُوبِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا إِلَى الْكَافِرِينَ، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مُذَبْذَبِينَ، أَوْ عَلَى التَّفْسِيرِ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أَيْ: يَخْذُلُهُ، وَيَسْلُبُهُ التَّوْفِيقَ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أَيْ: طَرِيقًا يُوصِلُهُ إِلَى الْحَقِّ. قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: لَا تَجْعَلُوهُمْ خَاصَّةً لَكُمْ، وَبِطَانَةً تُوَالُونَهُمْ مِنْ دُونِ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا فَعَلَ الْمُنَافِقُونَ مِنْ مُوَالَاتِهِمْ لِلْكَافِرِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ: أَيْ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تجعلوا لله عَلَيْكُمْ حُجَّةً بَيِّنَةً يُعَذِّبُكُمْ بِهَا بِسَبَبِ ارْتِكَابِكُمْ لِمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مُوَالَاةِ

الْكَافِرِينَ؟ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: الدَّرْكِ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ: بِتَحْرِيكِهَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُمَا لُغَتَانِ، وَالْجَمْعُ: أَدْرَاكٌ وَقِيلَ: جَمْعُ الْمُحَرَّكِ: أَدْرَاكٌ، مِثْلَ: جَمَلٍ وَأَجْمَالٍ، وَجَمْعُ السَّاكِنِ: أَدْرُكٌ، مِثْلَ: فَلْسٍ وَأَفْلُسٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالتَّحْرِيكُ أَفْصَحُ. وَالدَّرْكُ: الطَّبَقَةُ. وَالنَّارُ دَرْكَاتٌ سَبْعٌ، فَالْمُنَافِقُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْهَا، وَهِيَ الْهَاوِيَةُ، لِغِلَظِ كُفْرِهِ وَكَثْرَةِ غَوَائِلِهِ، وَأَعْلَى الدَّرَكَاتِ: جَهَنَّمُ، ثُمَّ الْحُطَمَةُ، ثُمَّ السَّعِيرُ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ. وَقَدْ تُسَمَّى جَمِيعَهَا بِاسْمِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ عَذَابِهَا وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً يُخَلِّصُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الدَّرْكِ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، أَوْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، أَيْ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا عَنِ النِّفَاقِ وَأَصْلَحُوا مَا أَفْسَدُوا مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ أَيْ: جَعَلُوهُ خَالِصًا لَهُ غَيْرَ مَشُوبٍ بِطَاعَةِ غَيْرِهِ. وَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ: التَّمَسُّكُ بِهِ وَالْوُثُوقُ بِوَعْدِهِ، والإشارة بقوله: فَأُولئِكَ إِلَى الَّذِينَ تَابُوا وَاتَّصَفُوا بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ. قَوْلُهُ: مَعَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي الَّذِينَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ نِفَاقٌ أَصْلًا. قال القتبي: حَادَ عَنْ كَلَامِهِمْ غَضَبًا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى: مَعَ، مُعْتَبَرٍ هُنَا، أَيْ: فَأُولَئِكَ مُصَاحِبُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هَؤُلَاءِ مَعَهُمْ فَقَالَ: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ يُؤْتَ فِي الْخَطِّ كَمَا حُذِفَتْ فِي اللَّفْظِ: لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ اللام بعدها، ومثله: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ «1» وسَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «2» ويَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ «3» وَنَحْوُهَا، فَإِنَّ الْحَذْفَ فِي الْجَمِيعِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَوْلُهُ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِبَيَانِ: أَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي التَّعْذِيبِ إِلَّا مُجَرَّدَ الْمُجَازَاةِ لِلْعُصَاةِ. وَالْمَعْنَى: أَيْ مَنْفَعَةٌ لَهُ فِي عَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ؟ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِهِ، كَمَا أَنَّ تَرْكَ عَذَابِكُمْ لَا يَنْقُصُ مِنْ سُلْطَانِهِ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً أَيْ: يَشْكُرُ عِبَادَهُ عَلَى طَاعَتِهِ، فَيُثِيبُهُمْ عَلَيْهَا، وَيَتَقَبَّلُهَا مِنْهُمْ. وَالشُّكْرُ فِي اللغة: الظهور، يقال دابة شَكُورٌ: إِذَا ظَهَرَ مِنْ سِمَنِهَا فَوْقَ مَا تُعْطَى مِنَ الْعَلَفِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ الْآيَةَ، قَالَ: يُلْقِي عَلَى مُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ نُورٌ يَمْشُونَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى الصِّرَاطِ طُفِئَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ، وَمَضَى الْمُؤْمِنُونَ بِنُورِهِمْ، فَتِلْكَ خَدِيعَةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ أَيْضًا، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءَ لَهُمْ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يُنْقَلُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَبِي عَامِرِ بْنِ النُّعْمَانِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَصْفُ صَلَاةِ الْمُنَافِقِ، وَأَنَّهُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ لَا إِلى هؤُلاءِ يَقُولُ: لَا إِلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَلا إِلى هؤُلاءِ الْيَهُودِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلَ الْمُنَافِقِ مَثَلُ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ «4» بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هذه مرّة، فلا تدري

_ (1) . القمر: 6. (2) . العلق: 18. (3) . ق: 41. (4) . العائرة: المترددة بين قطيعين.

[سورة النساء (4) : الآيات 148 إلى 149]

أَيُّهُمَا تَتْبَعُ؟» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً قَالَ: إِنَّ للَّهِ السُّلْطَانُ عَلَى خَلْقِهِ وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: عُذْرًا مُبِينًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حُجَّةٌ» وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ قَالَ: فِي تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ مُقْفَلَةٌ عَلَيْهِمْ، وَفِي لَفْظٍ: مُبْهَمَةٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ: مُغْلَقَةٌ لَا يُهْتَدَى لِمَكَانِ فَتْحِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يعذّب شاكرا ولا مؤمنا. [سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149] لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) نَفَى الْحُبَّ كِنَايَةً عَنِ الْبُغْضِ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَعْلُومِ، وَهُوَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، بِتَقْدِيرٍ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِلَّا جَهْرَ مَنْ ظُلِمَ وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى أَيْضًا مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ ظَلَمَنِي فُلَانٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: فِي كَيْفِيَّةِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ الَّذِي يَجُوزُ لِمَنْ ظُلِمَ، فَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ وَقِيلَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَجْهَرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ بِأَنْ يَقُولَ: فُلَانٌ ظَلَمَنِي، أَوْ هُوَ ظَالِمٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَجْهَرَ بِسُوءٍ مِنَ الْقَوْلِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ نَحْوَهُ، فَهُوَ مُبَاحٌ لَهُ، وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا فِي الْإِكْرَاهِ، وَكَذَا قَالَ قُطْرُبٌ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَدَلِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَا يُحِبُّ اللَّهُ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ: أَيْ لَا يُحِبُّ الظَّالِمَ بَلْ يُحِبُّ الْمَظْلُومَ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ ظُلِمَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مِنَ السُّوءِ فِي جَانِبٍ مِنْ ظُلْمِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ بِلَفْظِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» ، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ فِي فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ فَاجْهُرُوا لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ، وَالتَّوْبِيخِ لَهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى الْكَلَامِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ أَحَدٌ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، لَكِنَّ مَنْ ظَلَمَ فَإِنَّهُ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَهُوَ ظَالِمٌ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا شَأْنُ كَثِيرٍ مِنِ الظَّلَمَةِ، فَإِنَّهُمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ يَسْتَطِيلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلَى مَنْ ظَلَمُوهُ وَيَنَالُونَ مِنْ عِرْضِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَّا مَنْ ظَلَمَ فَقَالَ سُوءًا، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، وَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً هَذَا تَحْذِيرٌ لِلظَّالِمِ بِأَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ وَيَعْلَمُ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ أَبَاحَ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَجْهَرَ بِالسُّوءِ نَدَبَ إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلُ فَقَالَ: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ تُصَابُونَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ

[سورة النساء (4) : الآيات 150 إلى 152]

عَفُوًّا عَنْ عِبَادِهِ قَدِيراً عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، فَاقْتَدُوا بِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ يَعْفُو مَعَ الْقُدْرَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ قَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا، فَإِنَّهُ رَخَّصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَأَنْ يَصْبِرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ ضَافَ رَجُلًا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَلَمْ يُضِفْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُضِفْهُ، لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قَالَ: كان الضحاك ابن مُزَاحِمٍ يَقُولُ: هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، يَقُولُ اللَّهُ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ: عَلَى كُلِّ حَالٍ، هَكَذَا قَالَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ التَّحْرِيفِ لِمَعْنَى الْآيَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ» . وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المستبّان ما قالا، فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ» . [سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 152] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْكُفْرِ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَالْكُفْرُ بِذَلِكَ كُفْرٌ بِاللَّهِ، وَيَنْبَغِي حَمْلُ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ عَلَى أَنَّهُ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ كُفْرَهُمْ بِبَعْضِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، لَا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ جَمِيعًا، فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَلَا بِجَمِيعِ رُسُلِهِ، لَكِنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا بِالْبَعْضِ كَانَ ذَلِكَ كُفْرٌ بِاللَّهِ وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ. وَمَعْنَى: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِالرُّسُلِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِبَعْضِهِمْ وَآمَنُوا بِاللَّهِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَفْرِيقًا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ هُمُ الْيَهُودُ آمَنُوا بِمُوسَى وكفروا بعيسى ومحمد، وكذلك النَّصَارَى آمَنُوا بِعِيسَى وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أَيْ: يَتَّخِذُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ دِينًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى قَوْلِهِ نُؤْمِنُ وَنَكْفُرُ أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ أَيْ: الْكَامِلُونَ فِي الْكُفْرِ. وَقَوْلُهُ: حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ حقا، أو هو صفة الْكَافِرِينَ، أَيْ: كُفْرًا حَقًّا. قَوْلُهُ: وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَدُخُولُ بَيْنَ عَلَى أَحَدٍ لِكَوْنِهِ عَامًّا فِي الْمُفْرَدِ مُذَكَّرًا وَمُؤَنَّثًا وَمُثَنَّاهُمَا وَجَمْعِهُمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ منهم.

[سورة النساء (4) : الآيات 159 إلى 153]

وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ، قَالَ: أُولئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، آمَنَتِ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ وَمُوسَى وَكَفَرُوا بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى، وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى وَكَفَرُوا بِالْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ، اتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ وَهُمَا بِدْعَتَانِ لَيْسَتَا مِنَ اللَّهِ وَتَرَكُوا الْإِسْلَامَ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَابْنُ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. [سورة النساء (4) : الآيات 159 الى 153] قوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ هُمُ الْيَهُودُ، سَأَلُوهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَرْقَى إِلَى السَّمَاءِ وَهُمْ يَرَوْنَهُ، فَيُنْزِلُ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مَكْتُوبًا فِيمَا يَدَّعِيهِ، يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، كَمَا أَتَى مُوسَى التوراة، تَعَنُّتًا مِنْهُمْ، أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ، فَأَخْبَرُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّهُمْ قَدْ سَأَلُوا مُوسَى سُؤَالًا أَكْبَرَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ، فَقَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أَيْ: عِيَانًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي الْبَقَرَةِ، وجهرة: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: رُؤْيَةً جَهْرَةً. وَقَوْلُهُ: فَقَدْ سَأَلُوا جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِنِ اسْتَكْبَرْتَ هَذَا السُّؤَالَ مِنْهُمْ لَكَ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ هِيَ: النَّارُ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَتْهُمْ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِظُلْمِهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ فِي سُؤَالِهِمُ الْبَاطِلِ، لِامْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ عِيَانًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ امْتِنَاعَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ. وَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى امْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ غَلَّطَ غِلَطًا بَيِّنًا ثُمَّ لَمْ يَكْتَفُوا بِهَذَا السُّؤَالِ الْبَاطِلِ الَّذِي نَشَأَ مِنْهُمْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ بَعْدَ مَا رَأَوُا الْمُعْجِزَاتِ، بَلْ ضَمُّوا إِلَيْهِ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَهُوَ عِبَادَةُ الْعِجْلِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَأَحْيَيْنَاهُمْ فَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ. وَالْبَيِّنَاتُ: الْبَرَاهِينُ وَالدَّلَائِلُ، وَالْمُعْجِزَاتُ مِنَ الْيَدِ وَالْعَصَا وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَغَيْرِهَا فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ أَيْ: عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مَنِ التَّعَنُّتِ وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أَيْ: حُجَّةً بَيِّنَةً، وَهِيَ: الْآيَاتُ الَّتِي جَاءَ بِهَا، وَسُمِّيَتْ: سُلْطَانًا، لِأَنَّ مَنْ جَاءَ بِهَا قَهَرَ خَصْمَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ بِأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ تَوْبَةً عَنْ مَعْصِيَتِهِمْ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ السُّلْطَانِ الَّذِي قَهَرَهُمْ بِهِ وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ أَيْ: بِسَبَبِ مِيثَاقِهِمْ لِيُعْطُوهُ، لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمُ امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ شَرِيعَةِ مُوسَى فَرَفَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطور فقبلوها

وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى بِسَبَبِ نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمُ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ رَفْعُ الْجَبَلِ فِي الْبَقَرَةِ، وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ دُخُولِهِمُ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ فَتَأْخُذُوا مَا أُمِرْتُمْ بِتَرْكِهِ فِيهِ مِنَ الْحِيتَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ، وَقُرِئَ: لَا تَعْتَدُوا، وَتَعَدُّوا، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً مُؤَكِّدًا، وَهُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَقِيلَ: إِنَّهُ عَهْدٌ مُؤَكَّدٌ بِالْيَمِينِ، فَسُمِّيَ غَلِيظًا لِذَلِكَ. قَوْلُهُ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ مَا: مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، أَوْ نَكِرَةٌ، وَنَقْضُهُمْ: بَدَلٌ مِنْهَا، وَالْبَاءُ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ قَالَ: فَفَسَّرَ ظُلْمَهُمُ الَّذِي أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِسَبَبِهِ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَمَا بَعْدَهُ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ كَانُوا عَلَى عَهْدِ مُوسَى، وَالَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَرَمُوا مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ كَانُوا بَعْدَ مُوسَى بِزَمَانٍ، فَلَمْ تَأْخُذِ الصَّاعِقَةُ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمْ بِرُمَّتِهِمْ بِالْبُهْتَانِ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُمْ، وَالْمُرَادُ آبَاؤُهُمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُمْتَدَّةٌ إِلَى قَوْلِهِ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا وَنَقْضُهُمُ الْمِيثَاقَ: أَنَّهُ أَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَيِّنُوا صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَفِعْلِهِمْ كَذَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَبِنَقْضِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُؤْمِنُونَ مُقْحِمَةٌ. قَوْلُهُ: وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَقَتْلِهِمُ، وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللَّهِ: كُتُبُهُمُ الَّتِي حَرَّفُوهَا، وَالْمُرَادُ بالأنبياء الذين قتلوهم: يحيى وزكرياء. وغلف: جَمْعُ أَغْلُفٍ، وَهُوَ الْمُغَطَّى بِالْغِلَافِ، أَيْ: قُلُوبُنَا في أغطية فلا نفقه مَا تَقُولُ. وَقِيلَ: إِنَّ غُلْفٌ: جَمْعُ غِلَافٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ قُلُوبَهُمْ أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ، فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى عِلْمٍ غَيْرِ مَا قَدْ حَوَتْهُ قُلُوبُهُمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ «1» وَغَرَضُهُمْ بِهَذَا رَدُّ حُجَّةِ الرُّسُلِ. قَوْلُهُ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ أَيْ: لَيْسَ عَدَمُ قَبُولِهِمْ لِلْحَقِّ بِسَبَبِ كَوْنِهَا غُلْفًا بِحَسَبِ مَقْصِدِهِمُ الَّذِي يُرِيدُونَهُ، بَلْ بِحَسَبِ الطَّبْعِ مِنَ اللَّهُ عَلَيْهَا. وَالطَّبْعُ: الْخَتْمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ مَعْنَاهُ فِي الْبَقَرَةِ، وَقَوْلُهُ: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: هِيَ مَطْبُوعٌ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا، أَوْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُ: وَبِكُفْرِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَإِعَادَةُ الْجَارِّ: لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا التَّكْرِيرُ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ كَفَرُوا كُفْرًا بَعْدَ كُفْرٍ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكُفْرِ: كُفْرُهُمْ بِالْمَسِيحِ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً هُوَ رَمْيُهَا بِيُوسُفَ النَّجَّارِ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَالْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ الْمُفْرِطُ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْهُ. قَوْلُهُ: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ جِنَايَاتِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، وَافْتَخَرُوا بِقَتْلِهِ، وَذَكَرُوهُ بِالرِّسَالَةِ اسْتِهْزَاءً، لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَهَا وَلَا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ، وَمَا ادَّعَوْهُ مِنْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى بَيَانِ صِفَتِهِ وَإِيضَاحِ حَقِيقَتِهِ الْإِنْجِيلِ، وَمَا فِيهِ هُوَ مِنْ تَحْرِيفِ النَّصَارَى، أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ، فَقَدْ كَذَّبُوا، وَصَدَقَ اللَّهُ الْقَائِلُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَالْجُمْلَةُ

_ (1) . فصلت: 5.

حَالِيَّةٌ: أَيْ: قَالُوا ذَلِكَ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أَيْ: أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَقِيلَ: لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ شَخْصَهُ وَقَتَلُوا الَّذِي قَتَلُوهُ وَهُمْ شَاكُّونَ فِيهِ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ: فِي شَأْنِ عِيسَى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَتَلْنَاهُ، وَقَالَ مَنْ عَايَنَ رَفْعَهُ إِلَى السَّمَاءِ: مَا قَتَلْنَاهُ وَقِيلَ: إِنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ هُوَ: أَنَّ النَّسْطُورِيَّةَ مِنَ النَّصَارَى قَالُوا: صُلِبَ عِيسَى مِنْ جِهَةِ نَاسُوتِهِ لا من جهة لاهوته، وَقَالَتِ الْمَلْكَانِيَّةُ: وَقَعَ الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ عَلَى الْمَسِيحِ بكماله ناسوته ولا هوته، وَلَهُمْ مِنْ جِنْسِ هَذَا الِاخْتِلَافِ كَلَامٌ طَوِيلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أَيْ: فِي تَرَدُّدٍ لَا يَخْرُجُ إِلَى حَيِّزِ الصِّحَّةِ، وَلَا إِلَى حَيِّزِ الْبُطْلَانِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، بَلْ هُمْ مُتَرَدِّدُونَ مُرْتَابُونَ فِي شَكِّهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي جهلهم يتحيرون، وما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ مِنْ: زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ نَفْيِ الْعِلْمِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مما قَبْلَهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. لَا يُقَالُ: إِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ يُنَافِي الشَّكَّ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالشَّكِّ: التَّرَدُّدُ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَالظَّنُّ نَوْعٌ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا: تَرَجُّحَ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ. قَوْلُهُ: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أَيْ: قَتْلًا يَقِينًا، عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مُتَيَقِّنِينَ، عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَتَلُوهُ لِعِيسَى وَقِيلَ: إِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الظَّنِّ، وَالْمَعْنَى: مَا قَتَلُوا ظَنَّهُمْ يَقِينًا، كَقَوْلِكَ: قَتَلْتُهُ عِلْمًا، إِذَا عَلِمْتَهُ عِلْمًا تَامًّا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى: وَمَا قَتَلُوا عِيسَى يَقِينًا، لَقَالَ: وَمَا قَتَلُوهُ فَقَطْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَا قَتَلُوا الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: بَلْ رفعه إِلَيْهِ يَقِينًا، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَ بَلْ فِيمَا قَبْلَهَا. وَأَجَازَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: نَصْبَ يَقِينًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ هُوَ جَوَابُ قَسَمٍ، وَيَكُونُ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا، وَلَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَالضَّمَائِرُ قَبْلَ قَتَلُوهُ وَبَعْدَهُ لِعِيسَى، وَذِكْرُ الْيَقِينِ هُنَا: لِقَصْدِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، لِإِشْعَارِهِ بِعِلْمِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ. قَوْلُهُ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَإِثْبَاتٌ لِمَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ رَفْعِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آلِ عِمْرَانَ. قَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمَعْنَى: وَمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا وَاللَّهِ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ: رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى، وَالضَّمِيرُ فِي مَوْتِهِ: رَاجِعٌ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَهُوَ لَفْظُ أَحَدِ الْمُقَدَّرِ، أَوِ الْكِتَابِيِّ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَمُوتُ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إِلَّا وَقَدْ آمَنَ بِالْمَسِيحِ وَقِيلَ: كِلَا الضَّمِيرَيْنِ لِعِيسَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَمُوتُ عِيسَى حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ كُلُّ كِتَابِيٍّ فِي عَصْرِهِ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ لِلَّهِ وَقِيلَ: إِلَى مُحَمَّدٍ، وَقَدِ اخْتَارَ كَوْنَ الضَّمِيرَيْنِ لِعِيسَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالْمُرَادُ: الْإِيمَانُ بِهِ عِنْدَ نُزُولِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عِيسَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ شَهِيداً يَشْهَدُ عَلَى الْيَهُودِ بِالتَّكْذِيبِ لَهُ، وَعَلَى النَّصَارَى بِالْغُلُوِّ فِيهِ حَتَّى قَالُوا هُوَ ابْنُ اللَّهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى جَاءَ بِالْأَلْوَاحِ مِنْ عند الله، فأتنا بِالْأَلْوَاحِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ، فَأَنْزَلَ الله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ إِلَى وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ،

وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: لَنْ نُبَايِعَكَ عَلَى مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى فلان أنك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإلى فلان أنك رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ الله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً قَالَ: إِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ فَقَدْ رَأَوْهُ، وَإِنَّمَا قَالُوا: جَهْرَةً أَرِنَا اللَّهَ قَالَ: هُوَ مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ قَالَ: جَبَلٌ كَانُوا فِي أَصْلِهِ فَرَفَعَهُ اللَّهُ، فَجَعَلَهُ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، فَقَالَ: لَتَأْخُذُنَّ أَمْرِي أَوْ لَأَرْمِيَنَّكُمْ بِهِ، فَقَالُوا: نَأْخُذُهُ، فَأَمْسَكَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً قَالَ: رَمَوْهَا بِالزِّنَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَفِي الْبَيْتِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْنٍ فِي الْبَيْتِ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً، فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُرُ بِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يَلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ مَكَانِي وَيَكُونُ مَعِي فِي دَرَجَتِي؟ فَقَامَ شَابٌّ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ الشَّابُّ فَقَالَ: اجْلِسْ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ الشَّابُّ فَقَالَ: أَنَا، فَقَالَ: أَنْتَ ذَاكَ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ «1» فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ، فَأَخَذُوا الشَّبَهَ، فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ صَلَبُوهُ، فَكَفَرَ بِهِ بَعْضُهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِهِ وَافْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، فَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيَّةُ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ الْنَسْطُورِيَّةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ، فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا، فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ يَعْنِي: الطَّائِفَةَ الَّتِي آمَنَتْ فِي زَمَنِ عِيسَى وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ يَعْنِي: الَّتِي كَفَرَتْ فِي زَمَنِ عِيسَى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا «2» فِي زَمَنِ عِيسَى بِإِظْهَارِ مُحَمَّدٍ دِينَهُمْ عَلَى دِينِ الْكَافِرِينَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَصَدَقَ ابْنُ كَثِيرٍ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِنَحْوِهِ. وَقَدْ رُوِيَتْ قِصَّتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَسَاقَهَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَلَى صِفَةٍ قَرِيبَةٍ مِمَّا فِي الْإِنْجِيلِ، وَكَذَلِكَ سَاقَهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً قَالَ: لَمْ يَقْتُلُوا ظَنَّهُمْ يَقِينًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُوَيْبِرٍ وَالسُّدِّيِّ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قَالَ: خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى. وَأَخْرَجَا عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ الْيَهُودِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: إِنَّهُ سَيُدْرِكُ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عِيسَى حِينَ يُبْعَثُ سَيُؤْمِنُونَ بِهِ. وأخرج سعيد بن منصور، وابن

_ (1) . روزنة: كوّة، أو خرق في السقف. (2) . الصف: 14.

[سورة النساء (4) : الآيات 160 إلى 165]

جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: «لَيْسَ يَهُودِيٌّ يَمُوتُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ خَرَّ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ؟ قَالَ يَتَكَلَّمُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ فَقِيلَ أَرَأَيْتَ إن ضرب عنق أحدهم؟ قال: يتلجلج بها لِسَانُهُ» . وَقَدْ رُوِيَ نَحْوَ هَذَا عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ، وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَبْلَ هَذَا، وَقَيَّدَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: بِأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِهِ مَنْ أَدْرَكَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِنُزُولِ عِيسَى حَسْبَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي مُؤَلَّفٍ مُسْتَقِلٍّ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ مَا وَرَدَ فِي الْمُنْتَظَرِ وَالدَّجَّالِ وَالْمَسِيحِ. [سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 165] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِظُلْمٍ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالتَّنْكِيرُ وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: فَبِسَبَبِ ظُلْمٍ عَظِيمٍ حَرَّمْنَا عليهم طيبات أحلت لهم، لا بسبب شي آخَرَ، كَمَا زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا بَدَلٌ مِنْ قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ. وَالطَّيِّبَاتُ الْمَذْكُورَةُ: هِيَ مَا نَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «1» الْآيَةَ وَبِصَدِّهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَغَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهو اتباع محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَتَحْرِيفِهِمْ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ الْمَعْرُوفَةِ. وَقَوْلُهُ: كَثِيراً مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: بِصَدِّهِمْ نَاسًا كَثِيرًا، أَوْ صِفَةُ مصدر محذوف، أي: صدّا كثيرا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ أَيْ: مُعَامَلَتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالرِّبَا وَأَكْلِهِمْ لَهُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ كَالرِّشْوَةِ وَالسُّحْتِ الَّذِي كَانُوا يَأْخُذُونَهُ. قَوْلُهُ: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً أَوْ مِنَ الَّذِينَ هادُوا وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ أَنْكَرُوا وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَانَتْ حَرَامًا فِي الْأَصْلِ وَأَنْتَ تُحِلُّهَا، فَنَزَلَ: لكِنِ الرَّاسِخُونَ وَالرَّاسِخُ: هُوَ الْمُبَالِغُ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ الثَّابِتِ فِيهِ، وَالرُّسُوخُ: الثُّبُوتُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَالْمُرَادُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَنَحْوُهُمَا. وَالرَّاسِخُونَ: مُبْتَدَأٌ، وَيُؤْمِنُونَ: خَبَرُهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الرَّاسِخُونَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ: إِمَّا مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، أَوْ مِنَ الْجَمِيعِ. قوله: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ

_ (1) . الأنعام: 146.

قَرَأَ الْحَسَنُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَجَمَاعَةٌ: وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ نَصْبِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ سِيبَوَيْهِ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ، أي: وأعني الْمُقِيمِينَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هَذَا بَابُ مَا يُنْتَصَبُ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَمِنْ ذَلِكَ: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَأَنْشَدَ: وَكُلُّ قَوْمٍ أَطَاعُوا أَمْرَ سَيِّدِهِمْ ... إِلَّا نُمَيْرًا أطاعت أمر غاويها الظّاعنين ولمّا يظعنوا أَحَدًا ... وَالْقَائِلُونَ لِمَنْ دَارٌ نُخَلِّيهُا وَأَنْشَدَ: لَا يَبْعَدَنَّ قَوْمَيِ الَّذِينَ هُمْ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأُزْرِ قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي الْمُقِيمِينَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْخَلِيلُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ قَالَ الْأَخْفَشُ: وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ هَكَذَا: وَيُؤْمِنُونَ بِالْمُقِيمِينَ. ووجهه محمد بن يزيد المبرد: أن الْمُقِيمِينَ هُنَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَبِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْمَلَائِكَةِ، وَاخْتَارَ هَذَا. وَحُكِيَ: أَنَّ النَّصْبَ عَلَى الْمَدْحِ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَدْحَ إِنَّمَا يَأْتِي بَعْدَ تَمَامِ الْخَبَرِ، وَخَبَرُ الرَّاسِخُونَ هُوَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً وَقِيلَ: إِنَّ الْمُقِيمِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ وَفِيهِ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مُضْمَرٍ بِدُونِ إِعَادَةِ الْخَافِضِ. وَحُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ الْمُقِيمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «1» وعن قوله: وَالصَّابِئُونَ «2» فِي الْمَائِدَةِ؟ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أَخِي! الْكُتَّابُ أَخْطَئُوا. أَخْرَجَهُ عَنْهَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: كان الكاتب يملي عليه فَيَكْتُبُ فَكَتَبَ: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ ثُمَّ قَالَ مَا أَكْتُبُ؟ فَقِيلَ لَهُ اكْتُبْ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ فَمِنْ ثُمَّ وَقَعَ هَذَا. وأخرج عَنْهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا الْكِتَابَ كَانُوا قُدْوَةً فِي اللُّغَةِ فَلَا يُظَنُّ بِهِمْ ذَلِكَ. وَيُجَابُ عَنِ الْقُشَيْرِيِّ: بِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ فَرَغَ مِنَ الْمُصْحَفِ وَأُتِيَ بِهِ إِلَيْهِ قَالَ: أَرَى فِيهِ شَيْئًا مِنْ لَحْنٍ سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بألسنها. أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ. وَقَدْ رَجَّحَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِ وَالتَّفْسِيرِ، وَرَجَّحَ قَوْلَ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْقَفَّالُ، وَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ خَبَرَ «الرَّاسِخُونَ» هُوَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَوْ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إِنْ جَعْلَنَا خَبَرَ «الرَّاسِخُونَ» هُوَ يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلَنَا قَوْلَهُ: وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ عَطْفًا عَلَى الْمُؤْمِنُونَ، لَا عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ الْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ. قَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، وُصِفُوا أَوَّلًا بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ، ثُمَّ بِالْإِيمَانِ بِكُتُبِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ: يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُؤْمِنُونَ بالله واليوم

_ (1) . طه: 63. (2) . المائدة: 69.

الْآخِرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ: الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا سَلَفَ، وَأَنَّهُمْ جَامِعُونَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً إِلَى الرَّاسِخُونَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ هذا متصل بقوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ كَأَمْرٍ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَا بَالُكُمْ تَطْلُبُونَ مِنْهُ مَا لَمْ يَطْلُبْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُعَاصِرِينَ لِلرُّسُلِ؟ وَالْوَحْيُ: إِعْلَامٌ فِي خَفَاءٍ، يُقَالُ: وُحِيَ إِلَيْهِ بِالْكَلَامِ وَحْيًا، وَأَوْحَى يُوحِي إِيحَاءً، وَخَصَّ نُوحًا لِكَوْنِهِ أَوَّلَ نَبِيٍّ شُرِعَتْ على لسانه الشرائع، وقيل: غير ذلك، والكافر في قوله: كَما نعت مصدر محذوف، أي: إِيحَاءٌ مِثْلُ إِيحَائِنَا إِلَى نُوحٍ، أَوْ حَالٌ، أَيْ: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْإِيحَاءَ حَالَ كَوْنِهِ مُشَبَّهًا بِإِيحَائِنَا إِلَى نُوحٍ. قَوْلُهُ: وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَهُمْ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ كَمَا تَقَدَّمَ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ خَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي لَفْظِ النَّبِيِّينَ تَشْرِيفًا لَهُمْ كَقَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ «1» ، وَقُدِّمَ عِيسَى عَلَى أَيُّوبَ وَمَنْ بَعْدَهُ مَعَ كَوْنِهِمْ فِي زَمَانٍ قَبْلَ زَمَانِهِ، رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ الذين كفروا به، وأيضا فالواو ليست إِلَّا لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ. قَوْلُهُ: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً مَعْطُوفٌ عَلَى أَوْحَيْنَا. وَالزَّبُورُ: كِتَابُ دَاوُدَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ سُورَةً، لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ وَلَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ. انْتَهَى. قُلْتُ: هُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ مَزْمُورًا. وَالْمَزْمُورُ: فَصْلٌ يَشْتَمِلُ عَلَى كَلَامٍ لِدَاوُدَ يَسْتَغِيثُ بِاللَّهِ مِنْ خُصُومِهِ وَيَدْعُو اللَّهَ عَلَيْهِمْ وَيَسْتَنْصِرُهُ، وَتَارَةً يَأْتِي بِمَوَاعِظَ، وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ فِي الْكَنِيسَةِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَعَ تَكَلُّمِهِ بِذَلِكَ شَيْئًا مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي لَهَا نَغَمَاتٌ حَسَنَةٌ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ تِلْكَ الْمَزْمُورَاتِ. وَالزُّبُرُ: الْكِتَابَةُ. وَالزَّبُورُ بِمَعْنَى المزبور، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: زَبُوراً بِضَمِّ الزَّايِ، جَمْعُ زُبُرٍ كَفَلْسٍ وَفُلُوسٍ، وَالزُّبُرُ بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلِمَةِ: التَّوْثِيقُ، يُقَالُ: بِئْرٌ مَزْبُورَةٌ، أَيْ: مَطْوِيَّةٌ بِالْحِجَارَةِ، وَالْكِتَابُ سُمِّيَ زَبُورًا: لِقُوَّةِ الْوَثِيقَةِ بِهِ. قَوْلُهُ: وَرُسُلًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْحَيْنا أَيْ: وَأَرْسَلْنَا رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَصَصْناهُمْ أَيْ: وَقَصَصْنَا رُسُلًا، وَمِثْلَهُ مَا أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ: أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا ... أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا وَالذِّئْبُ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْتُ بِهِ ... وَحْدِي وَأَخْشَى الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا أَيْ: وَأَخْشَى الذِّئْبَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: رُسُلٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ: وَمِنْهُمْ رُسُلٌ. وَمَعْنَى: مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ قَصَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْيَوْمِ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَعْضَ أَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَسْمَاءَ بَعْضٍ قَالَتِ الْيَهُودُ: ذَكَرَ مُحَمَّدٌ الْأَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ مُوسَى، فَنَزَلَ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِرَفْعِ الِاسْمِ الشَّرِيفِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: بِنَصْبِ الِاسْمِ الشَّرِيفِ، عَلَى أَنَّ مُوسَى هُوَ الذي كلم الله سبحانه وتَكْلِيماً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ. وَفَائِدَةُ التَّأْكِيدِ: دَفْعُ تَوَهُّمِ كَوْنِ التَّكْلِيمِ مَجَازًا، كَمَا قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي مَا وَصَلَ إِلَى الْإِنْسَانِ كَلَامًا بِأَيِّ

_ (1) . البقرة: 98.

طَرِيقٍ وَقِيلَ: مَا لَمْ يُؤَكَّدْ بِالْمَصْدَرِ، فَإِذَا أُكِّدَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَقِيقَةَ الْكَلَامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَجْمَعَ النَّحْوِيُّونَ: عَلَى أَنَّكَ إِذَا أَكَّدْتَ الْفِعْلَ بِالْمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ مَجَازًا. قَوْلُهُ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ بَدَلٌ مِنْ رُسُلًا الْأَوَّلِ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَأَرْسَلْنَا، أَوْ عَلَى الْحَالِ بِأَنْ يَكُونَ رُسُلًا مُوَطِّئًا لِمَا بَعْدَهُ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ: أَيْ مُبَشِّرِينَ لِأَهْلِ الطَّاعَاتِ وَمُنْذِرِينَ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي. قَوْلُهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أَيْ: مَعْذِرَةٌ يَعْتَذِرُونَ بِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ «1» وَسُمِّيَتِ الْمَعْذِرَةُ حُجَّةً مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعْذِرَةَ مَقْبُولَةٌ لَدَيْهِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: بَعْدَ الرُّسُلِ بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ حَكِيماً فِي أَفْعَالِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا إِرْسَالُ الرُّسُلِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً قَالَ: أَنْفُسُهُمْ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْحَقِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأُسِيدِ بْنِ شُعْبَةَ، وَثَعْلَبَةَ بْنِ شُعْبَةَ، حِينَ فَارَقُوا الْيَهُودَ وَأَسْلَمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْهُ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مَا نَعْلَمُ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ مُوسَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ألفا. قلت: كم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، جَمٌّ غَفِيرٌ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا إِلَّا أنه قال: «والرّسل ثلاثمائة وَخَمْسَةَ عَشَرَ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «كَانَ فِيمَنْ خَلَا مِنْ إِخْوَانِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثَمَانِيَةُ آلَافِ نَبِيٍّ، ثُمَّ كَانَ عِيسَى، ثُمَّ كُنْتُ أَنَا بَعْدَهُ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومنذرين» .

_ (1) . طه: 134.

[سورة النساء (4) : الآيات 166 إلى 171]

[سورة النساء (4) : الآيات 166 الى 171] لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) قَوْلُهُ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ الِاسْمُ الشَّرِيفُ مُبْتَدَأٌ وَالْفِعْلُ خَبَرُهُ، وَمَعَ تَشْدِيدِ النُّونِ هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ لَكِنْ، وَالِاسْتِدْرَاكُ مِنْ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا نَشْهَدُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ بِهَذَا، أَيْ: الْوَحْيُ وَالنُّبُوَّةُ، فَنَزَلَ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ. وَقَوْلُهُ: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى أَوْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِعِلْمِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمَهُ غَيْرُهُ، مِنْ كَوْنِكَ أَهْلًا لِمَا اصْطَفَاكَ اللَّهُ لَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَأَنْزَلَهُ عَلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أَيْ: كَفَى اللَّهُ شَاهِدًا، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَشَهَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: هِيَ مَا يَصْنَعُهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ شهادة للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِصِدْقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِكُلِّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، أَوْ بِهَذَا الْأَمْرِ الْخَاصِّ، وَهُوَ مَا فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ بِإِنْكَارِهِمْ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلم، وبقولهم: مَا نَجِدُ صِفَتَهُ فِي كِتَابِنَا، وَإِنَّمَا النُّبُوَّةُ فِي وَلَدِ هَارُونَ وَدَاوُدَ، وَبِقَوْلِهِمْ: إِنَّ شَرْعَ مُوسَى لَا يُنْسَخُ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً عَنِ الْحَقِّ بِمَا فَعَلُوا، لِأَنَّهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ مَنَعُوا غَيْرَهُمْ عَنِ الْحَقِّ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِجَحْدِهِمْ وَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ بِصَدِّهِمْ عَنِ السَّبِيلِ أَوْ ظَلَمُوا مُحَمَّدًا بِكِتْمَانِهِمْ نُبُوَّتَهُ أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ، وَيَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إِذَا اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَمَاتُوا كَافِرِينَ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ لِكَوْنِهِمُ اقْتَرَفُوا مَا يُوجِبُ لَهُمْ ذَلِكَ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ، وَفَرْطِ شَقَائِهِمْ، وَجَحَدُوا الْوَاضِحَ، وَعَانَدُوا الْبَيِّنَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أَيْ: يُدْخِلُهُمْ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. وَقَوْلُهُ: أَبَداً مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَهُوَ لِدَفْعِ احْتِمَالِ أَنَّ الْخُلُودَ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ وَكانَ ذلِكَ أَيْ: تَخْلِيدُهُمْ فِي جَهَنَّمَ، أَوْ تَرْكُ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ وَالْهِدَايَةُ مَعَ الْخُلُودِ فِي جَهَنَّمَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ النَّحْوِ فِي انْتِصَابِ خَيْرًا عَلَى مَاذَا؟ فَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ: بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَاقْصُدُوا أَوِ ائْتُوا خَيْرًا لَكُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَآمِنُوا إِيمَانًا خَيْرًا لَكُمْ، وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْكِسَائِيُّ: إِلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لَكَانَ مُقَدَّرَةً، أَيْ: فَآمِنُوا يَكُنِ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ، وَأَقْوَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّالِثُ، ثُمَّ الْأَوَّلُ، ثُمَّ الثَّانِي عَلَى ضَعْفٍ فِيهِ وَإِنْ تَكْفُرُوا أَيْ: وَإِنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى كُفْرِكُمْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنْتُمْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، ومن كان خالقا لَكُمْ وَلَهَا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مُجَازَاتِكُمْ بِقَبِيحِ أَفْعَالِكُمْ، فَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَعِيدٌ لَهُمْ، مَعَ إِيضَاحِ وَجْهِ الْبُرْهَانِ، وَإِمَاطَةِ السَّتْرِ عَنِ الدَّلِيلِ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَبُولَ وَالْإِذْعَانَ. لِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «2» قوله: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ الْغُلُوُّ: هُوَ التَّجَاوُزُ فِي الْحَدِّ، وَمِنْهُ: غَلَا السِّعْرُ يَغْلُو غَلَاءً، وَغَلَا الرَّجُلُ فِي الْأَمْرِ غُلُوًّا، وَغَلَا بِالْجَارِيَةِ لَحْمُهَا وَعَظْمُهَا: إِذَا أَسْرَعَتِ الشَّبَابَ فَجَاوَزَتْ لِدَاتَهَا. وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ: النَّهْيُ لَهُمْ عَنِ الْإِفْرَاطِ تَارَةً وَالتَّفْرِيطِ أُخْرَى، فَمِنَ الْإِفْرَاطِ: غُلُوُّ النَّصَارَى فِي عِيسَى حَتَّى جَعَلُوهُ رَبًّا، ومن

_ (1) . يس: 82. [.....] (2) . الزخرف: 87.

التَّفْرِيطِ: غُلُوُّ الْيَهُودِ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى جَعَلُوهُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ «1» وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ ... كلا طرفي الْأُمُورِ ذَمِيمُ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَهُوَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ، وَلَا تَقُولُوا: الْبَاطِلَ، كَقَوْلِ الْيَهُودِ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَوْلُ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَسِيحُ: مُبْتَدَأٌ، وَعِيسَى: بَدَلٌ مِنْهُ، وَابْنُ مَرْيَمَ: صِفَةٌ لِعِيسَى، وَرَسُولُ اللَّهِ: الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَطْفُ بَيَانٍ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَسِيحِ فِي آلِ عِمْرَانَ. قَوْلُهُ: وَكَلِمَتُهُ عَطْفٌ على رسول الله، وأَلْقاها إِلى مَرْيَمَ حَالٌ، أَيْ: كَوْنُهُ بُقُولَهُ: كُنْ فكان بشرا من غير أب، وقيل: وَكَلِمَتُهُ بِشَارَةُ اللَّهِ مَرْيَمَ وَرِسَالَتُهُ إِلَيْهَا عَلَى لِسَانِ جبريل بقوله: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ «2» وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْآيَةِ، وَمِنْهُ: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها «3» ، وقوله: ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «4» . قَوْلُهُ: وَرُوحٌ مِنْهُ أَيْ: أَرْسَلَ جِبْرِيلَ فَنَفَخَ فِي دِرْعِ مَرْيَمَ فَحَمَلَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ لِلتَّفْضِيلِ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْأَرْوَاحِ مِنْ خَلْقِهِ تَعَالَى وَقِيلَ: قَدْ يُسَمَّى مَنْ تَظْهَرُ مِنْهُ الْأَشْيَاءُ الْعَجِيبَةُ: رُوحًا وَيُضَافُ إِلَى اللَّهِ فَيُقَالُ: هَذَا رُوحٌ مِنَ اللَّهِ، أَيْ: مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا يُقَالُ فِي النِّعْمَةِ: إِنَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَقِيلَ: رُوحٌ مِنْهُ أَيْ: مِنْ خَلْقْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ «5» . أَيْ مِنْ خَلْقِهِ، وَقِيلَ: رُوحٌ مِنْهُ أَيْ: رَحْمَةٌ مِنْهُ، وَقِيلَ: رُوحٌ مِنْهُ أَيْ: بُرْهَانٌ مِنْهُ، وَكَانَ عِيسَى بُرْهَانًا وَحُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً لِرُوحٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْهُ، وَجُعِلَتِ الرُّوحُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ كَانَتْ بِنَفْخِ جِبْرِيلَ: لِكَوْنِهِ تَعَالَى الْآمِرَ لِجِبْرِيلَ بِالنَّفْخِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيْ: بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، وَبِأَنَّ رُسُلَهُ صَادِقُونَ مُبَلِّغُونَ عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَهُمْ بِتَبْلِيغِهِ، وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَلَا تَغْلُوا فِيهِمْ، فَتَجْعَلُوا بَعْضَهُمْ آلِهَةً. قَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ ارْتِفَاعُ ثَلَاثَةٌ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: لَا تَقُولُوا: آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: أَيْ: لَا تَقُولُوا هُمْ ثَلَاثَةٌ كقوله: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ «6» وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا تَقُولُوا هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ وَالْمُضَافُ، وَالنَّصَارَى مَعَ تَفَرُّقِ مَذَاهِبِهِمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى التَّثْلِيثِ، وَيَعْنُونَ بِالثَّلَاثَةِ: الثلاثة أقانيم فَيَجْعَلُونَهُ سُبْحَانَهُ جَوْهَرًا وَاحِدًا وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، وَيَعْنُونَ بِالْأَقَانِيمِ: أُقْنُومُ الْوُجُودِ، وَأُقْنُومُ الْحَيَاةِ، وَأُقْنُومُ الْعِلْمِ، وَرُبَّمَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْأَقَانِيمِ بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ، فَيَعْنُونَ بِالْأَبِ الْوُجُودَ، وَبِالرُّوحِ الْحَيَاةَ، وَبِالِابْنِ الْمَسِيحَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآلِهَةِ الثَّلَاثَةِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَرْيَمُ، وَالْمَسِيحُ. وَقَدِ اخْتَبَطَ النَّصَارَى فِي هَذَا اخْتِبَاطًا طَوِيلًا. وَوَقَفْنَا فِي الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا عِنْدَهُمُ اسْمُ الْإِنْجِيلِ عَلَى اخْتِلَافٍ كَثِيرٍ فِي عِيسَى: فَتَارَةً يُوصَفُ بِأَنَّهُ ابْنُ الْإِنْسَانِ، وَتَارَةً يُوصَفُ بِأَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَتَارَةً يُوصَفُ بِأَنَّهُ ابْنُ الرَّبِّ، وَهَذَا تناقض ظاهر وتلاعب

_ (1) . يقال ولد فلان لغير رشدة: «لغيّة وزنية» (لسان العرب) . (2) . آل عمران: 45. (3) . التحريم: 12. (4) . لقمان: 27. (5) . الجاثية: 13. (6) . الكهف: 22.

[سورة النساء (4) : الآيات 172 إلى 175]

بِالدِّينِ. وَالْحَقُّ مَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِهِ فِي القرآن، وما خالفه في التوراة أو الإنجيل أَوِ الزَّبُورِ فَهُوَ مِنْ تَحْرِيفِ الْمُحَرِّفِينَ، وَتَلَاعُبِ الْمُتَلَاعِبِينَ. وَمِنْ أَعْجَبِ مَا رَأَيْنَاهُ أَنَّ الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَنْسُوبٌ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَحَاصِلُ مَا فِيهَا جَمِيعًا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ ذَكَرَ سِيرَةَ عِيسَى مِنْ عِنْدِ أَنْ بَعْثَهُ اللَّهُ إِلَى أَنْ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَذَكَرَ مَا جَرَى لَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْمُرَاجَعَاتِ لِلْيَهُودِ وَنَحْوِهِمْ، فَاخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُمْ، وَاتَّفَقَتْ مَعَانِيهَا، وَقَدْ يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحِفْظُ وَالضَّبْطُ، وَذَكَرَ مَا قَالَهُ عِيسَى وَمَا قِيلَ لَهُ، وَلَيْسَ فِيهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ، وَلَا أَنْزَلَ عَلَى عِيسَى مِنْ عِنْدِهِ كِتَابًا، بَلْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُخَالِفُهَا، وَهَكَذَا الزَّبُورُ فَإِنَّهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ مِنْ كَلَامِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَلَامُ اللَّهِ أَصْدَقُ، وَكِتَابُهُ أَحَقُّ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا: أَنَّ الْإِنْجِيلَ كِتَابُهُ أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَّ الزَّبُورَ كِتَابُهُ آتَاهُ دَاوُدَ وَأَنْزَلَهُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ أَيْ: انْتَهُوا عَنِ التَّثْلِيثِ، وَانْتِصَابُ خَيْراً هُنَا فِيهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي قوله: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ. وإِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له، صاحبة ولا ولدا سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَيْ: أُسَبِّحُهُ تَسْبِيحًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَمَا جَعَلْتُمُوهُ لَهُ شَرِيكًا أَوْ وَلَدًا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ، وَالْمَمْلُوكُ الْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ شَرِيكًا ولا ولدا وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فكلّ الْخَلْقُ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا ولا نفعا. وقد أخرج إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي وَاللَّهِ أَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، قَالُوا: مَا نَعْلَمُ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّ النَّجَاشِيَّ قَالَ لِجَعْفَرٍ: مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ فِي ابْنِ مَرْيَمَ؟ قَالَ: يَقُولُ فِيهِ: قَوْلَ اللَّهِ، هُوَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، أَخْرَجَهُ مِنَ الْبَتُولِ الْعَذْرَاءِ، لَمْ يَقْرَبْهَا بَشَرٌ. فَتَنَاوَلَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ فَرَفَعَهُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ! مَا يَزِيدُ هَؤُلَاءِ عَلَى مَا تَقُولُونَ فِي ابْنِ مَرْيَمَ مَا يَزِنُ هَذِهِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ الله ورسوله» . [سورة النساء (4) : الآيات 172 الى 175] لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)

أَصْلُ يَسْتَنْكِفُ: نَكَفَ، وَبَاقِي الْحُرُوفِ زَائِدَةٌ، يُقَالُ: نَكَفْتُ مِنَ الشَّيْءِ، وَاسْتَنْكَفْتُ مِنْهُ، وَأَنْكَفْتُهُ، أَيْ: نَزَّهْتُهُ عَمَّا يُسْتَنْكَفُ مِنْهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اسْتَنْكَفَ، أَيْ: أَنِفَ، مَأْخُوذٌ مَنْ نَكَفْتُ الدَّمْعَ: إِذَا نَحَّيْتُهُ بِأُصْبُعِكَ عَنْ خَدَّيْكَ وَقِيلَ: هُوَ مِنَ النَّكَفِ، وَهُوَ الْعَيْبُ، يُقَالُ: مَا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ نَكَفٌ وَلَا وَكَفٌ. أَيْ: عَيْبٌ. ومعنى الأوّل: لم يَأْنَفَ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ وَلَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهَا. وَمَعْنَى الثَّانِي: لَنْ يَعِيبَ الْعُبُودِيَّةَ وَلَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهَا. لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ : عَطْفٌ عَلَى الْمَسِيحِ، أَيْ: وَلَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا الله. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا: الْقَائِلُونَ بِتَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَقَرَّرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَجْهَ الدَّلَالَةِ بِمَا لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَادَّعَى أَنَّ الذَّوْقَ قَاضٍ بِذَلِكَ، وَنِعْمَ، الذَّوْقُ الْعَرَبِيُّ إِذَا خَالَطَهُ مَحَبَّةُ الْمَذْهَبِ، وَشَابَهَ شَوَائِبُ الْجُمُودِ، كان هذا، وَكُلُّ مَنْ يَفْهَمُ لُغَةَ الْعَرَبِ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا يَأْنَفُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِمَامٌ وَلَا مَأْمُومٌ، أَوْ لَا كَبِيرٌ وَلَا صَغِيرٌ، أَوْ لَا جَلِيلٌ وَلَا حَقِيرٌ، ثُمَّ يَدُلُّ هَذَا: عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ أَعْظَمُ شَأْنًا مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا أَرْدَأَ الِاشْتِغَالَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا أَقَلَّ فَائِدَتَهَا، وَمَا أَبْعَدَهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَرْكَزًا مِنَ المراكز الشرعية الدينية وجسرا من الجسور مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ أَيْ: يَأْنَفُ تَكَبُّرًا ويعد نفسه كبيرا عن العبادةسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً الْمُسْتَنْكِفُ وَغَيْرُهُ، فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ. وَتَرَكَ ذِكْرَ غَيْرِ الْمُسْتَنْكِفِ هُنَا لِدَلَالَةِ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَلِكَوْنِ الْحَشْرِ لِكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفُوتَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً بِسَبَبِ اسْتِنْكَافِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يواليهم وَلا نَصِيراً ينصرهم. قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ مِنْ كُتُبِهِ، وَبِمَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ مِنْ رُسُلِهِ، وَمَا نَصُبُّهُ لَهُمْ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. وَالْبُرْهَانُ: مَا يُبَرْهَنُ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَسَمَّاهُ نُورًا: لِأَنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الضَّلَالِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ أَيْ: بِاللَّهِ، وَقِيلَ: بِالنُّورِ الْمَذْكُورِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ يَرْحَمُهُمْ بِهَا وَفَضْلٍ يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، أَوْ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِاعْتِبَارِ مَصِيرِهِمْ إِلَى جَزَائِهِ وَتَفَضُّلِهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً أَيْ: طَرِيقًا يَسْلُكُونَهُ إِلَيْهِ مُسْتَقِيمًا لَا عِوَجَ فِيهِ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَتَرْكِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْهِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنِ اسْمِ اللَّهِ، وَقِيلَ: رَاجِعَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَقِيلَ: إِلَى الْفَضْلِ وَقِيلَ: إِلَى الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، لِأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الثَّوَابِ، وَانْتِصَابُ صِرَاطًا: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ لَنْ يَسْتَكْبِرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قَالَ: أُجُورُهُمْ: يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ: الشَّفَاعَةُ فِيمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارَ مِمَّنْ صَنَعَ إِلَيْهِمُ الْمَعْرُوفَ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ

[سورة النساء (4) : آية 176]

سَاقَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَهُ وَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ لَا يَثْبُتُ، وَإِذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا فَهُوَ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ أَيْ: بَيِّنَةٌ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً قَالَ: هَذَا الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: بُرْهَانٌ: حُجَّةٌ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَاعْتَصَمُوا بِهِ قَالَ: الْقُرْآنُ. [سورة النساء (4) : آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْكَلَالَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْمُسْتَفْتِي الْمَقْصُودِ بِقَوْلِهِ: يَسْتَفْتُونَكَ. قَوْلُهُ: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ أَيْ: إن هلك امْرُؤٌ هَلَكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ «1» . وقوله: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ إما صفة ل: امرؤ، أَوْ حَالٌ، وَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْ كَوْنِهِ حَالًا، وَالْوَلَدُ: يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَاقْتَصَرَ عَلَى عَدَمِ الْوَلَدِ هُنَا مَعَ أَنَّ عَدَمَ الوالد مُعْتَبَرٌ فِي الْكَلَالَةِ: اتِّكَالًا عَلَى ظُهُورِ ذَلِكَ قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالْوَلَدِ هُنَا الِابْنُ، وَهُوَ أَحَدُ معنى الْمُشْتَرِكِ، لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تُسْقِطُ الْأُخْتَ. وَقَوْلُهُ: وَلَهُ أُخْتٌ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ. وَالْمُرَادُ بِالْأُخْتِ هَنَا: هِيَ الْأُخْتُ لِأَبَوَيْنِ، أَوْ لِأَبٍ، لَا لِأُمٍّ، فَإِنَّ فَرْضَهَا السُّدْسُ كَمَا ذُكِرَ سَابِقًا. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: إِلَى أَنَّ الْأَخَوَاتِ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ عَصَبَةٌ لِلْبَنَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَخٌ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ وَطَائِفَةٌ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا مِيرَاثَ لِلْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ مَعَ الْبِنْتِ، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ عَدَمَ الْوَلَدِ الْمُتَنَاوِلِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَيْدًا فِي مِيرَاثِ الْأُخْتِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ لَوْ لَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ مِيرَاثِ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ مُعَاذًا قَضَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِنْتٍ وَأُخْتٍ فَجَعَلَ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ: فَجَعَلَ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدْسَ، وَلِلْأُخْتِ الْبَاقِيَ» فَكَانَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ مُقْتَضِيَةً لِتَفْسِيرِ الْوَلَدِ بِالِابْنِ دُونَ الْبِنْتِ. قَوْلُهُ: وَهُوَ يَرِثُها أَيْ: الْمَرْءُ يَرِثُهَا، أَيْ: يَرِثُ الْأُخْتَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ذَكَرٌ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِإِرْثِهِ لَهَا: حِيَازَتَهُ لِجَمِيعِ مَا تَرَكَتْهُ، وَإِنْ كان المراد: ثبوت ميراثه لها فِي الْجُمْلَةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كُلًّا أَوْ بَعْضًا، صَحَّ تَفْسِيرُ الْوَلَدِ بِمَا يَتَنَاوَلُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. وَاقْتَصَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ- مَعَ كَوْنِ الْأَبِ يُسْقِطُ الْأَخَ كَمَا يُسْقِطُهُ الْوَلَدُ الذَّكَرُ-: لِأَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ حُقُوقِ الْأَخِ مَعَ الْوَلَدِ فَقَطْ هُنَا، وَأَمَّا سُقُوطُهُ مَعَ الْأَبِ فَقَدْ تَبَيَّنَ بِالسُّنَّةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رجل ذكر» والأب أولى من الأخ

_ (1) . النساء: 128.

فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ أَيْ: فَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ بِالْأُخُوَّةِ اثْنَتَيْنِ، وَالْعَطْفُ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ السَّابِقَةِ، وَالتَّأْنِيثِ وَالتَّثْنِيَةِ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ الْمَرْءُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ كَمَا سَلَفَ، وَمَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ مِنَ الْأَخَوَاتِ يَكُونُ لَهُنَّ الثُّلْثَانِ بِالْأَوْلَى وَإِنْ كانُوا أَيْ: مَنْ يَرِثُ بِالْأُخُوَّةِ إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً أَيْ: مُخْتَلِطِينَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ تَعْصِيبًا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أَيْ: يُبَيِّنُ لَكُمْ حُكْمَ الْكَلَالَةِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، هَكَذَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْمَعْنَى لِئَلَّا تَضِلُّوا، وَوَافَقَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هَذِهِ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ مِنْهَا عَلِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْعِلْمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ فَعَقِلْتُ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ لَا يَرِثُنِي إِلَّا كَلَالَةٌ فَكَيْفَ الْمِيرَاثُ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ» وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِلَفْظِ: أُنْزِلَتْ فِيَّ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تُورَّثُ الْكَلَالَةُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَمُسْلِمٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ: مَا سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «مَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ «1» الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْكَلَالَةِ؟ فَقَالَ: «تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ عُمَرَ قَالَ: ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن البراء ابن عَازِبٍ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً: بَرَاءَةٌ، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ سيرين قال: كان عمر ابن الْخَطَّابِ إِذَا قَرَأَ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا قَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ بَيَّنْتَ لَهُ الْكَلَالَةَ فلم تتبين لِي. وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ خِلَافًا وَاسْتِدْلَالًا وَتَرْجِيحًا فِي شَأْنِ الْكَلَالَةِ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ فلا نعيده. إلى هُنَا انْتَهَى الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمُبَارَكِ: الْمُسَمَّى «فَتْحُ الْقَدِيرِ» الْجَامِعُ بَيْنَ فَنَّيِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ بِقَلَمِ مُؤَلِّفِهِ الرَّاجِي مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى تَمَامِهِ، وَيَنْفَعَ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَجْعَلُهُ ذخيرة له عند وفوده إلى دار الْآخِرَةِ «مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّوْكَانِيِّ» غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا. وَكَانَ الِانْتِهَاءُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ الْأَكْبَرِ، يَوْمِ النَّحْرِ الْمُبَارَكِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ مِائَتَيْنِ

_ (1) . جاء في الموطأ لمالك [2/ 515] : الآية التي أنزلت في الصيف.

وَأَلْفٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، حَامِدًا لِلَّهِ وَمُصَلِّيًا وَمُسَلِّمًا عَلَى رَسُولِهِ وَحَبِيبِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله وعلى آله وصحبه. الْحَمْدُ لَهُ: كَمُلَ سَمَاعًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فِي شهر ذي القعدة من عام سنة 1232 هـ. يحيى بن علي الشوكاني

فهرس الجزء الأول

فهرس الجزء الأول الآيات الصفحة التعريف بالمؤلف 5 التعريف بالكتاب 11 مقدمة المؤلف 13 سورة الفاتحة (1) تفسير الآية (1) 20 تفسير الآيات (2- 7) 23 سورة البقرة (2) تفسير الآية (1) 34 تفسير الآية (2) 38 تفسير الآية (3) 39 تفسير الآية (4) 43 تفسير الآية (5) 44 تفسير الآيتين (6- 7) 45 تفسير الآيتين (8- 9) 48 تفسير الآية (10) 49 تفسير الآيتين (11- 12) 50 تفسير الآيات (13- 15) 51 تفسير الآيتين (14- 15) 52 تفسير الآية (16) 54 تفسير الآيتين (17- 18) 55 تفسير الآيتين (19- 20) 56 تفسير الآيتين (21- 22) 59 تفسير الآيتين (23- 24) 62 تفسير الآية (25) 64 تفسير الآيتين (26- 27) 66 تفسير الآية (28) 70 تفسير الآية (29) 71 تفسير الآية (30) 74 الآيات الصفحة تفسير الآيات (31- 33) 76 تفسير الآية (34) 78 تفسير الآيات (35- 39) 79 تفسير الآيات (40- 42) 85 تفسير الآيات (43- 46) 90 تفسير الآيات (47- 50) 96 تفسير الآيات (51- 54) 100 تفسير الآيات (55- 57) 102 تفسير الآيتين (58- 59) 105 تفسير الآيتين (60- 61) 107 تفسير الآية (62) 110 تفسير الآيات (63- 66) 112 تفسير الآيات (67- 71) 114 تفسير الآيات (72- 74) 117 تفسير الآيات (75- 77) 120 تفسير الآيات (78- 82) 122 تفسير الآيات (83- 86) 126 تفسير الآيتين (87- 88) 129 تفسير الآيات (89- 92) 131 تفسير الآيات (93- 96) 133 تفسير الآيتين (97- 98) 136 تفسير الآيات (99- 103) 138 تفسير الآيتين (104- 105) 145 تفسير الآيتين (106- 107) 146 تفسير الآيات (108- 110) 149 تفسير الآيتين (111- 113) 151) تفسير الآيتين (114- 115) 153 تفسير الآيات (116- 118) 155 تفسير الآيات (119- 121) 157

تفسير الآيات (122- 124) 159 تفسير الآيات (125- 128) 164 تفسير الآيات (129- 132) 167 تفسير الآيات (133- 141) 169 تفسير الآيتين (142- 143) 174 تفسير الآيات (144- 147) 177 تفسير الآيات (148- 152) 181 تفسير الآيات (153- 157) 183 تفسير الآية (158) 185 تفسير الآيات (159- 163) 186 تفسير الآية (164) 188 تفسير الآيات (165- 167) 190 تفسير الآيات (168- 171) 193 تفسير الآيتين (172- 173) 195 تفسير الآيات (174- 176) 197 تفسير الآية (177) 198 تفسير الآيتين (178- 179) 201 تفسير الآيات (180- 182) 204 تفسير الآيات (183- 184) 207 تفسير الآية (185) 209 تفسير الآية (186) 212 تفسير الآية (187) 214 تفسير الآية (188) 216 تفسير الآية (189) 217 تفسير الآيات (190- 193) 219 تفسير الآية (194) 221 تفسير الآية (195) 222 تفسير الآية (196) 224 تفسير الآيتين (197- 198) 229 تفسير الآيات (199- 203) 234 تفسير الآيات (204- 207) 238 تفسير الآيات (208- 210) 241 تفسير الآيات (211- 213) 243 تفسير الآية (214) 247 تفسير الآيتين (215- 216) 248 تفسير الآيتين (217- 218) 249 تفسير الآيتين (219- 220) 252 تفسير الآية (221) 257 تفسير الآيتين (222- 223) 258 تفسير الآيتين (224- 225) 263 تفسير الآيتين (226- 227) 266 تفسير الآية (228) 269 تفسير الآيتين (229- 230) 273 تفسير الآية (231) 278 تفسير الآية (232) 279 تفسير الآية (233) 281 تفسير الآية (234) 284 تفسير الآية (235) 287 تفسير الآيتين (236- 237) 289 تفسير الآيتين (238- 239) 293 تفسير الآيات (240- 242) 297 تفسير الآيات (243- 245) 299 تفسير الآيات (246- 252) 302 تفسير الآية (253) 308 تفسير الآية (254) 310 تفسير الآية (255) 311 تفسير الآيتين (256- 257) 315 تفسير الآية (258) 318 تفسير الآية: (259) 319 تفسير الآية (260) 322 تفسير الآيات (261- 265) 325 تفسير الآية (266) 330 تفسير الآيات (267- 271) 331 تفسير الآيات (272- 274) 335 تفسير الآيات (275- 277) 338 تفسير الآيات (278- 281) 241

تفسير الآيتين (282- 283) 243 تفسير الآية (284) 350 تفسير الآيتين (285- 286) 352 سورة آل عمران (3) تفسير الآيات (1- 6) 357 تفسير الآيات (7- 9) 360 تفسير الآيات (10- 13) 367 تفسير الآيات (14- 17) 370 تفسير الآيات (18- 20) 373 تفسير الآيات (21- 25) 376 تفسير الآيتين (26- 27) 378 تفسير الآيات (28- 30) 380 تفسير الآيات (31- 34) 382 تفسير الآيات (35- 37) 383 تفسير الآيات (38- 44) 386 تفسير الآيات (45- 51) 390 تفسير الآيات (52- 58) 394 تفسير الآيات (59- 63) 397 تفسير الآية (64) 399 تفسير الآيات (65- 68) 400 تفسير الآيات (69- 74) 401 تفسير الآيات (75- 77) 404 تفسير الآية (78) 406 تفسير الآيات (79- 80) 407 تفسير الآيتين (81- 82) 408 تفسير الآيات (86- 91) 410 تفسير الآيات (86- 91) 410 تفسير الآيات (92- 95) 413 تفسير الآيتين (96- 97) 415 تفسير الآيات (98- 103) 419 تفسير الآيات (104- 109) 423 تفسير الآيات (110- 112) 425 تفسير الآيات (113- 117) 427 تفسير الآيات (118- 120) 430 تفسير الآيات (121- 129) 432 تفسير الآيات (130- 136) 436 تفسير الآيات (137- 148) 439 تفسير الآيات (149- 153) 445 تفسير الآيتين (154- 155) 448 تفسير الآيات (156- 164) 450 تفسير الآيات (165- 168) 454 تفسير الآيات (169- 175) 456 تفسير الآيات (176- 180) 461 تفسير الآيات (181- 184) 465 تفسير الآيات (185- 189) 467 تفسير الآيات (190- 194) 470 تفسير الآية (195) 473 تفسير الآيات (196- 200) 474 سورة النساء (4) تفسير الآيات (1- 4) 479 تفسير الآيتين (5- 6) 489 تفسير الآيات (7- 10) 492 تفسير الآيات (11- 14) 495 تفسير الآيات (15- 18) 503 تفسير الآيات (19- 22) 506 تفسير الآيات (23- 28) 510 تفسير الآيات (29- 31) 526 تفسير الآيات (32- 34) 529 تفسير الآيات (32- 34) 529 تفسير الآية (35) 534 تفسير الآية (36) 535 تفسير الآيات (37- 42) 537 تفسير الآية (43) 540 تفسير الآيات (44- 48) 547 تفسير الآيات (49- 55) 550 تفسير الآيتين (56- 57) 554 تفسير الآيتين (58- 59) 555

تفسير الآيات (60- 65) 557 تفسير الآيات (66- 70) 560 تفسير الآيات (71- 76) 561 تفسير الآيات (77- 81) 563 تفسير الآيتين (82- 83) 567 تفسير الآيات (84- 87) 568 تفسير الآيات (88- 91) 571 تفسير الآيتين (92- 93) 574 تفسير الآية (94) 578 تفسير الآيتين (95- 96) 580 تفسير الآيات (97- 100) 582 تفسير الآيتين (101- 102) 585 تفسير الآيتين (103- 104) 588 تفسير الآيات (105- 109) 589 تفسير الآيات (110- 113) 592 تفسير الآيتين (114- 115) 593 تفسير الآيات (116- 122) 595 تفسير الآيات (123- 126) 598 تفسير الآية (127) 599 تفسير الآيات (97- 100) 582 تفسير الآية (127) 599 تفسير الآيات (128- 130) 601 تفسير الآيات (131- 134) 603 تفسير الآيتين (135- 136) 604 تفسير الآيات (137- 141) 606 تفسير الآيات (142- 147) 609 تفسير الآيتين (148- 149) 612 تفسير الآيات (150- 152) 613 تفسير الآيات (153- 159) 614 تفسير الآيات (160- 165) 618 تفسير الآيات (166- 171) 621 تفسير الآيات (172- 175) 624 تفسير الآية (176) 626

الجزء الثاني

الجزء الثاني بسم الله الرّحمن الرّحيم تنبيه: جرى المفسّر- رحمه الله- في ضبط ألفاظ القرآن الكريم في تفسيره هذا على رواية نافع مع تعرّضه للقراءات السّبع، وأثبتنا القرآن الكريم طبق رسم المصحف العثماني.

سورة المائدة

سورة المائدة قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْمَائِدَةُ مَدَنِيَّةٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: حَجَجْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لِي: يَا جُبَيْرُ تَقْرَأُ الْمَائِدَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عبد الله بن عمرو قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَالْفَتْحِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَحْمِلَهُ، فَنَزَلَ عَنْهَا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. قُلْتُ: وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ أُمِّ عَمْرٍو بِنْتِ عِيسَى عَنْ عَمِّهَا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَهُ. وَزَادَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَهَكَذَا أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ وَعَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ تَنْزِيلًا، فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّحَاسُ كِلَاهُمَا فِي النَّاسِخِ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: لَمْ يُنْسَخْ مِنَ الْمَائِدَةِ شَيْءٌ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمْ يُنْسَخْ مِنَ الْمَائِدَةِ إِلَّا هَذِهِ الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ «1» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نُسِخَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ آيَتَانِ، آيَةُ القلائد. وقوله: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ «2» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْمَائِدَةِ وَالتَّوْبَةِ، وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: «لما رجع صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ: «يَا عَلِيُّ أَشْعَرْتَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْمَائِدَةِ؟ وَنَعِمَتِ الْفَائِدَةُ» ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اعْتِقَادُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا عِنْدِي لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم.

_ (1) . المائدة: 2. (2) . المائدة: 42.

[سورة المائدة (5) : الآيات 1 إلى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا هَذِهِ السُّورَةَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ فِيهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ مَا تَتَقَاصَرُ عِنْدَهُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ، مَعَ شُمُولِهَا لِأَحْكَامٍ عِدَّةٍ: مِنْهَا الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ، وَمِنْهَا تَحْلِيلُ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهَا اسْتِثْنَاءُ مَا سَيُتْلَى مِمَّا لَا يَحِلُّ، وَمِنْهَا تَحْرِيمُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَمِنْهَا إِبَاحَةُ الصَّيْدِ لِمَنْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ. وَقَدْ حَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ أَصْحَابَ الْفَيْلَسُوفِ الْكِنْدِيِّ قَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْحَكِيمُ اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ، فَقَالَ: نَعَمْ أَعْمَلُ مِثْلَ بَعْضِهِ، فَاحْتَجَبَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ وَلَا يُطِيقُ هَذَا أَحَدٌ، إِنِّي فَتَحْتُ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ نَطَقَ بِالْوَفَاءِ وَنَهَى عَنِ النَّكْثِ، وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًّا، ثُمَّ اسْتَثْنَى بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي سَطْرَيْنِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا. قَوْلُهُ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، يُقَالُ: أَوْفَى وَوَفَى لُغَتَانِ، وَقَدْ جمع بينهما الشاعر فقال: أمّا ابن طوق فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ ... كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا وَالْعُقُودُ: الْعُهُودُ، وَأَصْلُ الْعُقُودِ الرُّبُوطُ، وَاحِدُهَا عَقْدٌ، يُقَالُ: عَقَدْتُ الْحَبْلَ وَالْعَهْدَ، فَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَجْسَامِ وَالْمَعَانِي، وَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْمَعَانِي كَمَا هُنَا أَفَادَ أَنَّهُ شَدِيدُ الْإِحْكَامِ، قَوِيُّ التَّوْثِيقِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعُقُودِ هِيَ الَّتِي عَقَدَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَلْزَمَهُمْ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَقِيلَ: هِيَ الْعُقُودُ الَّتِي يَعْقِدُونَهَا بَيْنَهُمْ مِنْ عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ، وَالْأَوْلَى شُمُولُ الْآيَةِ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَوْفَوْا بِعَقْدِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَبِعَقْدِكُمْ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، انْتَهَى. وَالْعَقْدُ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنْ خَالَفَهُمَا فَهُوَ رَدٌّ لَا يُجِبِ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَا يَحِلُّ. قَوْلُهُ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ الْخِطَابُ لِلَّذِينِ آمَنُوا. وَالْبَهِيمَةُ: اسْمٌ لِكُلِّ ذِي أَرْبَعٍ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِبْهَامِهَا مِنْ جِهَةِ نَقْصِ نُطْقِهَا وَفَهْمِهَا وَعَقْلِهَا، وَمِنْهُ بَابٌ مُبْهَمٌ: أَيْ مُغْلَقٌ، وَلَيْلٌ بَهِيمٌ، وَبُهْمَةٌ لِلشُّجَاعِ الَّذِي لَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى، وَحَلْقَةٌ مُبْهَمَةٌ: لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا. وَالْأَنْعَامُ: اسْمٌ لِلْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا فِي مَشْيِهَا مِنَ اللِّينِ وَقِيلَ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ: وَحْشِيُّهَا كَالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَالْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الثَّمَانِيَةُ الْأَزْوَاجُ، وَمَا انْضَافَ إِلَيْهَا مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ يُقَالُ لَهُ: أَنْعَامٌ مَجْمُوعَةٌ مَعَهَا، وَكَأَنَّ الْمُفْتَرِسَ كَالْأَسَدِ،

وَكُلُّ ذِي نَابٍ خَارِجٍ عَنْ حَدِّ الْأَنْعَامِ، فَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الرَّاعِي مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَقِيلَ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ: مَا لَمْ تَكُنْ صَيْدًا لِأَنَّ الصَّيْدَ يُسَمَّى وَحْشًا لَا بَهِيمَةً وَقِيلَ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ: الْأَجِنَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ عِنْدَ الذَّبْحِ مِنْ بُطُونِ الْأَنْعَامِ فَهِيَ تُؤْكَلُ مِنْ دُونِ ذَكَاةٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَعْنِي تَخْصِيصَ الْأَنْعَامِ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ تَكُونُ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ، وَيَلْحَقُ بِهَا مَا يَحِلُّ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْهَا بِالْقِيَاسِ، بَلْ وَبِالنُّصُوصِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً «1» الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ حَلَالٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ النُّصُوصِ الْخَاصَّةِ بِنَوْعٍ كَمَا فِي كُتُبِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ. قوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ استثناء من قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أَيْ إِلَّا مَدْلُولَ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَلَالٍ. وَالْمَتْلُوُّ: هُوَ مَا نَصَّ اللَّهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «2» الْآيَةَ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَا صَرَّحَتِ السُّنَّةُ بِتَحْرِيمِهِ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ الْآنَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَيُحْتَمَلُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. قَوْلُهُ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَقَوْلَهُ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ مِنْهُ أَيْضًا، فَالِاسْتِثْنَاءَانِ جَمِيعًا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: أُحِلِّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إِلَّا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي هُوَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ، ورُدَّ بِأَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ إِبَاحَةَ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنَى مِنَ الْمَحْظُورِ فَيَكُونُ مُبَاحًا، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مَا يُتْلى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَلَا يُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ. إِلَّا فِي النَّكِرَةِ وَمَا قَارَبَهَا مِنَ الْأَجْنَاسِ. قَالَ: وَانْتِصَابُ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَكَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: حَالٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي لَكُمْ وَالتَّقْدِيرُ: أُحِلِّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ: أَيْ الِاصْطِيَادِ فِي الْبَرِّ وَأَكْلِ صَيْدِهِ. وَمَعْنَى عَدَمِ إِحْلَالِهِمْ لَهُ تَقْرِيرُ حُرْمَتِهِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا، وَهُمْ حُرُمٌ: أَيْ مُحِرِمُونَ، وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُحِلِّي وَمَعْنَى هَذَا التَّقْيِيدِ ظَاهِرٌ عِنْدَ مَنْ يَخُصُّ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ بِالْحَيَوَانَاتِ الْوَحْشِيَّةِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي يَحِلُّ أَكْلَهَا كَأَنَّهُ قَالَ: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ إِلَّا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِضَافَةَ بَيَانِيَّةٌ فَالْمَعْنَى: أُحِلِّتْ لَكُمْ بَهِيمَةٌ هِيَ الْأَنْعَامُ حَالَ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَيْكُمْ بِدُخُولِكُمْ فِي الْإِحْرَامِ لِكَوْنِكُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهَذَا التَّقْيِيدِ الِامْتِنَانُ عَلَيْهِمْ بِتَحْلِيلِ مَا عَدَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَالْمُرَادُ بِالْحُرُمِ مَنْ هُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ بِهِمَا، وَسُمِّيَ مُحْرِمًا لِكَوْنِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّيْدُ وَالطِّيبُ وَالنِّسَاءُ، وَهَكَذَا وَجْهُ تَسْمِيَةِ الْحُرُمِ حَرَمًا، وَالْإِحْرَامُ إِحْرَامًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «حُرْمٌ» بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ، يَقُولُونَ فِي رُسُلٍ: رُسْلٍ، وَفِي كُتُبٍ كُتْبٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْتَادُهُ، فَهُوَ مَالِكُ الْكُلِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لا معقّب لحكمه. قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الشَّعَائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةٍ. قال ابن فارس: ويقال للواحدة شعارة وهو أحسن، ومنه الإشعار

_ (1) . الأنعام: 145. (2) . المائدة: 3.

لِلْهَدْيِ. وَالْمَشَاعِرُ: الْمَعَالِمُ، وَاحِدُهَا مَشْعَرٌ، وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي قَدْ أُشْعِرَتْ بِالْعَلَامَاتِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا هُنَا جَمِيعُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ: وَقِيلَ: الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، والهدي والبدن. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: لَا تُحِلُّوا هَذِهِ الْأُمُورَ بِأَنْ يَقَعَ مِنْكُمُ الْإِخْلَالُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَوْ بِأَنْ تَحُولُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ أَرَادَ فِعْلَهَا. ذَكَرَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ عَقِبَ ذِكْرِهِ تَحْرِيمَ صَيْدِ الْمُحْرِمِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّعَائِرِ هُنَا فَرَائِضُ اللَّهِ، وَمِنْهُ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ وَقِيلَ: هِيَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْجَمِيعِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَلَا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. قَوْلُهُ: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَمُحَرَّمٌ، وَرَجَبٌ أَيْ لَا تُحِلُّوهَا بِالْقِتَالِ فِيهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا شَهْرُ الْحَجِّ فَقَطْ. قَوْلُهُ: وَلَا الْهَدْيَ هُوَ مَا يُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ مِنْ نَاقَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ، الْوَاحِدَةُ هَدِيَّةٌ. نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ عَنْ أَنْ يُحِلُّوا حُرْمَةَ الْهَدْيَ بِأَنْ يَأْخُذُوهُ عَلَى صَاحِبِهِ، أَوْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي يُهْدَى إِلَيْهِ، وَعَطَفَ الْهَدْيَ عَلَى الشَّعَائِرِ مَعَ دُخُولِهِ تَحْتَهَا لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى مَزِيدِ خُصُوصِيَّتِهِ وَالتَّشْدِيدِ فِي شَأْنِهِ. قَوْلُهُ: وَلَا الْقَلائِدَ جَمْعُ قِلَادَةٍ، وَهِيَ مَا يُقَلَّدُ بِهِ الْهَدْيُ مِنْ نَعْلٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَإِحْلَالُهَا بِأَنْ تُؤْخَذَ غَصْبًا، وَفِي النَّهْيِ عَنْ إِحْلَالِ الْقَلَائِدِ تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ إِحْلَالِ الْهَدْيِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَلَائِدِ الْمُقَلَّدَاتُ بِهَا، وَيَكُونُ عَطْفُهُ عَلَى الْهَدْيِ لِزِيَادَةِ التَّوْصِيَةِ بِالْهَدْيِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَلَائِدِ مَا كَانَ النَّاسُ يَتَقَلَّدُونَهُ أَمَنَةً لَهُمْ، فهو على حذف مضاف: أي ولا أصحاب الْقَلَائِدِ. قَوْلُهُ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أَيْ قَاصِدِيهِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَمَّمْتُ كَذَا: أَيْ قَصَدْتُهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: «وَلَا آمِّي الْبَيْتِ الْحَرَامِ» بِالْإِضَافَةِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَمْنَعُوا مَنْ قَصَدَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ لِيَسْكُنَ فِيهِ وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَيَهْدُونَ فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يغيروا عليهم، فنزل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» ، وَقَوْلِهِ: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا «2» ، وَقَوْلِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ» . وَقَالَ قَوْمٌ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَهِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي (آمِّينَ) . قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ يَبْتَغُونَ الْفَضْلَ وَالْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ، وَيَبْتَغُونَ مَعَ ذَلِكَ رِضْوَانَ اللَّهِ وَقِيلَ: كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ التِّجَارَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْتَغِي بِالْحَجِّ رِضْوَانَ اللَّهِ، وَيَكُونُ هَذَا الِابْتِغَاءُ لِلرِّضْوَانِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ وَفِي ظَنِّهِمْ عِنْدَ مَنْ جَعَلَ الْآيَةَ فِي الْمُشْرِكِينَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَضْلِ هُنَا الثَّوَابُ لَا الْأَرْبَاحُ فِي التِّجَارَةِ. قَوْلُهُ: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا أَفَادَهُ مَفْهُومُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أَبَاحَ لَهُمُ الصَّيْدَ بَعْدَ أَنْ حَظَرَهُ عَلَيْهِمْ لِزَوَالِ السَّبَبِ الَّذِي حُرِّمَ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ. قَوْلُهُ: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: جَرَمَ وَأَجْرَمَ وَلَا جَرَمَ بِمَعْنَى قَوْلِكَ لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، وَأَصْلُهَا مِنْ جَرَمَ أَيْ كَسَبَ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَثَعْلَبٌ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، يُقَالُ: جَرَمَنِي كَذَا عَلَى بُغْضِكَ: أَيْ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ طَعَنْتَ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يغضبوا

_ (1) . التوبة: 5 [.....] (2) . التوبة: 28.

أَيْ حَمَلْتَهُمْ عَلَى الْغَضَبِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: مَعْنَى لَا يَجْرِمَنَّكُمْ لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضَ قَوْمٍ أَنْ تَعْتَدُوا الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالْعَدْلَ إِلَى الْجَوْرِ وَالْجَرِيمَةُ. وَالْجَارِمُ بِمَعْنَى الْكَاسِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: جَرِيمَةَ نَاهِضٍ فِي رَأْسِ نِيقٍ ... ترى لِعِظَامِ مَا جَمَعَتْ صَلِيبَا مَعْنَاهُ كَاسِبُ قُوتٍ. والصليب: الودك، ومنه قول الآخر: أيا أَيُّهَا الْمُشْتَكِي عُكْلًا وَمَا جَرَمَتْ ... إِلَى الْقَبَائِلِ من قتل وإبآس أَيْ كَسَبَتْ، وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ، أَوْ لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُهُمُ اعْتِدَاءَكُمْ لِلْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَيُقَالُ: جَرَمَ يَجْرُمُ جَرْمًا: إِذَا قَطَعَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الرُّمَّانِيُّ: وَهُوَ الْأَصْلُ، فَجَرَمَ بِمَعْنَى حَمَلَ عَلَى الشَّيْءِ لِقَطْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَجَرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى الْكَسْبِ، وَلَا جَرَمَ بِمَعْنَى حَقٍّ لِأَنَّ الْحَقَّ يَقْطَعُ عَلَيْهِ، قَالَ الْخَلِيلُ: مَعْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ «1» لَقَدْ حَقَّ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: جَرَمَ وَأَجْرَمَ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ: أَيْ اكْتَسَبَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «لَا يُجْرِمَنَّكُمْ» بِضَمِّ الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُكْسِبَنَّكُمْ وَلَا يَعْرِفُ الْبَصْرِيُّونَ أَجْرَمَ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: جَرَمَ لَا غَيْرَ. وَالشَّنَآنُ: الْبُغْضُ. وقرئ بفتح النون وإسكانها، يقال: شنئت أشنؤه شنأ وشنأة وَشَنَآنًا كُلُّ ذَلِكَ: إِذَا أَبْغَضْتَهُ. وَشَنَآنٌ هُنَا مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ: أَيْ بُغْضُ قَوْمٍ مِنْكُمْ لَا بُغْضُ قَوْمٍ لَكُمْ. قَوْلُهُ: أَنْ صَدُّوكُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ. أَيْ لِأَنْ صَدُّوكُمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَقَرَأَ الأعمش: «إن يصدوكم» وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الشَّرْطِيَّةِ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُهُمْ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمُ الصَّدُّ لَكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَمَّا إِنْ صَدُّوكُمْ بِكَسْرِ إِنْ، فَالْعُلَمَاءُ الْجُلَّةُ بِالنَّحْوِ وَالْحَدِيثِ وَالنَّظَرِ يَمْنَعُونَ الْقِرَاءَةَ بِهَا لِأَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ صَدُّوا الْمُؤْمِنِينَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، فَالصَّدُّ كَانَ قَبْلَ الْآيَةِ وَإِذَا قُرِئَ بِالْكَسْرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بَعْدَهُ كَمَا تَقُولُ: لَا تُعْطِ فُلَانًا شَيْئًا إِنْ قَاتَلَكَ، فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ فُتِحَتْ كَانَ لِلْمَاضِي، وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ. وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ شَنْآنُ بِسُكُونِ النُّونِ. لِأَنَّ الْمَصَادِرَ إِنَّمَا تَأْتِي فِي مِثْلِ هَذَا مُتَحَرِّكَةً وَخَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مَصْدَرًا، وَلَكِنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ عَلَى وَزْنِ كَسْلَانَ وَغَضْبَانَ. وَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الِاعْتِدَاءِ أَمَرَهُمْ بالتعاون على البرّ والتقوى: أي ليعن بعضكم بعضا على ذلك، وهو يشمل كلّ أمر يصدق عليه أنه من الْبِرِّ وَالتَّقْوَى كَائِنًا مَا كَانَ قِيلَ: إِنَّ البرّ والتقوى لفظان لمعنى واحد، وكرر للتأكيد. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الْبِرَّ يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ، وَالتَّقْوَى تَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ فِي الْبِرِّ رِضَا النَّاسِ وَفِي التَّقْوَى رِضَا اللَّهِ، فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ تَمَّتْ سَعَادَتُهُ ثُمَّ نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ عَنِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَالْإِثْمُ: كُلُّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يُوجِبُ إِثْمَ فَاعِلِهِ أَوْ قَائِلِهِ، وَالْعَدُوَّانُ: التَّعَدِّي عَلَى النَّاسِ بِمَا فِيهِ ظُلْمٌ، فَلَا يَبْقَى نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُوجِبَاتِ لِلْإِثْمِ وَلَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ لِلنَّاسِ الَّذِينَ مِنْ جُمْلَتِهِمُ النَّفْسُ إِلَّا وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَا النَّهْيِ لِصِدْقِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ عَلَى كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ مَعْنَاهُمَا، ثُمَّ أَمَرَ عِبَادَهُ بِالتَّقْوَى وَتَوَعَّدَ مَنْ خَالَفَ مَا أَمَرَ بِهِ فَتَرَكَهُ أَوْ خَالَفَ مَا نَهَى عَنْهُ فَفَعَلَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.

_ (1) . النحل: 62.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ وَمَا فَرَضَ وَمَا حَدَّ فِي الْقُرْآنِ كُلَّهُ لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَنْكُثُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هِيَ عُقُودُ الْجَاهِلِيَّةِ الْحِلْفُ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «وَأَوْفُوا بِعَقْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا تحدثوا عقدا في الإسلام» . وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ قَالَ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ قَالَ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ قَالَ: مَا فِي بُطُونِهَا، قُلْتُ: إِنْ خَرَجَ مَيِّتًا آكُلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ قَالَ: الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَهَذَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَيَهْدُونَ الْهَدَايَا، وَيُعَظِّمُونَ حُرْمَةَ الْمَشَاعِرِ، وَيَنْحَرُونَ فِي حَجِّهِمْ، فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ يَعْنِي: لَا تَسْتَحِلُّوا قِتَالًا فِيهِ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَعْنِي مَنْ تَوَجَّهَ قِبَلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ جَمِيعًا، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْنَعُوا أَحَدًا حَجَّ الْبَيْتَ، أَوْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «1» وَفِي قَوْلِهِ: يَبْتَغُونَ فَضْلًا يَعْنِي أَنَّهُمْ يُرْضُونَ اللَّهَ بِحَجِّهِمْ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ يَقُولُ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ يَقُولُ عَدَاوَةُ قَوْمٍ وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى قَالَ: الْبِرُّ مَا أُمِرْتَ بِهِ، وَالتَّقْوَى مَا نُهِيتَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: شَعَائِرُ اللَّهِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ أَنْ تُصِيبَهُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ، وَالْهَدْيُ: مَا لَمْ يُقَلَّدْ وَالْقَلَائِدُ مُقَلَّدَاتُ الْهَدْيِ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَقُولُ: مَنْ تَوَجَّهَ حَاجًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ قَالَ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَصْحَابُهُ حِينَ صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، وَقَدِ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَمَرَّ بِهِمْ أُنَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَصُدُّ هَؤُلَاءِ كَمَا صَدَّنَا أَصْحَابُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ وَابِصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي «الْأَدَبِ» وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ أنّ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ والإثم، قال: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنْ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِثْمِ، فَقَالَ: «مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ فَدَعْهُ. قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: مَنْ ساءته سيّئته وسرّته حسنته فهو مؤمن» .

_ (1) . التوبة: 28.

[سورة المائدة (5) : آية 3]

[سورة المائدة (5) : آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) هَذَا شُرُوعٌ فِي الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ. وَالْمَيْتَةُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْبَقَرَةِ، وَكَذَلِكَ الدَّمُ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَا هُنَا مِنْ تَحْرِيمِ مُطْلَقِ الدَّمِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ مَسْفُوحًا كَمَا تَقَدَّمَ حَمْلًا لِلْمُطْلِقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَخْصِيصُ الْمَيْتَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطُّحَالُ» أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحلّ مِيتَتُهُ» وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَهْلِ السُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ، وَصَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى. وَالْإِهْلَالُ: رَفْعُ الصَّوْتِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَأَنْ يَقُولَ: باسم اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا هُنَا إِلَى تَكْرِيرِ مَا قَدْ أَسْلَفْنَاهُ فَفِيهِ مَا لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْمُنْخَنِقَةُ هِيَ الَّتِي تَمُوتُ بِالْخَنْقِ: وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِهَا كَأَنْ تُدْخِلَ رَأْسَهَا فِي حَبْلٍ أَوْ بَيْنَ عُودَيْنِ، أَوْ بفعل آدميّ أو غيره، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ، فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا. وَالْمَوْقُوذَةُ هِيَ الَّتِي تُضْرَبُ بِحَجَرٍ أَوْ عَصًا حَتَّى تَمُوتَ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ، يُقَالُ: وَقَذَهُ يَقِذُهُ وَقْذًا فَهُوَ وَقِيذٌ، وَالْوَقْذُ شِدَّةُ الضَّرْبِ، وَفُلَانٌ وَقِيذٌ: أَيْ مُثْخَنٌ ضَرْبًا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَيَضْرِبُونَ الْأَنْعَامَ بِالْخَشَبِ لِآلِهَتِهِمْ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ يَأْكُلُونَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقَ: شَغَّارَةٌ تَقِذُ الْفَصِيلَ بِرِجْلِهَا ... فطّارة لقوادم الأبكار «1» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الصَّيْدِ بِالْبُنْدُقِ وَالْحَجَرِ وَالْمِعْرَاضِ، وَيَعْنِي بِالْبُنْدُقِ قَوْسُ الْبُنْدُقَةِ، وَبِالْمِعْرَاضِ السَّهْمُ الَّذِي لَا رِيشَ لَهُ أَوِ الْعَصَا الَّتِي رَأَسُهَا مُحَدَّدٌ، قَالَ: فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَقِيذٌ لَمْ يَجُزْهُ إِلَّا مَا أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَخَالَفَهُمُ الشَّامِيُّونَ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمِعْرَاضِ: كُلْهُ خزق أو لم يخزق، فَقَدْ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمَكْحُولٌ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا ذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا ذَكَرَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَفِيهِ الْحُجَّةُ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَفِيهِ «مَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ» انْتَهَى. قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَدِيٍّ قَالَ: «قَلْتُ: يَا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد

_ (1) . في المطبوع: الأظفار، والمثبت من تفسير القرطبي (6/ 48) . «الشغارة» : الناقة ترفع قوائمها لتضرب. «الفطر» : الحلب بالسبابة والوسطى مع الاستعانة بطرف الإبهام.

فأصيب، فقال: إذا رميت بالمعراض فخزق فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْهُ» فَقَدِ اعْتَبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم الخزق وَعَدَمَهُ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إِلَّا مَا خزق لَا مَا صُدِمَ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّذْكِيَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِلَّا كَانَ وَقِيذًا. وَأَمَّا الْبَنَادِقُ الْمَعْرُوفَةُ الْآنَ: وَهِيَ بَنَادِقُ الْحَدِيدِ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا الْبَارُودُ وَالرَّصَاصُ وَيُرْمَى بِهَا، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ لِتَأَخُّرِ حُدُوثِهَا، فَإِنَّهَا لَمْ تَصِلْ إِلَى الدِّيَارِ الْيَمَنِيَّةِ إِلَّا فِي الْمِائَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ سَأَلَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنِ الصَّيْدِ بِهَا إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الصَّائِدُ مِنْ تَذْكِيَتِهِ حَيًّا. وَالَّذِي يظهر لي أنه حلال لأنها تخزق وَتَدْخُلُ فِي الْغَالِبِ مِنْ جَانِبٍ مِنْهُ وَتَخْرُجُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ: «إِذَا رَمَيْتَ بالمعراض فخزق فكله» فاعتبر الخزق فِي تَحْلِيلِ الصَّيْدِ. قَوْلُهُ: وَالْمُتَرَدِّيَةُ هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ فَتَمُوتُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ تَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ مَدْفِنٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَالتَّرَدِّي مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ وَسَوَاءٌ تَرَدَّتْ بنفسها أو ردّاها غَيْرُهَا. قَوْلُهُ: وَالنَّطِيحَةُ هِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَنْطَحُهَا أُخْرَى فَتَمُوتُ مِنْ دُونِ تَذْكِيَةٍ. وَقَالَ قَوْمٌ أَيْضًا: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، لِأَنَّ الدَّابَّتَيْنِ تَتَنَاطَحَانِ فَتَمُوتَانِ، وَقَالَ: نَطِيحَةٌ وَلَمْ يَقُلْ نَطِيحٌ مَعَ أَنَّهُ قِيَاسُ فَعِيلٍ، لِأَنَّ لُزُومَ الْحَذْفِ مُخْتَصٌّ بِمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَذْكُورٍ فَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ ثَبَتَتِ التَّاءُ لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو مَيْسَرَةَ: وَالْمَنْطُوحَةُ. قَوْلُهُ: وَما أَكَلَ السَّبُعُ أَيْ مَا افْتَرَسَهُ ذُو نَابٍ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُعُ، لِأَنَّ مَا أَكَلَهُ السَّبُعُ كُلُّهُ قَدْ فَنِيَ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخُصُّ اسْمَ السَّبُعِ بِالْأَسَدِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا أَكَلَ السَّبُعُ شَاةً، ثُمَّ خَلَّصُوهَا مِنْهُ أَكَلُوهَا، وَإِنْ ماتت لم يُذَكُّوهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ: السَّبُعُ بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِأَهْلِ نَجْدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: مَنْ يَرْجِعِ الْعَامَ إِلَى أَهْلِهِ ... فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِعِ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ» . وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «وَأَكِيلُ السَّبُعِ» . قَوْلُهُ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ رَاجِعٌ عَلَى مَا أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ سَابِقًا، وَفِيهِ حَيَاةٌ، وَقَالَ الْمَدَنِيُّونَ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ السَّبُعُ منها إلى مَا لَا حَيَاةَ مَعَهُ فَإِنَّهَا لَا تُؤْكَلُ. وَحَكَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُنْقَطِعًا أَيْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ فَهُوَ الَّذِي يَحِلُّ وَلَا يَحْرُمُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالذَّكَاةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الذَّبْحُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ وَغَيْرُهُ. وَأَصْلُ الذَّكَاةِ فِي اللُّغَةِ: التَّمَامُ أَيْ تَمَامُ اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ، وَالذَّكَاءُ حِدَّةُ الْقَلْبِ، وَالذَّكَاءُ سُرْعَةُ الْفِطْنَةِ، وَالذَّكْوَةُ مَا تَذَكَّى مِنْهُ النَّارُ، وَمِنْهُ أَذْكَيْتُ الْحَرْبَ وَالنَّارَ: أَوْقَدْتُهُمَا، وَذَكَاءُ اسْمُ الشَّمْسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: إِلَّا مَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ عَلَى التَّمَامِ، وَالتَّذْكِيَةُ فِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنْ إِنْهَارِ الدَّمِ، وَفَرْيِ الْأَوْدَاجِ فِي الْمَذْبُوحِ وَالنَّحْرِ فِي الْمَنْحُورِ وَالْعَقْرِ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ مَقْرُونًا بِالْقَصْدِ لِلَّهِ، وَذِكْرِ اسْمِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْآلَةُ الَّتِي تَقَعُ بِهَا الذَّكَاةُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَفَرَى الْأَوْدَاجَ، فَهُوَ آلَةٌ لِلذَّكَاةِ مَا خَلَا السِّنَّ وَالْعَظْمَ، وَبِهَذَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. قَوْلُهُ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: النُّصُبُ حَجَرٌ كَانَ يُنْصَبُ فَيُعْبَدُ وَيُصَبُّ عَلَيْهِ دِمَاءُ الذَّبَائِحِ، وَالنَّصَائِبُ حِجَارَةٌ تُنْصَبُ حَوَالَيْ شَفِيرِ الْبِئْرِ فَتُجْعَلُ عَضَائِدَ. وَقِيلَ النُّصُبُ: جَمْعٌ وَاحِدُهُ نِصَابٌ، كَحِمَارٍ وَحُمُرٍ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ

بِفَتْحِ النُّونِ وَالصَّادِ، جَعَلَهُ اسْمًا مُوَحَّدًا كَالْجَبَلِ وَالْجَمَلِ، وَالْجَمْعُ أَنْصَابٌ كَالْأَجْبَالِ وَالْأَجْمَالِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ حَوَالَيْ مَكَّةَ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَذْبَحُ بِمَكَّةَ وَتَنْضَحُ بِالدَّمِ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْبَيْتِ وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ وَيَضَعُونَهُ عَلَى الْحِجَارَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قال المسلمون للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَ هَذَا الْبَيْتَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالْمَعْنَى: وَالنِّيَّةُ بِذَلِكَ تَعْظِيمُ النُّصُبِ لَا أَنَّ الذَّبْحَ عَلَيْهَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِهَذَا قِيلَ إن عَلَى بمعنى اللام: أي لأجلها. قاله قُطْرُبٌ، وَهُوَ عَلَى هَذَا دَاخِلٌ فِيمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِتَأْكِيدِ تَحْرِيمِهِ ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذَلِكَ لِتَشْرِيفِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ. قَوْلُهُ: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ: أَيْ وَحَرَّمَ عَلَيْكُمُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ. وَالْأَزْلَامُ: قِدَاحُ الْمَيْسَرِ وَاحِدُهَا زَلَمٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَامٌ كَالزَّلَمْ لَيْسَ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ وَلَا بِجَزَّارِ عَلَى لَحْمِ وَضَمْ وَقَالَ آخَرُ: فَلَئِنْ جَذِيمَةُ قُتِلَتْ سَادَاتُهَا ... فَنِسَاؤُهَا يَضْرِبْنَ بِالْأَزْلَامِ وَالْأَزْلَامُ لِلْعَرَبِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا مَكْتُوبٌ فِيهِ افْعَلْ، وَالْآخَرُ مَكْتُوبٌ فِيهِ لَا تَفْعَلْ، وَالثَّالِثُ مُهْمَلٌ لَا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، فإذا أَرَادَ فِعْلَ شَيْءٍ أَدْخَلَ يَدَهُ وَهِيَ مُتَشَابِهَةٌ فَأَخْرَجَ وَاحِدًا مِنْهَا، فَإِنْ خَرَجَ الْأَوَّلُ فَعَلَ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ الثَّانِي تَرَكَهُ، وَإِنْ خَرَجَ الثَّالِثُ أَعَادَ الضَّرْبَ حَتَّى يَخْرُجَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِهَذَا الْفِعْلِ اسْتِقْسَامٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ الرِّزْقَ وَمَا يُرِيدُونَ فِعْلَهُ كَمَا يُقَالُ اسْتَسْقَى: أَيْ اسْتَدْعَى السَّقْيَ. فَالِاسْتِقْسَامُ: طَلَبُ الْقِسْمِ وَالنَّصِيبِ. وَجُمْلَةُ قِدَاحِ الْمَيْسَرِ عَشَرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهَا، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا فِي الْمُقَامَرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَزْلَامَ كِعَابُ فَارِسَ وَالرُّومِ الَّتِي يَتَقَامَرُونَ بِهَا، وَقِيلَ: هِيَ الشَّطْرَنْجُ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِدَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ وَضَرْبٌ مِنَ الْكَهَانَةِ. قَوْلُهُ: ذلِكُمْ فِسْقٌ إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ أَوْ إِلَى جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا. وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنِ الْحَدِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ الْفِسْقَ هُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ لَا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ قَوْمٍ مِنْ أَنَّهُ مَنْزِلَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. قَوْلُهُ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ الْمُرَادُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ، وَهُوَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الزَّمَانُ الْحَاضِرُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ، ولم يرد يوما معينا. ويئس فيه لغتان ييئس بياءين يأسا، وأيس يأيس إِيَاسًا وَإِيَاسَةً. قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. أَيْ حَصَلَ لَهُمُ الْيَأْسُ مِنْ إِبْطَالِ دِينِكُمْ وَأَنْ يَرُدُّوكُمْ إِلَى دِينِهِمْ كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ فَلا تَخْشَوْهُمْ أَيْ لَا تَخَافُوا مِنْهُمْ أَنْ يَغْلِبُوكُمْ أَوْ يُبْطِلُوا دِينَكُمْ وَاخْشَوْنِ فَأَنَا الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِنْ نَصَرْتُكُمْ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ خَذَلْتُكُمْ لَمْ يَسْتَطِعْ غَيْرِي أَنْ يَنْصُرَكُمْ. قَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ جَعَلْتُهُ

كَامِلًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى إِكْمَالٍ لِظُهُورِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا وَغَلَبَتِهِ لَهَا وَلِكَمَالِ أَحْكَامِهِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْمُشْتَبَهِ، وَوَفَّى مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا يُسْتَفَادُ مِنْ تَقْدِيمِ قَوْلِهِ: لَكُمْ. قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِالْإِكْمَالِ هُنَا: نُزُولُ مُعْظَمِ الْفَرَائِضِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. قَالُوا: وَقَدْ نَزَلَ بعد ذلك قرآن كثير كَآيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الْكَلَالَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الْمَذْكُورِ هُنَا هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. قَوْلُهُ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِإِكْمَالِ الدِّينِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأَحْكَامِ وَبِفَتْحِ مَكَّةَ وَقَهْرِ الْكُفَّارِ وَإِيَاسِهِمْ عَنِ الظُّهُورِ عَلَيْكُمْ كَمَا وَعَدْتُكُمْ بِقَوْلِي: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ «1» . قَوْلُهُ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أَيْ أَخْبَرْتُكُمْ بِرِضَايَ بِهِ لَكُمْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ رَاضِيًا لِأَمَةِ نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ لِاخْتِصَاصِ الرِّضَا بِهَذَا الْيَوْمِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ دِينًا بَاقِيًا إِلَى انْقِضَاءِ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَدِينًا مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا. قَوْلُهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ هَذَا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ: أَيْ مَنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ فِي مَخْمَصَةٍ أَيْ مَجَاعَةٍ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَالْخَمْصُ: ضُمُورُ الْبَطْنِ، وَرَجُلٌ خَمِيصٌ وَخُمْصَانٌ، وَامْرَأَةٌ خَمِيصَةٌ وَخُمْصَانَةٌ، وَمِنْهُ أَخْمَصُ الْقَدَمِ، وَيُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْجُوعِ، قَالَ الْأَعْشَى: تبيتون في المشتى ملاء بُطُونُكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى «2» يَبِتْنَ خَمَائِصَا قَوْلُهُ: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ الْجَنَفُ: الْمَيْلُ، وَالْإِثْمُ: الْحَرَامُ أَيْ حَالَ كَوْنِ الْمُضْطَرِّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مَائِلٍ لِإِثْمٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى غَيْرِ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، وَكُلُّ مَائِلٍ فَهُوَ مُتَجَانِفٌ وَجَنَفٌ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالسُّلَمِيُّ «مُتَجَنِّفٍ» ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بِهِ لَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا أَلْجَأَتْهُ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ فِي الْجُوعِ مَعَ عَدَمِ مَيْلِهِ بِأَكْلِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ إِلَى الْإِثْمِ بِأَنْ يَكُونَ بَاغِيًا عَلَى غَيْرِهِ أَوْ مُتَعَدِّيًا لِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِي أَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَعْرِضُ عَلَيْهِمْ شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ جَاءُوا بِقَصْعَةِ دَمٍ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهَا يَأْكُلُونَهَا، قَالُوا: هَلُمَّ يَا صَدِّيُّ فَكُلْ قُلْتُ: وَيَحْكُمْ إِنَّمَا أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ مَنْ يُحَرِّمُ هَذَا عَلَيْكُمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَمَا ذاك؟ قال: فتلوت عليهم هذا الْآيَةَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ قَالَ: وَمَا أُهِلَّ لِلطَّوَاغِيتِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ قَالَ: الَّتِي تُخْنَقُ فَتَمُوتُ وَالْمَوْقُوذَةُ قال: التي تضرب بالخشبة فتموت وَالْمُتَرَدِّيَةُ قال: التي تتردّى من الجبل فتموت وَالنَّطِيحَةُ قال: الشاة التي تنطح الشاة

_ (1) . البقرة: 150. (2) . غرثى: جوعى.

[سورة المائدة (5) : الآيات 4 إلى 5]

وَما أَكَلَ السَّبُعُ يَقُولُ: مَا أَخَذَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ يَقُولُ: ذَبَحْتُمْ مِنْ ذَلِكَ وَبِهِ رُوحٌ فَكُلُوهُ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قَالَ: النُّصُبُ أَنْصَابٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ وَيُهِلُّونَ عَلَيْهَا وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قَالَ: هِيَ الْقِدَاحُ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي الْأُمُورِ. ذلِكُمْ فِسْقٌ يَعْنِي مَنْ أَكَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَهُوَ فِسْقٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الرَّدَاةُ الَّتِي تَتَرَدَّى فِي الْبِئْرِ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنَ الْجَبَلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قَالَ: حَصَى بِيضٍ كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا أَوْ سَفَرًا يَعْمِدُونَ إِلَى قِدَاحٍ ثَلَاثَةٍ يَكْتُبُونَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا: أَمَرَنِي، وَعَلَى الْآخَرِ: نَهَانِي، وَيَتْرُكُونَ الثَّالِثَ مُخَلَّلًا بَيْنَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُجِيلُونَهَا، فَإِنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ أَمَرَنِي، مَضَوْا لِأَمْرِهِمْ، وَإِنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ نَهَانِي، كَفُّوا، وَإِنْ خَرَجَ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، أَعَادُوهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ قَالَ: يَئِسُوا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ أَبَدًا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ يَئِسَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَبَدًا فَلا تَخْشَوْهُمْ فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ وَاخْشَوْنِ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا كَانَ وَاقِفًا بِعَرَفَاتٍ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ وَالْمُسْلِمُونَ يَدْعُونَ اللَّهَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يَقُولُ: حَلَالُكُمْ وَحَرَامُكُمْ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قَالَ: مِنَّتِي، فَلَمْ يَحُجَّ مَعَكُمْ مُشْرِكٌ وَرَضِيتُ يَقُولُ: اخْتَرْتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُمُ الْإِيمَانَ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةٍ أَبَدًا، وَقَدْ أَتَمَّهُ فَلَا يَنْقُصُ أَبَدًا، وَقَدْ رَضِيَهُ فَلَا يُسْخِطُهُ أَبَدًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ طَارِقِ بْنِ شهاب قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالُوا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشيّة عرفة في يوم جمعة. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ يَعْنِي إِلَى مَا حُرِّمَ مِمَّا سُمِّيَ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَخْمَصَةٍ يَعْنِي فِي مَجَاعَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ يَقُولُ: غَيْرَ متعمّد لإثم. [سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 5] يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)

هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُمْ بَعْدَ بَيَانِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ: مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ أَيُّ شَيْءٍ أُحِلَّ لَهُمْ؟ أَوْ مَا الَّذِي أُحِلَّ لَهُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ إِجْمَالًا وَمِنَ الصَّيْدِ وَمِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ نِسَائِهِمْ؟ قَوْلُهُ: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هِيَ مَا يَسْتَلِذُّهُ آكِلُهُ وَيَسْتَطِيبُهُ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَقِيلَ: هِيَ الْحَلَالُ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَقِيلَ: الطَّيِّبَاتُ: الذَّبَائِحُ لِأَنَّهَا طَابَتْ بِالتَّذْكِيَةِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعَامِّ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَالسَّبَبُ وَالسِّيَاقُ لَا يَصْلُحَانِ لِذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ هو مَعْطُوفٌ عَلَى الطَّيِّبَاتِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ لِتَصْحِيحِ الْمَعْنَى: أَيْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَأُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَّمْتُمْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ: أَيْ عُلِّمْتُمْ مِنْ أَمْرِ الْجَوَارِحِ وَالصَّيْدِ بِهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ مَنْ صَنَّفَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَنَاوَلَتْ مَا عَلَّمْنَا مِنَ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْكَلْبَ وَسَائِرَ جَوَارِحِ الطَّيْرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ إِبَاحَةَ سَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بِسَائِرِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ: وَهُوَ الْأَكْلُ مِنَ الْجَوَارِحِ. أَيِ الْكَوَاسِبُ مِنَ الْكِلَابِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ. قَالَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَسْوَدَ، وَعَلَّمَهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ صَيْدِهِ الَّذِي صَادَهُ، وَأَثَّرَ فِيهِ بِجُرْحٍ أَوْ تَنْيِيبٍ، وَصَادَ بِهِ مُسْلِمٌ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ أَنَّ صيده صحيح يؤكل بلا خلاف. فإن انخزم شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ دَخَلَ الْخِلَافُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُصَادُ بِهِ غَيْرُ كَلْبٍ كَالْفَهْدِ وما أشبه، وَكَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الطَّيْرِ فَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا صَادَ بَعْدَ التَّعْلِيمِ فَهُوَ جَارِحٌ كَاسِبٌ، يُقَالُ: جُرِحَ فُلَانٌ وَاجْتَرَحَ: إِذَا اكْتَسَبَ، وَمِنْهُ الْجَارِحَةُ لِأَنَّهُ يُكْتَسَبُ بِهَا، وَمِنْهُ اجْتِرَاحُ السَّيِّئَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ «1» . وَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ «2» . قَوْلُهُ: مُكَلِّبِينَ حَالٌ، وَالْمُكَلِّبُ: مُعَلِّمُ الْكِلَابِ لِكَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ، وَالْأَخَصُّ مُعَلِّمُ الْكِلَابِ وَإِنْ كَانَ مُعَلِّمَ سَائِرِ الْجَوَارِحِ مِثْلَهُ، لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ بِالْكِلَابِ هُوَ الْغَالِبُ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مَعَ أَنَّ التَّكْلِيبَ هُوَ التَّعْلِيمُ، لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ التَّعْلِيمِ وَقِيلَ: إِنَّ السَّبُعَ يُسَمَّى كَلْبًا فَيَدْخُلُ كُلُّ سَبْعٍ يُصَادُ بِهِ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةً بِالْكِلَابِ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا يُصَادُ بِالْبُزَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّيْرِ فَمَا أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ، وَإِلَّا فَلَا تَطْعَمْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَسُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الْبَازِي هَلْ يَحِلُّ صَيْدُهُ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ هِيَ الْكِلَابُ خَاصَّةً، فإن كان الكلب الأسود بَهِيمًا فَكَرِهَ صَيْدَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِيهِ إِذَا كَانَ بَهِيمًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ. فَأَمَّا عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ فَيَرَوْنَ جَوَازَ صَيْدِ كُلِّ كَلْبٍ مُعَلَّمٍ، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ صَيْدِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، والحق أنه يَحِلَّ صَيْدُ كُلِّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ الْجَوَارِحِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ الْأَسْوَدِ مِنَ الْكِلَابِ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ الطَّيْرِ وَغَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ سُؤَالُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ صَيْدِ الْبَازِي كَمَا سَيَأْتِي. قَوْلُهُ: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِمَّا أَدْرَكْتُمُوهُ بِمَا خَلَقَهُ فيكم من العقل الذي تهتدون به

_ (1) . الأنعام: 60. (2) . الجاثية: 21.

إِلَى تَعْلِيمِهَا وَتَدْرِيبِهَا حَتَّى تَصِيرَ قَابِلَةً لِإِمْسَاكِ الصَّيْدِ عِنْدَ إِرْسَالِكُمْ لَهَا. قَوْلُهُ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ، وَالْجُمْلَةُ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَحْلِيلِ صَيْدِ مَا عَلَّمُوهُ مِنَ الْجَوَارِحِ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ بَعْضَ الصَّيْدِ لَا يُؤْكَلُ كَالْجِلْدِ وَالْعَظْمِ وَمَا أَكَلَهُ الْكَلْبُ وَنَحْوُهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُمْسِكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ الصَّيْدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْجَارِحُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ. وَقَالَ عَطَاءُ ابن أَبِي رَبَاحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يُؤْكَلُ صَيْدُهُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وَقَوْلُهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: «فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» . وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرْسَلَتْ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ» . وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ، فَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّهُ إِنْ أَكَلَ عَقِبَ مَا أَمْسَكَهُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ لِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَإِنْ أَمْسَكَهُ ثُمَّ انْتَظَرَ صَاحِبَهُ فَطَالَ عَلَيْهِ الِانْتِظَارُ وَجَاعَ فَأَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ لِجُوعِهِ لَا لِكَوْنِهِ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْثَرُ ذَلِكَ وَلَا يَحْرُمُ بِهِ الصَّيْدُ، وَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، وَحَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ حُرِّمَ لِحَدِيثِ عَدِيٍّ، وَإِنْ أَكَلَ غَيْرَهُ لَمْ يَحْرُمْ لِلْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَقِيلَ: يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَلَى مَا إِذَا أَمْسَكَهُ وَخَلَّاهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَكَلَ مِنْهُ. وَقَدْ سَلَكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ طَرِيقَ التَّرْجِيحِ وَلَمْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ الْجَمْعِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْبُعْدِ، قَالُوا: وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَرْجَحُ لِكَوْنِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ قَرَّرْتُ هَذَا الْمَسْلَكَ فِي شَرْحِي لِلْمُنْتَقَى بِمَا يَزِيدُ النَّاظِرَ فِيهِ بَصِيرَةً. قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ يَعُودُ إِلَى مَا عَلَّمْتُمْ أي سمّوا عليه عند إرساله، أو مما أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. أَيْ سَمُّوا عَلَيْهِ إِذَا أَرَدْتُمْ ذَكَاتَهُ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ إِرْسَالِ الْجَارِحِ، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِلَفْظِ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ وَإِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ» . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الْأَكْلِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الْإِرْشَادُ إِلَى التَّسْمِيَةِ وَهَذَا خطأ، فإن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قَدْ وَقَّتَ التَّسْمِيَةَ بِإِرْسَالِ الْكَلْبِ وَإِرْسَالِ السَّهْمِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ حُكْمٌ آخَرُ، وَمَسْأَلَةٌ غَيْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُنَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَلَا مُلْجِئَ إِلَى ذَلِكَ، وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ: «إِنْ أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَخَذَ فَكُلْ» . وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ فَقَطْ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ عَلَى الذَّاكِرِ لَا النَّاسِي، وَهَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ وَأَرْجَحُهَا. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ

أَيْ حِسَابُهُ سُبْحَانَهُ سَرِيعٌ إِتْيَانُهُ وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ. قَوْلُهُ: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الطَّيِّبَاتِ. قَوْلُهُ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ الطَّعَامُ: اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ، وَمِنْهُ الذَّبَائِحُ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى تَخْصِيصِهِ هُنَا بِالذَّبَائِحِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ طَعَامِ أَهْلِ الْكُتُبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يَذْكُرُونَ عَلَى ذَبَائِحِهِمُ اسْمَ اللَّهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَالٌ، وَإِنْ ذَكَرَ الْيَهُودِيُّ عَلَى ذَبِيحَتِهِ اسْمَ عُزَيْرٍ، وَذَكَرَ النَّصْرَانِيُّ عَلَى ذَبِيحَتِهِ اسْمَ الْمَسِيحِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَعِبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَمَكْحُولٌ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ: إِذَا سَمِعْتَ الْكِتَابِيَّ يُسَمِّي غَيْرَ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلْ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَالْحَسَنُ وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ «1» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ. فَهَذَا الْخِلَافُ إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ذَكَرُوا عَلَى ذَبَائِحِهِمُ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَقَدْ حَكَى الْكِيَا الطَّبَرِيُّ «2» وَابْنُ كَثِيرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى حِلِّهَا لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَكْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنَ الشَّاةِ الْمَصْلِيَّةِ الَّتِي أَهْدَتْهَا إِلَيْهِ الْيَهُودِيَّةُ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ الْجِرَابُ الشَّحْمُ الَّذِي أَخَذَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ خَيْبَرَ وَعَلِمَ بذلك النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَمَّا الْمَجُوسُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا لَا تُؤْكَلْ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَبُو ثَوْرٍ كَاسْمِهِ، يَعْنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِمَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ: «سَنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ لَهُ أَصْلًا فَفِيهِ زِيَادَةٌ تَدْفَعُ مَا قَالَهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: «غَيْرَ آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نَاكِحِي نِسَائِهِمْ» . وَقَدْ رَوَاهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِفَنِّ الْحَدِيثِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَلَمْ يَثْبُتِ الْأَصْلُ وَلَا الزِّيَادَةُ، بَلِ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَأَمَّا بَنُو تَغْلَبَ فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَنْهَى عَنْ ذَبَائِحِهِمْ لِأَنَّهُمْ عَرَبٌ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْعَرَبِ الْمُتَنَصِّرَةِ كَتَنُوخَ وَجُذَامٍ وَلَخْمٍ وَعَامِلَةَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بَأْسًا بِذَبِيحَةِ نَصَارَى بَنِي تَغْلَبَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَالَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ إِنَّ ذَبِيحَةَ كُلِّ نَصْرَانِيٍّ حَلَالٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَنِي تَغْلَبَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ. قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَكَاةٍ كَالطَّعَامِ يَجُوزُ أَكْلُهُ. قَوْلُهُ: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أَيْ وَطَعَامُ الْمُسْلِمِينَ حَلَالٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُطْعِمُوا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُكَافَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ وَإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْهُمْ من أعراض الطعام حلال

_ (1) . الأنعام: 121. (2) . هو علي بن محمد بن علي، أبو الحسن الطبري، المعروف بالكيا الهرّاسي، فقيه، مفسّر (ت 504 هـ) .

لَهُمْ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ. قَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْصَنَاتِ هُنَا، فَقِيلَ: الْعَفَائِفُ، وَقِيلَ: الْحَرَائِرُ. وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَبِهِ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى فِي الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ. وَالْمُحْصَنَاتُ مُبْتَدَأٌ، وَمِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَصْفٌ لَهُ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ حِلٌّ لَكُمْ، وَذَكَرَهُنَّ هُنَا تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْمُرَادُ بِهِنَّ الْحَرَائِرُ دُونَ الْإِمَاءِ، هَكَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَعُمُّ كُلَّ كِتَابِيَّةٍ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَا تَحِلُّ النَّصْرَانِيَّةُ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ: رَبُّهَا عِيسَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ الْآيَةَ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخَصِّصَةٌ لِلْكِتَابِيَّاتِ مِنْ عُمُومِ الْمُشْرِكَاتِ فَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ حَرَّمَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ حَمَلَهَا عَلَى الْحَرَائِرِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَخَالَفَهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ أَوْ تَخُصُّ الْعَفَائِفَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ الْحُرَّةُ الْعَفِيفَةُ مِنَ الْكِتَابِيَّاتِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهَا الْحُرَّةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِعَفِيفَةٍ وَالْأَمَةُ الْعَفِيفَةُ، عَلَى قَوْلِ من يقول: إنه يجوز استعمال المشترك فِي كِلَا مَعْنَيَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ فَإِنْ حَمَلَ الْمُحْصَنَاتِ هُنَا عَلَى الْحَرَائِرِ لَمْ يَقُلْ بِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَفِيفَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ عَفِيفَةٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَيَقُولُ: بِجَوَازِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْعَفِيفَةِ كَانَتْ أَوْ غَيْرَ عَفِيفَةٍ، وَإِنْ حَمَلَ الْمُحْصَنَاتُ هُنَا عَلَى الْعَفَائِفِ قَالَ: بِجَوَازِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْعَفِيفَةِ وَالْأَمَةِ الْعَفِيفَةِ دُونَ غَيْرِ الْعَفِيفَةِ مِنْهُمَا. قَوْلُهُ: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أَيْ مُهُورَهُنَّ، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ: أَيْ فَهُنَّ حَلَالٌ، أَوْ هِيَ ظَرْفٌ لِخَبَرِ الْمُحْصَنَاتِ الْمُقَدَّرِ: أَيْ حِلٌّ لَكُمْ. قَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ: أَيْ حَالَ كَوْنِكُمْ أَعِفَّاءَ بِالنِّكَاحِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحِينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُحْصِنِينَ أَوْ صِفَةٌ لِمُحْصِنِينَ، وَالْمَعْنَى: غَيْرُ مُجَاهِرِينَ بِالزِّنَا. قَوْلُهُ: وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مَعْطُوفٌ عَلَى غَيْرَ مُسافِحِينَ أَوْ عَلَى مُسافِحِينَ. وَلا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْخِدْنُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. أَيْ لَمْ يَتَّخِذُوا مَعْشُوقَاتٍ، فَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ فِي الرِّجَالِ الْعِفَّةَ وَعَدَمَ الْمُجَاهَرَةِ بِالزِّنَا وَعَدَمَ اتِّخَاذِ أَخْدَانٍ، كَمَا شَرَطَ فِي النِّسَاءِ أَنْ يَكُنَّ مُحْصَنَاتٍ. وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أَيْ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أَيْ بَطَلَ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ وَقَرَأَ ابن السّميقع فَقَدْ حَبَطَ بِفَتْحِ الْبَاءِ اه. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فِي النَّاسِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ عَدِيَّ ابن حَاتِمٍ وَزَيْدَ بْنَ الْمُهَلْهِلِ الطَّائِيَّيْنِ سَأَلَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِالْكِلَابِ وَالْبُزَاةِ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ الطَّائِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله،

[سورة المائدة (5) : آية 6]

فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ قَالَ: هِيَ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ، وَالْبَازِي والجوارح يعني الكلاب والفهود والصّقور وأشباهها. وأخرج ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: آيَةُ الْمُعَلَّمِ أَنْ يُمْسِكَ صَيْدَهُ فَلَا يَأْكُلْ مِنْهُ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وإذا أكل الصقر فكل لِأَنَّ الْكَلْبَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضْرِبَهُ وَالصَّقْرَ لَا تَسْتَطِيعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَالَ: ذَبَائِحُهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَالَ: حِلٌّ لَكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يَعْنِي مُهُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ يَعْنِي تَنْكِحُونَهُنَّ بِالْمَهْرِ والبينة غَيْرَ مُسافِحِينَ غير معالنين بِالزِّنَا وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ يَعْنِي يُسِرُّونَ بِالزِّنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَالَ: أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا مُحْصَنَتَيْنِ مُحْصَنَةٌ مُؤْمِنَةٌ وَمُحْصَنَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، نِسَاؤُنَا عَلَيْهِمْ حَرَامٌ وَنِسَاؤُهُمْ لَنَا حَلَالٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «نتزوج نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: الْمُسْلِمُ يَتَزَوَّجُ النَّصْرَانِيَّةَ وَلَا يَتَزَوَّجُ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا أُحِلَّتْ ذَبَائِحُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَالَ: الْحَرَائِرُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: العفائف. [سورة المائدة (5) : آية 6] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) قَوْلُهُ: إِذا قُمْتُمْ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ، تَعْبِيرًا بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «1» . وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ قِيَامٍ إِلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَائِمُ مُتَطَهِّرًا أَوْ مُحْدِثًا، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَعِكْرِمَةَ. وَقَالَ ابْنُ سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة. وقالت طائفة أخرى: إن هذه الأمر خاصّ بالنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْأَمْرَ لَهُمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ طَلَبًا لِلْفَضْلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ نُسِخَ فِي فتح مكة. وقال جماعة:

_ (1) . النحل: 98.

هَذَا الْأَمْرُ خَاصٌّ بِمَنْ كَانَ مُحْدِثًا. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ إِلَى- الصَّلَاةِ، فَيَعُمُّ الْخِطَابُ كُلَّ قَائِمٍ مِنْ نَوْمٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، وَصَلَّى الصَّلَوَاتَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ فَعَلْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ، فَقَالَ: «عَمْدًا فَعَلْتُهُ يَا عُمَرُ» . وَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَّفِقَةٍ فِي الْمَعْنَى. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتُمْ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ نُحْدِثْ. فَتَقَرَّرَ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى الْمُحْدِثِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْحَقُّ. قَوْلُهُ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الْوَجْهُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ، وَهُوَ عُضْوٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَعْضَاءٍ، وَلَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ، فَحَدُّهُ فِي الطُّولِ مِنْ مُبْتَدَأِ سَطْحِ الْجَبْهَةِ إِلَى مُنْتَهَى اللِّحْيَيْنِ، وَفِي الْعَرْضِ مِنَ الْأُذُنِ إِلَى الْأُذُنِ، وَقَدْ وَرَدَ الدَّلِيلُ بِتَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي غَسْلِ مَا اسْتَرْسَلَ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاطِنِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَيْضًا: هَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْغَسْلِ الدَّلْكُ بِالْيَدِ أَمْ يَكْفِي إِمْرَارُ الْمَاءِ؟ وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، وَالْمَرْجِعُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ فَإِنْ ثَبَتَ فِيهَا أَنَّ الدَّلْكَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْغَسْلِ كَانَ مُعْتَبَرًا وَإِلَّا فَلَا. قَالَ فِي شَمْسِ الْعُلُومِ: غَسَلَ الشَّيْءَ غَسْلًا إِذَا أَجْرَى عَلَيْهِ الْمَاءَ وَدَلَّكَهُ، انْتَهَى. وَأَمَّا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَفْظُ الْوَجْهِ يَشْمَلُ بَاطِنَ الْفَمِ وَالْأَنْفِ فقد ثبت غسلهما بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْخِلَافُ فِي الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَا هُوَ الْحَقُّ فِي مُؤَلَّفَاتِنَا. قوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ إلى الغاية، وَأَمَّا كَوْنُ مَا بَعْدَهَا يَدْخُلُ فِيمَا قَبْلَهَا فَمَحَلُّ خِلَافٍ. وَقَدْ ذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا إِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ مَا قَبْلَهَا دَخَلَ وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ: إِنَّهَا هُنَا بِمَعْنَى مَعَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا تُفِيدُ الْغَايَةَ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الدُّخُولُ وَعَدَمُهُ فَأَمْرٌ يَدُورُ مَعَ الدَّلِيلِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمَرَافِقَ تُغْسَلُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَدِّهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ» . وَلَكِنَّ الْقَاسِمَ هَذَا مَتْرُوكٌ، وَجَدُّهُ ضَعِيفٌ. قَوْلُهُ: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ قِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: امْسَحُوا رُؤُوسَكُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْمَسْحِ لِجَمِيعِ الرَّأْسِ، وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهِ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّعْمِيمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي التَّيَمُّمِ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَلَا يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِ الْوَجْهِ اتِّفَاقًا وَقِيلَ: إِنَّهَا لَلْإِلْصَاقِ أَيْ أَلْصِقُوا أَيْدِيَكُمْ بِرُءُوسِكُمْ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي مُؤَلِّفَاتِنَا، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ غَيْرَ مُحْتَمَلٍ كَاحْتِمَالِ الْآيَةِ عَلَى فَرْضِ أَنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَمْسَحَ رَأْسَهُ كَانَ مُمْتَثِلًا بِفِعْلِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْمَسْحِ، وَلَيْسَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ مِنْ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ نَحْوَ اضْرِبْ زَيْدًا أَوِ اطْعَنْهُ أَوِ ارْجُمْهُ، فَإِنَّهُ يُوجَدُ الْمَعْنَى الْعَرَبِيُّ بِوُقُوعِ الضَّرْبِ أَوِ الطَّعْنِ أَوِ الرَّجْمِ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَلَا يَقُولُ قَائِلٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَوْ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِهَا إِنَّهُ لَا يَكُونُ ضَارِبًا إِلَّا بِإِيقَاعِ الضَّرْبِ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ زَيْدٍ، وَكَذَلِكَ

الطَّعْنُ وَالرَّجْمُ وَسَائِرُ الْأَفْعَالِ، فَاعْرِفْ هَذَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ مَا هُوَ الصَّوَابُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ. فَإِنْ قُلْتَ: يَلْزَمُ مِثْلُ هَذَا فِي غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. قُلْتُ: مُلْتَزِمٌ لَوْلَا الْبَيَانُ مِنَ السُّنَّةِ فِي الْوَجْهِ وَالتَّحْدِيدِ بِالْغَايَةِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بِخِلَافِ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مَسْحُ الْكُلِّ وَمَسْحُ الْبَعْضِ. قَوْلُهُ: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قَرَأَ نَافِعٌ بِنَصْبِ الْأَرْجُلِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْأَعْمَشِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ بِالْجَرِّ. وَقِرَاءَةُ النَّصْبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الرجلين، لأنها معطوفة على الوجه، وإلى هذا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَقِرَاءَةُ الْجَرِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرَّأْسِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِمَا، وَمَا عَلِمْتُ مَنْ رَدَّ ذَلِكَ إِلَّا الطَّبَرِيَّ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالرَّافِضَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَتَعَلَّقَ الطَّبَرِيُّ بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْوُضُوءُ غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ، قَالَ: وَكَانَ عِكْرِمَةُ يَمْسَحُ رِجْلَيْهِ وَقَالَ: لَيْسَ فِي الرِّجْلَيْنِ غَسْلٌ، إِنَّمَا نَزَلَ فِيهِمَا الْمَسْحُ. وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْمَسْحِ. قَالَ: وَقَالَ قَتَادَةُ: افْتَرَضَ اللَّهُ مَسْحَتَيْنِ وَغَسْلَتَيْنِ. قَالَ: وَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ فَرْضَهُمَا التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، وَجَعَلَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالرِّوَايَتَيْنِ، وَقَوَّاهُ النَّحَّاسُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فَقَطْ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَأَفَادَ وُجُوبَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مَسْحُهُمَا، لِأَنَّ شَأْنَ الْمَسْحِ أَنْ يُصِيبَ مَا أَصَابَ وَيُخْطِئَ مَا أَخْطَأَ، فَلَوْ كَانَ مُجْزِئًا لَمَا قَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ: «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ عَلَى قَدَمِهِ مِثْلَ مَوْضِعِ الظُّفُرِ، فَقَالَ لَهُ: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» . وَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَهُوَ ثَابِتٌ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَقَوْلُهُ: إِلَى الْكَعْبَيْنِ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: إِلَى الْمَرافِقِ وَقَدْ قِيلَ فِي وَجْهِ جَمْعِ الْمَرَافِقِ وَتَثْنِيَةِ الْكِعَابِ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي كُلِّ رَجُلٍ كَعْبَانِ وَلَمْ يَكُنْ فِي كُلِّ يَدٍ إِلَّا مِرْفَقٌ وَاحِدٌ ثُنِّيَتِ الْكِعَابُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ لِكُلِّ رِجْلٍ كَعْبَيْنِ، بِخِلَافِ الْمَرَافِقِ فَإِنَّهَا جُمِعَتْ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي كُلِّ يَدٍ مِرْفَقٌ وَاحِدٌ لَمْ يُتَوَهَّمْ وُجُودُ غَيْرِهِ، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ: ثَنَّى الْكَعْبَيْنِ وَجَمَعَ الْمَرَافِقِ لِنَفْيِ تَوَهُّمِ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الرِّجْلَيْنِ كَعْبَيْنِ، وَإِنَّمَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ لَهُ طَرَفَانِ مِنْ جَانِبَيِ الرِّجْلِ، بِخِلَافِ الْمِرْفَقِ فَهِيَ أَبْعَدُ عَنِ الْوَهْمِ، انْتَهَى. وَبَقِيَ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ النِّيَّةُ وَالتَّسْمِيَةُ وَلَمْ يُذْكَرَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ وَرَدَتْ بِهِمَا السُّنَّةُ وَقِيلَ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى النِّيَّةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ كَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لَهَا، وَذَلِكَ هُوَ النِّيَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ. قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا أَيْ فَاغْتَسِلُوا بِالْمَاءِ. وَقَدْ ذَهَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ إِلَى أَنَّ الْجُنَبَ لَا يَتَيَمَّمُ أَلْبَتَّةَ، بَلْ يَدَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ اسْتِدْلَالًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ التَّيَمُّمِ لِلْجَنَابَةِ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ لِلْوَاجِدِ، عَلَى أَنَّ التَّطَهُّرَ هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْحَاصِلِ بِالْمَاءِ أَوْ بِمَا هُوَ عِوَضٌ عَنْهُ مَعَ عَدَمِهِ، وَهُوَ التُّرَابُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ الرجوع

[سورة المائدة (5) : الآيات 7 إلى 11]

إِلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي تَيَمُّمِ الْجُنُبِ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجُنُبِ فِي النِّسَاءِ. قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ «1» قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مُسْتَوْفًى، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ وَعَلَى التَّيَمُّمِ وَعَلَى الصَّعِيدِ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَقِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ. قِيلَ: وَوَجْهُ تَكْرِيرِ هَذَا هُنَا لِاسْتِيفَاءِ الْكَلَامِ فِي أَنْوَاعِ الطَّهَارَةِ. مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أَيْ مَا يُرِيدُ بِأَمْرِكُمْ بِالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ أَوْ بِالتُّرَابِ التَّضْيِيقَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» ثُمَّ قَالَ: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أَيْ بِالتَّرْخِيصِ لَكُمْ فِي التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي عَرَّضَكُمْ بِهَا لِلثَّوَابِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فَتَسْتَحِقُّونَ بِالشُّكْرِ ثَوَابَ الشَّاكِرِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قَالَ: قُمْتُمْ مِنَ الْمَضَاجِعِ، يَعْنِي النَّوْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْهُ يَقُولُ: إِذَا قُمْتُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ قَالَ: ذَلِكَ الْغَسْلُ الدَّلْكُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَنَا فَقَالَ: اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ ابْنِ آدَمَ أَقْرَبَ إِلَى الْخَبَثِ مِنْ قَدَمَيْهِ، فَاغْسِلُوا بُطُونَهُمَا وَظُهُورَهُمَا وَعَرَاقِيبَهُمَا. قَالَ أَنَسٌ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الْحَجَّاجُ، قَالَ اللَّهُ: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا مَسَحَ قَدَمَيْهِ بَلَّهُمَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ حَرَجٍ قَالَ: مِنْ ضِيقٍ. وأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ قَالَ: تَمَامُ النِّعْمَةِ دُخُولُ الْجَنَّةِ، لَمْ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَى عَبْدٍ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ. [سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 11] وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

_ (1) . النساء: 43. (2) . الحج: 78.

نِعْمَةَ اللَّهِ قِيلَ: هِيَ الْإِسْلَامُ. وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا: مَا أَخَذَهُ عَلَى بَنِي آدَمَ كَمَا قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ «1» الْآيَةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: نَحْنُ وَإِنْ لَمْ نَذْكُرْهُ فَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِهِ وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ، وَالْعَهْدُ: مَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَضَافَهُ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَنْ أَمْرِهِ وَإِذْنِهِ كَمَا قَالَ: إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «2» ، وَبَيْعَةُ الْعَقَبَةِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ، وَهَذَا متصل بقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «3» . قَوْلُهُ: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ وَقْتَ قَوْلِكُمْ هَذَا الْقَوْلَ، وَهَذَا مُتَعَلِّقٌ بِ واثَقَكُمْ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا: أَيْ كَائِنًا هَذَا الوقت، وبِذاتِ الصُّدُورِ: مَا تُخْفِيهِ الصُّدُورُ لِكَوْنِهَا مُخْتَصَّةً بِهَا لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا ذَاتَ الَّتِي بِمَعْنَى الصَّاحِبِ، وَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِهَا فَكَيْفَ بِمَا كَانَ ظَاهِرًا جَلِيًّا. قَوْلُهُ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي النِّسَاءِ، وَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي قَوَّامِينَ تُفِيدُ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَقُومُوا بِهَا أَتَمَّ قِيَامٍ لِلَّهِ أَيْ لِأَجْلِهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ وَطَمَعًا فِي ثَوَابِهِ. وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: يَجْرِمَنَّكُمْ مُسْتَوْفًى أَيْ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ وَكَتْمِ الشَّهَادَةِ اعْدِلُوا هُوَ أَيِ الْعَدْلُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ اعْدِلُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى الَّتِي أُمِرْتُمْ بِهَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَيْ أَقْرَبُ لِأَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ، أَوْ لِأَنْ تَتَّقُوا النَّارَ. قَوْلُهُ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِقَوْلِهِ: وَعَدَ عَلَى مَعْنَى وَعَدَهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَغْفِرَةً، أَوْ وَعَدَهُمْ مَغْفِرَةً فَوَقَعَتِ الْجُمْلَةُ مَوْقِعَ الْمُفْرَدِ فَأَغْنَتْ عَنْهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «4» : وَجَدْنَا الصَّالِحِينَ لَهُمْ جَزَاءُ ... وَجَنَّاتٍ وَعَيْنًا سَلْسَبِيلَا قَوْلُهُ: أَصْحابُ الْجَحِيمِ أَيْ مُلَابِسُوهَا. قَوْلُهُ: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: اذْكُرُوا أَوْ لِلنِّعْمَةِ أَوْ لِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا مِنْهَا أَنْ يَبْسُطُوا أَيْ بِأَنْ يَبْسُطُوا. وَقَوْلُهُ: فَكَفَّ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: هَمَّ وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِهِ يَتَّضِحُ الْمَعْنَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا يعني حين بعث الله النّبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ قَالُوا: آمَنَّا بِالنَّبِيِّ وَالْكِتَابِ وَأَقْرَرْنَا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ مِيثَاقَهُ الَّذِي أَقَرُّوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: النِّعَمُ الآلاء، وميثاقه الذي واثقهم بِهِ قَالَ: الَّذِي وَاثَقَ بِهِ بَنِي آدَمَ فِي ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ فِي قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ الْآيَةَ. قَالَ: نَزَلَتْ فِي يَهُودِ خَيْبَرَ، ذَهَبَ إليهم رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِيهِمْ فِي دِيَةٍ فَهَّمُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ نَزَلَ مَنْزِلًا فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يستظلّون

_ (1) . الأعراف: 172. [.....] (2) . الفتح: 10. (3) . المائدة: 1. (4) . هو عبد العزيز الكلابي.

[سورة المائدة (5) : الآيات 12 إلى 14]

تحتها، فعلّق النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ سِلَاحَهُ بِشَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى سَيْفِهِ فَأَخَذَهُ فَسَلَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ الْأَعْرَابِيُّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا: مَنْ يَمْنَعُكَ مني؟ والنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللَّهُ، فَشَامَ الْأَعْرَابِيُّ السَّيْفَ، فَدَعَا النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِصَنِيعِ الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ جَالِسٌ إِلَى جَنْبِهِ لَمْ يُعَاقِبْهُ. قَالَ مَعْمَرٌ: وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ نَحْوَ هَذَا. وَيَذْكُرُ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ أَرَادُوا أَنْ يَفْتِكُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم فأرسلوا هذا الأعرابي، ويتأوّل: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ بِنَحْوِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ اسْمَ الرَّجُلِ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «اللَّهُ» سَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقَالَ: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟» قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ، قَالَ: فَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو نعيم في الدلائل عَنْهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ هَمُّوا أَنْ يَطْرَحُوا حَجَرًا عَلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا همّوا، فقام ومن معه، فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الْآيَةَ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ عَنْ غَيْرِهِ، وَقِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ غَوْرَثُ الْمَذْكُورُ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ. [سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 14] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ بَعْضِ مَا صَدَرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْخِيَانَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كَيْفِيَّةِ بَعْثِ هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ النَّقِيبَ كَبِيرُ الْقَوْمِ الْعَالِمِ بِأُمُورِهِمُ الَّذِي يَنْقُبُ عَنْهَا وَعَنْ مَصَالِحِهِمْ فِيهَا. وَالنِّقَابُ: الرَّجُلُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ فِي النَّاسِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَيُقَالُ نَقِيبُ الْقَوْمِ لِشَاهِدِهِمْ وَضَمِينِهِمْ. وَالنَّقِيبُ: الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ هَذَا أَصْلُهُ، وَسُمِّيَ بِهِ نَقِيبُ الْقَوْمِ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ أُمُورِهِمْ. وَالنَّقِيبُ أَعْلَى مَكَانًا من العريف، فقيل: المراد يبعث هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءِ أَنَّهُمْ بُعِثُوا أُمَنَاءَ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى الْجَبَّارِينَ وَالنَّظَرِ فِي قُوَّتِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ فَسَارُوا لِيَخْتَبِرُوا حَالَ مَنْ بِهَا وَيُخْبِرُوا بِذَلِكَ، فَاطَّلَعُوا مِنَ الْجَبَّارِينَ عَلَى قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا، فَتَعَاقَدُوا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يُخْفُوا ذَلِكَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْ يُعْلِمُوا بِهِ مُوسَى، فَلَمَّا انْصَرَفُوا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَانَ مِنْهُمْ عَشَرَةً فَأَخْبَرُوا قُرَابَاتَهُمْ،

فَفَشَا الْخَبَرُ حَتَّى بَطَلَ أَمْرُ الْغَزْوِ وَقَالُوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «1» وَقِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءَ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى سِبْطِهِ بِأَنْ يُؤْمِنُوا وَيَتَّقُوا اللَّهَ، وَهَذَا مَعْنَى بَعْثِهِمْ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِ مَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ أَيْ قَالَ ذَلِكَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقِيلَ لِلنُّقَبَاءِ وَالْمَعْنَى: إِنِّي مَعَكُمْ بِالنَّصْرِ وَالْعَوْنِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ هِيَ الْمُوَطِئَّةُ لِلْقِسَمِ الْمَحْذُوفِ، وَجَوَابُهُ لَأُكَفِّرَنَّ وَهُوَ سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ. وَالتَّعْزِيرُ: التَّعْظِيمُ وَالتَّوْقِيرُ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَكَمْ مِنْ مَاجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ ... وَمِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ فِي النَّدِيِّ أَيْ يُعَظِّمُ وَيُوَقِّرُ. وَيُطْلَقُ التَّعْزِيرُ عَلَى الضَّرْبِ وَالرَّدِّ، يُقَالُ: عَزَّرْتُ فُلَانًا: إِذَا أَدَّبْتَهُ وَرَدَدْتَهُ عَنِ الْقَبِيحِ، فَقَوْلُهُ: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أَيْ عَظَّمْتُمُوهُمْ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، أَوْ رَدَدْتُمْ عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ وَمَنَعْتُمُوهُمْ عَلَى الثَّانِي. قَوْلُهُ: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي أنفقتم في وجوه الخير، وقَرْضاً مَصْدَرٌ مَحْذُوفُ الزَّوَائِدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأَقْرَضْتُمْ. وَالْحَسَنُ: قِيلَ هُوَ مَا طَابَتْ بِهِ النَّفْسُ وَقِيلَ: مَا ابْتَغَى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَقِيلَ: الْحَلَالُ. قَوْلُهُ: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أَيْ بَعْدَ الْمِيثَاقِ أَوْ بَعْدَ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أَيْ أَخْطَأَ وَسَطَ الطَّرِيقِ. قَوْلُهُ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ وَمَا زَائِدَةٌ، أَيْ فَبِسَبَبِ نَقْضِهِمْ مِيثَاقِهِمْ لَعَنَّاهُمْ أَيْ طَرَدْنَاهُمْ وَأَبْعَدْنَاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أَيْ صَلْبَةً لَا تَعِي خَيْرًا وَلَا تَعْقِلُهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «قَسِيَّةً» بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ يُقَالُ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ مُخَفَّفَ السِّينِ مُشَدَّدَ الْيَاءِ: أَيْ زَائِفٌ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ كَأَنَّهُ مُعَرَّبُ قَاسٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «قَسِيَةً» بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: قاسِيَةً. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِهِمْ، أَوْ حَالِيَّةٌ: أَيْ يُبَدِّلُونَهُ بِغَيْرِهِ أَوْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ. وَقَرَأَ السَّلَمِيُّ وَالنَّخَعِيُّ الْكَلَامَ. قَوْلُهُ: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أَيْ لَا تَزَالُ يَا مُحَمَّدُ تَقِفُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ، وَالْخَائِنَةُ: الْخِيَانَةُ وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ فِرْقَةٌ خَائِنَةٌ، وَقَدْ تَقَعُ لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ عَلَّامَةٌ وَنَسَّابَةٌ إِذَا أَرَدْتَ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِ بِالْخِيَانَةِ وَقِيلَ: خَائِنَةٍ، مَعْصِيَةٌ. قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالْمُعَاهِدِينَ. قَوْلُهُ: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ الجار والمجرور متعلق بقوله: أَخَذْنا والتقديم للاهتمام، والتقدير: وأخذنا من الذين قالوا: إنا نصارى مِيثَاقَهُمْ: أَيْ فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ كَقَوْلِكَ أَخَذْتُ مِنْ زَيْدٍ ثَوْبَهُ وَدِرْهَمَهُ، فَرُتْبَةُ الَّذِينَ بَعْدَ أَخَذْنَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ بِخِلَافِهِ وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مِيثاقَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى بني إسرائيل: أي أَخَذْنَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ بِخِلَافِهِ وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مِيثاقَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَيْ أَخَذْنَا مِنَ النَّصَارَى مِثْلَ مِيثَاقِ الْمَذْكُورِينَ قبلهم من بني إسرائيل، وقال: مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وَلَمْ يَقُلْ وَمِنَ النَّصَارَى لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي دَعْوَى النَّصْرَانِيَّةِ وَأَنَّهُمْ أَنْصَارُ اللَّهِ. قَوْلُهُ: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أَيْ نَسُوا مِنَ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَيْهِمْ نَصِيبًا وَافِرًا عَقِبَ أَخْذِهِ عَلَيْهِمْ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ أَيْ أَلْصَقْنَا ذَلِكَ بِهِمْ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَاءِ: وَهُوَ مَا يُلْصِقُ الشَّيْءَ بالشيء كالصمغ وشبهه يقال:

_ (1) . المائدة: 24.

غرى بالشيء يغري غريا بِفَتْحِ الْغَيْنِ مَقْصُورًا، وَغِرَاءً بِكَسْرِهَا مَمْدُودًا، أَيْ أُولِعَ بِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ صَارَ مُلْتَصِقًا بِهِ، وَمِثْلُ الْإِغْرَاءِ التَّحَرُّشُ، وَأَغْرَيْتُ الْكَلْبَ: أَيْ أَوْلَعْتُهُ بِالصَّيْدِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: بَيْنَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِتُقَدِّمِ ذِكْرَهُمْ جَمِيعًا وَقِيلَ: بَيْنَ النَّصَارَى خَاصَّةً، لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ افْتَرَقُوا إِلَى الْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ وَالْمَلَكَانِيَّةِ، وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَظَاهَرُوا بِالْعَدَاوَةِ فِي ذَاتِ بَيْنِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِعَدَاوَةِ الْكُفَّارِ وَإِبْغَاضِهِمْ، فَكُلُّ فِرْقَةٍ مَأْمُورَةٍ بِعَدَاوَةِ صَاحِبَتِهَا وَإِبْغَاضِهَا. قَوْلُهُ: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ: أَيْ سَيَلْقُونَ جَزَاءَ نَقْضِ الْمِيثَاقِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قال: أخذ مواثيقهم أن يُخْلِصُوا لَهُ وَلَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً أَيْ كَفِيلًا كَفَلُوا عَلَيْهِمْ بِالْوَفَاءِ لِلَّهِ بِمَا وَاثَقُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُهُودِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَفِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً قَالَ: مِنْ كُلِّ سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ أَرْسَلَهُمْ مُوسَى إِلَى الْجَبَّارِينَ فَوَجَدُوهُمْ يَدْخُلُ فِي كُمِّ أَحَدِهِمُ اثْنَانِ مِنْهُمْ، وَلَا يَحْمِلُ عُنْقُودَ عِنَبِهِمْ إِلَّا خَمْسَةُ أَنْفُسٍ مِنْهُمْ فِي خَشَبَةٍ، وَيَدْخُلُ فِي شَطْرِ الرُّمَّانَةِ إِذَا نُزِعَ حَبُّهَا خَمْسَةُ أَنْفُسٍ أَوْ أَرْبَعَةٌ، فَرَجَعَ النُّقَبَاءُ كُلُّهُمْ يَنْهَى سِبْطَهُ عَنْ قِتَالِهِمْ إِلَّا يُوشَعَ ابن نُونٍ وَكَالِبَ بْنَ يَافَنَةَ، فَإِنَّهُمَا أَمَرَا الْأَسْبَاطَ بِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ وَمُجَاهَدَتِهِمْ فَعَصَوْهُمَا وَأَطَاعُوا الْآخَرِينَ، فَهُمَا الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، فَتَاهَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يُصْبِحُونَ حَيْثُ أَمْسَوْا وَيُمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا فِي تِيهِهِمْ ذَلِكَ، فَضَرَبَ مُوسَى الْحَجَرَ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنًا حَجَرًا لَهُمْ يَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: اشْرَبُوا يَا حِمْيَرُ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ سَبِّهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً قَالَ: هُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعَثَهُمْ مُوسَى لِيَنْظُرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فجاؤوا بحبة من فاكهتهم وقر رحل، فقال: اقدروا قوّة القوم وَبَأْسَهُمْ وَهَذِهِ فَاكِهَتُهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ فُتِنُوا فَقَالُوا لَا نَسْتَطِيعُ الْقِتَالَ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ الْأَسْبَاطِ، وَأَسْمَاؤُهُمْ مَذْكُورَةٌ فِي السِّفْرِ الرَّابِعِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ قَالَ: أَعَنْتُمُوهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ قَالَ: نَصَرْتُمُوهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ قَالَ: هُوَ مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ فَنَقَضُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يَعْنِي حُدُودَ اللَّهِ، يَقُولُونَ: إِنْ أَمَرَكُمْ مُحَمَّدٌ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَاقْبَلُوهُ، وَإِنْ خَالَفَكُمْ فَاحْذَرُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ قَالَ: نَسُوا الْكِتَابَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ قَالَ: هُمْ يَهُودٌ مِثْلَ الَّذِي هَمُّوا بِهِ مِنَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَوْمَ دَخَلَ عَلَيْهِمْ حَائِطَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ قَالَ: كَذِبٌ وَفُجُورٌ، وَفِي قَوْلِهِ: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ قَالَ: لَمْ يؤمر

[سورة المائدة (5) : الآيات 15 إلى 16]

يَوْمَئِذٍ بِقِتَالِهِمْ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَصْفَحَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي بَرَاءَةٌ فَقَالَ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «1» الآية. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قَالَ: أَغْرَى بعضهم ببعض بالخصومات والجدال في الدين. [سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16] يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْكِتَابِ لِلْجِنْسِ وَالْخِطَابُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا أَيْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حَالَ كَوْنِهِ يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ كَآيَةِ الرَّجْمِ وَقِصَّةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ الممسوخين قردة وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تُخْفُونَهُ، فَيَتْرُكُ بَيَانَهُ لِعَدَمِ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يَجِبُ بَيَانُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا فَائِدَةَ تَتَعَلَّقُ بِبَيَانِهِ إِلَّا مُجَرَّدُ افْتِضَاحِكُمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّهُ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ فَيَتَجَاوَزُهُ وَلَا يُخْبِرُكُمْ بِهِ وَقِيلَ: يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ منكم فلا يؤاخذهم بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ: أَعْنِي قَوْلَهُ: يُبَيِّنُ لَكُمْ. قَوْلُهُ: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَيَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قَدْ تَضَمَّنَتْ بَعْثَتُهُ فَوَائِدَ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُجَرَّدِ الْبَيَانِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: النُّورُ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ. وَالْكِتَابُ الْمُبِينُ: الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُ الْمُبِينُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَهْدِي بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ أَوْ إِلَيْهِ وَإِلَى النُّورِ لِكَوْنِهِمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أَيْ مَا رضيه الله، وسُبُلَ السَّلامِ طُرُقُ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ، الْمُوَصِّلَةِ إِلَى دار السَّلَامِ، الْمُنَزَّهَةِ عَنْ كُلِّ آفَةٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّلَامِ: الْإِسْلَامُ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ الْكُفْرِيَّةِ إِلَى النُّورِ الْإِسْلَامِيِّ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إِلَى طَرِيقٍ يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ لَا عِوَجَ فِيهَا وَلَا مَخَافَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: رَسُولُنا قَالَ: هُوَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إِنْ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ الْيَهُودُ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الرَّجْمِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَعْلَمُ؟ فَأَشَارُوا إِلَى ابْنِ صُورِيَا، فَنَاشَدَهُ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى وَالَّذِي رَفَعَ الطور وناشده بِالْمَوَاثِيقِ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَخَذَهُ أَفْكَلُ «2» ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ فِينَا جُلِدْنَا مِائَةَ جلدة وحلقنا الرؤوس. فَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالرَّجْمِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يَقُولُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: سُبُلَ السَّلامِ هِيَ سَبِيلُ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَابْتَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ.

_ (1) . التوبة: 29. (2) . الأفكل: الرّعدة.

[سورة المائدة (5) : الآيات 17 إلى 18]

[سورة المائدة (5) : الآيات 17 الى 18] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) ضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الْمَسِيحُ يُفِيدُ الْحَصْرَ قِيلَ: وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ طَوَائِفِ النَّصَارَى وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَكِنِ اسْتَلْزَمَ قَوْلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ لَا غَيْرَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ مَا يَكْفِي وَيُغْنِي عَنِ التَّكْرَارِ. قَوْلُهُ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً الاستفهام للتوبيخ والتقريع. والملك وَالْمِلْكُ: الضَّبْطُ وَالْحِفْظُ وَالْقُدْرَةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَلَكْتُ عَلَى فُلَانٍ أَمْرَهُ: أَيْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ: أَيْ فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَمْنَعَ إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ سِوَاهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَسِيحُ إِلَهًا كَمَا تَزْعُمُ النَّصَارَى لَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَلَقَدَرَ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ أَقَلَّ حَالٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْ أُمِّهِ الْمَوْتَ عِنْدَ نُزُولِهِ بِهَا، وَتَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهَا فِي عُمُومِ مَنْ فِي الْأَرْضِ لِكَوْنِ الدَّفْعِ مِنْهُ عَنْهَا أَوْلَى وَأَحَقَّ مِنْ غَيْرِهَا، فَهُوَ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الدَّفْعِ عَنْهَا أَعْجَزُ عَنْ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ غَيْرِهَا، وَذَكَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا كَانَ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِي أَمْرِهِ وَلَا مُشَارِكَ لَهُ فِي قَضَائِهِ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أَيْ مَا بَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. قَوْلُهُ: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ الْخَلْقِ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَا يَسْتَصْعِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. قَوْلُهُ: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أثبتت اليهود لأنفسها ما أثبتته لعزيز حيث قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَأَثْبَتَتِ النَّصَارَى لِأَنْفُسِهَا مَا أَثْبَتَتْهُ لِلْمَسِيحِ حَيْثُ قالوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «1» وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ نَحْنُ أَتْبَاعُ أَبْنَاءِ اللَّهِ، وَهَكَذَا أَثْبَتُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَحِبَّاءُ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ وَالْأَمَانِي الْعَاطِلَةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ، فَمَا بَالُهُ يُعَذِّبُكُمْ بِمَا تَقْتَرِفُونَهُ مِنَ الذُّنُوبِ بِالْقَتْلِ وَالْمَسْخِ وَبِالنَّارِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا تَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ لِقَوْلِكُمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «2» فَإِنَّ الِابْنَ مِنْ جِنْسِ أَبِيهِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ مَا يَسْتَحِيلُ عَلَى الْأَبِ وَأَنْتُمْ تُذْنِبُونَ، وَالْحَبِيبُ لَا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ وَأَنْتُمْ تُعَذَّبُونَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّكُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى. وَهَذَا الْبُرْهَانُ هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ بِبُرْهَانِ الْخَلْفِ. قَوْلُهُ: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ: أَيْ فَلَسْتُمْ حِينَئِذٍ كَذَلِكَ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أَيْ مِنْ جِنْسِ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَيْ تَصِيرُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ انْتِقَالِكُمْ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا إلى دار الآخرة.

_ (1) . التوبة: 30. (2) . البقرة: 80.

[سورة المائدة (5) : آية 19]

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعْمَانُ بْنُ أَضَاءٍ وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَشَاسُ بْنُ عَدِيٍّ فَكَلَّمُوهُ وَكَلَّمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَتَهُ، فَقَالُوا: مَا تُخَوِّفُنَا يَا مُحَمَّدُ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ كَقَوْلِ النَّصَارَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَصَبِيٍّ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا رَأَتْ أُمُّهُ الْقَوْمَ خَشِيَتْ عَلَى وَلَدِهَا أَنْ يُوطَأَ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَتَقُولُ: ابْنِي ابْنِي، فَسَعَتْ فَأَخَذَتْهُ، فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُلْقِيَ ابْنَهَا فِي النار! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، وَاللَّهُ لَا يُلْقِي حَبِيبَهُ فِي النَّارِ» . وَإِسْنَادُهُ فِي الْمُسْنَدِ هَكَذَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ يُشِيرُ إِلَى مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ: أَيْنَ تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَبِيبَ لَا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَتَلَا الصُّوفِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنِ الحسن أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا وَاللَّهِ لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ حَبِيبَهُ، وَلَكِنْ قَدْ يَبْتَلِيهِ فِي الدُّنْيَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يَقُولُ: يَهْدِي مِنْكُمْ مَنْ يَشَاءُ فِي الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لَهُ، وَيُمِيتُ مَنْ يَشَاءُ مِنْكُمْ عَلَى كُفْرِهِ فَيُعَذِّبُهُ. [سورة المائدة (5) : آية 19] يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَالرَّسُولُ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم ويُبَيِّنُ لَكُمْ حَالٌ. وَالْمُبَيَّنُ هُوَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّ بِعْثَةَ الرُّسُلِ إِنَّمَا هِيَ بِذَلِكَ. وَالْفَتْرَةُ أَصْلُهَا السُّكُونُ، يُقَالُ فَتَرَ الشَّيْءَ: سَكَنَ وَقِيلَ: هِيَ الِانْقِطَاعُ. قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ وَمِنْهُ فَتَرَ الْمَاءُ: إِذَا انْقَطَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَرْدِ إِلَى السُّخُونَةِ وَفَتَرَ الرَّجُلُ عَنْ عَمَلِهِ: إِذَا انْقَطَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِدِّ فِيهِ، وَامْرَأَةٌ فَاتِرَةُ الطَّرَفِ: أَيْ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ حِدَّةِ النَّظَرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ انْقَطَعَ الرُّسُلُ قَبْلَ بَعْثِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ. وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِ مُدَّةِ تِلْكَ الْفَتْرَةِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ تَعْلِيلٌ لِمَجِيءِ الرَّسُولِ بِالْبَيَانِ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ: أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ معتذرين عن تفريطكم، ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَشِيرٍ زَائِدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ الْمَجِيءِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَكُمْ هِيَ الْفَصِيحَةُ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا أَيْ لَا تَعْتَذِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ ونذير، وهو محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمِنْ جُمْلَةِ مقدوراته إرسال رَسُولَهُ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَرَغَّبَهُمْ فِيهِ وَحَذَّرَهُمْ فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وسعد

[سورة المائدة (5) : الآيات 20 إلى 26]

ابن عُبَادَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ اتقوا الله فو الله إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، لَقَدْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا قَبْلَ مَبْعَثِهِ وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ حَرْمَلَةَ وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذَا: مَا قُلْنَا لَكُمْ هَذَا وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ مِنْ بَعْدِ مُوسَى وَلَا أَرْسَلَ بَشِيرًا وَلَا نَذِيرًا بَعْدَهُ، فأنزل الله يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِالْحَقِّ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فِيهِ بَيَانٌ وَمَوْعِظَةٌ وَنُورٌ وَهُدًى وَعِصْمَةٌ لِمَنْ أَخَذَ بِهِ. قَالَ: وَكَانَتِ الْفَتْرَةُ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَتِ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَبِضْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى أَلْفُ سَنَةٍ وَتِسْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَتْرَةً، فَإِنَّهُ أُرْسِلَ بَيْنَهُمَا أَلْفُ نَبِيٍّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سِوَى مَنْ أُرْسِلَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ بَيْنَ مِيلَادِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، بُعِثَ فِي أَوَّلِهَا ثَلَاثَةُ أَنْبِيَاءَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ «1» وَالَّذِي عَزَّزَ بِهِ شَمْعُونَ وَكَانَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، وَكَانَتِ الْفَتْرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْعَثُ اللَّهُ فِيهَا رَسُولًا أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقَدْ قيل غير ما ذكرناه. [سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْبَيَانِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ أَسْلَافَ الْيَهُودِ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ تَمَرَّدُوا عَلَى مُوسَى وَعَصَوْهُ كَمَا تَمَرَّدَ هؤلاء على نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَصَوْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَذَا قَرَأَ فِيمَا أَشْبَهَهُ، وَتَقْدِيرُهُ: يَا أَيُّهَا الْقَوْمُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ: أَيْ وَقْتَ هَذَا الْجَعْلِ، وَإِيقَاعُ الذِّكْرِ عَلَى الْوَقْتِ مَعَ كَوْنِ الْمَقْصُودِ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِذِكْرِ الْوَقْتِ أَمْرٌ بِذِكْرِ مَا وَقَعَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ بِجَعْلِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ مَعَ كَوْنِهِ قَدْ جَعَلَ أَنْبِيَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ، لِكَثْرَةِ مَنْ بَعَثَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ قوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً أي: وجعل

_ (1) . يس: 14.

مِنْكُمْ مُلُوكًا، وَإِنَّمَا حَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ لِظُهُورِ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى تَقْدِيرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ لَمَّا كَانَ لِعِظَمِ قَدْرِهِ وَجَلَالَةِ خَطَرِهِ بِحَيْثُ لَا يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ قَالَ فِيهِ: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَلَمَّا كَانَ مَنْصِبُ الْمَلِكِ مِمَّا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إِلَى غَيْرِ مَنْ قَالَ بِهِ كَمَا تَقُولُ قَرَابَةُ الْمَلِكِ نَحْنُ الْمُلُوكُ، قَالَ فِيهِ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَلِكِ: أنهم ملوكا أَمْرَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَمْلُوكِينَ لِفِرْعَوْنَ، فَهُمْ جَمِيعًا مُلُوكٌ بِهَذَا الْمَعْنَى وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ ذَوِي مَنَازِلَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ إِلَّا بِإِذْنٍ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْمَلِكُ الْحَقِيقِيُّ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنًى آخَرَ لَمَا كَانَ لِلِامْتِنَانِ بِهِ كَثِيرُ مَعْنًى. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ جَعَلَ غَيْرَهُمْ مُلُوكًا كَمَا جَعَلَهُمْ. قُلْتُ: قَدْ كَثُرَ الْمُلُوكُ فِيهِمْ كَمَا كَثُرَ الْأَنْبِيَاءُ، فَهَذَا وَجْهُ الِامْتِنَانِ. قَوْلُهُ: وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أَيْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرِ وَالْغَمَامِ وَكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَثْرَةِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ عَالِمِي زَمَانِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ هَاهُنَا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وهو عدول عن الظاهر لغير مُوجِبٍ، وَالصَّوَابُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى لِقَوْمِهِ، وَخَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنْ أَمَرِهِ لَهُمْ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهَا فَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الشَّامُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطُّورُ وَمَا حَوْلَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا: أَرْيَحَاءُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: دِمَشْقُ وَفِلَسْطِينُ وَبَعْضُ الْأُرْدُنِ. وَقَوْلُ قَتَادَةَ يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَهُ. وَالْمُقَدَّسَةُ: الْمُطَهَّرَةُ، وَقِيلَ: الْمُبَارَكَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أَيْ قَسَّمَهَا وَقَدَّرَهَا لَهُمْ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ وَجَعَلَهَا مَسْكَنًا لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أَيْ لَا تَرْجِعُوا عَنْ أَمْرِي وَتَتْرُكُوا طَاعَتِي وَمَا أَوْجَبْتُهُ عَلَيْكُمْ مِنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ جُبْنًا وَفَشَلًا فَتَنْقَلِبُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ خاسِرِينَ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْجَبَّارُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ الْعَاتِي، وَهُوَ الَّذِي يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَأَصْلُهُ عَلَى هَذَا مِنَ الْإِجْبَارِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، فَإِنَّهُ يُجْبِرُ غَيْرَهُ عَلَى مَا يُرِيدُهُ، يُقَالُ أَجْبَرَهُ: إِذَا أَكْرَهَهُ وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ جَبَرَ الْعَظْمَ، فَأَصْلُ الْجَبَّارِ عَلَى هَذَا الْمُصْلِحُ لِأَمْرِ نَفْسِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَنْ جَرَّ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ وَقِيلَ: إِنَّ جَبْرَ الْعَظْمِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْإِكْرَاهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ أَسْمَعْ فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ إِلَّا فِي حَرْفَيْنِ، جَبَّارٌ مِنْ أَجْبَرَ، وَدَرَّاكٌ مِنْ أَدْرَكَ. وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُمْ قَوْمٌ عِظَامُ الْأَجْسَامِ طِوَالٌ مُتَعَاظِمُونَ قِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ بَقِيَّةِ قَوْمِ عَادٍ وَقِيلَ: هُمْ مَنْ وَلَدِ عِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ وَقِيلَ: هُمْ مِنَ الرُّومِ وَيُقَالُ: إِنَّ مِنْهُمْ عوج ابن عنق المشهور بالطوال الْمُفْرِطِ، وَعُنُقُ هِيَ بِنْتُ آدَمَ، قِيلَ: كَانَ طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثَ ذِرَاعٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا شَيْءٌ يُسْتَحَيَا مِنْ ذِكْرِهِ، ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ» . ثُمَّ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ كَافِرًا، وَأَنَّهُ كَانَ وَلَدَ زَنْيَةٍ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ رُكُوبِ السَّفِينَةِ وَأَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَصِلْ إِلَى رُكْبَتِهِ، وَهَذَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَنَّ نُوحًا دَعَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ فَقَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» ، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ- ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ «2» وَقَالَ تَعَالَى: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ «3» . وَإِذَا كَانَ ابْنُ نُوحٍ الْكَافِرُ غَرِقَ فَكَيْفَ

_ (1) . نوح: 26. (2) . الشعراء: 119- 120. (3) . هود: 43.

يَبْقَى عَوْجُ بْنُ عُنُقَ وَهُوَ كَافِرٌ وَلَدُ زَنْيَةٍ؟ هَذَا لَا يَسُوغُ فِي عَقْلٍ وَلَا شَرْعٍ، ثُمَّ فِي وُجُودِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ عوج ابن عُنُقَ نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. قُلْتُ: لَمْ يَأْتِ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ مَا يَقْتَضِي تَطْوِيلُ الْكَلَامِ فِي شَأْنِهِ، وَمَا هَذَا بِأَوَّلِ كِذْبَةٍ اشْتُهِرَتْ فِي النَّاسِ، وَلَسْنَا بِمَلْزُومِينَ بِدَفْعِ الْأَكَاذِيبِ الَّتِي وَضَعَهَا الْقَصَّاصُ وَنَفَقَتْ عِنْدَ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ، فَكَمْ فِي بُطُونِ دَفَاتِرِ التَّفَاسِيرِ مِنْ أَكَاذِيبَ وَبَلَايَا وَأَقَاصِيصَ كُلِّهَا حَدِيثُ خُرَافَةٍ، وَمَا أَحَقَّ مَنْ لَا تَمْيِيزَ عِنْدِهِ لِفَنِّ الرِّوَايَةِ وَلَا مَعْرِفَةَ بِهِ أَنْ يَدَعَ التَّعَرُّضَ لِتَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَيَضَعَ هَذِهِ الْحَمَاقَاتِ وَالْأُضْحُوكَاتِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُنَاسِبَةِ لَهَا مِنْ كُتُبَ الْقَصَّاصِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِبَيَانِ أَنَّ امْتِنَاعَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ لَيْسَ إِلَّا لِهَذَا السَّبَبِ. قَوْلُهُ: قالَ رَجُلانِ هُمَا يُوشَعُ وَكَالِبُ بْنُ يُوفَنَّا أَوِ ابْنُ فَانِيَا، وَكَانَا مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا كَمَا مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَيْ يَخَافُونَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقِيلَ مِنَ الْجَبَّارِينَ أَيْ هَذَانِ الرَّجُلَانِ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَخَافُونَ مِنَ الْجَبَّارِينَ وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ضَعْفَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجُبْنَهُمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْوَاوَ فِي يَخافُونَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَيْ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَخافُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ: أَيْ يَخَافُهُمْ غَيْرُهُمْ. قَوْلُهُ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لَرَجُلَانِ، بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينُ بِحُصُولِ مَا وَعَدُوا بِهِ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفْرِ ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أَيْ بَابَ بَلَدِ الْجَبَّارِينَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ قَالَا: هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا قَدْ عَلِمَا بِذَلِكَ مِنْ خَبَرِ مُوسَى، أَوْ قَالَاهُ ثِقَةً بِوَعْدِ اللَّهِ، أَوْ كَانَا قَدْ عَرَفَا أَنَّ الْجَبَّارِينَ قَدْ مُلِئَتْ قُلُوبُهُمْ خَوْفًا وَرُعْبًا قالُوا أَيْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ فَشَلًا وَجُبْنًا أَوْ عِنَادًا وَجُرْأَةً عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا قَالُوا: هَذَا جَهْلًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِصِفَاتِهِ وَكُفْرًا بِمَا يَجِبُ لَهُ، أَوِ اسْتِهَانَةً بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقِيلَ: أَرَادُوا بِالذَّهَابِ الْإِرَادَةَ وَالْقَصْدَ وَقِيلَ: أَرَادُوا بِالرَّبِّ هَارُونَ، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى، وَكَانَ مُوسَى يُطِيعُهُ إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ أَيْ لَا نَبْرَحُ هَاهُنَا، لَا نَتَقَدَّمُ مَعَكَ وَلَا نَتَأَخَّرُ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقِيلَ: أَرَادُوا بِذَلِكَ عَدَمَ التَّقَدُّمِ لَا عَدَمَ التَّأَخُّرِ قالَ مُوسَى رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي يُحْتَمَلُ أَنْ يُعْطَفَ وَأَخِي عَلَى نَفْسِي، وَأَنْ يُعْطَفَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي إِنِّي أَيْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَإِنَّ أَخِي لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ، قَالَ هَذَا تَحَسُّرًا وَتَحَزُّنًا وَاسْتِجْلَابًا لِلنَّصْرِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أَيِ افْصِلْ بَيْنَنَا: يَعْنِي نَفْسَهُ وَأَخَاهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَمَيَّزْنَا عَنْ جملتهم، ولا تحلقنا بِهِمْ فِي الْعُقُوبَةِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَاقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ فَافْرُقْ بِكَسْرِ الرَّاءِ. قالَ فَإِنَّها أَيِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعُصَاةِ بِسَبَبِ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ظَرْفٌ لِلتَّحْرِيمِ: أَيْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ دُخُولُهَا هَذِهِ الْمُدَّةَ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا، فَلَا يُخَالِفُ هَذَا التَّحْرِيمَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّهَا مَكْتُوبَةٌ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ وقيل: إنه لم يدخلها أحد من قَالَ: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها فَيَكُونُ تَوْقِيتُ التَّحْرِيمِ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ بِاعْتِبَارِ ذَرَارِيِّهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً

ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَيْ يَتِيهُونَ هَذَا الْمِقْدَارَ فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا. وَالْمُوَقَّتُ: هُوَ التِّيهُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْحَيْرَةُ، يُقَالُ مِنْهُ: تَاهَ يَتِيهُ تِيهًا أَوْ تَوْهًا إِذَا تَحَيَّرَ، فَالْمَعْنَى: يَتَحَيَّرُونَ فِي الْأَرْضِ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي تَاهُوا فِيهَا كَانَتْ صَغِيرَةً نَحْوَ سِتَّةِ فَرَاسِخَ، كَانُوا يَمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا وَيُصْبِحُونَ حَيْثُ أَمْسُوا، وَكَانُوا سَيَّارَةً مُسْتَمِرِّينَ عَلَى ذَلِكَ لَا قَرَارَ لَهُمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ كَانَ مَعَهُمْ مُوسَى وَهَارُونَ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: لَمْ يَكُونَا مَعَهُمْ، لِأَنَّ التِّيهَ عُقُوبَةٌ وَقِيلَ: كَانَا مَعَهُمْ لَكِنْ سَهَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ كَمَا جَعَلَ النَّارَ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وقد قيل: كيف يقع هذا الجماعة مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَرْضِ الْيَسِيرَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ؟ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَكُونُ ذَلِكَ بِأَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ الْأَرْضَ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا إِذَا نَامُوا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَدَءُوا مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قَالَ: مَلَكَهُمُ الْخَدَمُ، وَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ مَلَكَ الْخَدَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَتْ لَهُ الزَّوْجَةُ وَالْخَادِمُ وَالدَّارُ سُمِّيَ مَلِكًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ابن جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: الزَّوْجَةُ وَالْخَادِمُ وَالْبَيْتُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قَالَ: الْمَرْأَةُ وَالْخَدَمُ وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قَالَ: الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ يَوْمَئِذٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كانت بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ خَادِمٌ وَدَابَّةٌ وَامْرَأَةٌ كُتِبَ مَلِكًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالزُّبَيْرُ بن بكار في الموفقيات عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَوْجَةٌ وَمَسْكَنٌ وَخَادِمٌ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ: أَلْسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ قَالَ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، قَالَ: إِنَّ لِي خَادِمًا، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قَالَ: جَعَلَ لَهُمْ أَزْوَاجًا وَخَدَمًا وَبُيُوتًا وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قَالَ: الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرَ وَالْغَمَامَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرَ وَالْغَمَامَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ قَالَ: الطُّورُ وَمَا حَوْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هِيَ أَرْيَحَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: هِيَ مَا بَيْنَ الْعَرِيشِ إِلَى الْفُرَاتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هِيَ الشَّامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ

[سورة المائدة (5) : الآيات 27 إلى 31]

قَالَ: الَّتِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمَرَ الْقَوْمَ بِهَا كَمَا أَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أُمِرَ مُوسَى أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةَ الْجَبَّارِينَ، فَسَارَ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ وَهِيَ أَرْيَحَاءُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ عَيْنًا، مِنْ كُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ، لِيَأْتُوهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ هَيْئَتِهِمْ وَجِسْمِهِمْ وَعِظَمِهِمْ، فَدَخَلُوا حَائِطًا لِبَعْضِهِمْ فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لِيَجْتَنِيَ الثِّمَارَ مِنْ حَائِطِهِ، فَجَعَلَ يَجْتَنِي الثِّمَارَ فَنَظَرَ إِلَى آثَارِهِمْ فَتَتَبَّعَهُمْ، فَكُلَّمَا أَصَابَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي كُمِّهِ مَعَ الْفَاكِهَةِ حَتَّى الْتَقَطَ الِاثْنَيْ عَشْرَ كُلَّهُمْ فَجَعَلَهُمْ فِي كُمِّهِ مَعَ الْفَاكِهَةِ، وَذَهَبَ إِلَى مَلِكِهِمْ فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ الْمَلِكُ: قَدْ رَأَيْتُمْ شَأْنَنَا وَأَمْرَنَا اذْهَبُوا فَأَخْبِرُوا صَاحِبَكُمْ، قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرُوهُ بِمَا عَايَنُوا مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: اكْتُمُوا عَنَّا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُخْبِرُ أَبَاهُ وَصَدِيقَهُ وَيَقُولُ: اكْتُمْ عَنِّي، فَأُشِيعَ ذَلِكَ فِي عَسْكَرِهِمْ وَلَمْ يَكْتُمْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَانِ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَكَالِبُ بْنُ يُوفَنَّا، وَهُمَا اللَّذَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِمَّا يَتَضَمَّنُ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِ هَؤُلَاءِ وَعِظَمِ أَجْسَامِهِمْ، وَلَا فَائِدَةَ فِي بَسْطِ ذَلِكَ فَغَالِبُهُ مِنْ أَكَاذِيبِ الْقَصَّاصِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَافْرُقْ يَقُولُ: اقْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ يَقُولُ: افْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ قَالَ: أَبَدًا، وَفِي قَوْلِهِ: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ قَالَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَاهُوا أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَهَلَكَ مُوسَى وَهَارُونَ فِي التِّيهِ، وَكُلُّ مَنْ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَضَتِ الْأَرْبَعُونَ سَنَةً نَاهَضَهُمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَ مُوسَى، وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَهَا وَهُوَ الَّذِي قِيلَ لَهُ: الْيَوْمُ يَوْمُ جُمُعَةٍ! فَهَّمُوا بِافْتِتَاحِهَا فَدَنَتِ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ، فَخَشِيَ إِنْ دَخَلَتْ لَيْلَةُ السَّبْتِ أَنْ يَسْبِتُوا، فَنَادَى الشَّمْسَ: إِنِّي مَأْمُورٌ وَأَنْتِ مَأْمُورَةٌ فَوَقَفَتْ حَتَّى افْتَتَحَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لم ير مِثْلُهُ قَطُّ، فَقَرَّبُوهُ إِلَى النَّارِ فَلَمْ تَأْتِ، فقال: فيكم الغلول، فدعا رؤوس الْأَسْبَاطِ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَبَايَعَهُمْ وَالْتَصَقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ، فَقَالَ: الْغُلُولُ عِنْدَكَ فَأَخْرِجْهُ، فَأَخْرَجَ رَأْسَ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ لَهَا عَيْنَانِ مِنْ يَاقُوتٍ وَأَسْنَانٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ، فَوَضَعَهُ مَعَ الْقُرْبَانِ فَأَتَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خُلِقَ لَهُمْ فِي التِّيهِ ثِيَابٌ لَا تَخْلُقُ وَلَا تَدْرَنُ. [سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 31] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

وجه اتِّصَالِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ التَّنْبِيهُ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَنَّ ظُلْمَ الْيَهُودِ وَنَقْضَهُمُ الْمَوَاثِيقَ وَالْعُهُودَ هُوَ كَظُلْمِ ابْنِ آدَمَ لِأَخِيهِ، فَالدَّاءُ قَدِيمٌ، وَالشَّرُّ أَصِيلٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ابْنَيْ آدَمَ الْمَذْكُورَيْنِ هَلْ هُمَا لِصُلْبِهِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْأَوَّلِ. وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ إِلَى الثَّانِي، وَقَالَا: إِنَّهُمَا كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضُرِبَ بِهِمَا الْمَثَلُ فِي إِبَانَةِ حَسَدِ الْيَهُودِ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ فَتَقَرَّبَا بِقُرْبَانَيْنِ وَلَمْ تَكُنِ الْقَرَابِينُ إِلَّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا وَهْمٌ كَيْفَ يَجْهَلُ صُورَةَ الدَّفْنِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَقْتَدِيَ بِالْغُرَابِ؟ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ: وَاسْمُهُمَا قَابِيلُ وَهَابِيلُ، وَكَانَ قُرْبَانُ قَابِيلَ حِزْمَةٌ مِنْ سُنْبُلٍ، لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ وَاخْتَارَهَا مِنْ أَرْدَأِ زَرْعِهِ، حَتَّى إِنَّهُ وَجَدَ فِيهَا سُنْبُلَةً طَيِّبَةً فَفَرَكَهَا وَأَكَلَهَا، وَكَانَ قُرْبَانُ هَابِيلَ كَبْشًا لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبُ غَنَمٍ أَخَذَهُ مِنْ أَجْوَدِ غَنَمِهِ، فَتُقُبِّلَ قُرْبَانُ هَابِيلَ فَرُفِعَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمْ يَزَلْ يَرْعَى فِيهَا إِلَى أَنْ فُدِيَ بِهِ الذَّبِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُ قَابِيلَ، فَحَسَدَهُ وَقَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ. وَقِيلَ: سَبَبُ هَذَا الْقُرْبَانِ أَنَّ حَوَّاءَ كَانَتْ تَلِدُ فِي كُلِّ بطن ذكرا وأنثى، إلا شيئا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهَا وَلَدَتْهُ مُنْفَرِدًا، وَكَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُزَوِّجُ الذَّكَرَ مِنْ هَذَا الْبَطْنِ بِالْأُنْثَى مِنَ الْبَطْنِ الْآخَرِ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ أُخْتُهُ الَّتِي وُلِدَتْ مَعَهُ، فَوُلِدَتْ مَعَ قَابِيلَ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ وَاسْمُهَا إِقْلِيمَا، وَمَعَ هَابِيلَ أُخْتٌ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَاسْمُهَا لِيُوذَا فَلَمَّا أَرَادَ آدَمُ تزويجهما قَالَ قَابِيلُ: أَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي، فَأَمَرَهُ آدَمُ فَلَمْ يَأْتَمِرْ وَزَجَرَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى القربان وأنه يتزوّجها من تقبل قُرْبَانُهُ. قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ وَاتْلُ أَيْ تِلَاوَةً مُتَلَبِّسَةً بِالْحَقِّ، أَوْ صفة لنبأ: أَيْ نَبَأً مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ، وَالْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا هَابِيلُ وبالآخر قابيل، وقالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ استئناف بياني كأنه فماذا قال الَّذِي لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُهُ؟ وَقَوْلُهُ: قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ اسْتِئْنَافٌ كَالْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ الَّذِي تُقُبِّلَ قُرْبَانُهُ؟ وَإِنَّمَا لِلْحَصْرِ: أَيْ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ الْقُرْبَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ لِأَخِيهِ: إِنَّمَا أُتِيتَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ لَا مِنْ قِبَلِي، فَإِنَّ عَدَمَ تَقَبُّلِ قُرْبَانِكَ بِسَبَبِ عَدَمِ تَقْوَاكَ. قَوْلُهُ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي أي لأن قصدت قتلي، واللام هي الموطئة، وما أَنَا بِباسِطٍ جَوَابُ الْقَسَمِ سَادَّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَهَذَا اسْتِسْلَامٌ لِلْقَتْلِ مِنْ هَابِيلَ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا كَانَتِ الْفِتْنَةُ فَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ» وَتَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ الْفَرْضُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَسِلَّ أَحَدٌ سَيْفًا وَأَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِمَّنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ، إِلَّا أَنَّ فِي شَرْعِنَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إِجْمَاعًا، وَفِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ خِلَافٌ. وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَفِي الْحَشْوِيَّةِ قَوْمٌ لَا يُجَوِّزُونَ لِلْمَصُولِ عَلَيْهِ الدَّفْعَ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَحَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَكَفِّ الْيَدِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَهْلِ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَفِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: اقْعُدْ فِي بَيْتِكَ وَأَغْلِقْ عَلَيْكَ بَابَكَ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ أترك، قال: فأت مَنْ أَنْتَ مِنْهُمْ فَكُنْ فِيهِمْ، قَالَ: فَآخُذُ سِلَاحِي؟ قَالَ: إِذَنْ تُشَارِكُهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، ولكن إن خَشِيتَ أَنْ يَرْدَعَكَ

شُعَاعُ السَّيْفِ فَأَلْقِ طَرَفَ رِدَائِكَ عَلَى وَجْهِكَ كَيْ يَبُوءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ» . وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي وَاقِدٍ وَأَبِي مُوسَى. قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ هَذَا تَعْلِيلٌ لِامْتِنَاعِهِ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ بَعْدَ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَعْنَى فَقِيلَ: أَرَادَ هَابِيلُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِالْإِثْمِ الَّذِي كَانَ يَلْحَقُنِي لَوْ كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِكَ، وَبِإِثْمِكَ الَّذِي تَحَمَّلْتَهُ بِسَبَبِ قَتْلِي وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِإِثْمِي الَّذِي يَخْتَصُّ بِي بِسَبَبٍ سَيَأْتِي فَيُطْرَحُ عَلَيْكَ بِسَبَبِ ظُلْمِكَ لِي وَتَبُوءَ بِإِثْمِكَ فِي قَتْلِي. وَهَذَا يُوَافِقُ مَعْنَاهُ مَعْنَى مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ فَتُزَادُ فِي حَسَنَاتِ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَنْتَصِفَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَتُطْرَحُ عَلَيْهِ» ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «1» وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ لَا تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «2» أَيْ أَنْ لَا تَمِيدَ بِكُمْ. وَقَوْلُهُ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «3» أَيْ أَنْ لَا تَضِلُّوا. وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمَعْنَى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي أَيْ بِإِثْمِ قَتْلِكَ لِي وَإِثْمِكَ الَّذِي قَدْ صَارَ عَلَيْكَ بِذُنُوبِكَ مِنْ قَبْلِ قَتْلِي. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ: أَيْ أَوْ إِنِّي أُرِيدُ، عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ» أَيْ أَوْ تِلْكَ نِعْمَةٌ. قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَوَجْهُهُ بِأَنَّ إِرَادَةَ الْقَتْلِ مَعْصِيَةٌ. وَسُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كِيسَانَ: كَيْفَ يُرِيدُ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَأْثَمَ أَخُوهُ وَأَنْ يَدْخُلَ النَّارَ؟ فَقَالَ: وَقَعَتِ الْإِرَادَةُ بعد ما بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهِ بِالْقَتْلِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَأَصْلُ بَاءَ: رَجَعَ إِلَى المباءة، وهي المنزل وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ «5» أَيْ رَجَعُوا. قَوْلُهُ: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ أَيْ سَهَّلَتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَشَجَّعَتْهُ وَصَوَّرَتْ لَهُ أَنَّ قَتْلَ أَخِيهِ طَوْعَ يَدِهِ سَهْلٌ عَلَيْهِ، يُقَالُ: تَطَوَّعَ الشَّيْءُ: أَيْ سَهُلَ وَانْقَادَ وَطَوَّعَهُ فُلَانٌ لَهُ: أَيْ سَهَّلَهُ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: طَوَّعَتْ وَطَاوَعَتْ وَاحِدٌ، يُقَالُ: طَاعَ لَهُ كَذَا: إِذَا أَتَاهُ طَوْعًا، وَفِي ذِكْرِ تَطْوِيعِ نفسه له بعد ما تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ قَابِيلَ لَأَقْتُلَنَّكَ وَقَوْلِ هَابِيلَ لِتَقْتُلَنِي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّطْوِيعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ لَهُ عِنْدَ تِلْكَ الْمُقَاوَلَةِ. قَوْلُهُ: فَقَتَلَهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: رُوِيَ أَنَّهُ جَهِلَ كَيْفَ يَقْتُلُ أَخَاهُ فَجَاءَهُ إِبْلِيسُ بِطَائِرٍ أَوْ حَيَوَانٍ غَيْرِهِ، فَجَعَلَ يَشْدَخُ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ قَابِيلَ فَفَعَلَ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى تَصْحِيحِ الرِّوَايَةِ. قَوْلُهُ: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُوَارِيهِ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَيِّتٍ مَاتَ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَحَفَرَ لَهُ، ثُمَّ حَثَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رآه قابيل قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَوَارَاهُ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي لِيُرِيَهُ للغراب وقيل لله سبحانه، وكَيْفَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُوارِي وَالْجُمْلَةُ ثَانِي مَفْعُولَيْ يُرِيَهُ. وَالْمُرَادُ بِالسَّوْءَةِ هنا ذاته كلها لكونها ميتة، وقالَ اسْتِئْنَافُ جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ مِنْ سَوْقِ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ عِنْدَ أَنْ شَاهَدَ الغراب يفعل ذلك؟ ويا وَيْلَتى كلمة تحسّر وتحزّن،

_ (1) . العنكبوت: 13. (2) . النحل: 15. [.....] (3) . النساء: 176. (4) . الشعراء: 22. (5) . آل عمران: 112.

[سورة المائدة (5) : الآيات 32 إلى 34]

وَالْأَلِفُ بَدَلٌ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ كَأَنَّهُ دَعَا وَيْلَتَهُ بِأَنْ تَحْضُرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْوَيْلَةُ: الْهَلَكَةُ، وَالْكَلَامُ خَارِجٌ مَخْرَجَ التَّعَجُّبِ مِنْهُ مِنْ عَدَمِ اهْتِدَائِهِ لِمُوَارَاةِ أَخِيهِ كَمَا اهْتَدَى الْغُرَابُ إِلَى ذَلِكَ فَأُوارِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ، وَقُرِئَ بِالسُّكُونِ عَلَى تَقْدِيرِ فَأَنَا أُوَارِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى قَتْلِهِ وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ نَدَمُهُ نَدَمَ تَوْبَةٍ بَلْ نَدِمَ لِفَقْدِهِ، لَا عَلَى قَتْلِهِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى أَنْ تَنْكِحَ الْمَرْأَةُ أَخَاهَا تَوْأَمَهَا، وَأَنْ يَنْكِحَهَا غَيْرُهُ مِنْ إِخْوَتِهَا، وَكَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ وُلِدَ لَهُ امْرَأَةٌ وَضِيئَةٌ وَوَلَدٌ لَهُ أُخْرَى قَبِيحَةٌ دَمِيمَةٌ، فَقَالَ أَخُو الدَّمِيمَةِ: أَنْكِحْنِي أُخْتُكَ وَأَنْكِحُكَ أُخْتِي، فَقَالَ: لَا، أَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي، فَقَرَّبَا قُرْبَانًا، فَجَاءَ صَاحِبُ الْغَنَمِ بِكَبْشٍ أَعْيَنَ أَقْرَنَ أَبْيَضَ، وَصَاحِبُ الْحَرْثِ بِصُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ فَتُقُبِّلَ مِنْ صَاحِبِ الْكَبْشِ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ صَاحِبِ الزَّرْعِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَكَذَا قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ مِنْ شَأْنِ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِسْكِينٌ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقُرْبَانُ يُقَرِّبُهُ الرَّجُلُ، فَبَيْنَمَا ابْنَا آدَمَ قَاعِدَانِ إِذْ قَالَا لَوْ قَرَّبْنَا قُرْبَانًا ثُمَّ ذَكَرَا مَا قَرَّبَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ قَالَ: كَتَبَ عَلَيْهِمْ إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا تَرَكَهُ وَلَا يَمْتَنِعَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ يَقُولُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْكَ خَطِيئَتَكَ وَدَمِي فَتَبُوءَ بِهِمَا جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ بِإِثْمِي: قَالَ: بِقَتْلِكَ إِيَّايَ وَإِثْمِكَ، قَالَ: بِمَا كَانَ مِنْكَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ قَالَ: شَجَّعَتْهُ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: زَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَطَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ فراغ الغلام منه في رؤوس الْجِبَالِ، فَأَتَاهُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ وَهُوَ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَرَفَعَ صَخْرَةً فَشَدَخَ بِهَا رَأْسَهُ فَمَاتَ، فَتَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ وَلَا يَعْلَمُ كَيْفَ يَدْفِنُ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَحَفَرَ لَهُ ثُمَّ حَثَا عليه، فلما رآه قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» . وَقَدْ رُوِيَ فِي صِفَةِ قَتْلِهِ لِأَخِيهِ رِوَايَاتٌ اللَّهُ أَعْلَمُ بصحتها. [سورة المائدة (5) : الآيات 32 الى 34] مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

قَوْلُهُ: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْقَاتِلِ وَجَرِيرَتِهِ وَبِسَبَبِ مَعْصِيَتِهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ مِنْ جِنَايَتِهِ، قَالَ: يُقَالُ أَجَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ شَرًّا يَأْجُلُ أَجْلًا إِذَا جَنَى مِثْلَ أَخَذَ يَأْخُذُ أَخْذًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ «مِنْ أَجْلِ» بِكَسْرِ النُّونِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ. قَالَ فِي شَرْحِ الدُّرَّةِ: قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مُنْفَرِدًا «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَعَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى النُّونِ قَبْلَهَا وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: مِنَ النَّادِمِينَ فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ وَالْأَوْلَى مَا قَدَّمْنَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ عَنْهُ الْكَتْبُ الْمَذْكُورُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَخَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي تَعْدَادِ جِنَايَاتِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ أَوَّلُ أُمَّةٍ نَزَلَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِمْ فِي قَتْلِ الْأَنْفُسِ، وَوَقَعَ التَّغْلِيظُ فِيهِمْ إِذْ ذَاكَ لِكَثْرَةِ سَفْكِهِمْ لِلدِّمَاءِ وَقَتْلِهِمْ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَتَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَعْنِي كَتَبْنَا: يُفِيدُ الْقَصْرَ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا مَنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً واحدة من هذه النُّفُوسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ أَيْ بِغَيْرِ نَفْسٍ تُوجِبُ الْقِصَاصَ فَيَخْرُجُ عَنْ هَذَا مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِنَفْسٍ قِصَاصًا. قَوْلُهُ: أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى نَفْسٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ تَقْدِيرُهُ: أَوْ أَحْدَثَ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ، وَفِي هَذَا ضَعْفٌ. وَمَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ كُلَّ حكم مشروط بتحقّق أَحَدُ شَيْئَيْنِ فَنَقِيضُهُ مَشْرُوطٌ بِانْتِفَائِهِمَا مَعًا، وَكُلُّ حُكْمٍ مَشْرُوطٍ بِتَحَقُّقِهِمَا مَعًا فَنَقِيضُهُ مَشْرُوطٌ بِانْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا ضَرُورَةَ أَنَّ نَقِيضَ كُلِّ شَيْءٍ مَشْرُوطٌ بِنَقِيضِ شَرْطِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْفَسَادِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَاذَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ الشِّرْكُ، وَقِيلَ: قَطْعُ الطَّرِيقِ. وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ أَنَّهُ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، فَالشِّرْكُ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَسَفْكُ الدِّمَاءِ وَهَتْكُ الْحَرَمِ وَنَهْبُ الْأَمْوَالِ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَالْبَغْيُ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقِّ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَهَدْمُ الْبُنْيَانِ وَقَطْعُ الْأَشْجَارِ وَتَغْوِيرُ الْأَنْهَارِ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، فَعَرَفْتَ بِهَذَا أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ أَنَّهَا فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَهَكَذَا الْفَسَادُ الَّذِي سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يَصْدُقُ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَسَيَأْتِي تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى الْفَسَادِ قَرِيبًا. قَوْلُهُ: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَحْقِيقِ هَذَا التَّشْبِيهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ عِقَابَ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا أَشَدُّ مِنْ عِقَابِ مَنْ قَتَلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ. فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ إِمَامَ عَدْلٍ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهُ بِأَنْ شَدَّ عَضُدَهُ وَنَصَرَهُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. أَخْرَجَ هَذَا عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ النَّفْسَ الْمُؤْمِنَةَ مُتَعَمِّدًا جَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَلَعَنَهُ، وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، فَلَوْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا قَالَ: وَمَنْ سَلِمَ مِنْ قَتْلٍ فَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا الناس جميعا.

وَقَدْ أَخْرَجَ نَحْوَ هَذَا عَنْهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هذه الآية: من أَوَبَقَ نَفْسَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا فِي الْوِزْرِ، وَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا فِي الْأَجْرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَيَلْزَمُهُ مِنَ الْقَوْدِ وَالْقِصَاصِ مَا يَلْزَمُ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْياها أَيْ مَنْ عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ قَتْلُهُ، حَكَاهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَحُكِيَ عن الحسن أنه العفو بعد القدرة: يَعْنِي أَحْيَاهَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ إِحْيَاءَهَا: إِنْجَاؤُهَا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ هَدْمٍ أَوْ هَلَكَةٍ، حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ خُصَمَاؤُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَتَرَ الْجَمِيعَ وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً أَيْ وجب على الكلّ شكره وقيل المعنى: أنه مَنِ اسْتَحَلَّ وَاحِدًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الشَّرْعَ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْإِحْيَاءُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّرْكِ وَالْإِنْقَاذِ مِنْ هَلَكَةٍ فَهُوَ مَجَازٌ، إِذِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّشْبِيهِ فِي جَانِبِ الْقَتْلِ تَهْوِيلُ أَمْرِ الْقَتْلِ وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ فِي النُّفُوسِ حَتَّى يَنْزَجِرَ عَنْهُ أَهْلُ الْجُرْأَةِ وَالْجَسَارَةِ، وَفِي جَانِبِ الْإِحْيَاءِ التَّرْغِيبُ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْجُنَاةِ وَاسْتِنْقَاذِ الْمُتَوَرِّطِينَ فِي الْهَلَكَاتِ. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُؤَكِّدَةٌ بِاللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقَسَمِ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ جَاءُوا الْعِبَادَ بِمَا شَرَّعَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَمْرُ الْقَتْلِ، وَثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَالِاسْتِبْعَادِ الْعَقْلِيِّ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذَكَرَ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْكَتْبِ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ فِي قوله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قد اختلف النَّاسِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعُرَنِيِّينَ. وَقَالَ مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إنها نَزَلَتْ فِيمَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ مَالِكٍ صَحِيحٌ. قَالَ أَبُو ثَوْرٍ مُحْتَجًّا لِهَذَا الْقَوْلِ: إِنَّ قَوْلَهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَيْرِ أَهْلِ الشِّرْكِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ إِذَا وَقَعُوا فِي أَيْدِينَا فَأَسْلَمُوا أَنَّ دِمَاءَهُمْ تَحْرُمُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ، انْتَهَى. وَهَكَذَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ «1» ، وقوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: أَعْنِي آيَةَ الْمُحَارِبَةِ نَسَخَتْ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْعُرَنِيِّينَ، وَوَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الْحُدُودِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ: يعني فعله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْعُرَنِيِّينَ وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ فِعْلَهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَالْقَائِلُ بِهَذَا مُطَالَبٌ بِبَيَانِ تَأَخُّرِ النَّاسِخِ، وَسَيَأْتِي سِيَاقُ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَعُمُّ الْمُشْرِكَ وَغَيْرَهُ لِمَنِ ارْتَكَبَ مَا تَضَمَّنَتْهُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، بَلِ الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَرَتِّبٌ فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ أَوِ الْيَهُودِ، انْتَهَى. وَمَعْنَى قَوْلِهِ مُتَرَتِّبٌ: أَيْ ثَابِتٌ قِيلَ: الْمُرَادُ بمحاربة الله المذكورة في

_ (1) . الأنفال: 38.

الْآيَةِ، هِيَ مُحَارَبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَمُحَارَبَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِهِ وَمِنْ بَعْدِ عَصْرِهِ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ دُونَ الدَّلَالَةِ وَدُونَ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ وُرُودَ النَّصِّ لَيْسَ بِطَرِيقِ خِطَابِ الْمُشَافَهَةِ حَتَّى يَخْتَصَّ حُكْمُهُ بِالْمُكَلَّفِينَ عِنْدَ النُّزُولِ فَيَحْتَاجُ فِي تَعْمِيمِ الْخِطَابِ لِغَيْرِهِمْ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَقِيلَ: إِنَّهَا جُعِلَتْ مُحَارَبَةُ الْمُسْلِمِينَ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إِكْبَارًا لِحَرْبِهِمْ وَتَعْظِيمًا لِأَذِيَّتِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُحَارَبُ وَلَا يُغَالَبُ. وَالْأَوْلَى أَنْ تُفَسَّرَ مُحَارَبَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِمَعَاصِيهِ وَمُخَالَفَةِ شَرَائِعِهِ، وَمُحَارَبَةُ الرَّسُولِ تُحْمَلُ عَلَى مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ، وَحُكْمُ أُمَّتِهِ حُكْمُهُ، وَهُمْ أُسْوَتُهُ. وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا يُطْلَقُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الشَّرِّ كَمَا قَدَّمْنَا قَرِيبًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قال كثير من السلف منهم سعيد ابن الْمُسَيَّبِ: إِنَّ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ انْتَهَى. إِذَا تَقَرَّرَ لَكَ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ وَمِنْ مَعْنَى الْمُحَارَبَةِ وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، فِي مِصْرَ وَغَيْرِ مِصْرَ، فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَجَلِيلٍ وَحَقِيرٍ، وَأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ الصَّلْبِ، أَوْ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ، أَوِ النَّفْيِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ هَذَا حُكْمُ مَنْ فَعَلَ أَيَّ ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ، بَلْ مَنْ كَانَ ذَنْبُهُ هُوَ التَّعَدِّي عَلَى دِمَاءِ الْعِبَادِ وَأَمْوَالِهِمْ فِيمَا عَدَا مَا قَدْ وَرَدَ لَهُ حُكْمٌ غَيْرُ هَذَا الْحُكْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ كَالسَّرِقَةِ وَمَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ كان في زمنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَنْ تَقَعُ مِنْهُ ذُنُوبٌ وَمَعَاصٍ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ ضِعْفَ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ الْمُحَارِبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهَا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَيْنِ الذَّنْبَيْنِ قَدْ وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفِي سنة رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَهُمَا حُكْمٌ غَيْرُ هَذَا الْحُكْمِ. وَإِذَا عَرَفْتَ مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُقْتَضَى لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي أَمَرَنَا بِأَنْ نُفَسِّرَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ بِهَا، فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفَاصِيلِ الْمَرْوِيَّةِ، وَالْمَذَاهِبِ الْمَحْكِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَكَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِتَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ أَوْ تَقْيِيدِ هَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ فَأَنْتَ وَذَاكَ اعْمَلْ بِهِ وَضَعْهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ: فَدَعْ عَنْكَ نَهْبًا صِيحَ فِي حُجُرَاتِهِ ... وَهَاتِ حَدِيثًا مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ عَلَى أَنَّا سَنَذْكُرُ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَا تَسْمَعُهُ: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْمُحَارَبَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِنَّ مَنْ شَهَرَ السِّلَاحَ فِي قُبَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَخَافَ السَّبِيلَ ثُمَّ ظُفِرَ بِهِ وَقُدِرَ عَلَيْهِ فَإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَصَرَّحَ بِأَنَّ الْمُحَارِبَ عِنْدَهُ مَنْ حَمَلَ عَلَى النَّاسِ فِي مِصْرٍ أَوْ فِي بَرِّيَّةٍ أَوْ كَابَرَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ نَائِرَةٍ «1» وَلَا ذَحْلَ وَلَا عداوة. قال ابن المنذر:

_ (1) . «نائرة» : فتنة حادثة وعداوة. ويقال: نار الحرب ونائرتها: شرّها وهيجها. و «الذّحل» : الثأر (النهاية 5/ 127) .

اخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَثْبَتَ الْمُحَارِبَةَ فِي الْمِصْرِ مَرَّةً وَنَفَى ذَلِكَ مَرَّةً. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ فَقَالَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَصُلِبُوا، وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا، وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهُمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا نُفُوا من الأرض. وروي عن ابن مِجْلَزٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَعَطَاءٍ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَحَكَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَهَكَذَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَتَلَ قُتِلَ وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ فَالسُّلْطَانُ مُخَيَّرٌ فِيهِ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْطَعْ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَتْلُ يَأْتِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَحُسِمَتْ، ثُمَّ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَحُسِمَتْ وَخُلِّيَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ زَادَتْ عَلَى السَّرِقَةِ بِالْحَرَابَةِ وَإِذَا قَتَلَ قُتِلَ وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُتِلَ وَصُلِبَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنْ قَتَلَ قُتِلَ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا أَعْلَمُ لِهَذِهِ التَّفَاصِيلِ دَلِيلًا لَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ إِلَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَتَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ الْعُرَنِيِّينَ وَهُمْ مِنْ بَجِيلَةَ، قَالَ أَنَسٌ: «فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، وَأَصَابُوا الْفَرْجَ الْحَرَامَ قَالَ أَنَسٌ: فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَنِ الْقَضَاءِ فِيمَنْ حَارَبَ، فَقَالَ: مَنْ سَرَقَ وَأَخَافَ الطَّرِيقَ فَاقْطَعْ يَدَهُ لِسَرِقَتِهِ ورجله بإخافته، وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ وَاسْتَحَلَّ الْفَرْجَ الْحَرَامَ فَاصْلُبْهُ» . وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ النَّكَارَةِ الشَّدِيدَةِ لَا يُدْرَى كَيْفَ صِحَّتُهُ؟ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ ذكره لشيء من هذه التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَا لَفْظُهُ: وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّفْصِيلِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ إِنْ صَحَّ سَنَدُهُ ثُمَّ ذَكَرَهُ. قَوْلُهُ: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً هُوَ إِمَّا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَوْ عَلَى الْحَالِ بِالتَّأْوِيلِ: أَيْ مُفْسِدِينَ. قَوْلُهُ: أَوْ يُصَلَّبُوا ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ يُصَلَّبُونَ أَحْيَاءً حَتَّى يَمُوتُوا، لِأَنَّهُ أَحَدُ الْأَنْوَاعِ الَّتِي خَيَّرَ اللَّهُ بَيْنَهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: الصَّلْبُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَتْلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصْلَبَ قَبْلَ الْقَتْلِ فَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذِهِ عُقُوبَةٌ شَرَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ لِعِبَادِهِ. قَوْلُهُ: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ظَاهِرُهُ قَطْعُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ وَإِحْدَى الرِّجْلَيْنِ مِنْ خِلَافٍ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَقْطُوعَةُ مِنَ الْيَدَيْنِ هِيَ الْيُمْنَى أَوِ الْيُسْرَى، وَكَذَلِكَ الرِّجْلَانِ وَلَا يُعْتَبَرُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ خلاف إِمَّا يُمْنَى الْيَدَيْنِ مَعَ يُسْرَى الرِّجْلَيْنِ أَوْ يُسْرَى الْيَدَيْنِ مَعَ يُمْنَى الرِّجْلَيْنِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى فَقَطْ. قَوْلُهُ: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ أَنْ يُطْلَبَ بِالْخَيْلِ وَالرَّجُلِ حَتَّى يُؤْخَذَ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ يَخْرُجَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ هَرَبًا. وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَمَالِكٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالزُّهْرِيِّ، حَكَاهُ الرُّمَّانِيُّ فِي كتابه عنهم.

وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَيُطْلَبُونَ لِتُقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُنْفَى مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ وَيُحْبَسُ فِيهِ كَالزَّانِي، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: نَفْيُهُمْ سِجْنُهُمْ، فَيُنْفَى مِنْ سِعَةِ الدُّنْيَا إِلَى ضِيقِهَا. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ يُطْرَدُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي وَقَعَ مِنْهُ فِيهَا مَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ سِجْنٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَالنَّفْيُ قَدْ يَقَعُ بِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ وَلَيْسَ هُوَ مُرَادًا هُنَا. قَوْلُهُ: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا الْإِشَارَةُ إِلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ وَالْفَضِيحَةُ. قَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اسْتَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ التَّائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ مِنْ عُمُومِ الْمُعَاقِبِينَ بِالْعُقُوبَاتِ السَّابِقَةِ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الذُّنُوبِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَاتِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَحْدُودَةِ، فَلَا يُطَالَبُ التَّائِبُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَسَائِرُ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا التَّوْبَةُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَلَا تَسْقُطُ بِهَا الْعُقُوبَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ قَيْدِ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ مَنْ حَارَبَ فَإِنْ قَتَلَ مُحَارِبٌ أَخَا امْرِئٍ وَأَتَاهُ فِي حَالِ الْمُحَارَبَةِ، فَلَيْسَ إِلَى طَالِبِ الدَّمِ مِنْ أَمْرِ الْمُحَارَبَةِ شَيْءٌ، وَلَا يَجُوزُ عَفْوُ وَلِيِّ الدَّمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ يَقُولُ: مِنْ أَجْلِ ابْنِ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ ظُلْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً أَهِيَ لَنَا كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؟ فَقَالَ: إِي وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَيْسَتْ تُحْرِزُ هَذِهِ الْآيَةُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْحَدِّ إِنْ قَتَلَ أَوْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ أَوْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَخَيَّرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِيهِمْ: إِنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَأَمَّا النَّفْيُ فَهُوَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، فَإِنْ جَاءَ تَائِبًا فَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ قُبِلَ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤْخَذْ بِمَا سَلَفَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحَرُورِيَّةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا وَاجْتَوَوُا «1» الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَقَتَلُوا رَاعِيَهَا وَاسْتَاقُوهَا، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِمْ قَافَةً «2» ، فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَلِمْ يَحْسِمْهُمْ، وَتَرَكَهُمْ حَتَّى مَاتُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ الْآيَةَ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين

_ (1) . اجتووا: أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول. (2) . القافة: جمع قائف، الذي يتتبع الأثر.

[سورة المائدة (5) : الآيات 35 إلى 37]

الرُّعَاةِ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِذَا خَرَجَ الْمُحَارِبُ فَأَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا خَرَجَ فَقَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ قُتِلَ، وَإِذَا خَرَجَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُتِلَ وَصُلِبَ وَإِذَا خَرَجَ فَأَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ شَهَرَ السِّلَاحَ فِي قُبَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَفْسَدَ السَّبِيلَ فَظَهَرَ عَلَيْهِ وَقَدَرَ، فَإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ مُخَيَّرٌ فِيهِ: إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، قَالَ: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ يَهْرُبُوا وَيَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: نَفْيُهُ أَنْ يُطْلَبَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ التَّيْمِيُّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ قَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ وَحَارَبَ، فَكَلَّمَ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ يَسْتَأْمِنُوا لَهُ عَلِيًّا فَأَبَوْا فَأَتَى سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ، فَأَتَى عَلِيًّا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا؟ قَالَ: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَقَالَ سَعِيدٌ: وَإِنْ كَانَ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ، قَالَ: هَذَا حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ، قَدْ جَاءَ تَائِبًا فَهُوَ آمِنٌ، قَالَ: نَعَمْ، فَجَاءَ بِهِ إِلَيْهِ فَبَايَعَهُ، وَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَكَتَبَ له أمانا. [سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) ابْتَغُوا اطلبوا إِلَيْهِ لا إلى غيره، والْوَسِيلَةَ فَعِيلَةٌ مِنْ تَوَسَّلْتُ إِلَيْهِ: إِذَا تَقَرَّبْتَ إِلَيْهِ. قَالَ عَنْتَرَةُ: إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ... إِنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي وَقَالَ آخَرُ: إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ التَّصَابِي «1» بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ فَالْوَسِيلَةُ: الْقُرْبَةُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُطْلَبَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو وَائِلٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ الأئمة لا

_ (1) . في تفسير القرطبي (6/ 159) : التّصافي.

خِلَافَ بَيْنِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ. وَالْوَسِيلَةُ أَيْضًا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ مُخْتَصَّةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، إِلَّا حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ، وَعَطْفُ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ عَلَى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ يُفِيدُ أَنَّ الْوَسِيلَةَ غَيْرُ التَّقْوَى وَقِيلَ: هِيَ التَّقْوَى، لِأَنَّهَا مَلَاكُ الْأَمْرِ وَكُلُّ الْخَيْرِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى هَذَا مُفَسِّرَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَسِيلَةَ الَّتِي هِيَ الْقُرْبَةُ تَصْدُقَ عَلَى التَّقْوَى وَعَلَى غَيْرِهَا مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ الْعِبَادُ بِهَا إِلَى رَبِّهِمْ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ دِينَهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مَسُوقٌ لِزَجْرِ الْكُفَّارِ وَتَرْغِيبِ الْمُسْلِمِينَ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَمْوَالِهَا وَمَنَافِعِهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِيَكُونَ أَشَدَّ تَهْوِيلًا، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ ضمير الجمع خلاف ذلك، وجَمِيعاً تَأْكِيدٌ. وَقَوْلُهُ: وَمِثْلَهُ عَطْفٌ عَلَى مَا فِي الأرض، ومَعَهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ لِيَفْتَدُوا بِهِ يجعلوه فِدْيَةً لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ إِمَّا لِكَوْنِهِ رَاجِعًا إِلَى الْمَذْكُورِ أَوْ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ: أي ليفتدوا بذلك، ومِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ جَوَابُ لَوْ. قَوْلُهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ هَذَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ حَالُهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ؟ فَقِيلَ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ. وَقُرِئَ: أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ أَخْرَجَ، وَيُضَعِّفُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَمَحَلُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ وَقِيلَ: إِنَّهَا جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ قَالَ: الْوَسِيلَةُ: الْقُرْبَةُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ قَالَ: تَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ قَوْمٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» . قَالَ: يُرِيدُ الْفَقِيرَ، فَقَلْتُ لِجَابِرٍ يَقُولُ اللَّهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها قَالَ: اتْلُ أَوَّلَ الْآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ أَلَا إِنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: تَزْعُمُ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْحَكَ، اقْرَأْ مَا فَوْقَهَا، هَذِهِ لِلْكُفَّارِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِهَذَا: إِنَّهُ مِمَّا لَفَّقَتْهُ الْمُجْبِرَةُ، وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ رَجُلٍ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَصَحِّ الصَّحِيحِ وَبَيْنَ أَكْذَبِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتَعَرَّضُ لِلْكَلَامِ عَلَى مَا لَا

[سورة المائدة (5) : الآيات 38 إلى 40]

يَعْرِفُهُ وَلَا يَدْرِي مَا هُوَ؟ وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ تَوَاتُرًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى إِلْمَامٍ بِعِلْمِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّ عُصَاةَ الْمُوَحِّدِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، فَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمُنَاظَرَةِ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَا هُوَ مِنْ ضروريات الشريعة، اللهم غفرا. [سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ مَنْ يَأْخُذُ الْمَالَ جِهَارًا وَهُوَ الْمُحَارِبُ، عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَنْ يَأْخُذُ الْمَالَ خُفْيَةً وَهُوَ السَّارِقُ، وَذَكَرَ السَّارِقَةَ مَعَ السَّارِقِ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ لِأَنَّ غَالِبَ الْقُرْآنِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الرِّجَالِ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ النَّحْوِ فِي خَبَرِ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ أَمْ هُوَ فَاقْطَعُوا؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ تَقْدِيرُهُ: فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ أَوْ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ: أَيْ حُكْمُهُمَا. وَذَهَبَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ إِلَى الثَّانِي، وَدُخُولُ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، إِذِ الْمَعْنَى: الَّذِي سَرَقَ وَالَّتِي سَرَقَتْ، وَقُرِئَ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ اقْطَعُوا، وَرَجَّحَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ سِيبَوَيْهِ، قَالَ: الْوَجْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ النَّصْبُ كَمَا تَقُولُ زَيْدًا اضْرِبْهُ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ أَبَتْ إِلَّا الرَّفْعَ، يَعْنِي عَامَّةَ الْقُرَّاءِ، وَالسَّرِقَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ اسْمُ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ وَالْمَصْدَرُ مِنْ سَرَقَ يَسْرِقُ سَرَقًا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ فِي خُفْيَةٍ مِنَ الْأَعْيُنِ، وَمِنْهُ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، وَسَارَقَهُ النَّظَرَ. قَوْلُهُ: فَاقْطَعُوا الْقَطْعُ مَعْنَاهُ الْإِبَانَةُ وَالْإِزَالَةُ، وَجَمَعَ الْأَيْدِي لِكَرَاهَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ تِثْنِيَّتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ الرُّسْغُ. وَقَالَ قَوْمٌ: يُقْطَعُ مِنَ الْمِرْفَقِ. وَقَالَ الْخَوَارِجُ: مِنَ الْمَنْكِبِ. وَالسَّرِقَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ رُبْعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ حِرْزٍ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى اعْتِبَارِ الرُّبُعِ الدِّينَارِ الْجُمْهُورُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى التَّقْدِيرِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِذَا جَمَعَ الثِّيَابَ فِي الْبَيْتِ قُطِعَ. وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي بَحْثِ السَّرِقَةِ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَشُرَّاحُ الْحَدِيثِ بِمَا لَا يَأْتِي التَّطْوِيلُ بِهِ هَاهُنَا بِكَثِيرِ فَائِدَةٍ. قَوْلُهُ: جَزاءً بِما كَسَبا مَفْعُولٌ لَهُ: أَيْ فَاقْطَعُوا لِلْجَزَاءِ أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ: فَجَاوَزَهُمَا جَزَاءً، وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ بِسَبَبِ كَسْبِهِمَا، أَوْ مَوْصُولَةٌ: أَيْ جَزَاءً بِالَّذِي كَسَبَاهُ مِنَ السَّرِقَةِ. وَقَوْلُهُ: نَكالًا بَدَلٌ مِنْ جَزَاءً وَقِيلَ: هُوَ عِلَّةٌ لِلْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ عِلَّةٌ لِلْقَطْعِ، يُقَالُ: نَكَّلْتُ بِهِ: إِذَا فَعَلْتَ بِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُنَكَّلَ بِهِ عن ذلك الفعل. قَوْلِهِ: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ السياق يفيد أن المراد بالظلم هنا السرقة أي فمن تاب من بعد سرقته وأصلح أمره فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَيَشْمَلُ السَّارِقَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُذْنِبِينَ، وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ لَا تُفِيدُ إِلَّا مُجَرَّدَ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى التَّائِبِ. وَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ يَأْتِي إلى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ

[سورة المائدة (5) : الآيات 41 إلى 44]

تَائِبًا عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ طَالِبًا لِتَطْهِيرِهِ بالحدّ فيحدّه النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّارِقِ بَعْدَ قَطْعِهِ: «تُبْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَسْرِقُ الْمَتَاعَ، لَمَّا قَالَتْ للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ قَطْعِهَا: هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا رُفِعَتْ إِلَى الْأَئِمَّةِ وَجَبَتْ وَامْتَنَعَ إِسْقَاطُهَا. قَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ مَعَ تَقْرِيرِ الْعَلَمِ وَهُوَ كَالْعُنْوَانِ لِقَوْلِهِ: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أَيْ مَنْ كان له ملك السموات وَالْأَرْضِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى هَذَا التَّعْذِيبِ الْمَوْكُولِ إِلَى الْمَشِيئَةِ وَالْمَغْفِرَةِ الْمَوْكُولَةِ إِلَيْهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ قَالَ: لَا تَرْثُوا لَهُمْ فِيهِ فَإِنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: اشْتَدُّوا عَلَى الْفُسَّاقِ وَاجْعَلُوهُمْ يَدًا يَدًا وَرِجْلًا رِجْلًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ يَقُولُ: الْحَدُّ كَفَّارَتُهُ. وَالْأَحَادِيثُ فِي قَدْرِ نَصَابِ السَّرِقَةِ وَفِي سَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفَاصِيلِ هَذَا الْحَدِّ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ فَلَا نُطِيلُ بذلك. [سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 44] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) قَوْلُهُ: لَا يَحْزُنْكَ قَرَأَ نَافِعٌ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ، وَالْحُزْنُ وَالْحُزْنُ خِلَافُ السُّرُورِ، وَحَزِنَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ حَزِنٌ وَحَزِينٌ وَأَحْزَنَهُ غَيْرُهُ وَحَزَنَهُ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: حَزَنَهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَأَحْزَنَهُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا. وَفِي الْآيَةِ النَّهْيُ لَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ التَّأَثُّرِ لِمُسَارَعَةِ الْكَفَرَةِ فِي كُفْرِهِمْ تَأَثُّرًا بَلِيغًا، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ وَعَدَهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى الشَّيْءِ: الْوُقُوعُ فِيهِ بِسُرْعَةٍ.

وَالْمُرَادُ هُنَا وُقُوعُهُمْ فِي الْكُفْرِ بِسُرْعَةٍ عِنْدَ وُجُودِ فُرْصَةٍ، وَآثَرَ لَفْظَ فِي عَلَى لَفْظِ إلى للدلالة على استقرارهم فيه، ومن فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ قالُوا بَيَانِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِلْمُسَارِعِينَ فِي الْكُفْرِ، وَالْبَاءُ فِي بِأَفْواهِهِمْ متعلّقة بقالوا: لا بآمنا، وهؤلاء الَّذِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا يَعْنِي الْيَهُودَ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا وَهُوَ تَمَامُ الْكَلَامِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُسَارِعِينَ فِي الْكُفْرِ طَائِفَةُ الْمُنَافِقِينَ وَطَائِفَةُ الْيَهُودِ. وَقَوْلُهُ: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هُمْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ أَوْ إِلَى الْمُسَارِعِينَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْكَذِبِ لِلتَّقْوِيَةِ أَوْ لِتَضْمِينِ السَّمَاعِ مَعْنَى الْقَبُولِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهَ: سَمَّاعُونَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أَيْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا قَوْمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَيْ قَابَلُونِ لِكَذِبِ رُؤَسَائِهِمُ الْمُحَرِّفِينَ لِلتَّوْرَاةِ. قَوْلُهُ: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ خَبَرٌ ثَانٍ، وَاللَّامُ فِيهِ كَاللَّامِ فِي لِلْكَذِبِ وَقِيلَ: اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْ سَمَّاعُونَ لِكَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ لِأَجْلِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَسَمَّاعُونَ لِأَجْلِ قَوْمٍ آخَرِينَ وَجَّهُوهُمْ عُيُونًا لَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يُبَلِّغُوهُمْ مَا سَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله: لَمْ يَأْتُوكَ صفة لقوم: أَيْ لَمْ يَحْضُرُوا مَجْلِسَكَ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا لَا يَحْضُرُونَ مَجْلِسَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ تَكَبُّرًا وَتَمَرُّدًا وَقِيلَ: هُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَجَنَّبُونَ مَجَالِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ سَمَّاعِينَ كَمَا قَالَ: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا «1» . قَوْلُهُ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ: أَيْ يُمِيلُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّتِي وَضَعَهُ اللَّهُ فِيهَا وَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ. وَالْمُحَرِّفُونَ هُمُ الْيَهُودُ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ لَمْ يَأْتُوكَ وَقِيلَ: مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِقَصْدِ تَعْدَادِ مَعَايِبِهِمْ وَمَثَالِبِهِمْ. وَمَعْنَى: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ مِنْ بَعْدِ كَوْنِهِ مَوْضُوعًا فِي مَوَاضِعِهِ، أَوْ مِنْ بَعْدِ وَضْعِهِ فِي مَوَاضِعِهِ الَّتِي وَضَعَهُ اللَّهُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ لَفْظِهِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ. قَوْلُهُ: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ يُحَرِّفُونَ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ صِفَةٌ لِقَوْمٍ، أَوْ خَبَرُ مبتدأ محذوف، والإشارة بقوله: هَذَا إِلَى الْكَلَامِ الْمُحَرَّفِ: أَيْ إِنْ أُوتِيتُمْ مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي حَرَّفْنَاهُ فخذوه واعلموا بِهِ وَإِنْ لَمْ تُؤْتُوهُ بَلْ جَاءَكُمْ بِغَيْرِهِ فَاحْذَرُوا مِنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أَيْ ضَلَالَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ فَلَا تَسْتَطِيعُ دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَظَاهِرُهَا الْعُمُومُ وَيَدْخُلُ فِيهَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سِيَاقُ الْكَلَامِ مَعَهُمْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أَيْ لَمْ يُرِدْ تَطْهِيرَهَا مِنْ أَرْجَاسِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ كَمَا طَهَّرَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ بِظُهُورِ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ وَبِضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَظُهُورِ تَحْرِيفِهِمْ وَكَتْمِهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ. قَوْلُهُ: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِقُبْحِهِ، وَلِيَكُونَ كَالْمُقَدَّمَةِ لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ، وَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ أَخْبَارِ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ الْمُقَدَّرِ سَابِقًا. وَالسُّحْتُ بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ: الْمَالُ الْحَرَامُ، وَأَصْلُهُ الْهَلَاكُ وَالشِّدَّةُ، مِنْ سَحَتَهُ: إِذَا هَلَكَهُ، وَمِنْهُ فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ، ومنه قول الفرزدق:

_ (1) . الأحزاب: 61.

وَعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتٌ أَوْ مُحَلَّقُ «1» وَيُقَالُ لِلْحَالِقِ اسْحَتْ: أَيْ اسْتَأْصِلْ وَسُمِّيَ الْحَرَامُ سُحْتًا لِأَنَّهُ يُسْحِتُ الطَّاعَاتَ: أَيْ يُذْهِبُهَا وَيَسْتَأْصِلُهَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُهُ كَلْبُ الْجُوعِ وَقِيلَ هُوَ الرَّشْوَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالرَّشْوَةُ تَدْخُلُ فِي الْحَرَامِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَقَدْ فَسَّرَهُ جَمَاعَةٌ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَرَامِ خَاصٌّ كَالْهَدِيَّةِ لِمَنْ يَقْضِي لَهُ حَاجَةً، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَالتَّعْمِيمُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ فِيهِ تَخْيِيرٌ لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيْنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ حُكَّامَ الْمُسْلِمِينَ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ إِذَا تَرَافَعَا إِلَيْهِمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا تَرَافَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى التَّخْيِيرِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْوُجُوبِ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «2» وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عبد العزيز والسديّ، وهو الصحيح من قولي الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. قَوْلُهُ: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً أَيْ إِنِ اخْتَرْتَ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْكَ، لِأَنَّ اللَّهَ حَافِظُكَ وَنَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنِ اخْتَرْتَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ وَأَنْزَلَهُ عَلَيْكَ. قَوْلُهُ: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ تَعْجِيبٌ لَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ تَحْكِيمِهِمْ إِيَّاهُ مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَا بِمَا جَاءَ بِهِ، مَعَ أَنَّ مَا يُحَكِّمُونَهُ فِيهِ هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ كَالرَّجْمِ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يَأْتُونَ إِلَيْهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَيُحَكِّمُونَهُ طَمَعًا مِنْهُمْ فِي أَنْ يُوَافِقَ تَحْرِيفَهُمْ وَمَا صَنَعُوهُ بِالتَّوْرَاةِ مِنَ التَّغْيِيرِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عَطْفٌ عَلَى يُحَكِّمُونَكَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ مِنْ بَعْدِ تَحْكِيمِهِمْ لَكَ، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا. وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ اسْتِئْنَافٌ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ التَّوْرَاةِ وَتَفْخِيمَ شَأْنِهَا وَأَنَّ فِيهَا الْهُدَى وَالنُّورَ، وَهُوَ بَيَانُ الشَّرَائِعِ والتبشير بمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَإِيجَابُ اتِّبَاعِهِ. قَوْلُهُ: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ هُمْ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ أو حالية، والَّذِينَ أَسْلَمُوا صِفَةٌ مَادِحَةٌ لِلنَّبِيِّينَ، وَفِيهِ إِرْغَامٌ لِلْيَهُودِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ كَانُوا يَدِينُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي دَانَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّبِيِّينَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا. قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ هادُوا متعلّق بيحكم. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ لِلَّذِينِ هَادُوا وعليهم. وَالرَّبَّانِيُّونَ: الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ، وَالْأَحْبَارُ: الْعُلَمَاءُ، مَأْخُوذٌ مِنَ التَّحْبِيرِ وَهُوَ التَّحْسِينُ فَهُمْ يَحْبُرُونَ الْعِلْمَ أَيْ يُحْسِنُونَهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحَبْرُ وَاحِدُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ بِالْكَسْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ بِالْفَتْحِ. قَوْلُهُ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ الباء للسببية، واستحفظوا أُمِرُوا بِالْحِفْظِ أَيْ أَمَرَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ بِحِفْظِ التَّوْرَاةِ

_ (1) . في لسان العرب مادة «سحت» : مجلّف. الذي بقيت منه بقية. (2) . المائدة: 49.

عن التغيير والتّبديل، والجار والمجرور متعلق بيحكم: أَيْ يَحْكُمُونَ بِهَا بِسَبَبِ هَذَا الِاسْتِحْفَاظِ. قَوْلُهُ: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أَيْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، والشهداء: الرقباء، فهم يحمونه عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ بِهَذِهِ الْمُرَاقَبَةِ، وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ لِرُؤَسَاءِ الْيَهُودِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَالِاشْتِرَاءُ الِاسْتِبْدَالُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ لَفْظُ مِنْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَيُفِيدُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ بِكُلِّ مَنْ وَلِيَ الْحُكْمَ وَقِيلَ: إِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِأْهَلِ الْكِتَابِ وَقِيلَ: بِالْكُفَّارِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَكْفُرُ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ وَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَعَ استخفافا، أو استحلالا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ إِلَى مَنْ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: هُمُ الْكافِرُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ الظَّالِمُونَ الْفاسِقُونَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ قَهَرَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ قَتِيلٍ قَتَلَتْهُ الْعَزِيزَةُ مِنَ الذَّلِيلَةِ فَدِيَتُهُ خَمْسُونَ وَسْقًا، وَكُلُّ قَتِيلٍ قَتَلَتْهُ الذَّلِيلَةُ مِنَ الْعَزِيزَةِ فَدِيَتُهُ مِائَةُ وَسْقٍ، فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَذَلَّتِ الطَّائِفَتَانِ كِلْتَاهُمَا لِمَقْدَمِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَتِ الذَّلِيلَةُ مِنَ الْعَزِيزَةِ، فَأَرْسَلَتِ الْعَزِيزَةُ إِلَى الذَّلِيلَةِ أَنِ ابْعَثُوا إِلَيْنَا بِمِائَةِ وَسْقٍ، فَقَالَتِ الذَّلِيلَةُ: وَهَلْ كَانَ هَذَا فِي حَيَّيْنِ قَطُّ دِينَهُمَا وَاحِدٌ وَنَسَبُهُمَا وَاحِدٌ وَبَلَدُهُمَا وَاحِدٌ وَدِيَةُ بَعْضِهِمْ نِصْفُ دِيَةِ بَعْضٍ؟ إِنَّمَا أَعْطَيْنَاكُمْ هَذَا ضَيْمًا مِنْكُمْ لَنَا وَفَرَقًا مِنْكُمْ، فَأَمَّا إِذْ قَدِمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وسلّم فلا نعطيكم ذلك، فكادت الْحَرْبُ تَهِيجُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ ارْتَضَوْا عَلَى أَنْ جعلوا رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، فَفَكَّرَتِ الْعَزِيزَةُ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ يُعْطِيكُمْ مِنْهُمْ ضِعْفَ مَا نُعْطِيهِمْ مِنْكُمْ، وَلَقَدْ صَدَقُوا، مَا أَعْطَوْنَا هَذَا إِلَّا ضَيْمًا وَقَهْرًا لَهُمْ، فَدُسُّوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يُخْبِرُ لَكُمْ رَأْيَهُ، فَإِنْ أَعْطَاكُمْ مَا تُرِيدُونَ حَكَّمْتُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِكُمْ حَذِرْتُمُوهُ وَلَمْ تُحَكِّمُوهُ فَدَسُّوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَخْتَبِرُونَ لَهُمْ رَأْيَهُ، فَلَمَّا جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَمْرِهِمْ كُلَّهُ وَمَا أرادوا، فأنزل الله يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ثم قال فيهم: «والله فيهم أُنْزِلَتْ وَإِيَّاهُمْ عَنَى» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَوَّلُ مَرْجُومٍ رَجَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ، زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ، فَإِنْ أَفْتَانَا بِفُتْيَا دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَاهَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ وَقُلْنَا: فُتْيَا نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِكَ، قَالَ: فأتوا النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا تَرَى فِي رَجُلٍ وامرأة منّا زَنَيَا، فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ حَتَّى أَتَى بَيْتَ مِدْرَاسِهِمْ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مَا تَجِدُونَ فِي التوراة

عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ؟ قَالُوا: يُحَمَّمُ «1» وَيُجَبَّهُ وَيُجْلَدُ، وَالتَّجْبِيَةُ: أَنْ يُحْمَلَ الزَّانِيَانِ عَلَى حِمَارٍ وَتُقَابَلَ أَقْفِيَتُهُمَا وَيُطَافُ بِهِمَا، وَسَكَتَ شَابٌّ مِنْهُمْ فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ أَلَظَّ بِهِ النِّشْدَةَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إذ نشدتنا نجب فَإِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: فَمَا أَوَّلُ مَا ارْتَخَصْتُمْ أَمْرَ اللَّهِ؟ قَالَ: زَنَى رَجُلٌ ذُو قَرَابَةٍ مِنْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِنَا فَأَخَرَّ عَنْهُ الرَّجْمَ، ثُمَّ زَنَى رَجُلٌ فِي أُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ رَجْمَهُ، فَحَالَ قَوْمُهُ دُونَهُ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا تَرْجُمْ صَاحِبَنَا حَتَّى تَجِيءَ بِصَاحِبِكَ فَتَرْجُمَهُ، فَاصْطَلَحُوا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ بَيْنَهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنِّي أَحْكُمُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا» قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَبَلَغَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فكان النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الشَّابَّ الْمَذْكُورَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا. وَأَخْرَجَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وأبو داود والنسائي من حديث البراء ابن عَازِبٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ، قَالُوا: صَدَقَ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَرُجِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قَالَ: يَهُودُ الْمَدِينَةِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ قَالَ: يَهُودُ فَدَكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ قَالَ: يَهُودُ فَدَكَ يَقُولُونَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا الْجَلْدَ فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا الرَّجْمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: زَنَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، فَكَتَبَ أَهْلُ فَدَكَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ أَنْ سَلُوا مُحَمَّدًا، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قَالَ: أَخَذُوا الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ، وَقَضَوْا بِالْكَذِبِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: السُّحْتُ: الرِّشْوَةُ فِي الدِّينِ. قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي فِي الْحُكْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا قَالَ: مَنْ شَفَعَ لِرَجُلٍ لِيَدْفَعَ عَنْهُ مَظْلَمَةً أَوْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَقًّا فَأُهْدِي لَهُ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا فَذَلِكَ السُّحْتُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِنَّا كُنَّا نَعُدُّ السُّحْتَ الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ، فَقَالَ ذَلِكَ الْكُفْرُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رِشْوَةُ الْحُكَّامِ حَرَامٌ. وَهِيَ السُّحْتُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ السُّحْتِ، فَقَالَ: الرِّشَا، فَقِيلَ له: في الحكم؟

_ (1) . يحمّم: يسوّد وجهه.

قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: بَابَانِ مِنَ السُّحْتِ يَأْكُلُهُمَا النَّاسُ: الرِّشَاءُ فِي الْحُكْمِ، وَمَهْرُ الزَّانِيَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ الرَّشْوَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آيَتَانِ نُسِخَتَا مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: آيَةُ الْقَلَائِدِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا: إِنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَرَدَّهُمْ إِلَى أَحْكَامِهِمْ، فَنَزَلَتْ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ «1» قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا فِي كِتَابِنَا. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ فِي الْآيَةِ الْآخِرَةِ عَنْهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَاتِ مِنَ الْمَائِدَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الدِّيَةِ مَنْ بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَتْلَى بَنِي النَّضِيرِ كَانَ لَهُمْ شَرَفٌ يُودَوْنَ الدِّيَةَ كَامِلَةً، وَأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا يُودَوْنَ نِصْفَ الدِّيَةِ، فَتَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحَمَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَوَاءً. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ يَعْنِي حُدُودَ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ بِحُكْمِهِ فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها إِلَى قَوْلِهِ: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ «2» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يعني النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِلَّذِينَ هادُوا يَعْنِي الْيَهُودَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الَّذِينَ أَسْلَمُوا: النَّبِيَّ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَحْكُمُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ: الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الرَّبَّانِيُّونَ: الْعُلَمَاءُ الْفُقَهَاءُ، وَهُمْ فَوْقَ الْأَحْبَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الرَّبَّانِيُّونَ: الْعُبَّادُ، وَالْأَحْبَارُ: الْعُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّبَّانِيُّونَ: الْفُقَهَاءُ الْعُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الرَّبَّانِيُّونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْأَحْبَارُ هُمُ الْقُرَّاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ فَتَكْتُمُوا مَا أَنْزَلْتُ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا عَلَى أَنْ تَكْتُمُوا مَا أَنْزَلْتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا قَالَ: لَا تَأْكُلُوا السُّحْتَ عَلَى كِتَابِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ يَقُولُ: مَنْ جَحَدَ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ كُفْرٌ يَنْقُلُ مِنَ الْمِلَّةِ، بَلْ دُونَ كُفْرِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عطاء ابن أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ هُمُ الْفاسِقُونَ قَالَ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وظلم دون ظلم،

_ (1) . المائدة: 49. (2) . المائدة: 45. [.....]

[سورة المائدة (5) : الآيات 45 إلى 50]

وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ- وَالظَّالِمُونَ- وَالْفاسِقُونَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ- وَالظَّالِمُونَ- وَالْفاسِقُونَ فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: نَعَمْ الْإِخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، إِنْ كَانَ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ وَلَهُمْ كُلُّ مُرَّةٍ، كَلَّا وَاللَّهِ لَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهُمْ قَدَّ الشِّرَاكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَهُ عَنِ ابن عباس. [سورة المائدة (5) : الآيات 45 الى 50] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) قَوْلُهُ: وَكَتَبْنا مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ، وَمَعْنَاهَا فَرَضْنَا، بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا فَرَضَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَالْعَيْنِ، وَالْأَنْفِ، وَالْأُذُنِ، وَالسِّنِّ، وَالْجُرُوحِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّهُ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ نَفْسٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَبَرٌ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَلَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْبَقَرَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى «1» مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا هَلْ يَلْزَمُنَا أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُنَا إِذَا لَمْ يُنْسَخُ وَهُوَ الْحَقُّ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الشَّامِلِ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَقَدِ احْتَجَّ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ لِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، انْتَهَى. وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَا هُوَ الْحَقُّ فِي هَذَا فِي شَرْحِنَا عَلَى «الْمُنْتَقَى» ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَوْبِيخٌ لِلْيَهُودِ وَتَقْرِيعٌ لكونهم

_ (1) . البقرة: 178.

يُخَالِفُونَ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا حَكَاهُ هُنَا، وَيُفَاضِلُونَ بَيْنَ الْأَنْفُسِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَقَدْ كَانُوا يَقِيدُونَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَا يَقِيدُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ مَنْ بَنِي النَّضِيرِ. قَوْلُهُ: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ بِالنَّصْبِ فِي جَمِيعِهَا عَلَى الْعَطْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالنَّصْبِ أَيْضًا فِي الْكُلِّ إِلَّا فِي الْجُرُوحِ فَبِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ بِالرَّفْعِ فِي الْجَمِيعِ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ، لِأَنَّ النَّفْسَ قَبْلَ دُخُولِ الْحَرْفِ النَّاصِبِ عَلَيْهَا كَانَتْ مَرْفُوعَةً عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَكُونُ عَطْفًا عَلَى الْمُضْمَرِ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِنَّ النَّفْسَ هِيَ مَأْخُوذَةٌ بِالنَّفْسِ، فَالْأَسْمَاءُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى هِيَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ جَعَلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ الْحُكْمِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالظَّاهِرُ مِنَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ أَنَّ الْعَيْنَ إِذَا فُقِئَتْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَجَالٌ لِلْإِدْرَاكِ أَنَّهَا تُفْقَأُ عَيْنُ الْجَانِي بِهَا، وَالْأَنْفَ إِذَا جُدِعَتْ جَمِيعَهَا فَإِنَّهَا تُجْدَعُ أَنْفُ الْجَانِي بِهَا، وَالْأُذُنَ إِذَا قُطِعَتْ جَمِيعَهَا فَإِنَّهَا تُقْطَعُ أُذُنُ الْجَانِي بِهَا، وَكَذَلِكَ السِّنَّ فَأَمَّا لَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ ذَهَبَتْ بِبَعْضِ إِدْرَاكِ الْعَيْنِ، أَوْ بِبَعْضِ الْأَنْفِ، أَوْ بِبَعْضِ الْأُذُنِ، أَوْ بِبَعْضِ السِّنِّ، فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْقِصَاصِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَكَلَامُهُمْ مُدَوَّنٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّنَايَا وَالْأَنْيَابِ وَالْأَضْرَاسِ وَالرُّبَاعِيَّاتِ، وَأَنَّهُ يُؤْخَذُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَلَا فَضْلَ لبعضها عَلَى بَعْضٍ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَكَلَامُهُمْ مُدَوَّنٌ فِي مَوَاطِنِهِ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ فِي الْقِصَاصِ مِنَ الْجَانِي هُوَ الْمُمَاثِلُ لِلسِّنِّ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاهِبَةً فَمَا يَلِيهَا. قَوْلُهُ: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ أَيْ ذَوَاتَ قِصَاصٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي يُخَافُ مِنْهَا التَّلَفُ، وَلَا فِيمَا كَانَ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ عُمْقًا أَوْ طُولًا أَوْ عَرْضًا. وَقَدْ قَدَّرَ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ أَرْشَ كُلِّ جِرَاحَةٍ بِمَقَادِيرَ مَعْلُومَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَيَانِ كَلَامِهِمْ، وَلَا مَوْضِعَ اسْتِيفَاءِ بَيَانِ مَا وَرَدَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ. قَوْلُهُ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ أَيْ مَنْ تَصَدَّقَ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْقِصَاصِ بِالْقِصَاصِ، بِأَنْ عَفَا عَنِ الْجَانِي فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْمُتَصَدِّقِ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا ذُنُوبَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْجَارِحِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِجِنَايَتِهِ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْعَفْوَ يَقُومُ مَقَامَ أَخْذِ الْحَقِّ مِنْهُ. وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْآخَرِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ. قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَتَعْرِيفُ الْخَبَرِ يُسْتَفَادُ مِنْهَا أَنَّ هَذَا الظُّلْمَ الصَّادِرَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ عَظِيمٌ بَالِغٌ إِلَى الْغَايَةِ. قَوْلُهُ: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِنْجِيلِ بَعْدَ بَيَانِ حُكْمِ التَّوْرَاةِ أَيْ جَعَلَنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَقْفُو آثَارَهُمْ أَيْ آثَارَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يُقَالُ قَفَّيْتُهُ مِثْلَ عَقَّبْتُهُ: إِذَا أَتْبَعْتَهُ ثُمَّ يُقَالُ: قَفَّيْتُهُ بِفُلَانٍ وَعَقَّبْتُهُ بِهِ فَيَتَعَدَّى إِلَى الثَّانِي بِالْبَاءِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالظَّرْفِ، وَهُوَ عَلَى آثَارِهِمْ لِأَنَّهُ إِذَا قَفَّى بِهِ عَلَى أَثَرِهِ فَقَدْ قَفَّى بِهِ إِيَّاهُ، وَانْتِصَابُ مُصَدِّقاً عَلَى الْحَالِ مِنْ عِيسَى وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ عَطْفٌ عَلَى قَفَّيْنَا، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ أَعْنِي فِيهِ هُدىً النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَنُورٌ عَطْفٌ عَلَى هُدًى. وَقَوْلُهُ: وَمُصَدِّقاً مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ فِيهِ هُدىً أَيْ إِنَّ الْإِنْجِيلَ أُوتِيَهُ عِيسَى حَالَ كَوْنِهِ

مشتملا على الهدى والنور مصدقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَقِيلَ: إِنَّ مُصَدِّقًا مَعْطُوفٌ عَلَى مُصَدِّقًا الْأَوَّلِ فَيَكُونُ حَالًا من عيسى مؤكدا للحال الأوّل ومقرّر لَهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّأْسِيسَ خَيْرٌ مِنَ التَّأْكِيدِ. قَوْلُهُ: وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ عَطْفٌ عَلَى مُصَدِّقًا دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِهِ مُنْضَمًّا إِلَيْهِ: أَيْ مُصَدِّقًا وَهَادِيًا وَوَاعِظًا لِلْمُتَّقِينَ. قَوْلُهُ: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذَا أَمْرٌ لِأَهْلِ الْإِنْجِيلِ بِأَنْ يُحَكِّمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ حَقٌّ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَقَدْ أُمِرُوا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنْ يَعْمَلُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ النَّاسِخِ لِكُلِّ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. وقرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل من لْيَحْكُمْ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لِلْأَمْرِ. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى تَكُونُ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ لِيَحْكُمَ أَهْلُهُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَالِاخْتِيَارُ الْجَزْمُ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِلْزَامٌ مِنَ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِنْجِيلِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُنْزِّلْ كِتَابًا إِلَّا لِيُعْمَلَ بِمَا فيه. قوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ خطاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، والكتاب: القرآن، والتعريف للعهد، وبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا: أَيْ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أَنْزَلْنَا وَقِيلَ: من ضمير النبي صلّى الله عليه وسلّم ومُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتَابِ أَعْنِي قَوْلَهُ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ لِلْجِنْسِ أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ الْقُرْآنَ حَالَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ، وَحَالَ كَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَالْأَمْرِ بِالْخَيْرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّرِّ، كَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ عَطْفٌ عَلَى مُصَدِّقًا، وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي صَدَّقَهُ الْقُرْآنُ وَهَيْمَنَ عَلَيْهِ، وَالْمُهَيْمِنُ الرَّقِيبُ وَقِيلَ: الْغَالِبُ الْمُرْتَفِعُ وَقِيلَ: الشَّاهِدُ، وَقِيلَ: الْحَافِظُ وَقِيلَ: الْمُؤْتَمَنُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُهُ مُؤَيْمَنٌ أُبْدِلَ مِنَ الْهَمْزَةِ هَاءٌ، كَمَا قِيلَ فِي أَرَقْتُ الْمَاءَ هَرَقْتُ، وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ مِنْ أَمِنَ غَيْرَهُ مِنَ الْخَوْفِ، وَأَصْلُهُ أَأْمَنَ فَهُوَ مُؤَأْمِنٌ بِهَمْزَتَيْنِ قُلِبَتِ الثَّانِيَةُ يَاءً كَرَاهَةً لِاجْتِمَاعِهِمَا فَصَارَ مُؤَيْمَنٌ ثُمَّ صُيِّرَتِ الْأُولَى هَاءً، كَمَا قَالُوا: هَرَاقَ الْمَاءَ وَأَرَاقَهُ، يُقَالُ: هَيْمَنَ عَلَى الشَّيْءِ يُهَيْمِنُ: إِذَا كَانَ لَهُ حَافِظًا، فَهُوَ لَهُ مُهَيْمِنٌ كَذَا عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ بِفَتْحِ الْمِيمِ، أَيْ هَيْمَنَ عَلَيْهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْقُرْآنَ صَارَ شَاهِدًا بِصِحَّةِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَمُقَرِّرًا لِمَا فِيهَا مِمَّا لَمْ يُنْسَخْ، وَنَاسِخًا لِمَا خَالَفَهُ مِنْهَا، وَرَقِيبًا عَلَيْهَا وَحَافِظًا لِمَا فِيهَا مِنْ أُصُولِ الشَّرَائِعِ، وَغَالِبًا لَهَا لِكَوْنِهِ الْمَرْجِعَ فِي الْمُحْكَمِ مِنْهَا وَالْمَنْسُوخِ، وَمُؤْتَمَنًا عَلَيْهَا لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا هُوَ مَعْمُولٌ بِهِ مِنْهَا وَمَا هُوَ مَتْرُوكٌ. قَوْلُهُ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أَيْ بِمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ عَلَيْهِ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أَيْ أَهْوَاءَ أَهْلِ الْمِلَلِ السَّابِقَةِ. وَقَوْلُهُ: عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِلَا تَتَبُّعٍ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى لَا تَعْدِلُ أَوْ لَا تَنْحَرِفُ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ مُتَّبِعًا لِأَهْوَائِهِمْ وَقِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ: أَيْ لَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَادِلًا أَوْ مُنْحَرِفًا عَنِ الْحَقِّ. وَفِيهِ النَّهْيُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَتَّبِعَ أَهْوِيَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيَعْدِلَ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ كُلَّ مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ تَهْوَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَا أدركوا

عَلَيْهِ سَلَفَهُمْ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا مَنْسُوخًا أَوْ مُحَرَّفًا عَنِ الْحُكْمِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا وَقَعَ فِي الرَّجْمِ وَنَحْوِهِ مِمَّا حَرَّفُوهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً الشِّرْعَةُ وَالشَّرِيعَةُ فِي الْأَصْلِ: الطَّرِيقَةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْمَاءِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الدِّينِ. وَالْمِنْهَاجُ: الطَّرِيقَةُ الْوَاضِحَةُ الْبَيِّنَةُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: الشَّرِيعَةُ: ابْتِدَاءُ الطَّرِيقِ، وَالْمِنْهَاجُ الطَّرِيقُ الْمُسْتَمِرُّ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ التَّوْرَاةَ لِأَهْلِهَا، وَالْإِنْجِيلَ لِأَهْلِهِ، وَالْقُرْآنَ لِأَهْلِهِ وَهَذَا قَبْلَ نَسْخِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ بِالْقُرْآنِ وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا شِرْعَةً وَلَا مِنْهَاجَ إِلَّا مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً بِشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكِتَابٍ وَاحِدٍ وَرَسُولٍ وَاحِدٍ وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ أَيْ وَلَكِنْ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ الِاتِّحَادَ، بَلْ شَاءَ الِابْتِلَاءَ لَكُمْ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ، فيكون لِيَبْلُوَكُمْ متعلقا بمحذوف دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَمَعْنَى فِي مَا آتاكُمْ فِيمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والرسل، هل تعملون بذلك وتذعنون له، أو تتركونه وتخالفون ما اقتضته مشيئة الله وحكمته، وتميلون إلى الهوى وتشترون الضلالة بالهدى. وفيه دليل على أنّ اختلاف الشرائع هو لهذه العلة، أعني الابتلاء والامتحان لا لكون مصالح العباد مختلفة بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَشْخَاصِ. قَوْلُهُ: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْ إِذَا كَانَتِ الْمَشِيئَةُ قَدْ قَضَتْ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ فَاسْتَبِقُوا إِلَى فِعْلِ مَا أُمِرْتُمْ بِفِعْلِهِ وَتَرْكِ مَا أُمِرْتُمْ بِتَرْكِهِ. وَالِاسْتِبَاقُ: الْمُسَارَعَةُ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً لَا إِلَى غَيْرِهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهَا. قَوْلُهُ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَطْفٌ عَلَى الْكِتَابِ: أَيْ أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ بِمَا فِيهِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى نَسْخِ التخيير الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ قَوْلُهُ: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أَيْ يُضِلُّوكَ عَنْهُ وَيَصْرِفُوكَ بِسَبَبِ أَهْوَائِهِمُ الَّتِي يُرِيدُونَ مِنْكَ أَنْ تَعْمَلَ عَلَيْهَا وَتُؤْثِرَهَا فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أَيْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ حُكْمِكَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَذَلِكَ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَهُوَ ذَنْبُ التَّوَلِّي عَنْكَ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا جِئْتَ بِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ مُتَمَرِّدُونَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ خَارِجُونَ عَنِ الْإِنْصَافِ. قَوْلُهُ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ. وَالْمَعْنَى: أَيُعْرِضُونَ عَنْ حُكْمِكَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَيَتَوَلَّوْنَ عَنْهُ وَيَبْتَغُونَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لِلْإِنْكَارِ أَيْضًا: أَيْ لَا أَحْسَنَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ عِنْدَ أَهْلِ الْيَقِينِ لَا عِنْدَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْأَهْوَاءِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها فِي التَّوْرَاةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ، قَالَ: كَتَبَ عَلَيْهِمْ هَذَا فِي التَّوْرَاةِ، وَكَانُوا يَقْتُلُونَ الْحُرَّ بِالْعَبْدِ فَيَقُولُونَ كُتِبَ عَلَيْنَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ قَالَ: يَهْدِمُ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ قَالَ: لِلْمَجْرُوحِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ في جسده

[سورة المائدة (5) : الآيات 51 إلى 56]

فَيَتَصَدَّقُ بِهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ قَالَ: مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: الْمُهَيْمِنُ: الْأَمِينُ، وَالْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً قَالَ: سَبِيلًا وَسُنَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا أَنْ نَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ، وَإِنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَنَا يَهُودُ، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا خُصُومَةٌ فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ، فَتَقْضِي لَنَا عَلَيْهِمْ وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنُصَدِّقُكَ، فَأَبَى ذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ قَالَ: يَهُودُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هذا في قتيل اليهود. [سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 56] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةً وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ، وَوَصَفَهُمْ بالإيمان باعتبار ما كانوا يظهرونه. وقد كانوا يُوَالُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِكُلِّ مَنْ يَتَّصِفُ بِالْإِيمَانِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَقَطْ، فَيَدْخُلُ الْمُسْلِمُ وَالْمُنَافِقُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَسَيَأْتِي فِي بَيَانِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ مَا يَتَّضِحُ بِهِ الْمُرَادُ. وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الأولياء في المصادقة وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ. وَقَوْلُهُ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ أَوْلِيَاءُ الْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْهُمْ، وَبَعْضَ النَّصَارَى أَوْلِيَاءُ الْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ إِحْدَى طَائِفَتَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَبِالْبَعْضِ الْآخَرِ الطَّائِفَةَ الْأُخْرَى لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشِّقَاقِ وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ «1» وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ تُوَالِي الْأُخْرَى وَتُعَاضِدُهَا وَتُنَاصِرُهَا عَلَى عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَدَاوَةِ مَا جَاءَ بِهِ وَإِنْ كَانُوا في ذات بينهم متعادين متضادّين.

_ (1) . البقرة: 113.

وَوَجْهُ تَعْلِيلِ النَّهْيِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْمُوَالَاةَ هِيَ شَأْنُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ لَا شَأْنُكُمْ، فَلَا تَفْعَلُوا مَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِمْ فَتَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَلِهَذَا عَقَّبَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ التَّعْلِيلِيَّةَ بِمَا هُوَ كَالنَّتِيجَةِ لَهَا فَقَالَ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أَيْ فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَفِي عِدَادِهِمْ، وَهُوَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْكُفْرِ هِيَ الَّتِي قَدْ بَلَغَتْ إِلَى غَايَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا غَايَةٌ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَعْلِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَيْ أَنَّ وُقُوعَهُمْ فِي الْكُفْرِ هُوَ بِسَبَبِ عَدَمِ هِدَايَتِهِ سُبْحَانَهُ لِمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِمَا يُوجِبُ الْكُفْرَ كَمَنْ يُوَالِي الْكَافِرِينَ. قَوْلُهُ: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْخِطَابُ إِمَّا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ: أَيْ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْمُوَالَاةِ وَوَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ هُوَ بِسَبَبِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ مَرَضِ النِّفَاقِ. وَقَوْلُهُ: يُسارِعُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ إِمَّا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي إِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةً أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ إِذَا كَانَتْ بَصَرِيَّةً، وَجَعَلَ الْمُسَارَعَةَ فِي مُوَالَاتِهِمْ مُسَارَعَةً فِيهِمْ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ رُغُوبِهِمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مُسْتَقِرُّونَ فِيهِمْ دَاخِلُونَ فِي عِدَادِهِمْ. وقد قرئ فيرى بِالتَّحْتِيَّةِ. وَاخْتُلِفَ فِي فَاعِلِهِ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ مَنْ تَصِحُّ مِنْهُ الرُّؤْيَا وَقِيلَ: هُوَ الْمَوْصُولُ. وَمَفْعُولُهُ: يُسارِعُونَ فِيهِمْ عَلَى حَذْفِ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ: أَيْ فَيَرَى الْقَوْمَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضُ أَنْ يُسَارِعُوا فِيهِمْ، فَلَمَّا حُذِفَتِ ارْتَفَعَ الْفِعْلُ كقوله: ألا أيّهذا الّلائمي أحضر الوغى «1» ... وَالْمَرَضُ فِي الْقُلُوبِ: هُوَ النِّفَاقُ وَالشَّكُّ فِي الدِّينِ. وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ جُمْلَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَعْلِيلِ الْمُسَارَعَةِ فِي الْمُوَالَاةِ: أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْخَشْيَةَ هِيَ الْحَامِلَةُ لَهُمْ عَلَى الْمُسَارَعَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُسَارِعُونَ. وَالدَّائِرَةُ: مَا تَدُورُ مِنْ مَكَارِهَ الدَّهْرِ: أَيْ نَخْشَى أَنْ تَظْفَرَ الْكُفَّارُ بِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَتَكُونُ الدَّوْلَةُ لَهُمْ وَتَبْطُلُ دَوْلَتُهُ فَيُصِيبُنَا منهم مكروه، ومنه قوله الشَّاعِرِ: يَرُدُّ عَنْكَ الْقَدْرَ الْمَقْدُورَا ... وَدَائِرَاتِ الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا أَيْ دُولَاتِ الدَّهْرِ الدَّائِرَةِ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ. وَقَوْلُهُ: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَدَفْعٌ لِمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْخَشْيَةِ، وَعَسَى فِي كَلَامِ اللَّهِ وَعْدٌ صَادِقٌ لَا يَتَخَلَّفُ. وَالْفَتْحُ: ظُهُورُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَمِنْهُ مَا وَقَعَ مِنْ قَتْلِ مُقَاتَلَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ، وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ وَقِيلَ: هُوَ فَتْحُ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقِيلَ: فَتْحُ مَكَّةَ. وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ مِنْ عِنْدِهِ سُبْحَانَهُ هُوَ كُلُّ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ صَوْلَةُ الْيَهُودِ وَمَنْ مَعَهُمْ وَتَنْكَسِرُ بِهِ شَوْكَتُهُمْ وَقِيلَ: هُوَ إِظْهَارُ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَإِخْبَارُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِمَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْرُهُ بِقَتْلِهِمْ وَقِيلَ: هُوَ الْجِزْيَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: الْخِصْبُ وَالسِّعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيُصْبِحُ الْمُنَافِقُونَ عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى الْمُوَالَاةِ نادِمِينَ عَلَى ذَلِكَ لِبُطْلَانِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَخَيَّلُوهَا وَانْكِشَافِ خِلَافِهَا. قَوْلُهُ: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ أَبِي إسحاق وأهل الكوفة بإثبات الواو،

_ (1) . وتمامه: وأن أشهد اللذات، هل أنت مخلدي؟ وهو من معلقة طرفة بن العبد البكري.

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مَعَ رَفْعِ يَقُولُ يَكُونُ كَلَامًا مُبْتَدَأً مَسُوقًا لِبَيَانِ مَا وَقَعَ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ يَكُونُ عَطْفًا عَلَى فَيُصْبِحُوا وَقِيلَ: عَلَى يَأْتِيَ وَالْأُولَى أَوْلَى، لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ ظُهُورِ نَدَامَةِ الْكَافِرِينَ لَا عِنْدَ إِتْيَانِ الْفَتْحِ وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفَتْحِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي «1» ... وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ حَذْفِ الْوَاوِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أَهؤُلاءِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ: أَيْ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا مُخَاطِبِينَ لِلْيَهُودِ مُشِيرِينَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ بِالْمُنَاصَرَةِ وَالْمُعَاضَدَةِ فِي الْقِتَالِ، أَوْ يَقُولُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضٍ مُشِيرِينَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلْقَوْلِ. وَجَهْدُ الْأَيْمَانِ: أَغْلَظُهَا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى الْحَالِ: أَيْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَاهِدِينَ. قَوْلُهُ: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أَيْ بَطَلَتْ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَالْقَائِلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَالْأَعْمَالُ هِيَ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الْمُوَالَاةِ أَوْ كُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ. قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ يَرْتَدِدْ بِدَالَيْنِ بِفَكِّ الْإِدْغَامِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ بِالْإِدْغَامِ. وَهَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ مُوَالَاةَ الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِ كُفْرٌ، وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّدَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ وَعَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْإِتْيَانِ بِهِمْ هُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَيْشُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ قَاتَلَ بِهِمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ، ثُمَّ كُلُّ مَنْ جَاءَ بِعْدَهُمْ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ لِلْمُرْتَدِّينَ فِي جَمِيعِ الزَّمَنِ، ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْعَظِيمَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى غَايَةِ الْمَدْحِ وَنِهَايَةِ الثَّنَاءِ مِنْ كَوْنِهِمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ وَهُوَ يُحِبُّهُمْ، وَمِنْ كَوْنِهِمْ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ وَالْأَذِلَّةُ: جَمْعُ ذَلِيلٍ لَا ذَلُولٍ، وَالْأَعِزَّةُ: جَمْعُ عَزِيزٍ، أَيْ يُظْهِرُونَ الْعَطْفَ وَالْحُنُوُّ وَالتَّوَاضُعَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُظْهِرُونَ الشِّدَّةَ وَالْغِلْظَةَ وَالتَّرَفُّعَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْمُجَاهِدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَدَمِ خَوْفِ الْمَلَامَةِ فِي الدِّينِ، بَلْ هُمْ مُتَصَلِّبُونَ لَا يُبَالُونَ بِمَا يَفْعَلُهُ أَعْدَاءُ الْحَقِّ وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْإِزْرَاءِ بِأَهْلِ الدِّينِ وَقَلْبِ مَحَاسِنِهِمْ مَسَاوِئَ وَمَنَاقِبِهِمْ مَثَالِبَ حَسَدًا وَبُغْضًا وَكَرَاهَةً لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي اخْتَصَّهُمُ اللَّهُ بِهَا. وَالْفَضْلُ: اللُّطْفُ وَالْإِحْسَانُ. قَوْلُهُ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ بَيَانِ مَنْ لَا تَحِلُّ مُوَالَاتُهُ بَيَّنَ مَنْ هُوَ الْوَلِيُّ الَّذِي تَجِبُ مُوَالَاتُهُ، وَمَحَلُّ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ أَوِ النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ راكِعُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ فَاعِلِ الْفِعْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ. وَالْمُرَادُ بِالرُّكُوعِ: الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ، أَيْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ خَاشِعُونَ خَاضِعُونَ لَا يَتَكَبَّرُونَ وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ الزَّكَاةِ. وَالْمُرَادُ بِالرُّكُوعِ هُوَ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ: أَيْ يَضَعُونَ الزَّكَاةَ فِي مَوَاضِعِهَا غَيْرُ مُتَكَبِّرِينَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَا مُتَرَفِّعِينَ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالرُّكُوعِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي: ركوع

_ (1) . وتمام البيت: أحبّ إليّ من لبس الشفوف. وهو لميسون بنت بحدل، وكانت زوجة لمعاوية بن أبي سفيان.

الصَّلَاةِ، وَيَدْفَعُهُ عَدَمُ جَوَازِ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فِي تلك الحال، ثُمَّ وَعَدَ سُبْحَانَهُ مَنْ يَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمُ الْغَالِبُونَ لِعَدُوِّهِمْ، وَهُوَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعُ الْمُضْمَرِ، وَوَضْعِ حِزْبِ اللَّهِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْمُوَالِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْحِزْبُ: الصِّنْفُ مِنَ النَّاسِ، مِنْ قَوْلِهِمْ حَزَبَهُ كَذَا: أَيْ نَابَهُ، فَكَأَنَّ الْمُتَحَزِّبِينَ مُجْتَمِعُونَ كَاجْتِمَاعِ أَهْلِ النَّائِبَةِ الَّتِي تَنُوبُ، وَحِزْبُ الرَّجُلِ: أَصْحَابُهُ، وَالْحِزْبُ: الْوِرْدُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «فَمَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنَ اللَّيْلِ» وَتَحَزَّبُوا: اجْتَمَعُوا. وَالْأَحْزَابُ: الطَّوَائِفُ. وَقَدْ وَقَعَ- وَلِلَّهِ الْحَمْدُ- مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَ رُسُلِهِ وَأَوْلِيَاءَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْغَلَبِ لِعَدُوِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ غَلَبُوا الْيَهُودَ بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ وَالْإِجْلَاءِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ، حَتَّى صَارُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَذَلَّ الطوائف الكفرية وأقلها شَوْكَةً، وَمَا زَالُوا تَحْتَ كَلْكَلِ الْمُؤْمِنِينَ يَطْحَنُونَهُمْ كيف شاؤوا، وَيَمْتَهِنُونَهُمْ كَمَا يُرِيدُونَ مِنْ بَعْدِ الْبِعْثَةِ الشَّرِيفَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابن سَلُولٍ وَقَامَ دُونَهُمْ، وَمَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَرَّأَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حلفهم، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَلَهُ مِنْ حِلْفِهِمْ مِثْلَ الَّذِي كَانَ لَهُمْ مِنْ عبد الله بن أبيّ ابن سَلُولٍ، فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَتَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حَلِفِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَوِلَايَتِهِمْ. وَفِيهِ وَفِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي الْمَائِدَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبيّ ابن سَلُولٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ حِلْفًا وَإِنِّي أَخَافُ الدَّوَائِرَ، فَارْتَدَّ كَافِرًا. وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: أَتَبَرَّأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ حِلْفِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَأَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ نَحْوَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ عُبَادَةُ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ بَدْرٍ قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِأَوْلِيَائِهِمْ مِنْ يَهُودَ: آمِنُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِيَوْمٍ مِثْلِ يَوْمِ بَدْرٍ، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ: غَرَّكُمْ أَنْ أَصَبْتُمْ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ، أَمَّا لَوْ أَصْرَرْنَا الْعَزِيمَةَ أَنْ نَسْتَجْمِعَ عَلَيْكُمْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ يَدَانُ بِقِتَالِنَا، فَقَالَ عُبَادَةُ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ: إِنَّهَا فِي الذَّبَائِحِ «مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَتَلَا وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطِيَّةَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يُسارِعُونَ فِيهِمْ فِي وِلَايَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أنزل الله هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَرْتَدُّ مُرْتَدُّونَ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ عَامَّةُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَسَاجِدَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَأَهْلُ الجؤاثا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ

[سورة المائدة (5) : الآيات 57 إلى 63]

وَقَالَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا: نُصْلِي الصَّلَاةَ وَلَا نُزَكِّي وَاللَّهِ لَا تُغْصَبُ أَمْوَالُنَا، فَكُلِّمَ أَبَا بَكْرٍ فِي ذَلِكَ لِيَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَوْ قَدْ فَقِهُوا أَدُّوا الزَّكَاةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْءٍ جَمَعَهُ اللَّهُ وَلَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَصَائِبَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلُوا حَتَّى أَقَرُّوا بِالْمَاعُونِ وَهُوَ الزَّكَاةُ. قَالَ قَتَادَةُ: فَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الْآيَةَ، قَالَ عُمَرُ: أَنَا وَقَوْمِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا بَلْ هَذَا وَقَوْمُهُ» يَعْنِي أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَيَّاضٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ قَوْمُ هَذَا» ، وَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ فِي جَمْعِهِ لِحَدِيثِ شُعْبَةَ وَالْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: تُلِيَتْ عند النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ الْآيَةَ، فَقَالَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «قَوْمُكَ يَا أَبَا مُوسَى أَهْلُ الْيَمَنِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْكُنَى وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ الْآيَةَ، فَقَالَ: «هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ثم كندة ثم السّكون ثم تحبيب» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ثُمَّ مِنْ كِنْدَةَ ثُمَّ مِنَ السَّكُونِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقَادِسِيَّةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ فَرَحَّبَ بِي، ثُمَّ تَلَا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ الْآيَةَ، ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبَيْ وَقَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أَهْلَ الْيَمَنِ، ثَلَاثًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي الْمُتَّفَقِ وَالْمُفْتَرَقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلِيٌّ بِخَاتَمٍ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِلسَّائِلِ: مَنْ أَعْطَاكَ هَذَا الْخَاتَمَ؟ قَالَ: ذَاكَ الرَّاكِعُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَمَّارٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ فيه مجاهيل عنه نحوه. [سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 63] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ (63)

قَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً هذا النهي عن موالاة المتخذين الدين هزؤا وَلَعِبًا يَعُمُّ كُلَّ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ ذَلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْبَيَانُ بِقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَى آخِرِهِ لَا يُنَافِي دُخُولَ غَيْرِهِمْ تَحْتَ النَّهْيِ إِذَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ الَّتِي هِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى النَّهْيِ. قَوْلُهُ: وَالْكُفَّارَ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِالْجَرِّ عَلَى تَقْدِيرِ مِنْ أَيْ وَمِنَ الْكُفَّارِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ وَمِنَ الْكُفَّارِ وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُمَا بِالنَّصْبِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ أَوْضَحُ وَأَبَيْنُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: لَوْلَا اتِّفَاقُ الْجَمَاعَةِ عَلَى النَّصْبِ لَاخْتَرْتُ الْخَفْضَ لِقُوَّتِهِ فِي الْإِعْرَابِ وَفِي الْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ بِالْكُفَّارِ هُنَا الْمُشْرِكُونَ، وَقِيلَ الْمُنَافِقُونَ وَاتَّقُوا اللَّهَ بِتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ، وَالنِّدَاءُ: الدُّعَاءُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ، وَنَادَاهُ مُنَادَاةً وَنِدَاءً: صَاحَ بِهِ، وَتَنَادَوْا: أَيْ نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَتَنَادَوْا: أَيْ جَلَسُوا فِي النَّادِي، وَالضَّمِيرُ فِي اتَّخَذُوها لِلصَّلَاةِ: أَيْ اتَّخَذُوا صَلَاتَكُمْ هُزُؤًا وَلَعِبًا وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْمُنَادَاةِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِنَادَيْتُمْ. قِيلَ: وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُ الْأَذَانِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْجُمُعَةِ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ «1» فَهُوَ خَاصٌّ بِنِدَاءِ الْجُمُعَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كَوْنِ الْأَذَانِ وَاجِبًا أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَفِي أَلْفَاظِهِ وَهُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاطِنِهِ. قَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ أَيْ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ، لأن الهزء وَاللَّعِبَ شَأْنُ أَهْلِ السَّفَهِ وَالْخِفَّةِ وَالطَّيْشِ. قَوْلُهُ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا يُقَالُ: نَقِمْتُ عَلَى الرَّجُلِ بِالْكَسْرِ فَأَنَا نَاقِمٌ: إِذَا عِبْتَ عَلَيْهِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: نَقِمْتُ بِالْكَسْرِ لُغَةً، وَنَقَمْتُ الْأَمْرَ أَيْضًا وَنَقِمْتُ: إِذَا كَرِهْتَهُ، وَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ: أَيْ عَاقَبَهُ، وَالِاسْمُ مِنْهُ النِّقْمَةُ، وَالْجَمْعُ نَقِمَاتٌ، مِثْلَ كَلِمَةٍ وَكَلِمَاتٍ، وَإِنْ شِئْتَ سَكَّنْتَ الْقَافَ وَنَقَلْتَ حَرَكَتَهَا إِلَى النُّونِ، وَالْجَمْعُ نِقَمٌ مِثْلَ نِعْمَةٍ وَنِعَمٍ وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَسْخَطُونَ وَقِيلَ: يُنْكِرُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ: مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: هَلْ تَعِيبُونَ أَوْ تَسْخَطُونَ أَوْ تُنْكِرُونَ أَوْ تَكْرَهُونَ مِنَّا إِلَّا إِيمَانَنَا بِاللَّهِ وَبِكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ بِأَنَّا عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ بِتَرْكِكُمْ لِلْإِيمَانِ وَالْخُرُوجِ عَنِ امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْ آمَنَّا: أَيْ مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا الْجَمْعَ بَيْنَ إِيمَانِنَا وَبَيْنَ تَمَرُّدِكُمْ وَخُرُوجِكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَالتَّمَرُّدَ وَالْخُرُوجَ مِنْ جِهَةِ النَّاقِمِينَ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى تقدير محذوف: أي واعتقادنا أن أكثركم

_ (1) . الجمعة: 9.

فَاسِقُونَ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهَ: أَنْ آمَنَّا هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، فَيَكُونُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ عَطْفَ الْعِلَّةِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا لِأَنْ آمَنَّا، وَلِأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ لِقِلَّةِ إِنْصَافِكُمْ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ وَقِيلَ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى مَعَ: أَيْ مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا الْإِيمَانَ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ هَلْ تَنْقِمُونَ: أَيْ وَلَا تَنْقِمُونَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ وَقِيلَ: هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ وَفِسْقُكُمْ مَعْلُومٌ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَقُرِئَ بِكَسْرِ إِنَّ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ فَتَكُونُ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً. قَوْلُهُ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ أَنَّ فِيهِمْ مِنَ الْعَيْبِ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْعَيْبِ، وَهُوَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ الْمُوجِبِ لِلَعْنِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَمَسْخِهِ وَالْمَعْنَى: هَلْ أُنْبِئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ نقمتكم عَلَيْنَا أَوْ بِشَرٍّ مِمَّا تُرِيدُونَ لَنَا مِنَ الْمَكْرُوهِ أَوْ بِشَرٍّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ بِشَرٍّ مِنْ دِينِهِمْ. وَقَوْلُهُ: مَثُوبَةً أَيْ جَزَاءً ثَابِتًا، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْخَيْرِ كَمَا أَنَّ الْعُقُوبَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالشَّرِّ. وَوَضُعِتْ هُنَا مَوْضِعَ الْعُقُوبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنْ بِشَرٍّ. وَقَوْلُهُ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مَعَ تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هُوَ لَعْنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أَوْ هُوَ دِينُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بَدَلًا مِنْ شَرٍّ. قَوْلُهُ: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ أَيْ مَسَخَ بَعْضَهُمْ قِرَدَةً وَبَعْضَهُمْ خَنَازِيرَ وَهُمُ الْيَهُودُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَسَخَ أَصْحَابَ السَّبْتِ قِرَدَةً، وَكُفَّارَ مَائِدَةِ عِيسَى مِنْهُمْ خَنَازِيرَ. قَوْلُهُ: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ قَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الْبَاءِ مِنْ عَبَدَ وَكَسْرِ التَّاءِ مِنَ الطَّاغُوتَ أَيْ جَعَلَ مِنْهُمْ عَبُدَ الطَّاغُوتِ بِإِضَافَةِ عَبُدِ إِلَى الطَّاغُوتِ. وَالْمَعْنَى: وَجَعَلَ مِنْهُمْ مَنْ يُبَالِغُ فِي عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، لِأَنَّ فَعِلَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، كَحَذِرَ وَفَطِنَ لِلتَّبْلِيغِ فِي الْحَذَرِ وَالْفِطْنَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْبَاءِ مِنْ عَبَدَ وَفَتْحِ التَّاءِ مِنَ الطَّاغُوتَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلٍ مَاضٍ وَهُوَ غَضِبَ وَلَعَنَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ: أَيْ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَجَعَلَ مِنْهُمْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مِنْ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُبُدَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْبَاءِ كَأَنَّهُ جَمْعُ عَبْدٍ، كَمَا يُقَالُ: سَقْفٌ وَسُقُفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ عَبِيدٍ كَرَغِيفٍ وَرُغُفٍ، أَوْ جَمْعُ عَابِدٍ كَبَازِلٍ وَبُزُلٍ. وَقَرَأَ أَبُو وَاقِدٍ «وَعُبَّادَ» جَمْعُ عَابِدٍ لِلْمُبَالَغَةِ، كَعَامِلٍ وَعُمَّالٍ. وَقَرَأَ الْبَصْرِيُّونَ وَعُبَّادَ جَمْعُ عَابِدٍ أَيْضًا، كَقَائِمٍ وَقِيَامٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ عَبْدٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّقَاشِيُّ وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالتَّقْدِيرُ وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ. وَقَرَأَ عَوْنٌ الْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ بُرَيْدَةَ: «وَعَابِدَ الطَّاغُوتِ» عَلَى التَّوْحِيدِ. وَرُوِيَ عن ابن مسعود وأبيّ أنهما قرءا وَعَبَدَةَ الطَّاغُوتِ وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ «وَأَعْبُدَ الطَّاغُوتِ» مِثْلَ كَلْبٍ وَأَكْلُبٍ. وَقُرِئَ وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ عَطْفًا عَلَى الْمَوْصُولِ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، وَالطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ أَوِ الْكَهَنَةُ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا قَدْ تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ: أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِالصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَجُعِلَتِ الشَّرَارَةُ لِلْمَكَانِ، وَهِيَ لِأَهْلِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْنَادُ مَجَازِيًّا. قَوْلُهُ: وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ مَعْطُوفٌ عَلَى شرّ، أي

هُمْ أَضَلُّ مِنْ غَيْرِهِمْ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالتَّفْضِيلُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلزِّيَادَةِ مُطْلَقًا أَوْ لِكَوْنِهِمْ أَشَرُّ وَأَضَلُّ مِمَّا يُشَارِكُهُمْ فِي أَصْلِ الشَّرَارَةِ والضلال. قوله: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا أَيْ إِذَا جَاءُوكُمْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ. قَوْلُهُ: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ جُمْلَتَانِ حَالِيَّتَانِ: أَيْ جَاءُوكُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ قَدْ دَخَلُوا عِنْدَكَ مُتَلَبِّسِينَ بِالْكُفْرِ وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ مُتَلَبِّسِينَ بِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ مَا سَمِعُوا مِنْكَ، بَلْ خَرَجُوا كَمَا دَخَلُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ عِنْدَكَ مِنَ الْكُفْرِ، وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَالُوا: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ «1» . قوله: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْيَهُودِ أو إلى الطائفتين جميعا ويُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ على أن الرؤية بَصَرِيَّةٌ أَوْ هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتَرَى عَلَى أَنَّهَا قَلْبِيَّةٌ، وَالْمُسَارَعَةُ: الْمُبَادَرَةُ، وَالْإِثْمُ: الْكَذِبُ أَوِ الشِّرْكُ أَوِ الْحَرَامُ، وَالْعُدْوَانُ: الظُّلْمُ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْغَيْرِ أَوْ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الذُّنُوبِ، وَالسُّحْتُ: الْحَرَامُ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْإِثْمَ بِالْحَرَامِ يَكُونُ تَكْرِيرُهُ لِلْمُبَالِغَةِ، وَالرَّبَّانِيُّونَ عُلَمَاءُ النَّصَارَى، وَالْأَحْبَارُ: عُلَمَاءُ الْيَهُودِ وَقِيلَ: الْكُلُّ مِنَ الْيَهُودِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهِمْ ثُمَّ وَبَّخَ عُلَمَاءَهُمْ فِي تَرْكِهِمْ لِنَهْيِهِمْ فَقَالَ: لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ وَهَذَا فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَبْلُغُ دَرَجَةَ الصُّنْعِ حَتَّى يَتَدَرَّبَ فِيهِ صَاحِبُهُ، وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ: سَيْفٌ صَنِيعٌ: إِذَا جَوَّدَ عَامِلُهُ عَمَلَهُ، فَالصُّنْعُ هُوَ الْعَمَلُ الْجَيِّدُ لَا مُطْلَقُ الْعَمَلِ، فَوَبَّخَ سُبْحَانَهُ الْخَاصَّةَ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ التَّارِكُونَ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ وَأَشَدُّ مِنْ تَوْبِيخِ فَاعِلِ الْمَعَاصِي، فَلْيَفْتَحِ الْعُلَمَاءُ لِهَذِهِ الْآيَةِ مَسَامِعَهُمْ وَيُفْرِجُوا لَهَا عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِمَا فِيهِ الْبَيَانُ الشَّافِي لَهُمْ بِأَنَّ كَفَّهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي مَعَ تَرْكِ إِنْكَارِهِمْ عَلَى أَهْلِهَا لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مَنْ جُوعٍ، بَلْ هُمْ أَشَدُّ حَالًا وَأَعْظَمُ وَبَالًا مِنَ الْعُصَاةِ، فَرَحِمَ اللَّهُ عَالِمًا قَامَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ فَرِيضَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فَهُوَ أَعْظَمُ مَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَوْجَبُ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ النُّهُوضُ بِهِ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ فِيكَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَعِنَّا عَلَى ذَلِكَ وَقَوِّنَا عَلَيْهِ وَيَسِّرْهُ لَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ تَعَدَّى حُدُودَكَ وَظَلَمَ عِبَادَكَ، إِنَّهُ لَا نَاصِرَ لَنَا سِوَاكَ وَلَا مُسْتَعَانَ غَيْرُكَ، يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عباس قال: وكان رفاعة ابن زيد بن التابوت وسويد بْنُ الْحَارِثِ قَدْ أَظْهَرَا الْإِسْلَامَ وَنَافَقَا، وَكَانَ رجال من المسلمين يوادّونهما، فأنزل الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً قَالَ: كَانَ منادي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَادَى بِالصَّلَاةِ فَقَامَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: قَدْ قَامُوا لَا قَامُوا، فَإِذَا رَأَوْهُمْ رَكَعُوا وَسَجَدُوا اسْتَهْزَءُوا بِهِمْ وَضَحِكُوا مِنْهُمْ. قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ تَاجِرًا إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي يُنَادِي بِالْأَذَانِ قَالَ: أَحْرَقَ اللَّهُ الْكَاذِبَ قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَتْ جَارِيَتُهُ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ، فَطَارَتْ شرارة منها في البيت فأحرقته.

_ (1) . آل عمران: 72.

[سورة المائدة (5) : الآيات 64 إلى 66]

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى فَذَكَرَ نَحْوَ قِصَّةِ الرَّجُلِ الْيَهُودِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: أتى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالَ: «أُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ، فَلَمَّا ذَكَرَ عِيسَى جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَقَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِعِيسَى وَلَا نُؤْمِنُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَى قَوْلِهِ: فاسِقُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ قَالَ: مُسِخَتْ مِنْ يَهُودَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَانَتِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ أَنْ يُمْسَخُوا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَكَانُوا مِمَّا خُلِقَ مِنَ الْأُمَمِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ هُمَا مِمَّا مَسَخَ اللَّهُ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا، أَوْ قَالَ: لَمْ يَمْسَخْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا وَلَا عَاقِبَةً، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا الْآيَةَ، قَالَ أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ: كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُونَهُ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ رَاضُونَ بِالَّذِي جَاءَ بِهِ، وَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِضَلَالَتِهِمْ وَبِالْكُفْرِ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ بِذَلِكَ وَيَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَهُودًا، يَقُولُ: دَخَلُوا كُفَّارًا وَخَرَجُوا كُفَّارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ قَالَ: يَصْنَعُونَ وَيَعْمَلُونَ وَاحِدٌ، قَالَ: لِهَؤُلَاءِ حِينَ لَمْ يَنْتَهُوا كَمَا قَالَ لِهَؤُلَاءِ حِينَ عَمِلُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ قَالَ: فَهَلَّا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ؟ وَهُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ تَوْبِيخًا مِنْ هَذِهِ الآية لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ نَحْوَهُ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا حَاجَةَ لنا في بسطها هنا. [سورة المائدة (5) : الآيات 64 الى 66] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)

قَوْلُهُ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ الْيَدُ عِنْدَ الْعَرَبِ تُطْلَقُ عَلَى الْجَارِحَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً «1» وَعَلَى النِّعْمَةِ، يَقُولُونَ كَمْ يَدٌ لِي عِنْدَ فُلَانٍ وَعَلَى الْقُدْرَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أَوْ عَلَى التَّأْيِيدِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي» وَتُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَالْعَرَبُ تُطْلَقُ غُلُّ الْيَدِ عَلَى الْبُخْلِ وَبَسْطُهَا عَلَى الْجُودِ مَجَازًا، وَلَا يُرِيدُونَ الْجَارِحَةَ كَمَا يَصِفُونَ الْبَخِيلَ بِأَنَّهُ جَعْدُ الْأَنَامِلِ، وَمَقْبُوضُ الْكَفِّ، ومنه قوله الشَّاعِرِ: كَانَتْ خُرَاسَانُ أَرْضًا إِذْ يَزِيدُ بِهَا ... وَكُلُّ بَابٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَفْتُوحُ فَاسْتُبْدِلَتْ بَعْدَهُ جَعْدًا أَنَامِلُهُ ... كَأَنَّمَا وَجْهُهُ بِالْخَلِّ مَنْضُوحُ فَمُرَادُ الْيَهُودُ هُنَا، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، أَنَّ اللَّهَ بَخِيلٌ، فَأَجَابَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دُعَاءً عَلَيْهِمْ بِالْبُخْلِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَيْهِمْ مُطَابِقًا لِمَا أَرَادُوهُ بِقَوْلِهِ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ غُلُّ أَيْدِيهِمْ حَقِيقَةً بِالْأَسْرِ فِي الدُّنْيَا أَوْ بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُقَوِّي الْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَنَّ الْبُخْلَ قَدْ لَزِمَ الْيَهُودَ لُزُومَ الظِّلِّ لِلشَّمْسِ فَلَا تَرَى يَهُودِيًّا، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، إِلَّا وَهُوَ مِنْ أَبْخَلِ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَيْضًا الْمَجَازُ أَوْفَقُ بِالْمَقَامِ لِمُطَابَقَتِهِ لِمَا قَبْلَهُ. قَوْلُهُ: وَلُعِنُوا بِما قالُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ: أَيْ أُبْعِدُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، ثُمَّ رَدَّ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أَيْ بَلْ هُوَ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْجُودِ، وَذَكَرَ الْيَدَيْنِ مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا إِلَّا الْيَدَ الْوَاحِدَةَ مُبَالَغَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِإِثْبَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ السَّخَاءِ، فَإِنَّ نِسْبَةَ الْجُودِ إِلَى الْيَدَيْنِ أَبْلَغُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى الْيَدِ الْوَاحِدَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْإِضْرَابِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ: أَيْ كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ نِعْمَةُ الدُّنْيَا الظَّاهِرَةُ وَنِعْمَتُهَا الْبَاطِنَةُ وَقِيلَ: نِعْمَةُ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَقِيلَ: الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ بَلْ يَدَاهُ بَسِيطَتَانِ: أَيْ مُنْطَلِقَتَانِ كَيْفَ يَشَاءُ. قَوْلُهُ: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِكَمَالِ جُودِهِ سُبْحَانَهُ: أَيْ إِنْفَاقُهُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ، فَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ، وَإِنْ شَاءَ قَتَّرَ، فَهُوَ الْبَاسِطُ الْقَابِضُ فَإِنْ قَبَضَ كَانَ ذَلِكَ لِمَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ الْبَاهِرَةُ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ، فَإِنَّ خَزَائِنَ مُلْكِهِ لَا تَفْنَى وَمَوَادَّ جُودِهِ لَا تَتَنَاهَى. قَوْلُهُ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ إِلَخْ، اللَّامُ هِيَ لَامُ الْقَسَمِ: أَيْ لَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْحَسَنَةِ طُغْياناً وَكُفْراً أَيْ طُغْيَانًا إِلَى طُغْيَانِهِمْ وَكُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ. قَوْلُهُ: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ أَيْ بَيْنَ الْيَهُودِ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ أَوْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. قَوْلُهُ: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أَيْ كُلَّمَا جَمَعُوا لِلْحَرْبِ جَمْعًا، وَأَعْدُّوا لَهُ عُدَّةً، شَتَّتَ اللَّهُ جَمْعَهُمْ، وَذَهَبَ بِرِيحِهِمْ فَلَمْ يَظْفَرُوا بِطَائِلٍ وَلَا عَادُوا بِفَائِدَةٍ، بَلْ لَا يَحْصُلُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى الْغَلَبِ لَهُمْ، وَهَكَذَا لَا يَزَالُونَ يُهَيِّجُونَ الْحُرُوبَ وَيَجْمَعُونَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُبْطِلُ اللَّهُ ذَلِكَ، وَالْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى اسْتِعَارَةٍ بَلِيغَةٍ، وَأُسْلُوبٍ بَدِيعٍ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَيْ يَجْتَهِدُونَ فِي فِعْلِ مَا فِيهِ فَسَادٌ، وَمِنْ أَعْظَمِهِ مَا يُرِيدُونَهُ مِنْ إِبْطَالِ الْإِسْلَامِ وَكَيْدِ أَهْلِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّارِ هُنَا الْغَضَبُ:

_ (1) . ص: 44.

أَيْ كُلَّمَا أَثَارُوا فِي أَنْفُسِهِمْ غَضَبًا أَطْفَأَهُ اللَّهُ بِمَا جَعَلَهُ مِنَ الرُّعْبِ فِي صُدُورِهِمْ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ الْمَضْرُوبَتَيْنِ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ إِنْ كَانَتِ اللَّامُ لِلْجِنْسِ فَهُمْ دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ فَوَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِبَيَانِ شِدَّةِ فَسَادِهِمْ وَكَوْنِهِمْ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ. قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا أَيْ لَوْ أَنَّ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْجِنْسِ آمَنُوا الْإِيمَانَ الَّذِي طَلَبَهُ الله منهم، ومن أهمّه الإيمان بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أُمِرُوا بِذَلِكَ فِي كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ وَاتَّقَوْا الْمَعَاصِيَ الَّتِي مِنْ أَعْظَمِهَا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَالْجُحُودِ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً مُتَنَوِّعَةً وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أَيْ أَقَامُوا مَا فِيهِمَا مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ: وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ مِنْ سَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْقُرْآنُ فَإِنَّهَا كُلَّهَا وَإِنْ نَزَلَتْ عَلَى غَيْرِهِمْ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ مُتَعَبِّدِينَ بِمَا فِيهَا لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ذَكَرَ فَوْقَ وَتَحْتَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَيَسُّرِ أسباب الرزق لهم وكثرتهم وَتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا. قَوْلُهُ: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ جَمِيعُهُمْ مُتَّصِفُونَ بالأوصاف السابقة، أو البعض منهم دُونَ الْبَعْضِ، وَالْمُقْتَصِدُونَ مِنْهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمَنْ تَبِعَهُ وَطَائِفَةٍ مِنَ النَّصَارَى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ وَهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ الْمُتَمَرِّدُونَ عَنْ إِجَابَةِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ النَّبَّاشُ بْنُ قَيْسٍ: إِنَّ رَبَّكَ بَخِيلٌ لَا يُنْفِقُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصَ الْيَهُودِيِّ. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أَيْ بَخِيلَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً قَالَ: حَمَلَهُمْ حَسَدُ مُحَمَّدٍ وَالْعَرَبِ عَلَى أَنْ تَرَكُوا الْقُرْآنَ وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَدِينِهِ وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ قَالَ: حَرْبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ: كُلَّمَا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَرَّقَهُ اللَّهُ، وَأَطْفَأَ حَدَّهُمْ وَنَارَهُمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا قَالَ: آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَاتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ قَالَ: الْعَمَلَ بِهِمَا، وَأَمَّا مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ فَأَرْسَلْتُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا، وَأَمَّا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يَقُولُ: أُنْبِتُ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ رِزْقِي مَا يُغْنِيهِمْ. مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَهُمْ مَسْلَمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ يَعْنِي لَأُرْسِلُ

[سورة المائدة (5) : آية 67]

عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ مِدْرَارًا وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قَالَ: تُخْرِجُ الْأَرْضُ مِنْ بَرَكَتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: الْأُمَّةُ الْمُقْتَصِدَةُ: الَّذِينَ لَا هُمْ فَسَقُوا فِي الدِّينِ وَلَا هُمْ غَلَوْا. قَالَ: وَالْغُلُوُّ: الرَّغْبَةُ. وَالْفِسْقُ: التَّقْصِيرُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ يَقُولُ: مُؤْمِنَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ حَدِيثًا، قَالَ: ثُمَّ حَدَّثَهُمُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «تَفَرَّقَتْ أُمَّةُ مُوسَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ مِنْهَا فِي النَّارِ وَتَفَرَّقَتْ أُمَّةُ عِيسَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ مِنْهَا فِي النَّارِ، تَعْلُو أُمَّتِي عَلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ مِنْهَا فِي النَّارِ، قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجَمَاعَاتُ الْجَمَاعَاتُ» . قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ زَيْدٍ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا فِيهِ قُرْآنًا، قَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ وَتَلَا أَيْضًا وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ «1» يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَا لَفْظُهُ: وَحَدِيثُ افْتِرَاقِ الْأُمَمِ إِلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ مَرْوِيٌّ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، انْتَهَى. قُلْتُ: أَمَّا زِيَادَةُ كَوْنِهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَدْ ضَعَّفَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، بَلْ قال ابن حزم: إنها موضوعة. [سورة المائدة (5) : آية 67] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) الْعُمُومُ الْكَائِنُ فِي مَا أُنْزِلَ يُفِيدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَلَّى الله عليه وسلّم أن يبلغ جميع ما أنزله اللَّهُ إِلَيْهِ لَا يَكْتُمُ مِنْهُ شَيْئًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسِرَّ إِلَى أَحَدٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ شَيْئًا، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ كَذَبَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السِّوَائِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الْجَمِيعِ بَلْ كَتَمْتَ وَلَوْ بَعْضًا مِنْ ذَلِكَ فما بلّغت رسالاته. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا شُعْبَةَ رِسالَتَهُ عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الشَّامِ رِسَالَاتِهِ عَلَى الْجَمْعِ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْجَمْعُ أَبْيَنُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ شَيْئًا فَشَيْئًا، ثُمَّ يُبَيِّنُهُ، انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ نَفْيَ التَّبْلِيغِ عَنِ الرِّسَالَةِ الْوَاحِدَةِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِهِ عَنِ الرِّسَالَاتِ، كَمَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: هَلْ بَلَّغْتُ؟ فَيَشْهَدُونَ لَهُ

_ (1) . الأعراف: 181.

بِالْبَيَانِ، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِهِ خَيْرًا ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَعَدَهُ بِالْعِصْمَةِ مِنَ النَّاسِ دَفْعًا لِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ حَامِلٌ عَلَى كَتْمِ الْبَيَانِ، وَهُوَ خَوْفُ لِحُوقِ الضَّرَرِ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ بَيَّنَ لِعِبَادِ اللَّهِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ، ثُمَّ حَمَلَ مَنْ أَبَى مِنَ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ طَوْعًا أَوْ كُرْهًا وَقَتَلَ صَنَادِيدَ الشِّرْكِ وَفَرَّقَ جُمُوعَهُمْ وَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ، وَكَانَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَأَسْلَمَ كُلُّ مَنْ نَازَعَهُ مِمَّنْ لَمْ يَسْبِقْ فِيهِ السَّيْفُ الْعَذَلَ حَتَّى قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ لِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَأَكَابِرِهِمْ: مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟ فَقَالُوا: أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ فَقَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ، وَهَكَذَا مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الْعِنَايَةُ مِنْ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَعْصِمُهُ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ، إِنْ قَامَ بِبَيَانِ حُجَجِ اللَّهِ وَإِيضَاحِ بَرَاهِينِهِ، وَصَرَخَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ مَنْ ضَادَّ اللَّهَ وَعَانَدَهُ وَلَمْ يَمْتَثِلْ لِشَرْعِهِ كَطَوَائِفِ الْمُبْتَدَعَةِ، وقد رأينا من هذا في أنفسنا وسمعنا منه فِي غَيْرِنَا مَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ إِيمَانًا وَصَلَابَةً فِي دِينِ اللَّهِ وَشِدَّةَ شَكِيمَةٍ فِي الْقِيَامِ بِحُجَّةِ اللَّهِ، وَكُلُّ مَا يَظُنُّهُ مُتَزَلْزِلُو الْأَقْدَامِ وَمُضْطَرِبُو الْقُلُوبِ مِنْ نُزُولِ الضَّرَرِ بِهِمْ وَحُصُولِ المحن عليهم فهو خيالات مختلفة وَتَوَهُّمَاتٌ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ كُلَّ مِحْنَةٍ فِي الظَّاهِرِ هي منحة فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ «1» قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ جُمْلَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا سَبَقَ مِنَ الْعِصْمَةِ أَيْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْعَلُ لَهُمْ سَبِيلًا إلا الْإِضْرَارِ بِكَ، فَلَا تَخَفْ وَبَلِّغْ مَا أُمِرْتَ بِتَبْلِيغِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّمَا أَنَا وَاحِدٌ كَيْفَ أَصْنَعُ؟ يَجْتَمِعُ عَلَيَّ النَّاسُ، فَنَزَلَتْ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بِرِسَالَتِهِ فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعًا، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ، فَوَعَدَنِي لأبلغن أو ليعذّبني، فأنزلت يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ يَعْنِي إِنْ كَتَمْتَ آيَةً مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: نزلت هذه الآية يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ- إِنَّ عَلِيًّا مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ- وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَنْتَرَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فجاءه رجل فقال: إن ناسا يأتونا فيخبرونا أَنَّ عِنْدَكُمْ شَيْئًا لَمْ يُبْدِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَاللَّهِ مَا وَرَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ آيَةٍ أُنْزِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ أشدّ عليك؟ فقال: كُنْتُ بِمِنًى أَيَّامَ مَوْسَمٍ، فَاجْتَمَعَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَأَفْنَاءُ النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ، فَأُنْزِلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ فقال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةَ، قَالَ: فَقُمْتُ عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَنَادَيْتُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ يَنْصُرُنِي عَلَى أَنْ أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ، أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ إليكم،

_ (1) . ق: 37.

[سورة المائدة (5) : الآيات 68 إلى 75]

تَفْلَحُوا وَتَنْجَحُوا وَلَكُمُ الْجَنَّةُ، قَالَ: فَمَا بَقِيَ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ وَلَا صَبِيٌّ إِلَّا يَرْمُونَ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ وَيَبْزُقُونَ فِي وَجْهِي وَيَقُولُونَ: كَذَّابٌ صَابِئٌ، فَعَرَضَ عَلَيَّ عَارِضٌ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ كَمَا دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ بِالْهَلَاكِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» ، فَجَاءَ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ وَطَرَدَهُمْ عَنْهُ. قَالَ الْأَعْمَشُ: فَبِذَلِكَ يَفْتَخِرُ بَنُو الْعَبَّاسِ وَيَقُولُونَ: فِيهِمْ نَزَلَتْ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» هوي النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَبَا طَالِبٍ، وَشَاءَ اللَّهُ عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ» . قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بَنِي أَنْمَارٍ نَزَلَ ذَاتَ الرَّقِيعِ بِأَعْلَى نَخْلٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رَأْسِ بِئْرٍ قَدْ دَلَّى رِجْلَيْهِ، فَقَالَ الْوَارِثُ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ: لَأَقْتُلَنَّ مُحَمَّدًا، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: كَيْفَ تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: أَقُولُ لَهُ أَعْطِنِي سَيْفَكَ فَإِذَا أَعْطَانِيهِ قَتَلْتُهُ بِهِ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنِي سَيْفَكَ أَشُمُّهُ «2» ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَرَعَدَتْ يَدُهُ حتى سقط السيف مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَالَ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيدُ، فأنزل الله سبحانه يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَلَمْ يُسَمِّ الرَّجُلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَهُ، وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ. وَقِصَّةُ غَوْرَثِ بْنِ الحارث ثابتة في الصحيح، وهي معروفة مشهورة. [سورة المائدة (5) : الآيات 68 الى 75] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

_ (1) . القصص: 56. (2) . أشمه: أختبره.

قَوْلُهُ: عَلى شَيْءٍ فِيهِ تَحْقِيرٌ وَتَقْلِيلٌ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ: أَيْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ: أَيْ تَعْمَلُوا بِمَا فِيهِمَا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَمْرُكُمْ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَنَهْيُكُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ لَهُمَا. قَوْلُهُ: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ قِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الْكِتَابَيْنِ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ إِقَامَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ غَيْرِ الْكِتَابَيْنِ. قَوْلُهُ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً أَيْ كفرا إلى كفرهم وطغيانا إلى طُغْيَانِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْمُعَانَدَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، وَتَصْدِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِهَا، قَوْلُهُ: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَيْ دَعْ عَنْكَ التَّأَسُّفَ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ وَنَازِلٌ بِهِمْ، وَفِي الْمُتَّبِعِينَ لَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غِنًى لَكَ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ، جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَرْغِيبِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ هادُوا أَيْ دَخَلُوا فِي دِينِ الْيَهُودِ وَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: الرَّفْعُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ، قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ أَيْ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا بُغَاةٌ وأنتم كذلك، ومثله قول ضابئ الْبُرْجُمِيِّ: فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ «1» بِهَا لَغَرِيبُ أَيْ فَإِنِّي لَغَرِيبٌ وَقَيَّارٌ كَذَلِكَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ: إِنَّ «الصَّابِئُونَ» مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي «هادُوا» . قَالَ النَّحَّاسُ: سَمِعْتُ الزَّجَّاجَ يَقُولُ: وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَرْفُوعَ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَكَّدَ. وَثَانِيهُمَا أَنَّ الْمَعْطُوفَ شَرِيكُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: إِنَّ الصَّابِئِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّةِ، وَهَذَا مُحَالٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا جَازَ الرَّفْعُ لِأَنَّ إِنَّ ضَعِيفَةٌ فَلَا تُؤَثِّرُ إِلَّا فِي الِاسْمِ دُونَ الْخَبَرِ، فَعَلَى هَذَا هُوَ عِنْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ، أَوْ عَلَى مَجْمُوعِ إِنَّ وَاسْمِهَا وَقِيلَ: إِنَّ خَبَرَ إِنَّ مُقَدَّرٌ، وَالْجُمْلَةَ الْآتِيَةَ خَبَرٌ الصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى، كَمَا فِي قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ والرأي مختلف

_ (1) . «قيّار» : اسم جمل ضابئ.

وقيل: إِنَّ هُنَا بِمَعْنَى نَعَمْ، فَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ، ومثله قول ابن قيس الرُّقَيَّاتِ: بَكَرَ الْعَوَاذِلُ فِي الصَّبَا ... حِ يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا ... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهْ بِمَعْنَى نَعَمْ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى فِي الْبَقَرَةِ، وَقُرِئَ الصَّابِيُونَ بِيَاءٍ صَرِيحَةٍ تَخْفِيفًا لِلْهَمْزَةِ، وَقُرِئَ: الصَّابُونَ بِدُونِ يَاءٍ، وَهُوَ مِنْ صَبَا يَصْبُو لِأَنَّهُمْ صَبَوْا إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَقُرِئَ وَالصَّابِئِينَ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إن. قوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ مبتدأ خبره فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالْمُبْتَدَأُ وخبره خبر ل إِنَّ، وَدُخُولُ الْفَاءِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْعَائِدُ إِلَى اسْمِ إِنَّ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ آمَنَ بَدَلًا مِنِ اسْمِ إِنَّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَيَكُونَ خَبَرُ إِنَّ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالَّذِينَ آمَنُوا الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَدَّمْنَا: أَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ إِيمَانًا خَالِصًا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، فَهُوَ الَّذِي لَا خَوْفٌ عَلَيْهِ وَلَا حُزْنٌ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالَّذِينَ آمَنُوا جَمِيعَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ: الْمُخْلِصَ وَالْمُنَافِقَ، فَالْمُرَادُ بِمَنْ آمَنَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ الْخَالِصِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَحْدَثَ إِيمَانًا خَالِصًا بَعْدَ نِفَاقِهِ. قَوْلُهُ: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِبَيَانِ بَعْضِ أَفْعَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ بَيَانُ مَعْنَى الْمِيثَاقِ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا لِيُعَرِّفُوهُمْ بِالشَّرَائِعِ وَيُنْذِرُوهُمْ كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ وَقَعَتْ جَوَابًا لِسُؤَالِ نَاسٍ مِنَ الْأَحْبَارِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا فَعَلُوا بِالرُّسُلِ؟ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ عَصَوْهُ. وَقَوْلُهُ: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالِ نَاسٍ عَنِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ فَعَلُوا بِهِمْ؟ فَقِيلَ: فَرِيقًا مِنْهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِضَرَرٍ، وَفَرِيقًا آخَرَ مِنْهُمْ قَتَلُوهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لمراعاة رؤوس الْآيِ، فَمَنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِمَّنْ قَتَلُوهُ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى. قَوْلُهُ: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أَيْ حَسِبَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنْ لَا يَقَعَ مِنَ الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد اعتزازا «1» بقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «2» . قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَكُونُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَحَسِبَ بِمَعْنَى عَلِمَ، لِأَنَّ أَنْ مَعْنَاهَا التَّحْقِيقُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ أَنْ نَاصِبَةٌ لِلْفِعْلِ، وَحَسِبَ بِمَعْنَى الظَّنِّ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالرَّفْعُ عند النحويين في حسب وَأَخَوَاتِهَا أَجْوَدُ، وَمِثْلُهُ: أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبُرْتُ وَأَلَّا يَشْهَدَ اللَّهْوَ أَمْثَالِي «3» قَوْلُهُ فَعَمُوا وَصَمُّوا أَيْ عَمُوا عَنْ إِبْصَارِ الْهُدَى، وَصَمُّوا عَنِ اسْتِمَاعِ الحق، وهذه إشارة إلى ما

_ (1) . في القرطبي اغترارا. (2) . المائدة: 18. [.....] (3) . البيت لامرئ القيس. «بسباسة» : امرأة من بني أسد.

وَقَعَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَقَتْلِ شِعْيَا، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ تَابُوا، فَكَشَفَ عَنْهُمُ الْقَحْطَ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْ قتل يحيى بن زكريا وقصدهم قتل عِيسَى، وَارْتِفَاعُ كَثِيرٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْفِعْلَيْنِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: كَمَا تَقُولُ رَأَيْتُ قَوْمَكَ ثَلَاثَتَهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ: أَيِ الْعُمْيُ وَالصُّمُّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مُرْتَفِعًا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى لغة من قال: أكلوني البراغيث، ومنه قوله الشاعر: ولكن ديافيّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ ... بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَارِبُهُ «1» وَقُرِئَ عَمُوا وَصَمُّوا بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ: أَيْ أَعْمَاهُمُ اللَّهُ وَأَصَمَّهُمْ. قَوْلُهُ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ بَعْضِ فَضَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ هُمْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ: يُقَالُ لَهُمُ: الْيَعْقُوبِيَّةُ وَقِيلَ: هُمُ الْمِلْكَانِيَّةُ، قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلَّ فِي ذَاتِ عِيسَى، فردّ الله عليهم بقوله: وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ الْمَسِيحُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَكَيْفَ يَدَّعُونَ الْإِلَهِيَّةَ لِمَنْ يَعْتَرِفُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ عَبْدٌ مِثْلُهُمْ؟ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ أَنَّ الشِّرْكَ يُوجِبُ تَحْرِيمَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ عِيسَى وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يَنْصُرُونَهُمْ فَيُدْخِلُونَهُمُ الْجَنَّةَ أَوْ يُخَلِّصُونَهُمْ مِنَ النَّارِ. قَوْلُهُ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَهَذَا كَلَامٌ أَيْضًا مُبْتَدَأٌ لِبَيَانِ بَعْضِ مَخَازِيهِمْ، وَالْمُرَادُ بِثَالِثِ ثَلَاثَةٍ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَلِهَذَا يُضَافُ إِلَى ما بعده، ولا يجوز فيه التَّنْوِينُ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا يُنَوَّنُ وَيُنْصَبُ مَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهُ دُونَهُ بِمَرْتَبَةٍ نَحْوَ ثَالِثُ اثْنَيْنِ وَرَابِعُ ثَلَاثَةٍ، وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ هُمُ النَّصَارَى، وَالْمُرَادُ بِالثَّلَاثَةِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَعِيسَى، وَمَرْيَمُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ «2» وهذا هو المراد بقولهم ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ: إِقْنِيمُ «3» الْأَبِ، وَإِقْنِيمُ الِابْنِ، وَإِقْنِيمُ روح وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ كَلَامٌ فِي هَذَا، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ فَقَالَ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ أَيْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: قَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا مَوْجُودَ إِلَّا اللَّهُ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ إِلهٍ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ النَّفْيِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ مِنَ الْكُفْرِ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَمِنْ فِي مِنْهُمْ بَيَانِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ. قَوْلُهُ: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَيْ هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الرِّسَالَةِ، لَا يُجَاوِزُهَا كَمَا زَعَمْتُمْ، وَجُمْلَةُ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صِفَةٌ لِرَسُولٍ: أَيْ مَا هُوَ إِلَّا رَسُولٌ مِنْ جِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِ، وَمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ المعجزات لا يوجب كونه إلها، فقد

_ (1) . البيت للفرزدق. «دياف» : قرية بالشام. «السليط» : الزيت. (2) . المائدة: 116. (3) . في معاجم اللغة: أقنوم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 76 إلى 81]

كَانَ لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ مِثْلُهَا، فَإِنَّ اللَّهَ أَحْيَا الْعَصَا فِي يَدِ مُوسَى، وَخَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ إِحْيَاءَ عِيسَى لِلْمَوْتَى وَوُجُودَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ يُوجِبَانِ كَوْنَهُ إِلَهًا، فَإِنْ كَانَ كَمَا تَزْعُمُونَ إِلَهًا لِذَلِكَ فَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ آلِهَةٌ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ عَطْفٌ عَلَى الْمَسِيحِ: أَيْ وَمَا أُمُّهُ إِلَّا صِدِّيقَةٌ: أَيْ صَادِقَةٌ فِيمَا تَقُولُهُ أَوْ مُصَدِّقَةٌ لِمَا جَاءَ بِهِ وَلَدُهَا مِنَ الرِّسَالَةِ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِلَهِيَّةَ لَهَا، بَلْ هِيَ كَسَائِرِ مَنْ يَتَّصِفُ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنَ النِّسَاءِ. قَوْلُهُ: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ اسْتِئْنَافٌ يَتَضَمَّنُ التَّقْرِيرَ لِمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُمَا كَسَائِرِ أَفْرَادِ الْبَشَرِ: أَيْ مَنْ كَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ كَسَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ فَلَيْسَ بِرَبٍّ، بل وعبد مَرْبُوبٌ وَلَدَتْهُ النِّسَاءُ، فَمَتَى يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ رَبًّا؟ وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ بناسوته لا لاهوته، فَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَاطَ الْإِلَهِ بِغَيْرِ الإله واجتماع الناسوت واللاهوت، لو جاز اختلاط القديم الحادث لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ حَادِثًا، وَلَوْ صَحَّ هَذَا فِي حَقِّ عِيسَى لَصَحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ أَيِ الدَّلَالَاتِ، وَفِيهِ تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ تِلْكَ الْأَوْصَافَ مُسْتَلْزَمَةً لِلْإِلَهِيَّةِ ويغفلون عن كونها موجودة في من لَا يَقُولُونَ بِأَنَّهُ إِلَهٌ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ؟ يُقَالُ: أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ إِذَا صَرَفَهُ. وكرر الأمر بالنظر للمبالغة في العجيب، وجاء ب ثُمَّ لِإِظْهَارِ مَا بَيْنَ الْعَجَبَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عباس قال: جاء نافع ابن حَارِثَةَ وَسَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ وَرَافِعُ بْنُ حَرْمَلَةَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ وَتُؤْمِنُ بِمَا عِنْدَنَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَتَشْهَدُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ حَقٌّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى، وَلَكِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ وَجَحَدْتُمْ مَا فِيهَا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ وَكَفَرْتُمْ مِنْهَا بِمَا أُمِرْتُمْ أَنْ تُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، فَبَرِئْتُ مِنْ إحداثكم» قالوا: فإنا نأخذ بِمَا فِي أَيْدِينَا وَإِنَّا عَلَى الْهُدَى وَالْحَقِّ وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا نَتَّبِعُكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيهم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إِلَى قَوْلِهِ: الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قَالَ: بَلَاءٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ قَالَ: النَّصَارَى يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَكَذَبُوا. أخرج ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَ فِرَقٍ فِي عِيسَى، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ هُوَ اللَّهُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرُوحُهُ، وَهِيَ المقتصدة وهي مسلمة أهل الكتاب. [سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81] قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)

أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ إِلْزَامًا لَهُمْ وَقَطْعًا لَشُبْهَتِهِمْ أَيْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَجَاوِزِينَ إِيَّاهُ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا؟ بَلْ هُوَ عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَمَا جَرَى عَلَى يَدِهِ مِنَ النَّفْعِ، أَوْ دَفْعٍ مِنَ الضُّرِّ، فَهُوَ بِإِقْدَارِ اللَّهِ لَهُ وَتَمْكِينِهِ مِنْهُ، وَأَمَّا هُوَ، فَهُوَ يَعْجِزُ عَنْ أَنْ يَمْلِكَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَهُ لِغَيْرِهِ، وَمَنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ فَكَيْفَ تَتَّخِذُونَهُ إِلَهًا وَتَعْبُدُونَهُ، وَأَيُّ سَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ؟ وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدَّمَ سُبْحَانَهُ الضُّرَّ عَلَى النَّفْعِ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَفَاسِدِ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَيْ كَيْفَ تَعْبُدُونَ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ لِإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ مَسْمُوعٍ وَمَعْلُومٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَضَارُّكُمْ وَمَنَافِعُكُمْ. قَوْلُهُ: تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ لَمَّا أَبْطَلَ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنَ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ نَهَاهُمْ عَنِ الْغُلُوِّ فِي دِينِهِمْ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ لِلْحَدِّ كَإِثْبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لِعِيسَى، كَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى، أَوْ حَطِّهِ عَنْ مَرْتَبَتِهِ الْعَلِيَّةِ كَمَا يَقُولُهُ الْيَهُودُ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ الْغُلُوِّ الْمَذْمُومِ وَسُلُوكِ طَرِيقَةِ الْإِفْرَاطِ أَوِ التَّفْرِيطِ وَاخْتِيَارِهِمَا عَلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ. وغَيْرَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ غُلُوًّا غَيْرَ غُلُوِّ الْحَقِّ، وَأَمَّا الْغُلُوُّ فِي الْحَقِّ بِإِبْلَاغِ كُلِّيَّةِ الْجُهْدِ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ وَاسْتِخْرَاجِ حَقَائِقِهِ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ وَقِيلَ: إِنَّ النَّصْبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ وَقِيلَ: عَلَى الْمُنْقَطِعِ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَهُمْ أَسْلَافُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ طَائِفَتَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: أَيْ قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ وَأَضَلُّوا كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أَيْ عَنْ قَصْدِهِمْ طَرِيقَ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَسْلَافَهُمْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلِ الْبَعْثَةِ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ إِذْ ذَاكَ، وَضَلُّوا مِنْ بَعْدِ الْبَعْثَةِ، إِمَّا بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ جَعَلَ ضَلَالَ مَنْ أَضَلُّوهُ ضَلَالًا لَهُمْ لِكَوْنِهِمْ سَنُّوا لَهُمْ ذَلِكَ وَنَهَجُوهُ لَهُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ كُفْرُهُمْ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ، وَبِالثَّانِي كُفْرُهُمْ بِمَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ. قَوْلُهُ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَيْ فِي الزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بِمَا فَعَلُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي كَاعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ وَكُفْرِهِمْ بِعِيسَى. قَوْلُهُ: ذلِكَ بِما عَصَوْا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى اللَّعْنِ: أَيْ ذَلِكَ اللَّعْنُ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ وَالِاعْتِدَاءِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْمَعْصِيَةَ وَالِاعْتِدَاءَ بِقَوْلِهِ: كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِ فَاعِلِهِ مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوهُ جَمِيعًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَنْهَوْنَ الْعَاصِيَ عَنْ مُعَاوَدَةِ مَعْصِيَةٍ قَدْ فَعَلَهَا، أَوْ تَهَيَّأَ لِفِعْلِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ فَعَلُوا الْمُنْكَرَ بِاعْتِبَارِ حَالَةِ النُّزُولِ لَا حَالَةِ تَرْكِ الْإِنْكَارِ، وَبَيَانُ الْعِصْيَانِ وَالِاعْتِدَاءِ بِتَرْكِ التَّنَاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ لِأَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِوَاجِبِ

النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَدَّى حُدُودَهُ. وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَهَمِّ الْقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَأَجَلِّ الْفَرَائِضِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِهَذَا كَانَ تَارِكُهُ شَرِيكًا لِفَاعِلِ الْمَعْصِيَةِ وَمُسْتَحِقًّا لِغَضَبِ اللَّهِ وَانْتِقَامِهِ كَمَا وَقَعَ لِأَهْلِ السَّبْتِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَسَخَ مَنْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي الْفِعْلِ وَلَكِنْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ، كَمَا مَسَخَ الْمُعْتَدِينَ فَصَارُوا جَمِيعًا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ «1» ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ مُقَبِّحًا لِعَدَمِ التَّنَاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ: لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ أَيْ مِنْ تَرْكِهِمْ لِإِنْكَارِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِنْكَارُهُ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أَيْ مِنَ الْيَهُودِ مِثْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيِ الْمُشْرِكِينَ وَلَيْسُوا عَلَى دِينِهِمْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَيْ سَوَّلَتْ وَزَيَّنَتْ، أَوْ مَا قَدَّمُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ لِيُرَدُّوا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ هُوَ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَيْ مُوجِبٌ سُخْطَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ هُوَ سُخْطُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ على حذف المبتدأ وَقِيلَ هُوَ: أَيْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَدَلٌ مِنْ مَا وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ أَيْ نَبِيِّهُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَيِ الْمُشْرِكِينَ أَوْلِياءَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَرَسُولَهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ وَكِتَابَهُ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ قَدْ نَهَوْهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ أَيْ خَارِجُونَ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ وَعَنِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ يَقُولُ: لَا تَبْتَدِعُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانُوا مِمَّا غَلَوْا فِيهِ أَنْ دَعَوْا لِلَّهِ صَاحِبَةً وَوَلَدًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ قَالَ: يَهُودُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ لَهُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ إِلَى قَوْلِهِ: فاسِقُونَ ثُمَّ قَالَ: كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ يعني الزَّبُورِ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يَعْنِي فِي الْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ فَجُعِلُوا قِرَدَةً، وَعَلَى لِسَانِ عِيسَى فَجُعِلُوا خَنَازِيرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ مَرْفُوعًا: «قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَقَامَ مِائَةٌ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِهِمْ فَأَمَرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الْآيَاتِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أبي

_ (1) . ق: 37.

[سورة المائدة (5) : الآيات 82 إلى 86]

حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ قَالَ: مَا أَمَرْتُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْخَرَائِطِيُّ فِي مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَضَعَّفَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاكُمْ وَالزِّنَا، فَإِنَّ فِيهِ سِتَّ خِصَالٍ: ثَلَاثٌ فِي الدُّنْيَا وَثَلَاثٌ فِي الْآخِرَةِ فَأَمَّا الَّتِي فِي الدُّنْيَا: فَذَهَابُ الْبَهَاءِ، وَدَوَامُ الْفَقْرِ، وَقِصَرُ الْعُمْرِ وَأَمَّا الَّتِي فِي الْآخِرَةِ: فَسَخَطُ اللَّهِ، وَسُوءُ الْحِسَابِ، وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ قال: المنافقون. [سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) قَوْلُهُ: لَتَجِدَنَّ إِلَخْ. هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لما قبلها مِنْ تَعْدَادِ مَسَاوِئِ الْيَهُودِ وَهَنَاتِهِمْ، وَدُخُولُ لَامِ الْقَسَمِ عَلَيْهَا يَزِيدُهَا تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ كَمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّ الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، أَشَدَّ جَمِيعِ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَصْلَبَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ النَّصَارَى أَقْرَبُ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّامُ فِي لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً لِعَدَاوَةٍ وَمَوَدَّةٍ وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِعَدَاوَةٍ وَمَوَدَّةٍ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى كَوْنِهِمْ أَقْرَبَ مَوَدَّةً، وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ، وَهُوَ جَمَعُ قِسٍّ وَقِسِّيسٍ قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَالْقِسِّيسُ: الْعَالِمُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَسَّ: إِذَا تَتَبَّعَ الشَّيْءَ وَطَلَبَهُ. قَالَ الرَّاجِزُ» : يُصْبِحْنَ عَنْ قَسِّ الْأَذَى غَوَافِلَا وَتَقَسَّسَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِاللَّيْلِ تَسْمِعْتُهَا. وَالْقَسُّ: النَّمِيمَةُ. وَالْقَسُّ أَيْضًا: رَئِيسُ النَّصَارَى فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَجَمْعُهُ قُسُوسٌ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْقِسِّيسُ: مِثْلَ الشَّرِّ وَالشِّرِّيرِ، وَيُقَالُ فِي جَمْعِ قِسِّيسٍ تكسيرا قساوسة بإبدال

_ (1) . هو رؤبة بن العجاج.

أحد السينين واوا، والأصل قساسسة، فَالْمُرَادُ بِالْقِسِّيسِينَ فِي الْآيَةِ: الْمُتَّبِعُونَ لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ، وَهُوَ إِمَّا عَجَمِيٌّ خَلَطَتْهُ الْعَرَبُ بِكَلَامِهَا، أَوْ عَرَبِيٌّ. وَالرُّهْبَانُ: جَمْعُ رَاهِبٍ كَرُكْبَانٍ وَرَاكِبٍ، وَالْفِعْلُ رَهِبَ اللَّهَ يَرْهَبُهُ: أَيْ خَافَهُ. وَالرَّهْبَانِيَّةُ وَالتَّرَهُّبُ: التَّعَبُّدُ فِي الصَّوَامِعِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَدْ يَكُونُ رُهْبَانٌ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُجْمَعُ رهبان إذا كان للمفرد: رهابنة وَرَهَابِينُ كَقُرْبَانٍ وَقَرَابِينَ. وَقَدْ قَالَ جَرِيرٌ فِي الجمع: رهبان مدين لو رأوك تنزّلوا «1» ..... وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي اسْتِعْمَالِ رُهْبَانٍ مُفْرَدًا: لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ فِي الْجَبَلِ ... لَانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يسعى ويصل «2» ثُمَّ وَصَفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ قَوْلِ الْحَقِّ، بَلْ هُمْ مُتَوَاضِعُونَ، بِخِلَافِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أَيْ تَمْتَلِئُ فَتَفِيضُ، لِأَنَّ الْفَيْضَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الِامْتِلَاءِ، جَعَلَ الْأَعْيُنَ تَفِيضُ، وَالْفَائِضُ: إِنَّمَا هُوَ الدَّمْعُ قَصْدًا لِلْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِمْ دَمَعَتْ عَيْنُهُ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَفَاضَتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً ... عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي قَوْلُهُ: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ مِنْ الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالثَّانِيَةُ بَيَانِيَّةٌ: أَيْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْفَيْضِ نَاشِئًا مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ تَبْعِيضِيَّةً، وَقُرِئَ: تَرى أَعْيُنَهُمْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ. وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا اسْتِئْنَافٌ مَسُوقٌ لِجَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا حَالُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أَيْ آمَنَّا بِهَذَا الْكِتَابِ النَّازِلِ مِنْ عِنْدِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَبِمَنْ أَنْزَلْتَهُ عَلَيْهِ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ أَوْ مَعَ الشَّاهِدِينَ، بِأَنَّهُ حَقٌّ، أَوْ مَعَ الشَّاهِدِينَ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ وَأَنَّهُ رَسُولُكَ إِلَى النَّاسِ. قَوْلُهُ: وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ للاستبعاد وَلَنا متعلق بمحذوف، ولا نُؤْمِنُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ فِي الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيْ شَيْءٌ حَصَلَ لَنَا حَالَ كَوْنِنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ؟ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا انْتِفَاءَ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لَهُ، وَهُوَ الطَّمَعُ فِي إِنْعَامِ اللَّهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ وَالنَّفْيُ مُتَوَجِّهَانِ إِلَى الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «3» ، وَالْوَاوَ فِي وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ لِلْحَالِ أَيْضًا بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ: أَيْ أَيُّ شَيْءٍ حَصَلَ لَنَا؟ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ وَنَحْنُ نَطْمَعُ فِي الدُّخُولِ مَعَ الصَّالِحِينَ، فَالْحَالُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ صَاحِبُهُمَا الضَّمِيرُ فِي لَنا وَعَامِلُهُمَا الْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ: أَيْ حَصَلَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَالُ الثانية من الضمير في

_ (1) . وعجزه: والعصم من شعف العقول الفادر. «الفادر» . المسنّ من الوعول. (2) . في المطبوع: ونزل. والمثبت من تفسير القرطبي (6/ 358) . (3) . نوح: 13.

نُؤْمِنُ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا لَنَا نَجْمَعُ بَيْنَ تَرْكِ الْإِيمَانِ وَبَيْنَ الطَّمَعِ فِي صُحْبَةِ الصَّالِحِينَ. قَوْلُهُ: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا إِلَخْ أَثَابَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُخْلِصِينَ لَهُ مُعْتَقِدِينِ لِمَضْمُونِهِ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ التَّكْذِيبُ بِالْآيَاتِ كُفْرٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَالْجَحِيمُ: النَّارُ الشَّدِيدَةُ الْإِيقَادِ، وَيُقَالُ جَحَمَ فُلَانٌ النَّارَ: إِذَا شَدَّدَ إِيقَادَهَا، وَيُقَالُ أَيْضًا لِعَيْنِ الْأَسَدِ: جُحْمَةٌ لِشِدَّةِ اتِّقَادِهَا. قال الشاعر: والحرب لا يبقى لجا ... حمها التّخيّل والمراح وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً الْآيَةَ قَالَ: هُمُ الْوَفْدُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَا يَهُودِيٌّ بِمُسْلِمٍ إِلَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ» وَفِي لَفْظٍ «إِلَّا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِقَتْلِهِ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: مَا ذَكَرَ اللَّهُ بِهِ النَّصَارَى مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ النَّجَاشِيُّ وَأَصْحَابُهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: هُمْ نَاسٌ مِنَ الْحَبَشَةِ آمَنُوا إِذَا جَاءَتْهُمْ مُهَاجِرَةُ الْمُؤْمِنِينَ فَذَلِكَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالُوا: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَدِمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَقَرَأَ كتاب رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دَعَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالْمُهَاجِرِينَ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ فَجَمَعَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ مَرْيَمَ، فَآمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَفَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً إلى قوله: مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ رُسُلُ النَّجَاشِيِّ بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِ قَوْمِهِ، كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا يَخْتَارُهُمْ مِنْ قَوْمِهِ الخير، فالخير في الفقه والسنّ. وَفِي لَفْظٍ: بَعَثَ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ يس، فَبَكَوْا حِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً الْآيَةَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ أَيْضًا الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ «1» إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا «2» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ بِدُونِ ذِكْرِ الْعَدَدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: بَعَثَ النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا سَبْعَةً قِسِّيسِينَ وَخَمْسَةً رُهْبَانًا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ، فَلَمَّا لَقُوهُ فَقَرَأَ عليهم مما أَنْزَلَ اللَّهُ بَكَوْا وَآمَنُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ الْآيَةَ، وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ يكفي، فليس المراد

_ (1) . القصص: 52. (2) . القصص: 54.

[سورة المائدة (5) : الآيات 87 إلى 88]

إِلَّا بَيَانَ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: قِسِّيسِينَ قَالَ: هُمْ عُلَمَاؤُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: الْقِسِّيسُونَ عُبَّادُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ قَالَ: أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. [سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) الطَّيِّبَاتُ: هِيَ الْمُسْتَلَذَّاتُ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، نَهَى الَّذِينَ آمَنُوا عَنْ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِنْهَا، إِمَّا لِظَنِّهِمْ أَنَّ فِي ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ، وأنه من الزّهد في الدنيا فرفع النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا، أَوْ لِقَصْدِ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّهُ لَهُمْ كَمَا يَقَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعَوَامِّ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَرَامٌ عَلَيَّ وَحَرَّمْتُهُ عَلَى نَفْسِي وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا النَّهْيِ الْقُرْآنِيِّ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَحْرِيمُ شَيْءٍ مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ طَيِّبَاتِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكَحِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ. فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي تَرْكِ شَيْءٍ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ وَالْبِرَّ إِنَّمَا هُوَ فِي فِعْلِ مَا نَدَبَ اللَّهُ عِبَادَهُ إِلَيْهِ، وَعَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَنَّهُ لِأُمَّتِهِ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى مِنْهَاجِهِ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ، إِذْ كَانَ خَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ نَبِيِّنَا محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ خَطَأُ مَنْ آثَرَ لِبَاسَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ عَلَى لِبَاسِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ إِذَا قَدَرَ عَلَى لِبَاسِ ذَلِكَ مِنْ حِلِّهِ، وَآثَرَ أَكْلَ الْخَشِنِ مِنَ الطَّعَامِ وَتَرَكَ اللَّحْمَ وَغَيْرَهُ حَذَرًا مِنْ عَارِضِ الْحَاجَةِ إِلَى النِّسَاءِ. قَالَ: فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْفَضْلَ فِي غَيْرِ الَّذِي قُلْنَا لِمَا فِي لِبَاسِ الْخَشِنِ وَأَكْلِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ وَصَرْفِ مَا فَضَلَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْقِيمَةِ إِلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ، فَقَدْ ظَنَّ خَطَأً، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ صَلَاحُ نَفْسِهِ وَعَوْنُهُ لَهَا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهَا، وَلَا شَيْءَ أَضَرَّ لِلْجِسْمِ مِنَ الْمَطَاعِمِ الرَّدِيَّةِ، لِأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِعَقْلِهِ وَمُضْعِفَةٌ لِأَدَوَاتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا إِلَى طَاعَتِهِ. قَوْلُهُ: وَلا تَعْتَدُوا أَيْ لَا تَعْتَدُوا عَلَى اللَّهِ بِتَحْرِيمِ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، أَوْ لَا تَعْتَدُوا فَتُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ: أَيْ تَتَرَخَّصُوا فَتُحَلِّلُوا حَرَامًا كَمَا نُهِيتُمْ عَنِ التَّشْدِيدِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَمَنْ تَابَعَهُمَا: إِنَّ مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا صَارَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، وَإِذَا تَنَاوَلَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَخِلَافُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَلَعَلَّهُ يَأْتِي فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ مَا هُوَ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، وظاهره أنه تَحْرِيمَ كُلِّ اعْتِدَاءٍ: أَيْ مُجَاوَزَةٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَالَ كَوْنِهِ حَلالًا طَيِّباً أَيْ غَيْرَ مُحَرَّمٍ وَلَا مُسْتَقْذَرٍ، أَوْ أَكْلًا حَلَالًا طَيِّبًا، أَوْ كُلُوا حَلَالًا طَيِّبًا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، ثُمَّ وَصَّاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّقْوَى فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.

[سورة المائدة (5) : آية 89]

وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِذَا أَكَلْتُ اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنِّسَاءِ وَأَخَذَتْنِي شَهْوَةٌ، وَإِنِّي حرّمت عليّ اللحم، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلًا، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: نَقْطَعُ مَذَاكِيرَنَا وَنَتْرُكُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَنَسِيحُ فِي الْأَرْضِ كَمَا يَفْعَلُ الرُّهْبَانُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: نعم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لكني أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ أَخَذَ بِسُنَّتِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَقَدْ ثَبَتَ نَحْوُ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ دُونِ ذِكْرِ أَنَّ ذلك سبب نزول الآية. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ: هُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابُهُ، وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَثِيرٌ مِنْهَا مُصَرِّحٌ بِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ضَافَهُ ضَيْفٌ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَوَجَدَهُمْ لَمْ يُطْعِمُوا ضَيْفَهُمُ انْتِظَارًا لَهُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: حَبَسْتِ ضَيْفِي مِنْ أَجْلِي، هُوَ حَرَامٌ عَلَيَّ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: هُوَ حَرَامٌ عَلَيَّ، فَقَالَ الضَّيْفُ: هُوَ حَرَامٌ عَلَيَّ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ وَضَعَ يَدَهُ وَقَالَ: كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أصبت» ، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَهَذَا أَثَرٌ مُنْقَطِعٌ، وَلَكِنْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي قِصَّةِ الصِّدِّيقِ مَعَ أَضْيَافِهِ مَا هُوَ شَبِيهٌ بِهَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَجِيءَ بِضَرْعٍ، فَتَنَحَّى رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: ادْنُ، فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْتُ أَنْ آكُلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ادْنُ فَاطْعَمْ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه. [سورة المائدة (5) : آية 89] لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ اللَّغْوِ، والخلاف فيه، في سورة البقرة، وفِي أَيْمانِكُمْ صلة يُؤاخِذُكُمُ. قيل وفِي بِمَعْنَى مِنْ، وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَيْمَانَ اللَّغْوِ لَا يُؤَاخِذُ الله الحالف بها ولا تجب فيها الْكَفَّارَةُ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّهَا قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ فِي كَلَامِهِ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِلْيَمِينِ، وَبِهِ فَسَّرَ الصَّحَابَةُ الْآيَةَ وَهُمْ أَعْرَفُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَذَلِكَ عِنْدَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ والعجلة بقوله: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قُرِئَ بِتَشْدِيدِ عَقَّدْتُمُ وَبِتَخْفِيفِهِ، وَقُرِئَ عَاقَدْتُمْ. وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حِسِّيٌّ كَعَقْدِ الْحَبْلِ، وَحُكْمِيٌّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْيَمِينِ والعهد. قال الشاعر «1» .

_ (1) . هو الحطيئة.

قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا الْعِنَاجَ وشدّوا فوقه الكربا فاليمين المنعقدة مِنْ عَقَّدَ الْقَلْبَ لَيَفْعَلَنَّ أَوْ لَا يَفْعَلَنَّ في المستقبل أي ولكن يؤاخذكم بأيمانكم المنعقدة الْمُوَثَّقَةِ بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ إِذَا حَنِثْتُمْ فِيهَا. وَأَمَّا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ: فَهِيَ يَمِينُ مَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ وَكَذِبٍ قَدْ بَاءَ الْحَالِفُ بِإِثْمِهَا، وَلَيْسَتْ بِمَعْقُودَةٍ وَلَا كَفَارَّةَ فِيهَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الشافعي: هي يمين معقودة مُكْتَسَبَةٌ بِالْقَلْبِ مَعْقُودَةٌ بِخَبَرٍ مَقْرُونَةٌ بِاسْمِ اللَّهِ، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ وَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي تَكْفِيرِ الْيَمِينِ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى الْمَعْقُودَةِ، وَلَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الْغَمُوسِ، بَلْ مَا وَرَدَ فِي الْغَمُوسِ إِلَّا الْوَعِيدُ وَالتَّرْهِيبُ، وَإِنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، بَلْ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَفِيهَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا «1» الْآيَةَ. قَوْلُهُ: فَكَفَّارَتُهُ الْكَفَّارَةُ: هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّكْفِيرِ وَهُوَ التَّسْتِيرُ، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ هُوَ السَّتْرُ، وَالْكَافِرُ هُوَ السَّاتِرُ، لِأَنَّهَا تَسْتُرُ الذَّنْبَ وَتُغَطِّيهِ، وَالضَّمِيرُ فِي كَفَّارَتِهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: بِما عَقَّدْتُمُ. إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ الْمُرَادُ بِالْوَسَطِ هُنَا الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَعْلَى كَمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَيْ أَطْعِمُوهُمْ مِنَ الْمُتَوَسِّطِ مِمَّا تَعْتَادُونَ إِطْعَامَ أَهْلِيكُمْ مِنْهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ أَعْلَاهُ، وَلَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ أَدْنَاهُ، وَظَاهِرَهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ إِطْعَامُ عَشْرَةٍ حَتَّى يَشْبَعُوا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُجْزِئُ إِطْعَامُ الْعَشَرَةِ غَدَاءً دُونَ عَشَاءٍ حَتَّى يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: هُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى بِالْأَمْصَارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ: يَكْفِيهِ أَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَكْلَةً وَاحِدَةً خُبْزًا وَسَمْنًا أَوْ خُبْزًا وَلَحْمًا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخطاب وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد ابن جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَأَبُو مَالِكٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَكَمُ وَمَكْحُولٌ وَأَبُو قِلَابَةَ وَمُقَاتِلٌ: يَدْفَعُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَشْرَةِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ تَمْرٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ نِصْفُ صَاعٍ بُرٍّ وَصَاعٍ مِمَّا عَدَاهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كفّر رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَكَفَّرَ النَّاسُ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَفِي إِسْنَادِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى الثَّقَفِيُّ، وَهُوَ مُجْمِعٌ عَلَى ضَعْفِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَتْرُوكٌ. قَوْلُهُ: أَوْ كِسْوَتُهُمْ عَطْفٌ عَلَى إِطْعَامٍ. قُرِئَ بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ أُسْوَةٍ وَإِسْوَةٍ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ومحمد بن السّميقع الْيَمَانِيُّ أَوْ كَأُسْوَتِهِمْ: يَعْنِي كَأُسْوَةِ أَهْلِيكُمْ وَالْكُسْوَةِ فِي الرِّجَالِ تَصْدُقُ عَلَى مَا يَكْسُو الْبَدَنَ وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا وَاحِدًا، وَهَكَذَا فِي كُسْوَةِ النِّسَاءِ وَقِيلَ: الْكُسْوَةُ لِلنِّسَاءِ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِسْوَةِ مَا تُجْزِئُ بِهِ الصَّلَاةُ. قَوْلُهُ: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أَيْ إِعْتَاقُ مَمْلُوكٍ، وَالتَّحْرِيرُ: الْإِخْرَاجُ مِنَ الرِّقِّ، وَيُسْتَعْمَلُ التَّحْرِيرُ فِي فَكِّ الْأَسِيرِ، وَإِعْفَاءِ الْمَجْهُودِ بِعَمَلٍ عَنْ عَمَلِهِ، وَتَرْكِ إِنْزَالِ الضَّرَرِ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: أَبَنِي غُدَانَةَ إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ ... فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ أَيْ حَرَّرْتُكُمْ مِنَ الْهِجَاءِ الَّذِي كَانَ سَيَضَعُ مِنْكُمْ وَيَضُرُّ بَأَحْسَابِكُمْ. وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ أَبْحَاثٌ فِي الرَّقَبَةِ الَّتِي تُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا تُجْزِئُ كُلُّ رَقَبَةٍ عَلَى أَيِّ صفة

_ (1) . آل عمران: 77.

كَانَتْ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ إِلَى اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِيهَا قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَيْ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فَكَفَّارَتُهُ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقُرِئَ مُتَتَابِعَاتٍ حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُقَيِّدَةً لِمُطْلَقِ الصَّوْمِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ: يُجْزِئُ التَّفْرِيقُ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِحِفْظِ الْأَيْمَانِ وَعَدَمِ الْمُسَارَعَةِ إِلَيْهَا أَوْ إِلَى الْحِنْثِ بِهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْبَيَانِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ بَيَانِ شَرَائِعِهِ وَإِيضَاحِ أَحْكَامِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: «لما نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ النِّسَاءَ وَاللَّحْمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَيْمَانِنَا الَّتِي حَلَفْنَا عَلَيْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي اللَّغْوِ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى الْحَلَالِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمَا الرَّجُلَانِ يَتَبَايَعَانِ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا: وَاللَّهِ لَا أَبِيعُكَ بِكَذَا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: وَاللَّهِ لَا أَشْتَرِيهِ بِكَذَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: اللَّغْوُ أَنْ يَصِلَ كَلَامَهُ بِالْحَلِفِ: وَاللَّهِ لَتَأْكُلَنَّ وَاللَّهِ لَتَشْرَبَنَّ وَنَحْوَ هَذَا لَا يُرِيدُ بِهِ يَمِينًا وَلَا يَتَعَمَّدُ حَلِفًا، فَهُوَ لَغْوُ الْيَمِينِ لَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْبَقَرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قال: بما تعمدتم. وأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَيِّمُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ النَّضْرُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الذُّهْلِيُّ الْكُوفِيُّ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَجْهُولٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَضْعِيفُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: كُنَّا نُعْطِي فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالْمُدِّ الَّذِي نَقْتَاتُ بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنِّي أَحْلِفُ لَا أُعْطِي أَقْوَامًا، ثُمَّ يَبْدُو لِي فَأُعْطِيهِمْ، فَأُطْعِمُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلُّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مثله. وأخرج عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: تُغَدِّيهِمْ وَتُعَشِّيهِمْ إِنْ شِئْتَ خُبْزًا وَلَحْمًا أَوْ خُبْزًا وَزَيْتًا أَوْ خُبْزًا وَسَمْنًا أَوْ خُبْزًا وَتَمْرًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ

[سورة المائدة (5) : الآيات 90 إلى 93]

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ قَالَ: مِنْ عُسْرِكُمْ وَيُسْرِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ قَالَ: الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا فِيهِ شِدَّةٌ، فَنَزَلَتْ: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ كِسْوَتُهُمْ قَالَ: «عَبَاءَةٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ» ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوْ كِسْوَتُهُمْ مَا هُوَ؟ قَالَ: «عَبَاءَةٌ عَبَاءَةٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَبَاءَةٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ أَوْ شَمْلَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْكُسْوَةُ ثَوْبٌ أَوْ إِزَارٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ هُوَ بِالْخِيَارِ فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عنه نحوه. [سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 93] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَيْسِرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْأَنْصابُ هِيَ الْأَصْنَامُ الْمَنْصُوبَةُ لِلْعِبَادَةِ وَالْأَزْلامُ. قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالرِّجْسُ يُطْلَقُ عَلَى الْعُذْرَةِ وَالْأَقْذَارِ. وَهُوَ خَبَرٌ لِلْخَمْرِ، وَخَبَرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ. وَقَوْلُهُ: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ صِفَةٌ لِرِجْسٍ: أَيْ كَائِنٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، بِسَبَبِ تَحْسِينِهِ لِذَلِكَ وَتَزْيِينِهِ لَهُ وَقِيلَ هُوَ الَّذِي كَانَ عَمِلَ هَذِهِ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ فَاقْتَدَى بِهِ بَنُو آدَمَ وَالضَّمِيرُ فِي فَاجْتَنِبُوهُ رَاجِعٌ إِلَى الرِّجْسِ، أَوْ إِلَى الْمَذْكُورِ وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: أُكِّدَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وُجُوهًا مِنَ التَّأْكِيدِ، مِنْهَا: تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِإِنَّمَا، وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَرْنَهُمَا بِعِبَادَةِ الأصنام ومنه قوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ» وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُمَا رِجْسًا، كَمَا قَالَ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُمَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ لَا يَأْتِي مِنْهُ إِلَّا الشَّرُّ الْبَحْتُ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالِاجْتِنَابِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَ الِاجْتِنَابَ مِنَ الْفَلَاحِ، وَإِذَا كَانَ الِاجْتِنَابُ فَلَاحًا كَانَ الِارْتِكَابُ خَيْبَةً وَمُحْقَةً، وَمِنْهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ مَا يَنْتُجُ مِنْهُمَا مِنَ الْوَبَالِ، وَهُوَ وُقُوعُ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ بَيْنَ أَصْحَابِ الْخَمْرِ وَالْقَمْرِ، وَمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَيْهِ مِنَ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ مُرَاعَاةِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ بِالِاجْتِنَابِ مِنَ الْوُجُوبِ وَتَحْرِيمِ الصَّدِّ، وَلِمَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ تَحْرِيمِ قُرْبَانِ الرِّجْسِ فَضْلًا عَنْ جَعْلِهِ شَرَابًا يُشْرَبُ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ من المفسرين وغيرهم:

_ (1) . الحج: 30. [.....]

كَانَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بِتَدْرِيجٍ وَنَوَازِلَ كَثِيرَةٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَلِفُوا شُرْبَهَا وَحَبَّبَهَا الشَّيْطَانُ إِلَى قلوبهم، فأوّل ما نزل في أمرها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ «1» فَتَرَكَ عِنْدَ ذَلِكَ بَعْضٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شُرْبَهَا وَلَمْ يَتْرُكْهُ آخَرُونَ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «2» فَتَرَكَهَا الْبَعْضُ أَيْضًا، وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا يَشْغَلُنَا عَنِ الصَّلَاةِ، وَشَرِبَهَا الْبَعْضُ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ فَصَارَتْ حَرَامًا عَلَيْهِمْ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ لِمَا فَهِمُوهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الزَّوَاجِرِ، وَفِيمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنَ الْوَعِيدِ لِشَارِبِهَا، وَأَنَّهَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ. وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ إِجْمَاعًا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا مَا دَامَتْ خَمْرًا، وَكَمَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ دَلَّتْ أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ. وَقَدْ أَشَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى مَا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ وَمِنَ الْمَفَاسِدِ الدِّينِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ. قَوْلُهُ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فِيهِ زَجْرٌ بَلِيغٌ يُفِيدُهُ الِاسْتِفْهَامُ الدَّالُّ عَلَى التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ. وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سَمِعَ هَذَا: انْتَهَيْنَا، ثُمَّ أَكَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا التَّحْرِيمَ بِقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا أَيْ مُخَالَفَتَهُمَا: أَيْ مُخَالَفَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ أَمْرًا مُطْلَقًا فَالْمَجِيءُ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُفِيدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَهَكَذَا مَا أَفَادَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَيْ إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ الِامْتِثَالِ، فَقَدْ فَعَلَ الرَّسُولُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَلَاغِ الَّذِي فِيهِ رَشَادُكُمْ وَصَلَاحُكُمْ، وَلَمْ تَضُرُّوا بِالْمُخَالَفَةِ إِلَّا أَنْفُسَكُمْ، وَفِي هَذَا مِنَ الزَّجْرِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ وَلَا يُبْلَغُ مَدَاهُ. قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا أَيْ مِنَ الْمَطَاعِمِ الَّتِي يَشْتَهُونَهَا، وَالطَّعْمُ وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَكْلِ أَكْثَرَ لَكِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الشُّرْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي «3» أَبَاحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ مَا طَعِمُوا كَائِنًا مَا كَانَ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ: إِذا مَا اتَّقَوْا أَيِ اتَّقَوْا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ كَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَجَمِيعِ الْمَعَاصِي وَآمَنُوا بِاللَّهِ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لَهُمْ: أَيِ اسْتَمَرُّوا عَلَى عَمَلِهَا. قَوْلُهُ: ثُمَّ اتَّقَوْا عَطْفٌ عَلَى اتَّقَوُا الْأَوَّلِ: أَيِ اتَّقَوْا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ مُبَاحًا فِيمَا سَبَقَ وَآمَنُوا بِتَحْرِيمِهِ ثُمَّ اتَّقَوْا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّحْرِيمِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ مِمَّا كَانَ مُبَاحًا مِنْ قَبْلُ وَأَحْسَنُوا أَيِ عَمِلُوا الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ، هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ وَقِيلَ: التَّكْرِيرُ بِاعْتِبَارِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ وَقِيلَ: إِنَّ التَّكْرِيرَ بِاعْتِبَارِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ، الْمَبْدَأُ، وَالْوَسَطُ، وَالْمُنْتَهَى وَقِيلَ: إِنَّ التَّكْرَارَ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَّقِيهِ الْإِنْسَانُ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمُحَرَّمَاتِ تَوَقِّيًا مِنَ الْعَذَابِ، وَالشُّبْهَاتِ تَوَقِّيًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، وَبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ حِفْظًا لِلنَّفْسِ عَنِ الْخِسَّةِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ- ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ «4» ، هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ سبب نزول الآية، وإما مَعَ النَّظَرِ إِلَى سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنَّا وَهُوَ يَشْرَبُهَا ويأكل

_ (1) . البقرة: 219. (2) . النساء: 43. (3) . البقرة: 249. (4) . التكاثر: 3- 4.

الْمَيْسِرَ؟ فَنَزَلَتْ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى اتَّقَوْا الشِّرْكَ وَآمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ اتَّقَوْا الْكَبَائِرَ وَآمَنُوا أَيِ ازْدَادُوا إِيمَانًا ثُمَّ اتَّقَوْا الصَّغَائِرَ وَأَحْسَنُوا أَيْ تَنَفَّلُوا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الِاتِّقَاءُ الْأَوَّلُ هُوَ الِاتِّقَاءُ بِتَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالدَّيْنُونَةِ بِهِ وَالْعَمَلِ، وَالِاتِّقَاءُ الثَّانِي الِاتِّقَاءُ بِالثَّبَاتِ عَلَى التَّصْدِيقِ، وَالثَّالِثُ الِاتِّقَاءُ بِالْإِحْسَانِ وَالتَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَزَلَ فِي الْخَمْرِ ثلاث آيات، فأول شيء يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ «1» الْآيَةَ، فَقِيلَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقِيلَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ! دَعْنَا نَنْتَفِعْ بِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ، فَسَكَتَ عَنْهُمْ، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «2» ، فَقِيلَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا نَشْرَبُهَا قُرْبَ الصَّلَاةِ، فَسَكَتَ عَنْهُمْ، ثُمَّ نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ الْآيَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُرِّمَتِ الْخَمْرُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَاسٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَاتُوا عَلَى فِرَاشِهِمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الآية، وقال النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لَوْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ لَتَرَكُوهُ كَمَا تَرَكْتُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: فِيَّ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، صَنَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ طَعَامًا فَدَعَا نَاسًا فَأَتَوْهُ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا حَتَّى انْتَشَوْا مِنَ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ فَتَفَاخَرُوا، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: الْأَنْصَارُ خَيْرٌ من المهاجرين، وقالت قُرَيْشٌ: قُرَيْشٌ خَيْرٌ، فَأَهْوَى رَجُلٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ فَضَرَبَ عَلَى أَنْفِي، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ ثَمِلَ الْقَوْمُ عَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا أَنْ صَحَوْا جَعَلَ يَرَى الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْأَثَرَ بِوَجْهِهِ وَبِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَيَقُولُ: صَنَعَ بِي هَذَا أَخِي فُلَانٍ وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ بي رؤوفا رَحِيمًا مَا صَنَعَ بِي هَذَا، حَتَّى وَقَعَتِ الضَّغَائِنُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ: هِيَ رِجْسٌ، وَهِيَ فِي بَطْنِ فُلَانٍ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفُلَانٌ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَتْ فِي سَبَبِ النُّزُولِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ مُوَافِقَةٌ لِمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ كُلُّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرٍ: مَتَى حُرِّمَتِ الْخَمْرُ؟ قَالَ: بَعْدَ أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ الْقِمَارِ من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ من الميسر.

_ (1) . البقرة: 219. (2) . النساء: 43.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الشِّطْرَنْجُ مَيْسِرُ الْأَعَاجِمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ النَّرْدِ أَهِيَ مِنَ الْمَيْسِرِ؟ قَالَ: كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ ميسر. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ النَّرْدُ تَكْرَهُونَهَا، فَمَا بَالُ الشِّطْرَنْجِ؟ قَالَ: كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ. وَأَخْرَجُوا أَيْضًا عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ بَلَغَنِي عَنْ رِجَالٍ يَلْعَبُونَ بِلُعْبَةٍ يُقَالُ لَهَا النّردشير، والله يقول في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَإِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يَلْعَبُ بِهَا إِلَّا عَاقَبْتُهُ فِي شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ، وَأَعْطَيْتُ سَلَبَهُ مَنْ أَتَانِي بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: الشِّطْرَنْجُ مِنَ النَّرْدِ، بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَلِي مَالَ يَتِيمٍ فَأَحْرَقَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عبد الله بن عمير قال: سئل ابن عمر عن الشطرنج؟ فقال هي شرّ من النرد. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الملك بن عبيد قال: رأى رجل من أهل الشام أنه يغفر لكل مؤمن في كل يوم اثنتي عشرة مرّة إلا أصحاب الشاة، يعني أصحاب الشطرنج. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أنه سئل عَنِ الشِّطْرَنْجِ فَقَالَ: تِلْكَ الْمَجُوسِيَّةُ فَلَا تَلْعَبُوا بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْخَطْمِيِّ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَثَلُ الَّذِي يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي مِثْلُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِالْقَيْحِ وَدَمِ الْخِنْزِيرِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: اللَّاعِبُ بِالنَّرْدِ قِمَارًا كَآكِلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَاللَّاعِبُ بِهَا مِنْ غَيْرِ قِمَارٍ كَالْمُدَّهِنِ بِوَدَكِ الْخِنْزِيرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالنَّرْدِ فَقَالَ: «قُلُوبٌ لَاهِيَةٌ، وَأَيْدِي عَلِيلَةٌ، وَأَلْسِنَةٌ لَاغِيَةٌ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ قِمَارٌ فَهُوَ مِنَ الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: الْقِمَارُ مِنَ الْمَيْسِرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قال: ما كان من لعب فيه قمار أو قيام أو صياح أو شرّ فهو من الميسر. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنَ الْمَيْسِرِ: الصَّفِيرُ بِالْحَمَّامِ، وَالْقِمَارُ، وَالضَّرْبُ بِالْكِعَابِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: حِجَارَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ لَهَا، وَالْأَزْلَامُ قِدَاحٌ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا الْأُمُورَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَتْ لَهُمْ حَصَيَاتٌ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَغْزُوَ أَوْ يَجْلِسَ اسْتَقْسَمَ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْأَزْلَامِ قَالَ: هِيَ كَعَابُ فَارِسَ الَّتِي يَقْتَمِرُونَ بِهَا، وَسِهَامُ الْعَرَبِ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَمِّ الْخَمْرِ وَشَارِبِهَا وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ وَأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَهِيَ مُدَوَّنَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ فَلَا نُطَوِّلُ الْمَقَامَ بِذِكْرِهَا فَلَسْنَا بِصَدَدِ ذَلِكَ، بَلْ نَحْنُ بِصَدَدِ ما هو متعلّق بالتفسير.

[سورة المائدة (5) : الآيات 94 إلى 99]

[سورة المائدة (5) : الآيات 94 الى 99] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قَوْلُهُ: لَيَبْلُوَنَّكُمُ أَيْ لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ، وَاللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، كَانَ الصَّيْدُ أَحَدَ مَعَايِشِ الْعَرَبِ فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِتَحْرِيمِهِ مَعَ الْإِحْرَامِ وَفِي الْحَرَمِ، كَمَا ابْتَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لَا يَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ، وَكَانَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ، أَحْرَمَ بَعْضُهُمْ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُحْرِمْ، فَكَانَ إِذَا عَرَضَ صَيْدٌ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هُمُ الْمُحِلُّونَ أَوِ الْمُحْرِمُونَ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ مَالِكٌ وَإِلَى الثَّانِي ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْجَمِيعِ، وَلَا وَجْهَ لِقَصْرِهِ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، ومِنَ فِي مِنَ الصَّيْدِ لِلتَّبْعِيضِ وَهُوَ صَيْدُ الْبَرِّ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرَيُّ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: إِنَّ مِنَ بَيَانِيَّةٌ: أَيْ شَيْءٌ حَقِيرٌ مِنَ الصَّيْدِ، وَتَنْكِيرُ شَيْءٍ لِلتَّحْقِيرِ. قَوْلُهُ: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ يَنَالُهُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَقْتَضِي تَعْمِيمَ الصَّيْدِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُؤْخَذُ بِالْيَدِ وَهُوَ مَا لَا يُطِيقُ الْفِرَارَ كَالصِّغَارِ وَالْبَيْضِ، وَبَيْنَ مَا تَنَالُهُ الرِّمَاحُ: وَهُوَ مَا يُطِيقُ الْفِرَارَ، وَخَصَّ الْأَيْدِي بِالذِّكْرِ: لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا يَتَصَرَّفُ بِهِ الصَّائِدُ فِي أَخْذِ الصَّيْدِ، وَخَصَّ الرِّمَاحَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ الْآلَاتِ لِلصَّيْدِ عِنْدَ الْعَرَبِ. قَوْلُهُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أَيْ لِيَتَمَيَّزَ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ يَخَافُهُ مِنْكُمْ بِسَبَبِ عِقَابِهِ الْأُخْرَوِيِّ فَإِنَّهُ غَائِبٌ عَنْكُمْ غَيْرُ حَاضِرٍ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الَّذِي امْتَحَنَكُمُ اللَّهُ بِهِ، لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ مُعَانَدَةٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَجْرِئَةٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ نَهَاهُمْ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَفِي مَعْنَاهُ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ «1» وَهَذَا النَّهْيُ شَامِلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ ذُكُورِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَاثِهِمْ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: رَجُلٌ حَرَامٌ وَامْرَأَةٌ حَرَامٌ وَالْجَمْعُ حُرُمٌ، وَأَحْرَمَ الرَّجُلُ: دَخَلَ فِي الْحَرَمِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً الْمُتَعَمِّدُ: هُوَ الْقَاصِدُ لِلشَّيْءِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْإِحْرَامِ، وَالْمُخْطِئُ: هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ شَيْئًا فَيُصِيبُ صَيْدًا، وَالنَّاسِي: هُوَ الَّذِي يَتَعَمَّدُ الصَّيْدَ وَلَا يَذْكُرُ إِحْرَامَهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَدَاوُدُ عَنْهُ بِاقْتِصَارِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَامِدِ بِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَيْهِ وَحْدَهُ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَطَاوُسُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقِيلَ: إِنَّهَا تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ الْمُخْطِئَ وَالنَّاسِيَ كَمَا تَلْزَمُ الْمُتَعَمِّدَ، وَجَعَلُوا قَيْدَ التَّعَمُّدِ خَارِجًا مَخْرَجَ الْغَالِبِ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجِبُ التَّكْفِيرُ عَلَى الْعَامِدِ النَّاسِي لِإِحْرَامِهِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، قَالَ: فَإِنْ كان ذاكرا لإحرامه

_ (1) . المائدة: 1.

فَقَدْ حَلَّ وَلَا حَجَّ لَهُ لِارْتِكَابِهِ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ، فَبَطَلَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أَحْدَثَ فِيهَا. قَوْلُهُ: فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أَيْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مماثل لما قتله، ومن النَّعَمِ بَيَانٌ لِلْجَزَاءِ الْمُمَاثِلِ. قِيلَ: الْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِيمَةِ، وَقِيلَ: فِي الْخِلْقَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ البيان للماثل بِالنِّعَمِ يُفِيدُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يُفِيدُهُ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ وَلَوْ وُجِدَ الْمِثْلُ، وَأَنَّ الْمُحْرِمَ مُخَيَّرٌ. وَقُرِئَ: فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ مَا قَتَلَ وَقُرِئَ: فَجَزاءٌ مِثْلُ عَلَى إِضَافَةِ جَزَاءٍ إِلَى مِثْلِ، وَقُرِئَ بِنَصْبِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ فَلْيُخْرِجْ جَزَاءً مِثْلَ مَا قَتَلَ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ النَّعَمِ بِسُكُونِ الْعَيْنِ تَخْفِيفًا يَحْكُمُ بِهِ أَيْ بِالْجَزَاءِ أَوْ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَيْ رَجُلَانِ مَعْرُوفَانِ بِالْعَدَالَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا حَكَمَا بِشَيْءٍ لَزِمَ، وَإِنِ اخْتَلَفَا رُجِعَ إِلَى غَيْرِهِمَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ وَقِيلَ: يَجُوزُ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبِالثَّانِي قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي حَكَمَيْنِ غَيْرَ الْجَانِي. قَوْلُهُ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ نُصِبَ هَدَيًا عَلَى الْحَالِ أَوِ الْبَدَلِ مِنْ مثل، وبالِغَ الْكَعْبَةِ صِفَةٌ لِهَدْيًا، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ غَيْرُ حَقِيقِيَّةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا إِذَا حَكَمَا بِالْجَزَاءِ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالْهَدْيِ مِنَ الْإِرْسَالِ إِلَى مَكَّةَ وَالنَّحْرِ هُنَالِكَ، وَالْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ، وَلَمْ يُرِدِ الْكَعْبَةَ بِعَيْنِهَا فَإِنَّ الْهَدْيَ لَا يَبْلُغُهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرَمَ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. قَوْلُهُ: أَوْ كَفَّارَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلٍّ مِنَ النَّعَمِ: وهو الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، وطَعامُ مَساكِينَ عَطْفُ بَيَانٍ لِكَفَّارَةٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ مَعْطُوفٌ عَلَى طَعَامٍ وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جَزَاءٍ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، فَالْجَانِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَدْلُ الشَّيْءِ مَا عَادَلَهُ مِنْ غير جنسه، وصِياماً مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَقَدْ قَرَّرَ الْعُلَمَاءُ عَدْلَ كُلِّ صَيْدٍ مِنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْجَانِيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْمُحْرِمُ الْإِطْعَامَ وَالصَّوْمَ إِلَّا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، وَالْعَدْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ وَهُمَا الْمَيْلُ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عِدْلُ الشَّيْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَبِمِثْلِ قَوْلِ الْكِسَائِيِّ قَالَ الْبَصْرِيُّونَ. قَوْلَهُ: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَلَيْهِ لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ: أَيْ أَوْجَبْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ، وَالذَّوْقُ مُسْتَعَارٌ لِإِدْرَاكِ الْمَشَقَّةِ، وَمِثْلُهُ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «1» وَالْوَبَالُ: سُوءُ الْعَاقِبَةِ، وَالْمَرْعَى الْوَبِيلُ: الَّذِي يَتَأَذَّى بِهِ بَعْدَ أَكْلِهِ، وَطَعَامٌ وَبِيلٌ: إِذَا كَانَ ثَقِيلًا. قَوْلُهُ: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ يَعْنِي فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ مِنْ قَتْلِكُمْ لِلصَّيْدِ، وَقِيلَ: عَمَّا سَلَفَ قَبْلَ نُزُولِ الْكَفَّارَةِ وَمَنْ عادَ إِلَى مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَهُوَ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ. قِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ يَنْتَقِمُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ فَيُعَذِّبُهُ بِذَنْبِهِ، وَقِيلَ: يَنْتَقِمُ مِنْهُ بِالْكَفَّارَةِ. قَالَ شُرَيْحٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، فَإِذَا عَادَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بَلْ يُقَالُ لَهُ: اذْهَبْ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْكَ: أَيْ ذَنْبُكَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ. قَوْلُهُ: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَوْ لِلْمُحْرِمِينَ خَاصَّةً، وَصَيْدُ الْبَحْرِ مَا يُصَادُ فِيهِ وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ هُنَا كُلُّ مَاءٍ يُوجَدُ فِيهِ صَيْدٌ بَحْرِيٌّ وَإِنْ كَانَ نَهْرًا أَوْ غَدِيرًا. قَوْلُهُ: وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ الطَّعَامُ لِكُلِّ مَا يُطْعَمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ في المراد به هنا فقيل:

_ (1) . الدخان: 49.

هُوَ مَا قَذَفَ بِهِ الْبَحْرُ وَطَفَا عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقِيلَ: طَعَامُهُ مَا مُلِّحَ مِنْهُ وَبَقِيَ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ: طَعَامُهُ مِلْحُهُ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْ مَائِهِ وَسَائِرِ مَا فِيهِ مِنْ نَبَاتٍ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ قَوْمٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَا يُطْعَمُ مِنَ الصَّيْدِ: أَيْ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَهُوَ السَّمَكُ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ. وَالْمَعْنَى: أُحِلَّ لَكُمْ الِانْتِفَاعُ بِجَمِيعِ مَا يُصَادُ فِي الْبَحْرِ، وَأُحِلُّ لَكُمُ الْمَأْكُولُ مِنْهُ وَهُوَ السَّمَكُ، فَيَكُونُ التَّخْصِيصُ بَعْدَ التَّعْمِيمِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا وَجْهَ لَهُ، وَنُصِبَ مَتاعاً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ: أَيْ مُتِّعْتُمْ بِهِ مَتَاعًا وَقِيلَ: مَفْعُولٌ لَهُ مُخْتَصٌّ بِالطَّعَامِ: أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ طَعَامُ الْبَحْرِ مَتَاعًا، وَهُوَ تَكَلُّفٌ جَاءَ بِهِ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَخِيرِ، بَلْ إِذَا كَانَ مَفْعُولًا لَهُ كَانَ مِنَ الْجَمِيعِ: أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ مَصِيدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ تَمْتِيعًا لَكُمْ: أَيْ لِمَنْ كَانَ مُقِيمًا مِنْكُمْ يَأْكُلُهُ طَرِيًّا وَلِلسَّيَّارَةِ أَيِ الْمُسَافِرِينَ مِنْكُمْ يَتَزَوَّدُونَهُ وَيَجْعَلُونَهُ قَدِيدًا، وَقِيلَ السَّيَّارَةُ: هُمُ الَّذِينَ يَرْكَبُونَهُ خَاصَّةً. قَوْلُهُ: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً أَيْ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ مَا يُصَادُ فِي الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ مُحْرِمِينَ، وَظَاهِرُهُ تَحْرِيمُ صَيْدِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَلَوْ كَانَ الصَّائِدُ حَلَالًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِنْ كَانَ الْحَلَالُ صَادَهُ لِلْمُحْرِمِ لَا إِذَا لَمْ يَصِدْهُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ، وَبِهِ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَقِيلَ: إِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ: وَقِيلَ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ آخَرُونَ، وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيِ اتَّقَوُا اللَّهَ فِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ الَّذِي إِلَيْهِ تَحْشَرُونَ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي التَّحْذِيرِ. وَقُرِئَ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَقُرِئَ مَا دُمْتُمْ بِكَسْرِ الدَّالِ. قَوْلُهُ: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ، وَسُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً لِأَنَّهَا مُرَبَّعَةٌ وَالتَّكْعِيبُ التَّرْبِيعُ وَأَكْثَرُ بُيُوتِ الْعَرَبِ مُدَوَّرَةً لَا مُرَبَّعَةً وَقِيلَ: سُمِّيَتْ كَعْبَةٌ لِنُتُوئِهَا وَبُرُوزِهَا، وَكُلُّ بَارِزٍ كَعْبٌ مُسْتَدِيرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَدِيرٍ، وَمِنْهُ كَعْبُ الْقَدَمِ، وَكُعُوبُ الْقَنَا، وَكَعْبٌ ثدي المرأة، والْبَيْتَ الْحَرامَ عَطْفُ بَيَانٍ وَقِيلَ: مَفْعُولٌ ثَانٍ وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَسُمِّي بَيْتًا لِأَنَّ لَهُ سُقُوفًا وَجُدُرًا وَهِيَ حَقِيقَةُ الْبَيْتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ سَاكِنٌ، وَسُمِّيَ حَرَامًا لِتَحْرِيمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِيَّاهُ. وَقَوْلُهُ: قِياماً لِلنَّاسِ كَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ قَيِّمًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي إِنْ كَانَ جَعَلَ هُوَ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى خَلَقَ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ قِيَامًا: أَنَّهُ مَدَارٌ لِمَعَاشِهِمْ وَدِينِهِمْ: أَيْ يَقُومُونَ فِيهِ بِمَا يُصْلِحُ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ: يَأْمَنُ فِيهِ خَائِفُهُمْ، وَيُنْصَرُ فِيهِ ضَعِيفُهُمْ، وَيَرْبَحُ فِيهِ تُجَّارُهُمْ، وَيَتَعَبَّدُ فِيهِ مُتَعَبِّدُهُمْ. قَوْلُهُ: وَالشَّهْرَ الْحَرامَ عَطْفٌ عَلَى الْكَعْبَةِ، وَهُوَ ذُو الْحِجَّةِ، وَخَصَّهُ مِنْ بَيْنِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِكَوْنِهِ زَمَانَ تَأْدِيَةِ الْحَجِّ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَمَحْرَمٌ، وَرَجَبٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَطْلُبُونَ فِيهَا دَمًا، وَلَا يُقَاتِلُونَ بِهَا عَدُوًّا، وَلَا يَهْتِكُونَ فِيهَا حُرْمَةً، فَكَانَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ أَيْ وَجَعَلَ اللَّهُ الْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ قِيَامًا لِلنَّاسِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَلَائِدِ: ذَوَاتُ الْقَلَائِدِ مِنَ الْهَدْيِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِالْقَلَائِدِ أَنْفُسُهَا، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْجَعْلِ: أَيْ ذَلِكَ الْجَعْلُ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله يعلم تفاصيل أمر السموات وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَصَالِحَكُمُ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا فِيهِمَا، فَكُلُّ مَا شَرَعَهُ لَكُمْ فَهُوَ جَلْبٌ لِمَصَالِحِكُمْ، وَدَفْعٌ لِمَا يَضُرُّكُمْ

وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْلَمُوا بِأَنَّ اللَّهَ لِمَنِ انْتَهَكَ مَحَارِمَهُ وَلَمْ يَتُبْ عَنْ ذَلِكَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَأَنَّهُ لِمَنْ تَابَ وَأَنَابَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَا عَلَى رَسُولِهِ إِلَّا الْبَلَاغُ لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلُوا وَيُطِيعُوا فَمَا ضَرُّوا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا جَنَوْا إِلَّا عَلَيْهَا، وَأَمَّا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَامَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً قَالَ: إِنْ قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ خَطَأً حُكِمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ مُتَعَمِّدًا عُجِّلَتْ لَهُ الْعُقُوبَةُ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي قَوْلِهِ: فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قَالَ: إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ حُكِمَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَإِنْ قَتَلَ ظَبْيًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ تُذْبَحُ بِمَكَّةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ قَتَلَ أَيْلًا وَنَحْوَهُ فَعَلَيْهِ بَقَرَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِنْ قَتَلَ نَعَامَةً أَوْ حِمَارَ وَحْشٍ أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مِسْكِينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَالطَّعَامُ مُدٌّ مُدٌّ يُشْبِعُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَكَمِ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ. وَأَخْرَجَا نَحْوَهُ عَنْ عَطَاءٍ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ وَالنَّاسِي، وَرُوِيَ عَنْ آخَرِينَ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْعَامِدِ. وَلِلسَّلَفِ فِي تَقْدِيرِ الْجَزَاءِ الْمُمَاثِلِ وَتَقْدِيرِ الْقِيمَةِ أَقْوَالٌ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاطِنِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي بَيْضَةِ النَّعَامِ: «صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن ذكوان عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْمُهَزِّمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي بَيْضِ النَّعَامِ ثَمَنُهُ» . وَقَدِ استثنى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْحَرَمِ الْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ مَا لَفِظَهُ مَيِّتًا فَهُوَ طَعَامُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ قَالَ: صَيْدُ الْبَحْرِ مَا تَصْطَادُهُ أَيْدِينَا، وَطَعَامُهُ مَا لَاثَهُ الْبَحْرُ، وفي لفظ «طعامه كُلُّ مَا فِيهِ» . وَفِي لَفْظٍ «طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ» . وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ العنبر الَّتِي أَلْقَاهَا الْبَحْرُ فَأَكَلَ الصَّحَابَةُ مِنْهَا وَقَرَّرَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَحَدِيثُ هُوَ «الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . وَحَدِيثُ «أُحِلَّ لَكُمْ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ قَالَ: قِيَامًا لِدِينِهِمْ وَمَعَالِمَ حَجِّهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: قِيَامُهَا أَنْ يَأْمَنَ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ يَأْمَنُونَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، لَا يَخَافُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حِينِ يَلْقَوْنَهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ أَوْ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو

[سورة المائدة (5) : الآيات 100 إلى 104]

الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ قَالَ: حَوَاجِزُ أَبْقَاهَا اللَّهُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانَ الرَّجُلُ لَوْ جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَنَاوَلْ وَلَمْ يُقْرَبْ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَوْ لَقِيَ قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَمْ يَقْرَبْهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَوْ لَقِيَ الْهَدْيَ مُقَلَّدًا وَهُوَ يَأْكُلُ الْعَصْبَ مِنَ الْجُوعِ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَمْ يَقْرَبْهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ الْبَيْتَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنْ شَعْرٍ فَحَمَتْهُ وَمَنَعَتْهُ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ إِذَا نَفَرٌ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنَ الْإِذْخِرِ أَوْ مِنَ السَّمُرِ، فَتَمْنَعُهُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلَهُ، حَوَاجِزٌ أَبْقَاهَا اللَّهُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قِياماً لِلنَّاسِ قال: أمنا. [سورة المائدة (5) : الآيات 100 الى 104] قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ: الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَقِيلَ: الْعَاصِي وَالْمُطِيعُ، وَقِيلَ: الرَّدِيءُ وَالْجَيِّدُ. وَالْأَوْلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَيَشْمَلُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرَهَا مِمَّا يَتَّصِفُ بِوَصْفِ الْخُبْثِ وَالطَّيِّبِ مِنَ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَالْخَبِيثُ لَا يُسَاوِي الطَّيِّبَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. قَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ قِيلَ الخطاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: لِكُلِّ مُخَاطَبٍ يَصْلُحُ لِخِطَابِهِ بِهَذَا. وَالْمُرَادُ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَلَوْ فِي حَالِ كَوْنِ الْخَبِيثِ مُعْجِبًا لِلرَّائِي لِلْكَثْرَةِ الَّتِي فِيهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكَثْرَةَ مَعَ الْخَبِيثِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، لِأَنَّ خُبْثَ الشَّيْءِ يُبْطِلُ فَائِدَتَهُ، وَيَمْحَقُ بَرَكَتَهُ، وَيَذْهَبُ بِمَنْفَعَتِهِ، وَالْوَاوُ إِمَّا لِلْحَالِ أَوْ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ: أَيْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ لَوْ لَمْ تُعْجِبْكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ، كَقَوْلِكَ: أَحْسِنْ إِلَى فُلَانٍ وَإِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ: أَيْ أَحْسِنْ إليه إن لم يسيء إِلَيْكَ وَإِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ: أَيْ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَلَا يَسْتَوِيَانِ. قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا وَلَا هِيَ مِمَّا يَعْنِيكُمْ فِي أَمْرِ دِينِكُمْ، فَقَوْلُهُ: إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ فِي مَحَلِّ جَرٍّ صِفَةٌ لِأَشْيَاءَ أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ مُتَّصِفَةٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ كَوْنِهَا إِذَا بَدَتْ لَكُمْ: أَيْ ظَهَرَتْ وَكُلِّفْتُمْ بِهَا، سَاءَتْكُمْ، نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ كَثْرَةِ مُسَاءَلَتِهِمْ لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَإِنَّ السُّؤَالَ عَمَّا لَا يَعْنِي وَلَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِيجَابِهِ على السائل وعلى غيره. قوله: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ جُمْلَةِ صِفَةِ أَشْيَاءَ. وَالْمَعْنَى: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ مَعَ وُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ

تُبْدَ لَكُمْ أَيْ تَظْهَرُ لَكُمْ بِمَا يُجِيبُ عليكم به النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَوْ يَنْزِلُ بِهِ الْوَحْيُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ وَإِيجَابُ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَتَحْرِيمُ مَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، بِخِلَافِ السُّؤَالِ عَنْهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ بِمَوْتِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا إِيجَابَ وَلَا تَحْرِيمَ يَتَسَبَّبُ عَنِ السُّؤَالِ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أن أَنَّ الشَّرْطِيَّةَ الثَّانِيَةَ فِيهَا إِبَاحَةُ السُّؤَالِ مَعَ وُجُودُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّرْطِيَّةَ الْأُولَى أَفَادَتْ عَدَمَ جَوَازِ السُّؤَالِ، وَالثَّانِيَةِ أَفَادَتْ جَوَازَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى: وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ غَيْرِهَا مِمَّا مَسَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ تُبْدَ لَكُمْ بجواب رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْهَا، وَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي عَنْها رَاجِعًا إِلَى أَشْيَاءَ غَيْرِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «1» وَهُوَ آدَمُ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً «2» أَيِ ابْنَ آدَمَ. قَوْلُهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْها أَيْ عَمَّا سَلَفَ مِنْ مَسْأَلَتِكُمْ فَلَا تَعُودُوا إِلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي سَأَلْتُمْ عَنْهَا هِيَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْكُمْ، فَكَيْفَ تَتَسَبَّبُونَ بِالسُّؤَالِ لِإِيجَابِ مَا هُوَ عَفْوٌ مِنَ اللَّهِ غَيْرُ لَازِمٍ؟ وَضَمِيرُ عَنْها عَائِدٌ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِلَى أَشْيَاءَ عَلَى الثَّانِي عَلَى أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ عَفَا اللَّهُ عَنْها صِفَةً ثَالِثَةً لِأَشْيَاءَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الثَّانِيَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَسْؤُولُ عَنْهُ قَدْ شَرَعَهُ اللَّهُ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْعَفْوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ: أَيْ تَرَكَهَا اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْهَا بِشَيْءٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ اللَّازِمَ الْبَاطِلَ، ثُمَّ جَاءَ سُبْحَانَهُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي كَوْنِهِ غَفُورًا حَلِيمًا لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ بِالْعُقُوبَةِ لِكَثْرَةِ مَغْفِرَتِهِ وَسِعَةِ حِلْمِهِ. قَوْلُهُ: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ لا تَسْئَلُوا لَكِنْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِعَيْنِهَا، بَلْ مِثْلُهَا فِي كَوْنِهَا مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَلَا تُوجِبُهُ الضَّرُورَةُ الدِّينِيَّةُ، ثُمَّ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا، بَلْ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ: أَيْ سَاتِرِينَ لَهَا تَارِكِينَ لِلْعَمَلِ بِهَا، وَذَلِكَ كَسُؤَالِ قَوْمِ صَالِحٍ النَّاقَةَ، وَأَصْحَابِ عِيسَى الْمَائِدَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ النَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا قَدْ أَذِنَ اللَّهُ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ فَقَالَ: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «3» وقال صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» . قَوْلُهُ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى أهل الجاهلية فيما ابتدعوه، وجعل هاهنا بِمَعْنَى سَمَّى كَمَا قَالَ: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا. وَالْبَحِيرَةُ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ كَالنَّطِيحَةِ وَالذَّبِيحَةِ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْبَحَرِ، وَهُوَ شَقُّ الْأُذُنِ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْبَحِيرَةُ هِيَ الَّتِي خُلِّيَتْ بِلَا رَاعٍ قِيلَ: هِيَ الَّتِي يُجْعَلُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْتَلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَجُعِلَ شَقُّ أُذُنِهَا عَلَامَةً لِذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانُوا إِذَا نَتَجَتِ النَّاقَةُ خَمْسَةَ أَبْطُنَ إِنَاثًا بُحِرَتْ أُذُنُهَا فَحُرِّمَتْ وَقِيلَ: إِنَّ النَّاقَةَ إِذَا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنَ، فَإِنْ كَانَ الْخَامِسُ ذَكَرًا بَحَرُوا أُذُنَهُ فَأَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْخَامِسُ أُنْثَى بَحَرُوا أُذُنَهَا وَكَانَتْ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا وَقِيلَ: إِذَا نَتَجَتِ النَّاقَةُ خَمْسَةَ أَبْطُنَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْإِنَاثِ شَقُّوا أُذُنَهَا وَحَرَّمُوا رُكُوبَهَا وَدَرَّهَا. وَالسَّائِبَةُ: النَّاقَةُ تَسِيبُ، أَوِ الْبَعِيرُ يسيب بنذر يكون عَلَى الرَّجُلِ إِنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ مَنْ مَرَضٍ أَوْ بَلَّغَهُ مَنْزِلَةً، فَلَا يُحْبَسُ عَنْ رَعْيٍ وَلَا مَاءٍ، وَلَا يَرْكَبُهُ أَحَدٌ قَالَهُ أَبُو عبيد. قال الشاعر:

_ (1) . المؤمنون: 12. (2) . المؤمنون: 13. (3) . النحل: 43.

وَسَائِبَةٌ لِلَّهِ تُنْمِي تَشَكُّرًا ... إِنِ اللَّهُ عَافَى عامرا أو مجاشعا وَقِيلَ هِيَ الَّتِي تُسَيَّبُ لِلَّهِ فَلَا قَيْدَ عَلَيْهَا وَلَا رَاعِيَ لَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَقَرْتُمْ نَاقَةً كَانَتْ لِرَبِّي ... مُسَيَّبَةً فَقُومُوا لِلْعِقَابِ وقيل: هذه الَّتِي تَابَعَتْ بَيْنَ عَشْرِ إِنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُرْكَبُ ظَهْرُهَا، وَلَا يُجَزُّ وَبَرُهَا وَلَا يَشْرَبُ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ وَقِيلَ: كَانُوا يُسَيِّبُونَ الْعَبْدَ فَيَذْهَبُ حَيْثُ يَشَاءُ لَا يَدَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ. وَالْوَصِيلَةُ: قِيلَ: هِيَ النَّاقَةُ إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى بَعْدَ أُنْثَى وَقِيلَ: هِيَ الشَّاةُ كَانَتْ إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى فَهِيَ لَهُمْ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا فَهُوَ لِآلِهَتِهِمْ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا: وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَمْ يَذْبَحُوا الذَّكَرَ لِآلِهَتِهِمْ وَقِيلَ: كَانُوا إِذَا وَلَدَتِ الشَّاةُ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ نَظَرُوا فَإِنْ كَانَ السَّابِعُ ذَكَرًا ذُبِحَ فَأَكَلَ مِنْهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تُرِكَتْ فِي الْغَنَمِ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا: وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَمْ يُذْبَحْ لِمَكَانِهَا، وَكَانَ لَحْمُهَا حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ فَيَأْكُلُهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَالْحَامُ: الْفَحْلُ الْحَامِي ظَهْرَهُ عَنْ أَنْ يُرْكَبَ، وَكَانُوا إِذَا ركب ولد وَلَدٌ الْفَحْلَ قَالُوا: حَمَى ظَهْرَهُ فَلَا يُرْكَبُ، قَالَ الشَّاعِرُ: حَمَاهَا أَبُو قَابُوسَ فِي عِزِّ مُلْكِهِ ... كَمَا قَدْ حَمَى أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ الْفَحْلُ وَقِيلَ: هُوَ الْفَحْلُ إِذَا نَتَجَ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَةً، قَالُوا: قَدْ حَمَى ظَهْرَهُ فَلَا يُرْكَبُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ كَلَأٍ وَلَا مَاءٍ، ثُمَّ وَصَفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ مَا قَالُوا ذَلِكَ إِلَّا افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَكَذِبًا، لَا لِشَرْعٍ شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَلَا لِعَقْلِ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ مَا أَرَكَّ عُقُولَ هَؤُلَاءِ وَأَضْعَفَهَا، يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ الَّتِي هِيَ مَحْضُ الرَّقَاعَةِ وَنَفْسُ الْحُمْقِ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَهَذِهِ أَفْعَالُ آبَائِهِمْ وَسُنَنِهِمُ الَّتِي سَنُّوهَا لَهُمْ، وَصَدَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَيْثُ يَقُولُ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ أَيْ وَلَوْ كَانُوا جَهَلَةً ضَالِّينَ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَقِيلَ: لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ: أَيْ أَحْسَبُهُمْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي قَالَتْهَا الْجَاهِلِيَّةُ نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكؤون عَلَيْهَا إِنْ دَعَاهُمْ دَاعِي الْحَقِّ وَصَرَخَ لَهُمْ صَارِخُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَاحْتِجَاجُهُمْ بِمَنْ قَلَّدُوهُ مِمَّنْ هُوَ مِثْلَهُمْ فِي التَّعَبُّدِ بِشَرْعِ اللَّهِ مَعَ مُخَالَفَةِ قَوْلِهِ لِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ لِسُنَّةِ رَسُولِهِ هُوَ كَقَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَلَيْسَ الْفَرْقُ إِلَّا فِي مُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ اللَّفْظِيَّةِ، لَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي عَلَيْهِ تَدُورُ الْإِفَادَةُ وَالِاسْتِفَادَةُ، اللَّهُمَّ غُفْرًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ: قَالَ الْخَبِيثُ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَالطَّيِّبُ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: فُلَانٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا السَّائِلُ فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ وَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَبُوكَ حُذَافَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

خَطَبَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: أَعْنِي لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ نَحْوَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وابن مردويه. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبي أمامة الباهلي نحوه. وأخرج ابن مردويه عن أبي مسعود نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ صَرَّحُوا فِي أَحَادِيثِهِمْ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الشَّيْءِ وَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ، فَمَا زَالُوا يَسْأَلُونَ حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ وَقَعُوا فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَيُحَرَّمُ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَفَرَضَ لَكُمْ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَتَرَكَ أَشْيَاءَ فِي غَيْرِ نِسْيَانٍ وَلَكِنْ رَحْمَةً لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا وَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ قال: البحيرة والسّائبة والوصيلة والحاكم. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ: الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلَا يَحْلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ: كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَالْوَصِيلَةُ: النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الْإِبِلِ ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى. وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ وَالْحَامِي فَحْلُ الْإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ، فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَّعُوهُ لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفُوهُ مِنَ الْحَمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَسَمَّوْهُ الْحَامِيَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْبَحِيرَةُ: النَّاقَةُ إِذَا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ نَظَرُوا إِلَى الْخَامِسِ، فَإِنْ كَانَ ذكرا ونحوه فَأَكَلَهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى جَدَعُوا آذَانَهَا فَقَالُوا: هَذِهِ بَحِيرَةٌ وَأَمَّا السَّائِبَةُ: فَكَانُوا يُسَيِّبُونَ مِنْ أَنْعَامِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ لَا يَرْكَبُونَ لَهَا ظَهْرًا، وَلَا يَحْلِبُونَ لَهَا لَبَنًا، وَلَا يَجُزُّونَ لَهَا وَبَرًا، وَلَا يَحْمِلُونَ عَلَيْهَا شَيْئًا وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ: فَالشَّاةُ إِذَا نَتَجَتْ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ نَظَرُوا إِلَى السَّابِعِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مَيِّتٌ اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى اسْتَحْيَوْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فِي بَطْنٍ اسْتَحْيَوْهُمَا وَقَالُوا: وَصَلَتْهُ أُخْتُهُ فَحَرَّمَتْهُ عَلَيْنَا. وَأَمَّا الْحَامُ: فَالْفَحْلُ مِنَ الْإِبِلِ إِذَا وُلِدَ لِوَلَدِهِ قَالُوا: حَمَى هَذَا ظَهْرَهُ فَلَا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَا يَجُزُّونَ لَهُ وَبَرًا، وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ حِمًى وَلَا مِنْ حَوْضٍ يَشْرَبُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ لِغَيْرِ صَاحِبِهِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طريق العوفيّ.

[سورة المائدة (5) : آية 105]

[سورة المائدة (5) : آية 105] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) أَيِ الْزَمُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ احْفَظُوهَا، كَمَا تَقُولُ: عَلَيْكَ زَيْدًا: أَيِ الْزَمْهُ، قُرِئَ: لَا يَضُرُّكُمْ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْمُ الْفِعْلِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَغَيْرُهُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَقَالَ رَائِدُهُمْ أَرْسُوا نُزَاوِلُهَا أَوْ عَلَى أَنَّ ضَمَّ الرَّاءِ لِلِاتِّبَاعِ، وَقُرِئَ: لَا يَضُرُّكُمْ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَقُرِئَ: «لَا يَضِيرُكُمْ» وَالْمَعْنَى: لَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ مَنْ ضَلَّ مِنَ النَّاسِ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ لِلْحَقِّ أَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَهُ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوضِ الدِّينِيَّةِ فَلَيْسَ بِمُهْتَدٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَكَاثِرَةُ، عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وُجُوبًا مُضَيَّقًا مُتَحَتِّمًا، فَتُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِوَاجِبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَا يُظَنُّ التَّأْثِيرُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَوْ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَحِلَّ بِهِ مَا يَضُرُّهُ ضَرَرًا يَسُوغُ لَهُ مَعَهُ التَّرْكُ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه وقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» . وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ جَرِيرٍ عَنْهُ «وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيَعُمُّنَّكُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشّعباني قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آية؟ قلت: قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَوَامِّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» وَفِي لَفْظٍ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَعْمَى، فَاحْتَبَسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ: يا رسول الله قرأت هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قَالَ:

[سورة المائدة (5) : الآيات 106 إلى 108]

فقال له النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَيْنَ ذَهَبْتُمْ؟ إِنَّمَا هِيَ لَا يَضُرُّكُمْ من ضلّ من الكفار إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِزَمَانِهَا إِنَّهَا الْيَوْمَ مَقْبُولَةٌ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَوْشَكَ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ فَيُصْنَعُ بِكُمْ كَذَا وَكَذَا، أَوْ قَالَ: فَلَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ، فَحِينَئِذٍ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: «مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ السَّوْطِ وَالسَّيْفِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهَا لِأَقْوَامٍ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِنَا إِنْ قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كُنْتُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْمَدِينَةِ فِي حَلْقَةٍ فِيهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِمْ شَيْخٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَرَأَ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فَقَالَ: إِنَّمَا تَأْوِيلُهَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشيخ عن أَبِي مَازِنٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا قَوْمٌ جُلُوسٌ فَقَرَأَ أَحَدُهُمْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فقال أكثرهم: لم يجيء تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ الْيَوْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَأَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَتَذَاكَرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟ فَأَقْبَلُوا عَلَيَّ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ فَقَالُوا: تنزع آية من القرآن لا تعرفها ولا تدري مَا تَأْوِيلُهَا؟ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ تَكَلَّمْتُ، ثُمَّ أَقْبَلُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَلَمَّا حَضَرَ قِيَامُهُمْ قَالُوا: إِنَّكَ غُلَامٌ حَدَثُ السِّنِّ، وَإِنَّكَ نَزَعْتَ آية لا تدري مَا هِيَ؟ وَعَسَى أَنْ تُدْرِكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ «إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ لَا يَضُرُّكَ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِي آخِرِهِ «كَأَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْكُمْ» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: ذَكَرْتُ هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لم يجيء تَأْوِيلُهَا، لَا يَجِيءُ تَأْوِيلُهَا حَتَّى يَهْبِطَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ» وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، فَفِيهِ مَا يُرْشِدُ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. [سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)

قَالَ مَكِّيٌّ: هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعَانِي مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ إِعْرَابًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا كَلَامُ من لم يقع له الثلج فِي تَفْسِيرِهَا، وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ كِتَابِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَعْنِي مِنْ كِتَابِ مَكِّيٍّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَا ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ قَبْلَهُ أَيْضًا. قَالَ السَّعْدُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْكَشَّافِ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا أَصْعَبُ مَا فِي الْقُرْآنِ إِعْرَابًا وَنَظْمًا وَحُكْمًا. قَوْلُهُ: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ أَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى الْبَيْنِ تَوَسُّعًا لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ بَيْنَهُمْ وَقِيلَ: أَصْلُهُ شَهَادَةُ مَا بَيْنَكُمْ فَحُذِفَتْ مَا وَأُضِيفَتْ إِلَى الظَّرْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تُصَافِحُ مَنْ لَاقَيْتَ لِي ذَا عَدَاوَةٍ ... صِفَاحًا وَعَنِّي بَيْنَ عَيْنَيْكَ مُنْزَوِي أَرَادَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْكَ، وَمِثْلَهُ قَوْلُ الْآخَرِ: وَيَوْمًا شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا «2» ..... أَيْ شَهْدِنَا فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ «3» قِيلَ: وَالشَّهَادَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْحُضُورِ لِلْوَصِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: هِيَ هُنَا بِمَعْنَى الْيَمِينِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يَمِينُ مَا بَيْنَكُمْ أَنْ يَحْلِفَ اثْنَانِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى مَا قَالَهُ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِلَّهِ حُكْمًا يَجِبُ فِيهِ عَلَى الشَّاهِدِ يَمِينٌ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْقَفَّالُ، وَضَعَّفَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَاخْتَارَ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا هِيَ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُؤَدَّى مِنَ الشُّهُودِ. قَوْلُهُ: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ظَرْفٌ لِلشَّهَادَةِ، وَالْمُرَادُ إِذَا حَضَرَتْ عَلَامَاتُهُ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُمْكِنُهُ الْإِشْهَادُ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لِلِاهْتِمَامِ وَلِكَمَالِ تَمَكُّنِ الْفَاعِلِ عِنْدَ النَّفْسِ. وَقَوْلُهُ: حِينَ الْوَصِيَّةِ ظَرْفٌ لِحَضَرَ أَوْ لِلْمَوْتِ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الظَّرْفِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: اثْنانِ خَبَرُ شَهَادَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ: أَيْ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ أَوْ فَاعِلٌ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا مَحْذُوفٌ: أَيْ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمُ اثْنَانِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ، ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. قَوْلُهُ: ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ صِفَةٌ لِلِاثْنَانِ وَكَذَا مِنْكُمْ: أَيْ كَائِنَانِ مِنْكُمْ: أَيْ مِنْ أَقَارِبِكُمْ أَوْ آخَرانِ مَعْطُوفٌ عَلَى اثْنانِ، ومِنْ غَيْرِكُمْ صِفَةٌ لَهُ: أَيْ كَائِنَانِ مِنَ الْأَجَانِبِ وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْكُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي غَيْرِكُمْ لِلْكُفَّارِ وَهُوَ الْأَنْسَبُ لِسِيَاقِ الْآيَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا، فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ فِي خُصُوصِ الْوَصَايَا كَمَا يُفِيدُهُ النَّظْمُ الْقُرْآنِيُّ، وَيَشْهَدُ لَهُ السَّبَبُ لِلنُّزُولِ وَسَيَأْتِي فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُوصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَى وَصِيَّتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَشْهَدْ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَإِذَا قَدِمَا وَأَدَّيَا الشَّهَادَةَ عَلَى وَصِيَّتِهِ حَلَفَا بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُمَا مَا كَذِبَا وَلَا بَدَّلَا، وَأَنَّ مَا شَهِدَا بِهِ حَقٌّ، فَيُحْكَمُ حينئذ بشهادتهما فَإِنْ عُثِرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلى أَنَّهُمَا كَذِبَا أَوْ خَانَا حَلَفَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمُوصِي، وَغَرَمَ الشَّاهِدَانِ الْكَافِرَانِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمَا مِنْ خِيَانَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد

_ (1) . سبأ: 33. (2) . وعجزه: قليل سوى الطعن النهال نوافله. والبيت لرجل من بني عامر. وسلّم وعامر: قبيلتان من قيس عيلان. (3) . الكهف: 78. [.....]

ابن جُبَيْرٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَالنَّخَعِيُّ وَشُرَيْحٌ وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ: أَعْنِي تَفْسِيرَ ضَمِيرِ مِنْكُمْ بِالْقَرَابَةِ أَوِ الْعَشِيرَةِ، وَتَفْسِيرَ مِنْ غَيْرِكُمْ بِالْأَجَانِبِ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ «1» . وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول، وخالفهم الجمهور فقالوا: الآية محكمة، وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النّسخ. وأما قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «2» فَهُمَا عَامَّانِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِحَالَةِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَبِالْوَصِيَّةِ وَبِحَالَةِ عَدَمِ الشُّهُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ عَامٍّ وَخَاصٍّ. قَوْلُهُ: إِنْ أَنْتُمْ هُوَ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ ضَرَبْتُمْ، أَوْ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ النُّحَاةِ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ. وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ هُوَ السَّفَرُ. وَقَوْلُهُ: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ إِنْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَنَزَلَ بِكُمُ الْمَوْتُ وَأَرَدْتُمُ الْوَصِيَّةَ وَلَمْ تَجِدُوا شُهُودًا عَلَيْهَا مُسْلِمِينَ، ثُمَّ ذَهَبَا إِلَى وَرَثَتِكُمْ بِوَصِيَّتِكُمْ وَبِمَا تَرَكْتُمْ فَارْتَابُوا فِي أَمْرِهِمَا وَادَّعَوْا عَلَيْهِمَا خِيَانَةً، فَالْحُكْمُ أَنْ تَحْبِسُوهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا لِجَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: فَكَيْفَ نَصْنَعُ إِنِ ارْتَبْنَا فِي الشَّهَادَةِ؟ فَقَالَ: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي شَهَادَتِهِمَا. وَخَصَّ بَعْدَ الصَّلَاةِ: أَيْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، قَالَهُ الْأَكْثَرُ لِكَوْنِهِ الْوَقْتُ الَّذِي يَغْضَبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ حَلَفَ فِيهِ فَاجِرًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ وَقْتَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَقُعُودِ الْحُكَّامِ لِلْحُكُومَةِ وَقِيلَ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَقِيلَ: أَيُّ صَلَاةٍ كَانَتْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: تَحْبِسُونَهُما صِفَةٌ لَآخَرَانِ، وَاعْتَرَضَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَبْسِ: تَوْقِيفُ الشَّاهِدَيْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِتَحْلِيفِهِمَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحَبْسِ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ، وَعَلَى جَوَازِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْحَالِفِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَنَحْوِهِمَا. قَوْلُهُ: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى تَحْبِسُونَهُما أَيْ يُقْسِمُ بِاللَّهِ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَوِ الْوَصِيَّانِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَلَى تَحْلِيفِ الشَّاهِدَيْنِ مُطْلَقًا إِذَا حَصَلَتِ الرِّيبَةُ فِي شَهَادَتِهِمَا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدَيْنِ هُنَا إِنَّمَا هُوَ لِوُقُوعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِمَا بِالْخِيَانَةِ أَوْ نَحْوِهَا. قَوْلُهُ: إِنِ ارْتَبْتُمْ جَوَابُ هَذَا الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ كَمَا سَبَقَ. قَوْلُهُ: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى: لَا نَبِيعُ حَظَّنَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْعَرَضِ النَّزْرِ، فَنَحْلِفُ بِهِ كَاذِبِينَ لِأَجْلِ الْمَالِ الَّذِي ادَّعَيْتُمُوهُ عَلَيْنَا وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الْقَسَمِ: أَيْ لَا نَسْتَبْدِلُ بِصِحَّةِ الْقَسَمِ بِاللَّهِ عَرَضًا مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْقَوْلِ: أَيْ لَا نَسْتَبْدِلُ بِشَهَادَتِنَا ثَمَنًا. قَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْمَعْنَى ذَا ثَمَنٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعُرُوضَ لَا تُسَمَّى ثَمَنًا، وَعِنْدَ الْأَكْثَرِ أَنَّهَا تُسَمَّى ثَمَنًا كَمَا تُسَمَّى مَبِيعًا. قَوْلُهُ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيْ وَلَوْ كَانَ الْمُقْسَمُ لَهُ أَوِ الْمَشْهُودُ لَهُ قَرِيبًا فَإِنَّا نُؤْثِرُ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ، وَلَا نُؤْثِرُ الْعَرَضَ الدُّنْيَوِيَّ وَلَا الْقَرَابَةَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لدلالة

_ (1) . البقرة: 282. (2) . الطلاق: 2.

مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ: أَيْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا. قَوْلُهُ: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى لَا نَشْتَرِي دَاخِلٌ مَعَهُ فِي حُكْمِ الْقَسَمِ، وَأَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ بِإِقَامَتِهَا وَالنَّاهِيَ عَنْ كَتْمِهَا. قَوْلُهُ: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً عَثَرَ عَلَى كَذَا: اطَّلَعَ عَلَيْهِ، يُقَالُ: عَثَرْتُ مِنْهُ عَلَى خِيَانَةٍ: أَيِ اطَّلَعْتُ وَأَعْثَرْتُ غَيْرِي عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ «1» وَأَصْلُ الْعُثُورِ الْوُقُوعُ وَالسُّقُوطُ عَلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قول الأعشى: بذات لوث «2» عفرناة إذا عثرت ... فالتّعس أدنى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا اطَّلَعَ بَعْدَ التَّحْلِيفِ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ أَوِ الْوَصِيَّيْنِ اسْتَحَقَّا إِثْمًا: أَيِ اسْتَوْجَبَا إِثْمًا إما بكذب الشَّهَادَةِ أَوِ الْيَمِينِ أَوْ بِظُهُورِ خِيَانَةٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْإِثْمُ هُنَا اسْمُ الشَّيْءِ المأخوذ، لأن آخذه يأثم خذه، فَسُمِّيَ إِثْمًا كَمَا سُمِّيَ مَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حَقٍّ مَظْلَمَةً. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَظْلَمَةُ اسْمُ مَا أُخِذَ مِنْكَ فَكَذَلِكَ سُمِّيَ هَذَا الْمَأْخُوذُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ. قَوْلُهُ: فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أَيْ فَشَاهِدَانِ آخَرَانِ أَوْ فَحَالِفَانِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ اللَّذَيْنِ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَيَشْهَدَانِ أَوْ يَحْلِفَانِ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ الَّتِي شَهِدَهَا الْمُسْتَحِقَّانِ لِلْإِثْمِ. قَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ اسْتَحَقَّ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأُبَيٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحَفْصٌ على البناء للفاعل، والْأَوْلَيانِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هُمَا الْأَوْلَيَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُمَا؟ فَقِيلَ: هُمَا الْأَوْلَيَانِ وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُومَانِ أَوْ مِنْ آخَرَانِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ الْأَوَّلِينَ: جَمْعُ أَوَّلٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ، أَوْ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْأَوَّلَانِ. وَالْمَعْنَى عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ: مَنِ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِثْمُ: أَيْ جَنَى عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْمَيِّتِ وَعَشِيرَتُهُ فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ بِالشَّهَادَةِ أَوِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَالْأَوْلَيَانِ تَثْنِيَةُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالشَّهَادَةِ أَنْ يُجَرِّدُوهُمَا لِلْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ وَيُظْهِرُوا بِهِمَا كَذِبَ الْكَاذِبِينَ لِكَوْنِهِمَا الْأَقْرَبِينَ إِلَى الْمَيِّتِ، فَالْأَوْلَيَانِ فَاعِلُ اسْتَحَقَّ وَمَفْعُولُهُ أَنْ يُجَرِّدُوهُمَا لِلْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ وَقِيلَ: الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنِ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ بِالْمَيِّتِ وَصِيَّتُهُ الَّتِي أَوْصَى بِهَا. قَوْلُهُ: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ عَطْفٌ عَلَى يَقُومانِ: أَيْ فَيَحْلِفَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا: أَيْ يَمِينُنَا، فَالْمُرَادُ بِالشَّهَادَةِ هُنَا الْيَمِينُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ «3» أَيْ يَحْلِفَانِ لَشَهَادَتُنَا عَلَى أَنَّهُمَا كَاذِبَانِ خَائِنَانِ أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا: أَيْ مِنْ يَمِينِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا صَادِقَانِ أَمِينَانِ وَمَا اعْتَدَيْنا أَيْ تَجَاوَزْنَا الحق في أيمننا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إِنْ كُنَّا حَلَفْنَا عَلَى بَاطِلٍ. قَوْلُهُ: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَيْ ذَلِكَ الْبَيَانُ الَّذِي قَدَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَعَرَفْنَا كَيْفَ يَصْنَعُ مَنْ أَرَادَ الْوَصِيَّةَ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَعِنْدَهُ كُفَّارٌ أَدْنى: أَيْ أَقْرَبَ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الشُّهُودُ الْمُتَحَمِّلُونَ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا فَلَا يُحَرِّفُوا وَلَا يُبَدِّلُوا وَلَا

_ (1) . الكهف: 21. (2) . ذات لوث: أي قوة. (3) . النور: 6.

يَخُونُوا وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الْمَنْفَعَةِ وَالْفَائِدَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِهِ فَالضَّمِيرُ فِي يَأْتُوا عَائِدٌ إِلَى شُهُودِ الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَقِيلَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْحُكْمِ. وَالْمُرَادُ تَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ، وَأَمْرُهُمْ بِأَنْ يَشْهَدُوا بِالْحَقِّ. قَوْلُهُ: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أَيْ تُرَدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ فَيَحْلِفُونَ عَلَى خِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُ الْوَصِيَّةِ فَيُفْتَضَحُ حِينَئِذٍ شُهُودُ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْ يَأْتُوا فَتَكُونُ الْفَائِدَةُ فِي شَرْعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِهَذَا الْحُكْمِ هِيَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا احْتِرَازُ شُهُودِ الْوَصِيَّةِ عَنِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ فَيَأْتُونَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا. أَوْ يَخَافُوا الِافْتِضَاحَ إِذَا رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى قَرَابَةِ الْمَيِّتِ فَحَلَفُوا بِمَا يَتَضَمَّنُ كَذِبَهُمْ أَوْ خِيَانَتَهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَأْدِيَةِ شَهَادَةِ شُهُودِ الْوَصِيَّةِ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ غَيْرِ كَذِبٍ وَلَا خِيَانَةٍ وَقِيلَ: إِنَّ يَخافُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ بَعْدَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَيَخَافُوا عَذَابَ الْآخِرَةِ بِسَبَبِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ أَوْ يَخَافُوا الِافْتِضَاحَ بِرَدِّ الْيَمِينِ، فَأَيُّ الْخَوْفَيْنِ وَقَعَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي مُخَالَفَةِ أَحْكَامِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ بِأَيِّ ذَنْبٍ، وَمِنْهُ الْكَذِبُ فِي الْيَمِينِ أَوِ الشَّهَادَةِ. وَحَاصِلُ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْمَقَامُ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَنَّ مَنْ حَضَرَتْهُ عَلَامَاتُ الْمَوْتِ أَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ عَدْلَيْنِ مِنْ عُدُولِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شُهُودًا مُسْلِمِينَ، وَكَانَ فِي سَفَرٍ، وَوَجَدَ كُفَّارًا جَازَ لَهُ أَنْ يُشْهِدَ رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَإِنِ ارْتَابَ بِهِمَا وَرَثَةُ الْمُوصِي حَلَفَا بِاللَّهِ عَلَى أَنَّهُمَا شَهِدَا بِالْحَقِّ وَمَا كَتَمَا مِنَ الشَّهَادَةِ شَيْئًا وَلَا خَانَا مِمَّا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ شَيْئًا، فَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ خِلَافُ مَا أَقْسَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَلَلٍ فِي الشَّهَادَةِ أَوْ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ زَعَمَا أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي مُلْكِهِمَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ حَلَفَ رَجُلَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ وَعُمِلَ بِذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النَّضْرِ وَهُوَ الْكَلْبِيُّ، عَنْ بَاذَانَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ تَمِيمٍ الداري في هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال: برىء النَّاسُ مِنْهَا غَيْرِي وَغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَتَيَا الشَّامَ لِتِجَارَتِهِمَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي هاشم يُقَالُ لَهُ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ بِتِجَارَةٍ، وَمَعَهُ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ، فَمَرِضَ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الْجَامَ فَبِعْنَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اقْتَسَمْنَاهُ أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا إِلَى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا، وَفَقَدُوا الْجَامَ فَسَأَلُونَا عَنْهُ: فَقُلْنَا: مَا تَرَكَ غَيْرَ هَذَا، أَوْ مَا دَفَعَ إِلَيْنَا غَيْرَهُ قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ بَعْدَ قدوم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، وَأَدَّيْتُ إِلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُمُ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُعَظَّمُ بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، فحلف فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ فَحَلَفَا، فَنُزِعَتِ الْخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ. وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو النَّضْرِ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: تَرَكَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. وأخرج

الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ، فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوّصا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّهِ مَا كَتَمْتُمَاهَا وَلَا اطَّلَعْتُمَا، ثُمَّ وَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ فَقِيلَ: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَإِنَّ الْجَامَ لصاحبهم، وأخذوا الجام، قال: وفيهم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الْآيَةَ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْكُوفِيُّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قِيلَ: إِنَّهُ صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِهِ. وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ هِيَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ، وَذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفَاسِيرِهِمْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ هِيَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الْآيَةَ قَالَ: هَذَا لِمَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ الْمُسْلِمُونَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَهَذَا لِمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْرَ اللَّهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِ ارْتِيبَ بِشَهَادَتِهِمَا اسْتَحْلَفَا بِاللَّهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مَا اشْتَرَيَا بِشَهَادَتِهِمَا ثَمَنًا قَلِيلًا، فَإِنِ اطَّلَعَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا فِي شَهَادَتِهِمَا، وَثَمَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَحَلَفَا بِاللَّهِ أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرَيْنِ بَاطِلَةٌ، فَذَلِكَ قوله: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً يَقُولُ: إِنِ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتِيَ الْكَافِرَانِ بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فَتُتْرَكُ شَهَادَةُ الْكَافِرَيْنِ وَيُحْكَمُ بِشَهَادَةِ الْأَوْلِيَاءِ، فَلَيْسَ عَلَى شُهُودِ الْمُسْلِمِينَ أَقْسَامٌ: إِنَّمَا الْأَقْسَامُ إِذَا كَانَا كَافِرَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ خَرَجَ مُسَافِرًا وَمَعَهُ مَالٌ فَأَدْرَكَهُ قَدَرُهُ، فَإِنْ وَجَدَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَفَعَ إِلَيْهِمَا تَرِكَتْهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمَا عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنْ أَدَّى فَسَبِيلُ مَا أَدَّى «1» ، وَإِنْ جَحَدَ اسْتُحْلِفَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ دُبُرَ صَلَاةٍ إِنَّ هَذَا الَّذِي دُفِعَ إِلَيَّ وما غيبت منه شيئا، فإذا حلف برىء، فَإِذَا أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ صَاحِبَا الْكِتَابِ فَشَهِدَا عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَى الْقَوْمُ عَلَيْهِ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ مَا لَهُمْ جُعِلَتْ أَيْمَانُ الْوَرَثَةِ مَعَ شَهَادَتِهِمْ ثُمَّ اقْتَطَعُوا حَقَّهُ، فَذَلِكَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ: اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قَالَ: مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زيد ابن أَسْلَمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَالْأَرْضُ حَرْبٌ وَالنَّاسُ كُفَّارٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَوَارَثُونَ بِالْوَصِيَّةِ، ثم

_ (1) . كذا في المطبوع، ولعل الصواب: فإن أدّيا ... جحدا ... استحلفا.. حلفا ... برئا ... عليهما.

[سورة المائدة (5) : الآيات 109 إلى 111]

نُسِخَتِ الْوَصِيَّةُ وَفُرِضَتِ الْفَرَائِضُ وَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ كَافِرٍ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ، إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ قَالَ: صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً قَالَ: لَا نَأْخُذُ بِهِ رَشْوَةً وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا بَعِيدًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أَيِ اطُّلِعَ مِنْهُمَا عَلَى خِيَانَةٍ عَلَى أَنَّهُمَا كَذَبَا أَوْ كَتَمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: الْأَوْلَيانِ قَالَ: بِالْمَيِّتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها يَقُولُ: ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يَصْدُقُوا فِي شَهَادَتِهِمْ أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ يَقُولُ: وَأَنْ يَخَافُوا الْعَتَبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ قَالَ: فَتَبْطُلُ أَيْمَانُهُمْ وَتُؤْخَذُ أَيْمَانُ هؤلاء. [سورة المائدة (5) : الآيات 109 الى 111] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) قَوْلُهُ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ: أَيِ اسْمَعُوا، أَوِ اذْكُرُوا، أَوِ احْذَرُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ مَفْعُولِ اتَّقُوا بَدَلُ اشْتِمَالٍ وقيل: ظرف لقوله: لا يَهْدِي الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مُتَأَخِّرٍ تَقْدِيرُهُ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يَكُونُ مِنَ الأحوال كذا وكذا. قَوْلُهُ: مَاذَا أُجِبْتُمْ أَيْ أَيُّ إِجَابَةٍ أَجَابَتْكُمْ بِهِ أُمَمُكُمُ الَّذِينَ بَعَثَكُمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ؟ أَوْ أَيُّ جَوَابٍ أَجَابُوكُمْ بِهِ؟ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ تَكُونُ مَا مَنْصُوبَةً بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهَا، وَتَوْجِيهُ السُّؤَالِ إِلَى الرُّسُلِ لِقَصْدِ تَوْبِيخِ قَوْمِهِمْ، وَجَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: لَا عِلْمَ لَنا مَعَ أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِمَا أَجَابُوا بِهِ عَلَيْهِمْ، تَفْوِيضٌ مِنْهُمْ، وَإِظْهَارٌ لِلْعَجْزِ، وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ السُّؤَالَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ فَإِنَّ تَفْوِيضَ الْجَوَابِ إِلَى اللَّهِ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ ذَلِكَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لا علم لنا لما أَحْدَثُوا بَعْدَنَا وَقِيلَ: لَا عِلْمَ لَنَا بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ بَوَاطِنُهُمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا عِلْمُ مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا وَقِيلَ: إِنَّهُمْ ذُهِلُوا عَمَّا أَجَابَ بِهِ قَوْمُهُمْ لِهَوْلِ الْمَحْشَرِ. قَوْلُهُ: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِذْ: بَدَلٌ مِنْ: يَوْمَ يَجْمَعُ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ التَّعْمِيمِ وَتَخْصِيصُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَيْنِ الرُّسُلِ لِاخْتِلَافِ طَائِفَتَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيهِ إِفْرَاطًا وَتَفْرِيطًا، هَذِهِ تَجْعَلُهُ إِلَهًا، وَهَذِهِ تَجْعَلُهُ كَاذِبًا، وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ اذكر.

قَوْلُهُ: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ ذَكَّرَهُ سُبْحَانَهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ- مَعَ كَوْنِهِ ذَاكِرًا لَهَا عَالِمًا بِتَفَضُّلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِهَا- لِقَصْدِ تَعْرِيفِ الْأُمَمِ بِمَا خَصَّهُمَا اللَّهُ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَمَيَّزَهُمَا بِهِ مِنْ عُلُوِّ الْمَقَامِ، أَوْ لِتَأْكِيدِ الْحُجَّةِ وَتَبْكِيتِ الْجَاحِدِ بِأَنَّ مَنْزِلَتَهُمَا عِنْدَ اللَّهِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ وَتَوْبِيخُ مَنِ اتَّخَذَهُمَا إِلَهَيْنِ بِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمَا كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُمَا عَبْدَانِ مِنْ جُمْلَةِ عِبَادِهِ مُنْعَمٌ عَلَيْهِمَا بِنِعَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ لَهُمَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. قَوْلُهُ: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ إِذْ ظَرْفٌ لِلنِّعْمَةِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ: أَيِ اذْكُرْ إِنْعَامِي عَلَيْكَ وَقْتَ تَأْيِيدِي لَكَ، أَوْ حَالٌ مِنَ النِّعْمَةِ: أَيْ كَائِنَةً ذَلِكَ الْوَقْتِ أَيَّدْتُكَ قَوَّيْتُكَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَيْدِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ. وَفِي رُوحِ الْقُدُسِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا الرُّوحُ الطَّاهِرَةُ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْكَلَامُ الَّذِي يُحْيِي بِهِ الْأَرْوَاحَ. وَالْقُدُسُ: الطُّهْرُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ سَبَبَهُ، وَجُمْلَةُ تُكَلِّمُ النَّاسَ مبينة لمعنى التأييد، وفِي الْمَهْدِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ تُكَلِّمُ النَّاسَ حَالَ كَوْنِكَ صَبِيًّا وَكَهْلًا لَا يَتَفَاوَتُ كَلَامُكَ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعَ أَنَّ غَيْرَكَ يَتَفَاوَتُ كَلَامُهُ فِيهِمَا تَفَاوُتًا بَيِّنًا. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ مَعْطُوفٌ عَلَى إِذْ أَيَّدْتُكَ أَيْ وَاذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَقْتَ تَعْلِيمِي لَكَ الْكِتَابَ: أَيْ جِنْسَ الْكِتَابِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْخَطُّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ ذِكْرُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ لِمَزِيدِ اخْتِصَاصِهِ بِهِمَا: أَمَّا التَّوْرَاةُ فَقَدْ كَانَ يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى الْيَهُودِ فِي غَالِبِ مَا يَدُورُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْجِدَالِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِذَلِكَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ فَلِكَوْنِهِ نَازِلًا عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ جِنْسُ الْحِكْمَةِ وَقِيلَ: هِيَ الْكَلَامُ الْمُحْكَمُ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أَيْ: تُصَوِّرُ تَصْوِيرًا مِثْلَ صُورَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي لَكَ بِذَلِكَ وَتَيْسِيرِي لَهُ فَتَنْفُخُ فِي الْهَيْئَةِ الْمُصَوَّرَةِ فَتَكُونُ هذه الهيئة طَيْراً مُتَحَرِّكًا حَيًّا كَسَائِرِ الطُّيُورِ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي لَكَ وَتَسْهِيلِهِ عَلَيْكَ وَتَيْسِيرِهِ لَكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا مُطَوَّلًا فِي الْبَقَرَةِ فَلَا نُعِيدُهُ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى مِنْ قُبُورِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةً لَكَ عَظِيمَةً بِإِذْنِي، وَتَكْرِيرُ بِإِذْنِي فِي الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ لِلِاعْتِنَاءِ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ لَيْسَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ فِعْلٌ إِلَّا مُجَرَّدَ امْتِثَالِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: وَإِذْ كَفَفْتُ مَعْطُوفٌ عَلَى إِذْ تُخْرِجُ كَفَفْتُ مَعْنَاهُ: دَفَعْتُ وَصَرَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَاتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَّا سِحْرٌ بَيِّنٌ، لَمَّا عَظُمَ ذَلِكَ فِي صَدْرِهِمْ وَانْبَهَرُوا مِنْهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى جَحْدِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ نَسَبُوهُ إِلَى السِّحْرِ. قَوْلُهُ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ. وَالْوَحْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ الْإِلْهَامُ: أَيْ أَلْهَمْتُ الْحَوَارِيِّينَ وَقَذَفْتُ فِي قُلُوبِهِمْ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَمَرْتُهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِي بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَيُؤْمِنُوا بِرِسَالَةِ رَسُولِي. قَوْلُهُ: قالُوا آمَنَّا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالُوا؟ فَقَالَ: قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ أَيْ مُخْلِصُونَ لِلْإِيمَانِ: أَيْ وَاشْهَدْ يَا رَبِّ، أَوْ وَاشْهَدْ يَا عِيسَى. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:

[سورة المائدة (5) : الآيات 112 إلى 115]

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ فَيَفْزَعُونَ فَيَقُولُونَ: لَا عِلْمَ لَنا فَتَرُدُّ إِلَيْهِمْ أَفْئِدَتُهُمْ فَيَعْلَمُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذَلِكَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا مَنْزِلًا ذُهِلَتْ فِيهِ الْعُقُولُ، فَلَمَّا سُئِلُوا قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا، ثُمَّ نَزَلُوا مَنْزِلًا آخَرَ فَشَهِدُوا عَلَى قَوْمِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا فَرَقًا يُذْهِلُ عُقُولَهُمْ، ثُمَّ يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ عُقُولَهُمْ فَيَكُونُونَ هُمُ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ بِقَوْلِ اللَّهِ: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُدْعَى بِالْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهَا، ثُمَّ يُدْعَى بِعِيسَى فَيُذَكِّرُهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ فَيُقِرُّ بِهَا، فَيَقُولُ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ الْآيَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ، فَيُؤْتَى بِالنَّصَارَى فَيُسْأَلُونَ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هُوَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، فَيَطُولُ شَعْرُ عِيسَى حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِشَعْرَةٍ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ، فَيُجَاثِيهِمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مِقْدَارَ أَلْفِ عَامٍ حَتَّى يُوقِعَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، وَيُرْفَعَ لَهُمُ الصَّلِيبُ، وَيُنْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ بِالْآيَاتِ الَّتِي وَضَعَ عَلَى يَدَيْهِ: مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِهِ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ وَالْخَبَرِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْغُيُوبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ يَقُولُ: قَذَفْتُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. [سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115] إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) قَوْلُهُ: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ: أَيِ اذْكُرْ أَوْ نَحْوَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، قِيلَ: والخطاب لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَرَأَ الْكِسَائِيُّ «هَلْ تَسْتَطِيعُ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَنَصْبُ رَبَّكَ، وَبِهِ قَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَرَفْعِ رَبُّكَ. وَاسْتَشْكَلَتِ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ بِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَ سبحانه الحواريين بِأَنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ وَالسُّؤَالُ عَنِ اسْتِطَاعَتِهِ لِذَلِكَ يُنَافِي مَا حَكَوْهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ مَعْرِفَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَحْكِمَ مَعْرِفَتُهُمْ بِاللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ لَا تَشُكُّوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَقِيلَ: إِنَّهُمُ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ دَعْوَى بَاطِلَةً، وَيَرُدُّهُ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ هُمْ خُلَصَاءُ عِيسَى وَأَنْصَارُهُ كَمَا قال: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ

_ (1) . الأعراف: 60.

الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ «1» وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا فِي اسْتِطَاعَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ عَارِفِينَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: هَلْ يَسْتَطِيعُ فُلَانٌ أَنْ يأتي؟ مع علمه بأنه يَسْتَطِيعَ ذَلِكَ وَيَقْدِرَ عَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: هَلْ يَفْعَلُ ذلك وهل يجيب إِلَيْهِ؟ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ طَلَبُوا الطُّمَأْنِينَةَ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى «2» الْآيَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ مِنْ بَعْدُ وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، فَالْمَعْنَى: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى هَلْ تَسْتَدْعِي طَاعَةَ رَبِّكَ فِيمَا تَسْأَلُهُ فهو من باب وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» ، ومائِدَةً: الْخُوَانُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ، مِنْ مَادَّهُ: إِذَا أَعْطَاهُ وَرَفَدَهُ كَأَنَّهَا تُمِيدُ مَنْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَالَهُ قُطْرُبٌ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: هِيَ فَاعِلَةٌ بمعنى مفعولة ك عِيشَةٍ راضِيَةٍ «4» قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. فَأَجَابَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيِ اتَّقُوهُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ وَأَمْثَالِهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي إِيمَانِكُمْ، فَإِنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ تَرْكُ الِاقْتِرَاحَ عَلَى رَبِّهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِيَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى حُصُولِ مَا طَلَبُوهُ. قَوْلُهُ: قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها بَيَّنُوا بِهِ الْغَرَضَ مِنْ سُؤَالِهِمْ نُزُولَ الْمَائِدَةِ، وَكَذَا مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ وَالْمَعْنَى: تَطْمَئِنُّ قُلُوبُنَا بِكَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ بِأَنَّكَ مُرْسَلٌ إِلَيْنَا مِنْ عِنْدِهِ، أَوْ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَابَنَا إِلَى مَا سَأَلْنَاهُ، وَنَعْلَمُ عِلْمًا يَقِينًا بِأَنَّكَ قد صادقتنا فِي نُبُوَّتِكَ، وَنَكُونُ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ: عِنْدَ مَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ أَوْ مِنَ الشَّاهِدِينَ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَوْ مِنَ الشَّاهِدِينَ: أَيِ الْحَاضِرِينَ دُونَ السَّامِعِينَ. وَلَمَّا رَأَى عِيسَى مَا حَكَوْهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْغَرَضِ بِنُزُولِ الْمَائِدَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أَيْ كَائِنَةً أَوْ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَأَصْلُ اللَّهُمَّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَأَتْبَاعِهِ: يَا اللَّهُ، فَجُعِلَتِ الْمِيمُ بَدَلًا مِنْ حَرْفِ النِّدَاءِ، وَرَبُّنَا نِدَاءٌ ثَانٍ، وليس بوصف، وتَكُونُ لَنا عِيداً وَصْفٌ لِمَائِدَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ يَكُونُ لنا عيدا أي يكون نُزُولِهَا لَنَا عِيدًا. وَقَدْ كَانَ نُزُولُهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ لَهُمْ وَالْعِيدُ وَاحِدُ الأعياد، وإنما جمع بِالْيَاءِ وَأَصْلُهُ الْوَاوُ لِلُزُومِهَا فِي الْوَاحِدِ وَقِيلَ: لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْوَادٍ جَمْعُ عُودٍ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ عَادَ يَعُودُ: أَيْ رَجَعَ فَهُوَ عَوْدٌ بِالْوَاوِ، وَتُقْلَبُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا مِثْلَ الْمِيزَانِ وَالْمِيقَاتِ وَالْمِيعَادِ، فَقِيلَ: لِيَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى عِيدَانِ، لِأَنَّهُمَا يَعُودَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعِيدُ كُلُّ يوم جمع كأنهم عادوا إليه. قوله: لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَنَا بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ: أَيْ لِمَنْ فِي عَصْرِنَا وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَنَا مِنْ ذَرَارِينَا وَغَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ: وَآيَةً مِنْكَ عَطْفٌ عَلَى عِيدًا، أَيْ دَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِكَ وَصِحَّةِ إِرْسَالِكَ مَنْ أَرْسَلْتَهُ وَارْزُقْنا أَيْ: أَعْطِنَا هَذِهِ الْمَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ، أَوِ ارْزُقْنَا رِزْقًا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى عِبَادَتِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ بَلْ لَا رَازِقَ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُكَ وَلَا مُعْطِيَ سِوَاكَ، فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سُؤَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنِّي مُنَزِّلُها أَيِ الْمَائِدَةُ عَلَيْكُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَائِدَةُ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْحَقُّ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وَوَعْدُهُ الْحَقُّ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا نَزَلَتْ وإنما هو ضرب

_ (1) . آل عمران: 52. (2) . البقرة: 260. (3) . يوسف: 82. (4) . الحاقة: 21.

[سورة المائدة (5) : الآيات 116 إلى 120]

مَثَلٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِخَلْقِهِ نَهْيًا لَهُمْ عَنْ مَسْأَلَةِ الْآيَاتِ لِأَنْبِيَائِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: وَعَدَهُمْ بِالْإِجَابَةِ، فَلَمَّا قَالَ: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَقَالُوا: لَا نُرِيدُهَا. قَوْلُهُ: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أَيْ بَعْدَ تَنْزِيلِهَا فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً أَيْ تَعْذِيبًا لَا أُعَذِّبُهُ صِفَةٌ لَعَذَابًا، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ بِمَعْنَى التَّعْذِيبِ: أَيْ لَا أُعَذِّبُ مِثْلَ ذَلِكَ التَّعْذِيبِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قيل: المراد عالمي زمانهم، وقيل: جميع الْعَالَمِينَ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ الْحَوَارِيُّونَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ إِنَّمَا قَالُوا: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْتَ رَبَّكَ أَنْ تَدْعُوَهُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ بِالتَّاءِ يَعْنِي الْفَوْقِيَّةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْمَائِدَةُ: الْخُوَانُ، وَتَطَمْئِنَّ: تُوقِنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: تَكُونُ لَنا عِيداً يَقُولُ: نَتَّخِذُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عِيدًا نُعَظِّمُهُ نَحْنُ وَمَنْ بَعْدَنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تَصُومُوا لِلَّهِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَسْأَلُوهُ فَيُعْطِيكُمْ مَا سَأَلْتُمْ؟ فَإِنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ عَلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، فَفَعَلُوا ثُمَّ قَالُوا: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ، قُلْتَ: لَنَا إِنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ عَلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، وَأَمَرْتَنَا أَنْ نَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَفَعَلْنَا، وَلَمْ نَكُنْ نَعْمَلُ لِأَحَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا إِلَّا أَطْعَمَنَا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً إِلَى قَوْلِهِ: أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فَأَقْبَلَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطِيرُ بِمَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهَا سَبْعَةُ أَحْوَاتٍ وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ حَتَّى وَضَعَتْهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ أَوَّلُهُمْ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُزِّلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ، فَخَافُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى عَمَّارٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْوَقْفُ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: المائدة سمكة وأريغفة. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَالْحَوَارِيِّينَ خُوانٌ عَلَيْهِ سَمَكٌ وَخُبْزٌ يَأْكُلُونَ مِنْهُ أَيْنَمَا تولوا إذا شاؤوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ وَالْمُنَافِقُونَ وَآلُ فرعون. [سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 120] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

قَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ اللَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِعَامِلِهِ أَوْ بِعَامِلٍ مُقَدَّرٍ هُنَا: أَيِ اذْكُرْ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالنُّكْتَةُ تَوْبِيخُ عُبَّادِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ مِنَ النَّصَارَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَقُطْرُبٌ: إِنَّهُ قَالَ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ لَمَّا قَالَتِ النَّصَارَى فِيهِ مَا قَالَتْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى: قِيلَ: وَإِذْ هُنَا بِمَعْنَى إِذَا، كقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا «1» أَيْ إِذَا فَزِعُوا، وَقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: ثُمَّ جزاه اللَّهُ عَنِّي إِذْ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي السّموات الْعُلَى أَيْ إِذَا جَزَى، وَقَوْلِ الْأَسْوَدِ بْنِ جعفر الأزدي: فالآن إِذْ هَازَلْتُهُنَّ فَإِنَّمَا ... يَقُلْنَ أَلَا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبًا أَيْ إِذَا هَازَلْتُهُنَّ تَعْبِيرًا عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مِنْهُ تَعَالَى إِنَّهُ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ كَمَا سَبَقَ وَقِيلَ: لِقَصْدِ تَعْرِيفِ الْمَسِيحِ بِأَنَّ قَوْمَهُ غَيَّرُوا بَعْدَهُ وَادَّعَوْا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: اتَّخِذُونِي عَلَى أَنَّهُ حَالٌ: أَيْ مُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِإِلَهَيْنِ: أَيْ كَائِنِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ تَنْزِيهٌ لَهُ سُبْحَانَهُ: أَيْ أُنَزِّهُكَ تَنْزِيهًا مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أَيْ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَّعِيَ لِنَفْسِي مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهَا إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ عَدَمُ الْقَوْلِ مِنْهُ. قَوْلُهُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا: أَيْ تَعْلَمُ مَعْلُومِي وَلَا أَعْلَمُ مَعْلُومَكَ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: تَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِكَ وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أُخْفِيهِ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيهِ وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أُرِيدُ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُرِيدُ. قَوْلُهُ: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَ: أَيْ مَا أَمَرْتُهُمْ إِلَّا بِمَا أَمَرْتَنِي أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ هَذَا تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى مَا قُلْتُ لَهُمْ أَيْ مَا أَمَرْتُهُمْ، وَقِيلَ: عَطْفُ بَيَانٍ لِلْمُضْمَرِ فِي بِهِ وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْهُ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أَيْ: حَفِيظًا وَرَقِيبًا أَرْعَى أَحْوَالَهُمْ وَأَمْنَعُهُمْ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِكَ مَا دُمْتُ فِيهِمْ أَيْ: مُدَّةَ دَوَّامِي فِيهِمْ. فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَوَفَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لأن الأخبار قد تضافرت بِأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَأَنَّهُ بَاقٍ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْزِلَ إِلَى الْأَرْضِ آخِرَ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: فَلَمَّا رَفَعْتَنِي إِلَى السَّمَاءِ. قِيلَ: الْوَفَاةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ جَاءَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: بِمَعْنَى الْمَوْتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «2» وَبِمَعْنَى النَّوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «3» أي ينيمكم،

_ (1) . سبأ: 51. (2) . الزمر: 42. (3) . الأنعام: 60. [.....]

وبمعنى الرفع، ومنه فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي وإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ «1» . كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أَصْلُ الْمُرَاقَبَةِ: الْمُرَاعَاةُ، أَيْ كُنْتَ الْحَافِظَ لَهُمْ. وَالْعَالِمَ بِهِمْ وَالشَّاهِدَ عَلَيْهِمْ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ تَصْنَعُ بِهِمْ مَا شِئْتَ وَتَحْكُمُ فِيهِمْ بِمَا تُرِيدُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ، قِيلَ: قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْطَافِ كَمَا يَسْتَعْطِفُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عَصَوْكَ وَقِيلَ: قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَلِهَذَا عَدَلَ عَنِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ إِلَى الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. قَوْلُهُ: قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ أَيْ صِدْقُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ فِي الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ يَوْمَ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، فَوَجْهُ النَّصْبِ أَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْقَوْلِ: أَيْ قَالَ اللَّهُ هَذَا الْقَوْلَ يَوْمَ يَنْفَعُ الصادقين، ووجه الرفع أنه خبر للمبتدأ هذا وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ «2» . وَقَالَ الْكِسَائِيُّ نُصِبَ يَوْمَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَأَنْشَدَ: عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... وَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ، وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ مَا قَالَاهُ إِلَّا إِذَا أُضِيفَ الظَّرْفُ إِلَى فِعْلٍ مَاضٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ بِتَنْوِينِ يَوْمٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً «3» فَكِلَاهُمَا مَقْطُوعٌ عَنِ الْإِضَافَةِ بِالتَّنْوِينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً. قَوْلُهُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أَيْ رَضِيَ عَنْهُمْ بِمَا عَمِلُوهُ مِنَ الطَّاعَاتِ الْخَالِصَةِ لَهُ، وَرَضُوا عَنْهُ بِمَا جَازَاهُمْ بِهِ مِمَّا لَا يَخْطُرُ لَهُمْ عَلَى بَالٍ وَلَا تَتَصَوَّرُهُ عُقُولُهُمْ، وَالرِّضَا مِنْهُ سُبْحَانَهُ هُوَ أَرْفَعُ دَرَجَاتِ النَّعِيمِ وَأَعْلَى مَنَازِلَ الْكَرَامَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى نَيْلِ مَا نَالُوهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالْخُلُودِ فِيهَا أَبَدًا، وَرِضْوَانِ اللَّهِ عَنْهُمْ. وَالْفَوْزُ: الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ عَلَى أَتَمِّ الْأَحْوَالِ. قَوْلُهُ: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ جَاءَ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْخَاتِمَةِ دَفْعًا لِمَا سَبَقَ مِنْ إِثْبَاتِ مَنْ أَثْبَتَ إِلَهِيَّةِ عِيسَى وَأُمِّهِ، وأخبر بأن ملك السموات وَالْأَرْضِ لَهُ دُونَ عِيسَى وَأُمِّهِ وَدُونَ سَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ دُونَ غيره، وقيل المعنى: أن له ملك السموات وَالْأَرْضِ يُعْطِي الْجَنَّاتِ لِلْمُطِيعِينَ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَلَقَّى عِيسَى حُجَّتَهُ وَاللَّهُ لَقَّاهُ في قوله: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ ذَلِكَ لَمَّا رَفَعَ عِيسَى إِلَيْهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى مَا قَالَتْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي

_ (1) . آل عمران: 55. (2) . الضمير في إليه: يعود على يوم. (3) . البقرة: 48.

قَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ قَالَ: سَيِّدِي وَسَيِّدَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ قَالَ: الْحَفِيظَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ قَالَ: مَا كُنْتُ فِيهِمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ يَقُولُ: عَبِيدُكَ قَدِ اسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ بِمَقَالَتِهِمْ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ أَيْ مَنْ تَرَكْتَ مِنْهُمْ وَمُدَّ فِي عُمْرِهِ حَتَّى أَهْبِطَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ لِقَتْلِ الدَّجَّالِ، فَزَالُوا عَنْ مَقَالَتِهِمْ وَوَحَّدُوكَ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ يَقُولُ: هَذَا يَوْمٌ ينفع الموحّدين توحيدهم.

سورة الأنعام

سورة الأنعام قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: سُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِلَى آخَرِ ثلاث آيات، وقُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَى آخر ثلاث آيات. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ، يَعْنِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ هُمَا وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِمَكَّةَ لَيْلًا جُمْلَةً وَحَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجْأَرُونَ حَوْلَهَا بِالتَّسْبِيحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مردويه عن أسماء قالت: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَسِيرٍ فِي زَجَلٍ «1» مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ نُظِّمُوا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ» وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَائِلَةَ شَيْخِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ يوسف ابن عَطِيَّةَ بْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ. وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ رَوَاهُ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورِ بِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ وَمَعَهَا مَوْكِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُدُّ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، وَالْأَرْضُ تَرْتَجُّ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا سَدَّ الْأُفُقَ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ خَمْسًا خَمْسًا، وَمَنْ حَفِظَهُ خَمْسًا خَمْسًا لَمْ يَنْسَهُ، إِلَّا سُورَةُ الْأَنْعَامِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً يُشِيِّعُهَا مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ سَبْعُونَ مَلَكًا حَتَّى أَدَّوْهَا إِلَى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، مَا قُرِئَتْ عَلَى عَلِيلٍ إِلَّا شَفَاهُ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُورَةُ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ إِلَى تَمَامِ الآيات الثلاث. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «يُنَادِي مُنَادٍ: يَا قَارِئَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ هَلُمَّ إِلَى الْجَنَّةِ بِحُبِّكَ إِيَّاهَا وَتِلَاوَتِهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جَمِيعًا مَعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَالدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كتاب

_ (1) . زجل: صوت رفيع عال.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 إلى 3]

الصَّلَاةِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: الْأَنْعَامُ مِنْ نَوَاجِبِ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ السَّلَفِيُّ بِسَنَدٍ وَاهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَرَأَ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ إِلَى وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ نَزَلَ إِلَيْهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ أَعْمَالِهِمْ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَمَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَإِنْ أَوْحَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سَبْعُونَ حِجَابًا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا رَبُّكَ وَأَنْتَ عَبْدِي، امْشِ فِي ظِلِّي، وَاشْرَبْ مِنَ الْكَوْثَرِ، وَاغْتَسِلْ مِنَ السَّلْسَبِيلِ، وَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ» . وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، وَقَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ، وَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ مَلَكًا يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَفِي فَضَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ رِوَايَاتٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مَرْفُوعَةٌ وَغَيْرُ مَرْفُوعَةٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ السُّورَةُ أَصْلٌ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَهَذَا يَقْتَضِي إِنْزَالَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ مِنَ الْحُجَّةِ وَإِنْ تَصَرَّفَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَعَلَيْهَا بَنَى الْمُتَكَلِّمُونَ أُصُولَ الدين. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) بَدَأَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لَهُ، وَلِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ لَهُ هُنَا، ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِخْبَارًا عَنْ قُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ الْمُوجِبَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، فَإِنَّ مَنِ اخْتَرَعَ ذَلِكَ وَأَوْجَدَهُ هُوَ الْحَقِيقُ بِإِفْرَادِهِ بِالثَّنَاءِ وَتَخْصِيصِهِ بِالْحَمْدِ، وَالْخَلْقُ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ، وَبِمَعْنَى التَّقْدِيرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ، وَجَمَعَ السَّمَاوَاتِ لِتَعَدُّدِ طِبَاقِهَا، وَقَدَّمَهَا عَلَى الْأَرْضِ لِتَقَدُّمِهَا فِي الْوُجُودِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «1» . قَوْلُهُ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ مَعْطُوفٌ عَلَى خَلَقَ، ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ الْجَوَاهِرِ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْأَعْرَاضِ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ لِأَنَّ الْجَوَاهِرَ لَا تَسْتَغْنِي عَنِ الْأَعْرَاضِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ سَوَادُ اللَّيْلِ، وَبِالنُّورِ ضِيَاءُ النَّهَارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ، انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الظُّلُمَاتِ تَشْمَلُ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الظُّلْمَةِ، وَالنُّورَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسم النور،

_ (1) . النازعات: 30.

فَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ ظُلْمَةُ الْكُفْرِ وَنُورُ الْإِيمَانِ أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ «1» وَأَفْرَدَ النُّورَ لِأَنَّهُ جِنْسٌ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ، وَجَمَعَ الظُّلُمَاتِ لِكَثْرَةِ أَسْبَابِهَا وَتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ: وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى خَلَقَ لَمْ تَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَيْهِ يَتَّفِقُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي النَّسَقِ، فَيَكُونُ الْجَمْعُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَمْعِ، وَالْمُفْرَدُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُفْرَدِ، وَتَقْدِيمُ الظُّلُمَاتِ عَلَى النُّورِ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، وَلِهَذَا كَانَ النَّهَارُ مَسْلُوخًا مِنَ اللَّيْلِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ عَلَى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَثُمَّ: لِاسْتِبْعَادِ مَا صَنَعَهُ الْكُفَّارُ مِنْ كَوْنِهِمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ مَعَ مَا تَبَيَّنَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَقِيقٌ بِالْحَمْدِ عَلَى خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِهِ وَصَرْفَ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ إِلَيْهِ، لَا الْكُفْرَ بِهِ وَاتِّخَاذَ شَرِيكٍ لَهُ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لِلِاهْتِمَامِ، وَرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ، وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ لِظُهُورِهِ أَيْ يَعْدِلُونَ بِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْحُمْقِ وَغَايَةُ الرَّقَاعَةِ حَيْثُ يَكُونُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ تِلْكَ النِّعَمُ، وَيَكُونُ مِنَ الْكَفَرَةِ الْكُفْرُ. قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ فِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ: أَنَّ الْمُرَادَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْخِطَابِ لِلْجَمِيعِ، لِأَنَّهُمْ وَلَدُهُ وَنَسْلُهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمِيعَ الْبَشَرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النُّطْفَةَ الَّتِي خُلِقُوا مِنْهَا مَخْلُوقَةً مِنَ الطِّينِ، ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَ آدَمَ وَبَنِيهِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِتِّبَاعًا لِلْعَالَمِ الْأَصْغَرِ بِالْعَالَمِ الْأَكْبَرِ، وَالْمَطْلُوبُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأُمُورِ دَفْعُ كُفْرِ الْكَافِرِينَ بِالْبَعْثِ وَرَدٍّ لِجُحُودِهِمْ بِمَا هُوَ مُشَاهَدٌ لَهُمْ لَا يَمْتَرُونَ فِيهِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ جَاءَ بِكَلِمَةِ ثُمَّ لِمَا بَيْنَ خَلْقِهِمْ وَبَيْنَ مَوْتِهِمْ مِنَ التَّفَاوُتِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْأَجَلَيْنِ، فَقِيلَ: قَضى أَجَلًا يَعْنِي الْمَوْتَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ يَعْنِي الْقِيَامَةَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَعَطِيَّةَ وَالسُّدِّيِّ وَخُصَيْفٍ وَمُقَاتِلٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ وَالثَّانِي مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مُدَّةُ الدُّنْيَا وَالثَّانِي عُمْرُ الْإِنْسَانِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ فِي النَّوْمِ وَالثَّانِي: قَبْضُ الرُّوحِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا يُعْرَفُ مِنْ أَوْقَاتِ الْأَهِلَّةِ وَالْبُرُوجِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ وَالثَّانِي أَجَلُ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ لِمَنْ مَضَى وَالثَّانِي لِمَنْ بَقِيَ وَلِمَنْ يَأْتِي. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَوَّلَ الْأَجَلُ الَّذِي هُوَ مَحْتُومٌ والثاني: لزيادة فِي الْعُمْرِ لِمَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ، فَإِنْ كَانَ بَرًّا تَقِيًّا وَصُولًا لِرَحِمِهِ زِيدَ فِي عُمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا لِلرَّحِمِ لَمْ يُزَدْ لَهُ، وَيُرْشِدُ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ «2» . وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ، وَوَرَدَ عَنْهُ أَنَّ دُخُولَ الْبِلَادِ الَّتِي قَدْ فَشَا بِهَا الطَّاعُونُ وَالْوَبَاءُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ لِأَنَّهَا قَدْ تَخَصَّصَتْ بِالصِّفَةِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ اسْتِبْعَادٌ لِصُدُورِ الشَّكِّ مِنْهُمْ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِهِ: أَيْ كَيْفَ تَشُكُّونَ فِي الْبَعْثِ مَعَ مُشَاهَدَتِكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ مَا يَذْهَبُ بِذَلِكَ وَيَدْفَعُهُ، فَإِنَّ مَنْ خلقكم من طين،

_ (1) . الأنعام: 122. (2) . فاطر: 11.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 إلى 11]

وَصَيَّرَكُمْ أَحْيَاءَ تَعْلَمُونَ وَتَعْقِلُونَ، وَخَلَقَ لَكُمْ هَذِهِ الْحَوَاسَّ وَالْأَطْرَافَ، ثُمَّ سَلَبَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فَصِرْتُمْ أَمْوَاتًا، وَعُدْتُمْ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجُمَادِيَّةِ، لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَبْعَثَكُمْ وَيُعِيدَ هَذِهِ الْأَجْسَامَ كَمَا كَانَتْ، وَيَرُدَّ إِلَيْهَا الْأَرْوَاحَ الَّتِي فَارَقَتْهَا بِقُدْرَتِهِ وَبَدِيعِ حِكْمَتِهِ. قَوْلُهُ: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ قيل: إن في السموات وَفِي الْأَرْضِ، مُتَعَلِّقٌ بِاسْمِ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ مَعْبُودًا وَمُتَصَرِّفًا وَمَالِكًا أَيْ هُوَ الْمَعْبُودُ أَوِ الْمَالِكُ أَوِ الْمُتَصَرِّفُ في السموات وَالْأَرْضِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ الْخَلِيفَةُ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ أَيْ حَاكِمٌ أَوْ مُتَصَرِّفٌ فِيهِمَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَهُوَ اللَّهُ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ فِي السموات وَفِي الْأَرْضِ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِمَا مَا بَعْدَهُمَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ جرير: هو الله في السموات وَيَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ فِي الْأَرْضِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَكُونُ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ جُمْلَةً مُقَرِّرَةً لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَهُ بِأَسْرَارِ عِبَادِهِ وَجَهْرِهِمْ، وَعِلْمَهُ بِمَا يَكْسِبُونَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَعْنِي: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشيخ عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزَّنَادِقَةِ، قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقِ الظُّلْمَةَ وَلَا الْخَنَافِسَ وَلَا الْعَقَارِبَ وَلَا شَيْئًا قَبِيحًا، وَإِنَّمَا خلق النُّورَ وَكُلَّ شَيْءٍ حَسَنٍ، فَأُنْزِلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ قَالَ: الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَعْدِلُونَ يُشْرِكُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن زيد في قوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ قَالَ: الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدُوهَا عَدَلُوهَا بِاللَّهِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ عِدْلٌ وَلَا نِدٌّ، وَلَيْسَ مَعَهُ آلِهَةٌ وَلَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يَعْنِي آدَمَ ثُمَّ قَضى أَجَلًا يَعْنِي أَجَلَ الْمَوْتِ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَجَلُ السَّاعَةِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ قَضى أَجَلًا قَالَ: أَجَلُ الدُّنْيَا، وَفِي لَفْظٍ أَجَلُ مَوْتِهِ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ قَالَ: الْآخِرَةُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَضى أَجَلًا قَالَ: هُوَ الْيَوْمُ يُقْبَضُ فِيهِ الرُّوحُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهِ مِنَ الْيَقَظَةِ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ قَالَ: هُوَ أجل موت الإنسان. [سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 11] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)

قَوْلُهُ: وَما تَأْتِيهِمْ إِلَخْ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِبَيَانِ بَعْضِ أَسْبَابِ كُفْرِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ كَمُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا يَصْدُرُ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ الْبَاهِرَةِ مِمَّا لَا يَشُكُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْإِعْرَاضُ: تَرْكُ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ ومِنْ في مِنْ آيَةٍ مزيدة للاستغراق ومِنْ فِي مِنْ آياتِ تَبْعِيضِيَّةٌ: أَيْ وَمَا تَأْتِيهِمْ آيَةٌ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَالْفَاءُ فِي فَقَدْ كَذَّبُوا جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ: أَيْ إِنْ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْهَا فَقَدْ كَذَّبُوا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْحَقُّ لَمَّا جاءَهُمْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ أَخْبَارُ الشَّيْءِ الَّذِي كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَهُوَ الْقُرْآنُ أَوْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّ: مَا، عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ تَهْوِيلًا لِلْأَمْرِ وَتَعْظِيمًا لَهُ: أَيْ سَيَعْرِفُونَ أَنَّ هذا الشيء الذي استهزءوا بِهِ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلِاسْتِهْزَاءِ، وَذَلِكَ عِنْدَ إِرْسَالِ عَذَابِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُقَالُ: اصْبِرْ فَسَوْفَ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ، عِنْدَ إِرَادَةِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، وَفِي لفظ الأنبياء مَا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى خَبَرٍ عَظِيمٍ. قَوْلُهُ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِبَيَانِ مَا تَقَدَّمَهُ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وكَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ وَأَنْ تَكُونَ الْخَبَرِيَّةَ وَهِيَ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ عَنِ الْعَمَلِ فِيمَا بعده، ومِنْ قَرْنٍ تَمْيِيزٌ، وَالْقَرْنُ يُطْلَقُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِاقْتِرَانِهِمْ، أَيْ أَلَمْ يَعْرِفُوا بِسَمَاعِ الْأَخْبَارِ وَمُعَايَنَةِ الْآثَارِ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَوْجُودَةِ فِي عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ لِتَكْذِيبِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ. وَقِيلَ: الْقَرْنُ مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ. وَهِيَ سِتُّونَ عَامًا أَوْ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ أَوْ مِائَةٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ، فَيَكُونُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ مِنْ أَهْلِ قَرْنٍ. قَوْلُهُ: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ مَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ: جَعَلَ لَهُ مَكَانًا فِيهَا، وَمَكَّنَهُ فِي الْأَرْضِ: أَثْبَتَهُ فِيهَا، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِقَرْنٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وما فِي مَا لَمْ نُمَكِّنْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِمَا بَعْدَهَا أَيْ مَكَّنَّاهُمْ تَمْكِينًا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّا أَعْطَيْنَا الْقُرُونَ الَّذِينَ هُمْ قَبْلَكُمْ مَا لَمْ نُعْطِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَطُولِ الْأَعْمَارِ وَقُوَّةِ الْأَبْدَانِ وَقَدْ أَهْلَكْنَاهُمْ جَمِيعًا، فَإِهْلَاكُكُمْ- وَأَنْتُمْ دُونَهُمْ- بِالْأَوْلَى. قَوْلُهُ: وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً يُرِيدُ الْمَطَرَ الْكَثِيرَ، عَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّمَاءِ، لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قوم .....

_ (1) . هو: معود الحكماء معاوية بن مالك وهذا صدر بيت له وعجزه: رعيناه وإن كانوا غضابا. (تفسير القرطبي 6/ 392) .

وَالْمِدْرَارُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ كَمِذْكَارٍ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي كَثُرَتْ وِلَادَتُهَا لِلذُّكُورِ، وَمِينَاثٍ لِلَّتِي تَلِدُ الْإِنَاثَ، يُقَالُ دَرَّ اللَّبَنَ يُدِرُّ: إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْحَالِبِ بِكَثْرَةٍ. وَانْتِصَابُ مِدْراراً عَلَى الْحَالِ وَجَرَيَانُ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهِمْ مَعْنَاهُ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ: أَيْ أَنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ بَعْدَ التَّمْكِينِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ فَكَفَرُوهَا، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فَصَارُوا بَدَلًا مِنَ الْهَالِكِينَ، وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَقُوَّةِ سُلْطَانِهِ وَأَنَّهُ يُهْلِكُ مَنْ يَشَاءُ وَيُوجِدُ مَنْ يَشَاءُ. قَوْلُهُ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيَانُ شِدَّةِ صَلَابَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ كِتَابًا مَكْتُوبًا فِي قِرْطَاسٍ بِمَرْأًى مِنْهُمْ وَمُشَاهَدَةٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ لَهُمْ إِدْرَاكُ الْحَاسَّتَيْنِ: حَاسَّةُ الْبَصَرِ، وَحَاسَّةُ اللَّمْسِ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمَا شَاهَدُوا وَلَمَسُوا، وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُمْ فِي الْمَرْئِيِّ الْمَحْسُوسِ، فَكَيْفَ فِيمَا هُوَ مُجَرَّدُ وَحْيٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ لَا يَرَوْنَهُ وَلَا يُحِسُّونَهُ؟ وَالْكِتَابُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ، وَالْقِرْطَاسُ: الصَّحِيفَةُ. قَوْلُهُ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ جَحْدِهِمْ لنبوّته صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَكُفْرِهِمْ بِهَا: أَيْ قَالُوا: هَلَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَلَكًا نَرَاهُ وَيُكَلِّمُنَا أَنَّهُ نَبِيٌّ حَتَّى نُؤْمِنَ بِهِ وَنَتَّبِعَهُ؟ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً «1» وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا بِحَيْثُ يُشَاهِدُونَهُ وَيُخَاطِبُونَهُ وَيُخَاطِبُهُمْ لَقُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ لَأَهْلَكْنَاهُمْ إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا عِنْدَ نُزُولِهِ وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ الْبَيِّنَةِ، وَهِيَ نُزُولُ الْمَلَكِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ إِذَا لَمْ يَقَعِ الإيمان بعدها فقد استحقوا الإهلاك والمعاجلة بِالْعُقُوبَةِ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ أَيْ لَا يُمْهَلُونَ بَعْدَ نُزُولِهِ وَمُشَاهَدَتِهِمْ لَهُ وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَوْ أَنْزَلَ مَلَكًا مُشَاهَدًا لَمْ تُطِقْ قُوَاهُمُ الْبَشَرِيَّةُ أَنْ يَبْقَوْا بَعْدَ مُشَاهَدَتِهِ أَحْيَاءً، بَلْ تُزْهَقُ أَرْوَاحُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَبْطُلُ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ لَهُ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مِنْ هَذَا التَّكْلِيفِ الَّذِي كَلَّفَ به عباده لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «2» . قَوْلُهُ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أَيْ لَوْ جَعَلْنَا الرَّسُولَ إِلَى النَّبِيِّ مَلَكًا يُشَاهِدُونَهُ وَيُخَاطِبُونَهُ لَجَعَلْنَا ذَلِكَ الْمَلَكَ رَجُلًا، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرَوُا الْمَلَكَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَجَسَّمَ بِالْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ الْمُشَابِهَةِ لِأَجْسَامِ بَنِي آدَمَ، لِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ يَأْنَسُ بِجِنْسِهِ، فَلَوْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الرَّسُولَ إِلَى الْبَشَرِ أَوِ الرَّسُولَ إِلَى رَسُولِهِ مَلَكًا مُشَاهَدًا مُخَاطَبًا لَنَفَرُوا مِنْهُ وَلَمْ يَأْنَسُوا بِهِ، وَلَدَاخَلَهُمُ الرُّعْبُ وَحَصَلَ مَعَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ كَلَامِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، هَذَا أَقَلُّ حَالٍ فَلَا تَتِمُّ الْمَصْلَحَةُ مِنَ الْإِرْسَالِ. وَعِنْدَ أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ رَجُلًا: أَيْ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ لِيَسْكُنُوا إِلَيْهِ وَيَأْنَسُوا بِهِ سَيَقُولُ الْكَافِرُونَ إِنَّهُ لَيْسَ بِمَلَكٍ وَإِنَّمَا هُوَ بَشَرٌ، وَيَعُودُونَ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ. قَوْلُهُ وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ أَيْ لَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ قَالُوا: هَذَا إِنْسَانٌ وَلَيْسَ بِمَلَكٍ، فَإِنِ اسْتَدَلَّ لَهُمْ بِأَنَّهُ مَلَكٌ كَذَّبُوهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى رُؤَسَائِهِمْ كَمَا يُلْبِسُونَ عَلَى ضَعَفَتْهِمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ فَرْقٌ، فَيُلْبِسُونَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا وَيُشَكِّكُونَهُمْ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ مَلَكًا فِي صُورَةِ رَجُلٍ لَوَجَدُوا سَبِيلًا إلى اللبس كما يفعلون.

_ (1) . الفرقان: 7. (2) . الكهف: 7.

وَاللَّبْسُ: الْخَلْطُ، يُقَالُ: لَبَسْتُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ أُلْبِسُهُ لَبْسًا: أَيْ خَلَطْتُهُ، وَأَصْلُهُ التَّسَتُّرُ بِالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ مُؤْنِسًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَمُسَلِّيًا لَهُ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يُقَالُ: حَاقَ الشَّيْءَ يَحِيقُ حَيْقًا وَحُيُوقًا وَحَيَقَانًا. نزل أي فنزل ما كانوا به يستهزءون، وَأَحَاطَ بِهِمْ: وَهُوَ الْحَقُّ حَيْثُ أُهْلِكُوا مِنْ أَجْلِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ سَافِرُوا فِي الْأَرْضِ وَانْظُرُوا آثَارَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لِتَعْرِفُوا مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، وَكَيْفَ كانت عاقبتهم بعد ما كَانُوا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَفُوقُ مَا أَنْتُمْ فِيهِ، فَهَذِهِ دِيَارُهُمْ خَارِبَةٌ وَجَنَّاتُهُمْ مُغْبَرَّةٌ وَأَرَاضِيهُمْ مُكْفَهِرَّةٌ، فَإِذَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ هَذِهِ الْعَاقِبَةَ فَأَنْتُمْ بِهِمْ لَاحِقُونَ وَبَعْدَ هَلَاكِهِمْ هَالِكُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يَقُولُ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَفِي قَوْلِهِ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يقول: سيأتيهم يوم القيامة أنباء ما استهزءوا بِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَرْنٍ قَالَ: أُمَّةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ يَقُولُ: أَعْطَيْنَاهُمْ مَا لَمْ نُعْطِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً يَقُولُ: يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ هَارُونَ التَّيْمِيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْمَطَرُ فِي إِبَّانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ يَقُولُ: لَوْ أَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ صُحُفًا فِيهَا كِتَابٌ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَزَادَهُمْ ذَلِكَ تَكْذِيبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ قَالَ: فَمَسُّوهُ وَنَظَرُوا إِلَيْهِ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَلَّمَهُمْ فَأَبْلَغَ إِلَيْهِمْ فِيمَا بَلَغَنِي، فَقَالَ لَهُ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ وعبدة بن عبد يغوث وأبيّ ابن خَلَفِ بْنِ وَهْبٍ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلِ بْنِ هِشَامٍ: لَوْ جُعِلَ مَعَكَ يَا مُحَمَّدُ مَلَكٌ يُحَدِّثُ عَنْكَ النَّاسَ وَيَرَى مَعَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ قَالَ: مَلَكٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ لَقَامَتِ السَّاعَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَقُضِيَ الْأَمْرُ يَقُولُ: لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ مَلَكًا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً قَالَ: وَلَوْ أَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَتِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ لَأَهْلَكْنَاهُمْ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ لَا يُؤَخَّرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا يَقُولُ: لَوْ أَتَاهُمْ مَلَكٌ مَا أَتَاهُمْ إِلَّا فِي صُورَةِ رَجُلٍ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ يَقُولُ: لَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 إلى 21]

فِي قَوْلِهِ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا قال: في صورة رجل، وفي خَلْقِ رَجُلٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا يَقُولُ: فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ يَقُولُ: شَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: شَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ مَا يُشَبِّهُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَهَمَزُوهُ واستهزءوا بِهِ فَغَاظَهُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. [سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 21] قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) قَوْلُهُ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هَذَا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ وَتَبْكِيتٌ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ، فَإِنْ قَالُوا فَقُلْ: لِلَّهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ ما في السموات وَالْأَرْضِ إِمَّا بِاعْتِرَافِهِمْ، أَوْ بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَاجِلَهُمْ بِالْعِقَابِ، وَلَكِنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ: أَيْ وَعَدَ بِهَا فَضْلًا مِنْهُ وَتَكَرُّمًا. وَذِكْرُ النَّفْسِ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ تَأَكُّدِ وَعْدِهِ وَارْتِفَاعِ الْوَسَائِطِ دُونَهُ، وَفِي الْكَلَامِ تَرْغِيبٌ لِلْمُتَوَلِّينَ عَنْهُ إِلَى الْإِقْبَالِ إِلَيْهِ وَتَسْكِينِ خَوَاطِرِهِمْ بِأَنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَأَنَّهُ يَقْبَلُ مِنْهُمُ الْإِنَابَةَ وَالتَّوْبَةَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ إِرْسَالُ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ، وَنَصْبُ الْأَدِلَّةِ. قَوْلُهُ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ اللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: الرَّحْمَةَ وَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا مُسْتَأْنَفًا عَلَى جِهَةِ التَّبْيِينِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ لَيُمْهِلَنَّكُمْ وَلَيُؤَخِّرَنَّ جَمْعَكُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي الْقُبُورِ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي أَنْكَرْتُمُوهُ. وَقِيلَ: إِلى بِمَعْنَى فِي: أَيْ لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ النَّصْبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَتَكُونُ اللَّامُ بِمَعْنَى أَنْ. وَالْمَعْنَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنْ يَجْمَعَنَّكُمْ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ «1»

_ (1) . يُوسُفَ: 35.

أَيْ أَنْ يَسْجِنُوهُ، وَقِيلَ: إِنَّ جُمْلَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ مَسُوقَةٌ لِلتَّرْهِيبِ بَعْدَ التَّرْغِيبِ، وَلِلْوَعِيدِ بَعْدَ الْوَعْدِ أَيْ إِنْ أَمْهَلَكُمْ بِرَحْمَتِهِ فَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِجَمْعِكُمْ ثم مُعَاقَبَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ عُقُوبَتَهُ مِنَ الْعُصَاةِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَا رَيْبَ فِيهِ لِلْيَوْمِ أَوْ لِلْجَمْعِ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْمَوْصُولَ مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ كَمَا تَقُولُ: الَّذِي يُكْرِمُنِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَالْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنْ شِئْتَ كَانَ الَّذِينَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي لَيَجْمَعَنَّكُمْ أَيْ لَيَجْمَعَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّدُ وَزَعَمَ أَنَّهُ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَا يُبْدَلُ مِنَ الْمُخَاطِبِ وَلَا مِنَ الْمُخَاطَبِ. لَا يُقَالُ مَرَرْتُ بِكَ زَيْدٌ وَلَا مَرَرْتَ بِي زِيدٌ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مَجْرُورًا عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ أَوْ عَلَى النَّعْتِ لَهُمْ وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنَادَى وَحَرْفُ النِّدَاءِ مُقَدَّرٌ. قَوْلُهُ: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَيْ لِلَّهِ، وَخَصَّ السَّاكِنَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ مَا يَتَّصِفُ بِالسُّكُونِ أَكْثَرُ مِمَّا يَتَّصِفُ بِالْحَرَكَةِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَا سَكَنَ فِيهِمَا أَوْ تَحَرَّكَ فَاكْتَفَى بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْكَفَرَةِ. قَوْلُهُ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ لَمَّا دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْكَارُ لِاتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّهِ وَلِيًّا، لَا لِاتِّخَاذِ الْوَلِيِّ مُطْلَقًا، دَخَلَتِ الْهَمْزَةُ عَلَى الْمَفْعُولِ لَا عَلَى الْفِعْلِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ هُنَا: الْمَعْبُودُ: أَيْ كَيْفَ أَتَّخِذُ غَيْرَ الله معبودا؟ وفاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَجْرُورٌ عَلَى أَنَّهُ نَعَتٌ لِاسْمِ اللَّهِ، وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ الرَّفْعَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ النَّصْبَ عَلَى الْمَدْحِ، وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ نَصْبَهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: أترك فاطر السموات وَالْأَرْضِ. قَوْلُهُ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْأَوَّلِ، وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الثَّانِي: أَيْ يَرْزُقُ وَلَا يُرْزَقُ، وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ بِفَتْحِ الْيَاءِ فِي الثَّانِي وَفَتْحِ الْعَيْنِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْعَيْنِ فِي الْأَوَّلِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الثَّانِي عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى الْوَلِيِّ الْمَذْكُورِ، وَخَصَّ الْإِطْعَامَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِنْعَامِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ أَمَسُّ. قَوْلُهُ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أمره سبحانه بعد ما تَقَدَّمَ مِنَ اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّهِ وَلِيًّا أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَخْلَصَ مِنْ أُمَّتِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَسْلَمَ اسْتَسْلَمَ لِأَمْرِ اللَّهِ، ثُمَّ نَهَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَالْمَعْنَى: أُمِرْتُ بِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَنُهِيتُ عَنِ الشِّرْكِ أَيْ يَقُولُ لَهُمْ هَذَا، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَيْ إِنْ عَصَيْتُهُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ أَوْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ أَوْ نَهْيِهِ. وَالْخَوْفُ: تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ، وقيل: هو هنا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، أَيْ إِنِّي أَعْلَمُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أَنَّ لِي عَذَابًا عَظِيمًا. قَوْلُهُ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وقرأ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَابْنُ عَامِرٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ: أَيْ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ الْعَذَابُ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ سِيبَوَيْهِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِلَّهِ. وَمَعْنَى يَوْمَئِذٍ يَوْمَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ فَقَدْ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ نَجَّاهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الصَّرْفِ أَوْ إِلَى الرَّحْمَةِ أَيْ فَذَلِكَ الصَّرْفُ أَوِ الرَّحْمَةُ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أَيِ الظَّاهِرُ الْوَاضِحُ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: «مَنْ يَصْرِفِ اللَّهُ عَنْهُ» . قَوْلُهُ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ أَيْ إِنْ يُنْزِلِ اللَّهُ بِكَ ضُرًّا مِنْ فَقْرٍ أَوْ مرض فَلا

كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ أَيْ لَا قَادِرَ عَلَى كَشْفِهِ سِوَاهُ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ مِنْ رَخَاءٍ أَوْ عَافِيَةٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْمَسِّ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ. قَوْلُهُ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ الْقَهْرُ: الْغَلَبَةُ، وَالْقَاهِرُ: الْغَالِبُ، وَأُقْهِرَ الرَّجُلُ: إِذَا صَارَ مَقْهُورًا ذَلِيلًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَنْ يسود جذاعه ... فَأَمْسَى حُصَيْنٌ قَدْ أَذَلَّ وَأَقْهَرَا وَمَعْنَى فَوْقَ عِبادِهِ فَوْقِيَّةُ الِاسْتِعْلَاءِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ، لَا فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ كَمَا تَقُولُ: السُّلْطَانُ فَوْقَ رَعِيَّتِهِ: أَيْ بِالْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ. وَفِي الْقَهْرِ مَعْنًى زَائِدٌ لَيْسَ فِي الْقُدْرَةِ، وَهُوَ مَنْعُ غَيْرِهِ عَنْ بُلُوغِ الْمُرَادِ وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي أَمْرِهِ الْخَبِيرُ بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ. قَوْلُهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً أَيُّ: مُبْتَدَأٌ، وَأَكْبَرُ: خَبَرُهُ، وَشَهَادَةً: تَمْيِيزٌ، وَالشَّيْءُ: يُطْلَقُ عَلَى الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ، وَالْمُحَالِ وَالْمُمْكِنِ. وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَهِيدٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً، فَوُضِعَ شَيْءٌ مَوْضِعَ شَهِيدٍ وَقِيلَ إِنَّ شَيْءٍ هُنَا مَوْضُوعٌ موضع اسم الله تعالى. وَالْمَعْنَى: اللَّهُ أَكْبَرُ شَهَادَةً أَيِ انْفِرَادُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَقِيَامُ الْبَرَاهِينِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، أَكْبَرُ شَهَادَةً وَأَعْظَمُ فَهُوَ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ هُوَ الْجَوَابُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الشَّهِيدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كَانَ أَكْبَرُ شهادة له صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدْ تَمَّ الْجَوَابُ عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ يَعْنِي اللَّهُ أَكْبَرُ شَهَادَةً، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَيْ هُوَ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. قَوْلُهُ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَيْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ لِأَجْلِ أَنْ أُنْذِرَكُمْ بِهِ وَأُنْذِرَ بِهِ مَنْ بَلَغَ إِلَيْهِ أَيْ كُلُّ مَنْ بَلَغَ إِلَيْهِ مِنْ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ سَيُوجَدُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى شُمُولِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِمَنْ سَيُوجَدُ كَشُمُولِهَا لِمَنْ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ النُّزُولِ مَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى تِلْكَ الْخُزَعْبَلَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ وَأُوحِيَ على البناء للفاعل، وقرأ ابن عدي على البناء للمفعول. قوله: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ أَوْ بِقَلْبِ الثَّانِيَةِ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ عَلَى الْخَبَرِ فَقَدْ حَقَّقَ عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: آلِهَةً أُخْرى لِأَنَّ الْآلِهَةَ جَمْعٌ وَالْجَمْعُ يَقَعُ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ، ومثله قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «2» وقال: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى قُلْ لَا أَشْهَدُ أَيْ فَأَنَا لَا أَشْهَدُ مَعَكُمْ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِكَوْنِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بَاطِلَةً، وَمِثْلُهُ فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وما: فِي مِمَّا تُشْرِكُونَ مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي تَجْعَلُونَهَا آلِهَةً، أَوْ مِنْ إِشْرَاكِكُمْ بِاللَّهِ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الْكِتَابُ: لِلْجِنْسِ فَيَشْمَلُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَغَيْرَهُمَا أَيْ يَعْرِفُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ: أَيْ يَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةً مُحَقَّقَةً بِحَيْثُ لَا يلتبس عليهم منه شيء، وكَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بَيَانٌ لِتَحَقُّقِ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ وَكَمَالِهَا وَعَدَمِ وُجُودِ شَكٍّ فِيهَا، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ هِيَ الْبَالِغَةُ إِلَى غَايَةِ الْإِتْقَانِ إِجْمَالًا وتفصيلا. قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ

_ (1) . هو المخبل السعدي. (2) . الأعراف: 180.

فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَدُخُولُ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوْصُولَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِلْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَكُونُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْكُفَّارَ الْخَاسِرِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِعِنَادِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ: أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ الْكِتَابَ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الْحَقِّ وَعَدَمِ الْعَمَلِ بِالْمَعْرِفَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ لَهُمْ، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَيِ اخْتَلَقَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فَقَالَ: إِنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ الَّتِي يَلْزَمُهُ الْإِيمَانُ بِهَا مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْوَاضِحَةِ الْبَيِّنَةِ، فَجَمَعَ بَيْنَ كَوْنِهِ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ وَمُكَذِّبًا بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَلَا أَحَدَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَظْلَمُ مِنْهُ، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لِلشَّأْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، ثُمَّ جَعَلَ مِائَةَ رَحْمَةٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ فَوَضَعَ بَيْنَهُمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً وَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً فَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَبَاذَلُونَ، وَبِهَا يَتَزَاوَرُونَ، وَبِهَا تَحِنُّ النَّاقَةُ، وَبِهَا تُنْتِجُ الْبَقَرَةُ، وَبِهَا تَيْعَرُ الشَّاةُ، وَبِهَا تَتَابَعُ الطَّيْرُ، وَبِهَا تَتَابَعُ الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ تِلْكَ الرَّحْمَةَ إِلَى مَا عِنْدَهُ، وَرَحْمَتُهُ أَفْضَلُ وَأَوْسَعُ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خلق الله يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ: مِنْهَا رَحْمَةٌ يَتَرَاحَمُ بِهَا الْخَلْقُ، وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ» . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا فَوَضَعَهُ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى بِنَحْوِ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يَقُولُ مَا اسْتَقَرَّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفِي قَوْلِهِ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا قَالَ: أَمَّا الْوَلِيُّ فَالَّذِي تَوَلَّاهُ وَيُقِرُّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ: بَدِيعُ السّموات وَالْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ لَا أدري ما فاطر السّموات وَالْأَرْضَ؟ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، يَقُولُ: أَنَا ابْتَدَأْتُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قَالَ: يَرْزُقُ وَلَا يُرْزَقُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ قَالَ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ الْعَذَابُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ يَقُولُ: بِعَافِيَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عباس قال: جاء النحام بن زيد وقردم ابن كعب وبحري بن عمير فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! مَا تَعْلَمُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بِذَلِكَ بُعِثْتُ، وَإِلَى ذَلِكَ أَدْعُو» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 22 إلى 30]

ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ قال: أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم أن يسأل قريشا أي شيء أكبر شهادة؟ ثم أمره أن يخبرهم فيقول: الله شهيد بيني وبينكم. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ بَلَغَ يَعْنِي مَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ كَتَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ وَكُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْخَطِيبُ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «من بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا شَافَهْتُهُ بِهِ، ثُمَّ قَرَأَ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: «مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ» وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ حَتَّى تَفَهَّمَهُ وَتَعَقَّلَهُ كَانَ كَمَنْ عَايَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَكَلَّمَهُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ قَالَ: الْعَرَبُ وَمَنْ بَلَغَ قَالَ: الْعَجَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ النَّضْرُ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الآية. [سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 30] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَوْلُهُ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالنُّونِ فِي الْفِعْلَيْنِ، وَقُرِئَ بِالْيَاءِ فيهما، وناصب الظرف محذوف مقدّر متأخرا: أَيْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِلْمُشْرِكِينَ. وَأَضَافَ الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ لَمَّا سَمَّوْهَا شُرَكَاءَ أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ، وَهِيَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْ يَعْبُدُونَهُ مَعَ اللَّهِ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَيْ تَزْعُمُونَهَا شُرَكَاءَ، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَانِ مَعًا، وَوَجْهُ التَّوْبِيخِ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ غَابَتْ عَنْهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً وَلَكِنْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَكَانَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا. قَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا

وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ بِقَصَصِ الْمُشْرِكِينَ وَافْتِتَانِهِمْ بِشِرْكِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ أن فتنتهم لم تكن حين رَأَوُا الْحَقَائِقَ إِلَّا أَنِ انْتَفَوْا مِنَ الشِّرْكِ، وَنَظِيرُ هَذَا فِي اللُّغَةِ أَنْ تَرَى إِنْسَانًا يُحِبُّ غَاوِيًا. فَإِذَا وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ تَبَرَّأَ مِنْهُ فَتَقُولُ: مَا كَانَتْ مَحَبَّتُكَ إِيَّاهُ إِلَّا أن تبرأت مِنْهُ. انْتَهَى. فَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ عَلَى هَذَا كُفْرُهُمْ: أَيْ لَمْ تَكُنْ عَاقِبَةُ كُفْرِهِمُ الَّذِي افْتَخَرُوا بِهِ وَقَاتَلُوا عَلَيْهِ إِلَّا مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْجُحُودِ وَالْحَلِفِ عَلَى نَفْيِهِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ هُنَا جَوَابُهُمْ: أَيْ لَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمْ إِلَّا الجحود والتبرّي، فَكَانَ هَذَا الْجَوَابُ فِتْنَةً لِكَوْنِهِ كَذِبًا، وَجُمْلَةُ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى عَامِلِ الظَّرْفِ الْمُقَدَّرِ كَمَا مَرَّ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفْرَغٌ، وَقُرِئَ فِتْنَتُهُمْ بالرفع وبالنصب، ويكن وتكن وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ، وَقُرِئَ وَمَا كَانَ فِتْنَتُهُمْ وَقُرِئَ: رَبَّنَا بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بِإِنْكَارِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ زَالَ وَذَهَبَ افْتِرَاؤُهُمْ وَتَلَاشَى وَبَطَلَ ما كانوا يظنّونه من أن الشركاء يقرّبونهم إِلَى اللَّهِ، هَذَا عَلَى أَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ وَقِيلَ: هِيَ مَوْصُولَةٌ، عِبَارَةٌ عَنِ الْآلِهَةِ: أَيْ فَارَقَهُمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَهَذَا تَعْجِيبٌ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ حَالِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ وَدَعْوَاهُمُ الْمُتَنَاقِضَةِ وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ كَذِبٌ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهَا دَارٌ لَا يَجْرِي فِيهَا غَيْرُ الصِّدْقِ، فَمَعْنَى: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ نَفْيُ شِرْكِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، وَفِي اعْتِقَادِهِمْ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «1» . قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِبَيَانِ مَا كَانَ يَصْنَعُهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا: أَيْ وَبَعْضُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حِينَ تَتْلُو الْقُرْآنَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ مُجَازَاةً عَلَى كُفْرِهِمْ، وَالْأَكِنَّةُ: الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان، كنت الشَّيْءَ فِي كُنْهٍ: إِذَا جَعَلْتُهُ فِيهِ، وَأَكْنَنْتُهُ أَخْفَيْتُهُ، وَجُمْلَةُ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْإِخْبَارِ بِمَضْمُونِهَا، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ وَقَدْ جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَغْطِيَةً كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوا الْقُرْآنَ، أَوْ لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ، وَالْوَقْرُ: الصَّمَمُ يُقَالُ: وُقِرَتْ أُذُنَهُ تَقِرُ وَقْرًا: أَيْ صُمَّتْ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وِقْرًا بِكَسْرِ الْوَاوِ: أَيْ جَعَلَ فِي آذَانِهِمْ مَا سَدَّهَا عَنِ اسْتِمَاعِ الْقَوْلِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِوِقْرِ الْبَعِيرِ، وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يُطِيقُ أَنْ يَحْمِلَهُ، وَذِكْرُ الْأَكِنَّةَ وَالْوَقْرَ تَمْثِيلٌ لِفَرْطِ بُعْدِهِمْ عَنْ فَهْمِ الْحَقِّ وَسَمَاعِهِ كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَعْقِلُ وَأَسْمَاعَهُمْ لَا تُدْرِكُ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها أَيْ لَا يُؤْمِنُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يَرَوْنَهَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَنَحْوَهَا لعنادهم وتمرّدهم. قوله: حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ حَتَّى هُنَا: هِيَ الِابْتِدَائِيَّةُ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَهَا الْجُمَلُ، وَجُمْلَةُ يُجَادِلُونَكَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ بَلَغُوا مِنَ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ أَنَّهُمْ إِذَا جَاءُوكَ مُجَادِلِينَ لَمْ يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الْإِيمَانِ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَقِيلَ: حَتَّى هِيَ الْجَارَّةُ وَمَا بَعْدَهَا فِي مَحَلِّ جَرٍّ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى وَقْتِ مَجِيئِهِمْ مُجَادِلِينَ يَقُولُونَ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا غَايَةُ التَّكْذِيبِ وَنِهَايَةُ الْعِنَادِ. وَالْأَسَاطِيرُ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَاحِدُهَا أَسْطَارٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أُسْطُورَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَسْطَارَةٌ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: أُسْطُورٌ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أُسْطِيرٌ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ كَعَبَادِيدَ وَأَبَابِيلَ. وَالْمَعْنَى: ما سطره الأوّلون في الكتب

_ (1) . النساء: 123. [.....]

مِنَ الْقِصَصِ وَالْأَحَادِيثِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْأَسَاطِيرُ: الْأَبَاطِيلُ وَالتُّرَّهَاتُ. قَوْلُهُ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أَيْ يَنْهَى الْمُشْرِكُونَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ أو بمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَيَبْعُدُونَ هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ عَنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْهَى الْكُفَّارَ عَنْ أَذِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَيَبْعُدُ هُوَ عَنْ إِجَابَتِهِ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ أَيْ مَا يُهْلِكُونَ بِمَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ النَّهْيِ وَالنَّأْيِ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِتَعْرِيضِهَا لِعَذَابِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَا يَشْعُرُونَ بِهَذَا الْبَلَاءِ الَّذِي جَلَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَمَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ المعاني. ووُقِفُوا مَعْنَاهُ حُبِسُوا، يُقَالُ: وَقَفْتُهُ وَقْفًا وَوَقَفَ وُقُوفًا وَقِيلَ: مَعْنَى وُقِفُوا عَلَى النَّارِ: أُدْخِلُوهَا، فَتَكُونُ عَلَى بِمَعْنَى فِي وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْبَاءِ: أَيْ وُقِفُوا بِالنَّارِ، أَيْ بِقُرْبِهَا مُعَايِنِينَ لَهَا، وَمَفْعُولُ تُرَى مَحْذُوفٌ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِيَذْهَبَ السَّامِعُ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ تَرَاهُمْ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ لَرَأَيْتَ مَنْظَرًا هَائِلًا وَحَالًا فظيعا فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ أَيْ إِلَى الدُّنْيَا وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا أَيِ الَّتِي جَاءَنَا بِهَا رَسُولُهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا، الْعَامِلِينَ بِمَا فِيهَا، وَالْأَفْعَالُ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ التَّمَنِّي: أَيْ تَمَنَّوُا الرَّدَّ، وَأَنْ لَا يُكَذِّبُوا، وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَفْعِ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ كَمَا هِيَ قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَشُعْبَةَ وَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ بِنَصْبِ نَكْذِبَ وَنَكُونَ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْوَاوِ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي، وَاخْتَارَ سِيبَوَيْهِ الْقَطْعَ فِي وَلا نُكَذِّبَ فَيَكُونُ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي التَّمَنِّي، وَالتَّقْدِيرُ: وَنَحْنُ لَا نَكْذِبُ عَلَى مَعْنَى الثَّبَاتِ عَلَى تَرْكِ التَّكْذِيبِ: أَيْ لَا نَكْذِبْ رَدَدْنَا أَوْ لَمْ نُرَدُّ، قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ دَعْنِي وَلَا أَعُودُ: أَيْ لَا أَعُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ تَرَكْتَنِي أَوْ لَمْ تَتْرُكْنِي. وَاسْتَدَلَّ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ عَلَى خُرُوجِهِ مِنَ التَّمَنِّي بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لِأَنَّ الْكَذِبَ لَا يَكُونُ فِي التَّمَنِّي. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَكُونَ بِالنَّصْبِ وَأَدْخَلَ الْفِعْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي التَّمَنِّي. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَلَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا أَبَدًا. وَقَرَأَ هُوَ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلَا نُكَذِّبَ بِالْفَاءِ وَالنَّصْبِ، وَالْفَاءُ يُنْصَبُ بِهَا فِي جَوَابِ التَّمَنِّي كَمَا يُنْصَبُ بِالْوَاوِ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ: لَا يَجُوزُ الْجَوَابُ إِلَّا بِالْفَاءِ. قَوْلُهُ: بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ هَذَا إِضْرَابٌ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّمَنِّي مِنَ الْوَعْدِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ: أَيْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّمَنِّي مِنْهُمْ عَنْ صِدْقِ نِيَّةٍ وَخُلُوصِ اعْتِقَادٍ بَلْ هُوَ لِسَبَبٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ: أَيْ يَجْحَدُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ هَالِكُونَ بِشِرْكِهِمْ فَعَدَلُوا إِلَى التَّمَنِّي وَالْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ وَقِيلَ: بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ بِشَهَادَةِ جَوَارِحِهِمْ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يَكْتُمُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: بَدَا لَهُمْ جَزَاءَ كُفْرِهِمُ الَّذِي كَانُوا يُخْفُونَهُ وَهُوَ مِثْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ ظَهَرَ لِلَّذِينَ اتَّبَعُوا الْغُوَاةَ مَا كَانَ الْغُوَاةُ يُخْفُونَ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَلَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا حَسْبَمَا تَمَنَّوْا لَعادُوا لِفِعْلِ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْقَبَائِحِ الَّتِي رَأْسُهَا الشِّرْكُ كَمَا عَايَنَ إِبْلِيسُ مَا عَايَنَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ثُمَّ عَانَدَ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَيْ مُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَوْ شَاهَدُوا مَا شَاهَدُوا وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ وَالْإِيمَانِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَلَوْ رُدُّوا بِكَسْرِ الرَّاءِ

لِأَنَّ الْأَصْلَ رَدِدُوا فَنُقِلَتْ كَسْرَةُ الدَّالِ إِلَى الرَّاءِ، وَجُمْلَةُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ، وَهُوَ وَقَالُوا: وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَعَادُوا أَيْ لَعَادُوا إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أَيْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا مِنْ شِدَّةِ تَمَرُّدِهِمْ وَعِنَادِهِمْ حَيْثُ يَقُولُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى الدُّنْيَا بَعْدَ مُشَاهَدَتِهِمْ لِلْبَعْثِ. قَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ أَيْ حُبِسُوا عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فِيهِمْ وَقِيلَ: عَلَى بِمَعْنَى عِنْدَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ أَيْ لَشَاهَدْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ: أَيْ أَلَيْسَ هَذَا الْبَعْثُ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ كَائِنًا مَوْجُودًا، وَهَذَا الْجَزَاءُ الَّذِي يَجْحَدُونَهُ حَاضِرًا. قالُوا بَلى وَرَبِّنا اعْتَرَفُوا بِمَا أَنْكَرُوا وَأَكَّدُوا اعْتِرَافَهُمْ بِالْقَسَمِ قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ الَّذِي تُشَاهِدُونَهُ وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ بِهِ أَوْ بِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا أُمِرْتُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قَالَ: مَعْذِرَتُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قَالَ: حُجَّتُهُمْ، إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ قَالُوا وَهُمْ فِي النَّارِ: هَلُمَّ فَلْنَكْذِبْ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَنْفَعَنَا، فَقَالَ اللَّهُ: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ فِي الْقِيَامَةِ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ يَكْذِبُونَ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ثُمَّ قَالَ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً قَالَ: بِجَوَارِحِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ قَالَ: بِاعْتِذَارِهِمُ الْبَاطِلِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ قَالَ: مَا كَانُوا يُشْرِكُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شيبة وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ قَالَ: قُرَيْشٌ، وَفِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً قَالَ: كَالْجُعْبَةِ لِلنَّبْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً قَالَ: يَسْمَعُونَهُ بِآذَانِهِمْ وَلَا يَعُونَ مِنْهُ شَيْئًا، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ النِّدَاءَ وَلَا تَدْرِي مَا يُقَالُ لَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ قَالَ: الْغِطَاءُ أَكَنَّ قُلُوبَهُمْ أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَالْوَقْرُ: الصَّمَمُ، وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَسَاجِيعُ الْأَوَّلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ: أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ: كَذِبُ الْأَوَّلِينَ وَبَاطِلُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَنْهَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَرُدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَبَاعَدُ عَمَّا جَاءَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَنْهَوْنَ عَنْهُ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ: يَتَبَاعَدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ قَالَ:

[سورة الأنعام (6) : الآيات 31 إلى 36]

لَا يَلْقَوْنَهُ وَلَا يَدَعُونَ أَحَدًا يَأْتِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُفَّارُ مَكَّةَ كَانُوا يَدْفَعُونَ النَّاسَ عَنْهُ وَلَا يُجِيبُونَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَنْهَوْنَ عَنِ الْقُرْآنِ وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ يَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُمُومَةِ النَّبِيِّ وَكَانُوا عَشْرَةً، فَكَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ مَعَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَأَشَدَّ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي السِّرِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ قَالَ: مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ يَقُولُ: وَلَوْ وَصَلَ اللَّهُ لَهُمْ دُنْيَا كَدُنْيَاهُمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا لَعَادُوا إِلَى أَعْمَالِهِمْ أَعْمَالِ السُّوءِ الَّتِي كَانُوا نُهُوا عَنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْهُدَى، فَقَالَ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ أَيْ وَلَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى كَمَا حِيلَ بَيْنَهُمْ وبينه أوّل مرّة وهم في الدنيا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 31 الى 36] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) قَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. وَالْمُرَادُ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ: تَكْذِيبُهُمْ بِالْبَعْثِ، وَقِيلَ: تَكْذِيبُهُمْ بِالْجَزَاءِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ قَالُوا قَرِيبًا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «1» حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَيِ الْقِيَامَةُ، وَسُمِّيَتْ سَاعَةً لِسُرْعَةِ الْحِسَابِ فِيهَا. وَمَعْنَى بَغْتَةً: فَجْأَةً، يُقَالُ: بَغَتَهُمُ الْأَمْرُ يَبْغَتُهُمْ بَغْتًا وَبَغْتَةً. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهِيَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ، فَلَا يقال جاء فلان سرعة، وحَتَّى غَايَةٌ لِلتَّكْذِيبِ لَا لِلْخُسْرَانِ، فَإِنَّهُ لَا غَايَةَ له قالُوا يا حَسْرَتَنا هَذَا جَوَابُ إِذَا جَاءَتْهُمْ، أَوْقَعُوا النِّدَاءَ عَلَى الْحَسْرَةِ، وَلَيْسَتْ بِمُنَادَى فِي الْحَقِيقَةِ، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى كَثْرَةِ تَحَسُّرِهِمْ. وَالْمَعْنَى: يَا حَسْرَتَنَا احْضُرِي فَهَذَا أَوَانُكِ، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي هَذَا النِّدَاءِ وَأَمْثَالِهِ كَقَوْلِهِمْ: يَا لِلْعَجَبِ، وَيَا لِلرَّجُلِ، وَقِيلَ: هُوَ تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ عَلَى عِظَمِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْحَسْرَةِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَنَبَّهُوا عَلَى عَظِيمِ مَا بِنَا مِنَ الْحَسْرَةِ، وَالْحَسْرَةُ: النَّدَمُ الشَّدِيدُ عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها أَيْ عَلَى تَفْرِيطِنَا فِي السَّاعَةِ: أَيْ فِي الِاعْتِدَادِ لَهَا، وَالِاحْتِفَالِ بِشَأْنِهَا، وَالتَّصْدِيقِ بها. ومعنى فرّطنا ضيعنا، وأصله

_ (1) . الأنعام: 29.

التَّقَدُّمُ، يُقَالُ فَرَطَ فُلَانٌ: أَيْ تَقَدَّمَ وَسَبَقَ إِلَى الْمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» ، وَمِنْهُ الْفَارِطُ: أَيِ الْمُتَقَدِّمُ فَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ: عَلى مَا فَرَّطْنا أَيْ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ عَجْزِنَا من التَّصْدِيقِ بِالسَّاعَةِ وَالِاعْتِدَادِ لَهَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرَيُّ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي فَرَّطْنَا فِيهَا يَرْجِعُ إِلَى الصَّفْقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ خُسْرَانُ صَفْقَتِهِمْ بِبَيْعِهِمُ الْإِيمَانَ بِالْكُفْرِ، وَالدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِي صَفْقَتِنَا، وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْكَلَامِ فَهُوَ دَالٌّ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْخُسْرَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي صَفْقَةٍ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْحَيَاةِ: أَيْ عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي حَيَاتِنَا. قَوْلُهُ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ: أَيْ يَقُولُونَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَيْ ذُنُوبَهُمْ، جَمْعُ وِزْرٍ: يُقَالُ: وَزَرَ يَزِرُ، فَهُوَ وَازِرٌ وَمَوْزُورٌ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْوِزْرِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا بَسَطَ ثَوْبَهُ فَجَعَلَ فِيهِ الْمَتَاعَ: احْمِلْ وِزْرَكَ: أَيْ ثِقْلَكَ، وَمِنْهُ الْوَزِيرُ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ أَثْقَالَ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنْ تَدْبِيرِ الْوِلَايَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَزِمَتْهُمُ الْآثَامُ فَصَارُوا مُثْقَلِينَ بِهَا، وَجَعْلُهَا مَحْمُولَةً عَلَى الظُّهُورِ تَمْثِيلٌ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ أَيْ بِئْسَ مَا يَحْمِلُونَ. قَوْلُهُ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أَيْ وَمَا مَتَاعُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ مَا الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ هِيَ إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. وَالْقَصْدُ بِالْآيَةِ تَكْذِيبُ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَاللَّعِبُ مَعْرُوفٌ، وَكَذَلِكَ اللَّهْوُ، وَكُلُّ مَا يَشْغَلُكَ فَقَدْ أَلْهَاكَ وَقِيلَ: أَصْلُهُ الصَّرْفُ عَنِ الشَّيْءِ. وَرَدَ بِأَنَّ اللَّهْوَ بِمَعْنَى الصَّرْفِ لَامُهُ يَاءٌ، يُقَالُ: لَهَيْتُ عَنْهُ، وَلَامُ اللَّهْوِ وَاوٌ، يُقَالُ: لَهَوْتُ بِكَذَا وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ سُمِّيَتْ آخِرَةً لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الدُّنْيَا: أَيْ هِيَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ ذَلِكَ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «وَلَدَارُ الْآخِرَةِ» بِلَامٍ وَاحِدَةٍ وَبِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِاللَّامِ الَّتِي لِلتَّعْرِيفِ مَعَهَا، وَجَعْلِ الْآخِرَةَ نَعْتًا لَهَا وَالْخَبَرَ خَيْرٌ، وَقُرِئَ تَعْقِلُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ. قَوْلُهُ: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ هذا الكلام مُبْتَدَأٌ مَسُوقٌ لِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا نَالَهُ مِنَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ بِتَكْذِيبِ الْكُفَّارِ لَهُ، وَدُخُولُ قَدْ لِلتَّكْثِيرِ فَإِنَّهَا قَدْ تَأْتِي لِإِفَادَتِهِ كَمَا تَأْتِي رُبَّ، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ لِلشَّأْنِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ يَحْزُنُكَ وَضَمِّهَا، وَقُرِئَ يُكَذِّبُونَكَ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَقَدْ خُولِفَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي هَذَا. وَمَعْنَى يُكَذِّبُونَكَ عَلَى التَّشْدِيدِ: يَنْسِبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ وَيَرُدُّونَ عَلَيْكَ مَا قُلْتَهُ. وَمَعْنَى الْمُخَفَّفِ: أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَكَ كَذَّابًا، يُقَالُ أَكْذَبْتُهُ: وَجَدْتُهُ كَذَّابًا، وَأَبْخَلْتُهُ: وَجَدْتُهُ بَخِيلًا. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: أَكْذَبْتُ الرَّجُلَ: أَخْبَرْتُ أَنَّهُ جَاءَ بِالْكَذِبِ، وَكَذَّبْتُهُ: أَخْبَرْتُ أَنَّهُ كَاذِبٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَذَّبْتُهُ إِذَا قُلْتُ لَهُ كَذَبْتَ، وَأَكْذَبْتُهُ: إِذَا أَرَدْتُ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ كَذِبٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَيْسَ يَرْجِعُ إِلَيْكَ فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ لَكَ بِالصِّدْقِ، وَلَكِنَّ تَكْذِيبَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَا جِئْتَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمِرِ لِزِيَادَةِ التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهِمْ، وَوَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ بَيِّنٌ. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا هَذَا مِنْ جُمْلَةِ التَّسْلِيَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ أَنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَيْكَ لَيْسَ هُوَ بِأَوَّلِ مَا صَنَعَهُ الْكُفَّارُ مَعَ مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، بَلْ قَدْ وَقَعَ التَّكْذِيبُ لِكَثِيرٍ مِنَ الرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِكَ فَاقْتَدِ

بِهِمْ وَلَا تَحْزَنْ وَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا بِهِ وَأُوذُوا حَتَّى يَأْتِيَكَ نَصْرُنَا كما أتاهم فإنا لا نخلف الميعاد ولِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ «1» إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا «2» وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ- إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ- وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «3» كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «4» ، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ بَلْ وَعْدُهُ كَائِنٌ، وَأَنْتَ مَنْصُورٌ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ، ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ مَا جَاءَكَ مِنْ تَجَرِّي قَوْمِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُمْ ثُمَّ نَصَرَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي الِانْتِهَاءِ، وَأَنْتَ سَتَكُونُ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ كَعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، فَيَرْجِعُونَ إِلَيْكَ، وَيَدْخُلُونَ فِي الدِّينِ الَّذِي تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. قَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ كان النّبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَكْبُرُ عَلَيْهِ إِعْرَاضُ قَوْمِهِ وَيَتَعَاظَمُهُ وَيَحْزَنُ لَهُ فَبَيَّنَ لَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ تَوَلِّيهِمْ عَنِ الْإِجَابَةِ لَهُ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا دَعَا إِلَيْهِ هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ وَقُدْرَتِهِ إِصْلَاحُهُمْ وَإِجَابَتُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ عَلَّقَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مُحَالٌ، فَقَالَ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ مِنْهُ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ مِنْهَا فَافْعَلْ، وَلَكِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فدع الحزن فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ «5» ، ولَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ «6» وَالنَّفَقُ: السَّرَبُ وَالْمَنْفَذُ، وَمِنْهُ النَّافِقَاءُ لِجُحْرِ الْيَرْبُوعِ، وَمِنْهُ الْمُنَافِقُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ. وَالسُّلَّمُ: الدَّرَجُ الَّذِي يُرْتَقَى عَلَيْهِ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ لَا يُؤَنَّثُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ يُؤَنَّثُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ، لِأَنَّهُ يُسْلَكُ بِهِ إِلَى مَوْضِعِ الْأَمْنِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ وَإِنْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَضِيقُ صُدُورُهُمْ بِتَمَرُّدِ الْكَفَرَةِ وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ حِكْمَةً لَا تَبْلُغُهَا الْعُقُولُ وَلَا تُدْرِكُهَا الْأَفْهَامُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَوْ جَاءَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِآيَةٍ تَضْطَرُّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لَمْ يَبْقَ لِلتَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ مَعْنًى، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى جَمْعُ إِلْجَاءٍ وَقَسْرٍ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِرْصِ وَالْحُزْنَ لِإِعْرَاضِ الْكُفَّارِ عَنِ الْإِجَابَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ بِذَلِكَ هُوَ صَنِيعُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَلَسْتَ مِنْهُمْ، فَدَعِ الْأُمُورَ مُفَوَّضَةً إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَلَا تَحْزَنْ لِعَدَمِ حُصُولِ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي لَوْ بَدَا لَهُمْ بَعْضُهَا لَكَانَ إِيمَانُهُمْ بِهَا اضْطِرَارًا إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَيْ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لَكَ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ سَمَاعَ تَفَهُّمٍ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْعُقُولُ وَتُوجِبُهُ الْأَفْهَامُ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا كَذَلِكَ، بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتَى الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ لِمَا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْأَكِنَّةِ وَفِي آذَانِهِمْ مِنَ الْوَقْرِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ شَبَّهَهُمْ بِالْأَمْوَاتِ بِجَامِعِ أَنَّهُمْ جَمِيعًا لَا يَفْهَمُونَ الصَّوَابَ وَلَا يَعْقِلُونَ الْحَقَّ: أَيْ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُلْجِئُهُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، كَمَا يَقْدِرُ عَلَى بِعْثَةِ الْمَوْتَى لِلْحِسَابِ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ إِلَى الْجَزَاءِ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَلِيقُ بِهِ كَمَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قالُوا يا حَسْرَتَنا قَالَ: الْحَسْرَةُ النَّدَامَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال:

_ (1) . الرعد: 38. (2) . غافر: 51. (3) . الصافات: 171- 173. (4) . المجادلة: 21. (5) . فاطر: 8. (6) . الغاشية: 22.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 37 إلى 39]

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: يا حَسْرَتَنا قَالَ: «الْحَسْرَةُ أَنْ يَرَى أَهْلُ النَّارِ مُنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَتِلْكَ الْحَسْرَةُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ قال: ما يعملون. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَعِبٌ وَلَهْوٌ قَالَ: كُلُّ لَعِبٍ: لَهْوٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَلَكِنْ مَتَى كُنَّا تَبَعًا لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ؟. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ نَحْوَ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ قَالَ: يَعْلَمُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَيَجْحَدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ قَالَ: يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ وَالنَّفَقُ: السَّرَبُ، فَتَذْهَبُ فِيهِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أَوْ تَجْعَلُ لَهُمْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَصْعَدُ عَلَيْهِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أَفْضَلَ مِمَّا أَتَيْنَاهُمْ بِهِ فَافْعَلْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى يَقُولُ سُبْحَانَهُ: لَوْ شِئْتُ لَجَمَعْتُهُمْ عَلَى الْهُدَى أَجْمَعِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: نَفَقاً فِي الْأَرْضِ قَالَ: سَرَبًا أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ قَالَ: يَعْنِي الدَّرَجَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ قَالَ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمَوْتى قَالَ: الْكُفَّارُ. وَأَخْرَجَ هؤلاء عن مجاهد مثله. [سورة الأنعام (6) : الآيات 37 الى 39] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) هَذَا كَانَ مِنْهُمْ تَعَنُّتًا وَمُكَابَرَةً حَيْثُ لَمْ يَقْتَدُوا بِمَا قَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْقُرْآنُ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ عَجَزُوا عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَمُرَادُهُمْ بِالْآيَةِ هُنَا، هِيَ الَّتِي تَضْطَرُّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ: كَنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ بِمَرْأًى مِنْهُمْ وَمَسْمَعٍ، أَوْ نَتْقِ الْجَبَلِ، كَمَا وَقَعَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ عَلَى رَسُولِهِ آيَةً تَضْطَرُّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لِتَظْهَرَ فَائِدَةُ التَّكْلِيفِ الَّذِي هو الابتلاء والامتحان، وأيضا لو أنزل آيَةً كَمَا طَلَبُوا لَمْ يُمْهِلْهُمْ بَعْدَ نُزُولِهَا بَلْ سَيُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا. قَالَ الزَّجَّاجُ: طَلَبُوا أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، يَعْنِي جَمْعَ إِلْجَاءٍ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ

اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ تَرَكَهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لَا تَبْلُغُهَا عُقُولُهُمْ. قَوْلُهُ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ الدَّابَّةُ: مِنْ دَبَّ يَدِبُّ فَهُوَ دَابٌّ: إِذَا مَشَى مَشْيًا فِيهِ تَقَارُبُ خَطْوٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ وَلا طائِرٍ مَعْطُوفٌ عَلَى دَابَّةٍ مَجْرُورٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَلا طائِرٍ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ مِنْ دَابَّةٍ عَلَى تَقْدِيرِ زِيَادَةِ مِنْ، وبِجَناحَيْهِ لِدَفْعِ الْإِبْهَامِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ الطَّيَرَانَ لِغَيْرِ الطَّيْرِ كَقَوْلِهِمْ: طِرْ فِي حَاجَتِي: أَيْ أَسْرِعْ، وَقِيلَ: إِنَّ اعْتِدَالَ جَسَدِ الطَّائِرِ بَيْنَ الْجَنَاحَيْنِ يُعِينُهُ عَلَى الطَّيَرَانِ، وَمَعَ عَدَمِ الِاعْتِدَالِ يَمِيلُ، فَأَعْلَمَنَا سُبْحَانَهُ أَنَّ الطَّيَرَانَ بِالْجَنَاحَيْنِ وَقِيلَ: ذَكَرَ الْجَنَاحَيْنِ لِلتَّأْكِيدِ كَضَرَبَ بِيَدِهِ وَأَبَصَرَ بِعَيْنَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْجَنَاحُ: أَحَدُ نَاحِيَتَيِ الطَّيْرِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ الطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ، وَأَصْلُهُ الْمَيْلُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي. وَالْمَعْنَى: مَا مِنْ دَابَّةٍ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي تَدِبُّ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنْ أَمْكِنَةِ الْأَرْضِ، وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ فِي أَيِّ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِيهَا إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أَيْ جَمَاعَاتٌ مِثْلُكُمْ خَلَقَهُمُ اللَّهُ كَمَا خَلَقَكُمْ، وَرَزَقَهُمْ كَمَا رَزَقَكُمْ، دَاخِلَةٌ تَحْتَ عِلْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقِيلَ: أَمْثَالُنَا فِي ذِكْرِ اللَّهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: أَمْثَالُنَا فِي كونهم محشورين، وروي ذلك عن أبي هريرة. وقال سفيان ابن عُيَيْنَةَ: أَيْ مَا مِنْ صِنْفٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ إِلَّا فِي النَّاسِ شِبْهٌ مِنْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو كَالْأَسَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْرَهُ كَالْخِنْزِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْوِي كَالْكَلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْهُو كالطاووس وَقِيلَ: أَمْثالُكُمْ فِي أَنَّ لَهَا أَسْمَاءً تُعْرَفُ بِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَمْثالُكُمْ فِي الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْمَوْتِ وَالْبَعْثِ وَالِاقْتِصَاصِ. وَالْأَوْلَى أَنْ تُحْمَلَ الْمُمَاثَلَةُ عَلَى كُلِّ مَا يُمْكِنُ وُجُودُ شِبْهٍ فِيهِ كَائِنًا مَا كَانَ. قَوْلُهُ: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ مَا أَغْفَلْنَا عَنْهُ وَلَا ضَيَّعْنَا فِيهِ مِنْ شَيْءٍ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَثْبَتَ فِيهِ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ أَيْ مَا تَرَكْنَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ إِمَّا تَفْصِيلًا أَوْ إِجْمَالًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «1» ، وَقَالَ: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «2» ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَجْمَلَهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَوْلُهُ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «3» فَأَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاتِّبَاعِ مَا سَنَّهُ رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَكُلُّ حُكْمٍ سَنَّهُ الرَّسُولُ لِأُمَّتِهِ قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي «4» وَبِقَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «5» ، ومِنْ فِي مِنْ شَيْءٍ مَزِيدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يَعْنِي الْأُمَمَ الْمَذْكُورَةَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا تُحْشَرُ كَمَا يُحْشَرُ بَنُو آدَمَ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ حَشْرَهَا مَوْتَهَا، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ. وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِلْآيَةِ، وَلِمَا صَحَّ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مِنْ أَنَّهُ يُقَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ، وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ «6» ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَشْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ حَشْرُ الْكُفَّارِ، وَمَا تَخَلَّلَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ. قَالُوا: وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّمْثِيلُ عَلَى جِهَةِ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْحِسَابِ وَالْقَصَاصِ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا: بِأَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ خارج الصحيح» عن بعض الرواة

_ (1) . النحل: 89. (2) . النحل: 44. (3) . الحشر: 7. (4) . آل عمران: 31. (5) . الأحزاب: 21. (6) . التكوير: 6. (7) . أي: في غير الصحيح كما في القرطبي (6/ 421) . [.....]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 إلى 45]

زِيَادَةً، وَلَفْظُهُ «حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، وَلِلْحَجَرِ لِمَ رَكِبَ عَلَى الْحَجَرِ؟ وَالْعُودُ لِمَ خَدَشَ الْعُودَ؟» قَالُوا: وَالْجَمَادَاتُ لَا يُعْقَلُ خِطَابُهَا وَلَا ثَوَابُهَا وَلَا عِقَابُهَا. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ أَيْ لَا يَسْمَعُونَ بَأَسْمَاعِهِمْ وَلَا يَنْطِقُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، نَزَّلَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَنْطِقُ لِعَدَمِ قَبُولِهِمْ لِمَا يَنْبَغِي قَبُولُهُ مِنَ الْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ وَالدَّلَائِلِ الصَّحِيحَةِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَمَمُهُمْ وَبُكْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. قَوْلُهُ: فِي الظُّلُماتِ أَيْ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْحَيْرَةِ لَا يَهْتَدُونَ لِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِ صَلَاحُهُمْ. وَالْمَعْنَى: كَائِنِينَ فِي الظُّلُمَاتِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ إِبْصَارِ الْمُبْصَرَاتِ وَضَمُّوا إِلَى الصَّمَمِ وَالْبُكْمِ عَدَمَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَبْصَارِ لِتَرَاكُمِ الظُّلْمَةِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَتْ حَوَاسُّهُمْ كَالْمَسْلُوبَةِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِحَالٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ تَحْقِيقُ الْمَقَامِ بِمَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِهِ مَا شَاءَ يَفْعَلُ، مَنْ شَاءَ تَعَالَى أَنْ يُضِلَّهُ أَضَلَّهُ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَهْدِيَهُ جَعَلَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، لَا يَذْهَبُ بِهِ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَلَا يَمْشِي فِيهِ إِلَّا إِلَى صَوْبِ الِاسْتِقَامَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ قَالَ: أَصْنَافًا مُصَنَّفَةً تُعْرَفُ بِأَسْمَائِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: الطَّيْرُ أُمَّةٌ، وَالْإِنْسُ أُمَّةٌ، وَالْجِنُّ أُمَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ: قَالَ: خَلْقٌ أَمْثَالُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جريح فِي الْآيَةِ قَالَ: الذَّرَّةُ فَمَا فَوْقَهَا مِنْ أَلْوَانِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الدَّوَابِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ يَعْنِي: مَا تَرَكْنَا شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ كَتَبْنَاهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ قَالَ: مَوْتُ الْبَهَائِمِ حَشْرُهَا، وَفِي لَفْظٍ قَالَ: يَعْنِي بِالْحَشْرِ: الْمَوْتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «مَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا سَيُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يُقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ حَتَّى يُقْتَصَّ لِلْجَلْحَاءِ مِنْ ذَاتِ الْقَرْنِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهَا: كُونِي تُرَابًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً وإن شئتم فاقرؤوا وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَطَحَتْ شاتان عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي فِيمَ انْتَطَحَتَا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا» قَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَلَقَدْ تركنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَقْلِبُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا ذَكَرْنَا مِنْهُ عِلْمًا. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القرناء» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 45] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)

قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَكُمْ الْكَافُ وَالْمِيمُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِلْخِطَابِ وَلَا حَظَّ لَهُمَا فِي الْإِعْرَابِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ الْكَافَ وَالْمِيمَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِوُقُوعِ الرُّؤْيَةِ عَلَيْهِمَا. والمعنى: أرأيتم أنفسكم. قال في الْكَشَّافُ مُرَجِّحًا لِلْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ: إِنَّهُ لَا مَحَلَّ لِلضَّمِيرِ الثَّانِي: يَعْنِي الْكَافَ مِنَ الْإِعْرَابِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: أَرَأَيْتُكَ زَيْدًا مَا شَأْنُهُ، فَلَوْ جَعَلْتَ لِلْكَافِ مَحَلًّا لَكُنْتَ كَأَنَّكَ تَقُولُ: أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ زَيْدًا مَا شَأْنُهُ وَهُوَ خُلْفٌ مِنَ الْقَوْلِ. انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: أَخْبِرُونِي إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ كَمَا أَتَى غَيْرَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَيِ الْقِيَامَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّبْكِيتِ وَالتَّوْبِيخِ: أَيْ أَتَدْعُونَ غَيْرَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا أَمْ تَدْعُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ تَأْكِيدٌ لِذَلِكَ التَّوْبِيخِ: أَيْ أَغَيْرَ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ: أَنَّ أَصْنَامَكُمْ تَضُرُّ وَتَنْفَعُ وَأَنَّهَا آلِهَةٌ كَمَا تَزْعُمُونَ. قَوْلُهُ: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَنْفِيٍّ مُقَدَّرٍ أَيْ لَا تَدْعُونَ غَيْرَهُ بَلْ إِيَّاهُ تَخُصُّونَ بِالدُّعَاءِ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ أَيْ فَيَكْشِفُ عَنْكُمْ مَا تَدْعُونَهُ إِلَى كَشْفِهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَكْشِفَهُ عَنْكُمْ لَا إِذَا لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ أَيْ وَتَنْسَوْنَ عِنْدَ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ تَعَالَى: أَيْ مَا تَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا فَلَا تَدْعُونَهَا، وَلَا تَرْجُونَ كَشْفَ مَا بِكُمْ مِنْهَا، بَلْ تُعْرِضُونَ عَنْهَا إِعْرَاضَ النَّاسِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَتَتْرُكُونَ مَا تُشْرِكُونَ. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مسوق لتسلية النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَيْ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ كَائِنَةٍ مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا فَكَذَّبُوهُمْ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ أَيِ الْبُؤْسُ وَالضُّرُّ وَقِيلَ: الْبَأْسَاءُ الْمَصَائِبُ فِي الْأَمْوَالِ، وَالضَّرَّاءُ الْمَصَائِبُ فِي الْأَبْدَانِ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُ: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أَيْ يَدْعُونَ اللَّهَ بِضَرَاعَةٍ، مَأْخُوذٌ مِنَ الضَّرَاعَةِ وَهِيَ الذُّلُّ، يُقَالُ: ضَرَعَ فهو ضارع، ومنه قَوْلُ الشَّاعِرِ: لِيَبْكِ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ قَوْلُهُ: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا أَيْ فَهَلَّا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا لَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَضَرَّعُوا، وَهَذَا عِتَابٌ لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الدُّعَاءِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ حَتَّى عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ لِشِدَّةِ تَمَرُّدِهِمْ وَغُلُوِّهِمْ فِي الْكُفْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَضَرَّعُوا عِنْدَ أَنْ نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَذَلِكَ تَضَرُّعٌ ضَرُورِيٌّ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ إِخْلَاصٍ فَهُوَ غَيْرُ نَافِعٍ لِصَاحِبِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ صَلُبَتْ وَغَلُظَتْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ أَغْوَاهُمْ بِالتَّصْمِيمِ عَلَى الْكُفْرِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْمَعَاصِي. قَوْلُهُ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَيْ تَرَكُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ، أَوْ أَعْرَضُوا عَمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَوْ كَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَمْ يُؤَاخَذُوا بِهِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الِاتِّعَاظَ بِمَا ذُكِّرُوا بِهِ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَأَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ لَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ اسْتَدْرَجْنَاهُمْ بِفَتْحِ أَبْوَابِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ عَلَيْهِمْ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا مِنَ الْخَيْرِ عَلَى أَنْوَاعِهِ

فَرِحَ بَطَرَ وَأَشَرَ وَأُعْجِبُوا بِذَلِكَ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا أُعْطُوهُ لِكَوْنِ كُفْرِهِمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ حَقًّا وَصَوَابًا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً وَهُمْ غَيْرُ مُتَرَقِّبِينَ لِذَلِكَ. وَالْبَغْتَةُ: الْأَخْذُ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْدِمَةِ أَمَارَةٍ، وَهِيَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. قَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ الْمُبْلِسُ: الْحَزِينُ الْآيِسُ مِنَ الْخَيْرِ لِشِدَّةِ مَا نَزَلْ بِهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ، وَمِنْ ذَلِكَ اشْتُقَّ اسْمُ إِبْلِيسَ، يُقَالُ: أَبْلَسَ الرَّجُلُ إِذَا سَكَتَ، وَأَبْلَسَتِ النَّاقَةُ إذا لم ترع. قال الْعَجَاجِ: يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفْ رَسْمًا مِكْرَسَا ... قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا «1» أَيْ تَحَيَّرَ لِهَوْلِ مَا رَأَى، وَالْمَعْنَى: فَإِذَا هُمْ مَحْزُونُونَ مُتَحَيِّرُونَ آيِسُونَ مِنَ الْفَرَحِ. قَوْلُهُ: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الدَّابِرُ: الْآخِرُ، يُقَالُ: دَبَرَ الْقَوْمَ يَدْبُرُهُمْ دَبْرًا: إِذَا كَانَ آخِرَهُمْ فِي الْمَجِيءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَطَعَ آخِرَهُمْ: أَيِ اسْتُؤْصِلُوا جَمِيعًا حَتَّى آخِرِهِمْ. قَالَ قُطْرُبٌ: يَعْنِي أَنَّهُمُ اسْتُؤْصِلُوا وَأُهْلِكُوا. قَالَ أمية ابن أَبِي الصَّلْتِ: فَأُهْلِكُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ ... فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا انْتَصَرُوا وَمِنْهُ التَّدْبِيرُ لِأَنَّهُ إِحْكَامُ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ. قَوْلُهُ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ عَلَى هَلَاكِهِمْ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ سُبْحَانَهُ عِنْدَ نُزُولِ النِّعَمِ الَّتِي مِنْ أَجَلِّهَا هَلَاكُ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ، فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ مِنْ كُلِّ شَدِيدٍ، اللَّهُمَّ أَرِحْ عِبَادَكَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ، وَاقْطَعْ دَابِرَهُمْ وَأَبْدِلْهُمْ بِالْعَدْلِ الشَّامِلِ لَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ قَالَ: خَوْفُ السُّلْطَانِ وَغَلَاءُ السِّعْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ قَالَ: يَعْنِي تَرَكُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ قَالَ: مَا دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَرُسُلُهُ أَبَوْهُ وَرَدُّوهُ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ: رَخَاءُ الدُّنْيَا وَيُسْرُهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا قَالَ: مِنَ الرِّزْقِ أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ قَالَ: مُهْلَكُونَ، مُتَغَيِّرٌ حَالُهُمْ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا يَقُولُ: فَقُطِعَ أَصْلُ الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ الْحَارِثِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً قَالَ: أُمْهِلُوا عِشْرِينَ سَنَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لمعنى البغتة لغة، ومحتاج

_ (1) . «المكرس» : الذي صار فيه الكرس، والكرس: أبوال الإبل وأبعارها يتلبّد بعضها على بعض في الدار والدمن. «أبلس» : سكت غمّا.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 إلى 49]

إِلَى نَقْلٍ عَنِ الشَّارِعِ وَإِلَّا فَهُوَ كَلَامٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: الْمُبْلِسُ: الْمَجْهُودُ الْمَكْرُوبُ الَّذِي قَدْ نَزَلَ بِهِ الشَّرُّ الَّذِي لَا يَدْفَعُهُ، وَالْمُبْلِسُ أَشَدُّ مِنَ الْمُسْتَكِينِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا قال: استؤصلوا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) هَذَا تَكْرِيرٌ لِلتَّوْبِيخِ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَوَحَّدَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ بِخِلَافِ الْبَصَرِ وَلِهَذَا جَمَعَهُ، وَالْخَتْمُ: الطَّبْعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي الْبَقَرَةِ، وَالْمُرَادُ: أَخْذُ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ، أَوْ أَخْذُ الْجَوَارِحِ نَفْسِهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ للتوبيخ، ومَنْ مبتدأ، وإِلهٌ خبره، وغَيْرُ اللَّهِ صِفَةٌ لِلْخَبَرِ، وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي بِهِ مَعَ أَنَّ الْمَرْجِعَ مُتَعَدِّدٌ، عَلَى مَعْنَى: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِذَلِكَ الْمَأْخُوذِ أَوِ الْمَذْكُورِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى أَحَدِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ: أَيْ يَأْتِيكُمْ بِذَلِكَ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّظَرِ فِي تَصْرِيفِ الْآيَاتِ وَعَدَمِ قَبُولِهِمْ لَهَا تَعْجِيبًا لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالتَّصْرِيفُ: الْمَجِيءُ بِهَا عَلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، تَارَةً إِنْذَارٌ، وَتَارَةً إِعْذَارٌ، وَتَارَةً تَرْغِيبٌ، وَتَارَةً تَرْهِيبٌ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ عَطْفٌ عَلَى نُصَرِّفُ، وَمَعْنَى يَصْدِفُونَ: يُعْرِضُونَ، يُقَالُ: صَدَفَ عَنِ الشَّيْءِ: إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ صَدَفًا وَصُدُوفًا. قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَيْ أَخْبِرُونِي عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْبَغْتَةِ قَرِيبًا أَنَّهَا الْفَجْأَةُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: بَغَتَهُمْ يَبْغَتُهُمْ بَغْتًا وَبَغْتَةً: إِذَا أَتَاهُمْ فَجْأَةً، أَيْ مِنْ دُونِ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَاتٍ تَدُلُّ عَلَى الْعَذَابِ، وَالْجَهْرَةُ أَنْ يَأْتِيَ الْعَذَابُ بَعْدَ ظُهُورِ مُقَدِّمَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَقِيلَ الْبَغْتَةُ: إِتْيَانُ الْعَذَابِ لَيْلًا، وَالْجَهْرَةُ: إِتْيَانُ الْعَذَابِ نَهَارًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَياتاً أَوْ نَهاراً «1» . هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ: أَيْ مَا يَهْلِكُ هَلَاكَ تَعْذِيبٍ وَسُخْطٍ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ. وَقُرِئَ: يُهْلَكُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ هَلْ يَهْلِكُ إِلَّا أَنْتُمْ وَمَنْ أَشْبَهَكُمْ؟ انْتَهَى. قَوْلُهُ: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِبَيَانِ الْغَرَضِ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، أَيْ مُبَشِّرِينَ لِمَنْ أَطَاعَهُمْ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ، وَمُنْذِرِينَ لِمَنْ عَصَاهُمْ بِمَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ الْوَبِيلِ وَقِيلَ: مُبَشِّرِينَ فِي الدُّنْيَا بِسَعَةِ الرِّزْقِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ، وَمُنْذِرِينَ: مُخَوِّفِينَ بِالْعِقَابِ، وَهُمَا حَالَانِ مُقَدَّرَتَانِ: أَيْ مَا نُرْسِلُهُمْ إِلَّا مُقَدِّرِينَ تَبْشِيرَهُمْ وَإِنْذَارَهُمْ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ أَيْ آمَنَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأَصْلَحَ حَالَ نَفْسِهِ بِفِعْلِ مَا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، هَذَا حَالُ مَنْ آمن وأصلح، وأما حال المكذبين فهو أنه يَمَسَّهُمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ أَيْ خُرُوجِهِمْ عَنِ التصديق والطاعة.

_ (1) . يونس: 50.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 إلى 55]

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَصْدِفُونَ قَالَ: يَعْدِلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يَصْدِفُونَ قَالَ: يُعْرِضُونَ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً قَالَ: فَجْأَةً آمِنِينَ، أَوْ جَهْرَةً، قَالَ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُلُّ فِسْقٍ فِي القرآن فمعناه الكذب. [سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 55] قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ لَمَّا كَثُرَ اقْتِرَاحُهُمْ عَلَيْهِ، وَتَعَنُّتُهُمْ بِإِنْزَالِ الْآيَاتِ الَّتِي تَضْطَرُّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ خَزَائِنُ اللَّهِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَالْمُرَادُ: خَزَائِنُ قُدْرَتِهِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ حَتَّى يُخْبِرَهُمْ بِهِ، وَيُعَرِّفَهُمْ بِمَا سَيَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ الدَّهْرِ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ حَتَّى تُكَلِّفُونِي مِنَ الْأَفْعَالِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ مَا لَا يُطِيقُهُ الْبَشَرُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدِ اشْتَغَلَ بِهَذِهِ الْمُفَاضَلَةِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ. بَلِ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي، وَمِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ أَيْ مَا أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحِيهِ اللَّهُ إِلَيَّ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يُثْبِتِ اجْتِهَادَ الْأَنْبِيَاءِ عَمَلًا بِمَا يُفِيدُهُ الْقَصْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُدَوَّنَةٌ فِي الْأُصُولِ وَالْأَدِلَّةُ عَلَيْهَا مَعْرُوفَةٌ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي الضَّالُّ وَالْمُهْتَدِي، أَوِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ أَوْ مَنِ اتَّبَعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَعْرِفُوا عَدَمَ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ بَيِّنٌ، لَا يَلْتَبِسُ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ وَأَقَلُّ تَفَكُّرٍ. قَوْلُهُ: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ الْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا يُوحَى وَقِيلَ إِلَى اللَّهِ وَقِيلَ: إِلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ. وَخَصَّ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يُؤَثِّرُ فِيهِمْ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ، بِخِلَافِ مَنْ لَا يَخَافُ الْحَشْرَ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفْرِ لِجُحُودِهِ بِهِ وَإِنْكَارِهِ

لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ. قِيلَ: وَمَعْنَى يَخَافُونَ: يَعْلَمُونَ وَيَتَيَقَّنُونَ أَنَّهُمْ مَحْشُورُونَ، فَيَشْمَلُ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ وَقِيلَ مَعْنَى الْخَوْفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُنْذِرُ بِهِ مَنْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنَ الْحَشْرِ عِنْدَ أَنْ يَسْمَعَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُذَكِّرُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَدِّقًا بِهِ فِي الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَصِحَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ تَكُونُ الْمَوْعِظَةُ فِيهِ أَنْجَعُ وَالتَّذْكِيرُ لَهُ أَنْفَعُ. قَوْلُهُ: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ أَنْذِرْ بِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخَافُونَ الْحَشْرَ حَالَ كَوْنِهِمْ لَا وَلِيَّ لَهُمْ يُوَالِيهِمْ وَلَا نَصِيرَ يُنَاصِرُهُمْ وَلَا شَفِيعَ يَشْفَعُ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُعْتَرِفِينَ بِالْحَشْرِ أَنَّ آبَاءَهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَوْ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. قَوْلُهُ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الدُّعَاءُ: الْعِبَادَةُ مُطْلَقًا وَقِيلَ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَقِيلَ: الذِّكْرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: الدُّعَاءُ لِلَّهِ بِجَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ: الدَّوَامُ عَلَى ذَلِكَ وَالِاسْتِمْرَارُ وَقِيلَ: هو على ظاهره، ويُرِيدُونَ وَجْهَهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مُخْلِصُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى: أَيْ يَتَوَجَّهُونَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ. قَوْلُهُ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ النَّهْيِ وَجَوَابِهِ، مُتَضَمِّنٌ لِنَفْيِ الْحَامِلِ عَلَى الطَّرْدِ: أَيْ حِسَابُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَدْتَ أَنْ تَطْرُدَهُمْ مُوَافَقَةً لِمَنْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْكَ هُوَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَحِسَابُكَ عَلَى نَفْسِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَعَلَامَ تَطْرُدُهُمْ؟ هَذَا عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ وَصْفِ مَنْ وَصَفَهُمْ بقوله: ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا «1» وَطَعَنَ عِنْدَكَ فِي دِينِهِمْ وَحَسَبِهِمْ، فَكَيْفَ وَقَدْ زَكَّاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ، وَهَذَا هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «2» وَقَوْلُهُ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى «3» وقوله: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي «4» . قَوْلُهُ: فَتَطْرُدَهُمْ جَوَابُ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الِاعْتِرَاضِ: أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَقْبِلْ عَلَيْهِمْ، وَجَالِسْهُمْ، وَلَا تَطْرُدْهُمْ، مُرَاعَاةً لِحَقِّ مَنْ لَيْسَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِمْ فِي الدِّينِ وَالْفَضْلِ، وَمِنْ فِي مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ لِلتَّبْعِيضِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّوْكِيدِ، وَكَذَا فِي ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ. قَوْلُهُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جَوَابٌ لِلنَّهْيِ، أَعْنِي: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَيْ فَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ كُنْتَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَحَاشَاهُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّعْرِيضِ لِئَلَّا يَفْعَلَ ذلك غيره صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «5» ، وَقِيلَ: إِنَّ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى فَتَطْرُدَهُمْ عَلَى طَرِيقِ التَّسَبُّبِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْفَتْنِ الْعَظِيمِ فَتَنَّا بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ، وَالْفِتْنَةُ الِاخْتِبَارُ: أَيْ عَامَلْنَاهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِينَ، وَاللَّامُ فِي لِيَقُولُوا لِلْعَاقِبَةِ: أَيْ لِيَقُولَ الْبَعْضُ الْأَوَّلُ مُشِيرِينَ إِلَى الْبَعْضِ الثَّانِي أَهؤُلاءِ الَّذِينَ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَيْ أَكْرَمَهُمْ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ دُونَنَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنَ الْمُشْكَلِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ فُتِنُوا لِيَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِنْكَارِ كُفْرٌ، وَأَجَابَ بِجَوَابَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالثَّانِي

_ (1) . هود: 27. (2) . الأنعام: 164. (3) . النجم: 39. (4) . الشعراء: 113. (5) . الزمر: 65.

أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتُبِرُوا بِهَذَا كَانَ عَاقِبَتُهُ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «1» . قَوْلُهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَرْجِعَ الِاسْتِحْقَاقِ لِنِعَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الشُّكْرُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ لَهُ، فَمَا بَالُكُمْ تَعْتَرِضُونَ بِالْجَهْلِ وَتُنْكِرُونَ الْفَضْلَ. قَوْلُهُ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا هُمُ الَّذِينَ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ طَرْدِهِمْ، وَهُمُ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ تَطْيِيبًا لِخَوَاطِرِهِمْ وَإِكْرَامًا لَهُمْ. وَالسَّلَامُ، وَالسَّلَامَةُ: بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَمَعْنَى سَلَامٌ عَلَيْكُمْ: سَلَّمَكُمُ اللَّهُ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا رَآهُمْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا السَّلَامَ هُوَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ: أَيْ أَبْلِغْهُمْ مِنَّا السَّلَامَ. قَوْلُهُ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَيْ أَوْجَبَ ذَلِكَ إِيجَابَ فَضْلٍ وَإِحْسَانٍ وَقِيلَ: كَتَبَ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قِيلَ: هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِإِبْلَاغِهِ إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ أَمَرَهُ بِإِبْلَاغِ السَّلَامِ إِلَيْهِمْ تَبْشِيرًا بِسِعَةِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَعَظِيمِ رَحْمَتِهِ. قَوْلُهُ: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَنَافِعٌ بِفَتْحِ أَنَّ مِنْ أَنَّهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنَ الرَّحْمَةِ: أَيْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ إِلَى آخِرِهِ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلرَّحْمَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ، وَمَوْضِعُ بِجَهَالَةٍ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ عَمِلَهُ وَهُوَ جَاهِلٌ. قِيلَ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلَ الْجَاهِلِينَ، لِأَنَّ مَنْ عَمِلَ مَا يُؤَدِّي إِلَى الضَّرَرِ فِي الْعَاقِبَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ أَوْ ظَنِّهِ، فَقَدْ فَعَلَ فِعْلَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالسَّفَهِ لَا فِعْلَ أَهْلِ الْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ عَمِلَ ذَلِكَ وَهُوَ جَاهِلٌ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ، فَتَكُونُ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالْجَهَالَةِ: الْإِيذَانَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُبَاشِرُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الضَّرَرِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ عَمَلِهِ وَأَصْلَحَ مَا أَفْسَدَهُ بِالْمَعْصِيَةِ، فَرَاجَعَ الصَّوَابَ وَعَمِلَ الطَّاعَةَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ فَأَنَّهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى تَكُونُ أَنَّ وَمَا بَعْدَهَا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ فَأَمَرَهُ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ، وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ الْجُمْلَةَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مُضْمَرٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَهُ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَالَ: لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ هُوَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ. وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أَيْ مِثْلِ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ نُفَصِّلُهَا، وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ فَصَّلَ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ حُكْمَ كُلِّ طَائِفَةٍ. قَوْلُهُ: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ. قَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ: أَيْ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَلِتَسْتَبِينَ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْحَذْفُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ دُخُولَ الْوَاوِ لِلْعَطْفِ عَلَى الْمَعْنَى: قُرِئَ لِتَسْتَبِينَ بِالْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ، فَالْخِطَابُ عَلَى الْفَوْقِيَّةِ للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَيْ لِتَسْتَبِينَ يَا مُحَمَّدُ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ، وَسَبِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَابْنِ عَامِرٍ وَحَفْصٍ بِالرَّفْعِ، فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى سَبِيلٍ، وَأَمَّا عَلَى التَّحْتِيَّةِ فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى سَبِيلٍ أَيْضًا، وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَشُعْبَةَ بِالرَّفْعِ. وَإِذَا اسْتَبَانَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فَقَدِ اسْتَبَانَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن قتادة في قوله:

_ (1) . القصص: 8.

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ قَالَ: الْأَعْمَى الْكَافِرُ الَّذِي عَمِيَ عَنْ حَقِّ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِ، وَالْبَصِيرُ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ الَّذِي أَبْصَرَ بَصَرًا نَافِعًا فَوَحَّدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَعَمِلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، وَانْتَفَعَ بِمَا أَتَاهُ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عبد الله ابن مَسْعُودٍ قَالَ: «مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ صُهَيْبٌ وَعَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَخَبَّابٌ وَنَحْوُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِكَ أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ؟ اطْرُدْهُمْ عَنَّا، فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ نَتَّبِعَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمُ الْقُرْآنَ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا السَّبَبَ مُطَوَّلًا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَفِيهِ: أَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَقَرَظَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلٍ وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ بْنِ نَوْفَلٍ فِي أَشْرَافِ الْكُفَّارِ مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: جَاءَ الْأَقْرَعُ بن حابس التميمي وعيينة ابن حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مُطَوَّلًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَقْرَعُ وَعُيَيْنَةُ إِنَّمَا أَسْلَمَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِدَهْرٍ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِتَّةٍ: أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهُمَا، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترءون عَلَيْنَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَيَانِ السَّبَبِ رِوَايَاتٌ مُوَافِقَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَعْنَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قَالَ: يَعْنِي الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الذِّكْرِ لَا تَطْرُدْهُمْ عَنِ الذِّكْرِ. قَالَ سُفْيَانُ: أَيْ أَهْلِ الْفِقْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ أَغْنِيَاءَ وَبَعْضَهُمْ فَقُرَاءَ، فَقَالَ الْأَغْنِيَاءُ لِلْفُقَرَاءِ: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا يَعْنِي أَهَؤُلَاءِ هَدَاهُمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَيْ لَوْ كَانَ لَهُمْ كَرَامَةٌ عَلَى اللَّهِ مَا أَصَابَهُمْ هَذَا الْجُهْدُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مَاهَانَ قَالَ: أَتَى قَوْمٌ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّا أَصَبْنَا ذُنُوبًا عِظَامًا، فَمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَانْصَرَفُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا الْآيَةَ. فَدَعَاهُمْ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ قَوْلَهُ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَانُوا إِذَا دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بدأهم بالسلام، فَقَالَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَإِذَا لَقِيَهُمْ فَكَذَلِكَ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ قَالَ: نُبَيِّنُ الآيات.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 56 إلى 59]

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء. [سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 59] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) قَوْلُهُ: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْكُفَّارِ وَيُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ نُهِيَ عَنْ عِبَادَةِ مَا يَدْعُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ نهاه عَنْ ذَلِكَ وَصَرَفَهُ وَزَجَرَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ أَيْ لَا أَسَلُكُ الْمَسْلَكَ الَّذِي سَلَكْتُمُوهُ فِي دِينِكُمْ مِنَ اتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الْمَقَاصِدُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَنْهَا الْوُقُوعُ فِي الضَّلَالِ. قَوْلُهُ: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أَيِ اتَّبَعْتُ أَهْوَاءَكُمْ فِيمَا طَلَبْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَةِ مَعْبُودَاتِكُمْ وَطَرْدِ مَنْ أَرَدْتُمْ طَرْدَهُ وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْمَجِيءُ بِهَا اسْمِيَّةً عَقِبَ تِلْكَ الْفِعْلِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، وَقُرِئَ ضَلَلْتُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: ضَلِلْتُ بِكَسْرِ اللَّامِ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَالْأُولَى هِيَ الْأَصَحُّ وَالْأَفْصَحُ، لِأَنَّهَا لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالضَّلَالُ وَالضَّلَالَةُ: ضِدُّ الرَّشَادِ، وَقَدْ ضَلَلْتُ أَضِلُّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي «1» قَالَ فَهَذِهِ: يَعْنِي الْمَفْتُوحَةَ لُغَةُ نَجْدٍ وَهِيَ الْفَصِيحَةُ، وَأَهْلُ الْعَالِيَةِ يَقُولُ: ضَلِلْتُ بِالْكَسْرِ أَضِلُّ انْتَهَى. قَوْلُهُ: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي الْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ، أَيْ إِنِّي عَلَى بُرْهَانٍ مِنْ رَبِّي وَيَقِينٍ، لَا عَلَى هَوًى وَشَكٍّ، أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ هُوَ عَنْ حُجَّةٍ بُرْهَانِيَّةٍ يَقِينِيَّةٍ، لَا كَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ الشُّبَهِ الدَّاحِضَةِ وَالشُّكُوكِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا مُسْتَنَدَ لَهَا إِلَّا مُجَرَّدُ الْأَهْوِيَةِ الْبَاطِلَةِ. قَوْلُهُ: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ أَيْ بِالرَّبِّ، أَوْ بِالْعَذَابِ، أَوْ بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، وَالتَّذْكِيرُ لِلضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِمَّا حَالِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ: أَيْ وَالْحَالُ أَنْ قَدْ كَذَّبْتُمْ بِهِ، أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْبَيِّنَةِ. قَوْلُهُ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَعَجَّلُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لِفَرْطِ تَكْذِيبِهِمْ يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَهُ، اسْتِهْزَاءً، نَحْوَ قَوْلِهِ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «2» ، وَقَوْلُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «3» ، وَقَوْلُهُمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «4» ، وَقِيلَ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَقْتَرِحُونَهَا عَلَيَّ. قَوْلُهُ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ: أَيْ مَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَوِ الْآيَاتِ المقترحة. والمراد: الحكم الفاصل

_ (1) . سبأ: 50. (2) . الإسراء: 92. (3) . الأنفال: 32. (4) . سبأ: 29.

بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. قَوْلُهُ: يَقُصُّ الْحَقَّ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ يَقُصُّ بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَقْضِي بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ، وَكَذَا قَرَأَ عَلِيٌّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ يَاءٍ. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى هُوَ مِنَ القصص: أَيْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ مِنَ الْقَضَاءِ: أَيْ يَقْضِي الْقَضَاءَ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَالْحَقُّ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يَقْضِي الْقَضَاءَ الْحَقَّ، أَوْ يَقُصُّ الْقَصَصَ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أَيْ بَيْنِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِمَا يَقْضِي بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَيُفَصِّلُهُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أَيْ مَا تَطْلُبُونَ تَعْجِيلَهُ بِأَنْ يَكُونَ إِنْزَالُهُ بِكُمْ مَقْدُورًا لِي وَفِي وُسْعِي لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَيْ لَقَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ بيننا بأن ينزله الله سبحانه لكم بِسُؤَالِي لَهُ وَطَلَبِي ذَلِكَ أَوِ الْمَعْنَى: لَوْ كَانَ الْعَذَابُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَتَسْتَعْجِلُونَ بِهِ عِنْدِي وَفِي قَبْضَتِي لَأَنْزَلْتُهُ بِكُمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْضِي الْأَمْرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وَبِالْوَقْتِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ عَذَابُهُمْ وَبِمَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ مِنْ تَأْخِيرِهِ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ وَإِعْذَارًا إِلَيْهِمْ. قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مَفْتَحٍ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْمَخْزَنُ: أَيْ عِنْدَهُ مَخَازِنُ الْغَيْبِ، جَعَلَ لِلْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ مَخَازِنَ تُخَزَّنُ فِيهَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، أَوْ جَمْعُ مِفْتَحٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ الْمِفْتَاحُ، جَعَلَ لِلْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ مَفَاتِحَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَا فِي الْمَخَازِنِ مِنْهَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ أَيْضًا، وَيُؤَيِّدُ أنها جمع مفتح بالكسر قراءة ابن السميقع وَعِنْدَهُ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ فَإِنَّ الْمَفَاتِيحَ جَمْعُ مِفْتَاحٍ وَالْمَعْنَى: إِنَّ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ خَاصَّةً مَخَازِنُ الْغَيْبِ، أَوِ الْمَفَاتِحُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْمَخَازِنِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَأَنَّهُ لَا عِلْمَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ عِلْمُ مَا يَسْتَعْجِلُهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ السِّيَاقُ انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ مَا يَدْفَعُ أَبَاطِيلَ الْكُهَّانِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَالرَّمْلِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُدَّعِينَ مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِمْ وَلَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُهُمْ، وَلَقَدِ ابْتُلِيَ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ بِقَوْمِ سُوءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الضَّالَّةِ وَالْأَنْوَاعِ الْمَخْذُولَةِ وَلَمْ يَرْبَحُوا مِنْ أَكَاذِيبِهِمْ وَأَبَاطِيلِهِمْ بِغَيْرِ خُطَّةِ السُّوءِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ مُنَجِّمًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» . قَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ: أَيْ يَعْلَمُ مَا فِيهِمَا مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ عِلْمًا مُفَصَّلًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ خَصَّهُمَا لِكَوْنِهِمَا أَكْثَرَ مَا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ وَيَتَطَلَّعُونَ لِعِلْمِ مَا فِيهِمَا وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها أَيْ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ التَّعْمِيمِ: أَيْ يَعْلَمُهَا وَيَعْلَمُ زَمَانَ سُقُوطِهَا وَمَكَانَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَرَقَةِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ، وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْوَرَقَةَ يُرَادُ بِهَا هُنَا السَّقْطُ مِنْ أَوْلَادِ بَنِي آدَمَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الرُّمُوزِ وَلَا يَصِحُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ وَلا حَبَّةٍ كَائِنَةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ أَيْ فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُظْلِمَةِ، وَقِيلَ: فِي بَطْنِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى حَبَّةٍ: وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَرَقَةٍ. وقرأ ابن السميقع وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ مِنْ وَرَقَةٍ، وَقَدْ شَمِلَ وَصْفُ الرُّطُوبَةِ وَالْيُبُوسَةِ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ. قَوْلُهُ: إِلَّا فِي

[سورة الأنعام (6) : الآيات 60 إلى 62]

كِتابٍ مُبِينٍ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ إِلَّا يَعْلَمُها وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمِهِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي قَالَ: عَلَى ثِقَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالَ: لَقَامَتِ السَّاعَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قَالَ: يَقُولُ خَزَائِنُ الْغَيْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قَالَ: هُنَّ خَمْسٌ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إِلَى قَوْلِهِ: عَلِيمٌ خَبِيرٌ «1» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها قَالَ: مَا مِنْ شَجَرَةٍ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا وَبِهَا مَلَكٌ يَكْتُبُ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ قَالَ: لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَجَرَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ لَيْسَ مَخْلُوقٌ إِلَّا لَهُ فِيهَا وَرَقَةٌ فَإِذَا سَقَطَتْ وَرَقَتُهُ خَرَجَتْ رُوحُهُ مِنْ جَسَدِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ زَرْعٍ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا ثِمَارٍ عَلَى أَشْجَارٍ إِلَّا عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم، هذا رزق فلان بن فُلَانٍ» فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَسْقُطُ مِنْ الآية. وقد رواه يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ فَقَالَ: الرَّطْبُ وَالْيَابِسُ مِنْ كُلِّ شيء. [سورة الأنعام (6) : الآيات 60 الى 62] وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) قَوْلُهُ: يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أَيْ يُنِيمُكُمْ فَيَقْبِضُ فِيهِ نُفُوسَكُمُ الَّتِي بِهَا تُمَيِّزُونَ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْتًا حَقِيقَةً، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها «2» وَالتَّوَفِّي: اسْتِيفَاءُ الشَّيْءِ، وَتَوَفَّيْتُ الشَّيْءَ وَاسْتَوْفَيْتُهُ: إِذَا أخذته أجمع، قال الشاعر: إنّ بني الأدرد لَيْسُوا مِنْ أَحَدْ ... وَلَا تُوَفَّاهُمْ قُرَيْشٌ فِي العدد

_ (1) . لقمان: 34. (2) . الزمر: 42. [.....]

قِيلَ: الرُّوحُ إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الْبَدَنِ فِي الْمَنَامِ بَقِيَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ وَقِيلَ: لَا تَخْرُجُ مِنْهُ الرُّوحُ بَلِ الذِّهْنُ فَقَطْ، وَالْأَوْلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أَيْ كَسَبْتُمْ بِجَوَارِحِكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قَوْلُهُ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أَيْ فِي النَّهَارِ، يَعْنِي الْيَقَظَةَ وَقِيلَ: يَبْعَثُكُمْ مِنَ الْقُبُورِ فِيهِ: أَيْ فِي شَأْنِ ذَلِكَ الَّذِي قَطَعْتُمْ فِيهِ أَعْمَارَكُمْ مِنَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ وَالْكَسْبِ بِالنَّهَارِ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ بِالنَّهَارِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ فِيهِ وَقِيلَ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ، أَيْ فِي الْمَنَامِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ إِمْهَالَهُ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ لَيْسَ لِلْغَفْلَةِ عَنْ كُفْرِهِمْ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ وَلَكِنْ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أَيْ مُعَيَّنٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعِبَادِ مِنْ حَيَاةٍ وَرِزْقٍ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أَيْ رُجُوعُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ. قَوْلُهُ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ الْمُرَادُ: فَوْقِيَّةُ الْقُدْرَةِ وَالرُّتْبَةِ، كَمَا يُقَالُ: السُّلْطَانُ فَوْقَ الرَّعِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. قَوْلُهُ: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً أَيْ مَلَائِكَةً جَعَلَهُمُ اللَّهُ حَافِظِينَ لَكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ «1» وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَحْفَظُكُمْ مِنَ الْآفَاتِ وَيَحْفَظُ أَعْمَالَكُمْ، وَالْحَفَظَةُ: جَمْعُ حَافِظٍ، مِثْلَ: كَتَبَةٍ: جَمْعُ كَاتِبٍ وَعَلَيْكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِيُرْسِلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى حَفَظَةٍ لِيُفِيدَ الْعِنَايَةَ بِشَأْنِهِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ حَقِيقٌ بِذَلِكَ وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِحَفَظَةٍ. قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا حَتَّى: يُحْتَمَلَ أن تكون هي الغائية، أَيْ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً يَحْفَظُونَ مَا أُمِرُوا بِحِفْظِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِكُمْ حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الِابْتِدَائِيَّةُ، وَالْمُرَادُ بِمَجِيءِ الْمَوْتِ مَجِيءُ عَلَامَاتِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ تَوَفَّاهُ رُسُلُنَا وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ تَتَوَفَّاهُ وَالرُّسُلُ: هُمْ أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَمَعْنَى تَوَفَّتْهُ: اسْتَوْفَتْ رُوحَهُ لَا يُفَرِّطُونَ أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ وَيُضَيِّعُونَ، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّقَدُّمِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا يَتَوَانَوْنَ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ لَا يُفَرِّطُونَ بِالتَّخْفِيفِ: أَيْ لَا يُجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ مَعْطُوفٌ عَلَى تَوَفَّتْهُ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى أَحَدٍ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْكُلِّ مَعَ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، أَيْ رُدُّوا بَعْدَ الْحَشْرِ إِلَى اللَّهِ: أَيْ إِلَى حُكْمِهِ وَجَزَائِهِ. مَوْلاهُمُ مَالِكُهُمُ الَّذِي يَلِي أُمُورَهُمُ. الْحَقِّ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْجَرِّ صِفَةً لِاسْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: أَعْنِي أَوْ أَمْدَحُ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ لِكَوْنِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْفِكْرِ وَالرَّوِيَّةِ وَالتَّدَبُّرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ مَلَكٌ إِذَا نَامَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ فِي قَبْضِ روحه قبضه وإلا ردّها إليه، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَا مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَاللَّهُ يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ كُلَّهَا، فَيَسْأَلُ كُلَّ نَفْسٍ عَمَّا عَمِلَ صَاحِبُهَا مِنَ النَّهَارِ، ثُمَّ يَدْعُو مَلَكَ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: اقْبِضْ رُوحَ هَذَا وَمَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَمَلَكُ الْمَوْتِ يَنْظُرُ فِي كِتَابِ حياة الناس، قائل يقول: ثلاثا، وَقَائِلٌ يَقُولُ: خَمْسًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أما

_ (1) . الانفطار: 10.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 إلى 65]

وفاته إيّاهم بالليل فمنامهم، وما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ فَيَقُولُ: مَا اكْتَسَبْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ قَالَ: فِي النَّهَارِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى وَهُوَ الْمَوْتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ قَالَ: مَا كَسَبْتُمْ مِنَ الْإِثْمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً قَالَ: هُمُ الْمُعَقِّبَاتُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ وَيَحْفَظُونَ عَمَلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قوله: هُمْ لا يُفَرِّطُونَ يقول: لا يضيعون. [سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 65] قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) قِيلَ: الْمُرَادُ بِظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ: شَدَائِدُهُمَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: يَوْمٌ مُظْلِمٌ: إِذَا كَانَ شَدِيدًا، فَإِذَا عَظَّمَتْ ذَلِكَ قَالَتْ: يَوْمٌ ذُو كَوْكَبٍ، أَيْ يَحْتَاجُونَ فِيهِ لِشِدَّةِ ظُلْمَتِهِ إِلَى كَوْكَبٍ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا ... إِذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَشْنَعَا وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ: أَيْ مَنْ يُنْجِيكُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمَا الْعَظِيمَةِ؟ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ خِفْيَةً بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «وَخِيفَةً» مِنَ الْخَوْفِ. وَجُمْلَةُ تَدْعُونَهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ مَنْ يُنْجِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ حَالَ دُعَائِكُمْ لَهُ دُعَاءَ تَضَرُّعٍ وَخُفْيَةٍ أَوْ مُتَضَرِّعِينَ وَمُخْفِينَ. وَالْمُرَادُ بِالتَّضَرُّعِ هُنَا: دُعَاءُ الْجَهْرِ. قَوْلُهُ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا كَذَا قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الشَّامِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ لَئِنْ أَنْجانا وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ قَائِلِينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِنَا وَهِيَ الظُّلُمَاتُ الْمَذْكُورَةُ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَكَ عَلَى مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ تَخْلِيصِنَا مِنْ هَذِهِ الشَّدَائِدِ. قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَهِشَامٌ يُنَجِّيكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ تُفِيدُ التَّكْثِيرَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها رَاجِعٌ إِلَى الظُّلُمَاتِ. وَالْكَرْبُ: الْغَمُّ يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ، وَمِنْهُ: رَجُلٌ مَكْرُوبٌ. قَالَ عَنْتَرَةُ: وَمَكْرُوبٌ كَشَفْتُ الْكَرْبَ عَنْهُ ... بِطَعْنَةِ فَيْصَلٍ لَمَّا دَعَانِي ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ بِالْخُلُوصِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَذَهَابِ الْكُرُوبِ شُرَكَاءَ لَا يَنْفَعُونَكُمْ، وَلَا يَضُرُّونَكُمْ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَخْلِيصِكُمْ مِنْ كُلِّ مَا يَنْزِلُ بِكُمْ، فَكَيْفَ وَضَعْتُمْ هَذَا الشِّرْكَ مَوْضِعَ مَا وَعَدْتُمْ بِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مِنَ الشُّكْرِ؟ ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً أَيِ الَّذِي قَدَرَ عَلَى إِنْجَائِكُمْ مِنْ تِلْكَ الشَّدَائِدِ وَدَفَعَ عَنْكُمْ تِلْكَ الْكُرُوبَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَكُمْ

فِي شِدَّةٍ وَمِحْنَةٍ وَكَرْبٍ يَبْعَثُ عَذَابَهُ عَلَيْكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَالْعَذَابُ الْمَبْعُوثُ مِنْ جِهَةِ الْفَوْقِ: مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْمَطَرِ وَالصَّوَاعِقِ. وَالْمَبْعُوثُ مِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ: الْخَسْفُ وَالزَّلَازِلُ وَالْغَرَقُ، وَقِيلَ: مِنْ فَوْقِكُمْ يَعْنِي الْأُمَرَاءَ الظَّلَمَةَ ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ يَعْنِي السَّفَلَةَ وَعَبِيدَ السُّوءِ. قَوْلُهُ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ، مِنْ لَبَسَ الْأَمْرَ: إِذَا خَلَطَهُ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ بِضَمِّهَا: أَيْ يَجْعَلُ ذَلِكَ لِبَاسًا لَكُمْ قِيلَ وَالْأَصْلُ: أَوْ يَلْبِسُ عَلَيْكُمْ أَمْرَكُمْ، فَحَذَفَ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ وَالْمَعْنَى: يَجْعَلُكُمْ مُخْتَلِطِي الْأَهْوَاءِ مُخْتَلِفِي النِّحَلِ مُتَفَرِّقِي الْآرَاءِ وَقِيلَ: يَجْعَلُكُمْ فِرَقًا يُقَاتِلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَالشِّيَعُ: الْفِرَقُ، أَيْ يَخْلِطُكُمْ فِرَقًا. قَوْلُهُ: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أَيْ يُصِيبُ بَعْضَكُمْ بِشِدَّةِ بَعْضٍ مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَنَهْبٍ وَيُذِيقَ مَعْطُوفٌ عَلَى يَبْعَثَ، وَقُرِئَ: «نُذِيقُ» بِالنُّونِ. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْحُجَجَ وَالدَّلَالَاتِ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ الْحَقِيقَةَ فَيَعُودُونَ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ لَهُمْ بَيَانَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يَقُولُ: مِنْ كَرْبِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَقُولُ: إِذَا أَضَلَّ الرَّجُلُ الطَّرِيقَ دَعَا اللَّهَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ: يَعْنِي مِنْ أُمَرَائِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ يَعْنِي سَفَلَتَكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً يَعْنِيَ بِالشِّيَعِ الْأَهْوَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قَالَ: يُسَلِّطُ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقَتْلِ وَالْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَئِمَّةُ السُّوءِ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ: خَدَمُ السُّوءِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ: مِنْ فَوْقِكُمْ مِنْ قِبَلِ أُمَرَائِكُمْ وَأَشْرَافِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ: مِنْ قِبَلِ سَفَلَتِكُمْ وَعَبِيدِكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ: الْقَذْفُ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ: الْخَسْفُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ: الصَّيْحَةُ وَالْحِجَارَةُ وَالرِّيحُ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ: الرَّجْفَةُ وَالْخَسْفُ، وَهُمَا عَذَابُ أَهْلِ التَّكْذِيبِ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قَالَ: عَذَابُ أَهْلِ الْإِقْرَارِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قَالَ: هَذَا أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنْ ثَوْبَانَ، وَفِيهِ: «وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ، حَتَّى إذا مرّ بمسجد بني معاوية

_ (1) . يونس: 22.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 66 إلى 73]

دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهِمَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هُنَّ أَرْبَعٌ وَكُلُّهُنَّ عَذَابٌ وَكُلُّهُنَّ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَمَضَتِ اثْنَتَانِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً: فَأُلْبِسُوا شِيَعًا، وَذَاقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ وَبَقِيَتِ اثْنَتَانِ وَاقِعَتَانِ لَا مَحَالَةَ: الْخَسْفُ، وَالرَّجْمُ. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ. [سورة الأنعام (6) : الآيات 66 الى 73] وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) قَوْلُهُ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ إِلَى الْعَذَابِ. وَقَوْمُهُ الْمُكَذِّبُونَ: هُمْ قُرَيْشٌ، وَقِيلَ: كُلُّ مُعَانِدٍ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْحَقُّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ أَوِ الْعَذَابِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ حَقٌّ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «وَكَذَّبَتْ» بِالتَّاءِ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أَيْ: لَسْتُ بِحَفِيظٍ عَلَى أَعْمَالِكُمْ حَتَّى أُجَازِيَكُمْ عَلَيْهَا. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ إيمانهم في

وُسْعِهِ. قَوْلُهُ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أَيْ لِكُلِّ شَيْءٍ وَقْتٌ يَقَعُ فِيهِ. وَالنَّبَأُ: الشَّيْءُ الَّذِي يُنَبَّأُ عَنْهُ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا لَهُمْ بِمَا يَنْزِلُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِحُصُولِهِ وَنُزُولِهِ بِهِمْ كَمَا عَلِمُوا يَوْمَ بَدْرٍ بِحُصُولِ ما كان النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ. قَوْلُهُ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ. وَالْخَوْضُ: أَصْلُهُ فِي الْمَاءِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي غَمَرَاتِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَجَاهِلُ تَشْبِيهًا بِغَمَرَاتِ الْمَاءِ، فَاسْتُعِيرَ مِنَ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَلْطِ، وَكُلُّ شَيْءٍ خُضْتَهُ فَقَدْ خَلَطْتَهُ، وَمِنْهُ: خَاضَ الْمَاءَ بِالْعَسَلِ: خَلَطَهُ. وَالْمَعْنَى: إِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا بِالتَّكْذِيبِ وَالرَّدِّ وَالِاسْتِهْزَاءِ فَدَعْهُمْ، وَلَا تَقْعُدْ مَعَهُمْ لِسَمَاعِ مِثْلِ هَذَا الْمُنْكَرِ الْعَظِيمِ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ مُغَايِرٍ لَهُ، أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَهْلِ الْمَجَالِسِ الَّتِي يُسْتَهَانُ فِيهَا بِآيَاتِ اللَّهِ إِلَى غَايَةٍ هِيَ الْخَوْضُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْعِظَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَنْ يَتَسَمَّحُ بِمُجَالَسَةِ الْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَيَتَلَاعَبُونَ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَيَرُدُّونَ ذَلِكَ إِلَى أَهْوَائِهِمُ الْمُضِلَّةِ وَبِدَعِهِمُ الْفَاسِدَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ وَيُغَيِّرْ مَا هُمْ فِيهِ فَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ يَتْرُكَ مُجَالَسَتَهُمْ، وَذَلِكَ يَسِيرٌ عَلَيْهِ غَيْرُ عَسِيرٍ. وَقَدْ يَجْعَلُونَ حُضُورَهُ مَعَهُمْ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَمَّا يَتَلَبَّسُونَ بِهِ شُبْهَةً يُشَبِّهُونَ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ، فَيَكُونُ فِي حُضُورِهِ مَفْسَدَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ سَمَاعِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ شَاهَدْنَا مِنْ هَذِهِ الْمَجَالِسِ الْمَلْعُونَةِ مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحَصْرُ، وَقُمْنَا فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ وَدَفْعِ الْبَاطِلِ بِمَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَبَلَغَتْ إِلَيْهِ طَاقَتُنَا، وَمَنْ عَرَفَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْمُطَهَّرَةَ حَقَّ مَعْرِفَتِهَا عَلِمَ أَنْ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ فِيهَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا فِي مُجَالَسَةِ مَنْ يَعْصِي اللَّهَ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ غَيْرَ رَاسِخِ الْقَدَمِ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ مِنْ كَذِبَاتِهِمْ وَهَذَيَانِهِمْ مَا هُوَ مِنَ الْبُطْلَانِ بِأَوْضَحِ مَكَانٍ، فَيَنْقَدِحُ فِي قَلْبِهِ، مَا يَصْعُبُ عِلَاجُهُ وَيَعْسُرُ دَفْعُهُ فَيَعْمَلُ بِذَلِكَ مُدَّةَ عُمْرِهِ وَيَلْقَى اللَّهَ بِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ من الحق وهو الْبَاطِلِ وَأَنْكَرِ الْمُنْكَرِ. قَوْلُهُ: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى إِمَّا هَذِهِ هِيَ الشَّرْطِيَّةُ وَتَلْزَمُهَا غَالِبًا نُونُ التَّأْكِيدِ وَلَا تَلْزَمُهَا نَادِرًا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِمَّا يُصِبْكَ عَدُوٌّ في مناوأة ... يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُنَسِّيكَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ....... وَقَدْ يُنَسِّيكَ بَعْضَ الْحَاجَةِ الْكَسَلُ «1» وَالْمَعْنَى: إِنْ أَنْسَاكَ الشَّيْطَانُ أَنْ تَقُومَ عَنْهُمْ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى إِذَا ذَكَرْتَ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيِ: الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِالْآيَاتِ وَالتَّكْذِيبِ بِهَا. قِيلَ: وَهَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ كان ظاهره للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَالْمُرَادُ التَّعْرِيضُ لِأُمَّتِهِ لِتَنَزُّهِهِ عَنْ أَنْ يُنْسِيَهُ الشَّيْطَانُ وَقِيلَ: لَا وَجْهَ لِهَذَا فَالنِّسْيَانُ جائز عليه كما نطقت بذلك

_ (1) . وصدره: قالت سليمى أتسري اليوم أم تقل.

الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أَيْ مَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مُجَالَسَةَ الْكُفَّارِ عِنْدَ خَوْضِهِمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ مِنْ حِسَابِ الْكُفَّارِ مِنْ شَيْءٍ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ الْخَوْضِ فِي آيَاتِ اللَّهِ فِي مُجَالَسَتِهِمْ لَهُمْ مِنْ شَيْءٍ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: فَفِي الْآيَةِ التَّرْخِيصُ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُجَالَسَةِ الْكُفَّارِ إِذَا اضْطُرُّوا إِلَى ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ. قِيلَ: وَهَذَا التَّرْخِيصُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ الْوَقْتُ وَقْتَ تُقْيَةٍ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ «1» فَنَسَخَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَلكِنْ ذِكْرى لهم، ذِكْرَى: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَوْ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ: أَيْ وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ ذِكْرَى. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْمَعْنَى: وَلَكِنَّ هَذِهِ ذِكْرَى. وَالْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِدْرَاكِ مِنَ النَّفْيِ السَّابِقِ: أَيْ: وَلَكِنْ عَلَيْهِمُ الذِّكْرَى لِلْكَافِرِينَ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْبَيَانِ لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. أَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ مُجَرَّدَ اتِّقَاءِ مَجَالِسِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ لَا يُسْقِطُ وُجُوبَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي فَالتَّرْخِيصُ فِي الْمُجَالَسَةِ لَا يُسْقِطُ التَّذْكِيرَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الْخَوْضَ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِذَا وَقَعَتْ مِنْكُمُ الذِّكْرَى لَهُمْ. وَأَمَّا جَعْلُ الضَّمِيرِ لِلْمُتَّقِينَ فَبِعِيدٌ جِدًّا. قَوْلُهُ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أَيِ اتْرُكْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الدِّينَ الَّذِي كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِهِ وَالدُّخُولُ فِيهِ لَعِبًا وَلَهْوًا وَلَا تُعَلِّقْ قَلْبَكَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ تَعَنُّتٍ وَإِنْ كُنْتَ مَأْمُورًا بِإِبْلَاغِهِمُ الْحُجَّةَ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ لَعِبًا وَلَهْوًا كَمَا فِي فِعْلِهِمْ بِالْأَنْعَامِ مِنْ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا: الْعِيدُ: أَيِ اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا، وَجُمْلَةُ وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا مَعْطُوفَةٌ عَلَى اتَّخَذُوا أَيْ: غَرَّتْهُمْ حَتَّى آثَرُوهَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَقَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «2» . وقوله: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ الضَّمِيرُ فِي بِهِ لِلْقُرْآنِ أَوْ لِلْحِسَابِ. وَالْإِبْسَالُ: تسليم المرء لِلْهَلَاكِ، وَمِنْهُ أَبْسَلْتُ وَلَدِي: أَيْ رَهَنْتُهُ فِي الدَّمِ، لِأَنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْهَلَاكُ. قَالَ النَّابِغَةُ: وَنَحْنُ رَهَنَّا بِالْأَفَاقَةِ عَامِرًا ... بِمَا كَانَ فِي الدَّرْدَاءِ رَهْنًا فَأُبْسِلَا أَيْ فَهَلَكَ، وَالدَّرْدَاءُ: كَتِيبَةٌ كَانَتْ لَهُمْ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ، فَالْمَعْنَى: وَذَكِّرْ بِهِ خَشْيَةَ أَوْ مَخَافَةَ أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تَهْلِكَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ: أَيْ تُرْتَهَنُ وَتُسَلَّمُ لِلْهَلَكَةِ، وَأَصْلُ الْإِبْسَالِ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ شُجَاعٌ بَاسِلٌ: أَيْ مُمْتَنِعٌ مِنْ قَرْنِهِ. قَوْلُهُ: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها الْعَدْلُ هُنَا: الْفِدْيَةُ. وَالْمَعْنَى: وَإِنْ بَذَلَتْ تِلْكَ النَّفْسُ الَّتِي سَلَّمَتْ لِلْهَلَاكِ كُلَّ فِدْيَةٍ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا ذَلِكَ الْعَدْلُ حَتَّى تَنْجُوَ بِهِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَفَاعِلُ يُؤْخَذْ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى الْعَدْلِ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُفْدَى بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَقِيلَ: فَاعِلُهُ مِنْهَا، لِأَنَّ الْعَدْلَ هُنَا مُصْدَرٌ لَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ، وَكُلُّ عَدْلٍ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ: أَيْ عَدْلًا كُلَّ عَدْلٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمُتَّخِذِينَ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا، وَخَبَرُهُ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا هُمُ الَّذِينَ سلموا للهلاك بما كسبوا، ولَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ جواب سؤال مقدّر

_ (1) . النساء: 140. (2) . المؤمنون: 37.

كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ حَالُ هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ: لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ، وَمِثْلُهُ قوله تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ «1» وَهُوَ هُنَا شَرَابٌ يَشْرَبُونَهُ فَيُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ. قَوْلُهُ: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالِاسْتِفْهَامُ: لِلتَّوْبِيخِ أَيْ كَيْفَ نَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ أَصْنَامًا لَا تَنْفَعُنَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ إِنْ أَرَدْنَا مِنْهَا نَفْعًا وَلَا نَخْشَى ضُرَّهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا عطف على نَدْعُوا. وَالْأَعْقَابُ: جَمْعُ عَقِبٍ، أَيْ كَيْفَ نَدْعُو مَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَنَرْجِعُ إِلَى الضَّلَالَةِ الَّتِي أَخْرَجَنَا اللَّهُ مِنْهَا؟ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِمَنْ رُدَّ عَنْ حَاجَتِهِ وَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا قَدْ ردّ على عقبيه. وقال المبرّد: تعقب بِالشَّرِّ بَعْدَ الْخَيْرِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْمُعَاقَبَةِ وَالْعُقْبَى، وَهُمَا مَا كَانَ تَالِيًا لِلشَّيْءِ وَاجِبًا أَنْ يتبعه، ومنه: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «2» ، وَمِنْهُ: عَقِبُ الرَّجُلِ، وَمِنْهُ: الْعُقُوبَةُ، لِأَنَّهَا تَالِيَةٌ لِلذَّنْبِ. قَوْلُهُ: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ هَوَى يَهْوِي إِلَى الشَّيْءِ: أَسْرَعَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ هَوَى النَّفْسِ، أَيْ زَيَّنَ له الشيطان هواه، واسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ هَوَتْ بِهِ، وَالْكَافُ فِي كَالَّذِي إِمَّا نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ نُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا رَدًّا كَالَّذِي، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ نُرَدُّ: أَيْ نُرَدُّ حَالَ كَوْنِنَا مُشْبِهِينَ لِلَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ، أَيْ ذَهَبَتْ بِهِ مَرَدَةُ الْجِنِّ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَيْنَ الْإِنْسِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ اسْتَهْوَتْهُ وَقَرَأَ حَمْزَةُ اسْتَهْوَاهُ عَلَى تَذْكِيرِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ اسْتَهْوَاهُ الشَّيْطَانُ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ، وحَيْرانَ حَالٌ: أَيْ حَالَ كَوْنِهِ مُتَحَيِّرًا تَائِهًا لَا يَدْرِي كَيْفَ يَصْنَعُ؟ وَالْحَيْرَانُ هُوَ الَّذِي لَا يهتدي لجهة، وقد حار يحار حَيْرَةً وَحَيْرُورَةً: إِذَا تَرَدَّدَ، وَبِهِ سُمِّيَ الْمَاءُ الْمُسْتَنْقَعُ الَّذِي لَا مَنْفَذَ لَهُ حَائِرًا. قَوْلُهُ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى صِفَةٌ لِحَيْرَانَ، أَوْ حَالِيَّةٌ، أَيْ لَهُ رُفْقَةٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى يَقُولُونَ لَهُ ائْتِنَا فَلَا يُجِيبُهُمْ وَلَا يَهْتَدِي بِهَدْيِهِمْ. قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ أَيْ دِينَهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ هُوَ الْهُدى وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «3» وَأُمِرْنا مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ: أَيْ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَقُولَهُ، وَاللَّامُ فِي لِنُسْلِمَ هِيَ لَامُ الْعِلَّةِ، وَالْمُعَلَّلُ هُوَ الأمر، أي أمرنا لأجل أن نُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أُمِرْنَا بِأَنْ نُسْلِمَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ أَمَرْتُكَ لِتَذْهَبَ، وَبِأَنْ تَذْهَبَ، بِمَعْنًى. وَقَالَ النَّحَّاسُ: سَمِعْتُ ابْنَ كَيْسَانَ يَقُولُ: هِيَ لَامُ الْخَفْضِ. قَوْلُهُ: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ مَعْطُوفٌ عَلَى لِنُسْلِمَ عَلَى مَعْنَى: وَأُمْرَنَا أَنْ نُسْلِمَ، وَأَنْ أَقِيمُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى يَدْعُونَهُ عَلَى الْمَعْنَى: أَيْ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى وَيَدْعُونَهُ أَنْ أَقِيمُوا وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فَكَيْفَ تُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ خَلْقًا بِالْحَقِّ أَوْ حَالَ كَوْنِ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ الْمَخْلُوقَةَ؟ قَوْلُهُ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ أَيْ وَاذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ أَوْ وَاتَّقُوا يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى الْهَاءِ فِي وَاتَّقُوهُ وَقِيلَ: إِنَّ يَوْمَ ظَرْفٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَالْمَعْنَى: وَأَمْرُهُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأَشْيَاءِ، الْحَقُّ: أَيِ الْمَشْهُودُ لَهُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَقِيلَ: قَوْلُهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْحَقُّ صِفَةٌ لَهُ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ خَبَرُهُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: قَوْلُهُ الْمُتَّصِفُ بِالْحَقِّ كائن يوم يقول:

_ (1) . الحج: 16. (2) . القصص: 83. (3) . آل عمران: 85.

كُنْ فَيَكُونُ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ مُرْتَفِعٌ بِيَكُونُ، وَالْحَقَّ صِفَتُهُ: أَيْ يَوْمَ يَقُولُ: كُنْ يَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقَّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فَنَكُونَ بِالنُّونِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى سُرْعَةِ الْحِسَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَهُوَ الصَّوَابُ. قَوْلُهُ: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمَا قَبْلَهُ: أَيْ لَهُ الْمُلْكُ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَالصُّورُ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ النَّفْخَةُ الْأُولَى لِلْفَنَاءِ، وَالثَّانِيَةُ لِلْإِنْشَاءِ، وَكَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: إِنَّ الصُّورَ: الْقَرْنُ، قَالَ الرَّاجِزُ: لَقَدْ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْجَمْعَيْنِ ... نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ وَالصُّورُ بِضَمِّ الصَّادِ وَبِكَسْرِهَا لُغَةٌ، وَحُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ قَرَأَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بِتَحْرِيكِ الْوَاوِ، جَمْعُ صُورَةٍ، وَالْمُرَادُ: الْخَلْقُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا يُرَدُّ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كُنْ فَيَكُونُ، يُقَالُ إِنَّهُ لِلصُّورِ خَاصَّةً: أَيْ وَيَوْمَ يَقُولُ لِلصُّورِ كُنْ فَيَكُونُ. قَوْلُهُ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ رَفَعَ عَالِمُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ: أَيْ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَ يُنْفَخُ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، فَيَجُوزُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ عالِمُ الْغَيْبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ كَمَا أنشد سيبويه: ليبك يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ أَيْ يُبْكِيهِ مُخْتَبِطُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ عَالِمِ بِالْخَفْضِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْهَاءِ فِي لَهُ الْمُلْكُ وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي جَمِيعِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ الْخَبِيرُ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وأبو الشيخ عن السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ يَقُولُ: كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ الْحَقُّ وَأَمَّا الْوَكِيلُ: فَالْحَفِيظُ، وَأَمَّا لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ فَكَانَ نَبَأُ الْقَوْمِ اسْتَقَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ بِمَا كَانَ يَعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ قَالَ: نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ آيَةُ السيف: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ يَقُولُ: حَقِيقَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ قَالَ: حُبِسَتْ عُقُوبَتُهَا حَتَّى عُمِلَ ذَنْبُهَا أُرْسِلَتْ عُقُوبَتُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ قَالَ: فِعْلٌ وَحَقِيقَةٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَنَحْوَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّمَا أُهْلِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا قَالَ: يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، نَهَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم

_ (1) . التوبة: 5.

أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يَنْسَى، فَإِذَا ذُكِّرَ فَلْيَقُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْخُصُومَاتِ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ مِنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاضُوا وَاسْتَهْزَءُوا، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَا تَصْلُحُ لَنَا مُجَالَسَتُهُمْ نَخَافُ أَنْ نَخْرُجَ حِينَ نَسْمَعُ قَوْلَهُمْ وَنُجَالِسَهُمْ فَلَا نَعِيبُ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قَالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمَكِّيَّةُ بِالْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إِنْ قَعَدُوا، وَلَكِنْ لَا يَقْعُدُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أُتِيَ بِقَوْمٍ قَعَدُوا عَلَى شَرَابٍ مَعَهُمْ رَجُلٌ صَائِمٌ فَضَرَبَهُ وَقَالَ: لَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً قَالَ: هُوَ مثل قوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً يَعْنِي: أَنَّهُ لِلتَّهْدِيدِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَعِباً وَلَهْواً قَالَ: أَكْلًا وَشُرْبًا. وَأَخْرَجَ ابن جرير والمنذر وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تُبْسَلَ قَالَ: أَنْ تُفْضَحَ، وَفِي قَوْلِهِ: أُبْسِلُوا قَالَ: فُضِحُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ في قوله: أَنْ تُبْسَلَ قال: تسلم، وفي قَوْلِهِ: أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا قَالَ: أُسْلِمُوا بِجَرَائِرِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عنه أيضا في قوله: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْآلِهَةِ وَلِلدُّعَاةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ يَقُولُ: أَضَلَّتْهُ، وَهُمُ الْغِيلَانُ يَدْعُونَهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ فَيَتْبَعُهَا وَيَرَى أَنَّهُ فِي شَيْءٍ فَيُصْبِحُ وَقَدْ أَلْقَتْهُ فِي هَلَكَةٍ، وَرُبَّمَا أَكَلَتْهُ أَوْ تُلْقِيهِ فِي مَضَلَّةٍ مِنَ الْأَرْضِ يَهْلِكُ فِيهَا عَطَشًا، فَهَذَا مِثْلُ مَنْ أَجَابَ الْآلِهَةَ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ لَا يَسْتَجِيبُ لِهَدْيِ اللَّهِ، وَهُوَ الرَّجُلُ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ، وَعَمِلَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَحَادَ عَنِ الْحَقِّ، وضلّ عنه، ولَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِي يَأْمُرُونَهُ بِهِ هُدًى، يَقُولُ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ، يَقُولُ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وَالضَّلَالَةُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْجِنُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصور فقال: ينفخ فيه» . والأحاديث الواردة في كيفية

_ (1) . النساء: 140.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 إلى 83]

النَّفْخِ ثَابِتَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى إِيرَادِهَا هَاهُنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يَعْنِي أَنَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الَّذِي يَنْفُخُ في الصور. [سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 83] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) قَوْلُهُ: لِأَبِيهِ آزَرَ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: آزَرَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ آزَرَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا عَاوَنَهُ، فَهُوَ مُؤَازِرُ قَوْمِهِ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَقَالَ ابْنُ فارس: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُوَّةِ. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِي النُّكَتِ مِنَ التَّفْسِيرِ لَهُ: لَيْسَ بَيْنَ النَّاسِ اخْتِلَافٌ فِي أَنَّ اسْمَ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ تَارِخُ، وَالَّذِي فِي الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ آزَرُ. وَقَدْ تُعُقِّبَ فِي دَعْوَى الِاتِّفَاقِ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ اسْمَانِ: آزَرَ وَتَارِخَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: آزَرُ: لَقَبٌ، وَتَارِخُ: اسْمٌ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنَّ آزَرَ سَبَّ وَعَتَبَ، وَمَعْنَاهُ فِي كَلَامِهِمُ الْمُعْوَجُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى آزَرَ: الشَّيْخُ الْهَمُّ «1» بِالْفَارِسِيَّةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ صِفَةُ ذَمٍّ بِلُغَتِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ: يَا مُخْطِئُ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ اسْمُ صَنَمٍ. وَعَلَى هَذَا إِطْلَاقُ اسْمِ الصَّنَمِ عَلَى أَبِيهِ إِمَّا لِلتَّعْبِيرِ لَهُ لِكَوْنِهِ مَعْبُودَهُ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ قَالَ لِأَبِيهِ عَابِدَ آزَرَ، أَوْ: أَتَعْبُدُ آزَرَ؟ عَلَى حَذْفِ الْفِعْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَإِزَرُ» بِهَمْزَتَيْنِ الْأَوْلَى مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ بِهَمْزَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ، وَمَحَلُّ إِذْ قالَ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَيَكُونُ هَذَا الْمُقَدَّرُ مَعْطُوفًا عَلَى قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وقيل: وهو مَعْطُوفٌ عَلَى وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ وَآزَرُ عَطْفُ بَيَانٍ. قَوْلُهُ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ أَتَجْعَلُهَا آلِهَةً لَكَ تَعْبُدُهَا إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ الْمُتَّبِعِينَ لَكَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فِي ضَلالٍ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ مُبِينٍ وَاضِحٍ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ أَيْ وَمِثْلَ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ

_ (1) . الهمّ: الفاني.

نري إبراهيم، والجملة معترضة، ومَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُلْكِهِمَا، وَزِيدَتِ التَّاءُ وَالْوَاوُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ، وَمِثْلُهُ الرَّغَبُوتُ وَالرَّهَبُوتُ مُبَالَغَةً فِي الرغبة والرهبة. قيل: أراد بملكوت السّموات وَالْأَرْضِ مَا فِيهِمَا مِنَ الْخَلْقِ وَقِيلَ: كَشَفَ اللَّهُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى رَأَى إِلَى الْعَرْشِ وَإِلَى أَسْفَلِ الْأَرْضِينَ وَقِيلَ: رَأَى مِنْ ملكوت السموات وَالْأَرْضِ مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَلَكُوتِهِمَا الرُّبُوبِيَّةُ وَالْإِلَهِيَّةُ، أَيْ نُرِيَهُ ذَلِكَ، وَنُوَفِّقَهُ لِمَعْرِفَتِهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الَّتِي سَلَكَهَا وَمَعْنَى نُرِي أَرَيْنَاهُ، حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ. قَوْلُهُ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ: أَيْ أَرَيْنَاهُ ذَلِكَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ وَقَدْ كَانَ آزَرُ وَقَوْمُهُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، فَأَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَهُمْ عَلَى الْخَطَأِ وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ فِي سَرَبٍ، وَجُعِلَ رِزْقُهُ فِي أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَكَانَ يَمُصُّهَا. وَسَبَبُ جَعْلِهِ فِي السَّرَبِ أَنَّ النُّمْرُوذَ رَأَى رُؤْيَا أَنَّ مُلْكَهُ يَذْهَبُ عَلَى يَدِ مَوْلُودٍ فَأَمَرَ بِقَتْلِ كُلِّ مَوْلُودٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أَيْ سَتَرَهُ بِظُلْمَتِهِ، وَمِنْهُ الْجَنَّةُ وَالْمِجَنُّ وَالْجِنُّ كُلُّهُ مِنَ السَّتْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَوْلَا جَنَانُ اللَّيْلِ أَدْرَكَ رَكْضَنَا ... بِذِي الرَّمْثِ وَالْأَرْطِي عِيَاضُ بْنُ ناشب وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى قالَ إِبْراهِيمُ: أَيْ وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ وَإِذْ جَنَّ عَلَيْهِ، اللَّيْلُ فَهُوَ قِصَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ قِصَّةِ عَرْضِ الْمَلَكُوتِ عَلَيْهِ، وَجَوَابُ لَمَّا رَأى كَوْكَباً قِيلَ: رَآهُ مِنْ شَقِّ الصَّخْرَةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى رَأْسِ السَّرَبِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَقِيلَ: رَآهُ لَمَّا أَخْرَجَهُ أَبُوهُ مِنَ السَّرَبِ وَكَانَ وَقْتَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ قِيلَ: رَأَى الْمُشْتَرِيَ وَقِيلَ: الزُّهَرَةَ. قَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَوْكَبِ؟ قِيلَ: وَكَانَ هَذَا مِنْهُ عِنْدَ قُصُورِ النَّظَرِ لِأَنَّهُ فِي زَمَنِ الطُّفُولِيَّةِ وَقِيلَ: أَرَادَ قِيَامَ الْحُجَّةِ عَلَى قومه كالحاكي لما هو عندهم وما يعتقدونه لِأَجْلِ إِلْزَامِهِمْ، وَبِالثَّانِي قَالَ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ: أَيْ أَهَذَا رَبِّي؟ وَمَعْنَاهُ إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا رَبًّا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «1» أي أفهم الخالدون، ومثله قول الهذلي: رفوني وقالوا يا خويلد لا تُرَعْ ... فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ أَيْ أَهُمُ هُمُ، وَقَوْلُ الْآخَرِ «2» : لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بثمان أَيْ أَبِسَبْعٍ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ هَذَا رَبِّي فَأُضْمِرَ الْقَوْلُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ هَذَا دَلِيلُ رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ أَيْ غَرَبَ قالَ إِبْرَاهِيمُ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أَيِ الْآلِهَةَ الَّتِي تَغْرُبُ، فَإِنَّ الْغُرُوبَ تَغَيُّرٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَهُوَ دَلِيلُ الْحُدُوثِ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً أَيْ طَالِعًا، يُقَالُ: بَزَغَ الْقَمَرُ: إِذَا ابْتَدَأَ فِي الطُّلُوعِ، وَالْبَزْغُ: الشَّقُّ كَانَ يَشُقُّ بِنُورِهِ الظُّلْمَةَ فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي

_ (1) . الأنبياء: 34. (2) . هو عمر بن أبي ربيعة.

أَيْ لَئِنْ لَمْ يُثَبِّتْنِي عَلَى الْهِدَايَةِ وَيُوَفِّقْنِي لِلْحُجَّةِ لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ لِلْحَقِّ فَيَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَحْرِمُونَهَا حَظَّهَا مِنَ الْخَيْرِ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً بَازِغًا وَبَازِغَةً مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةٌ، وَإِنَّمَا قالَ هَذَا رَبِّي مَعَ كَوْنِ الشَّمْسِ مُؤَنَّثَةً، لِأَنَّ مُرَادَهُ هَذَا الطَّالِعُ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ، وَقِيلَ: هَذَا الضَّوْءُ وَقِيلَ: الشَّخْصُ، هَذَا أَكْبَرُ أي مما تقدّمه من الكوكب والقمر قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَجْعَلُونَهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ وَتَعْبُدُونَهَا، وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، قَالَ بِهَذَا لَمَّا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَخْلُوقَةٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِأُفُولِهَا الَّذِي هُوَ دَلِيلُ حُدُوثِهَا إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ أَيْ قَصَدْتُ بِعِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَذَكَرَ الْوَجْهَ لِأَنَّهُ الْعُضْوُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الشَّخْصُ، أَوْ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الشَّخْصِ كُلِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً مَائِلًا إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ. قوله: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ أي وقعت منهم المحاجة لَهُ فِي التَّوْحِيدِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ أَنَّ مَا يُشْرِكُونَ بِهِ وَيَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ آلِهَةٌ، فَأَجَابَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أَيْ فِي كَوْنِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نِدَّ وَلَا ضِدَّ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِتَخْفِيفِ نُونِ أَتُحَاجُّونِي. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا بِإِدْغَامِ نُونِ الْجَمْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ وَنَافِعٌ خَفَّفَ فَحَذَفَ إِحْدَى النُّونَيْنِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّ قراءة نافع لحن، وجملة وَقَدْ هَدانِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْ هَدَانِي إِلَى تَوْحِيدِهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ أَكُونَ مِثْلَكُمْ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ وَعَدَمِ الْهِدَايَةِ. قَوْلُهُ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ قَالَ هَذَا لَمَّا خَوَّفُوهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ بِأَنَّهَا سَتَغْضَبُ عَلَيْهِ وَتُصِيبُهُ بِمَكْرُوهٍ، أَيْ إِنِّي لَا أَخَافُ مَا هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ يَجُوزُ رُجُوعُهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مَعْبُودَاتِهِمُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِمَا فِي مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً أَيْ إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ رَبِّي بِأَنْ يُلْحِقَنِي شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ بِذَنْبٍ عَمِلْتُهُ فَالْأَمْرُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ مِنْهُ لَا مِنْ مَعْبُودَاتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. وَالْمَعْنَى: عَلَى نَفْيِ حُصُولِ ضَرَرٍ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِثْبَاتُ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَصُدُورِهِمَا حَسْبَ مَشِيئَتِهِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَيْ إِنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا شَاءَ الْخَيْرَ كَانَ حَسَبَ مَشِيئَتِهِ، وَإِذَا شَاءَ إِنْزَالَ شَرٍّ بِي كَانَ، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُكَمِّلًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَدَافِعًا لِمَا خَوَّفُوهُ بِهِ وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أَيْ كَيْفَ أَخَافُ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ لَا تَخَافُونَ مَا صَدَرَ مِنْكُمْ مِنَ الشِّرْكِ بالله، وهو الضارّ النافع الخالق الرازق، أورد عَلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامَ الْإِلْزَامِيَّ الَّذِي لَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَخْلَصًا وَلَا مُتَحَوَّلًا، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ والتقريع، وما فِي مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً: مَفْعُولُ أَشْرَكْتُمْ، أَيْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ جَعَلْتُمُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَمْ يُنْزِلْ بِهَا عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، أَوِ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَأْذَنْ بِجَعْلِهَا شُرَكَاءَ لَهُ وَلَا نَزَلْ عَلَيْهِمْ بِإِشْرَاكِهَا حُجَّةٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَكَيْفَ عَبَدُوهَا وَاتَّخَذُوهَا آلِهَةً وَجَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ؟ قَوْلُهُ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ الْمُرَادُ بِالْفَرِيقَيْنِ فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ وَفَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ: أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَعْبُودِي هُوَ اللَّهُ الْمُتَّصِفُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ،

ومعبودكم هي تلك المخلوقات، فكيف تُخَوِّفُونِي بِهَا؟ وَكَيْفَ أَخَافُهَا وَهِيَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَلَا تَخَافُونَ مِنْ إِشْرَاكِكُمْ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ؟ وَبَعْدَ هَذَا فَأَخْبِرُونِي: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ وَعَدَمِ الْخَوْفِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ وَتَعْرِفُونَ الْبَرَاهِينَ الصَّحِيحَةَ وَتُمَيِّزُونَهَا عَنِ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ؟ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَاضِيًا بَيْنَهُمْ وَمُبَيِّنًا لَهُمُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أَيْ هُمُ الْأَحَقُّ بِالْأَمْنِ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ تَمَامِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَعْنَى لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ لَمْ يَخْلِطُوهُ بِظُلْمٍ. وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ: الشِّرْكُ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كما قال لقمان: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» » ، وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْكَشَّافِ حَيْثُ يَقُولُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَبَى تَفْسِيرَ الظُّلْمِ بِالْكُفْرِ لفظ اللَّبْسِ. وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ قَدْ فَسَّرَهَا بِهَذَا، وَإِذَا جَاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ «2» ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الموصول المتصف بما سبق، ولَهُمُ الْأَمْنُ جُمْلَةٌ وَقَعَتْ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، هَذَا أَوْضَحُ مَا قِيلَ مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِهِ مِنَ الْوُجُوهِ وَهُمْ مُهْتَدُونَ إِلَى الْحَقِّ ثَابِتُونَ عَلَيْهِ، وَغَيْرُهُمْ عَلَى ضَلَالٍ وَجَهْلٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ حُجَّتُنا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُجَجِ الَّتِي أَوْرَدَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمْ: أَيْ تِلْكَ الْبَرَاهِينُ الَّتِي أَوْرَدَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى قوله: وَهُمْ مُهْتَدُونَ. وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ أَيْ أَعْطَيْنَاهُ إِيَّاهَا وَأَرْشَدْنَاهُ إِلَيْهَا، وَجُمْلَةُ آتَيْناها إِبْراهِيمَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ ثَانٍ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَلى قَوْمِهِ أَيْ حُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْحَقِّ وَتَلْقِينِ الْحُجَّةِ، أَوْ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أَيْ حَكِيمٌ فِي كُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ عَلِيمٌ بِحَالِ عِبَادِهِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ الرَّفْعَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ قَالَ: الْآزَرُ الصَّنَمُ وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ اسْمُهُ: يَأْزَرُ وَأُمُّهُ اسْمُهَا: مِثْلَى وَامْرَأَتُهُ اسْمُهَا: سَارَّةُ، وَسُرِّيَّتُهُ أَمُّ إِسْمَاعِيلَ اسْمُهَا: هَاجَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: آزَرُ لَمْ يَكُنْ بِأَبِيهِ وَلَكِنَّهُ اسْمُ صَنَمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: اسْمُ أَبِيهِ تَارَخُ وَاسْمُ الصَّنَمِ: آزَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، أَنَّهُ قَرَأَ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ قَالَ: بَلَغَنِي: أَنَّهَا أَعْوَجُ، وَأَنَّهَا أَشَدُّ كَلِمَةٍ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُ آزَرَ، وَإِنَّمَا اسْمُهُ تَارَخُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قال

_ (1) . لقمان: 13. [.....] (2) . هذا مثل يضرب في الاستغناء عن الأشياء الصغيرة إذا وجد ما هو أكبر منها وأعظم نفعا (الأمثال اليمانية 1/ 95) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 إلى 90]

في الآية: كشف ما بين السموات حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِنَّ عَلَى صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ عَلَى حُوتٍ، وَهُوَ الْحُوتُ الَّذِي مِنْهُ طَعَامُ النَّاسِ، وَالْحُوتُ فِي سِلْسِلَةٍ، وَالسِّلْسِلَةُ فِي خَاتَمِ الْعِزَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ: قَالَ: سُلْطَانُهُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ يَقُولُ: خَاصَمُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَتُحاجُّونِّي قَالَ: أَتُخَاصِمُونِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مردويه عن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ فَسَّرَ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ بِالشِّرْكِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ مِثْلَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَيُغْنِي عَنِ الْجَمِيعِ مَا قَدَّمْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تَفْسِيرِ الْآيَةِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ قَالَ: خَصْمُهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ قَالَ: بِالْعِلْمِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: إِنَّ لِلْعُلَمَاءِ دَرَجَاتٍ كدرجات الشهداء. [سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 90] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) قَوْلُهُ: وَوَهَبْنا لَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَتِلْكَ حُجَّتُنا عَطَفَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى آتَيْنَاهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: وَوَهَبْنَا ذَلِكَ جَزَاءً لَهُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ فِي الدِّينِ وبذل النفس فيه، وكُلًّا هَدَيْنا انْتِصَابُ كُلًّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِمَا بَعْدَهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ لِلْقَصْرِ: أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدَيْنَاهُ، وَكَذَلِكَ نُوحًا مَنْصُوبٌ بِهَدَيْنَا الثَّانِي أَوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَيْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرَيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ الزَّجَّاجُ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَدَّ مِنْ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ يُونُسَ وَلُوطًا وَمَا كَانَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ لُوطًا هُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ، وَانْتَصَبَ داوُدَ وَسُلَيْمانَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَكَذَلِكَ

مَا بَعَدَهُمَا، وَإِنَّمَا عَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هِدَايَةَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّ شَرَفَ الْأَبْنَاءِ مُتَّصِلٌ بِالْآبَاءِ. وَمَعْنَى: مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ الْمُتَأَخِّرِ: أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَإِلْياسَ قَالَ الضَّحَّاكُ: هو من ولد إسماعيل، وقال القتبي: هُوَ مِنْ سِبْطِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ. وَقَرَأَ الأعوج وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَإِلْياسَ بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَالْيَسَعَ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا بِلَامَيْنِ. وَكَذَا قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَرَدَّ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وَلَا وَجْهَ لِلرَّدِّ فَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَالْعُجْمَةُ لَا تُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ بَلْ تُؤَدَّى عَلَى حَسَبِ السَّمَاعِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الِاسْمِ لُغَتَانِ لِلْعَجَمِ، أَوْ تُغَيِّرُهُ الْعَرَبُ تَغْيِيرَيْنِ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: مَنْ قَرَأَ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ فَالِاسْمُ يَسَعُ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ مَزِيدَتَانِ، كَمَا في قول الشاعر: رأيت اليزيد بن الوليد مُبَارَكًا ... شَدِيدًا بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ كَاهِلُهُ وَمَنْ قَرَأَ بِلَامَيْنِ فَالِاسْمُ لِيَسَعَ، وَقَدْ تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ الْيَسَعَ هُوَ إِلْيَاسُ وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّ اللَّهَ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَالَ وَهْبٌ: الْيَسَعُ صَاحِبُ إِلْيَاسَ، وَكَانُوا قَبْلَ يَحْيَى وَعِيسَى وَزَكَرِيَّا وَقِيلَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ إِدْرِيسَ جَدُّ نُوحٍ وَإِلْيَاسُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَقِيلَ: إِلْيَاسُ هُوَ الْخَضِرُ وَقِيلَ: لَا، بَلِ الْيَسَعُ هُوَ الْخَضِرُ وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ فَضَّلْنَاهُ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ. قَوْلُهُ: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ أَيْ هَدَيْنَا، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ: أَيْ هَدَيْنَا بَعْضَ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى فَضَّلْنَا، وَالِاجْتِبَاءُ الِاصْطِفَاءُ أَوِ التَّخْلِيصُ أَوْ الِاخْتِيَارُ، مُشْتَقٌّ مِنْ جَبَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ جَمَعْتُهُ، فَالِاجْتِبَاءُ ضَمُّ الَّذِي تَجْتَبِيهِ إِلَى خَاصِّيَّتِكَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: جَبَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ جَبْيٌ مَقْصُورٌ، وَالْجَابِيَةُ الْحَوْضُ، قَالَ الشَّاعِرُ: ... كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ «1» وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ إِلَى الْهِدَايَةِ وَالتَّفْضِيلِ وَالِاجْتِبَاءِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُمُ الَّذِينَ وَفَّقَهُمْ لِلْخَيْرِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَلَوْ أَشْرَكُوا أَيْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَالْحُبُوطُ الْبُطْلَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي الْبَقَرَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ سَابِقًا: أَيْ جِنْسِ الْكِتَابِ لِيُصَدِّقَ عَلَى كُلِّ مَا أُنْزِلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ وَالْحُكْمَ الْعِلْمَ وَالنُّبُوَّةَ الرِّسَالَةَ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ الضَّمِيرُ فِي بِهَا: لِلْحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ، أَوْ لِلنُّبُوَّةِ فَقَطْ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ المعاندين لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، أَيْ أَلْزَمْنَا بِالْإِيمَانِ بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، أَوِ الْأَنْبِيَاءُ المذكورون

_ (1) . وصدره: نفى الذم عن آل المحلق جفنة. والبيت للأعشى.

سَابِقًا، وَهَذَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فَإِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ لَا إِلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَاهُمْ، وَتَقْدِيمِ بِهُدَاهُمْ عَلَى الْفِعْلِ يُفِيدُ تَخْصِيصَ هُدَاهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ: وَالِاقْتِدَاءُ: طَلَبُ مُوَافَقَةِ الْغَيْرِ فِي فِعْلِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: اصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا وَقِيلَ: اقْتَدِ بِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ، وَإِنْ كَانَتْ جُزْئِيَّاتُ الشَّرَائِعِ مُخْتَلِفَةً، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ فِيهِ نَصٌّ. قَوْلُهُ: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا عَلَى الْقُرْآنِ، وَأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: مَا هُوَ إِلَّا ذِكْرى يَعْنِي الْقُرْآنَ لِلْعالَمِينَ أَيْ مَوْعِظَةٌ وَتَذْكِيرٌ لِلْخَلْقِ كَافَّةً الْمَوْجُودِينَ عِنْدَ نُزُولِهِ وَمَنْ سَيُوجَدُ مِنْ بَعْدُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: الْخَالُ وَالِدٌ وَالْعَمُّ وَالِدٌ، نَسَبَ اللَّهُ عِيسَى إِلَى أَخْوَالِهِ فَقَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ حَتَّى بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: دَخَلَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ عَلَى الْحَجَّاجِ فَذَكَرَ الْحُسَيْنَ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَمْ يَكُنْ مِنْ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ، فَقَالَ يَحْيَى: كَذَبْتَ، فَقَالَ: لَتَأْتِيَنِّي عَلَى مَا قُلْتَ بِبَيِّنَةٍ، فَتَلَا وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَعِيسى فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِأُمِّهِ، فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: أَرْسَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ، تَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ قَرَأْتُهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ؟ فَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَاجْتَبَيْناهُمْ قَالَ: أَخْلَصْنَاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ: يُرِيدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَدَيْنَاهُمْ وَفَعَلْنَا بِهِمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْحُكْمُ: اللُّبُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، يَقُولُ: إِنْ يَكْفُرُوا بِالْقُرْآنِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ يَعْنِي: أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْأَنْصَارَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً قَالَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ فِي الْآيَةِ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَقْتَدِيَ بِهُدَاهُمْ وَكَانَ يَسْجُدُ فِي ص، وَلَفْظُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عباس عن السَّجْدَةِ الَّتِي فِي ص، فَقَالَ هَذِهِ الْآيَةَ «1» ، وَقَالَ: أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ عَرَضًا من عروض الدنيا.

_ (1) . آية السجدة في سورة ص هي وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [سورة ص: 24] .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 إلى 94]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 94] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) قَوْلُهُ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ قَدَّرْتُ الشَّيْءَ وَقَدَرْتُهُ عَرَفْتُ مِقْدَارَهُ، وَأَصْلُهُ: السَّتْرُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ، أَيْ لَمْ يَعْرِفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ حَيْثُ أَنْكَرُوا إِرْسَالَهُ لِلرُّسُلِ وَإِنْزَالَهُ لِلْكُتُبِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَمَا قَدَّرُوا نِعَمَ اللَّهِ حَقَّ تَقْدِيرِهَا. وقرأ أبو حيوة: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ بِفَتْحِ الدَّالِ: وَهِيَ لُغَةٌ، وَلَمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ هَذَا الْإِنْكَارُ وَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً لَا يُطِيقُونَ دَفْعَهَا، فَقَالَ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَيُذْعِنُونَ لَهُ، فَكَانَ فِي هَذَا مِنَ التَّبْكِيتِ لَهُمْ، وَالتَّقْرِيعِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، مَعَ إِلْجَائِهِمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِمَا أَنْكَرُوهُ مِنْ وُقُوعِ إِنْزَالِ اللَّهِ «1» عَلَى الْبَشَرِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَبَطَلَ جَحْدُهُمْ وَتَبَيَّنَ فَسَادُ إِنْكَارِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، فَيَكُونُ إِلْزَامُهُمْ بِإِنْزَالِ اللَّهِ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَيَعْلَمُونَهُ بِالْأَخْبَارِ مِنَ اليهود، وقد كانوا يصدقونهم ونُوراً وَهُدىً منتصبان على الحال ولِلنَّاسِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِهُدًى: أَيْ كَائِنًا لِلنَّاسِ. قَوْلُهُ: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أَيْ تَجْعَلُونَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى فِي قَرَاطِيسَ تَضَعُونَهُ فِيهَا لِيَتِمَّ لَكُمْ مَا تُرِيدُونَهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَكَتْمِ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي تُبْدُونَها رَاجِعٌ إِلَى الْقَرَاطِيسِ، وَفِي تَجْعَلُونَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ، وَجُمْلَةُ تَجْعَلُونَهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَجُمْلَةُ تُبْدُونَهَا صِفَةٌ لِقَرَاطِيسَ وَتُخْفُونَ كَثِيراً مَعْطُوفٌ عَلَى تُبْدُونَها: أَيْ وَتُخْفُونَ كَثِيرًا مِنْهَا، وَالْخِطَابُ فِي وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ لِلْيَهُودِ، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ قَدْ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةً مُقَرِّرَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَالَّذِي عَلِمُوهُ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِهَا، فَإِنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مِنْ كُتُبِهِمْ وَلَا عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ وَلَا عَلِمَهُ آبَاؤُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي مَا لَمْ تَعْلَمُوا عِبَارَةً عَمَّا عَلِمُوهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وغيرهم، فتكون ما

_ (1) . أي إنزال الكتب السماوية على الأنبياء الذين هم من البشر.

عِبَارَةً عَمَّا عَلِمُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أمر اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ الْإِلْزَامِ الَّذِي أَلْزَمَهُمْ بِهِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ أَيْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ أَيْ ذَرْهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ يَلْعَبُونَ، أَيْ يَصْنَعُونَ صُنْعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ يَلْعَبُونَ. قَوْلُهُ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ يَعْنِي عَلَى مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَكَيْفَ تَقُولُونَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وَمُبَارَكٌ وَمُصَدِّقٌ: صِفَتَانِ لِكِتَابٍ، وَالْمُبَارَكُ: كَثِيرُ الْبَرَكَةِ، وَالْمُصَدِّقُ: كَثِيرُ التَّصْدِيقِ، وَالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ الْكُتُبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَإِنَّهُ يُوَافِقُهَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ وَإِنْ خَالَفَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ. قَوْلُهُ: وَلِتُنْذِرَ قِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مُبَارَكٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْزَلْنَاهُ لِلْبَرَكَاتِ وَلِتُنْذِرَ، وَخَصَّ أُمَّ الْقُرَى وَهِيَ مَكَّةُ لِكَوْنِهَا أَعْظَمَ الْقُرَى شَأْنًا، وَلِكَوْنِهَا أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَلِكَوْنِهَا قِبْلَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَحَلَّ حَجِّهِمْ، فَالْإِنْذَارُ لِأَهْلِهَا مُسْتَتْبَعٌ لِإِنْذَارِ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ بِمَنْ حولها جميع أهل الأرض، والمراد بأنذر أُمِّ الْقُرَى: إِنْذَارُ أَهْلِهَا وَأَهْلِ سَائِرِ الْأَرْضِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ كَسُؤَالِ الْقَرْيَةِ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مبتدأ، ويُؤْمِنُونَ بِهِ خَبَرُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ صَدَّقَ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهَذَا الْكِتَابِ وَيُصَدِّقَهُ وَيَعْمَلَ بِمَا فِيهِ، لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْآخِرَةِ يُوجِبُ قَبُولَ مَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى مَا يُنَالُ بِهِ خَيْرُهَا وَيُنْدَفَعُ بِهِ ضُرُّهَا، وَجُمْلَةُ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَخَصَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَاةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ لِكَوْنِهَا عِمَادَهَا وَبِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ لَهَا. قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ عَلَى رُسُلِهِ: أَيْ كَيْفَ تَقُولُونَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَزَعَمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، أَوْ كَذِبَ عَلَى اللَّهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَدْ صَانَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ عَمَّا تَزْعُمُونَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا هَذَا شَأْنُ الْكَذَّابِينَ رُؤُوسِ الْإِضْلَالِ كَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ والأسود العنسيّ وسجاح. وقوله: وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ معطوف على مِمَّنِ افْتَرى أَيْ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى أَوْ مِمَّنْ قَالَ: أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، أَوْ مِمَّنْ قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَهُمُ الْقَائِلُونَ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا وَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَأَمْلَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ» فَشَكَّ عَبْدُ اللَّهِ حِينَئِذٍ وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ كَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَلَئِنْ كَانَ كَاذِبًا لَقَدْ قُلْتُ كَمَا قَالَ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. قَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَالْمُرَادُ كُلُّ ظَالِمٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجَاحِدُونَ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَالْمُدَّعُونَ لِلنُّبُوَّاتِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ دَخُولًا أَوَّلِيًّا، وَجَوَابُ لَوْ: مَحْذُوفٌ، أَيْ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَالْغَمَرَاتُ: جَمْعُ غَمْرَةٍ، وَهِيَ الشِّدَّةُ، وَأَصْلُهَا الشَّيْءُ

الَّذِي يَغْمُرُ الْأَشْيَاءَ فَيُغَطِّيهَا، وَمِنْهُ غَمْرَةُ الْمَاءِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي الشَّدَائِدِ، وَمِنْهُ غَمْرَةُ الْحَرْبِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْغَمْرَةُ: الشِّدَّةُ وَالْجَمْعُ غُمَرٌ مِثْلُ نوبة ونوب، وجملة وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ: أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ لِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْكُفَّارِ وَقِيلَ: لِلْعَذَابِ، وَفِي أَيْدِيهِمْ مَطَارِقُ الْحَدِيدِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ «1» . قَوْلُهُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أَيْ قَائِلِينَ لَهُمْ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْغَمَرَاتِ الَّتِي وَقَعْتُمْ فِيهَا، أَوْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ أَيْدِينَا وَخَلِّصُوهَا مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ أَجْسَادِكُمْ وَسَلِّمُوهَا إِلَيْنَا لِنَقْبِضَهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أَيِ الْيَوْمَ الَّذِي تُقْبَضُ فِيهِ أَرْوَاحُكُمْ، أَوْ أَرَادُوا بِالْيَوْمِ الْوَقْتَ الَّذِي يُعَذَّبُونَ فِيهِ الَّذِي مَبْدَؤُهُ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَالْهُونُ وَالْهَوَانُ بِمَعْنًى، أَيِ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهَوَانِ الَّذِي تَصِيرُونَ بِهِ فِي إهانة وذلّة بعد ما كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالتَّعَاظُمِ، وَالْبَاءُ فِي بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ بِسَبَبِ قَوْلِكُمْ هَذَا مِنْ إِنْكَارِ إِنْزَالِ اللَّهِ كُتُبَهُ عَلَى رُسُلِهِ وَالْإِشْرَاكِ بِهِ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ عَنِ التَّصْدِيقِ لَهَا وَالْعَمَلِ بِهَا فَكَانَ مَا جُوزِيتُمْ بِهِ مِنْ عذاب الهون جَزاءً وِفاقاً. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ فُرَادًى بِالتَّنْوِينِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ لِلْجَمْعِ فَلَمْ يَنْصَرِفْ. وَحَكَى ثَعْلَبٌ «فُرَادَ» بِلَا تَنْوِينٍ مِثْلَ: ثَلَاثَ وَرُبَاعَ، وَفُرَادَى جَمْعُ فَرْدٍ كَسُكَارَى جَمْعُ سَكْرَانٍ وَكُسَالَى جَمْعُ كَسْلَانٍ، وَالْمَعْنَى: جِئْتُمُونَا مُنْفَرِدِينَ وَاحِدًا وَاحِدًا كُلُّ وَاحِدٍ مُنْفَرِدٌ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَمَا كَانَ يَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَيْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدَ خُرُوجِكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ، وَالْكَافُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ جِئْتُمُونَا مَجِيئًا مِثْلَ مَجِيئِكُمْ عِنْدَ خَلْقِنَا لَكُمْ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فُرَادَى: أَيْ مُشَابِهِينَ ابْتِدَاءَ خَلْقِنَا لَكُمْ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ أَيْ أَعْطَيْنَاكُمْ، وَالْخَوْلُ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا: أَيْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ خَلْفَكُمْ لَمْ تَأْتُونَا بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَا انْتَفَعْتُمْ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ وَقُلْتُمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «2» وزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لِلَّهِ يَسْتَحِقُّونَ مِنْكُمُ الْعِبَادَةَ كَمَا يَسْتَحِقُّهَا. قَوْلُهُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِنَصْبِ بَيْنَكُمْ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَفَاعِلُ تَقَطَّعَ مَحْذُوفٌ، أَيْ تَقَطَّعَ الْوَصْلُ بَيْنَكُمْ، أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى إِسْنَادِ التقطع إِلَى الْبَيْنِ، أَيْ وَقَعَ التَّقَطُّعُ بَيْنَكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ مَعْنَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الظَّرْفِ، وَإِنَّمَا نُصِبَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ ظَرْفًا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا بَيْنَكُمْ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مَا، أَيِ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَالشِّرْكِ، وَحِيلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ قَالَ: هُمُ الْكُفَّارُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِقُدْرَةِ اللَّهِ، فَمَنْ آمَنَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَدْ قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ فَلَمْ يُقَدِّرِ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، إِذْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. قَالَتِ الْيَهُودُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ كِتَابًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ الله من السماء كتابا،

_ (1) . الأنفال: 50. (2) . الزمر: 3.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قَالَهَا مُشْرِكُو قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ مِنْ شَيْءٍ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ. فَخَاصَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النبي: «أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ؟ وَكَانَ حَبْرًا سَمِينًا، فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: وَيْحَكَ وَلَا عَلَى مُوسَى؟ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فَنَزَلَتْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ قَالَ: الْيَهُودُ، وَقَوْلُهُ: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قَالَ: هَذِهِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ آتَاهُمُ اللَّهُ عِلْمًا فَلَمْ يَقْتَدُوا بِهِ، وَلَمْ يَأْخُذُوا بِهِ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، فَذَمَّهُمُ اللَّهُ فِي عِلْمِهِمْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ قَالَ: هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ قَبْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى قَالَ: مَكَّةُ وَمَنْ حَوْلَهَا. قَالَ: يَعْنِي مَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى إِلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّ أوّل بيت وضعت «1» بِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى قَالَ: هِيَ مَكَّةُ، قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ سَرْحٍ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ الْآيَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَرَّ إِلَى عُثْمَانَ أَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَغَيَّبَهُ عِنْدَهُ حَتَّى اطْمَأَنَّ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ اسْتَأْمَنَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي خَلَفٍ الْأَعْمَى: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ قَالَ: نَزَلَتْ فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَنَحْوَهُ مِمَّنْ دَعَا إِلَى مِثْلِ مَا دَعَا إِلَيْهِ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ لَمَّا نَزَلَتْ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً- فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً «2» قَالَ النَّضْرُ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: وَالطَّاحِنَاتِ طَحْنًا، وَالْعَاجِنَاتِ عَجْنًا، قَوْلًا كَثِيرًا. فَأَنْزَلَ الله:

_ (1) . أي: الكعبة المشرقة. (2) . المرسلات: 1- 2.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 إلى 99]

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: غَمَراتِ الْمَوْتِ قَالَ: سَكَرَاتُ الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عنه قال في قوله: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْبَسْطُ: الضَّرْبُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: هَذَا مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الضحاك في قوله: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ قَالَ: بِالْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: عَذابَ الْهُونِ قَالَ: الْهَوَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ: سَوْفَ تَشْفَعُ لِيَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى، فَنَزَلَتْ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى الْآيَةَ، قَالَ: كَيَوْمِ وُلِدَ يُرَدُّ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ نَقَصَ مِنْهُ يَوْمَ وُلِدَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السدي في قَوْلِهِ: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ قَالَ: مِنَ الْمَالِ وَالْخَدَمِ وَراءَ ظُهُورِكُمْ قَالَ: فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْوَصْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قَالَ: تواصلكم في الدنيا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 99] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى هَذَا شُرُوعٌ فِي تَعْدَادِ عَجَائِبِ صُنْعِهِ تَعَالَى وَذِكْرِ مَا يَعْجِزُ آلِهَتُهُمْ عَنْ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَالْفَلْقُ: الشَّقُّ أَيْ هُوَ سُبْحَانَهُ فَالِقُ الْحَبِّ فَيَخْرُجُ مِنْهُ النَّبَاتُ، وَفَالِقُ النَّوَى فَيَخْرُجُ مِنْهُ الشَّجَرُ وَقِيلَ: مَعْنَى فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى الشَّقُّ الَّذِي فِيهِمَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَقِيلَ: مَعْنَى فالِقُ خَالِقُ. وَالنَّوَى: جَمْعُ نَوَاةٍ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ عَجْمٌ كَالتَّمْرِ وَالْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ. قَوْلُهُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ فَهِيَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ وَقِيلَ: هِيَ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَاهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّ مَعْنَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ يَخْرُجُ الْحَيَوَانَ مِنْ مِثْلِ النُّطْفَةِ وَالْبَيْضَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ. وَمَعْنَى وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ مُخْرِجُ النُّطْفَةِ وَالْبَيْضَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ مِنَ الْحَيِّ، وَجُمْلَةُ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ

مِنَ الْحَيِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ عَطْفُ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ وَقِيلَ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى فالِقُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ جُمْلَةَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ مُفَسِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمُ إِلَى صَانِعِ ذَلِكَ الصُّنْعِ العجيب المذكور سابقا واللَّهَ خَبَرُهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ صَانِعَ هَذَا الصُّنْعُ الْعَجِيبُ هُوَ الْمُسْتَجْمِعُ لِكُلِّ كَمَالٍ، وَالْمُفَضَّلُ بِكُلِّ إِفْضَالٍ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِكُلِّ حَمَدٍ وَإِجْلَالٍ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ مَعَ مَا تَرَوْنَ مِنْ بَدِيعِ صُنْعِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ. قَوْلُهُ: فالِقُ الْإِصْباحِ مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَخْبَارِ إِنَّ فِي إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى، وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِلِاسْمِ الشَّرِيفِ فِي ذلِكُمُ اللَّهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ فَالِقُ الْأَصْبَاحِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا، وَهُوَ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ جَمْعُ صُبْحٍ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ مَصْدَرُ أَصْبَحَ، وَالصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ: أَوَّلُ النَّهَارِ، وَكَذَا الْإِصْبَاحُ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ «فَلَقَ الْإِصْبَاحَ» بِفِعْلٍ وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ. وَالْمَعْنَى فِي فالِقُ الْإِصْباحِ أَنَّهُ شَاقُّ الضِّيَاءِ عَنِ الظَّلَامِ وَكَاشِفُهُ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ فَالِقُ ظُلْمَةِ الْإِصْبَاحِ، وَهِيَ الْغَبَشُ، أَوْ فَالِقُ عَمُودِ الْفَجْرِ عَنْ بَيَاضِ النَّهَارِ، لِأَنَّهُ يَبْدُو مُخْتَلِطًا بِالظُّلْمَةِ ثُمَّ يصير أبيض خالصا. وقرأ الحسن وعيسى ابن عمر وعاصم وحمزة والكسائي وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً حَمْلًا عَلَى مَعْنَى فالِقُ عِنْدَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَأَمَّا عِنْدَ الْحَسَنِ وَعِيسَى فَعَطْفًا عَلَى فَلَقَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَجَاعِلُ عَطْفًا عَلَى فالق. وقرئ فالق وجاعل بِنَصْبِهِمَا عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ «وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَاكِنًا» . وَالسَّكَنُ: مَحَلُّ السُّكُونِ، مِنْ سَكَنَ إِلَيْهِ: إِذَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَسْكُنُ فِيهِ النَّاسُ عَنِ الْحَرَكَةِ فِي مَعَاشِهِمْ وَيَسْتَرِيحُونَ مِنَ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ. قَوْلُهُ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ: أَيْ وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مجعولان حسبانا، وبالجرّ على الليل على قراءة من قرأ: وجاعل اللَّيْلَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَالْحُسْبَانُ: جَمْعُ حِسَابٍ، مِثْلَ شُهْبَانٍ وَشِهَابٍ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: حُسْبَانٌ: مَصْدَرُ حَسِبْتُ الشيء أحسبه حسابا وَحُسْبَانًا. وَالْحِسَابُ: الِاسْمُ وَقِيلَ: الْحُسْبَانُ بِالضَّمِّ: مَصْدَرُ حَسَبَ بِالْفَتْحِ، وَالْحِسْبَانُ بِالْكَسْرِ: مَصْدَرُ حَسِبَ. وَالْمَعْنَى: جَعَلَهُمَا مَحَلَّ حِسَابٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ، وَسَيَّرَهُمَا عَلَى تَقْدِيرٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، لِيَدُلَّ عِبَادَهُ بِذَلِكَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ وَقِيلَ الْحُسْبَانُ: الضِّيَاءُ، وَفِي لُغَةٍ أَنَّ الْحُسْبَانَ: النَّارُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ «1» وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إِلَى الْجَعْلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِجَاعِلٍ أَوْ بِجَعْلٍ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ. وَالْعَزِيزُ: الْقَاهِرُ الْغَالِبُ. وَالْعَلِيمُ: كَثِيرُ الْعِلْمِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَعْلُومَاتِهِ: تَسْيِيرُهُمَا عَلَى هَذَا التَّدْبِيرِ الْمُحْكَمِ. قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها أَيْ خَلَقَهَا لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي ظُلُماتِ اللَّيْلِ عِنْدَ الْمَسِيرِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَإِضَافَةُ الظُّلُمَاتِ إِلَى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لِكَوْنِهَا مُلَابِسَةً لَهُمَا، أَوِ الْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ: اشْتِبَاهُ طُرُقِهِمَا الَّتِي لَا يُهْتَدَى فِيهَا إِلَّا بِالنُّجُومِ، وَهَذِهِ إِحْدَى مَنَافِعِ النُّجُومِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لَهَا، وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «2» . وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «3» ، وَمِنْهَا: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَمَنْ زَعَمَ غَيْرَ هَذِهِ الْفَوَائِدِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا بَيَانًا مُفَصَّلًا لِتَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاعْتِبَارِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بِمَا في هذه الآيات من

_ (1) . الكهف: 40. (2) . الصافات: 7. (3) . الملك: 5.

الدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ وَبَدِيعِ حَكَمْتِهِ. قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أَيْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ بَدِيعِ خَلْقِهِ الدَّالِّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو وَعِيسَى وَالْأَعْرَجُ وَالنَّخَعِيُّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا مرفوعان على أنهما مبتداءان وَخَبَرُهُمَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَمِنْكُمْ مُسْتَقَرٌّ أَوْ فَلَكُمْ مُسْتَقَرٌّ، التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِي عَلَى الثَّانِيَةِ: أَيْ فَمِنْكُمْ مُسْتَقَرٌّ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، أَوْ فَلَكُمْ مُسْتَقَرٌّ عَلَى ظَهْرِهَا، وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ فِي الرَّحِمِ أَوْ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ أَوْ فِي الصُّلْبِ وَقِيلَ: الْمُسْتَقَرُّ فِي الرَّحِمِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ: الْمُسْتَقَرُّ فِي الْقَبْرِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ: الْمُسْتَقَرُّ مَا كَانَ فِي الرَّحِمِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا كَانَ فِي الصُّلْبِ وَقِيلَ: الْمُسْتَقَرُّ مَنْ خُلِقَ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ وَقِيلَ: الِاسْتِيدَاعُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ فِي الْقُبُورِ إِلَى الْمَبْعَثِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُسْتَقَرِّ بِالْكَوْنِ عَلَى الْأَرْضِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «1» ، وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا يَفْقَهُونَ وَفِيمَا قَبْلَهُ يَعْلَمُونَ لِأَنَّ فِي إِنْشَاءِ الْأَنْفُسِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعْلِ بَعْضِهَا مُسْتَقَرًا وَبَعْضَهَا مُسْتَوْدَعًا مِنَ الْغُمُوضِ وَالدِّقَّةِ مَا لَيْسَ فِي خَلْقِ النُّجُومِ لِلِاهْتِدَاءِ، فَنَاسَبَهُ ذِكْرُ الْفِقْهِ لِإِشْعَارِهِ بِمَزِيدِ تَدْقِيقٍ وَإِمْعَانِ فِكْرٍ. قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ عَجَائِبَ مَخْلُوقَاتِهِ. وَالْمَاءُ هُوَ مَاءُ الْمَطَرِ، وَفِي فَأَخْرَجْنا بِهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ إِظْهَارًا لِلْعِنَايَةِ بِشَأْنِ هَذَا الْمَخْلُوقِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ، وَالضَّمِيرُ في بِهِ عائد إلى الماء، ونَباتَ كُلِّ شَيْءٍ يَعْنِي كُلَّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى رِزْقِ كُلِّ شَيْءٍ، وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الْإِجْمَالَ فَقَالَ: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ أَخْضَرَ. وَالْخَضِرُ: رَطْبُ الْبُقُولِ، وَهُوَ مَا يَتَشَعَّبُ مِنَ الْأَغْصَانِ الْخَارِجَةِ مِنَ الْحَبَّةِ وَقِيلَ: يُرِيدُ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَالذُّرَةَ وَالْأُرْزَ وَسَائِرَ الْحُبُوبِ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِخَضِرًا: أَيْ نَخْرُجُ مِنَ الْأَغْصَانِ الْخُضْرِ حَبًا مُتَرَاكِبًا: أَيْ مُرَكَّبًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضِهِ كَمَا فِي السَّنَابِلِ وَمِنَ النَّخْلِ خبر مقدّم، ومِنْ طَلْعِها بَدَلٌ مِنْهُ، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ يَخْرُجُ مِنْهُ حَبٌّ يَكُونُ ارْتِفَاعُ قِنْوَانٍ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى حَبٍّ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ قِنْوَانًا عَطْفًا عَلَى حَبًّا، وَتَمِيمٌ يَقُولُونَ قِنْيَانٍ. وَقُرِئَ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِهَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ اللُّغَتَيْنِ، لُغَةِ قَيْسٍ، وَلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَالطَّلْعُ: الْكُفْرِيُّ قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ عَنِ الْإِغْرِيضِ «2» ، وَالْإِغْرِيضُ يُسَمَّى طَلْعًا أَيْضًا. وَالْقِنْوَانُ: جَمْعُ قِنْوٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ جَمْعِهِ وَتَثْنِيَتِهِ أَنَّ الْمُثَنَّى مَكْسُورُ النُّونِ، وَالْجَمْعُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْإِعْرَابُ، وَمِثْلُهُ صِنْوَانٌ. وَالْقِنْوُ: الْعِذْقُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقِنْوَانَ أَصْلُهُ مِنَ الطَّلْعِ. وَالْعِذْقُ هُوَ عُنْقُودُ النَّخْلِ، وَقِيلَ الْقِنْوَانُ: الْجِمَارُ. وَالدَّانِيَةُ: الْقَرِيبَةُ الَّتِي يَنَالُهَا الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: مِنْهَا دَانِيَةٌ، وَمِنْهَا بعيدة فحذف، ومثله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «3» وَخَصَّ الدَّانِيَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ الْقَدْرِ وَالِامْتِنَانِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَقْرُبُ تَنَاوُلُهُ أكثر. قوله: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ

_ (1) . البقرة: 36. (2) . قال في القاموس: الطّلع من النخيل شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان وقشره يسمى الكفري وما في داخله الإغريض لشدة بياضه. (3) . النحل: 81. [.....]

قَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ فِي قِرَاءَتِهِ الصَّحِيحَةِ عَنْهُ بِرَفْعِ جَنَّاتٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ. وَأَنْكَرَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ حَتَّى قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْجَنَّاتِ لَا تَكُونُ مِنَ النَّخْلِ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ تَأْوِيلُ الرَّفْعِ عَلَى هَذَا، وَلَكِنَّهُ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ: أَيْ وَلَهُمْ جَنَّاتٌ، كَمَا قَرَأَ جَمَاعَةٌ من القراء وَحُورٌ عِينٌ «1» وَقَدْ أَجَازَ مِثْلَ هَذَا سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، وَأَمَّا عَلَى النَّصْبِ فَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ وَأَخْرَجْنَا بِهِ جَنَّاتٍ كَائِنَةً مِنْ أَعْنَابٍ، أَوِ النَّصْبِ بِفِعْلٍ يُقَدَّرُ مُتَأَخِّرًا: أَيْ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ أَخْرَجْنَاهَا، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي انْتِصَابِ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ: وَقِيلَ: هُمَا منصوبان على الاختصاص لكونهما عزيزين، ومُشْتَبِهاً مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ: أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي بَعْضِ أَوْصَافِهِ وَلَا يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ وَقِيلَ: إِنَّ أَحَدَهُمَا يُشْبِهُ الْآخَرَ فِي الْوَرَقِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى جَمِيعِ الْغُصْنِ وَبِاعْتِبَارِ حَجْمِهِ، وَلَا يُشْبِهُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي الطَّعْمِ وَقِيلَ: خَصَّ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ لِقُرْبِ مَنَابِتِهِمَا مِنَ الْعَرَبِ كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ «2» ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَنْظُرُوا نَظَرَ اعْتِبَارٍ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَإِلَى يَنْعِهِ إِذَا أَيْنَعَ. وَالثَّمَرُ فِي اللُّغَةِ: جَنَى الشَّجَرِ. وَالْيَانِعُ: النَّاضِجُ الَّذِي قَدْ أَدْرَكَ وَحَانَ قِطَافُهُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْيَنْعُ جَمْعُ يَانِعٍ، كَرَكْبٍ وَرَاكِبٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ، أَيْنَعَ: احْمَرَّ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ثَمَرِهِ بضم الثاء والميم، وقرأ الباقون بفتحهما، إِلَّا الْأَعْمَشُ فَإِنَّهُ قَرَأَ ثُمْرَهُ بِضَمِّ الثَّاءِ وسكون الميم تخفيفا. وقرأ محمد بن السّميقع وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَنْعِهِ بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةُ بَعْضِ أَهْلِ نَجْدٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكُمْ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ اسْتِدْلَالًا بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ عَجَائِبَ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي قَصَّهَا عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يَقُولُ: خَلَقَ الْحَبَّ وَالنَّوَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَفْلِقُ الْحَبَّ وَالنَّوَى عَنِ النَّبَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الشِّقَّانِ اللَّذَانِ فِيهِمَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قَالَ: النَّخْلَةَ مِنَ النَّوَاةِ وَالسُّنْبُلَةَ مِنَ الْحَبَّةِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قَالَ: النَّوَاةُ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالْحَبَّةُ مِنَ السُّنْبُلَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قَالَ: النَّاسُ الْأَحْيَاءُ مِنَ النُّطَفِ، وَالنُّطْفَةُ مَيْتَةٌ تَخْرُجُ مِنَ النَّاسِ الْأَحْيَاءِ، وَمِنَ الْأَنْعَامِ وَالنَّبَاتِ كَذَلِكَ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَيْ فَكَيْفَ تُكَذِّبُونَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عن الحسن قال: «أتى تُصْرَفُونَ» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي فالِقُ الْإِصْباحِ قَالَ: «خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: يَعْنِي بِالْإِصْبَاحِ: ضَوْءَ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ، وَضَوْءَ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي فالِقُ الْإِصْباحِ قَالَ: إِضَاءَةُ الْفَجْرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وعبد

_ (1) . الواقعة: 22. (2) . الغاشية: 17.

ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فالِقُ الْإِصْباحِ قَالَ: فَالِقُ الصُّبْحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً قَالَ: سَكَنَ فِيهِ كُلُّ طَيْرٍ وَدَابَّةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً يَعْنِي عَدَدَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَ: يَضِلُّ الرَّجُلُ وَهُوَ فِي الظُّلْمَةِ، وَالْجَوْرُ: عَنِ الطَّرِيقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْخَطِيبُ فِي كِتَابِ النُّجُومِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: تَعَلَّمُوا مِنَ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُونَ بِهِ فِي بَرِّكُمْ وَبَحْرِكُمْ ثُمَّ أَمْسِكُوا، فَإِنَّهَا وَاللَّهِ مَا خُلِقَتْ إِلَّا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرزاق وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا مِنَ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُونَ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، ثُمَّ انْتَهُوا» . وَقَدْ وَرَدَ فِي اسْتِحْبَابِ مُرَاعَاةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ أَحَادِيثُ، مِنْهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِذِكْرِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْخَطِيبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَالْخَطِيبُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ النُّجُومِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ حَدِيثِهِ الْأَوَّلِ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: التَّاجِرُ الْأَمِينُ، وَالْإِمَامُ الْمُقْتَصِدُ، وَرَاعِي الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: «سَبْعَةٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، فَذَكَرَ مِنْهُمُ الرَّجُلَ الَّذِي يُرَاعِي الشَّمْسَ لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ» . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُقَيَّدَةٌ بِكَوْنِ الْمُرَاعَاةِ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ انْقِضَاءَ وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ طُلُوعَ الشَّمْسِ، وَأَوَّلُ صَلَاةِ الظُّهْرِ زَوَالُهَا، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا دَامَتِ الشَّمْسُ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ غُرُوبُ الشَّمْسِ. وَوَرَدَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّيهَا لِوَقْتِ مَغِيبِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ ثالث الشهر» وبه يُعْرَفُ أَوَائِلُ الشُّهُورِ وَأَوْسَاطُهَا وَأَوَاخِرُهَا. فَمَنْ رَاعَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ فَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَمَنْ رَاعَاهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ بِمَا وَرَدَ، وَهَكَذَا النُّجُومُ، وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ النَّظَرِ فِيهَا كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْمَرْهَبِيُّ وَالْخَطِيبُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَتِ النُّجُومُ فَأَمْسِكُوا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ» . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا لِمَا عَدَا الِاهْتِدَاءَ وَالتَّفَكُّرَ وَالِاعْتِبَارَ. وَمَا وَرَدَ فِي جَوَازِ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالِاهْتِدَاءِ وَالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ السَّابِقُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 إلى 103]

مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلًا عَنْ حِسَابِ النُّجُومِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُخْبِرَهُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: عِلْمٌ عَجَزَ النَّاسُ عَنْهُ وَوَدِدْتُ أَنِّي عَلِمْتُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالْخَطِيبُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ خَطَبَ فَذَكَرَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ كُسُوفَ هَذِهِ الشَّمْسِ، وَكُسُوفَ هَذَا الْقَمَرِ، وَزَوَالَ هَذِهِ النُّجُومِ عَنْ مَوَاضِعِهَا لِمَوْتِ رِجَالٍ عُظَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ كذبوا، ولكنها آيات من آيات الله يعبر بِهَا عِبَادَهُ لِيَنْظُرَ مَا يَحْدُثُ لَهُمْ مِنْ تَوْبَةٍ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللَّهَ نَصَبَ آدَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُسْرَى فَخَرَجَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ صُلْبِهِ حَتَّى ملؤوا الْأَرْضَ» ، فَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مَعْنَى مَا فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَالَ: الْمُسْتَقَرُّ مَا كَانَ فِي الرَّحِمِ، وَالْمُسْتَوْدَعِ مَا اسْتَوْدَعَ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَالدَّوَابِّ. وَفِي لَفْظِ: الْمُسْتَقَرُّ مَا فِي الرَّحِمِ وَعَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَبَطْنِهَا مِمَّا هُوَ حَيٌّ وَمِمَّا قَدْ مَاتَ. وَفِي لَفْظِ: الْمُسْتَقَرِّ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا كَانَ فِي الصُّلْبِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ: قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا فِي الدُّنْيَا، وَمُسْتَوْدَعُهَا فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابن مسعود قال: المستقرّ: الرحم، والمستودع: الْمَكَانُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَا: مُسْتَقَرٌّ فِي الْقَبْرِ، وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الدُّنْيَا، أَوْشَكَ أَنْ يَلْحَقَ بِصَاحِبِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً قَالَ: هَذَا السُّنْبُلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قِنْوانٌ دانِيَةٌ قَالَ قَرِيبَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ قِنْوانٌ دانِيَةٌ قَالَ: قِصَارُ النَّخْلِ اللَّاصِقَةُ عُذُوقُهَا بِالْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قِنْوَانُ: الْكَبَائِسِ، وَالدَّانِيَةُ: الْمَنْصُوبَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قِنْوانٌ دانِيَةٌ قال: تهدل العذوق مِنَ الطَّلْعِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ قَالَ: مُتَشَابِهًا وَرَقُهُ مُخْتَلِفًا ثَمَرُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِهِ: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ قَالَ: رُطَبُهُ وَعِنَبُهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ وَيَنْعِهِ قَالَ: نضجه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ جَهَالَاتِهِمْ وَضَلَالَاتِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْجِنُّ: الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَشُرَكَاءَ: الْمَفْعُولُ الثَّانِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً «1» ، وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً «2» وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ: أَنْ يَكُونَ الْجِنُّ بَدَلًا مِنْ شُرَكَاءَ وَمُفَسِّرًا لَهُ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ رَفْعَ الْجِنِّ بِمَعْنَى هُمُ الْجِنُّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ فقيل: الجنّ، وبالرفع قرأ يزيد بن قُطَيْبٍ وَأَبُو حَيَّانَ، وَقُرِئَ بِالْجَرِّ عَلَى إِضَافَةِ شُرَكَاءَ إِلَى الْجِنِّ لِلْبَيَانِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَعَلُوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فَعَبَدُوهُمْ كَمَا عَبَدُوهُ، وَعَظَّمُوهُمْ كَمَا عَظَّمُوهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْجِنِّ هَاهُنَا الْمَلَائِكَةُ لِاجْتِنَانِهِمْ: أَيِ اسْتَتَارِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَإِبْلِيسَ أَخَوَانٍ، فَاللَّهُ خَالِقُ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ، وَإِبْلِيسُ خَالِقُ الْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعِ وَالْعَقَارِبِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْمَجُوسِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ هُمَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَالشَّيْطَانُ. وَهَكَذَا الْقَائِلُونَ: كُلُّ خَيْرٍ مِنَ النُّورِ، وَكُلُّ شَرٍّ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَهُمُ الْمَانَوِيَّةُ. قَوْلُهُ: وَخَلَقَهُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ: أَيْ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ، أَوْ خَلَقَ مَا جَعَلُوهُ شَرِيكًا لِلَّهِ. قَوْلُهُ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ قَرَأَ نَافِعٌ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ ادَّعَوْا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى ادَّعَوْا أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ، واليهود ادّعوا أن عزيزا ابْنُ اللَّهِ، فَكَثُرَ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِمْ فَشَدَّدَ الْفِعْلَ لِمُطَابَقَةِ الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. وَقُرِئَ «حَرَّفُوا» مِنَ التَّحْرِيفِ: أَيْ زَوَّرُوا. قَالَ أَهْلُ اللغة: معنى خرقوا: اختلفوا وَافْتَعَلُوا وَكَذَّبُوا، يُقَالُ: اخْتَلَقَ الْإِفْكَ وَاخْتَرَقَهُ وَخَرَقَهُ، أَوْ أَصْلُهُ مِنْ خَرَقَ الثَّوْبَ: إِذَا شَقَّهُ: أَيِ اشْتَقُّوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. قَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق بمحذوف وهو حَالٌ: أَيْ كَائِنِينَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، بَلْ قَالُوا: ذَلِكَ عَنْ جَهْلٍ خَالِصٍ، ثُمَّ بَعْدَ حِكَايَةِ هَذَا الضَّلَالِ الْبَيِّنِ وَالْبَهْتِ الْفَظِيعِ مِنْ جَعْلِ الْجِنِّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَإِثْبَاتِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ لَهُ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى سُبْحَانَهُ. وَمَعْنَى تَعالى: تَبَاعَدَ وَارْتَفَعَ عَنْ قَوْلِهِمُ الْبَاطِلِ الَّذِي وَصَفُوهُ بِهِ. قَوْلُهُ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ مُبْدِعُهُمَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَقَدْ جَاءَ الْبَدِيعُ: بِمَعْنَى الْمُبْدِعِ كَالسَّمِيعِ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ كَثِيرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدّاعي السّميع ... يورّقني وَأَصْحَابِي هُجُوعُ؟ أَيِ الْمُسْمِعِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْأَصْلُ بَدِيعُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ خَفْضَهُ عَلَى النَّعْتِ لِلَّهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَفْعَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَقِيلَ: هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ تَعالى، وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ لِلْإِنْكَارِ. وَالِاسْتِبْعَادِ، أَيْ مَنْ كَانَ هَذَا وَصْفُهُ، وَهُوَ أنه خالق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا كَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَكَيْفَ يَتَّخِذُ مَا يَخْلُقُهُ وَلَدًا، ثُمَّ بَالَغَ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ، فَقَالَ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ، وَالصَّاحِبَةُ إِذَا لَمْ تُوجَدِ اسْتَحَالَ وُجُودُ الْوَلَدِ، وَجُمْلَةُ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَنْ كَانَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ اسْتَحَالَ مِنْهُ أَنْ يَتَّخِذَ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَدًا وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ مخلوقاته خافية، والإشارة بقوله:

_ (1) . المائدة: 20. (2) . المدثر: 12.

ذلِكُمُ إِلَى الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَهُوَ الاسم الشريف، ورَبُّكُمْ خبر ثان، ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر ثالث، وخالِقُ كُلِّ شَيْءٍ خبر رابع، ويجوز أن يكون اللَّهُ رَبُّكُمْ بَدَلًا مِنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَكَذَلِكَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَيَجُوزُ ارْتِفَاعُ خَالِقِ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ النَّصْبَ فِيهِ فَاعْبُدُوهُ أَيْ: مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُهُ، فَهُوَ الْحَقِيقُ بِالْعِبَادَةِ، فَاعْبُدُوهُ وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ شَيْءٌ. قَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ الْأَبْصَارُ: جَمْعُ بَصَرٍ، وَهُوَ الْحَاسَّةُ، وَإِدْرَاكُ الشَّيْءِ: عِبَارَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ لَا تَبْلُغُ كُنْهَ حَقِيقَتِهِ، فَالْمَنْفِيُّ هُوَ هَذَا الْإِدْرَاكُ لَا مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ. فَقَدْ ثَبَتَتْ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ تَوَاتُرًا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ، وَلَا يَجْهَلُهُ إِلَّا مَنْ يَجْهَلُ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ جَهْلًا عَظِيمًا، وَأَيْضًا قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ وَالْمِيزَانِ أَنَّ رَفْعَ الْإِيجَابِ الْكُلِّيِّ سَلْبٌ جُزْئِيُّ فَالْمَعْنَى لَا تُدْرِكُهُ بَعْضُ الْأَبْصَارِ وَهِيَ أَبْصَارُ الْكُفَّارِ، هَذَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ نَفْيَ الْإِدْرَاكِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْخَاصَّةُ، وَالْآيَةُ مِنْ سَلْبِ الْعُمُومِ لَا مِنْ عُمُومِ السَّلْبِ، وَالْأَوَّلُ تَخْلُفُهُ الْجُزْئِيَّةُ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تُدْرِكُهُ كُلُّ الْأَبْصَارِ بَلْ بَعْضُهَا، وَهِيَ أَبْصَارُ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَصِيرُ إِلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مُتَعَيَّنٌ لِمَا عَرَّفْنَاكَ مِنْ تَوَاتُرِ الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَاعْتِضَادِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ «1» الْآيَةَ. قَوْلُهُ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أَيْ يُحِيطُ بِهَا وَيَبْلُغُ كُنْهَهَا لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ، وَخَصَّ الْأَبْصَارَ لِيُجَانِسَ مَا قَبْلُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ لَا يُدْرِكُونَ الْأَبْصَارَ: أَيْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ حَقِيقَةَ الْبَصَرِ وَمَا الشَّيْءُ الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَانُ يُبْصِرُ مِنْ عَيْنَيْهِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ أَعْضَائِهِ، انْتَهَى. وَهُوَ اللَّطِيفُ أَيِ الرَّفِيقُ بِعِبَادِهِ: يُقَالُ لَطَفَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ: أَيْ رَفِقَ بِهِ، وَاللُّطْفُ فِي الْعَمَلِ: الرِّفْقُ فِيهِ، وَاللُّطْفُ مِنَ اللَّهِ: التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ، وَأَلْطَفَهُ بِكَذَا: إِذَا أَبَرَّهُ. وَالْمُلَاطَفَةُ: الْمُبَارَّةُ، هَكَذَا قال الجوهري وابن فارس، والْخَبِيرُ الْمُخْتَبَرُ بِكُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ قَالَ: وَاللَّهُ خَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ: تَخْرُصُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَخَرَقُوا قَالَ: جَعَلُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَذَّبُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ عَدِيٌّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ مُنْذُ خُلِقُوا إِلَى أَنْ فَنُوا صُفُّوا صَفًا وَاحِدًا مَا أَحَاطُوا بِاللَّهِ أَبَدًا» . قَالَ الذَّهَبِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. انْتَهَى. وَفِي إِسْنَادِهِ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: فَقُلْتُ لَهُ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ قَالَ: لَا أُمَّ لَكَ ذَاكَ نُورُهُ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ لَا يُدْرِكُهُ شَيْءٌ، وَفِي لَفْظٍ: إِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا تَجَلَّى بِكَيْفِيَّتِهِ لَمْ يَقُمْ لَهُ بَصَرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: لَا يُحِيطُ بَصَرُ أَحَدٍ بِاللَّهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الرُّؤْيَةِ عَنِ الحسن

_ (1) . القيامة: 22.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 104 إلى 108]

فِي قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ قَالَ: فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ إسماعيل بن علية مثله. [سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 108] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) الْبَصَائِرُ: جَمْعُ بَصِيرَةٍ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ: نُورُ الْقَلْبِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ وَالْبُرْهَانُ الْوَاضِحُ، وَهَذَا الْكَلَامُ وَارِدٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِهِ: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَوَصَفَ الْبَصَائِرَ بِالْمَجِيءِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا وَجَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ الْمُتَوَقِّعِ مَجِيئُهُ كَمَا يُقَالُ: جَاءَتِ الْعَافِيَةُ، وَانْصَرَفَ الْمَرَضُ، وَأَقْبَلَتِ السُّعُودُ، وَأَدْبَرَتِ النُّحُوسُ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أَيْ: فَمَنْ تَعَقَّلَ الْحُجَّةَ وَعَرَفَهَا وَأَذْعَنَ لَهَا فَنَفَعَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَنْجُو بِهَذَا الْإِبْصَارِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمَنْ عَمِيَ عَنِ الْحُجَّةِ وَلَمْ يَتَعَقَّلَهَا وَلَا أَذْعَنَ لَهَا، فَضَرَرُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِغَضَبِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَيَكُونُ مَصِيرُهُ النَّارَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ بِرَقِيبٍ أُحْصِيَ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَهُوَ الْحَفِيظُ عَلَيْكُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: نَزَلَ هَذَا قَبْلَ فَرْضِ الْقِتَالِ ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يمنعهم بالسيف عن عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ التَّصْرِيفِ الْبَدِيعِ نُصَرِّفُهَا فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْوَعْظِ وَالتَّنْبِيهِ. قَوْلُهُ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ الْعَطْفُ عَلَى مَحْذُوفٍ: أَيْ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ، أَوْ عِلَّةٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ مُتَأَخِّرًا، أَيْ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ صَرَفْنَاهَا، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ أَوْ لِلصَّيْرُورَةِ. وَالْمَعْنَى: وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّصْرِيفِ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا: دَرَسْتَ، فَإِنَّهُ لَا احْتِفَالَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا اعْتِدَادَ بِهِمْ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: الْوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ لَهُمْ، وَعَدَمُ الِاكْتِرَاثِ بِقَوْلِهِمْ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى مَثَلِ هَذَا الزَّجَّاجُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَفِي الْمَعْنَى قَوْلٌ آخَرُ حَسَنٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى نُصَرِّفُ الْآياتِ نَأْتِي بِهَا آيَةً بَعْدَ آيَةٍ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ عَلَيْنَا فَيُذَكَّرُونَ الْأَوَّلَ بِالْآخِرِ، فَهَذَا حَقِيقَتُهُ، وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ: - يَعْنِي الزَّجَّاجَ- مَجَازٌ، وَفِي دَرَسْتَ قِرَاءَاتٌ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ «دَارَسْتَ» بِأَلْفٍ بَيْنِ الدَّالِ وَالرَّاءِ كَفَاعَلْتَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَهْلِ مَكَّةَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ دَرَسَتْ بِفَتْحِ السِّينِ وإسكان التاء من غير ألف كخرجت، وهي قِرَاءَةُ الْحَسَنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ دَرَسْتَ كَضَرَبْتَ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى الْمَعْنَى: دَارَسْتَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَدَارَسُوكَ: أَيْ ذَاكَرْتَهُمْ وَذَاكَرُوكَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ عنهم بقوله: وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ «1» أَيْ أَعَانَ الْيَهُودُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا «2» ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ «3» . وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: قَدَّمَتْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَعَفَتْ وَانْقَطَعَتْ، وَهُوَ كقولهم: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ مِثْلَ الْمَعْنَى عَلَى

_ (1) . الفرقان: 4. (2) . الفرقان: 5. (3) . النحل: 103.

الْقِرَاءَةِ الْأُولَى. قَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ بِمَعْنَى دَارَسْتَ إِلَّا أَنَّهُ أَبْلَغَ. وَحُكِيَ عَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَرَأَ: وَلْيَقُولُوا بِإِسْكَانِ اللَّامِ فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى التهديد، أي: وليقولوا ما شاؤوا فَإِنَّ الْحَقَّ بَيِّنٌ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ أَصْلُهُ دَرَسَ يَدْرُسُ دِرَاسَةً فَهُوَ مِنَ الدَّرْسِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ وَقِيلَ مِنْ دَرَّسْتُهُ: أَيْ ذَلَّلْتُهُ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ، وَأَصْلُهُ دَرَسَ الطَّعَامَ: أَيْ دَاسَهُ. وَالدِّيَاسُ: الدِّرَاسُ بِلُغَةِ أَهْلِ الشَّامِ وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ دَرَسْتُ الثَّوْبَ أَدْرُسُهُ دَرْسًا: أَيْ أَخْلَقْتُهُ، وَدَرَسَتِ الْمَرْأَةُ دَرْسًا: أَيْ حَاضَتْ، وَيُقَالُ: إِنَّ فَرْجَ المرأة يكنى أبا أدراس وهو في الْحَيْضِ، وَالدَّرْسُ أَيْضًا: الطَّرِيقُ الْخَفِيُّ. وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ: بَعِيرٌ لَمْ يُدْرَسْ: أَيْ لَمْ يُرْكَبْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَأُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ والأعمش أنهم قرءوا دَرَسَ أَيْ دَرَسَ مُحَمَّدٌ الْآيَاتِ، وَقُرِئَ دُرِسَتْ وبه قرأ زيد ابن ثَابِتٍ: أَيِ الْآيَاتِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَدَارَسَتْ أَيْ دَارَسَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا، وَاللَّامُ فِي لِنُبَيِّنَهُ لَامُ كَيْ: أَيْ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِكَيْ نُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْآيَاتِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْقُرْآنِ، أَوْ إِلَى الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ أَوْ إِلَى التَّبْيِينِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ. قَوْلُهُ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِاتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَأَنْ لَا يَشْغَلَ خَاطِرَهُ بِهِمْ، بَلْ يَشْتَغِلُ بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ، وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِقَصْدِ تأكيد إيجاد الِاتِّبَاعِ وَأَعْرِضْ مَعْطُوفٌ عَلَى اتَّبِعْ أَمَرَهُ اللَّهُ بالإعراض عن المشركين بعد ما أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ السَّيْفِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ إِشْرَاكِهِمْ مَا أَشْرَكُوا، وَفِيهِ أَنَّ الشِّرْكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَعَارَفُ بِهِ أَهْلُ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَالْمِيزَانِ مَعْرُوفٌ فَلَا نُطِيلُ بِإِيرَادِهِ وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أَيْ: رَقِيبًا وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أَيْ: قَيِّمٍ بِمَا فِيهِ نَفْعُهُمْ فَتَجْلِبُهُ إِلَيْهِمْ، لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا إِبْلَاغُ الرِّسَالَةِ. قَوْلُهُ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ الْمَوْصُولُ عِبَارَةٌ عَنِ الْآلِهَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْبُدُهَا الْكُفَّارُ. وَالْمَعْنَى: لَا تَسُبُّ يَا مُحَمَّدُ آلِهَةَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّتِي يَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَتَسَبَّبُ عَنْ ذَلِكَ سَبُّهُمْ لِلَّهِ عُدْوَانًا وَتَجَاوُزًا عَنِ الْحَقِّ وَجَهْلًا مِنْهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْبَاطِلِ إِذَا خَشِيَ أَنْ يَتَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ مِنَ انْتِهَاكِ حُرَمٍ، وَمُخَالَفَةِ حَقٍّ، وَوُقُوعٍ فِي بَاطِلٍ أَشَدَّ كَانَ التَّرْكُ أَوْلَى بِهِ، بَلْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَمَا أَنْفَعَ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَجَّلَ فَائِدَتِهَا لِمَنْ كَانَ مِنَ الْحَامِلِينَ لِحُجَجِ اللَّهِ الْمُتَصَدِّينَ لِبَيَانِهَا لِلنَّاسِ إِذَا كان بين قوم من الصم والبكم الَّذِينَ إِذَا أَمَرَهُمْ بِمَعْرُوفٍ تَرَكُوهُ وَتَرَكُوا غَيْرَهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَإِذَا نَهَاهُمْ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ وَفَعَلُوا غَيْرَهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ عِنَادًا لِلْحَقِّ وَبُغْضًا لاتباع المحقين وجراءة على الله سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِمْ إِلَّا السيف، وهو الحكم العدل لمن عائد الشَّرِيعَةَ الْمُطَهَّرَةَ وَجَعَلَ الْمُخَالَفَةَ لَهَا وَالتَّجَرُّؤَ عَلَى أَهْلِهَا دَيْدَنَهُ وَهَجِيرَاهُ «1» ، كَمَا يُشَاهَدُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى حَقٍّ وَقَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِذَا أُرْشِدُوا إِلَى السُّنَّةِ قَابَلُوهَا بِمَا لَدَيْهِمْ مِنَ الْبِدْعَةِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُتَلَاعِبُونَ بِالدِّينِ، الْمُتَهَاوِنُونَ بِالشَّرَائِعِ، وَهُمْ شَرٌّ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، لِأَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِالْبَاطِلِ، وَيَنْتَمُونَ

_ (1) . ديدنه وهجّيراه: دأبه وعادته وما يولع بذكره.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 109 إلى 113]

إلى البدع، ويتظهرون بِذَلِكَ غَيْرَ خَائِفِينَ وَلَا وَجِلِينَ، وَالزَّنَادِقَةُ قَدْ أَلْجَمْتُهُمْ سُيُوفُ الْإِسْلَامِ وَتَحَامَاهُمْ أَهْلُهُ، وَقَدْ يُنْفَقُ كَيْدُهُمْ وَيَتِمُّ بَاطِلُهُمْ وَكُفْرُهُمْ نَادِرًا عَلَى ضَعِيفٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ تَكَتُّمٍ وَتَحَرُّزٍ وَخِيفَةٍ وَوَجِلٍ، وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهِيَ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ وَقَطْعِ التَّطَرُّقِ إِلَى الشُّبَهِ. وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ عُدُوُّا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَأَبِي رَجَاءٍ وَقَتَادَةَ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُمْ بفتح العين وضم الدال وتشديد الْوَاوِ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ: أَيْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ زَيَّنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِ الْكُفَّارِ عَمَلَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَمْ يَنْتَهُوا عَنْهَا، وَلَا قَبِلُوا مِنَ الْمُرْسَلِينَ مَا أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِمْ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ أَيْ بَيِّنَةٌ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أَيْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ أَيْ مَنْ ضَلَّ فَعَلَيْها. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ دَارَسْتَ وَقَالَ: قَرَأْتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ دَرَسْتَ قَالَ: قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: دَارَسْتَ خَاصَمْتَ، جَادَلْتَ، تَلَوْتَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: كُفَّ عَنْهُمْ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ، نَسَخَهُ الْقِتَالُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابن عباس في قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا يقول الله تبارك وتعالى: لَوْ شِئْتُ لَجَمَعْتُهُمْ عَلَى الْهُدَى أَجْمَعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي بحفيظ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ: قَالُوا يَا مُحَمَّدُ لَتَنْتَهِيَنَّ عَنْ سَبِّكِ آلِهَتَنَا أَوْ لَنَهْجُوَنَّ رَبَّكَ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسُبُّوا أَوْثَانَهُمْ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَلْعُونٌ مَنْ سَبَّ وَالِدَيْهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أمه فيسبّ أمه» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 109 الى 113] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

_ (1) . النحل: 93. (2) . التوبة: 5.

قَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ أَيِ الْكُفَّارُ مُطْلَقًا، أَوْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَجَهْدُ الْأَيْمَانِ: أَشَدُّهَا، أَيْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ أَشَدَّ أَيْمَانِهِمُ الَّتِي بَلَغَتْهَا قُدْرَتُهُمْ، وَقَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ، فَلِهَذَا أَقْسَمُوا بِهِ، وَانْتِصَابُ جَهْدٍ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمَشَقَّةُ، وَبِضَمِّهَا الطَّاقَةُ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ يَجْعَلُهُمَا لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي كَانُوا يَقْتَرِحُونَهَا، وَأَقْسَمُوا لَئِنْ جَاءَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا لَيُؤْمِنُنَّ بِها وَلَيْسَ غَرَضُهُمُ الْإِيمَانَ، بَلْ مُعْظَمُ قَصْدِهِمُ التَّحَكُّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّلَاعُبُ بِآيَاتِ اللَّهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي يَقْتَرِحُونَهَا وَغَيْرُهَا وَلَيْسَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِنْ أَرَادَ إِنْزَالَهَا أَنْزَلَهَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يَنْزِلَهَا لَمْ يَنْزِلْهَا. قَوْلُهُ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَنَّهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قِرَاءَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَا يُشْعِرُكُمْ إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: الْمُخَاطَبُ بِهَذَا: الْمُشْرِكُونَ: أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ، ثُمَّ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ نَزَلَتِ الْآيَةُ لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ أَنَّها إِذا جاءَتْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، قَالَ الْخَلِيلُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى لَعَلَّهَا، وَفِي التَّنْزِيلِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى «1» أَيْ أَنَّهُ يَزَّكَّى. وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ: ائْتِ السُّوقَ أَنَّكَ تَشْتَرِي لَنَا شَيْئًا: أَيْ لَعَلَّكَ، ومنه قول عدي ابن زَيْدٍ: أَعَاذِلُ مَا يُدْرِيكَ أَنَّ مَنِيَّتِي ... إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ أَيْ لَعَلَّ مَنِيَّتِي، وَمِنْهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي ... أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدَا أَيْ لَعَلَّنِي، وَقَوْلُ أَبِي النَّجْمِ: قُلْتُ لَشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لقائه ... أنّ تغدّي اليوم من شوائه أَيْ لَعَلِّي، وَقَوْلُ جَرِيرٍ: هَلْ أَنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَأَنْ ... نَرَى الْعَرَصَاتِ أَوْ أَثَرَ الْخِيَامِ أي لعلنا اه. وَقَدْ وَرَدَتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا بِمَعْنَى لعل. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ لَا زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا: أَيِ الْآيَاتِ، إِذَا جَاءَتْ يُؤْمِنُونَ فَزِيدَتْ كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ «2» وفي

_ (1) . عبس: 3. (2) . الأنبياء: 95.

قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «1» وَضَعَّفَ الزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ وَغَيْرُهُمَا زِيَادَةَ لَا وَقَالُوا: هُوَ غَلَطٌ وَخَطَأٌ. وَذَكَرَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ أَوْ يُؤْمِنُونَ، ثُمَّ حَذَفَ هَذَا الْمُقَدَّرَ لِعِلْمِ السَّامِعِ. قَوْلُهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ معطوف على لا يُؤْمِنُونَ قيل: والمعنى: نقلّب أَفْئِدَتِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى لَهَبِ النَّارِ وَحَرِّ الْجَمْرِ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا فِي الدُّنْيَا وَنَذَرُهُمْ فِي الدُّنْيَا: أَيْ نُمْهِلُهُمْ وَلَا نُعَاقِبُهُمْ فَعَلَى هَذَا بَعْضُ الْآيَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَبَعْضُهَا فِي الدُّنْيَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيْ نَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ لَوْ جَاءَتْهُمْ تِلْكَ الْآيَةُ كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ عِنْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، والتقدير: أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا، وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ: أَيْ يَتَحَيَّرُونَ، وَالْكَافُ فِي كَما لَمْ يُؤْمِنُوا نعت مصدر محذوف، وما مصدرية، ويَعْمَهُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ كَمَا اقْتَرَحُوهُ بِقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ «2» ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُمْ بَعْدَ إِحْيَائِنَا لَهُمْ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ صَادِقٌ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَآمِنُوا بِهِ، لَمْ يُؤْمِنُوا وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا سَأَلُوهُ مِنَ الْآيَاتِ قُبُلًا أَيْ كُفُلًا وَضِمْنًا بِمَا جِئْنَاهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ قُبُلًا بِضَمِّ الْقَافِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ قِبَلًا بِكَسْرِهَا: أَيْ مُقَابَلَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: قِبَلًا بِمَعْنَى نَاحِيَةٍ، كَمَا تَقُولُ: لِي قِبَلَ فُلَانٍ مَالٌ، فَقُبُلًا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَيْ: يَضْمَنُونَ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ بِمَعْنَى قَبِيلٍ قَبِيلٍ أَيْ جَمَاعَةٍ جَمَاعَةٍ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: لَقِيتُ فُلَانًا قُبُلًا وَمُقَابَلَةً وَقِبَلًا كُلُّهُ وَاحِدٌ بِمَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الضَّمُّ كَالْكَسْرِ وَتَسْتَوِي الْقِرَاءَتَانِ. وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ، فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفْرَغٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ جَهْلًا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَرْكِ الْحَقِّ وَالْوُصُولِ إِلَى الصَّوَابِ. قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ هَذَا الْكَلَامُ لِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفْعِ مَا حَصَلَ مَعَهُ مِنَ الْحُزْنِ بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ، أَيْ مِثْلِ هَذَا الْجَعْلِ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا وَالْمَعْنَى: كَمَا ابْتَلَيْنَاكَ بِهَؤُلَاءِ فَقَدِ ابْتَلَيْنَا الْأَنْبِيَاءَ مِنْ قَبْلِكَ بِقَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ. فَجَعَلْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَدُوًّا مِنَ كفار زمنهم، وشَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بَدَلٌ مِنْ عَدُوًّا وَقِيلَ: هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِجَعَلْنَا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: الْجِنَّ وَالْإِنْسَ بِتَقْدِيمِ الْجِنِّ، وَالْمُرَادُ بِالشَّيَاطِينِ: الْمَرَدَةُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ أَوْ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَالْأَصْلُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ: الشَّيَاطِينُ، وَجُمْلَةُ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ حَالَ كَوْنِهِ يُوَسْوِسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَقِيلَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِ الْعَدُوِّ، وَسُمِّيَ وَحْيًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ خُفْيَةً بَيْنَهُمْ، وجعل تمويهم زخرف القول لتزيينهم إياه، والمزخرف: المزين، وزخارف الماء طرائقه، وغُرُوراً مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ يَغُرُّونَهُمْ بِذَلِكَ غُرُورًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، وَالْغُرُورُ: الْبَاطِلُ. قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى مَا ذُكِرَ سَابِقًا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي جَرَتْ مِنَ

_ (1) . الأعراف: 12. [.....] (2) . الأنعام: 8.

الْكُفَّارِ فِي زَمَنِهِ وَزَمَنِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، أَيْ: لَوْ شَاءَ رَبُّكَ عَدَمَ وُقُوعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَا فَعَلُوهُ وَأَوْقَعُوهُ وَقِيلَ: مَا فَعَلُوا الْإِيحَاءَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ فَذَرْهُمْ أَيِ اتْرُكْهُمْ، وهذا الأمر لتهديد للكفار كقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1» ، وَما يَفْتَرُونَ إِنْ كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً فَالتَّقْدِيرُ: اتْرُكْهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً فَالتَّقْدِيرُ: اتْرُكْهُمْ وَالَّذِي يَفْتَرُونَهُ. قَوْلُهُ: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ اللَّامُ فِي لِتَصْغَى لَامُ كَيْ، فَتَكُونُ عِلَّةً كَقَوْلِهِ يُوحِي وَالتَّقْدِيرُ. يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ لِيَغُرُّوهُمْ وَلِتَصْغَى وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ مُتَأَخِّرًا، أَيْ: لِتَصْغَى جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا، وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ لِلْأَمْرِ وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لَامُ الْأَمْرِ جزمت الْفِعْلُ، وَالْإِصْغَاءُ: الْمَيْلُ، يُقَالُ: صَغَوْتُ أَصْغُو صَغْوًا، وَصَغَيْتُ أُصْغِي وَيُقَالُ: صَغَيْتُ بِالْكَسْرِ وَيُقَالُ أَصْغَيْتُ الْإِنَاءَ: إِذَا أَمَلْتُهُ لِيَجْتَمِعَ مَا فِيهِ، وَأَصْلُهُ: الْمَيْلُ إِلَى الشَّيْءِ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَيُقَالُ صَغَتِ النُّجُومُ: إِذَا مَالَتْ لِلْغُرُوبِ، وَأَصْغَتِ النَّاقَةُ: إِذَا أَمَالَتْ رَأْسَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: تُصْغِي إِذَا شَدَّهَا بِالْكُوَرِ جَانِحَةٌ ... حَتَّى إِذَا ما استوى في غرزها تثب وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ لِزُخْرُفِ الْقَوْلِ، أَوْ لِمَا ذُكِرَ سَابِقًا مِنْ زُخْرُفِ الْقَوْلِ وَغَيْرِهِ: أَيْ أَوْحَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِيَغُرُّوهُمْ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَلِيَرْضَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ بَعْدَ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ مِنَ الْآثَامِ، وَالِاقْتِرَافُ: الِاكْتِسَابُ يُقَالُ: خَرَجَ لِيَقْتَرِفَ لِأَهْلِهِ: أَيْ لِيَكْتَسِبَ لَهُمْ، وَقَارَفَ فُلَانٌ هَذَا الْأَمْرَ: إِذَا وَاقَعَهُ، وَقَرَفَهُ: إِذَا رَمَاهُ بِالرِّيبَةِ، وَاقْتَرَفَ: كَذَبَ، وَأَصْلُهُ اقْتِطَاعُ قِطْعَةٍ مِنَ الشَّيْءِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي قُرَيْشٍ وَما يُشْعِرُكُمْ يَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! تُخْبِرُنَا أَنَّ موسى كان معه عصا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ، وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَنَّ ثَمُودَ لَهُمْ نَاقَةٌ، فَأْتِنَا مِنَ الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّ شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ» ؟ قَالُوا: تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، قَالَ: «فَإِنْ فَعَلْتُ تُصَدِّقُونِي» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لَنَتَّبِعَنَّكَ أَجْمَعُونَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ ذَهَبًا فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَنُعَذِّبَنَّهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ، فَقَالَ: «بَلْ يَتُوبُ تَائِبُهُمْ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: يَجْهَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ قَالَ: لَمَّا جَحَدَ الْمُشْرِكُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَمْ تَثْبُتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَرُدَّتْ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا قَالَ: مُعَايَنَةً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا أَيْ أَهْلُ الشَّقَاءِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أَيْ أَهْلُ السَّعَادَةِ وَالَّذِينَ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا

_ (1) . المدثر: 11.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 114 إلى 117]

أَيْ فَعَايَنُوا ذَلِكَ مُعَايَنَةً. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَفْوَاجًا قَبِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ قَالَ: إِنَّ لِلْجِنِّ شَيَاطِينَ يُضِلُّونَهُمْ مِثْلَ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ يُضِلُّونَهُمْ، فَيَلْتَقِي شَيْطَانُ الْإِنْسِ وَشَيْطَانُ الْجِنِّ، فَيَقُولُ هَذَا لِهَذَا: أَضْلِلْهُ بِكَذَا وَأُضَلِّلُهُ بِكَذَا، فَهُوَ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجِنُّ هُمُ الْجَانُّ وَلَيْسُوا شَيَاطِينَ، وَالشَّيَاطِينُ وَلَدُ إِبْلِيسَ وَهُمْ لَا يَمُوتُونَ إِلَّا مَعَ إِبْلِيسَ وَالْجِنُّ يَمُوتُونَ، فَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ وَمِنْهُمُ الْكَافِرُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْكَهَنَةُ هُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قَالَ: شَيَاطِينُ الْجِنِّ يُوحُونَ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينُ وَمِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينُ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ قَالَ: يحسن بعضهم لبعض القول يتبعوهم فِي فِتْنَتِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَهَلْ لِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ؟ قَالَ: نَعَمْ، شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس وَلِتَصْغى تميل. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عنه وَلِتَصْغى تزيغ وَلِيَقْتَرِفُوا يكتسبوا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 117] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) قَوْلُهُ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى فِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَالْكَلَامُ هُوَ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: كَيْفَ أضلّ وأبتغي غير الله حكما؟ وغير: مفعول لأبتغي مقدّم عليه، وحكما: الْمَفْعُولُ الثَّانِي أَوِ الْعَكْسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ حَكَمًا عَلَى الْحَالِ، وَالْحَكَمُ أَبْلَغُ مِنَ الْحَاكِمِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ الْمُشْتَقَّةِ. أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَكَمًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ كَيْفَ أَطْلُبُ حَكَمًا غَيْرَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْقُرْآنَ مُفَصَّلًا مُبَيَّنًا وَاضِحًا مُسْتَوْفِيًا لِكُلِّ قَضِيَّةٍ عَلَى التَّفْصِيلِ، ثُمَّ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْجُحُودَ وَالْمُكَابَرَةَ، فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا دَلَّتْهُمْ عَلَيْهِ كُتُبُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وأنه خاتم الأنبياء،

وبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا: أَيْ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ، ثُمَّ نهاه الله عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْحَقِّ، أَوْ نَهَاهُ عَنْ مُطْلَقِ الِامْتِرَاءِ وَيَكُونُ ذَلِكَ تَعْرِيضًا لِأُمَّتِهِ عَنْ أَنْ يَمْتَرِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، أَوِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، أَيْ: فَلَا يَكُونَنَّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ خِطَابَهُ خِطَابٌ لِأُمَّتِهِ. قَوْلُهُ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: كَلِمَةً، بِالتَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ: الْعِبَارَاتُ أَوْ مُتَعَلِّقَاتُهَا مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَتَمَّ وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، فَظَهَرَ الْحَقُّ وَانْطَمَسَ الْبَاطِلُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ أَوِ الْكَلِمَاتِ: القرآن، وصِدْقاً وَعَدْلًا مُنْتَصِبَانِ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوِ الْحَالِ أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: تَمَامُ صِدْقٍ وَعَدْلٍ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لَا خُلْفَ فِيهَا وَلَا مُغَيِّرَ لِمَا حَكَمَ بِهِ، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ وَهُوَ السَّمِيعُ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ الْعَلِيمُ بِكُلِّ مَعْلُومٍ. قَوْلُهُ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ إِذَا رَامَ طَاعَةَ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَضَلُّوهُ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَكُونُ إلا بيد الأقلين، وهم الطائفة التي لا تَزَالُ عَلَى الْحَقِّ وَلَا يَضُرُّهَا خِلَافُ مَنْ يُخَالِفُهَا، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ: الْكُفَّارُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: مَكَّةَ، أَيْ: أَكْثَرَ أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أَيْ: مَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ الَّذِي لَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَأَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَيْ وَمَا هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، أَيْ يَحْدِسُونَ وَيُقَدِّرُونَ، وَأَصْلُ الْخَرْصِ: الْقَطْعُ، وَمِنْهُ خَرَصَ النَّخْلَ يَخْرُصُ: إِذَا حَزَرَهُ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ، فَالْخَارِصُ يَقْطَعُ بِمَا لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِهِ إِذْ لَا يَقِينَ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ أَكْثَرِ مَنْ فِي الْأَرْضِ فَالْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ، فَاتَّبِعْ مَا أَمَرَكَ بِهِ وَدَعْ عَنْكَ طَاعَةَ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْعَالِمُ بِمَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَمَنْ يَهْتَدِي إِلَيْهِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ أَعْلَمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى يَعْلَمُ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ حاتم الطائي: تحالفت طَيُّ مِنْ دُونِنَا حِلْفًا ... وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا كنّا لهم خذلا وَالْوَجْهُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يَنْصِبُ الِاسْمَ الظَّاهِرَ، فَتَكُونُ مِنْ مَنْصُوبَةً بِالْفِعْلِ الَّذِي جُعِلَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ نَائِبًا عَنْهُ إِنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ عَلَى بَابِهِ وَالنَّصْبُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ وَقِيلَ: إِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَيْ إِنَّ رَبَّكَ أَعْلَمُ أَيُّ النَّاسِ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ: أَيْ بِمَنْ يَضِلُّ قَالَهُ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ جَرِّ بِإِضَافَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ إِلَيْهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مُفَصَّلًا قَالَ: مُبَيَّنًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: صِدْقاً وَعَدْلًا قال: صِدْقًا فِيمَا وَعَدَ، وَعَدْلًا فِيمَا حَكَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَأَبُو نَصْرٍ السجزي في الإبانة عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ قَالَ: لَا تَبْدِيلَ لِشَيْءٍ قَالَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ: مَا يُبَدَّلُ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 118 إلى 120]

الْقَوْلُ لَدَيَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ، فَجَعَلَ يَأْتِيهَا صَنَمًا صَنَمًا وَيَطْعَنُ فِي صَدْرِ الصَّنَمِ بِعَصَا ثم يعقره، فكلما صرع صنما أتبعه الناس ضربا بالفؤوس حَتَّى يَكْسِرُوهُ وَيَطْرَحُوهُ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَالنَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. [سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 120] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا يَصْنَعُهُ الْكُفَّارُ فِي الْأَنْعَامِ مِنْ تِلْكَ السُّنَنِ الْجَاهِلِيَّةِ أَمْرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ خَاصٍّ وَسَيَأْتِي، وَلَكِنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَكُلُّ مَا ذَكَرَ الذَّابِحُ عَلَيْهِ اسْمَ اللَّهِ حَلَّ إِنْ كَانَ مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ أَكْلَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِذِكْرِ اللَّهِ عَلَى الشَّرَابِ وَالذَّبْحِ وَكُلِّ مَطْعُومٍ، وَالشَّرْطُ فِي إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ لِلتَّهْيِيجِ وَالْإِلْهَابِ: أَيْ بِأَحْكَامِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِلْإِنْكَارِ: أَيْ مَا الْمَانِعُ لَكُمْ مِنْ أَكْلِ مَا سَمَّيْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أذن الله لكم بذلك وَالحال أن قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَيْ بَيَّنَ لَكُمْ بَيَانًا مُفَصَّلًا يَدْفَعُ الشَّكَّ وَيُزِيلُ الشُّبْهَةَ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً «2» إلى آخر الآية، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أَيْ: مِنْ جَمِيعِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ الضَّرُورَةَ تُحَلِّلُ الْحَرَامَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي الْبَقَرَةِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ بِفَتْحِ الْفِعْلَيْنِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالضَّمِّ فِيهِمَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ فَصَّلَ بِالتَّخْفِيفِ: أَيْ أَبَانَ وَأَظْهَرَ. قَوْلُهُ: وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَنَحْوَهُمَا. فَإِنَّهُمْ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْجَهْلِ كَانُوا يُضِلُّونَ النَّاسَ فَيَتْبَعُونَهُمْ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ وَضَلَالَةٌ لَا يرجع إلى شيء من العلم، ثُمَّ أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ. وَالظَّاهِرُ: مَا كَانَ يَظْهَرُ كَأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَالْبَاطِنُ: مَا كَانَ لَا يَظْهَرُ كَأَفْعَالِ الْقَلْبِ وَقِيلَ: مَا أَعْلَنْتُمْ وَمَا أَسْرَرْتُمْ وَقِيلَ: الزِّنَا الظَّاهِرُ وَالزِّنَا الْمَكْتُومُ. وَأَضَافَ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ إِلَى الْإِثْمِ لِأَنَّهُ يَتَسَبَّبُ عَنْهُمَا، ثُمَّ تَوَعَّدَ الْكَاسِبِينَ لِلْإِثْمِ بِالْجَزَاءِ بِسَبَبِ افْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وأبو الشيخ وابن

_ (1) . ق: 29. (2) . الأنعام: 145.

[سورة الأنعام (6) : آية 121]

مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: إِنَّا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَا وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ يَعْنِي: الْقُرْآنَ مُؤْمِنِينَ قَالَ: مُصَدِّقِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَعْنِي: الذَّبَائِحَ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ يَعْنِي: مَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيتَةِ وَإِنَّ كَثِيراً يَعْنِي: مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَعْنِي: فِي أَمْرِ الذَّبَائِحِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أَيْ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ قَالَ: هُوَ نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَباطِنَهُ قَالَ: هُوَ الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الظاهر منه: لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» وحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ «2» الْآيَةَ، وَالْبَاطِنُ: الزِّنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: عَلَانِيَتُهُ وَسِرُّهُ. [سورة الأنعام (6) : آية 121] وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِالْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَنَافِعٌ مَوْلَاهُ وَالشَّعْبِيُّ وابن سيرين وهو رواية عن مالك وعن أحمد بْنِ حَنْبَلٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ: أَنَّ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ حَرَامٌ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الصَّيْدِ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ «3» ، وَيَزِيدُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ تَأْكِيدًا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْأَمْرُ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ لَا وَاجِبَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ الْآيَةَ عَلَى مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْآيَةِ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي الْمُرْسَلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ، ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ» . وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمُرْسَلِ مَا يَصْلُحُ لِتَخْصِيصِ الْآيَةِ، نَعَمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانٍ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا» يُفِيدُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الْأَكْلِ تُجْزِئُ مَعَ الْتِبَاسِ وُقُوعِهَا عِنْدَ الذَّبْحِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ إن

_ (1) . النساء: 22. (2) . النساء: 23. (3) . المائدة: 4.

تُرِكَتْ نِسْيَانًا لَمْ تَضُرَّ، وَإِنْ تُرِكَتْ عَمْدًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ الذَّبِيحَةِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي مَالِكٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ إِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْهُ» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَفْعُهُ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ قَوْلِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ نَعَمْ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا «1» كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «اسْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، قَدْ ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى مَا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ: وَإِنَّ أَكْلَ مَا لَمْ يُذْكَرْ لَفِسْقٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَصْدَرِ تَأْكُلُوا: أَيْ فَإِنَّ الْأَكْلَ لَفِسْقٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْفِسْقِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ حَمَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ التَّرْكَ لَا يَكُونُ فِسْقًا، بَلِ الْفِسْقُ الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْفِسْقِ عَلَى تَارِكِ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْتَنَعٍ شَرْعًا وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ أَيْ يُوَسْوِسُونَ لَهُمْ بِالْوَسَاوِسِ الْمُخَالِفَةِ لِلْحَقِّ الْمُبَايِنَةِ لِلصَّوَابِ قَاصِدِينَ بِذَلِكَ أَنْ يُجَادِلَكُمْ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءُ بِمَا يُوَسْوِسُونَ لَهُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَكُمْ بِهِ وَيَنْهَوْنَكُمْ عَنْهُ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ مِثْلَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ، وَفِي لَفْظٍ: قَالَ الْيَهُودُ: لَا تَأْكُلُوا مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ وَتَأْكُلُوا مِمَّا قَتَلْتُمْ أَنْتُمْ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَرْسَلَتْ فَارِسُ إِلَى قُرَيْشٍ أَنْ خَاصِمُوا مُحَمَّدًا، فَقَالُوا لَهُ: مَا تَذْبَحُ أَنْتَ بِيَدِكَ بِسِكِّينٍ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا ذَبَحَ الله بمسمار مِنْ ذَهَبٍ- يَعْنِي الْمَيْتَةَ- فَهُوَ حَرَامٌ، فَنَزَلَتْ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ قَالَ: الشَّيَاطِينُ مِنْ فَارِسَ وَأَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ قَالَ: إِبْلِيسُ أَوْحَى إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ فَنُسِخَ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ قَالَ: كُلُوا ذَبَائِحَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَكْحُولٍ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي النَّسْخِ.

_ (1) . البقرة: 286.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 122 إلى 124]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 124] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) قَوْلُهُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْوَاوِ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ أَبِي نُعَيْمٍ بِإِسْكَانِهَا، قَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى: أَيِ انْظُرُوا وَتَدَبَّرُوا: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً «1» أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَالْمُرَادُ بِالْمَيِّتِ هُنَا: الْكَافِرُ أَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: كَانَ مَيْتًا حِينَ كَانَ نُطْفَةً فَأَحْيَيْنَاهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ السِّيَاقَ يُشْعِرُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي تَنْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ اتِّبَاعِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَثِيرًا مَا تُسْتَعَارُ الْحَيَاةُ للهداية وللعلم، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ ... فَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ وَإِنَّ امْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ ... فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ وَالنُّورُ: عِبَارَةٌ عَنِ الْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ، وَقِيلَ: هُوَ النُّورُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ «2» وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إِلَى النُّورِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ أَيْ: كَمَنْ صِفَتُهُ فِي الظُّلُمَاتِ، وَمَثَلُهُ: مُبْتَدَأٌ، وَالظُّلُمَاتُ: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ: صِفَةٌ لِمَنْ وَقِيلَ: مِثْلُ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: كَمَنْ فِي الظُّلُمَاتِ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا أَكْرَمُ مِنْ مِثْلِكَ، أَيْ: مِنْكَ، وَمِثْلُهُ: فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ «3» ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «4» وَقِيلَ الْمَعْنَى: كَمَنْ مَثَلُهُ مِثْلَ مَنْ هُوَ في الظلمات، ولَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْجَعْلِ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ، وَالْأَكَابِرُ: جَمْعُ أَكْبَرَ، قِيلَ: هُمُ الرُّؤَسَاءُ وَالْعُظَمَاءُ، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَقْدَرُ عَلَى الْفَسَادِ، وَالْمَكْرُ: الْحِيلَةُ فِي مُخَالَفَةِ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَصْلُهُ الْفَتْلُ، فَالْمَاكِرُ يَفْتِلُ عن الاستقامة أي: يصرف عنه وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ أَيْ: وَبَالُ مَكْرِهِمْ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَما يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ لِفَرْطِ جَهْلِهِمْ وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ مِنَ الْآيَاتِ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ يُرِيدُونَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، وَهَذَا نَوْعٌ عَجِيبٌ مِنْ جَهَالَاتِهِمُ الْغَرِيبَةِ وَعَجْرَفَتِهِمُ الْعَجِيبَةِ، وَنَظِيرُهُ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً «5» . وَالْمَعْنَى: إِذَا جَاءَتِ الْأَكَابِرَ آيَةٌ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أَيْ إِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَجْعَلَهُ رَسُولًا وَيَكُونُ مَوْضِعًا لَهَا وَأَمِينًا عَلَيْهَا، وَقَدِ اخْتَارَ أَنْ يَجْعَلَ الرِّسَالَةَ فِي مُحَمَّدٍ صَفِيِّهِ وَحَبِيبِهِ، فَدَعُوا طَلَبَ ما ليس من شأنكم، ثم تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ أَيْ ذُلٌّ وَهَوَانٌ، وَأَصْلُهُ مِنَ الصِّغَرِ كَأَنَّ الذُّلَّ يُصَغِّرُ إِلَى الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَقِيلَ: الصَّغَارُ هُوَ

_ (1) . الأنعام: 114. (2) . الحديد: 12. (3) . المائدة: 95. (4) . الشورى: 11. (5) . المدثر: 52.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 125 إلى 128]

الرِّضَا بِالذُّلِّ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ قَالَ: كَانَ كَافِرًا ضَالًّا فَهَدَيْنَاهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً وهو الْقُرْآنُ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها يَعْنِي أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ كَانَا مَيِّتَيْنِ فِي ضَلَالَتِهِمَا فَأَحْيَا اللَّهُ عُمَرَ بِالْإِسْلَامِ وَأَعَزَّهُ، وَأَقَرَّ أَبَا جَهْلٍ فِي ضَلَالَتِهِ وَمَوْتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: سَلَّطْنَا شِرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَكابِرَ مُجْرِمِيها عظماؤها. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ الْآيَةَ قَالَ: قَالُوا لِمُحَمَّدٍ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ: لَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا لَكَانَ فِينَا مَنْ هُوَ أَحَقُّ أَنْ يُؤْتَى بِهِ مِنْ مُحَمَّدٍ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا قَالَ: أَشْرَكُوا صَغارٌ قال: هوان. [سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 128] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) قَوْلُهُ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ الشَّرْحُ: الشَّقُّ وَأَصْلُهُ التَّوْسِعَةُ، وَشَرَحْتُ الْأَمْرَ: بَيَّنْتُهُ وَأَوْضَحْتُهُ، وَالْمَعْنَى: مَنْ يَرُدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ لِلْحَقِّ يُوَسِّعْ صَدْرَهُ حَتَّى يَقْبَلَهُ بِصَدْرٍ مُنْشَرِحٍ، وَمَنْ يُرِدْ إِضْلَالَهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ضَيِّقاً بِالتَّخْفِيفِ مِثْلَ هَيْنٍ وَلَيْنٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ حَرِجًا بِالْكَسْرِ، وَمَعْنَاهُ الضَّيِّقُ، كَرَّرَ الْمَعْنَى تَأْكِيدًا، وَحَسَّنَ ذَلِكَ اخْتِلَافُ اللَّفْظِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ: جَمْعُ حَرَجَةٍ وَهِيَ شِدَّةُ الضَّيِّقِ، وَالْحَرَجَةُ الغيضة، والجمع حرج

_ (1) . الزخرف: 31. [.....]

وَحُرُجَاتٍ، وَمِنْهُ فُلَانٌ يَتَحَرَّجُ: أَيْ يُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَكَانٌ حَرِجٌ وَحَرَجٌ: أَيْ ضَيِّقٌ كَثِيرُ الشَّجَرِ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الرَّاعِيَةُ، وَالْحَرِجُ: الْإِثْمُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَرَجُ: أَضْيَقُ الضِّيقِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: حَرِجٌ اسْمُ الْفَاعِلِ وَحَرَجٌ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ. قَوْلُهُ: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الصُّعُودِ، شَبَّهَ الْكَافِرَ فِي ثِقَلِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ بِمَنْ يَتَكَلَّفُ مَا لَا يُطِيقُهُ كَصُعُودِ السَّمَاءِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ «يَصَّاعَدُ» وَأَصْلُهُ يَتَصَاعَدُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَصَّعَّدُ بِالتَّشْدِيدِ وَأَصْلُهُ يَتَصَعَّدُ، وَمَعْنَاهُ: يَتَكَلَّفُ مَا لَا يُطِيقُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كَمَا يَتَكَلَّفُ مَنْ يُرِيدُ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ: كَادَ قَلْبُهُ يصعد إلى السماء نبوّا عن الإسلام، وما: فِي كَأَنَّما هِيَ الْمُهَيِّئَةُ لِدُخُولِ كَأَنَّ عَلَى الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ. قَوْلُهُ: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ: أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْجَعْلِ الَّذِي هُوَ جَعْلُ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ. وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: النَّتْنُ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَذَابُ، وَقِيلَ: هُوَ الشَّيْطَانُ يُسَلِّطُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى جَمِيعِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ إِلَى مَا عليه النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: هَذَا طَرِيقُ دِينِ رَبِّكَ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ، أَيْ: هَذَا هُوَ عَادَةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَانْتِصَابُ مُسْتَقِيماً عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «1» ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً «2» ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أَيْ بَيَّنَّاهَا وَأَوْضَحْنَاهَا لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ مَا فِيهَا وَيَتَفَهَّمُونَ مَعَانِيهَا لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الْمُتَذَكِّرِينَ الْجَنَّةَ لِأَنَّهَا دَارُ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، أَوْ دَارُ الرَّبِّ السَّلَامُ مُدَّخَرَةٌ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُوصِلُهُمْ إِلَيْهَا وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أَيْ نَاصِرُهُمْ، وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ بِسَبَبِ أعمالهم. قوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ يُقَدَّرُ مُتَقَدِّمًا: أَيْ واذكر يوم نحشرهم أو وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ نقول: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ، وَالْمُرَادُ حَشْرُ جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْشَرُ: الْجَمَاعَةُ، أَيْ: يَوْمُ الْحَشْرِ نَقُولُ: يَا جَمَاعَةَ الْجِنِّ! قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أَيْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ «3» وَقِيلَ: اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ حَتَّى صَارُوا فِي حُكْمِ الْأَتْبَاعِ لَكُمْ فَحَشَرْنَاهُمْ مَعَكُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمُ: اسْتَكْثَرَ الْأَمِيرُ مِنَ الْجُنُودِ، وَالْمُرَادُ: التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِمْتَاعِ التَّلَذُّذُ مِنَ الْجِنِّ بِطَاعَةِ الْإِنْسِ لَهُمْ وَدُخُولِهِمْ فِيمَا يُرِيدُونَ مِنْهُمْ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَلَذُّذِهِمْ بِاتِّبَاعِهِمْ لَهُمْ، وَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ فَحَيْثُ قَبِلُوا مِنْهُمْ تَحْسِينَ الْمَعَاصِي فَوَقَعُوا فِيهَا وَتَلَذَّذُوا بِهَا، فَذَلِكَ هُوَ اسْتِمْتَاعُهُمْ بِالْجِنِّ وَقِيلَ: اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ الرَّجُلُ بِوَادٍ فِي سَفَرِهِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ قَالَ: أَعُوذُ بِرَبِّ هَذَا الْوَادِي مِنْ جَمِيعِ مَا أَحْذَرُ، يَعْنِي رَبَّهُ مِنَ الْجِنِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً «4» وَقِيلَ: اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَدِّقُونَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْغَيْبِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، وَاسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَذَّذُونَ بِمَا يُلْقُونَهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَيَنَالُونَ بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْ حظوظ

_ (1) . البقرة: 91. (2) . هود: 72. (3) . الأنعام: 128. (4) . الجن: 6.

الدُّنْيَا كَالْكُهَّانِ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْتِرَافًا مِنْهُمْ بِالْوُصُولِ إِلَى مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِمَّا كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ. وَلَمَّا قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَجَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَ قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ أَيْ: مَوْضِعُ مَقَامِكُمْ. وَالْمَثْوَى: الْمَقَامُ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ. قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ: أَنَّهُمْ يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَشَاءُ اللَّهُ عَدَمَ بَقَائِهِمْ فِيهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْ: خَالِدِينَ فِي النَّارِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ مِقْدَارِ حَشْرِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَمِقْدَارِ مُدَّتِهِمْ فِي الْحِسَابِ، وَهُوَ تَعَسُّفٌ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُوَ مِنَ الْخُلُودِ الدَّائِمِ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى النَّارِ أَيْ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ بِغَيْرِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَالزَّمْهَرِيرِ وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ لأهل الإيمان، وما بِمَعْنَى مِنْ أَيْ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ إِيمَانَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ عَذَابٍ. وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ مُتَكَلَّفَةٌ، وَالَّذِي أَلْجَأَ إِلَيْهَا مَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ خُلُودِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ أَبَدًا، وَلَكِنْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ عَامٍّ وَخَاصٍّ لَا سِيَّمَا بَعْدَ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ مُكَرَّرًا كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ هُودٍ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «1» وَلَعَلَّهُ يَأْتِي هُنَالِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَائِنِيِّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَيْسَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قَالُوا: كَيْفَ يَشْرَحُ صَدْرَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: «نُورٌ يُقْذَفُ فِيهِ فَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لَهُ وَيَنْفَسِحُ لَهُ» ، قَالُوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟ قَالَ: «الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَوْتِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ فُضَيْلٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُسْتَوْرِدِ، وَكَانَ مِنْ وَلَدِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَهَذِهِ الطُّرُقُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالْمُتَّصِلُ يُقَوِّي الْمُرْسَلَ، فَالْمَصِيرُ إِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ النَّبَوِيِّ مُتَعَيَّنٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ ابْنُ آدَمَ أَنْ يَبْلُغَ السَّمَاءَ، كَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ قَلْبَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضِلَّهُ يُضَيِّقْ عَلَيْهِ حَتَّى يَجْعَلَ الْإِسْلَامَ عَلَيْهِ ضَيِّقًا، وَالْإِسْلَامُ وَاسِعٌ، وَذَلِكَ حين يقول: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» يَقُولُ: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ ضِيقٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: دارُ السَّلامِ قَالَ: الْجَنَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: السَّلَامُ: هُوَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أبو الشيخ عن السدّي

_ (1) . هود: 107. (2) . الحج: 78.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 129 إلى 132]

قَالَ: اللَّهُ هُوَ السَّلَامُ، وَدَارُهُ الْجَنَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ يَقُولُ: مِنْ ضَلَالَتِكُمْ إِيَّاهُمْ، يَعْنِي: أَضْلَلْتُمْ مِنْهُمْ كَثِيرًا، وَفِي قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى اللَّهِ فِي خَلْقِهِ لَا يُنْزِلُهُمْ جنّة ولا نارا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 129 الى 132] وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أَيْ: مِثْلُ مَا جَعَلْنَا بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَا سَلَفَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً وَالْمَعْنَى: نَجْعَلُ بَعْضَهُمْ يَتَوَلَّى الْبَعْضَ فَيَكُونُونَ أَوْلِيَاءَ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا، ثُمَّ يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْبَعْضِ، فَمَعْنَى نُوَلِّي عَلَى هَذَا: نَجْعَلُهُ وَلِيًّا لَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: مَعْنَاهُ: نُسَلِّطُ ظَلَمَةَ الْجِنِّ عَلَى ظَلَمَةِ الْإِنْسِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّ الْمَعْنَى: نُسَلِّطُ بَعْضَ الظَّلَمَةِ عَلَى بَعْضٍ فَيُهْلِكُهُ وَيُذِلُّهُ، فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا تَهْدِيدٌ لِلظَّلَمَةِ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ ظُلْمِهِ مِنْهُمْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ ظَالِمًا آخَرَ. وَقَالَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إِذَا رَأَيْتَ ظَالِمًا يَنْتَقِمُ مِنْ ظَالِمٍ فَقِفْ وَانْظُرْ مُتَعَجِّبًا. وَقِيلَ مَعْنَى نُوَلِّي: نَكِلُ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِيمَا يَخْتَارُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَكْسِبُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ لِلذُّنُوبِ وَلَّيْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا. قَوْلُهُ: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أَيْ: يوم نحشرهم نقول لهم: لَمْ يَأْتِكُمْ أَوْ هُوَ شُرُوعٌ فِي حِكَايَةِ مَا سَيَكُونُ فِي الْحَشْرِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْجِنِّ رُسُلًا مِنْهُمْ، كَمَا يَبْعَثُ إِلَى الْإِنْسِ رُسُلًا مِنْهُمْ وَقِيلَ: مَعْنَى مِنْكُمْ: أَيْ مِمَّنْ هُوَ مُجَانِسٌ لَكُمْ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْلِيفِ، وَالْقَصْدِ بِالْمُخَاطَبَةِ، فَإِنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مُتَحِدُونَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ خَاصَّةً فَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ مِنْ تِلْكَ الْحَيْثِيَّةِ وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ تَغْلِيبِ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ كَمَا يُغَلَّبُ الذَّكَرُ عَلَى الأنثى وقيل: المراد بالرسل إلى الجنّ ها هنا هُمُ النُّذُرُ مِنْهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «1» . قوله: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي صفة أخرى لرسل، وقد تقدّم بيان معنى القصّ. قوله: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا هَذَا إِقْرَارٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ لَازِمَةٌ لَهُمْ بِإِرْسَالِ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ، وَالْجُمْلَةُ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَجُمْلَةُ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ هِيَ جملة معترضة شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ هَذِهِ شَهَادَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا بِالرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ وَالْآيَاتِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُفِيدُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْكُفْرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَمِثْلَ قَوْلِهِمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ فِي بَعْضِ مُوَاطِنِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُنْكِرُونَ فِي بَعْضٍ آخَرَ لِطُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَاضْطِرَابِ الْقُلُوبِ فِيهِ وَطَيَشَانِ الْعُقُولِ، وانغلاق الأفهام وتبلّد الأذهان، والإشارة بقوله:

_ (1) . الأحقاف: 29. (2) . الأنعام: 23.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 إلى 137]

ذلِكَ إِلَى شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ إِلَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ. وَأَنْ فِي أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ. وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ أَنَّ الشَّأْنَ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى، أَوْ هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ، وَالْبَاءُ فِي بِظُلْمٍ سَبَبِيَّةٌ: أَيْ لَمْ أَكُنْ أُهْلِكُ الْقُرَى بِسَبَبِ ظُلْمِ مَنْ يَظْلِمُ مِنْهُمْ، وَالْحَالُ أَنَّ أَهْلَهَا غَافِلُونَ، لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَى عِبَادِهِ لِأَنَّهُ لَا يُهْلِكُ مَنْ عَصَاهُ بِالْكُفْرِ مِنَ الْقُرَى، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، بَلْ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَارْتِفَاعِ الْغَفْلَةِ عَنْهُمْ بِإِنْذَارِ الْأَنْبِيَاءِ لَهُمْ وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَا كَانَ اللَّهُ مُهْلِكَ أَهْلَ الْقُرَى بِظُلْمٍ مِنْهُ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَعَالَى عَنِ الظُّلْمِ بَلْ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بَعْدَ أَنْ يَسْتَحِقُّوا ذَلِكَ وَتَرْتَفِعَ الْغَفْلَةُ عَنْهُمْ بِإِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ أَهْلَ الْقُرَى بِسَبَبِ ظُلْمِ مَنْ يَظْلِمُ مِنْهُمْ مَعَ كَوْنِ الْآخَرِينَ غَافِلِينَ عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «2» ، وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أَيْ لِكُلٍّ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ مِمَّا عَمِلُوا فَنُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ «3» ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُطِيعَ مِنَ الْجِنِّ فِي الْجَنَّةِ، وَالْعَاصِي فِي النَّارِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْغَفْلَةُ: ذَهَابُ الشَّيْءِ عَنْكَ لِاشْتِغَالِكَ بِغَيْرِهِ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «تَعْمَلُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً قَالَ: يُوَلِّي اللَّهُ بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا فِي الدُّنْيَا، يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ مِثْلَ مَا حَكَيْنَا عَنْهُ قَرِيبًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: إِذَا فَسَدَ الزَّمَانُ أُمِّرَ عَلَيْهِمْ شِرَارُهُمْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ هَاشِمٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا تَكُونُونَ كَذَلِكَ يُؤَمَّرُ عَلَيْكُمْ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا مُنْقَطِعٌ، وَيَحْيَى ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله: سُلٌ مِنْكُمْ قَالَ: لَيْسَ فِي الْجِنِّ رُسُلٌ، وَإِنَّمَا الرُّسُلُ فِي الْإِنْسِ، وَالنِّذَارَةُ فِي الْجِنِّ، وَقَرَأَ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «4» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْجِنُّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ أَيْضًا عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ: مُسْلِمُو الْجِنِّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا النَّارَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ أَبَاهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ فَلَا يُعِيدُهُ وَلَا يُعِيدُ وَلَدَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْخَلْقُ أَرْبَعَةٌ: فَخَلْقٌ فِي الْجَنَّةِ كُلُّهُمْ، وَخَلْقٌ فِي النَّارِ كُلُّهُمْ، وَخَلْقَانِ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي الْجَنَّةِ كُلُّهُمْ فَالْمَلَائِكَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي النَّارِ كُلُّهُمْ فَالشَّيَاطِينُ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ، لَهُمُ الثَّوَابُ وعليهم العقاب. [سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 137] وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137)

_ (1) . الإسراء: 15. (2) . الأنعام: 164. (3) . الأحقاف: 19. (4) . الأحقاف: 29.

قَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ أَيْ عَنْ خَلْقِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ وَلَا إِلَى عِبَادَتِهِمْ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُ كُفْرُهُمْ وَمَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُمْ، فَهُوَ ذُو رَحْمَةٍ بِهِمْ لَا يَكُونُ غِنَاهُ عَنْهُمْ مَانِعًا مِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ الرَّبَّانِيَّ وَأَبْلَغَهُ! وَمَا أَقْوَى الاقتران بين الغنى والرحمن فِي هَذَا الْمَقَامِ! فَإِنَّ الرَّحْمَةَ لَهُمْ مَعَ الْغِنَى عَنْهُمْ هِيَ غَايَةُ التَّفَضُّلِ وَالتَّطَوُّلِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الْعِبَادُ الْعُصَاةُ فَيَسْتَأْصِلْكُمْ بِالْعَذَابِ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِكُمْ مَا يَشاءُ مِنْ خَلْقِهِ مِمَّنْ هُوَ أَطْوَعُ لَهُ وَأَسْرَعُ إِلَى امْتِثَالِ أَحْكَامِهِ مِنْكُمْ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ الْكَافُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ وَيَسْتَخْلِفُ اسْتِخْلَافًا مِثْلَ إِنْشَائِكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ، قِيلَ: هُمْ أَهْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ فَلَمْ يُهْلِكْهُمْ وَلَا اسْتَخْلَفَ غَيْرَهُمْ رَحْمَةً لَهُمْ وَلُطْفًا بِهِمْ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْمُجَازَاةِ لَآتٍ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ بِفَائِتِينَ عَنْ مَا هُوَ نَازِلٌ بِكُمْ، وَوَاقِعٌ عَلَيْكُمْ: يُقَالُ أَعْجَزَنِي فُلَانٌ: أَيْ فَاتَنِي وغلبني. قوله: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ الْمَكَانَةُ: الطَّرِيقَةُ، أَيِ اثْبُتُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَإِنِّي غَيْرُ مُبَالٍ بِكُمْ وَلَا مُكْتَرِثٍ بِكُفْرِكُمْ، إِنِّي ثَابِتٌ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ عَلَى الْحَقِّ وَمَنْ هُوَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، فَلَا يَرِدُ مَا يُقَالُ كَيْفَ يأمرهم بالثبات على الكفر؟ وعاقِبَةُ الدَّارِ هِيَ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ الَّتِي يُحْمَدُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا: أَيْ مَنْ لَهُ النَّصْرُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَمَنْ لَهُ وِرَاثَةُ الْأَرْضِ، وَمَنْ لَهُ الدَّارُ الْآخِرَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى مَكَانَتِكُمْ: تَمَكُّنُكُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيِ اعْمَلُوا عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقِيلَ: عَلَى نَاحِيَتِكُمْ، وَقِيلَ: عَلَى مَوْضِعِكُمْ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: مَنْ يَكُونُ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْفَوْقِيَّةِ. وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لِلشَّأْنِ، أَيْ: لَا يُفْلِحُ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الظُّلْمِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِعَدَمِ فَلَاحِهِمْ لِكَوْنِهِمُ الْمُتَّصِفِينَ بِالظُّلْمِ. قَوْلُهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً هَذَا بَيَانُ نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم وإيثارهم لِآلِهَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ: أَيْ جَعَلُوا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا خَلَقَ مِنْ حَرْثِهِمْ وَنِتَاجِ دَوَابِّهِمْ نَصِيبًا وَلِآلِهَتِهِمْ نَصِيبًا مِنْ ذَلِكَ يَصْرِفُونَهُ فِي سَدَنَتِهَا وَالْقَائِمِينَ بِخِدْمَتِهَا، فَإِذَا ذَهَبَ مَا لِآلِهَتِهِمْ بِإِنْفَاقِهِ فِي ذَلِكَ عَوَّضُوا عَنْهُ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ، وَقَالُوا: اللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ. وَالزَّعْمُ: الْكَذِبُ. قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالسُّلَمِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ بِزَعْمِهِمْ بِضَمِّ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أَيْ إِلَى الْمَصَارِفِ الَّتِي شَرَعَ اللَّهُ الصَّرْفَ فِيهَا كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ،

وَقِرَى الضَّيْفِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ أَيْ يَجْعَلُونَهُ لِآلِهَتِهِمْ وَيُنْفِقُونَهُ فِي مَصَالِحِهَا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ أَيْ سَاءَ الْحُكْمُ حُكْمُهُمْ فِي إِيثَارِ آلِهَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ذَبَحُوا مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ ذَكَرُوا عَلَيْهِ اسْمَ أَصْنَامِهِمْ، وَإِذَا ذَبَحُوا مَا لِأَصْنَامِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا عَلَيْهِ اسْمَ اللَّهِ، فَهَذَا مَعْنَى الْوُصُولِ إِلَى اللَّهِ، وَالْوُصُولِ إِلَى شُرَكَائِهِمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي ذَرَأَ. قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الَّذِي زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ فِي قِسْمَةِ أَمْوَالِهِمْ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ شُرَكَائِهِمْ زَيَّنَ لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: شُرَكَاؤُهُمْ هَاهُنَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَخْدُمُونَ الْأَوْثَانَ وَقِيلَ: هُمُ الْغُوَاةُ مِنَ النَّاسِ وَقِيلَ: هُمُ الشَّيَاطِينُ، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْوَأْدِ، وَهُوَ دَفْنُ الْبَنَاتِ مَخَافَةَ السَّبْيِ وَالْحَاجَةِ وَقِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ وُلِدَ لَهُ كَذَا مِنَ الذُّكُورِ لَيَنَحَرَنَّ أَحَدَهُمْ كَمَا فَعَلَهُ عَبْدُ الْمَطَّلِبِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ زَيَّنَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ قَتْلَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ زَيَّنَ، وَجَرِّ أَوْلَادِ بِإِضَافَةِ قَتْلَ إِلَيْهِ، وَرَفْعِ شُرَكاؤُهُمْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ زَيَّنَ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِضَمِّ الزَّايِ وَرَفْعِ قَتْلَ، وَخَفْضِ أَوْلَادِ، وَرَفْعِ شُرَكَاؤُهُمْ عَلَى أَنَّ قَتْلَ هُوَ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَرَفْعُ شُرَكَاؤُهُمْ بِتَقْدِيرِ يَجْعَلُ يَرْجِعُهُ: أَيْ زَيَّنَهُ شُرَكَاؤُهُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لِيَبْكِ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مَا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ أَيْ يَبْكِيهِ ضَارِعٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ بِضَمِّ الزَّايِ، وَرَفْعِ قَتْلَ، وَنَصْبِ أَوْلَاد، وَخَفْضِ شُرَكَائِهِمْ عَلَى أَنَّ قَتْلَ مُضَافٌ إِلَى شُرَكَائِهِمْ، وَمَعْمُولُهُ أَوْلَادُهُمْ فَفِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَا هُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ، وَمِثْلُهُ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَمُرُّ على ما تستمرّ وقد شفت ... غلائل عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْهَا صُدُورِهَا بِجَرِّ صُدُورِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: شفت عبد القيس غلائل صُدُورِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: إِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَا تَجُوزُ فِي كَلَامٍ وَلَا فِي شِعْرٍ، وَإِنَّمَا أَجَازَ النَّحْوِيُّونَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالظَّرْفِ فِي الشِّعْرِ لِاتِّسَاعِهِمْ فِي الظُّرُوفِ، وَهُوَ أَيِ: الْفَصْلُ بِالْمَفْعُولِ بِهِ فِي الشِّعْرِ بَعِيدٌ، فَإِجَازَتُهُ فِي الْقُرْآنِ أَبْعَدُ. وَقَالَ أَبُو غَانِمٍ أحمد ابن حِمْدَانَ النَّحْوِيُّ: إِنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ هَذِهِ لَا تَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَهِيَ زَلَّةُ عَالِمٍ، وَإِذَا زَلَّ الْعَالِمُ لَمْ يَجُزِ اتِّبَاعُهُ وَرُدَّ قَوْلُهُ إِلَى الْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا أَجَازُوا فِي الضَّرُورَةِ لِلشَّاعِرِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالظَّرْفِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: كَمَا خَطَّ الْكِتَابَ بِكَفِّ يَوْمًا ... يَهُودِيٍّ يُقَارِبُ أَوْ يُزِيلُ وَقَوْلِ الْآخَرِ: ... لِلَّهِ دَرُّ الْيَوْمَ مَنْ لَامَهَا «1» وَقَالَ قَوْمٌ مِمَّنِ انْتَصَرَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ: إِنَّهَا إِذَا ثَبَتَتْ بالتواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فهي فصيحة لا قبيحة. قالوا:

_ (1) . وصدره: لمّا رأت ساتيد ما استعبرت. والبيت لعمرو بن قميئة. «ساتيد ما» : اسم جبل.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 138 إلى 140]

وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَفِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شُرَكائِهِمْ بِالْيَاءِ. وَأَقُولُ: دَعْوَى التَّوَاتُرِ بَاطِلَةٌ بِإِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ الْمُعْتَبَرِينَ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، فَمَنْ قَرَأَ بِمَا يُخَالِفُ الْوَجْهَ النَّحْوِيَّ فَقِرَاءَتُهُ رَدٌّ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ لِصِحَّةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْفَصْلِ فِي النَّظْمِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَزَجَجْتُهَا بِمَزْجَةٍ ... زَجَّ الْقَلُوصِ أَبِي مَزَادَهْ فَإِنَّ ضَرُورَةَ الشِّعْرِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَفِي الْآيَةِ قِرَاءَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ جَرُّ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الشُّرَكَاءَ بَدَلٌ من الأولاد لكونهم شركاءهم فِي النَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ. قَوْلُهُ: لِيُرْدُوهُمْ اللَّامُ لَامُ كَيْ أَيْ: لِكَيْ يُرْدُوهُمْ مِنَ الْإِرْدَاءِ وَهُوَ الْإِهْلَاكُ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ: أَيْ فَعَلُوا ذَلِكَ التَّزْيِينَ لِإِهْلَاكِهِمْ وَلِخَلْطِ دِينِهِمْ عَلَيْهِمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ فِعْلِهِمْ مَا فَعَلُوهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ فَدَعْهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ فَذَلِكَ لَا يَضُرُّكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: الذَّرِّيَّةُ: الْأَصْلُ، وَالذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ قَالَ: بِسَابِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: عَلى مَكانَتِكُمْ قَالَ: عَلَى نَاحِيَتِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ الْآيَةَ قَالَ: جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْ ثِمَارِهِمْ وَمَائِهِمْ نَصِيبًا وَلِلشَّيْطَانِ وَالْأَوْثَانِ نَصِيبًا، فَإِنْ سَقَطَ مِنْ ثَمَرِهِ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فِي نَصِيبِ الشَّيْطَانِ تَرَكُوهُ، وَإِنْ سَقَطَ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلشَّيَاطِينِ فِي نَصِيبِ اللَّهِ رَدُّوهُ إِلَى نَصِيبِ الشَّيْطَانِ، وَإِنِ انْفَجَرَ مِنْ سَقْيِ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فِي نَصِيبِ الشَّيْطَانِ تَرَكُوهُ، وَإِنِ انْفَجَرَ مِنْ سَقْيِ مَا جَعَلُوهُ لِلشَّيْطَانِ فِي نَصِيبِ اللَّهِ نَزَحُوهُ، فَهَذَا مَا جَعَلُوا لِلَّهِ مِنَ الْحَرْثِ وَسَقْيِ الْمَاءِ، وَأَمَّا مَا جَعَلُوهُ لِلشَّيْطَانِ مِنَ الْأَنْعَامِ فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ جُزْءًا وَلِشُرَكَائِهِمْ جُزْءًا، فَمَا ذَهَبَ بِهِ الرِّيحُ مِمَّا سَمَّوْا لِلَّهِ إِلَى جُزْءِ أَوْثَانِهِمْ تَرَكُوهُ وَقَالُوا اللَّهُ عَنْ هَذَا غَنِيٌّ، وَمَا ذَهَبَ بِهِ الرِّيحُ مِنْ جُزْءِ أَوْثَانِهِمْ إِلَى جُزْءِ اللَّهِ أَخَذُوهُ. وَالْأَنْعَامُ الَّتِي سَمَّوْا لِلَّهِ: الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ قَالَ شَيَاطِينُهُمْ يَأْمُرُونَهُمْ أن يئدوا أولادهم خوف العيلة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 138 الى 140] وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

_ (1) . المائدة: 103. [.....]

هَذَا بَيَانُ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ جَهَالَاتِهِمْ وَضَلَالَاتِهِمْ. وَالْحِجْرُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ حُجُرٌ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْجِيمِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ «حَرَجٌ» بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الْجِيمِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ أَبِي، وَهُوَ مِنَ الْحَرَجِ، يُقَالُ فُلَانٌ يَتَحَرَّجُ: أَيْ يُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ الدُّخُولَ فِيمَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ وَالْحِجْرُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ فِيهِ هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: مَحْجُورٌ، وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ مَمْنُوعَةٌ، يَعْنُونَ أَنَّهَا لِأَصْنَامِهِمْ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ يَشَاءُونَ بِزَعْمِهِمْ وَهُمْ خُدَّامُ الْأَصْنَامِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي قَوْلُهُمْ: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَهِيَ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْحَامُ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقِسْمَ الثاني مما جعلوه لآلهتهم أيضا. والقسم الثالث أَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَهِيَ مَا ذَبَحُوا لِآلِهَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَذْبَحُونَهَا بِاسْمِ أَصْنَامِهِمْ لَا بِاسْمِ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ لَا يَحُجُّونَ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَى اللَّهِ: أَيْ لِلِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ بِافْتِرَائِهِمْ أَوْ بِالَّذِي يَفْتَرُونَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ افْتِرَاءً مُنْتَصِبًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَيِ: افْتَرَوُا افْتِرَاءً، أَوْ حَالٌ: أَيْ مُفْتَرِينَ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْعِلَّةِ أَظْهَرُ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ جَهَالَاتِهِمْ فَقَالَ: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يَعْنُونَ الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ مِنَ الْأَجِنَّةِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا أَيْ حَلَالٌ لَهُمْ وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا أَيْ عَلَى جِنْسِ الْأَزْوَاجِ، وَهُنَّ النِّسَاءُ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَنَحْوُهُنَّ وَقِيلَ: هو اللبن جعلوه حلالا للذكور محرّما عَلَى الْإِنَاثِ، وَالْهَاءُ فِي خَالِصَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْخُلُوصِ كَعَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَأْنِيثُهَا لِتَأْنِيثِ الْأَنْعَامِ. وَرُدَّ بِأَنَّ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ غَيْرُ الْأَنْعَامِ، وَتُعُقِّبَ هَذَا الرَّدُّ بِأَنَّ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ أَنْعَامٌ، وهي الأجنة، وما: عِبَارَةٌ عَنْهَا، فَيَكُونُ تَأْنِيثُ خَالِصَةٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَا، وَتَذْكِيرُ مُحَرَّمٌ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ خَالِصٌ قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَى خَالِصٌ وَخَالِصَةٌ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ الْهَاءَ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ خالِصَةٌ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُتَعَلِّقِ الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ صِلَةٌ لِمَا، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَحْذُوفٌ كَقَوْلِكَ: الَّذِي فِي الدَّارِ قَائِمًا زَيْدٌ، هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ انْتَصَبَ عَلَى الْقَطْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ خالِصَةٌ بِإِضَافَة خَالِصٍ إِلَى الضَّمِيرِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَا. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ خَالِصًا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً. قُرِئَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: وَإِنْ يَكُنِ الَّذِي فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ أَيْ فِي الَّذِي فِي الْبُطُونِ شُرَكاءُ يَأْكُلُ مِنْهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أَيْ بِوَصْفِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مُنْتَصَبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَالْمَعْنَى: سَيَجْزِيهِمْ بِوَصْفِهِمُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: سَيَجْزِيهِمْ جَزَاءَ وَصْفِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ جَهَالَاتِهِمْ فَقَالَ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً أَيْ بَنَاتِهِمْ بِالْوَأْدِ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ سَفْهًا، أَيْ: لِأَجْلِ السَّفَهِ: وَهُوَ الطَّيْشُ وَالْخِفَّةُ لَا لِحُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَلَا شَرْعِيَّةٍ كَائِنًا ذَلِكَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَهْتَدُونَ بِهِ. قَوْلُهُ: وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي سَمَّوْهَا بِحَائِرَ وسوائب

[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 إلى 142]

افْتِراءً عَلَى اللَّهِ أَيْ: لِلِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ أَوِ افْتَرَوُا افْتِرَاءً عَلَيْهِ قَدْ ضَلُّوا عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إِلَى الْحَقِّ، وَلَا هُمْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ قَالَ: الْحِجْرُ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْوَصِيلَةِ وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ قَالَ: مَا جَعَلُوا لِلَّهِ وَلِشُرَكَائِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ وَحَرْثٌ حِجْرٌ قَالَ: حَرَامٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُونَ: حَرَامٌ أَنْ يَطْعَمَ الِابْنُ شَيْئًا وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها قَالَ: الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْحَامِي وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِذَا نَحَرُوهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن أبي وَائِلٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا قَالَ: لَمْ تَكُنْ يُحَجُّ عَلَيْهَا وَهِيَ الْبَحِيرَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ الْآيَةَ قَالَ: اللَّبَنُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ إِلَّا ابْنَ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: السَّائِبَةُ وَالْبَحِيرَةُ مُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا قَالَ: النِّسَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ قَالَ: قَوْلَهُمُ الْكَذِبَ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَتِ الشَّاةُ إِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ، فَكَانَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تَرَكُوهَا فَلَمْ تُذْبَحْ، وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً كَانُوا فِيهَا شُرَكَاءَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يَئِدُ الْبَنَاتَ مِنْ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا صُنْعُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ أَحَدُهُمْ يَقْتُلُ ابْنَتَهُ مَخَافَةَ السَّبْيِ وَالْفَاقَةِ وَيَغْذُو كَلْبَهُ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ قَالَ: جَعَلُوهُ بَحِيرَةً وَسَائِبَةً وَوَصِيلَةً وَحَامِيًا تَحَكُّمًا من الشيطان في أموالهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 142] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) هَذَا فِيهِ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِبَدِيعِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظِيمِ صُنْعِهِ أَنْشَأَ أَيْ: خَلَقَ، وَالْجَنَّاتُ: الْبَسَاتِينُ مَعْرُوشاتٍ مَرْفُوعَاتٍ عَلَى الْأَعْمِدَةِ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ غَيْرَ مَرْفُوعَاتٍ عَلَيْهَا وَقِيلَ الْمَعْرُوشَاتُ مَا انْبَسَطَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّا يُعْرَشُ مِثْلُ الْكَرْمِ وَالزَّرْعِ وَالْبِطِّيخِ، وَغَيْرُ الْمَعْرُوشَاتِ: مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ مِثْلُ النَّخْلِ وَسَائِرِ الْأَشْجَارِ وَقِيلَ الْمَعْرُوشَاتُ: مَا أَنْبَتَهُ النَّاسُ وَعَرَّشُوهُ، وَغَيْرُ الْمَعْرُوشَاتِ: مَا نَبَتَ فِي الْبَرَارِي

وَالْجِبَالِ. قَوْلُهُ: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مَعْطُوفٌ عَلَى جَنَّاتٍ، وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهِمَا فِي الْجَنَّاتِ لِمَا فيهما مِنَ الْفَضِيلَةِ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أَيْ حَالَ كَوْنِهِ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ فِي الطَّعْمِ وَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ فِي النَّحْوِ، يَعْنِي: انْتِصَابَ مُخْتَلِفًا عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهُ يُقَالُ قَدْ أَنْشَأَهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ أُكُلُهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْشَأَهَا مُقَدِّرًا فِيهَا الِاخْتِلَافَ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا سِيبَوَيْهِ بِقَوْلِهِ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا: أَيْ مُقَدِّرًا لِلصَّيْدِ بِهِ غَدًا، كَمَا تَقُولُ: لَتَدْخُلُنَّ الدَّارَ آكِلِينَ شَارِبِينَ: أَيْ مُقَدِّرِينَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ هِيَ الْحَالُ الْمُقَدَّرَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ النُّحَاةِ الْمُدَوَّنَةُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَقَالَ: مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَلَمْ يَقُلْ أُكُلُهُمَا اكْتِفَاءً بِإِعَادَةِ الذِّكْرِ عَلَى أَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «1» أَوِ الضَّمِيرُ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ: أَيْ أُكُلُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مَعْطُوفٌ عَلَى جَنَّاتٍ: أَيْ وَأَنْشَأَ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ حَالَ كَوْنِهِ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ هَذَا كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أَيْ مِنْ ثَمَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ ثَمَرِ ذَلِكَ إِذا أَثْمَرَ أَيْ إِذَا حَصَلَ فِيهِ الثَّمَرُ وَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ وَيَبْلُغْ حَدَّ الْحَصَادِ. قَوْلُهُ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ هَذِهِ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّدْبِ، فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ يَوْمَ الْحَصَادِ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمَسَاكِينِ الْقَبْضَةَ وَالضِّغْثَ وَنَحْوَهُمَا. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَطَاوُسٌ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَآيَةُ الزَّكَاةِ مَدَنِيَّةٌ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّدْبِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ. قَوْلُهُ: وَلا تُسْرِفُوا أَيْ فِي التَّصَدُّقِ، وَأَصْلُ الْإِسْرَافِ فِي اللُّغَةِ: الْخَطَأُ، وَالْإِسْرَافُ فِي النَّفَقَةِ: التَّبْذِيرُ وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْوُلَاةِ يَقُولُ لَهُمْ: لَا تَأْخُذُوا فَوْقَ حَقِّكُمْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَأْخُذُوا الشَّيْءَ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَتَضَعُونَهُ فِي غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ. قَوْلُهُ: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً مَعْطُوفٌ عَلَى جَنَّاتٍ، أَيْ: وَأَنْشَأَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا، وَالْحَمُولَةُ: مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَهُوَ يَخْتَصُّ بِالْإِبِلِ فَهِيَ فَعُولَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ وَالْفَرْشُ: مَا يُتَّخَذُ مِنَ الْوَبَرِ وَالصُّوفِ وَالشَّعْرِ فِرَاشًا يَفْتَرِشُهُ النَّاسُ وَقِيلَ: الْحَمُولَةُ الْإِبِلُ، وَالْفَرْشُ: الْغَنَمُ وَقِيلَ الْحَمُولَةُ: كُلُّ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَالْفَرْشُ: الْغَنَمُ، وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَنْعَامِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَقِيلَ: الْحَمُولَةُ: مَا تُرْكَبُ، وَالْفَرْشُ: مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ كَمَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَتَحْلِيلِ مَا لَمْ يُحَلِّلْهُ إِنَّهُ أي الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ مُظْهِرٌ لِلْعَدَاوَةِ وَمُكَاشِفٌ بِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ قَالَ: الْمَعْرُوشَاتُ مَا عَرَّشَ النَّاسُ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ مَا خَرَجَ فِي الْجِبَالِ والبريّة من الثمار. وأخرج عبد

_ (1) . الجمعة: 11.

ابن حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَعْرُوشَاتٌ: بِالْعِيدَانِ وَالْقَصَبِ، وَغَيْرُ مَعْرُوشَاتٍ قَالَ: الضَّاحِي «1» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْرُوشاتٍ قَالَ: الْكَرَمُ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قَالَ: «مَا سَقَطَ مِنَ السُّنْبُلِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قَالَ: كَانُوا يُعْطُونَ مَنِ اعترّ «2» بِهِمْ شَيْئًا سِوَى الصَّدَقَةِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِذَا حَصَدْتَ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنَ السُّنْبُلِ. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ وَيَزِيدَ الْأَصَمِّ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِذَا صَرَمُوا النَّخْلَ يَجِيئُونَ بِالْعِذْقِ فَيَضَعُونَهُ في المسجد، فيجيء فَيَضْرِبُهُ بِالْعَصَا فَيُسْقِطُ مِنْهُ، فَهُوَ قَوْلُهُ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ حماد بن أبي سليمان في الآية قال: كانوا يطعمون منه رطبا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَمَرَ مِنْ كُلِّ حَادِي عَشْرَةَ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ بِقِنْوٍ يُعَلَّقُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَسَاكِينِ. وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ نَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: مَا كَانُوا يُعْطُونَ شَيْئًا سِوَى الزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَبَاذَرُوا وَأَسْرَفُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن جُرَيْجٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ جذّ نَخْلًا فَقَالَ: لَا يَأْتِينِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلَّا أَطْعَمْتُهُ، فَأَطْعَمَ حَتَّى أَمْسَى وَلَيْسَ لَهُ تَمْرَةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أَبِي قُبَيْسٍ ذَهَبًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ إِسْرَافًا، وَلَوْ أَنْفَقْتَ صَاعًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ إِسْرَافًا، وَلِلسَّلَفِ فِي هَذَا مَقَالَاتٌ طَوِيلَةٌ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْحَمُولَةُ: مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْفَرْشُ: صِغَارُ الْإِبِلِ الَّتِي لَا تَحْمِلُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْحَمُولَةُ: الْكِبَارُ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْفَرْشُ: الصِّغَارُ مِنَ الْإِبِلِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: الْحَمُولَةُ: مَا حُمِلَ عَلَيْهِ، وَالْفَرْشُ: مَا أُكِلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ

_ (1) . الشجرة الضاحية: البارزة للشمس. (2) . يقال: عررته: إذا أتيته تطلب معروفه.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 143 إلى 144]

أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْحَمُولَةُ: الْإِبِلُ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَالْفَرْشُ: الْغَنَمُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: الْحَمُولَةُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْفَرْشُ: الضأن والمعز. [سورة الأنعام (6) : الآيات 143 الى 144] ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) اخْتُلِفَ فِي انْتِصَابِ ثَمانِيَةَ عَلَى مَاذَا؟ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ: بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ وَأَنْشَأَ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ حَمُولَةً وَفَرْشًا وَقَالَ الْأَخْفَشُ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِكُلُوا، أَيْ كُلُوا لَحْمَ ثَمَانِيَةِ أَزْوَاجٍ وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ من ما في مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَالزَّوْجُ: خِلَافُ الْفَرْدِ، يُقَالُ: زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ، كَمَا يُقَالُ: شَفْعٌ أَوْ وَتْرٌ، فَقَوْلُهُ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَعْنِي ثَمَانِيَةَ أَفْرَادٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْفَرْدُ زَوْجًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى زَوْجٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ، وَيَقَعُ لَفْظُ الزَّوْجِ عَلَى الْوَاحِدِ، فَيُقَالُ: هُمَا زَوْجٌ وَهُوَ زَوْجٌ، وَيَقُولُ: اشْتَرَيْتُ زَوْجَيْ حَمَامٍ، أَيْ: ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، قِيلَ: لَهُ فَرْدٌ، وَإِنْ كَانَ الذَّكَرُ مَعَ أُنْثَى مِنْ جِنْسِهِ قِيلَ لَهُمَا: زَوْجٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ مِنْهُمَا: زَوْجٌ، وَيُقَالُ لَهُمَا أَيْضًا: زَوْجَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «1» . قَوْلُهُ: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ بَدَلٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ مُنْتَصِبٌ بِنَاصِبِهِ عَلَى حَسَبِ الْخِلَافِ السَّابِقِ، وَالضَّأْنُ: ذَوَاتُ الصُّوفِ مِنَ الْغَنَمِ، وَهُوَ جَمْعُ ضَائِنٍ، وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى: ضَائِنَةٌ، وَالْجَمْعُ ضَوَائِنُ وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ وَقِيلَ: فِي جَمْعِهِ ضئين كعبد وعبيد. وقرأ طلحة ابن مُصَرِّفٍ الضَّأْنِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا. وقرأ أبان بن عثمان ومن الضَّأْنِ اثْنَانِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَانِ رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ. قَوْلُهُ: وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُشَارِكٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنَ الْمَعْزِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا، قَالَ النَّحَّاسُ: الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَعْزُ وَالضَّأْنُ بِالْإِسْكَانِ، وَالْمَعْزُ مِنَ الْغَنَمِ خِلَافُ الضَّأْنِ، وَهِيَ ذَوَاتُ الْأَشْعَارِ وَالْأَذْنَابِ الْقِصَارِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَوَاحِدُ الْمَعْزِ مَاعِزٌ، مِثْلُ: صَحْبٍ وَصَاحِبٍ، وَرَكْبٍ وَرَاكِبٍ، وَتَجْرٍ وَتَاجِرٍ، وَالْأُنْثَى مَاعِزَةٌ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ حَالَ الْأَنْعَامِ وَتَفَاصِيلَهَا إِلَى الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ تَوْضِيحًا لِلِامْتِنَانِ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَدَفْعًا لِمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَزْعُمُهُ مِنْ تَحْلِيلِ بَعْضِهَا وَتَحْرِيمِ بَعْضِهَا تَقَوُّلًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَافْتِرَاءً عَلَيْهِ، وَالْهَمْزَةُ فِي قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ لِلْإِنْكَارِ. وَالْمُرَادُ بِالذَّكَرَيْنِ الْكَبْشُ وَالتَّيْسُ، وَبِالْأُنْثَيَيْنِ النَّعْجَةُ وَالْعَنْزُ، وَانْتِصَابُ الذَّكَرَيْنِ بِحَرَّمَ، وَالْأُنْثَيَيْنِ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ مَنْصُوبٌ بِنَاصِبِهِ. وَالْمَعْنَى: الْإِنْكَارُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي أَمْرِ الْبَحِيرَةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا، وَقَوْلُهُمْ: مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا

_ (1) . القيامة: 39.

[سورة الأنعام (6) : آية 145]

وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا أَيْ قُلْ لَهُمْ إِنْ كَانَ حَرَّمَ الذُّكُورَ فَكُلُّ ذَكَرٍ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ الْإِنَاثَ فَكُلُّ أُنْثَى حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ، يَعْنِي مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ فَكُلُّ مَوْلُودٍ حَرَامٌ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَكُلُّهَا مَوْلُودٌ، فَيَسْتَلْزِمُ أن كلها حرام. وقوله: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ أَخْبَرُونِي بِعِلْمٍ لَا بِجَهْلٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَالْمُرَادُ من هذا: التبكيت لهم وَإِلْزَامُ الْحُجَّةِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ إِلَى آخِرِهِ. قَوْلُهُ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا أَمْ: هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَهِيَ بِمَعْنَى بل والهمزة، أي: بل كنتم شُهَدَاءَ حَاضِرِينَ مُشَاهِدِينَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا التَّحْرِيمِ. وَالْمُرَادُ: التَّبْكِيتُ وَإِلْزَامُ الْحُجَّةِ كَمَا سَلَفَ قَبْلَهُ. قَوْلُهُ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَحَرَّمَ شَيْئًا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَنَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ افْتِرَاءً عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَهُ كُبَرَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَاللَّامُ فِي لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِلْعِلَّةِ: أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يُضِلَّ النَّاسَ بِجَهْلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِافْتَرَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ عَلَى الْعُمُومِ، وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي السِّيَاقِ دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي وَجْهِ تَقْدِيمِ الْمَعْزِ وَالضَّأْنِ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مَعَ كَوْنِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ أَكْثَرَ نَفْعًا وَأَكْبَرَ أَجْسَامًا وَأَعْوَدَ فَائِدَةً، لَا سِيَّمَا فِي الْحَمُولَةِ وَالْفَرْشِ اللَّذَيْنِ وَقَعَ الْإِبْدَالُ مِنْهُمَا عَلَى مَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَوْضَحُ فِي إِعْرَابِ ثَمَانِيَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ. وَلَيْتَ شِعْرِي مَا فَائِدَةُ نَقْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ منْ مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ، وَكَوْنُ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ هُوَ هَكَذَا فِي الْآيَةِ مُصَرَّحًا بِهِ تَصْرِيحًا لَا لَبْسَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى زَوْجَانِ. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ قَالَ: فِي شَأْنِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ: الْجَامُوسُ وَالْبُخْتِيُّ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قَالَ: فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ يَقُولُ: لَمْ أُحَرِّمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يَعْنِي هَلْ تَشْتَمِلُ الرَّحِمُ إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، فَلِمَ يُحَرِّمُونَ بَعْضًا وَيُحِلُّونَ بَعْضًا؟ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يَقُولُ: كُلُّهَا حَلَالٌ يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ممّا حرّمه أهل الجاهلية. [سورة الأنعام (6) : آية 145] قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَجِدُ فِي شَيْءٍ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ مُحَرَّمًا غَيْرَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْحِصَارِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيهَا لَوْلَا أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَهَا بِالْمَدِينَةِ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَزِيدَ فِيهَا عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَتَحْرِيمُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْكِلَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْعُمُومُ إِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُؤْكَلُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَيُفِيدُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، فَيُضَمُّ إِلَيْهِ كُلُّ مَا وَرَدَ بَعْدَهُ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْعُمُومُ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُضَمُّ إِلَيْهِ كُلُّ مَا وَرَدَ بَعْدَهُ مِمَّا فِيهِ تَحْرِيمُ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلٌ سَاقِطٌ، وَمَذْهَبٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ لِاسْتِلْزَامِهِ لِإِهْمَالِ غَيْرِهَا مِمَّا نَزَلَ بَعْدَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِهْمَالِ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَهُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِلَا سَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَا مُوجِبٍ يُوجِبُهُ. قَوْلُهُ: مُحَرَّماً صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ طَعَامًا مُحَرَّمًا عَلى أَيِّ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ، وَفِي يَطْعَمُهُ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ وَتَقْرِيرٍ لِمَا قَبْلَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءُ أَوْ ذَلِكَ الطَّعَامُ أَوِ الْعَيْنُ أَوِ الْجُثَّةُ أَوِ النَّفْسُ. وَقُرِئَ يَكُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ، وَقُرِئَ مَيْتَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ يَكُونَ تَامَّةٌ. وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ: الْجَارِي، وَغَيْرُ الْمَسْفُوحِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَالدَّمِ الَّذِي يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَمِنْهُ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ، وَهَكَذَا مَا يَتَلَطَّخُ بِهِ اللَّحْمُ مِنَ الدَّمِ. وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا. قَوْلُهُ: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ظَاهِرُ تَخْصِيصِ اللَّحْمِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ مِنْهُ بِمَا عَدَا اللَّحْمَ، وَالضَّمِيرُ فِي فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّحْمِ أَوْ إِلَى الْخِنْزِيرِ. وَالرِّجْسُ: النَّجِسُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. قَوْلُهُ: أَوْ فِسْقاً عَطْفٌ عَلَى لحم الخنزير، وأُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صِفَةُ فِسْقٍ: أَيْ ذُبِحَ عَلَى الْأَصْنَامِ، وَسُمِّيَ فِسْقًا لِتَوَغُّلِهِ فِي بَابِ الْفِسْقِ، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِسْقاً مَفْعُولًا لَهُ لِأُهِلَّ: أَيْ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فِسْقًا عَلَى عَطْفِ أُهِلَّ عَلَى يَكُونُ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا نُعِيدُهُ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَلَا يُؤَاخِذُ الْمُضْطَرَّ بِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَتُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ وَيُحِلُّونَ أَشْيَاءَ، فَنَزَلَتْ قُلْ لَا أَجِدُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَعَذُّرًا، فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ وَأَحَلَّ حلاله وحرّم حرامه، فما أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قُلْ لَا أَجِدُ إِلَى آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: مَا خَلَا هَذَا فَهُوَ حَلَالٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ الْبَحْرُ ابْنُ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 146 إلى 147]

عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ قُلْ لَا أَجِدُ الْآيَةَ. وَأَقُولُ: وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ الْبَحْرُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْتَمَسُّكُ بِقَوْلِ صَحَابِيِّ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ سُوءِ الِاخْتِيَارِ وَعَدَمِ الْإِنْصَافِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ حَرَامٌ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْقُنْفُذِ، فَقَرَأَ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الْآيَةَ، فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ذكر عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ» ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا سُئِلَتْ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ تَلَتْ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ شَاةً لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ مَاتَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَاتَتْ فُلَانَةٌ: تَعْنِي الشَّاةَ، قَالَ: «فَلَوْلَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا» ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً «وَأَنْتُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ، وَإِنَّمَا تَدْبَغُونَهُ حَتَّى تَسْتَنْفِعُوا بِهِ» فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَسَلَخَتْهَا ثُمَّ دَبَغَتْهُ، فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا. وَمِثْلُ هَذَا حَدِيثُ شَاةِ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ: «إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» وَهُوَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً قَالَ: مُهْرَاقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا ذَبَحُوا أَوْدَجُوا الدَّابَّةَ، وَأَخَذُوا الدَّمَ فَأَكَلُوهُ، قَالَ: هُوَ دَمٌ مَسْفُوحٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَحْمِ الْفِيلِ وَالْأَسَدِ فَتَلَا قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ الْآيَةَ. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَنَحْوِهَا مستوفاة في كتب الحديث. [سورة الأنعام (6) : الآيات 146 الى 147] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) قَدَّمَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا عَلَى الْفِعْلِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، لَا يُجَاوِزُهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَالَّذِينَ هَادُوا: الْيَهُودُ، ذَكَرَ اللَّهُ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ عَقِبَ ذِكْرِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالظُّفُرُ: وَاحِدُ الْأَظْفَارِ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أَظَافِيرَ، وَزَادَ الْفَرَّاءُ فِي جُمُوعِ ظُفُرٍ أَظَافِرَ وَأَظَافِرَةٌ، وَذُو الظُّفُرِ: مَا لَهُ أُصْبُعٌ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ طَائِرٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْحَافِرُ والخف والمخلب، فيتناول الإبل والبقر والغنم والنّعام وَالْأَوِّزَ وَالْبَطَّ وَكُلَّ مَا لَهُ مِخْلَبٌ مِنَ الطير، وتسمية الحافر والخفّ ظُفُرًا مَجَازٌ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الظُّفُرِ عَلَى مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الظُّفُرِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ هَذَا التَّعْمِيمَ يَأْبَاهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَإِنْ كَانَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِحَيْثُ يُقَالُ عَلَى

الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ كَانَ ذِكْرُهُمَا مِنْ بَعْدُ تَخْصِيصًا. حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1» . قوله: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما لَا غَيْرَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، كَلَحْمِهِمَا، وَالشُّحُومُ يَدْخُلُ فِيهَا الثُّرُوبُ وَشَحْمُ الْكُلْيَةِ وَقِيلَ: الثُّرُوبُ جَمْع ثَرْبٍ، وَهُوَ الشَّحْمُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْكِرْشِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الشُّحُومِ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا مِنَ الشَّحْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يحرمه الله عليهم، وما فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الْحَوايا مَعْطُوفٌ عَلَى ظُهُورِهِمَا أَيْ إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ حَمَلَتِ الْحَوَايَا، وَهِيَ الْمَبَاعِرُ الَّتِي يَجْتَمِعُ الْبَعْرُ فِيهَا، فَمَا حَمَلَتْهُ مِنَ الشَّحْمِ غَيْرُ حَرَامٍ عَلَيْهِمْ، وَوَاحِدُهَا حَاوِيَةٌ، مِثْلُ ضَارِبَةٍ وَضَوَارِبُ وَقِيلَ: وَاحِدُهَا حَاوِيَاءُ، مِثْلَ قَاصِعَاءَ وَقَوَاصِعُ وَقِيلَ: حَوِيَّةٌ: كَسَفِينَةٍ وَسَفَائِنَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الحوايا ما تحوّى من البطن: أي اسْتَدَارَ، وَهِيَ مُتَحَوِّيَةٌ: أَيْ مُسْتَدِيرَةٌ وَقِيلَ الْحَوَايَا: خَزَائِنُ اللَّبَنِ، وَهِيَ تَتَّصِلُ بِالْمَبَاعِرِ وَقِيلَ الْحَوَايَا: الْأَمْعَاءُ الَّتِي عَلَيْهَا الشُّحُومُ. قَوْلُهُ: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا فِي مَا حَمَلَتْ كَذَا قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ وَقِيلَ: إِنَّ الْحَوَايَا وَمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الشُّحُومِ. وَالْمَعْنَى: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّكَلُّفِ وَلَا مُوجِبَ لَهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ إِحْدَى هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ. وَالْمُرَادُ بِمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ: مَا لَصِقَ بِالْعِظَامِ مِنَ الشُّحُومِ فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهُ الْإِلْيَةُ فَإِنَّهَا لَاصِقَةٌ بِعَجَبِ الذَّنَبِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى التَّحْرِيمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِحَرَّمْنَا أَيْ: ذَلِكَ التَّحْرِيمُ جَزَيْنَاهُمْ بِهِ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْجَزَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: جَزَيْناهُمْ أَيْ: ذَلِكَ الْجَزَاءُ جَزَيْنَاهُمْ، وَهُوَ تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فِي كُلِّ مَا نُخْبِرُ بِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ هَذَا الْخَبَرُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَنَصُّهَا: «حَرَّمْتُ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَكُلَّ دَابَّةٍ لَيْسَتْ مَشْقُوقَةَ الْحَافِرِ، وَكُلَّ حُوتٍ لَيْسَ فِيهِ سَفَاسِفُ» أَيْ بَيَاضٌ، انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي كَذَّبُوكَ لِلْيَهُودِ، أَيْ: فَإِنْ كَذَّبَكَ الْيَهُودُ فِيمَا وَصَفْتَ مِنْ تَحْرِيمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَمِنْ رَحْمَتِهِ حِلْمُهُ عَنْكُمْ وَعَدَمُ مُعَاجَلَتِهِ لَكُمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ وَإِنْ أَمْهَلَكُمْ وَرَحِمَكُمْ فَ لَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إِذَا أنزله بهم واستحقّوا الْمُعَاجَلَةَ بِالْعُقُوبَةِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ: لَا يُرَدُّ بَأْسُهُ فِي الْآخِرَةِ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَاجَلَهُمْ بِعُقُوبَاتٍ مِنْهَا: تَحْرِيمُ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَسَّمُوا الْأَنْعَامَ إِلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ وَحَلَّلُوا بَعْضَهَا وَحَرَّمُوا بَعْضَهَا وَقِيلَ الْمُرَادُ: أَنَّهُ ذُو رَحْمَةٍ لِلْمُطِيعِينَ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ وَلَا مُلْجِئَ لِهَذَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كُلَّ ذِي ظُفُرٍ قَالَ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِمُنْفَرِجِ الْأَصَابِعِ، يَعْنِي: لَيْسَ بِمَشْقُوقِ الْأَصَابِعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ قَالَ: الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ لَمْ تَنْفَرِجْ قَوَائِمُهُ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَمَا انْفَرَجَ أَكَلَتْهُ الْيَهُودُ، قَالَ: انْفَرَجَتْ قَوَائِمُ الدَّجَاجِ وَالْعَصَافِيرِ فاليهود تأكله، ولم ينفرج خفّ

_ (1) . النساء: 160.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 إلى 150]

الْبَعِيرِ وَلَا النَّعَامَةِ، وَلَا قَائِمَةُ الْوَزِينَةِ «1» فَلَا تَأْكُلُ الْيَهُودُ الْإِبِلَ وَلَا النَّعَامَ وَلَا الْوَزِينَةَ، وَلَا كُلَّ شَيْءٍ لَمْ تَنْفَرِجْ قَائِمَتُهُ كَذَلِكَ، وَلَا تَأْكُلْ حِمَارَ الْوَحْشِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما يَعْنِي مَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ أَوِ الْحَوايا هِيَ الْمَبْعَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما قَالَ: الْأَلْيَةُ أَوِ الْحَوايا قَالَ: الْمَبْعَرُ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ قَالَ: الشَّحْمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوِ الْحَوايا قَالَ: الْمَبَاعِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ أَوِ الْحَوايا قَالَ: الْمَرَائِضُ وَالْمَبَاعِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ قَالَ: الْأَلْيَةُ اخْتَلَطَ شَحْمُ الْأَلْيَةِ بِالْعُصْعُصِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَكُلُّ شَحْمِ الْقَوَائِمِ وَالْجَنْبِ وَالرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَالْأُذُنِ يَقُولُونَ قَدِ اخْتَلَطَ ذَلِكَ بِعَظْمٍ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الثُّرْبَ وَشَحْمَ الْكُلْيَةِ، وَكُلَّ شَيْءٍ كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ فِي عَظْمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ قَالَ: الْيَهُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: إِنَّ مَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ فَنَحْنُ نُحَرِّمُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ الْآيَةَ. [سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَوْ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ شِرْكِهِمْ مَا أَشْرَكُوا هُمْ وَلَا آبَاؤُهُمْ، ولا حرّموا شيئا من الأنعام كالبخيرة وَنَحْوِهَا، وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُخَلِّصُهُمْ عَنِ الْحُجَّةِ الَّتِي أَلْزَمَهُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ مَا فَعَلُوهُ حَقٌّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَى آبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ رُسُلًا يَأْمُرُونَهُمْ بِتَرْكِ الشِّرْكِ وَبِتَرْكِ التَّحْرِيمِ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، وَالتَّحْلِيلُ لِمَا لَمْ يُحَلِّلْهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: مِثْلَ مَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ كَذَّبَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أَيِ: اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ بِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا أَيْ: هَلْ عِنْدَكُمْ دَلِيلٌ صَحِيحٌ يُعَدُّ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ فَتُخْرِجُوهُ إِلَيْنَا لِنَنْظُرَ فِيهِ وَنَتَدَبَّرَهُ؟ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا: التَّبْكِيتُ لَهُمْ، لأنه قد علم أنه

_ (1) . قال في القاموس: الوزّ: الإوزّ، كالوزّين.

لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ يَصْلُحُ لِلْحُجَّةِ وَيَقُومُ بِهِ الْبُرْهَانُ، ثُمَّ أَوْضَحَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الظُّنُونَ أَيْ: مَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْخَطَأِ وَمَكَانُ الْجَهْلِ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ أَيْ: تَتَوَهَّمُونَ مُجَرَّدَ تَوَهُّمٍ فَقَطْ كَمَا يَتَوَهَّمُ الْخَارِصُ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّه سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّ لِلَّهِ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ عَلَى النَّاسِ أَيِ: الَّتِي تَنْقَطِعُ عِنْدَهَا مَعَاذِيرُهُمْ وَتَبْطُلُ شَبَهُهُمْ وَظُنُونُهُمْ وتَوَهُّمَاتُهُمْ. وَالْمُرَادُ بِهَا الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، وَالرُّسُلُ الْمُرْسَلَةُ، وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَلَوْ شاءَ هِدَايَتَكُمْ جَمِيعًا لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا «1» وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ أَيْ: هَاتُوهُمْ وَأَحْضِرُوهُمْ، وهم اسْمُ فِعْلٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَالْمُفْرَدُ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: هَلُمَّا، هَلُمِّي، هَلُمُّوا، فَيَنْطِقُونَ بِهِ كَمَا يَنْطِقُونَ بِسَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَبِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْخَلِيلِ: هَا ضُمَّتْ إِلَيْهَا لَمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَصْلُهَا هَلْ، زِيدَتْ عَلَيْهَا الْمِيمُ، وَفِي كِتَابِ الْعَيْنِ لِلْخَلِيلِ: أَنَّ أَصْلَهَا هَلْ أَؤُمَّ: أَيْ هَلْ أَقْصِدُكَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَابِ التَّبْكِيتِ لَهُمْ، حَيْثُ يَأْمُرُهُمْ بِإِحْضَارِ الشُّهُودِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مَعَ عِلْمِهِ أَنْ لَا شُهُودَ لَهُمْ فَإِنْ شَهِدُوا لَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ بل مجازفة وتعصب فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أَيْ فَلَا تُصَدِّقْهُمْ، وَلَا تُسَلِّمُ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَاذِبُونَ جَاهِلُونَ، وَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، فَإِنَّهُمْ رَأْسُ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِنَا. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ: أَيْ لَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَأَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أَيْ: يَجْعَلُونَ لَهُ عِدْلًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ كَالْأَوْثَانِ، وَالْجُمْلَةُ: إِمَّا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى: لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قَالَ: هَذَا قَوْلُ قُرَيْشٍ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا: أَيِ: الْبَحِيرَةَ، وَالسَّائِبَةَ، وَالْوَصِيلَةَ وَالِحَامِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ قَالَ: السُّلْطَانُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: لَيْسَ الشَّرُّ بِقَدَرٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْقَدَرِ هَذِهِ الْآيَةُ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِلَى قَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْعَجْزُ وَالْكَيْسُ مِنَ الْقَدَرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: انْقَطَعَتْ حُجَّةُ الْقَدَرِيَّةِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السدي في قَوْلِهِ: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ قَالَ: أَرُونِي شُهَدَاءَكُمْ.

_ (1) . الأنعام: 107.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 إلى 153]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) قَوْلُهُ: قُلْ تَعالَوْا أَيْ تَقَدَّمُوا. قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: إِنَّ الْمَأْمُورَ بِالتَّقَدُّمِ فِي أَصْلِ وَضْعِ هَذَا الْفِعْلِ كَأَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا، فَقِيلَ لَهُ تَعَالَ: أَيِ ارْفَعْ شَخْصَكَ بِالْقِيَامِ وَتَقَدَّمَ، وَاتْسَعُوا فِيهِ حَتَّى جَعَلُوهُ لِلْوَاقِفِ وَالْمَاشِي. وَهَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ مِنَ الْخَاصِّ الَّذِي صَارَ عَامَّا، وَأَصْلُهُ أَنْ يَقُولَهُ مَنْ كَانَ فِي مَكَانٍ عَالٍ لِمَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ، ثُمَّ كَثُرَ وَاتَّسَعَ فِيهِ حَتَّى عَمَّ. قَوْلُهُ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ أَتْلُ: جَوَابُ الْأَمْرِ، وَمَا: مَوْصُولَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِهِ، أَيْ: أَتْلُ الَّذِي حَرَّمَهُ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. وَالْمُرَادُ مِنْ تِلَاوَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: أَتْلُ تَحْرِيمَ رَبِّكُمْ. وَالْمَعْنَى: مَا اشْتَمَلَ عَلَى التَّحْرِيمِ قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَيْ: أَتْلُ أَيَّ شَيْءِ حَرَّمَ رَبُّكُمْ، عَلَى جَعْلِ التِّلَاوَةِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ، وهو ضعيف جدّا، وعليكم: إِنْ تَعَلَّقَ بِأَتْلُ، فَالْمَعْنَى: أَتْلُ عَلَيْكُمُ الَّذِي حَرَّمَ رَبُّكُمْ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِحَرَّمَ، فَالْمَعْنَى أَتْلُ الَّذِي حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ بَيَانِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ لَا مَقَامُ بَيَانِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا وَقِيلَ: إِنَّ: عَلَيْكُمْ، لِلْإِغْرَاءِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا. وَالْمَعْنَى: عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْزَمُوا ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ «1» وهو أضعف مما قبله، وأن في أَلَّا تُشْرِكُوا: مُفَسِّرَةٌ لِفِعْلِ التِّلَاوَةِ، وَقَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنْ مَا، أَيْ: أَتْلُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ الْإِشْرَاكِ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيِ: الْمَتْلُوُّ أَنْ لَا تُشْرِكُوا، وَشَيْئًا: مَفْعُولٌ أَوْ مَصْدَرٌ، أَيْ: لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ. قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أَيْ: أَحْسِنُوا بِهِمَا إِحْسَانًا، وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمَا: الْبِرُّ بِهِمَا، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمَا وَنَهْيِهِمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا. قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ لَمَّا ذَكَرَ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ، ذَكَرَ حَقَّ الْأَوْلَادِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَقْتُلُوهُمْ مِنْ أَجْلِ إِمْلَاقٍ. وَالْإِمْلَاقُ: الْفَقْرُ، فَقَدْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِالذَّكَرِ وَالْإِنَاثِ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ، وَتَفْعَلُهُ بِالْإِنَاثِ خَاصَّةً خَشْيَةَ الْعَارِ. وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ مُؤَرِّجٍ أَنَّ الْإِمْلَاقَ: الْجُوعُ بِلُغَةِ لَخْمٍ، وَذَكَرَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ أَنَّ الْإِمْلَاقَ: الْإِنْفَاقُ. يُقَالُ أَمْلَقَ مَالَهُ: بِمَعْنَى أَنْفَقَهُ. وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ، وَأَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ هَاهُنَا وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ أَيِ الْمَعَاصِيَ، وَمِنْهُ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً «2» وَمَا: فِي مَا ظَهَرَ بَدَلٌ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَكَذَا مَا بَطَنَ. وَالْمُرَادُ بِمَا ظَهَرَ: مَا أَعْلَنَ بِهِ مِنْهَا، وَمَا بَطَنَ: مَا أَسَرَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ اللَّامُ فِي النفس للجنس، والَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ صِفَةٌ لِلنَّفْسِ، أَيْ: لَا تَقْتُلُوا شَيْئًا مِنَ الْأَنْفُسِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بما يوجبه

_ (1) . المائدة: 105. (2) . الإسراء: 32.

الْحَقُّ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ أَيْ لَا تَقْتُلُوهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْحَقِّ، أَوْ لَا تَقْتُلُوهَا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَّا بِسَبَبِ الْحَقِّ، وَمِنَ الْحَقِّ: قَتْلُهَا قَصَاصًا وَقَتْلُهَا بِسَبَبِ زِنَا الْمُحْصَنِ، وَقَتْلُهَا بِسَبَبِ الرِّدَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِمَّا تلاه عليهم، وهو مبتدأ، ووَصَّاكُمْ بِهِ خَبَرُهُ، أَيْ: أَمَرَكُمْ بِهِ، وَأَوْجَبَهُ عَلَيْكُمْ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ أَيْ: لَا تَتَعَرَّضُوا له بوجه من الوجوه إِلَّا الخصلة بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهَا، وَهِيَ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَحِفْظُهُ وَتَنْمِيَتُهُ، فَيَشْمَلُ كُلَّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي فِيهَا نَفْعٌ لِلْيَتِيمِ وَزِيَادَةٌ فِي مَالِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: التِّجَارَةُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أَيْ: إِلَى غَايَةٍ هِيَ أَنْ يَبْلُغَ الْيَتِيمُ أَشُدَّهُ، فَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ فَادْفَعُوا إِلَيْهِ مَالَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ «1» . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْأَشُدِّ فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: بُلُوغُهُ وَإِينَاسُ رُشْدِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ الْبُلُوغُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ انتهاء الكهولة، ومنه قول سحيم الرّياحي: أخو خمسين مجتمع أشدّي ... ونجّدني مداورة الشّؤون وَالْأَوْلَى فِي تَحْقِيقِ بُلُوغِ الْأَشُدِّ: أَنَّهُ الْبُلُوغُ إِلَى سِنِّ التَّكْلِيفِ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي تَصَرُّفَاتِهِ بِمَالِهِ سَالِكًا مَسْلَكَ الْعُقَلَاءِ، لَا مَسْلَكَ أَهْلِ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ «2» فَجَعَلَ بُلُوغَ النِّكَاحِ، وَهُوَ بُلُوغُ سِنِّ التَّكْلِيفِ مُقَيَّدًا بِإِينَاسِ الرُّشْدِ، وَلَعَلَّهُ قَدْ سَبَقَ هُنَالِكَ كَلَامٌ فِي هَذَا، وَالْأَشُدُّ: وَاحِدٌ لَا جَمْعَ لَهُ وَقِيلَ: وَاحِدُهُ شَدٌّ كَفَلْسٍ وَأَفْلُسٍ وَأَصْلُهُ مِنْ شَدَّ النَّهَارُ: أَيِ ارْتَفَعَ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَاحِدُهُ شِدَّةٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ حَسَنٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ يُقَالُ: بَلَغَ الْكَلَامُ شِدَّتَهُ، وَلَكِنْ لَا تُجْمَعُ فِعْلَةٌ عَلَى أَفْعُلٍ. قَوْلُهُ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْعَدْلِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أَيْ: إِلَّا طَاقَتَهَا فِي كُلِّ تَكْلِيفٍ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَمِنْهُ التَّكْلِيفُ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، فَلَا يُخَاطَبُ الْمُتَوَلِّي لَهُمَا بِمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا أَيْ: إِذَا قُلْتُمْ بِقَوْلٍ فِي خير أَوْ شَهَادَةٍ أَوْ جَرْحٍ أَوْ تَعْدِيلٍ فَاعْدِلُوا فِيهِ وَتَحَرَّوُا الصَّوَابَ، وَلَا تَتَعَصَّبُوا فِي ذَلِكَ لِقَرِيبٍ وَلَا عَلَى بَعِيدٍ، وَلَا تَمِيلُوا إِلَى صَدِيقٍ وَلَا عَلَى عَدُوٍّ، بَلْ سَوُّوا بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَلَوْ كانَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يُفِيدُهُ وَإِذا قُلْتُمْ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْقَوْلِ مِنْ مَقُولٍ فِيهِ، أَوْ مَقُولٍ لَهُ: أَيْ وَلَوْ كَانَ الْمَقُولُ فِيهِ، أَوِ الْمَقُولُ لَهُ ذَا قُرْبى أَيْ صَاحِبَ قَرَابَةٍ لَكُمْ. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ عَلَى مِثْلِ قَرَابَاتِكُمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ «3» . قَوْلُهُ: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا أَيْ أَوْفُوا بِكُلِّ عَهْدٍ عَهِدَهُ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ مَا تَلَاهُ عَلَيْكُمْ رَسُولُهُ بِأَمْرِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ عَهْدٍ وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَصَّاكُمْ بِهِ أَمَرَكُمْ بِهِ أَمْرًا مُؤَكَّدًا لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَتَتَّعِظُونَ بِذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً أنّ

_ (1) . النساء: 6. (2) . النساء: 6. (3) . النساء: 135.

فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: وَاتْلُ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَفْضًا أَيْ وَصَّاكُمْ بِهِ، وَبِأَنَّ هَذَا. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: إِنَّ التَّقْدِيرَ: وَلِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ «1» . وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَنَّ هَذَا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ صِرَاطِي. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ وَإِنْ هَذَا صِرَاطِي بِالتَّخْفِيفِ عَلَى تَقْدِيرِ ضمير الشأن. وقرأ الأعمش وهذا صِرَاطِي وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكُمْ وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ وَالصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ، وَهُوَ طَرِيقُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَنَصْبُ مَسْتَقِيمًا عَلَى الْحَالِ، وَالْمُسْتَقِيمُ الْمُسْتَوِي الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ سَائِرِ السُّبُلِ، أَيِ: الْأَدْيَانِ الْمُتَبَايِنَةِ طُرُقُهَا فَتَفَرَّقَ بِكُمْ أَيْ تَمِيلَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أَيْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ السُّبُلُ تَعُمُّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ وَالْمَجُوسِيَّةَ وَسَائِرَ أَهْلِ الْمِلَلِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالشُّذُوذِ فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْجَدَلِ وَالْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ. هَذِهِ كُلُّهَا عُرْضَةٌ لِلزَّلَلِ وَمَظِنَّةٌ لِسُوءِ الْمُعْتَقَدِ، وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ وَصَّاكُمْ بِهِ أَيْ: أَكَّدَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةَ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن عبادة ابن الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ؟ ثُمَّ تَلَا قُلْ تَعالَوْا إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ وَفَّى بِهِنَّ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَأَدْرَكَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الضَّرِيسِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ عَشْرُ آيَاتٍ، وَهِيَ الْعَشْرُ الَّتِي أُنْزِلَتْ مِنْ آخِرِ الْأَنْعَامِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَى آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشيخ عن عبيد الله ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ: سَمِعَ كَعْبٌ رَجُلًا يَقْرَأُ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً فَقَالَ كَعْبٌ: وَالَّذِي نَفْسُ كَعْبٍ بِيَدِهِ إِنَّهَا لَأَوَّلُ آيَةٍ فِي التَّوْرَاةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ انْتَهَى. قُلْتُ: هِيَ الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ، وَأَوَّلُهَا أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَكُنْ لَكَ إِلَهٌ آخَرُ غَيْرِي. وَمِنْهَا: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِيَطُولَ عُمُرُكَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ، لَا تَقْتُلْ، لَا تَزْنِ، لَا تَسْرِقْ، لَا تشهد على قريبك شهادة زور، ولا تشته بنت قَرِيبِكَ، وَلَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ وَلَا عَبْدَهُ وَلَا أَمَتَهُ وَلَا ثَوْرَهُ وَلَا حِمَارَهُ وَلَا شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ، فَلَعَلَّ مُرَادُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ هَذَا وَلِلْيَهُودِ بِهَذِهِ الْوَصَايَا عِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ وَقَدْ كَتَبَهَا أَهْلُ الزَّبُورِ فِي آخِرِ زَبُورِهِمْ، وَأَهْلُ الْإِنْجِيلِ فِي أَوَّلِ إِنْجِيلِهِمْ. وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي لَوْحَيْنِ، وَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّبْتِ. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قَتَادَةَ وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ قَالَ: مِنْ خَشْيَةِ الْفَاقَةِ، قَالَ: وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمُ ابْنَتَهُ مَخَافَةَ الْفَاقَةِ عَلَيْهَا وَالسَّبْيِ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما

_ (1) . الجن: 18.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 154 إلى 157]

ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قَالَ: سِرَّهَا وَعَلَانِيَتَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ قَالَ: خَشْيَةَ الْفَقْرِ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَرَوْنَ بِالزِّنَا بَأْسًا فِي السِّرِّ وَيَسْتَقْبِحُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً قَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ السَّبِيلَ سَبِيلٌ وَاحِدٌ جَمَاعَةُ الْهُدَى وَمَصِيرُهُ الْجَنَّةُ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ اشْتَرَعَ سُبُلًا مُتَفَرِّقَةً جَمَاعَةَ الضَّلَالَةِ وَمَصِيرُهَا النَّارُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «خَطَّ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَطَّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الْخَطِّ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ: مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؟ قال: تركنا محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ وَطَرَفُهُ الْجَنَّةُ، وَعَنْ يَمِينِهِ جَوَادٌ وَعَنْ شِمَالِهِ جَوَادٌ، وَثَمَّ رِجَالٌ يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ، فَمَنْ أَخَذَ فِي تِلْكَ الْجَوَادِ انْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَمَنْ أَخَذَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ قال: الضّلالات. [سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَذَا الْكَلَامُ مَسُوقٌ لِتَقْرِيرِ التَّوْصِيَةِ الَّتِي وَصَّى اللَّهُ عِبَادَهُ بِهَا، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ الْعَطْفُ بِثُمَّ مَعَ كَوْنِ قِصَّةِ مُوسَى وَإِيتَائِهِ الْكِتَابَ قَبْلَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ فَقِيلَ: إِنَّ ثُمَّ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقِيلَ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: ثُمَّ كُنَّا قَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ قَبْلَ إِنْزَالِنَا الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ أَتْلُ إِيتَاءَ مُوسَى الْكِتَابَ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّوْصِيَةَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا قَدِيمَةٌ لَمْ يَزَلْ كُلُّ نَبِيٍّ يُوصِي بِهَا أُمَّتَهُ وَقِيلَ: إِنَّ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الْإِخْبَارِ كَمَا تَقُولُ: بَلَغَنِي مَا صَنَعْتَ الْيَوْمَ ثُمَّ مَا صَنَعْتَ بِالْأَمْسِ أَعْجَبُ. قَوْلُهُ: تَماماً مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ أو مصدر، وعَلَى الَّذِي أَحْسَنَ قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَهِيَ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، فَيَكُونُ رَفْعُ أَحْسَنَ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ: أَيْ عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ، وَمِنْهُ مَا حَكَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ: مَا أَنَا بِالَّذِي قَائِلٌ لَكَ شَيْئًا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ اسْمًا نَعْتًا لِلَّذِي، وَهَذَا مُحَالٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّهُ نَعَتٌ لِلِاسْمِ

قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ تَمَامًا عَلَى مَنْ أَحْسَنَ قَبُولَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ «تَمَامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا» وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ فِيهِمْ مُحْسِنٌ وَغَيْرُ مُحْسِنٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَعْطَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ يُحْسِنُهُ مُوسَى مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى مِنَ الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهَا، وَقِيلَ: تَمَامًا عَلَى إِحْسَانِ مُوسَى بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. قَوْلُهُ: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ مَعْطُوفٌ عَلَى تَمَامًا، أَيْ: وَلِأَجْلِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَذَا هُدىً وَرَحْمَةً مَعْطُوفَتَانِ عَلَيْهِ: أَيْ: وَلِلْهُدَى وَالرَّحْمَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُمْ رَاجِعٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِذِكْرِ مُوسَى، وَالْبَاءُ فِي بِلِقاءِ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُؤْمِنُونَ. قَوْلُهُ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ كِتَابٌ، وَأَنْزَلْنَاهُ صِفَةٌ لِكِتَابٍ، وَمُبَارَكٌ صِفَةٌ أُخْرَى لَهُ، وَتَقْدِيمُ صِفَةِ الْإِنْزَالِ لِكَوْنِ الْإِنْكَارِ مُتَعَلِّقًا بِهَا، وَالْمُبَارَكُ: كَثِيرُ الْبَرَكَةِ لِمَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ فَاتَّبِعُوهُ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْبَرَكَةِ، كَانَ اتِّبَاعُهُ مُتَحَتِّمًا عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا مُخَالَفَتَهُ وَالتَّكْذِيبَ بِمَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ إِنْ قَبِلْتُمُوهُ وَلَمْ تُخَالِفُوهُ تُرْحَمُونَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنْ فِي أَنْ تَقُولُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. قَالَ الْكُوفِيُّونَ: لِئَلَّا تَقُولُوا. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا: وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: الْمَعْنَى: فَاتَّقُوا أَنْ تَقُولُوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ: أَيِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْنَا كِتَابٌ وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ أَيْ عَنْ تِلَاوَةِ كُتُبِهِمْ بِلُغَاتِهِمْ لَغافِلِينَ أَيْ: لَا نَدْرِي مَا فِيهَا، وَمُرَادُهُمْ إِثْبَاتُ نُزُولِ الْكِتَابَيْنِ مَعَ الِاعْتِذَارِ عَنِ اتِّبَاعِ مَا فِيهِمَا بِعَدَمِ الدِّرَايَةِ مِنْهُمْ وَالْغَفْلَةِ عَنْ مَعْنَاهُمَا. قَوْلُهُ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ مَعْطُوفٌ عَلَى تَقُولُوا أَيْ: أَوْ أَنْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ كَمَا أُنْزِلَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ قَبِلْنَا لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي طَلَبَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَالْمَعْذِرَةَ مِنْهُمْ مُنْدَفِعَةٌ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: كِتَابٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ، وَهُوَ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، فَلَا تَعْتَذِرُوا بِالْأَعْذَارِ الْبَاطِلَةِ وَتُعَلِّلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْعِلَلِ السَّاقِطَةِ، فَقَدْ أَسْفَرَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى بَيِّنَةٌ أَيْ جَاءَكُمُ الْبَيِّنَةُ الْوَاضِحَةُ وَالْهُدَى الَّذِي يَهْتَدِي بِهِ كُلُّ مِنْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الِاهْتِدَاءِ، وَرَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ مَنْ يَطْلُبُهَا وَيُرِيدُ حُصُولَهَا، وَلَكِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالصُّدُوفِ عَنْهَا، أَيِ: الِانْصِرَافِ عَنْهَا، وَصَرْفِ مَنْ أَرَادَ الْإِقْبَالَ إِلَيْهَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ رَحْمَةٌ وَهُدًى لِلنَّاسِ وَصَدَفَ عَنْها فَضَلَّ بِانْصِرَافِهِ عَنْهَا، وَأَضَلَّ بِصَرْفِ غَيْرِهِ عَنِ الْإِقْبَالِ إِلَيْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ أَيِ الْعَذَابَ السيئ- بِ سَبَبِ مَا كانُوا يَصْدِفُونَ وَقِيلَ مَعْنَى صَدَفَ: أَعْرَضَ، وَيَصْدِفُونَ: يُعْرِضُونَ، وَهُوَ مُقَارِبٌ لِمَعْنَى الصَّرْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي فَمَنْ أَظْلَمُ: لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَظْلَمَ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا، مَعَ مَا يُفِيدُهُ ذَلِكَ مِنَ التَّبْكِيتِ لَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ

[سورة الأنعام (6) : آية 158]

قَالَ: عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَخْرٍ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ قَالَ: تَمَامًا لِمَا كَانَ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: تَمَامًا لِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ قال: هو القرآن الذي أنزل اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا يَقُولُ: فَاتَّبِعُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِيهِ وَاتَّقُوا مَا حَرَّمَ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، خَافَ أَنْ تَقُولَهُ قُرَيْشٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ قَالَ: تِلَاوَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ قَالَ: هَذَا قَوْلُ كُفَّارِ الْعَرَبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يَقُولُ: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ حِينَ لَمْ يَعْرِفُوا دِرَاسَةَ الطَّائِفَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: صَدَفَ عَنْها قَالَ: أَعْرَضَ عَنْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: يَصْدِفُونَ قَالَ: يعرضون. [سورة الأنعام (6) : آية 158] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) أَيْ: لَمَّا أَقَمْنَا عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَأَنْزَلْنَا الْكِتَابَ عَلَى رَسُولِنَا الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعُوا بِهِ عَنْ غِوَايَتِهِمْ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ هَذَا إِلَّا أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ أَيْ: يَنْتَظِرُونَ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَيْ: مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ لَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ كَمَا اقْتَرَحُوهُ بقوله: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا «1» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ بِإِهْلَاكِهِمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَوْ يَأْتِيَ كُلُّ آيَاتِ رَبِّكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ حذف المضاف كثيرا كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» وقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «3» أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ وَقِيلَ: إِتْيَانُ اللَّهِ: مَجِيئُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ كَقَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا «4» . قَوْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ. قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَ تَأْتِي بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ. قَالَ الْمُبَرِّدَ: التَّأْنِيثُ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ لِمُؤَنَّثٍ لَا عَلَى الْأَصْلِ وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ «لَا تَنْفَعُ» : بِالْفَوْقِيَّةِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّ هَذَا غَلَطٌ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ. وَقَدْ قَالَ النَّاسُ فِي هَذَا شَيْءٌ دَقِيقٌ مِنَ النَّحْوِ ذَكَرَهُ نِفْطَوَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالنَّفْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْآخَرِ، فَأَنَّثَ الْإِيمَانَ إِذْ هُوَ مِنَ النَّفْسِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُؤَنَّثَ الْإِيمَانُ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ كَمَا يُذْكَرُ الْمَصْدَرُ الْمُؤَنَّثُ مِثْلَ فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ. ومعنى يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي الآيات

_ (1) . الفرقان: 21. [.....] (2) . يوسف: 82. (3) . البقرة: 93. (4) . الفجر: 22.

الَّتِي اقْتَرَحُوهَا، وَهِيَ الَّتِي تَضْطَرُّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَنْتَظِرُونَهُ وَقِيلَ: هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي هِيَ عَلَامَاتُ الْقِيَامَةِ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ الَّتِي إِذَا جَاءَتْ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا. قَوْلُهُ: لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِ بَعْضِ الْآيَاتِ، فَأَمَّا الَّتِي قَدْ كَانَتْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ بَعْضِ الْآيَاتِ فَإِيمَانُهَا يَنْفَعُهَا، وَجُمْلَةُ لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ على أنها صفة نفسها. قَوْلُهُ: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً مَعْطُوفٌ عَلَى آمَنَتْ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا عِنْدَ حُضُورِ الْآيَاتِ مُتَّصِفَةً بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَكِنْ لَمْ تَكْسِبْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ إِلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِيمَانِ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ بَعْضِ الْآيَاتِ مَعَ كَسْبِ الْخَيْرِ فِي الْإِيمَانِ، فَمَنْ آمَنَ مِنْ قَبْلُ فَقَطْ وَلَمْ يَكْسِبْ خَيْرًا فِي إِيمَانِهِ أَوْ كَسَبَ خَيْرًا وَلَمْ يُؤْمِنْ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ نَافِعِهِ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ هُوَ كَقَوْلِكَ: لَا أُعْطِي رَجُلًا الْيَوْمَ أَتَانِي لَمْ يَأْتِنِي بِالْأَمْسِ أَوْ لَمْ يَمْدَحْنِي فِي إِتْيَانِهِ إِلَيَّ بِالْأَمْسِ، فَإِنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَطَاءَ إِلَّا رَجُلٌ أَتَاهُ بِالْأَمْسِ وَمَدَحَهُ فِي إِتْيَانِهِ إِلَيْهِ بِالْأَمْسِ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: انْتَظِرُوا مَا تُرِيدُونَ إِتْيَانَهُ إِنَّا مُنْتَظِرُونَ لَهُ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يُقَوِّي مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أَنَّهَا الْآيَاتُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا مِنْ إِتْيَانِ الْمَلَائِكَةِ وَإِتْيَانِ الْعَذَابِ لَهُمْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ قَالَ: عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مَسْنَدِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ قَالَ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا. فَإِذَا ثَبَتَ رَفْعُ هَذَا التَّفْسِيرِ النَّبَوِيِّ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ لَا قَادِحَ فِيهِ فَهُوَ وَاجِبُ التَّقْدِيمِ لَهُ مُتَحَتِّمُ الْأَخْذِ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِين لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السدي فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يَقُولُ: كَسَبَتْ فِي تَصْدِيقِهَا عَمَلًا صَالِحًا هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْقِبْلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُصَدِّقَةً لَمْ تَعْمَلْ قَبْلَ ذَلِكَ خَيْرًا فَعَمِلَتْ بَعْدَ أَنْ رَأَتِ الْآيَةَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا، وَإِنْ عَمِلَتْ قَبْلَ الْآيَةِ خَيْرًا، ثُمَّ عَمِلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ خَيْرًا قبل منها. وأخرج ابن أبي حاتم أبو الشَّيْخِ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قَالَ: يَعْنِي الْمُسْلِمَ الَّذِي لَمْ يَعْمَلُ فِي إِيمَانِهِ خَيْرًا وَكَانَ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 159 إلى 160]

قَبْلَ الْآيَةِ مُقِيمًا عَلَى الْكَبَائِرِ. وَالْآيَاتُ الَّتِي هِيَ عَلَامَاتُ الْقِيَامَةِ قَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَكَاثِرَةُ فِي بَيَانِهَا وَتَعْدَادِهَا، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ السّنّة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 159 الى 160] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «فَارَقُوا دِينَهُمْ» وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَيْ تَرَكُوا دِينَهُمْ وَخَرَجُوا عَنْهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: فَرَّقُوا بِالتَّشْدِيدِ إِلَّا النَّخَعِيَّ فَإِنَّهُ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَعَلُوا دِينَهُمْ مُتَفَرِّقًا، فَأَخَذُوا بِبَعْضِهِ وَتَرَكُوا بَعْضَهُ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقَدْ وَرَدَ فِي مَعْنَى هَذَا فِي الْيَهُودِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ «1» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ عَبَدَ بَعْضُهُمُ الصَّنَمَ وَبَعْضُهُمُ الْمَلَائِكَةَ وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَكُلِّ مَنِ ابْتَدَعَ وَجَاءَ بِمَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ اللَّهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَيَدْخُلُ فِيهِ طَوَائِفُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَطَوَائِفُ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنِ ابْتَدَعَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَمَعْنَى شِيَعًا: فِرَقًا وَأَحْزَابًا، فَتَصْدُقُ عَلَى كُلِّ قَوْمٍ كَانَ أَمْرُهُمْ فِي الدِّينِ وَاحِدًا مُجْتَمِعًا، ثُمَّ اتَّبَعَ كُلُّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ رَأْيَ كَبِيرٍ مِنْ كُبَرَائِهِمْ يُخَالِفُ الصَّوَابَ، وَيُبَايِنُ الْحَقَّ لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أَيْ لَسْتَ مِنْ تَفَرُّقِهِمْ، أَوْ مِنَ السُّؤَالِ عَنْ سَبَبِ تَفَرُّقِهِمْ وَالْبَحْثِ عَنْ مُوجِبِ تَحَزُّبِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَلْزَمُكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَلَا تُخَاطَبُ بِهِ إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وهو مثل قوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» أَيْ نَحْنُ بُرَآءُ مِنْهُ، وَمَوْضِعُ فِي شَيْءٍ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ لَسْتَ مِنْ عِقَابِهِمْ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْإِنْذَارُ، ثُمَّ سَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ مُجَازٍ لَهُمْ بِمَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ، وَالْحَصْرُ بِإِنَّمَا: هُوَ فِي حُكْمِ التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهُ وَالتَّأْكِيدِ لَهُ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنَبِّئُهُمْ أَيْ يُخْبِرُهُمْ بِمَا ينزله بهم من المجازاة بِما كانُوا يعملونه مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُخَالِفُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جُمْلَةِ مَا هُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. قَوْلُهُ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها لَمَّا تَوَعَّدَ سُبْحَانَهُ الْمُخَالِفِينَ لَهُ بِمَا تَوَعَّدَ بَيَّنَ عَقِبَ ذَلِكَ مِقْدَارَ جَزَاءِ الْعَامِلِينَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ الْمُمْتَثِلِينَ لِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ بِأَنَّ مَنْ جَاءَ بِحَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ فَلَهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالُهَا، فَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: حَسُنَ التَّأْنِيثُ فِي عَشْرِ أَمْثَالِهَا لَمَّا كَانَ الْأَمْثَالُ مُضَافًا إِلَى مُؤَنَّثٍ، نَحْو ذَهَبَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْأَعْمَشُ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها بِرَفْعِهِمَا. وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا التَّضْعِيفُ فِي السُّنَّةِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَهَذَا التَّضْعِيفُ هُوَ أَقَلُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَامِلُ الْحَسَنَةِ. وَقَدْ وَرَدَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى هَذَا عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَفِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ «2» . وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْحَسَنَاتِ أَنَّ فَاعِلَهَا يُجَازَى عَلَيْهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ تَضْعِيفُ الْجَزَاءِ إِلَى أُلُوفٍ مُؤَلَّفَةٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِمَا وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ

_ (1) . البينة: 4. (2) . البقرة: 261.

السَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها مِنْ دُونِ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا، عَلَى قَدْرِهَا فِي الْخِفَّةِ وَالْعِظَمِ، فَالْمُشْرِكُ يُجَازَى عَلَى سَيِّئَةِ الشِّرْكِ بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ، وَفَاعِلُ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُجَازَى عَلَيْهَا بِمِثْلِهَا مِمَّا وَرَدَ تَقْدِيرُهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّ مَنْ عَمِلَ كَذَا فَعَلَيْهِ كَذَا، وَمَا لَمْ يَرِدْ لِعُقُوبَتِهِ تَقْدِيرٌ مِنْ الذُّنُوبِ فَعَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ: يُجَازِيهِ اللَّهُ بِمِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَى حَقِيقَةِ مَا يُجَازَى بِهِ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يَتُبْ، أَمَّا إِذَا تَابَ أَوْ غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ، أَوْ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِمَغْفِرَتِهِ، فَلَا مُجَازَاةَ، وَأَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُصَرِّحَةٌ بِهَذَا تَصْرِيحًا لَا يَبْقَى بَعْدَهُ رَيْبٌ لِمُرْتَابٍ، وَهُمْ أَيْ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ لَا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ ثَوَابِ حَسَنَاتِ الْمُحْسِنِينَ، وَلَا بِزِيَادَةِ عُقُوبَاتِ الْمُسِيئِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَتَفَرَّقُوا، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ أُنْزِلَ عَلَيْهِ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنْهُ فِي نَاسِخِهِ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى تَرَكُوا الْإِسْلَامَ وَالدِّينَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَكانُوا شِيَعاً فِرَقًا أَحْزَابًا مُخْتَلِفَةً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ نسخها قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ «1» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ وَكانُوا شِيَعاً قَالَ: مِلَلًا شَتَّى. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ الْآيَةَ قَالَ: هُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالشِّيرَازِيُّ فِي الْأَلْقَابِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ والأهواء من هذه الأمة» ، وفي إسناده عباد بْنُ كَثِيرٍ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُهُ، وَمَنْ عَدَاهُ وَقَفُوهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ شَاهِينَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَأَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ فِي الْإِبَانَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعائشة: «يا عائش إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا هُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ وَأَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ، يَا عَائِشَةُ إِنَّ لِكُلِّ صَاحِبِ ذَنْبٍ تَوْبَةً غَيْرَ أَصْحَابِ الْبِدَعِ وَأَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ، وَهُمْ مِنِّي بُرَآءُ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ غَرِيبٌ، وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَسَنَةٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ أَفْضَلُ الْحَسَنَاتِ» ، وَهَذَا مُرْسَلٌ وَلَا نَدْرِي كَيْفَ إِسْنَادُهُ إِلَى سَعِيدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ. قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّهَا قَدْ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَةِ إِلَى عَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا، وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ، وَفَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ، وَعَطَاؤُهُ جمّ.

_ (1) . التوبة: 36.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 161 إلى 163]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 163] قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْكُفَّارَ تَفَرَّقُوا فِرَقًا وَتَحَزَّبُوا أَحْزَابًا أمر رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي أَيْ أَرْشَدَنِي بِمَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ مِلَّةُ إبراهيم عليه السلام، ودِيناً مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ كَمَا قَالَ قُطْرُبٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ هَدَانِي كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ وَقِيلَ: مُنْتَصِبٌ بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ هَدَانِي، لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَرَّفَنِي، أَيْ: عَرَّفَنِي دِينًا وَقِيلَ: إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّ إِلَى صِرَاطٍ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ هَدَانِي صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: اتَّبِعُوا دِينًا. قَوْلُهُ: قِيَماً قَرَأَهُ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَالتَّخْفِيفِ وَفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهُمَا لُغَتَانِ: وَمَعْنَاهُ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ، وَهُوَ صِفَةٌ لِدِينًا، وُصِفَ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَصْدَرًا، مُبَالَغَةً، وَانْتِصَابُ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عَلَى أَنَّهَا عَطْفُ بَيَانٍ لِدِينًا، وَيَجُوزُ نَصْبُهَا بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وحَنِيفاً مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَعْنِي. وَالْحَنِيفُ: الْمَائِلُ إِلَى الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبِ مَعْطُوفٍ عَلَى حَنِيفًا، أَوْ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ صَلاتِي أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ عَقِبَ أَمْرِهِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ بِالْمَقَالَةِ السَّابِقَةِ قِيلَ: وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى أُصُولِ الدِّينِ، وَهَذَا إِلَى فُرُوعِهَا. وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ: جِنْسُهَا فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا هُنَا: صَلَاةُ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: صَلَاةُ الْعِيدِ. وَالنُّسُكُ: جَمْعُ نَسِيكَةٍ، وَهِيَ الذَّبِيحَةُ كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمْ، أَيْ: ذَبِيحَتِي فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: دِينِي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عِبَادَتِي مِنْ قَوْلِهِمْ: نَسَكَ فُلَانٌ هُوَ نَاسِكٌ: إِذَا تَعَبَّدَ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمَحْيايَ وَمَماتِي أَيْ: مَا أَعْمَلُهُ فِي حَيَاتِي وَمَمَاتِي مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَمِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ فِي الْمَمَاتِ الْوَصِيَّةُ بِالصَّدَقَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ وقيل: نفس الحياة ونفس الموت لِلَّهِ. وقرأ الْحَسَنُ نُسْكِي بِسُكُونِ السِّينِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَحْيَايْ بِسُكُونِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، لِئَلَّا يَجْتَمِعَ سَاكِنَانِ قَالَ النَّحَّاسُ: لَمْ يُجِزْهُ، أَيِ السُّكُونَ أَحَدٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا يُونُسُ، وَإِنَّمَا أَجَازَهُ لِأَنَّ الْمَدَّةَ الَّتِي فِي الْأَلِفِ تَقُومُ مَقَامَ الْحَرَكَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ مَحْيَى مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ وَهِيَ لُغَةُ عُلْيَا مُضَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ ... فَتُخُرِّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ خَالِصًا لَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ، وَالْإِشَارَةُ بِذلِكَ إِلَى مَا أَفَادَهُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ فِي الطَّاعَةِ وَجَعْلِهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ. قَوْلُهُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أي أوّل

_ (1) . هو أبو ذؤيب.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 164 إلى 165]

مُسْلِمِي أُمَّتِهِ وَقِيلَ: أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الرِّسَالَةِ فَهُوَ أَوَّلُهُمْ فِي الْخَلْقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «1» الْآيَةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِهَذَا الذِّكْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ وَأَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: «وجهت وجهي للذي فطر السّموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» إِلَى قَوْلِهِ: «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» قُلْتُ: هَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مُطَوَّلًا. وَهُوَ أَحَدُ التَّوَجُّهَاتِ الْوَارِدَةِ، وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ كَمَا فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَأَصَحُّ التَّوَجُّهَاتِ الَّذِي كَانَ يُلَازِمُهُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ هُوَ «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ» إِلَى آخِرِهِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى بِمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى زيادة عليه هنا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ صَلاتِي قَالَ: يَعْنِي الْمَفْرُوضَةَ وَنُسُكِي يَعْنِي الْحَجَّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَنُسُكِي قَالَ: ذَبِيحَتِي. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي قَالَ: حَجِّي وَذَبِيحَتِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَنُسُكِي قل: ذَبِيحَتِي فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَنُسُكِي قَالَ: ضَحِيَّتِي. وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا فَاطِمَةُ! قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكَ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا كُلَّ ذَنْبٍ عَمِلْتِهِ، وَقُولِي: إِنَّ صَلَاتِي إِلَى وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، قَلَتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ خَاصَّةً- فَأَهْلُ ذَلِكَ أَنْتُمْ- أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: لَا، بَلْ للمسلمين عامة» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 164 الى 165] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) الِاسْتِفْهَامُ فِي أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا للإنكار، وهو جواب على المشركين لما دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، أَيْ: كَيْفَ أَبْغِي غَيْرَ اللَّهِ رَبَّا مُسْتَقِلَّا وَأَتْرُكُ عِبَادَةَ اللَّهِ أَوْ شَرِيكًا لِلَّهِ فَأَعْبُدَهُمَا مَعًا، وَالْحَالُ أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَالَّذِي تَدْعُونَنِي إِلَى عِبَادَتِهِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ هُوَ مَرْبُوبٌ لَهُ مَخْلُوقٌ مِثْلِي لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لَهُمْ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَغَيْرَ: مَنْصُوبٍ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَرَبًّا: تَمْيِيزٌ أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى جَعْلِ الْفِعْلِ نَاصِبًا لِمَفْعُولَيْنِ قَوْلُهُ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها أَيْ لَا يُؤَاخَذُ مِمَّا أَتَتْ مِنَ الذَّنْبِ وَارْتَكَبَتْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ سِوَاهَا، فَكُلُّ كَسْبِهَا لِلشَّرِّ عَلَيْهَا لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ «2» وقوله: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى. قَوْلُهُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَصْلُ الْوِزْرِ: الثِّقْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ «3» وهو هنا: الذنب

_ (1) . الأحزاب: 7. (2) . البقرة: 286. (3) . الشرح: 2.

وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ: وُزِرَ يُوزَرُ، وَوَزَرَ يَزِرُ وِزْرًا، وَيَجُوزُ إِزْرًا، وَفِيهِ رَدٌّ لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الْقَرِيبِ بِذَنْبِ قَرِيبِهِ، وَالْوَاحِدِ مِنَ الْقَبِيلَةِ بِذَنْبِ الْآخَرِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ الَّتِي قَبْلَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «1» ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» . وَالْأَوْلَى: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، أَعْنِي: الْعُمُومَ وَمَا وَرَدَ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَنْبِ الْغَيْرِ كَالدِّيَةِ الَّتِي تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُخَصَّصِ بِهَذَا الْعُمُومِ وَيُقِرُّ فِي مَوْضِعِهِ وَلَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «2» فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَثْقَالِ الَّتِي مَعَ أَثْقَالِهِمْ هِيَ أَثْقَالُ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «3» . ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فِي الدُّنْيَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ حَقُّ الْمُحِقِّينَ وَبَاطِلُ الْمُبْطِلِينَ. قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ خَلَائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، أَيْ: جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ السالفة، قال الشّمّاخ: تصيبهم وَتُخْطِئُنِي الْمَنَايَا ... وَأَخْلُفُ فِي رُبُوعٍ عَنْ رُبُوعِ أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُخْلِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فِي الْخَلْقِ، وَالرِّزْقِ، وَالْقُوَّةِ، وَالْفَضْلِ، وَالْعِلْمِ، وَدَرَجَاتٍ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: إِلَى دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ أَيْ لِيَخْتَبِرَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ، أَوْ لِيَبْتَلِيَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ كَقَوْلِهِ تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً «4» ثُمَّ خَوَّفَهُمْ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ فَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ كَمَا قَالَ: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ «5» ثُمَّ رَغَّبَ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّرْغِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ قَالَ: لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السدي في قوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ قَالَ: أَهْلَكَ الْقُرُونَ الْأُولَى فَاسْتَخْلَفَنَا فِيهَا بَعْدَهُمْ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ قَالَ: فِي الرّزق.

_ (1) . الأنفال: 25. (2) . العنكبوت: 13. (3) . النحل: 25. (4) . الفرقان: 20. [.....] (5) . النحل: 77.

سورة الأعراف

سورة الأعراف هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَمَانِ آيَاتٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ «1» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ، وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سُورَةُ الْأَعْرَافِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ: قَالَ: آيَةٌ مِنَ الْأَعْرَافِ مدنية، وهي وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ «2» إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَسَائِرُهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ يُفَرِّقُهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ. وَآيَاتُهَا مِائَتَانِ وَسِتُّ آيَاتٍ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) قَوْلُهُ: المص قَدْ تَقَدَّمَ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ، وَهُوَ: إِمَّا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ كِتَابٌ، أَيْ: المص حُرُوفُ كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ أَوْ هُوَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَذَا المص أَيِ الْمُسَمَّى بِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْفَوَاتِحُ مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ فَلَا مَحَلَّ لَهُ، وَكِتَابٌ: خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ عَلَى الثَّانِي، أَيْ: هُوَ كِتَابٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ: هَذَا كِتَابٌ، وَأُنْزِلَ إِلَيْكَ صِفَةٌ لَهُ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ الْحَرَجُ: الضِّيقُ، أَيْ: لَا يَكُنْ فِي صَدْرِك ضِيقٌ مِنْهُ مِنْ إِبْلَاغِهِ إِلَى النَّاسِ مَخَافَةَ أَنْ يُكَذِّبُوكَ وَيُؤْذُوكَ فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُكَ وَنَاصِرُكَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ: لَا يَضِقْ صَدْرُكَ حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْحَرَجُ هُنَا: الشَّكُّ، لِأَنَّ الشَّاكَّ ضَيِّقُ الصَّدْرِ، أَيْ: لَا تَشُكَّ فِي أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا يكون النهي له صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ بَابِ التَّعْرِيضِ، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، أَيْ: لَا يَشُكَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مِنْ إِبْلَاغِهِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ التَّقْدِيرُ، مِنْ إِنْزَالِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي لِتُنْذِرَ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ أَيْ: لِتُنْذِرَ النَّاسَ بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأُنْزِلَ، أَيْ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ لإنذارك

_ (1) . الأعراف: 163- 165. (2) . الأعراف: 163.

لِلنَّاسِ بِهِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّهْيِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الشَّكِّ فِي كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوِ انْتِفَاءَ الْخَوْفِ مَنْ قَوْمِهِ يُقَوِّيهِ عَلَى الْإِنْذَارِ وَيُشَجِّعُهُ، لِأَنَّ الْمُتَيَقِّنَ يُقْدِمُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَيُبَاشِرُ بِقُوَّةِ نَفْسٍ. قَوْلُهُ: وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ الذِّكْرَى: التَّذْكِيرُ. قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الذِّكْرَى: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى كِتَابٌ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: وَذَكِّرْ بِهِ ذِكْرَى، قَالَهُ الْبَصْرِيُّونَ. وَيَجُوزُ الْجَرُّ حَمْلًا عَلَى مَوْضِعِ لِتُنْذِرَ، أَيْ: لِلْإِنْذَارِ وَالذِّكْرَى، وَتَخْصِيصُ الذِّكْرَى بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُنْجَعُ فِيهِمْ ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَخْصِيصِ الْإِنْذَارِ بِالْكَافِرِينَ. قَوْلُهُ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يَعْنِي: الْكِتَابَ وَمِثْلُهُ السُّنَّةُ لِقَوْلِهِ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1» وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ لِلْأُمَّةِ بَعْدَ أمره صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالتَّبْلِيغِ، وَهُوَ مُنَزَّلٌ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِهِ إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ نَهْيٌ لِلْأُمَّةِ عَنْ أَنْ يَتَّبِعُوا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَعْبُدُونَهُمْ وَيَجْعَلُونَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، فَالضَّمِيرُ عَلَى هَذَا فِي مِنْ دُونِهِ يَرْجِعُ إِلَى رَبِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَا فِي مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، أَيْ: لَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِ كِتَابِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ تُقَلِّدُونَهُمْ فِي دِينِكُمْ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ طَاعَةِ الرُّؤَسَاءِ فِيمَا يُحَلِّلُونَهُ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَهُ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ انْتِصَابُ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ لِلْفِعْلِ الْمُتَأَخِّرِ، أَيْ: تَذَكُّرًا قَلِيلًا، وما: مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ أَوْ هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ لَا تَتَّبِعُوا، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: لَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا تَذَكُّرُهُمْ، قُرِئَ تَذْكُرُونَ بِالتَّخْفِيفِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْإِدْغَامِ، قَوْلُهُ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها كَمْ: هِيَ الْخَبَرِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلتَّكْثِيرِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وأَهْلَكْناها الْخَبَرُ، وَمِنْ قَرْيَةٍ: تَمْيِيزٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ بَعْدَهَا لَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، وَلَوْلَا اشْتِغَالُ أَهْلَكْنَاهَا بِالضَّمِيرِ لَجَازَ انْتِصَابُ كَمْ بِهِ، وَالْقَرْيَةُ: مَوْضِعُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ، أَيْ: كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ مِنَ الْقُرَى الْكَبِيرَةِ أَهْلَكْنَاهَا نَفْسَهَا بِإِهْلَاكِ أَهْلِهَا، أَوْ أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا، وَالْمُرَادُ: أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا. قَوْلُهُ: فَجاءَها بَأْسُنا مَعْطُوفٌ عَلَى أَهْلَكْنَا بِتَقْدِيرِ الْإِرَادَةِ كَمَا مَرَّ، لِأَنَّ تَرْتِيبَ مَجِيءِ الْبَأْسِ عَلَى الْإِهْلَاكِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهَذَا التَّقْدِيرِ، إِذِ الْإِهْلَاكُ هُوَ نَفْسُ مَجِيءِ الْبَأْسِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْفَاءَ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَلَا يَلْزَمُ التَّقْدِيرُ، وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَاهَا وَجَاءَهَا بَأْسُنَا، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لَا تَرْتِيبَ فِيهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْإِهْلَاكَ وَاقِعٌ لِبَعْضِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَا بَعْضَ أَهْلِهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَا الْجَمِيعَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ حَكَمْنَا بِإِهْلَاكِهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا وَقِيلَ: أَهْلَكْنَاهَا بِإِرْسَالِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ إِلَيْهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا، وَالْبَأْسُ: هُوَ الْعَذَابُ. وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْتَ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ جَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا، مِثْلَ دَنَا فَقَرُبَ، وَقَرُبَ فَدَنَا بَياتاً أَيْ: لَيْلًا، لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ، يُقَالُ: بَاتَ يَبِيتُ بَيْتًا وَبَيَاتًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ، أَيْ: بَائِتِينَ. قَوْلُهُ: أَوْ هُمْ قائِلُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى بَيَاتًا، أَيْ: بَائِتِينَ أَوْ قَائِلِينَ، وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ بِدُونِ وَاوٍ اسْتِثْقَالًا لِاجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ، وَاوِ الْعَطْفِ وَوَاوِ الْحَالِ، هَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَاعْتَرَضَهُ الزَّجَّاجُ فَقَالَ: هَذَا خَطَأٌ بَلْ لَا يُحْتَاجُ إِلَى الْوَاوِ، تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ رَاكِبًا أَوْ هُوَ مَاشٍ لِأَنَّ فِي الْجُمْلَةِ ضَمِيرًا قد عاد إلى الأوّل، وأو في هذا الموضع:

_ (1) . الحشر: 7.

لِلتَّفْصِيلِ لَا لِلشَّكِّ. وَالْقَيْلُولَةُ: هِيَ نَوْمُ نِصْفِ النَّهَارِ. وَقِيلَ: هِيَ مُجَرَّدُ الِاسْتِرَاحَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِشِدَّةِ الْحَرِّ مِنْ دُونِ نَوْمٍ، وَخَصَّ الْوَقْتَيْنِ لِأَنَّهُمَا وَقْتُ السُّكُونِ وَالدَّعَةِ فَمَجِيءُ الْعَذَابِ فِيهِمَا أَشَدُّ وَأَفْظَعُ. قَوْلُهُ: فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ الدَّعْوَى: الدُّعَاءُ، أَيْ: فَمَا كَانَ دُعَاؤُهُمْ رَبَّهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ إِلَّا اعْتِرَافُهُمْ بالظلم على أنفسهم، ومثله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ «1» أَيْ: آخِرُ دُعَائِهِمْ وَقِيلَ: الدَّعْوَى هُنَا بِمَعْنَى الِادِّعَاءِ، وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ مَا يَدَّعُونَهُ لِدِينِهِمْ وَيَنْتَحِلُونَهُ إِلَّا اعْتِرَافُهُمْ بِبُطْلَانِهِ وَفَسَادِهِ، وَاسْمُ كَانَ إِلَّا أَنْ قالُوا وَخَبَرُهَا دَعْواهُمْ وَيَجُوزُ الْعَكْسُ وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِلَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّا كنا ظالمين. قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَالسُّؤَالُ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَاللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، أَيْ: لَنَسْأَلَنَّهُمْ عَمَّا أَجَابُوا بِهِ رُسُلَهُمْ عِنْدَ دَعْوَتِهِمْ، وَالْفَاءُ: لِتَرْتِيبِ الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ عَلَى الْأَحْوَالِ الدنيوية وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ أَيِ: الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللَّهُ، أَيْ: نَسْأَلُهُمْ عَمَّا أَجَابَ بِهِ أُمَمُهُمْ عَلَيْهِمْ وَمَنْ أَطَاعَ مِنْهُمْ وَمَنْ عَصَى وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ: يَعْنِي: الْأَنْبِيَاءَ، وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ: يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ سبحانه: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ «2» لِمَا قَدَّمْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْآخِرَةَ مَوَاطِنُ، فَفِي مَوْطِنٍ يُسْأَلُونَ، وَفِي مَوْطِنٍ لَا يُسْأَلُونَ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا وَرَدَ مِمَّا ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ بِأَنْ أَثْبَتَ تَارَةً وَنَفَى أُخْرَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَعَدُّدِ الْمَوَاقِفِ مَعَ طُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ طُولًا عَظِيمًا فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ أَيْ: عَلَى الرُّسُلِ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ الدَّعْوَةِ مِنْهُمْ لَهُمْ بِعِلْمٍ لَا بِجَهْلٍ، أَيْ: عَالِمِينَ بِمَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَما كُنَّا غائِبِينَ عَنْهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ حَتَّى يَخْفَى عَلَيْنَا شَيْءٌ مِمَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: المص قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ مِنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ: قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: المص قَالَ: هُوَ الْمُصَوِّرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فِي قَوْلِهِ: المص قَالَ: الْأَلِفُ مِنَ اللَّهِ، وَالْمِيمُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَالصَّادُ مِنَ الصَّمَدِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَا اللَّهُ الصَّادِقُ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ قَوْلٌ بِالظَّنِّ وَتَفْسِيرٌ بِالْحَدْسِ، وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْحَقُّ مَا قَدَّمْنَا فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ قَالَ: الشَّكُّ، وَقَالَ لِأَعْرَابِيٍّ: مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ؟ قَالَ: اللَّبْسُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: ضِيقٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ قَرَأَ فَما كانَ دَعْواهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ قَالَ: نَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ ونسأل المرسلين عما بلغوا فلنقصنّ

_ (1) . يونس: 10. (2) . القصص: 78.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 8 إلى 18]

عليهم بعلم قال: يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ فَرَقَدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَحَدُهُمَا الْأَنْبِيَاءُ، وَأَحَدُهُمَا الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَنَسْأَلُ جِبْرِيلَ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 18] وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) قَوْلُهُ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ الْوَزْنُ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْحَقُّ، أَيِ: الْوَزْنُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَدْلُ الَّذِي لَا جَوْرَ فِيهِ، أَوِ الْخَبَرُ: يَوْمَئِذٍ، وَالْحَقُّ: وَصْفٌ لِلْمُبْتَدَأِ، أَيِ: الْوَزْنُ الْعَدْلُ كَائِنٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَقِيلَ: إِنَّ الْحَقَّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْوَزْنِ الْكَائِنِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ وَزْنُ صَحَائِفِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ بِالْمِيزَانِ وَزْنًا حَقِيقِيًّا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ وَقِيلَ: تُوزَنُ نَفْسُ الْأَعْمَالِ وَإِنْ كَانَتْ أَعْرَاضًا فَإِنَّ اللَّهَ يَقْلِبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْسَامًا كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ يَأْتِيَانِ يَوْمَ القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَّافٍ» . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَأْتِي الْقُرْآنُ فِي صُورَةِ شَابٍّ شَاحِبِ اللَّوْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقِيلَ: الْمِيزَانُ: الْكِتَابُ الَّذِي فِيهِ أَعْمَالُ الْخَلْقِ وَقِيلَ: الْوَزْنُ وَالْمِيزَانُ: بِمَعْنَى الْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ، وَذَكَرَهُمَا مِنْ بَابِ ضَرْبِ الْمَثَلِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ فِي وَزْنِ هَذَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا سَائِغٌ مِنْ جِهَةِ اللِّسَانِ، وَالْأَوْلَى أَنْ نَتَّبِعَ مَا جَاءَ فِي الْأَسَانِيدِ الصِّحَاحِ مِنْ ذِكْرِ الْمِيزَانِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَدْ أَحْسَنَ الزَّجَّاجُ فِيمَا قَالَ، إِذْ لَوْ حُمِلَ الصِّرَاطُ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ عَلَى مَا يَرِدُ عَلَى الْأَرْوَاحِ دُونَ الْأَجْسَادِ، وَالشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ عَلَى الْقُوَى الْمَحْمُودَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَخْذِ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر وصارت هَذِهِ الظَّوَاهِرُ نُصُوصًا. انْتَهَى. وَالْحَقُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَأَمَّا الْمُسْتَبْعِدُونَ لِحَمْلِ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ عَلَى حَقَائِقِهَا فَمَا يَأْتُونَ فِي اسْتِبْعَادِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّرْعِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، بَلْ غَايَةُ مَا تَشَبَّثُوا بِهِ مُجَرَّدُ الِاسْتِبْعَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدٍ، فَهَذَا إِذَا لَمْ تَقْبَلْهُ عُقُولُهُمْ فَقَدْ قَبِلَتْهُ عُقُولُ قَوْمٍ هِيَ أَقْوَى

مِنْ عُقُولِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ حَتَّى جَاءَتِ الْبِدَعُ كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَقَالَ كُلٌّ مَا شَاءَ، وَتَرَكُوا الشَّرْعَ خَلْفَ ظُهُورِهِمْ وَلَيْتَهُمْ جَاءُوا بِأَحْكَامٍ عَقْلِيَّةٍ يَتَّفِقُ الْعُقَلَاءُ عَلَيْهَا، وَيَتَّحِدُ قَبُولُهُمْ لَهَا، بَلْ كُلُّ فَرِيقٍ يَدَّعِي عَلَى الْعَقْلِ مَا يُطَابِقُ هَوَاهُ، وَيُوَافِقُ مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ هو أو من هو تابع له، فتناقض عُقُولُهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا تَنَاقَضَتْ مَذَاهِبُهُمْ، يَعْرِفُ هَذَا كُلُّ مُنْصِفٍ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ فَلْيُصَفِّ فَهْمَهُ وَعَقْلَهُ عَنْ شَوَائِبِ التَّعَصُّبِ وَالتَّمَذْهُبِ فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَسْفَرَ الصُّبْحُ لِعَيْنَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الْوَزْنِ وَالْمَوَازِينِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً «1» ، وَقَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ «2» ، وَقَوْلِهِ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ «3» ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «4» ، وَقَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ- فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ- وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ- فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ «5» ، وَالْفَاءُ فِي فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ لِلتَّفْصِيلِ. وَالْمَوَازِينُ: جَمْعُ مِيزَانٍ، وَأَصْلُهُ مِوْزَانٌ قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا، وَثِقْلُ الْمَوَازِينِ هَذَا يَكُونُ بِثِقْلِ مَا وُضِعَ فِيهَا مِنْ صَحَائِفِ الْأَعْمَالِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوَازِينَ جَمْعُ مَوْزُونٍ، أَيْ: فَمَنْ رَجَحَتْ أَعْمَالُهُ الْمَوْزُونَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَظَاهِرُ جَمْعِ الْمَوَازِينِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْعَامِلِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَامِلِينَ مَوَازِينَ يُوزَنُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا صِنْفٌ مِنْ أَعْمَالِهِ وَقِيلَ هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَمَا يُقَالُ: خَرَجَ فُلَانٌ إِلَى مَكَّةَ عَلَى الْبِغَالِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ إِلَى مَنْ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ، كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ مَوازِينُهُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِثْلُهُ، وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ سَبَبِيَّةٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَمَعْنَى يَظْلِمُونَ يَكْذِبُونَ. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَكَانًا، وَهَيَّأْنَا لَكُمْ فِيهَا أَسْبَابَ الْمَعَايِشِ. وَالْمَعَايِشُ جَمْعُ مَعِيشَةٍ، أَيْ: مَا يُتَعَايَشُ بِهِ مِنَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ وَمَا تَكُونُ بِهِ الْحَيَاةُ، يُقَالُ: عَاشَ يَعِيشُ عَيْشًا وَمَعَاشًا وَمَعِيشًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعِيشَةُ مَا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إِلَى الْعَيْشِ، وَالْمَعِيشَةُ عِنْدَ الْأَخْفَشِ وَكَثِيرٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَفْعِلَةٌ. وقرأ الأعرج «معائش» بالهمز، وَكَذَا رَوَى خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ نَافِعٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْهَمْزُ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الواحدة معيشة والياء أصلية كَمَدِينَةٍ وَمَدَايِنَ وَصَحِيفَةٍ وَصَحَايِفَ. قَوْلُهُ: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا من قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ «6» . وقوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ هَذَا ذِكْرُ نِعْمَةٍ أُخْرَى مِنْ نِعَمٍ اللَّهِ عَلَى عَبِيدِهِ. وَالْمَعْنَى: خَلَقْنَاكُمْ نُطَفًا ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: خَلَقْنَا آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي ظَهْرِهِ وَقِيلَ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ يَعْنِي: آدَمَ، ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَإِنَّ تَرْتِيبَ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ يُفِيدُ أَنَّ الْمَخْلُوقَ الْمُصَوَّرَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ ثُمَّ فِي ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ حِينَ أَخَذْنَا عَلَيْكُمُ الْمِيثَاقَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأَرْوَاحَ أَوَّلًا، ثم صوّرنا الأشباح، ثم قلنا

_ (1) . الأنبياء: 47. (2) . المؤمنون: 101. (3) . المؤمنون: 102 و 103. (4) . النساء: 40. (5) . القارعة: 6- 9. (6) . الأعراف: 3.

لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، أَيْ: أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ فَامْتَثَلُوا الْأَمْرَ، وَفَعَلُوا السُّجُودَ بَعْدَ الْأَمْرِ إِلَّا إِبْلِيسَ قِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ بِتَغْلِيبِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى إِبْلِيسَ لِأَنَّهُ كَانَ مُنْفَرِدًا بَيْنَهُمْ، أَوْ كَمَا قِيلَ: لِأَنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جِنْسًا يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي الْبَقَرَةِ. قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا فُهِمَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَمَنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعًا قَالَ مَعْنَاهُ: لَكِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَجُمْلَةُ قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ فَمَاذَا قال له الله؟ ولا في أَلَّا تَسْجُدَ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سورة ص ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ «1» وَقِيلَ: إِنَّ مَنَعَ بِمَعْنَى قَالَ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ قَالَ لَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ؟ وَقِيلَ: مَنَعَ بِمَعْنَى دَعَا، أَيْ: مَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ؟ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الطَّاعَةِ وَأَحْوَجَكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ أَيْ: وَقْتَ أَمَرْتُكَ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْفَوْرِ، وَالْبَحْثُ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَا مَنَعَكَ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَإِلَّا فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ، وَجُمْلَةُ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا قَالَ إِبْلِيسُ؟ وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْجَوَابِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ: مَنَعَنِي كَذَا، لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَانِعِ وَهُوَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَالْفَاضِلُ لَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ لِلْمَفْضُولِ مَعَ مَا تُفِيدُهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ إِنْكَارِ أَنْ يُؤْمَرَ مِثْلُهُ بِالسُّجُودِ لِمِثْلِهِ. ثُمَّ عَلَّلَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ اعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّ عُنْصُرَ النَّارِ أَفْضَلُ مِنْ عُنْصُرِ الطِّينِ. وَقَدْ أَخْطَأَ عَدُوُّ اللَّهِ فَإِنَّ عُنْصُرَ الطِّينِ أَفْضَلُ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ مِنْ جِهَةِ رَزَانَتِهِ وسكونه وطول بقائه وهي خفيفة مُضْطَرِبَةٌ سَرِيعَةُ النَّفَادِ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ «2» مَوْجُودٌ فِي الْجَنَّةِ دُونَهَا، وَهِيَ «3» عَذَابٌ دُونَهُ، وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ لِتَتَحَيَّزَ فِيهِ، وَهُوَ مَسْجِدٌ وَطَهُورٌ، وَلَوْلَا سَبْقُ شَقَاوَتِهِ «4» وَصِدْقِ كَلِمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ لَكَانَ لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُطِيعِينَ لِهَذَا الْأَمْرِ أُسْوَةٌ وَقُدْوَةٌ، فَعُنْصُرُهُمُ النُّورِيُّ أَشْرَفُ مِنْ عُنْصُرِهِ النَّارِيِّ، وَجُمْلَةُ قالَ فَاهْبِطْ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ لِلْأَمْرِ، أَيِ: اهْبِطْ مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْمُطِيعِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّ مَنْ يَعْصِي وَيُطِيعُ، فَإِنَّ السَّمَاءَ لَا تَصْلُحُ لِمَنْ يَتَكَبَّرُ وَيَعْصِي أَمْرَ رَبِّهِ مِثْلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها. وَمِنَ التفاسير الباطلة ما قيل: إن معنى فَاهْبِطْ مِنْها أَيْ أَخْرِجْ مِنْ صُورَتِكِ النَّارِيَّةِ الَّتِي افتخرت بها إلى صُورَةً مُظْلِمَةً مُشَوَّهَةً وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُبُوطُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَقِيلَ: مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُمْلَةُ فَاخْرُجْ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ، وَجُمْلَةُ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ، أَيْ: إِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الصَّغَارِ وَالْهَوَانِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى صَالِحِي عِبَادِهِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ تَرَدَّى بِرِدَاءِ الِاسْتِكْبَارِ عُوقِبَ بِلُبْسِ رِدَاءِ الْهَوَانِ وَالصَّغَارِ. وَمَنْ لَبِسَ رِدَاءَ التَّوَاضُعِ ألبسه الله رداء الترفع،

_ (1) . ص: 75. (2) . أي: الطين. [.....] (3) . أي: النار. (4) . أي: إبليس.

وَجُمْلَةُ قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، أَيْ: أَمْهِلْنِي إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَكَأَنَّهُ طَلَبَ أَنْ لَا يَمُوتَ، لِأَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ لَا مَوْتَ بَعْدَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي يُبْعَثُونَ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أَيِ: الْمُمْهَلِينَ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ تُعَاقَبُ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ لَكَ، وَأَنْزَلَهُ بِكَ فِي دَرَكَاتِ النَّارِ. قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي إِنْظَارِهِ ابْتِلَاءُ الْعِبَادِ لِيَعْرِفَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَجُمْلَةُ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْجُمَلِ السَّابِقَةِ وَارِدَةٌ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالْبَاءُ فِي فَبِما لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْفَاءُ: لِتَرْتِيبِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلْقَسَمِ كَقَوْلِهِ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «1» أَيْ فَبِإِغْوَائِكِ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وَالْإِغْوَاءُ: الْإِيقَاعُ فِي الْغَيِّ وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى مَعَ. وَالْمَعْنَى: فَمَعَ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ، وَقِيلَ مَا فِي فَبِما أَغْوَيْتَنِي لِلِاسْتِفْهَامِ. وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَغْوَيْتَنِي؟ وَالْأَوَّلُ أُولَى. وَمُرَادُهُ بِهَذَا الْإِغْوَاءِ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا لِمَا سَيَفْعَلُهُ مَعَ الْعِبَادِ هُوَ تَرْكُ السُّجُودِ مِنْهُ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِإِغْوَاءِ اللَّهِ لَهُ، حَتَّى اخْتَارَ الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ اللَّعْنَةَ الَّتِي لَعَنَهُ اللَّهُ، أَيْ: فَبِمَا لَعَنْتَنِي فَأَهْلَكْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ، وَمِنْهُ: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا «2» أي: هلاكا. وقال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي غَيًّا: إِذَا فَسَدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ أَوْ فَسَدَ هُوَ في نفسه، ومنه وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «3» أَيْ: فَسَدَ عَيْشُهُ فِي الْجَنَّةِ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ أَيْ لَأَجْهَدَنَّ فِي إِغْوَائِهِمْ حَتَّى يَفْسُدُوا بِسَبَبِي كَمَا فَسَدْتُ بِسَبَبِ تَرْكِي السُّجُودَ لِأَبِيهِمْ. وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْجَنَّةِ. وَانْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: فِي صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ: ضَرَبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، وَاللَّامُ في لَأَقْعُدَنَّ لام القسم، والباء فَبِما أَغْوَيْتَنِي مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي أُقْسِمُ لَأَقْعُدَنَّ. قَوْلُهُ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ ذَكَرَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعَ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَأْتِي مِنْهَا الْعَدُوُّ عَدُوَّهُ، وَلِهَذَا تَرَكَ ذِكْرَ جِهَةِ الْفَوْقِ وَالتَّحْتِ، وَعُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الْجِهَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِمِنْ، وَإِلَى الْأُخْرَيَيْنِ بِعَنْ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَنْ يَأْتِي مِنْ قُدَّامٍ وَخَلْفٍ أَنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَا يَأْتِيهِ بِكُلِّيَّةِ بَدَنِهِ، وَالْغَالِبُ فِيمَنْ يَأْتِي مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ وَالشَّمَالِ أَنْ يَكُونَ مُنْحَرِفًا، فَنَاسَبَ فِي الْأُولَيَيْنِ التَّعْدِيَةُ بِحَرْفِ الابتداء، وفي الأخريين التعدية بحرف المجاورة، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِوَسْوَسَتِهِ وَتَسْوِيلِهِ بِمَنْ يَأْتِي حَقِيقَةً وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ مِنْ آخِرَتِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ مِنْ جِهَةِ حَسَنَاتِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ مِنْ جِهَةِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَاسْتَحْسَنَهُ النَّحَّاسُ. قَوْلُهُ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ أَيْ: وَعِنْدَ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ لَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ لِتَأْثِيرِ وَسْوَسَتِي فِيهِمْ وَإِغْوَائِي لَهُمْ، وَهَذَا قَالَهُ عَلَى الظَّنِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «4» ، وَقِيلَ: إِنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَهُ، وَعَبَّرَ بِالشُّكْرِ عَنِ الطَّاعَةِ، أَوْ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا اللَّهَ بِسَبَبِ الْإِغْوَاءِ، وَجُمْلَةُ قالَ اخْرُجْ مِنْها اسْتِئْنَافٌ كَالْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: مِنَ السَّمَاءِ أَوِ الْجَنَّةِ أَوْ من بين الملائكة كما تقدّم مَذْؤُماً أَيْ مَذْمُومًا مِنْ ذَأَمَهُ إِذَا ذَمَّهُ يُقَالُ ذَأَمْتُهُ وَذَمَمْتُهُ بِمَعْنًى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «مَذْمُومًا» . وَقَرَأَ الزهري مَذْؤُماً بِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَقِيلَ: الْمَذْءُومُ: الْمَنْفِيُّ، وَالْمَدْحُورُ: الْمَطْرُودُ. قَوْلُهُ: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا لَامُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُهُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ

_ (1) . ص: 82. (2) . مريم: 59. (3) . طه: 121. (4) . سبأ: 20.

وَقِيلَ اللَّامُ فِي لَمَنْ تَبِعَكَ لِلتَّوْكِيدِ، وَفِي لَأَمْلَأَنَّ لَامُ الْقَسَمِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَجَوَابُ الْقَسَمِ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ التَّهْدِيدِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَمَنْ تَبِعَكَ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَتَقْدِيرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: مِنْ أَجْلِ مَنِ اتَّبَعَكَ، كَمَا يُقَالُ: أَكْرَمْتُ فُلَانًا لَكَ وَقِيلَ: هُوَ عِلَّةٌ لِاخْرُجْ، وَضَمِيرُ مِنْكُمْ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَغُلِّبَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ عَلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، وَالْأَصْلُ مِنْكَ وَمِنْهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ قَالَ: الْعَدْلُ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ قَالَ: حَسَنَاتُهُ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ قَالَ: حَسَنَاتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ: تُوزَنُ الْأَعْمَالُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي كَيْفِيَّةِ الْمِيزَانِ وَالْوَزْنِ وَالْمَوْزُونِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَيَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا، يَا رَبِّ! فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ؟ فَيَهَابُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لَا، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَيُخْرِجُ لَهُ بِطَاقَةً فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وثقلت البطاقة» وقد صححه أيضا الترمذي، وإسناد أَحْمَدَ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ قَالَ: خُلِقُوا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَصُوِّرُوا فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خُلِقُوا فِي ظَهْرِ آدَمَ ثُمَّ صُوِّرُوا فِي الْأَرْحَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَمَّا خَلَقْنَاكُمْ: فَآدَمُ، وَأَمَّا ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ: فَذُرِّيَّتُهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: خُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ نَارِ الْعِزَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وَصَفَهُ لَكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ فِي قَوْلِهِ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى الْحَسَنِ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّينِ بِرَأْيهِ إِبْلِيسُ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: اسْجُدْ لِآدَمَ، فَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» قَالَ جَعْفَرٌ: فَمَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّينِ بِرَأْيهِ قَرَنَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلِيسَ لِأَنَّهُ اتَّبَعَهُ بِالْقِيَاسِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ رَفْعُهُ وَهُوَ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النُّبُوَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي أَضْلَلْتَنِي. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ قَالَ: طَرِيقُ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عباس

[سورة الأعراف (7) : الآيات 19 إلى 25]

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ قَالَ: أُشَكِّكُهُمْ في آخِرَتِهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ قَالَ: أُرَغِّبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ أُشَبِّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ قَالَ: أُسِنُّ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ وَأُحِقُّ عَلَيْهِمُ الْبَاطِلَ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قَالَ: مُوَحِّدِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يَقُولُ: مِنْ حَيْثُ يُبْصِرُونَ وَمِنْ خَلْفِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ مِنْ حَيْثُ يُبْصِرُونَ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُولُ مِنْ فَوْقِهِمْ. وَفِي لَفْظٍ: عَلِمَ أَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ مِنْ فَوْقِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: مَذْؤُماً قَالَ: مَلُومًا مَدْحُوراً قَالَ: مَقِيتًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد مَذْؤُماً قال: منفيا مَدْحُوراً قال: مطرودا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 25] وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) قَوْلُهُ: وَيا آدَمُ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: وَقُلْنَا يَا آدَمُ. قَالَ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ بَعْدَ إِخْرَاجِ إِبْلِيسَ مِنَ الْجَنَّةِ، أَوْ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِسْكَانِ، وَمَعْنَى لَا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فِي الْبَقَرَةِ. وَمَعْنَى مِنْ حَيْثُ شِئْتُما مِنْ أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَنَّةِ شِئْتُمَا أَكْلَهُ، وَمِثْلُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما «1» وَحَذْفُ النُّونِ مِنْ فَتَكُونا لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَجْزُومِ أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ النَّهْيِ. قَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ الْوَسْوَسَةُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَالْوَسْوَسَةُ: حَدِيثُ النَّفْسِ، يُقَالُ: وَسْوَسَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَسْوَسَةً وَوِسْوَاسًا بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَالْوَسْوَسَةُ بِالْفَتْحِ: الِاسْمُ، مِثْلَ الزَّلْزَلَةِ وَالزِّلْزَالِ، وَيُقَالُ لِهَمْسِ الصَّائِدِ وَالْكِلَابِ وَأَصْوَاتِ الْحُلِيِّ: وَسْوَاسٌ. قَالَ الْأَعْشَى: تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسَوَاسًا إِذَا انْصَرَفَتْ «2» ..... وَالْوَسْوَاسُ: اسْمُ الشَّيْطَانِ. وَمَعْنَى وَسْوَسَ لَهُ: وَسْوَسَ إِلَيْهِ، أَوْ فَعَلَ الْوَسْوَسَةَ لأجله. قوله: لِيُبْدِيَ

_ (1) . البقرة: 35. (2) . وعجزه: كما استعان بريح عشرق زجل. «عشرق» : شجر له حب صغار إذا جفّ صوّت بمرّ الريح.

لَهُمَا أَيْ: لِيُظْهِرَ لَهُمَا، وَاللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ كَمَا في قوله: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً وَقِيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ، أَيْ: فَعَلَ ذَلِكَ لِيَتَعَقَّبَهُ الْإِيذَاءُ، أَوْ لِكَيْ يَقَعَ الْإِيذَاءُ. قَوْلُهُ: مَا وُورِيَ أَيْ: مَا سُتِرَ وَغُطِّيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما سَمَّى الْفَرَجَ سَوْءَةً لِأَنَّ ظُهُورَهُ يَسُوءُ صَاحِبَهُ، أَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَسُوءَهُمَا بِظُهُورِ مَا كَانَ مَسْتُورًا عَنْهُمَا مِنْ عَوْرَاتِهِمَا، فَإِنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ عَوْرَةَ أَنْفُسِهِمَا وَلَا يَرَاهَا أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُقْلَبِ الْوَاوُ فِي وُورِيَ هَمْزَةً، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مَدَّةٌ قِيلَ: إِنَّمَا بَدَتْ عَوْرَتُهُمَا لَهُمَا لَا لِغَيْرِهِمَا، وَكَانَ عَلَيْهِمَا نُورٌ يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهَا وَقالَ أَيِ: الشَّيْطَانُ لَهُمَا مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ أَكْلِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تقديره: إلا كَرَاهَةَ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ، هَكَذَا قَالَ الْبَصْرِيُّونَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: التَّقْدِيرُ لِئَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ فِي الْجَنَّةِ أَوْ مِنَ الَّذِينَ لَا يَمُوتُونَ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِي الْقُرْآنِ، فَمِنْهَا هَذَا، وَمِنْهَا وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ، ومنها لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ . قَالَ ابْنُ فُورَكْ: لَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: مَلَكَيْنِ فِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا شَهْوَةٌ فِي الطَّعَامِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَأَطَالُوا الْكَلَامَ فِي غَيْرِ طَائِلٍ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا كَلَّفَنَا اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَالْكَلَامُ فِيهَا لَا يَعْنِينَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَالضَّحَّاكُ «مَلِكَيْنِ» بِكَسْرِ اللَّامِ، وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ قَبْلَ آدَمَ مُلْكٌ فَيَصِيرَا مَلِكَيْنِ. وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَذِهِ حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ لِقِرَاءَةِ الْكَسْرِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ عَلَى تَرْكِهَا، فَلِهَذَا تَرَكْنَاهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: هِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَأَنْكَرَ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ هَذَا الْكَلَامَ وَجَعَلَهُ مِنَ الْخَطَأِ الْفَاحِشِ. قَالَ: وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَصِلَ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ مُلْكِ الْجَنَّةِ وَهِيَ غَايَةُ الطَّالِبِينَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى وَمُلْكٍ لَا يَبْلى الْمُقَامُ فِي مُلْكِ الْجَنَّةِ وَالْخُلُودُ فِيهِ. قَوْلُهُ: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أَيْ: حَلَفَ لَهُمَا فقال: أقسم إقساما أي: حلف، ومنه قول الشاعر: وقاسمها بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمَا ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا ما نُشُورُهَا «1» وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ تَدُلُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فَقَدْ جَاءَتْ كَثِيرًا لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ هَذَا فِي الْمَائِدَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْمُبَالَغَةُ فِي صُدُورِ الْأَقْسَامِ لَهُمَا مِنْ إِبْلِيسَ وَقِيلَ إِنَّهُمَا أَقْسَمَا لَهُ بِالْقَبُولِ كَمَا أَقْسَمَ لَهُمَا عَلَى الْمُنَاصَحَةِ. قَوْلُهُ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ التَّدْلِيَةُ وَالْإِدْلَاءُ: إِرْسَالُ الشَّيْءِ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، يُقَالُ: أَدْلَى دَلْوَهُ: أَرْسَلَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَهْبَطَهُمَا بِذَلِكَ مِنَ الرُّتْبَةِ الْعَلِيَّةِ إِلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَوْقَعَهُمَا فِي الْهَلَاكِ وَقِيلَ: خَدَعَهُمَا، وَأَنْشَدَ نَفْطَوَيْهِ: إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا تَشَاءُ خَدَعْتَهُ ... وَتَرَى اللَّئِيمَ مُجَرِّبًا لا يخدع

_ (1) . «السلوى» : العسل. و «شار العسل» : اجتناه وأخذه من موضعه.

وقيل معنى: فَدَلَّاهُما دَلَّلَهُمَا مِنَ الدَّالَّةِ، وَهِيَ الْجُرْأَةُ: أَيْ جَرَّأَهُمَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَخَرَجَا مِنَ الْجَنَّةِ. قَوْلُهُ: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أَيْ: لَمَّا طَعِمَاهَا ظَهَرَتْ لَهُمَا عَوْرَاتُهُمَا بِسَبَبِ زَوَالِ مَا كَانَ سَاتِرًا لَهَا وَهُوَ تَقَلُّصُ النُّورِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. قَوْلُهُ: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ طَفِقَ يَفْعَلُ كَذَا: بِمَعْنَى شَرَعَ يَفْعَلُ كَذَا. وَحَكَى الْأَخْفَشُ: طَفِقَ يَطْفِقُ مِثْلَ ضَرِبَ يَضْرِبُ، أَيْ: شَرَعَا أَوْ جَعَلَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا. قَرَأَ الْحَسَنُ «يَخِصِّفَانِ» بِكَسْرِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَالْأَصْلُ: يَخْتَصِفَانِ فَأَدْغَمَ وَكُسِرَتِ الْخَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ بُرَيْدَةَ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْخَاءِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ «يُخْصِفَانِ» مِنْ أَخْصَفَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَخْصِفَانِ» مِنْ خَصَفَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمَا أَخَذَا يَقْطَعَانِ الْوَرَقَ وَيُلْزِقَانِهِ بِعَوْرَتِهِمَا لِيَسْتُرَاهَا، مِنْ خَصَفَ النَّعْلَ: إِذَا جَعَلَهُ طَبَقَةً فَوْقَ طَبَقَةٍ وَناداهُما رَبُّهُما قَائِلًا لَهُمَا: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيْتُكُمَا عَنْ أَكْلِهَا، وَهَذَا عِتَابٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمَا وَتَوْبِيخٌ حَيْثُ لَمْ يَحْذَرَا مَا حَذَّرَهُمَا مِنْهُ وَأَقُلْ لَكُما مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْهَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ أَيْ مُظْهِرٌ لِلْعَدَاوَةِ. قَوْلُهُ: قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَا؟ وَهَذَا مِنْهُمَا اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ، وَأَنَّهُمَا ظَلَمَا أَنْفَسَهُمَا مِمَّا وَقَعَ مِنْهُمَا مِنَ الْمُخَالَفَةِ، ثُمَّ قَالَا: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، وَجُمْلَةُ قالَ اهْبِطُوا اسْتِئْنَافٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتِهِمَا، أَوْ لَهُمَا وَلِإِبْلِيسَ، وَجُمْلَةُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أَيْ مَوْضِعُ اسْتِقْرَارٍ وَلكم مَتاعٌ تَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَتَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ الْمَطْعَمِ وَالْمُشْرَبِ وَنَحْوِهِمَا إِلى حِينٍ أَيْ: إِلَى وَقْتٍ، وَهُوَ وَقْتُ مَوْتِكُمْ، وَجُمْلَةُ قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: فِي الْأَرْضِ تَحْيَوْنَ، وَفِيهَا يَأْتِيكُمُ الْمَوْتُ، وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى «1» وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مُسْتَوْفًى فِي الْبَقَرَةِ فَارْجِعْ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ وهب ابن مُنَبِّهٍ فِي قَوْلِهِ: لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما قَالَ: كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُورٌ لَا يُبْصِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوْءَةَ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا أَصَابَا الْخَطِيئَةَ نُزِعَ عَنْهُمَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَاهُمَا إِبْلِيسٌ فَقَالَ: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ مِثْلَهُ، يَعْنِي مِثْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يُصَدِّقَاهُ حَتَّى دَخَلَ فِي جَوْفِ الْحَيَّةِ فَكَلَّمَهُمَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ فَإِنْ أَخْطَأَكُمَا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ لَمْ يُخْطِئْكُمَا أَنْ تَكُونَا خَالِدَيْنِ فَلَا تَمُوتَانِ فِيهَا أَبَدًا وَقاسَمَهُما قَالَ: حَلَفَ لَهُمَا إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ قَالَ: مَنَّاهُمَا بِغُرُورٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لِبَاسُ كُلِّ دَابَّةٍ مِنْهَا، وَلِبَاسُ الْإِنْسَانِ الظُّفْرُ، فَأَدْرَكَتْ آدَمَ التَّوْبَةُ عِنْدَ ظُفْرِهِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبيهقي وابن عساكر عن ابن

_ (1) . طه: 55.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 26 إلى 27]

عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِبَاسُ آدَمَ وَحَوَّاءَ كَالظُّفْرِ، فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمَا إِلَّا مِثْلُ الظُّفْرِ وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ قَالَ: يَنْزِعَانِ وَرَقَ التِّينِ فَيَجْعَلَانِهِ عَلَى سَوْآتِهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أَسْكَنَ اللَّهُ آدَمَ الْجَنَّةَ كَسَاهُ سِرْبَالًا مِنَ الظُّفْرِ، فَلَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ سَلَبَهُ السِّرْبَالَ فَبَقِيَ فِي أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ لِبَاسُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ الْيَاقُوتُ، فَلَمَّا عَصَى قُلِّصَ فَصَارَ الظُّفْرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَطَفِقا يَخْصِفانِ قَالَ: يُرَقِّعَانِ كَهَيْئَةِ الثَّوْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ قَالَ آدَمُ: رَبِّ إِنَّهُ حَلَفَ لِي بِكَ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ يَحْلِفُ بِكَ إِلَّا صَادِقًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الْآيَةَ قَالَ: هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 27] يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) عَبَّرَ سُبْحَانَهُ بِالْإِنْزَالِ عَنِ الْخَلْقِ: أَيْ خَلَقْنَا لَكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمُ الَّتِي أَظْهَرَهَا إِبْلِيسُ مِنْ أَبَوَيْكُمْ، وَالسَّوْءَةُ: الْعَوْرَةُ كَمَا سَلَفَ، وَالْكَلَامُ فِي قَدْرِهَا وَمَا يَجِبُ سَتْرُهُ مِنْهَا مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. قَوْلُهُ: وَرِيشاً قَرَأَ الْحَسَنُ وَعَاصِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ وَأَبُو عَمْرٍو مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ «وَرِيَاشًا» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «وَرِيشًا» وَالرِّيَاشُ جَمْعُ رِيشٍ: وَهُوَ اللِّبَاسُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: رِيشٌ وَرِيَاشٌ كَمَا يُقَالُ لِبْسٌ وَلِبَاسٌ، وَرِيشُ الطَّائِرِ مَا سَتَرَهُ اللَّهُ بِهِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالرِّيشِ هُنَا: الْخِصْبُ وَرَفَاهِيَةُ الْعَيْشِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الرِّيشَ مَا سَتَرَ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ مَعِيشَةٍ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: وَهَبْتُ لَهُ دَابَّةً وَرِيشَهَا، أَيْ: وَمَا عَلَيْهَا مِنَ اللِّبَاسِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالرِّيشِ هُنَا: لِبَاسُ الزِّينَةِ لِذِكْرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً وَعَطْفِهِ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَلِباسُ التَّقْوى قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِنَصْبِ لِبَاسٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ فَالنَّصْبُ: عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى لِبَاسٍ الْأَوَّلِ، وَالرَّفْعُ: عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ ذلِكَ خَيْرٌ خَبَرُهُ، وَالْمُرَادُ بِلِبَاسِ التَّقْوَى: لِبَاسُ الْوَرَعِ وَاتِّقَاءُ مَعَاصِي اللَّهِ، وَهُوَ الْوَرَعُ نَفْسُهُ وَالْخَشْيَةُ مِنَ اللَّهِ، فَذَلِكَ خَيْرُ لِبَاسٍ وَأَجْمَلُ زِينَةٍ وَقِيلَ: لِبَاسُ التَّقْوَى: الْحَيَاءُ وَقِيلَ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقِيلَ: هُوَ لِبَاسُ الصُّوفِ وَالْخَشِنِ مِنَ الثِّيَابِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ وَقِيلَ: هُوَ الدِّرْعُ وَالْمِغْفَرُ الَّذِي يَلْبَسُهُ مَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ تَقْوَى لِلَّهِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ كَثِيرَةُ الوقوع في كلام العرب، ومنه: إذا الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابًا مِنَ التُّقَى ... تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيَا

وَمِثْلُهُ: تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَاءِ فَإِنَّنِي ... أَرَى كُلَّ عَيْبٍ وَالسَّخَاءُ غِطَاؤُهُ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى لِبَاسِ التَّقْوَى: أَيْ هُوَ خَيْرُ لِبَاسٍ، وَقَرَأَ الأعمش ولباس التّقوى خَيْرٌ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ إِلَى الْإِنْزَالِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِأَنْزَلْنَا: أَيْ ذَلِكَ الْإِنْزَالُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَهُ خَالِقًا، ثُمَّ كَرَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّدَاءَ لِبَنِي آدَمَ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ: يا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ أَيْ لَا يُوقِعَنَّكُمْ فِي الْفِتْنَةِ، فَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِبَنِي آدَمَ بِأَنْ لَا يَفْتَتِنُوا بِفِتْنَتِهِ وَيَتَأَثَّرُوا لِذَلِكَ، وَالْكَافُ فِي كَما أَخْرَجَ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لَا يَفْتِنَنَّكُمْ فِتْنَةً مِثْلَ إِخْرَاجِ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَجُمْلَةُ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَاللَّامُ فِي لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما لَامُ كَيْ، أَيْ: لِكَيْ يُرِيَهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ أَيْضًا، قَوْلُهُ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مَعَ مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَحْذِيرِهِمْ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ- يَرَى بَنِي آدَمَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ- كَانَ عَظِيمَ الْكَيْدِ، وَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُحْتَرَسَ مِنْهُ أَبْلَغَ احْتِرَاسٍ وَقَبِيلُهُ أَعْوَانُهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَجُنُودُهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الشَّيَاطِينِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَغَايَةُ مَا فِيهَا أَنَّهُ يَرَانَا مِنْ حَيْثُ لَا نَرَاهُ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّا لَا نَرَاهُ أَبَدًا، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الرُّؤْيَةِ مِنَّا لَهُ فِي وَقْتِ رُؤْيَتِهِ لَنَا لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَهَا مُطْلَقًا، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ مِنْ عِبَادِهِ وَهُمُ الْكُفَّارُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، وَفِي قَوْلِهِ: وَرِيشاً قَالَ: الْمَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ قَالَ: الثِّيَابُ وَرِيشاً قَالَ: الْمَالُ وَلِباسُ التَّقْوى قَالَ: خَشْيَةُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ قَالَ: لِبَاسُ الْعَامَّةِ وَرِيشاً قَالَ: لِبَاسُ الزِّينَةِ وَلِباسُ التَّقْوى قَالَ: الْإِسْلَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَرِيشاً قَالَ: الْمَالُ وَاللِّبَاسُ وَالْعَيْشُ وَالنَّعِيمُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلِباسُ التَّقْوى قَالَ: الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ذلِكَ خَيْرٌ قَالَ: الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ خَيْرٌ مِنَ الرِّيشِ وَاللِّبَاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَرِيَاشًا يَقُولُ: الْمَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما قَالَ: التَّقْوَى، وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ قَالَ: الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 28 إلى 30]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 28 الى 30] وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) الْفَاحِشَةُ: مَا تُبَالِغُ فِي فُحْشِهِ وَقُبْحِهِ مِنَ الذُّنُوبِ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ طَوَافُ الْمُشْرِكِينَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً. وَقِيلَ: هِيَ الشِّرْكُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَصْدُقُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَنْبًا قَبِيحًا مُتَبَالِغًا فِي الْقُبْحِ اعْتَذَرُوا عَنْ ذَلِكَ بِعُذْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِآبَائِهِمْ لَمَّا وَجَدُوهُمْ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى فِعْلِ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَكِلَا الْعُذْرَيْنِ فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ، لِأَنَّ وُجُودَ آبَائِهِمْ عَلَى الْقُبْحِ لَا يُسَوِّغُ لَهُمْ فِعْلَهُ، وَالْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ لَمْ يَكُنْ بِالْفَحْشَاءِ، بَلْ أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعَمَلِ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَنَهَاهُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِمَا، وَمِمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ: فِعْلُ الفواحش، ولهذا ردّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فَكَيْفَ تَدَّعُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ، وَفِيهِ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالْجَهْلِ إِذَا كَانَ قَبِيحًا فِي كُلِّ شَيْءٍ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِي التَّقَوُّلِ عَلَى اللَّهِ؟ وَإِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لَأَعْظَمَ زَاجِرٍ وَأَبْلَغَ وَاعِظٍ لِلْمُقَلِّدَةِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ فِي الْمَذَاهِبِ الْمُخَالِفَةِ لِلْحَقِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِأَهْلِ الْكُفْرِ لَا بِأَهْلِ الْحَقِّ، فَإِنَّهُمُ الْقَائِلُونَ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «1» وَالْقَائِلُونَ وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها وَالْمُقَلِّدُ لَوْلَا اغْتِرَارُهُ بِكَوْنِهِ وَجَدَ أَبَاهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، مَعَ اعْتِقَادِهِ بِأَنَّهُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ، لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْخَصْلَةُ هِيَ الَّتِي بَقِيَ بِهَا الْيَهُودِيُّ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيُّ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَالْمُبْتَدِعُ عَلَى بِدْعَتِهِ، فَمَا أَبْقَاهُمْ عَلَى هَذِهِ الضَّلَالَاتِ إِلَّا كَوْنُهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةَ أَوْ البدعية وأحسنوا الظنّ بهم بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَلَمْ يَنْظُرُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا طَلَبُوا الْحَقَّ كَمَا يَجِبُ وَبَحَثُوا عَنْ دِينِ اللَّهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَهَذَا هُوَ التَّقْلِيدُ الْبَحْتُ وَالْقُصُورُ الْخَالِصُ، فَيَا مَنْ نَشَأَ عَلَى مَذْهَبٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنَا لَكَ النَّذِيرُ الْمُبَالِغُ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ تَقُولَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَتَسْتَمِرَّ عَلَى الضَّلَالَةِ، فَقَدِ اخْتَلَطَ الشَّرُّ بِالْخَيْرِ وَالصَّحِيحُ بِالسَّقِيمِ وَفَاسِدُ الرَّأْيِ بِصَحِيحِ الرِّوَايَةِ. وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا نَبِيًّا وَاحِدًا أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ وَنَهَى عَنْ مُخَالَفَتِهِ فَقَالَ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «2» وَلَوْ كَانَ مَحْضُ رَأْيِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ وَأَتْبَاعُهُمْ حُجَّةً عَلَى الْعِبَادِ، لَكَانَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ رُسُلٌ كَثِيرُونَ مُتَعَدِّدُونَ بِعَدَدِ أَهْلِ الرَّأْيِ الْمُكَلِّفِينَ لِلنَّاسِ بِمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ بِهِ. وَإِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْغَفْلَةِ وَأَعْظَمِ الذُّهُولِ عَنِ الْحَقِّ اخْتِيَارَ الْمُقَلِّدَةِ لِآرَاءِ الرِّجَالِ مَعَ وُجُودِ كِتَابِ اللَّهِ، وَوُجُودِ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَوُجُودِ مَنْ يَأْخُذُونَهُمَا عَنْهُ، وَوُجُودِ آلَةِ الْفَهْمِ لَدَيْهِمْ وَمَلَكَةِ الْعَقْلِ عِنْدَهُمْ. قَوْلُهُ: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ الْقِسْطُ: الْعَدْلُ وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ لَا كَمَا زَعَمُوهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالْفَحْشَاءِ وقيل: القسط

_ (1) . الزخرف: 23. (2) . الحشر: 7.

هُنَا هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ فَأَطِيعُوهُ. قَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ مَعْطُوف عَلَى الْمَحْذُوفِ الْمُقَدَّرِ: أَيْ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ فِي صَلَاتِكُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ كُنْتُمْ، أَوْ فِي كُلِّ وَقْتِ سُجُودٍ، أَوْ فِي كُلِّ مَكَانِ سُجُودٍ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّجُودِ الصَّلَاةُ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أَيِ ادْعُوهُ أَوِ اعْبُدُوهُ حَالَ كَوْنِكُمْ مُخْلِصِينَ الدُّعَاءَ، أَوِ الْعِبَادَةَ لَهُ وَقِيلَ: وَحِّدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ. قَوْلُهُ: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ الْكَافُ: نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ. وَالْمَعْنَى: كَمَا أَنْشَأَكُمْ فِي ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ يُعِيدُكُمْ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ الِاحْتِجَاجَ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ وَقِيلَ: كَمَا أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ تَعُودُونَ إِلَيْهِ كَذَلِكَ لَيْسَ مَعَكُمْ شَيْءٌ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَقِيلَ: كَمَا بَدَأَكُمْ مِنْ تُرَابٍ تَعُودُونَ إِلَى التُّرَابِ فَرِيقاً هَدى مُنْتَصِبٌ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ وَقِيلَ: مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضْمَرِ فِي تَعُودُونَ، أَيْ: تَعُودُونَ فَرِيقَيْنِ: سُعَدَاءَ وَأَشْقِيَاءَ وَيُقَوِّيهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ «فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا هَدَى» ، وَالْفَرِيقُ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الْمُتَّبِعُونَ لِأَنْبِيَائِهِ، وَالْفَرِيقُ الَّذِي حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ: هُمُ الْكُفَّارُ. قَوْلُهُ: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أَيْ: ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَطَاعُوا الشَّيَاطِينَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وَلَمْ يَعْتَرِفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالضَّلَالَةِ، وَهَذَا أَشَدُّ فِي تَمَرُّدِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قَالَ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَكْرَمَ اللَّهُ عَبْدًا قَطُّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَلَا رَضِيَهَا لَهُ وَلَا أَمَرَ بِهَا، وَلَكِنْ رَضِيَ لَكُمْ بِطَاعَتِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ قَالَ: بِالْعَدْلِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قَالَ: إِلَى الْكَعْبَةِ حَيْثُ صَلَّيْتُمْ فِي كَنِيسَةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ قَالَ: شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ الْآيَةَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَدَأَ خَلْقَ بَنِي آدَمَ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا كَمَا قَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ «1» ثُمَّ يُعِيدُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا بَدَأَ خَلْقَهُمْ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ جَابِرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُبْعَثُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ: الْمُؤْمِنُ عَلَى إِيمَانِهِ وَالْمُنَافِقُ عَلَى نِفَاقِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ الْقَدَرِيَّةَ فَقَالَ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ- فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ: يَقُولُ: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَذَلِكَ تَعُودُونَ.

_ (1) . التغابن: 2.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 31 إلى 33]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 33] يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) هَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ بَنِي آدَمَ وَإِنْ كَانَ وَارِدًا عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَالزِّينَةُ: مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ النَّاسُ مِنَ الْمَلْبُوسِ، أُمِرُوا بِالتَّزَيُّنِ عِنْدَ الْحُضُورِ إِلَى الْمَسَاجِدِ لِلصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ سَتْرُهَا وَاجِبٌ فِي كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ خَالِيًا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. وَالْكَلَامُ عَلَى الْعَوْرَةِ وَمَا يَجِبُ سَتْرُهُ مِنْهَا مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. قَوْلُهُ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْإِسْرَافِ فَلَا زُهْدَ فِي تَرْكِ مَطْعَمٍ وَلَا مَشْرَبٍ، وَتَارِكُهُ بِالْمَرَّةِ قَاتِلٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، كَمَا صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَالْمُقَلِّلُ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يَضْعُفُ بِهِ بَدَنُهُ وَيَعْجَزُ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ سَعْيٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى مَنْ يَعُولُ، مخالفا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ، وَالْمُسْرِفُ فِي إِنْفَاقِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا أَهْلُ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ، مُخَالِفٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَاقِعٌ فِي النَّهْيِ الْقُرْآنِيِّ وَهَكَذَا مَنْ حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ حَلَّلَ حَرَامًا، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْمُسْرِفِينَ وَيَخْرُجُ عَنِ الْمُقْتَصِدِينَ. وَمِنَ الْإِسْرَافِ الْأَكْلُ لَا لِحَاجَةٍ، وَفِي وَقْتِ شَبَعٍ. قَوْلُهُ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ الزِّينَةُ: مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ مَلْبُوسٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُبَاحَةِ كَالْمَعَادِنِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ نَهْيٌ عَنِ التَّزَيُّنِ بِهَا وَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِهَا وَقِيلَ: الْمَلْبُوسُ خَاصَّةً، وَلَا وَجْهَ لَهُ، بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَشْمَلُهُ الْآيَةُ، فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ لَبِسَ الثِّيَابَ الْجَيِّدَةَ الْغَالِيَةَ الْقِيمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ تَزَيَّنَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا مَدْخَلٌ فِي الزِّينَةِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ الزُّهْدَ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بِيِّنًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا مَا يَكْفِي، وَهَكَذَا الطَّيِّبَاتُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمُشَارِبِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَأْكُلُهُ النَّاسُ فَإِنَّهُ لَا زُهْدَ فِي تَرْكِ الطَّيِّبِ مِنْهَا، وَلِهَذَا جَاءَتِ الْآيَةُ هَذِهِ مُعَنْوَنَةً بِالِاسْتِفْهَامِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ حَرَّمَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَلَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ آثَرَ لِبَاسَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ عَلَى لِبَاسِ الْقُطْنِ وَالْكِتَّانِ مَعَ وُجُودِ السَّبِيلِ إِلَيْهِ مِنْ حِلِّهِ، وَمَنْ أَكَلَ الْبُقُولَ وَالْعَدَسَ وَاخْتَارَهُ عَلَى خُبْزِ الْبُرِّ، وَمَنْ تَرَكَ أَكْلَ اللَّحْمِ خَوْفًا مِنْ عَارِضِ الشَّهْوَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا نَقْلَ مِثْلِ هَذَا عَنْهُ مُطَوَّلًا. وَالطَّيِّبَاتُ: الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الطَّعَامِ وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ عَامٌّ لِمَا طَابَ كَسْبًا وَمَطْعَمًا. قَوْلُهُ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: أَنَّهَا لَهُمْ بِالْأَصَالَةِ وَإِنْ شَارَكَهُمُ الْكُفَّارُ فِيهَا مَا دَامُوا فِي الْحَيَاةِ خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ: مُخْتَصَّةً بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا الْكُفَّارُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ «خَالِصَةٌ» بِالرَّفْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الدُّنْيَا، لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ آمَنُوا حَالٌ مِنْهُ بِتَقْدِيرِ: قُلْ: هِيَ ثَابِتَةٌ

لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي حَالِ خُلُوصِهَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ: مِثْلُ هَذَا التَّفْصِيلِ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ جَمْعُ فَاحِشَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أَيْ مَا أُعْلِنَ مِنْهَا وَمَا أُسِرَّ، وَقِيلَ: هِيَ خَاصَّةٌ بِفَوَاحِشِ الزِّنَا وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، وَالْإِثْمُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ يَتَسَبَّبُ عَنْهَا الْإِثْمُ وَقِيلَ هُوَ الْخَمْرُ خَاصَّةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر: شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي ... كذلك الإثم تذهب بالعقول ومثله قول الآخر: نشرب الْإِثْمَ بِالصُّوَاعِ جِهَارًا «1» ............... .. وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْإِثْمَ خَاصًّا بِالْخَمْرِ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِثْمُ الخمر فلا يعرف ذلك، وحقيقة أَنَّهُ جَمِيعُ الْمَعَاصِي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِنِّي وَجَدْتُ الْأَمْرَ أَرْشَدُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَشَرُّهُ الْإِثْمُ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِثْمُ مَا دُونُ الْحَقِّ وَالِاسْتِطَالَةُ عَلَى النَّاسِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي إِطْلَاقِ الْإِثْمِ عَلَى الْخَمْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، فَهُوَ أَحَدُ الْمَعَاصِي الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهَا. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَقَدْ يُسَمَّى الْخَمْرُ إِثْمًا، وَأَنْشَدَ: شَرِبْتُ الْإِثْمَ.. الْبَيْتَ وَكَذَا أَنْشَدَهُ الْهَرَوِيُّ قَبْلَهُ في غريبه. قَوْلُهُ: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيِ: الظُّلْمُ الْمُجَاوِزُ لِلْحَدِّ، وَأَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِيمَا قَبْلَهُ لِكَوْنِهِ ذَنْبًا عَظِيمًا كَقَوْلِهِ: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ «2» وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي: وأن تجعلوا الله شَرِيكًا لَمْ يُنَزِّلْ عَلَيْكُمْ بِهِ حُجَّةً. وَالْمُرَادُ التَّهَكُّمُ بِالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُنَزِّلُ بُرْهَانًا بِأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ شَرِيكًا لَهُ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بِحَقِيقَتِهِ وَأَنَّ اللَّهَ قَالَهُ، وَهَذَا مِثْلُ مَا كَانُوا يَنْسُبُونَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ التَّحْلِيلَاتِ وَالتَّحْرِيمَاتِ الَّتِي لَمْ يَأْذَنْ بِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَطُفْنَ عُرَاةً إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا خِرْقَةً وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ فَنَزَلَتْ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرِّجَالً يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالزِّينَةِ. وَالزِّينَةُ: اللِّبَاسُ وَمَا يُوَارِي السَّوْءَةَ وَمَا سِوَى ذلك من جيد البزّ وَالْمَتَاعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ

_ (1) . وعجزه: وترى المسك بيننا مستعارا. [.....] (2) . النحل: 90.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 34 إلى 39]

الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «خُذُوا زِينَةَ الصَّلَاةِ، قَالُوا: وَمَا زِينَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: الْبَسُوا نِعَالَكُمْ فَصَلُّوا فِيهَا» . وَأَخْرَجَ الْعُقَيْلِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قَالَ: «صَلُّوا فِي نِعَالِكُمْ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي النَّعْلِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ هُوَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ كَمَا رُوِيَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فَلَا أَدْرِي كَيْفَ إِسْنَادُهُمَا. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَحَلَّ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أَوْ مَخِيلَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قَالَ: فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ فَأُمِرُوا بِالثِّيَابِ أَنْ يَلْبَسُوهَا قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ قَالَ: يَنْتَفِعُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا لَا يَتْبَعُهُمْ فِيهَا مَأْثَمٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قَالَ: الْمُشْرِكُونَ يُشَارِكُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَهِيَ خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قَالَ: الْوَدَكُ وَاللَّحْمُ وَالسَّمْنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ أَحَلَّهَا اللَّهُ مِنَ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا «1» وهو هَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يَعْنِي: شَارَكَ الْمُسْلِمُونَ الْكُفَّارَ فِي الطَّيِّبَاتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَأَكَلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ طَعَامِهَا وَلَبِسُوا مِنْ جِيَادِ ثِيَابِهَا وَنَكَحُوا مِنْ صَالِحِي نِسَائِهَا، ثُمَّ يُخْلِصُ اللَّهُ الطَّيِّبَاتِ فِي الْآخِرَةِ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ فِيهَا شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا ظَهَرَ مِنْهَا: الْعُرْيَةُ، وَمَا بَطَنَ: الزِّنَا، وَكَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَا ظَهَرَ مِنْهَا: طَوَافُ الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً، وَمَا بَطَنَ: الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَالْإِثْمَ قَالَ: الْمَعْصِيَةُ وَالْبَغْيَ قَالَ: أَنْ يَبْغِيَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 34 الى 39] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

_ (1) . يونس: 59.

قَوْلُهُ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أَيْ: وَقْتٌ مُعَيَّنٌ مَحْدُودٌ يَنْزِلُ فِيهِ عَذَابُهُمْ مِنَ اللَّهِ أَوْ يُمِيتُهُمْ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَالضَّمِيرُ فِي أَجَلُهُمْ لِكُلِّ أُمَّةٍ، أَيْ: إِذَا جَاءَ أَجَلُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ كَانَ مَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِمْ وَاقِعًا فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ لَا يَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ عَنْهُ سَاعَةً. قَالَ أَبُو السُّعُودِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عَطْفٌ عَلَى يَسْتَأْخِرُونَ لَكِنْ لَا لِبَيَانِ انْتِفَاءِ التَّقَدُّمِ مَعَ إِمْكَانِهِ فِي نَفْسِهِ كَالتَّأَخُّرِ بَلْ لِلْمُبَالَغَةِ فِي انْتِفَاءِ التَّأَخُّرِ بِنَظْمِهِ فِي سِلْكِ الْمُسْتَحِيلِ عَقْلًا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَجِيءِ: الدُّنُوُّ بِحَيْثُ يُمْكِنُ التَّقَدُّمُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَجِيءِ الْيَوْمِ الَّذِي ضُرِبَ لِهَلَاكِهِمْ سَاعَةً مِنْهُ وَلَيْسَ بِذَاكَ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ «آجَالُهُمْ» بِالْجَمْعِ، وَخَصَّ السَّاعَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ أَسْمَاءِ الْأَوْقَاتِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَيِّتٍ يَمُوتُ بِأَجَلِهِ وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بِالْقَتْلِ أَوْ التَّرَدِّي أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْبَحْثُ فِي ذَلِكَ طَوِيلٌ جِدًّا، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ «1» . قوله: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ الْآيَةَ، إِنْ: هِيَ الشَّرْطِيَّةُ وَمَا: زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَلِهَذَا لَزِمَتِ الْفِعْلَ النُّونُ الْمُؤَكِّدَةُ، وَالْقَصَصُ قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ وَالْمَعْنَى: إِنْ أَتَاكُمْ رُسُلٌ كَائِنُونَ مِنْكُمْ يُخْبِرُونَكُمْ بِأَحْكَامِي وَيُبَيِّنُونَهَا لَكُمْ فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ أَيِ: اتَّقَى مَعَاصِيَ اللَّهِ وَأَصْلَحَ حَالَ نَفْسِهِ بِاتِّبَاعِ الرُّسُلِ، وَإِجَابَتِهِمْ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ هِيَ الْجَوَابُ لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَقِيلَ: جَوَابُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَأَطِيعُوهُمْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الَّتِي يَقُصُّهَا عَلَيْهِمْ رُسُلُنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْ إِجَابَتِهَا وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِتَكْذِيبِ الْآيَاتِ وَالرُّسُلِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أَيْ: مِمَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَقِيلَ: يَنَالُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بِقَدْرِ كُفْرِهِمْ وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُنَا القرآن لأن عذاب الكفار مذكور فيها وَقِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أَيْ: إِلَى غَايَةٍ هِيَ هَذِهِ، وَجُمْلَةُ يَتَوَفَّوْنَهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَالْمُرَادُ بِالرُّسُلِ هُنَا: مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ وَقِيلَ: حَتَّى هُنَا: هِيَ الَّتِي لِلِابْتِدَاءِ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَهَا لِابْتِدَاءِ الْكَلَامِ بَعْدَهَا لَا يُنَافِي كَوْنَهَا غَايَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: أَيْنَ الْآلِهَةُ الَّتِي كُنْتُمْ تَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَتَعْبُدُونَهَا، وَجُمْلَةُ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا اسْتِئْنَافِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ وَقَعَتْ هِيَ جَوَابًا عَنْهُ، أَيْ: ذَهَبُوا عَنَّا وَغَابُوا فلا ندري أين هم؟

_ (1) . الحجر: 5.

وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ أَيْ أَقَرُّوا بِالْكُفْرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. قَوْلُهُ: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ الْقَائِلُ: هو الله عزّ وجلّ، وفِي بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ: مَعَ أُمَمٍ وَقِيلَ: هِيَ عَلَى بَابِهَا، وَالْمَعْنَى: ادْخُلُوا فِي جُمْلَتِهِمْ وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمَمِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ: هُمُ الْكُفَّارُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ لَعَنَتْ أُخْتَها أَيِ الْأُمَّةَ الْأُخْرَى الَّتِي سَبَقَتْهَا إِلَى النَّارِ، وَجُعِلَتْ أُخْتًا لَهَا بِاعْتِبَارِ الدِّينِ، أَوِ الضَّلَالَةِ، أَوِ الْكَوْنِ فِي النَّارِ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها أَيْ: تَدَارَكُوا، وَالتَّدَارُكُ: التَّلَاحُقُ وَالتَّتَابُعُ وَالِاجْتِمَاعُ فِي النَّارِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «تَدَارَكُوا» عَلَى الْأَصْلِ مِنْ دُونِ إِدْغَامٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «حَتَّى إِذَا أَدْرَكُوا» أَيْ: أَدْرَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ بِقَطْعِ أَلِفِ الْوَصْلِ، فَكَأَنَّهُ سَكَتَ عَلَى إِذَا لِلتَّذَكُّرِ، فَلَمَّا طَالَ سُكُوتُهُ قَطَعَ أَلِفَ الْوَصْلِ كَالْمُبْتَدِئِ بِهَا، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: يَا نفس صبرا كلّ حيّ لاق ... وَكُلُّ اثْنَيْنِ إِلَى افْتِرَاقِ قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ: أَيْ: أُخْرَاهُمْ دُخُولًا لِأُولَاهُمْ دُخُولًا، وَقِيلَ: أُخْرَاهُمْ: أَيْ: سَفَلَتُهُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ لِأُولاهُمْ لِرُؤَسَائِهِمْ وَكِبَارِهِمْ، وَهَذَا أَوْلَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَإِنَّ الْمُضِلِّينَ هُمُ الرُّؤَسَاءُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُمْ أَضَلُّوهُمْ لِأَنَّهُمْ تَبِعُوهُمْ وَاقْتَدَوْا بِدِينِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَيَصِحُّ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ أُخْرَاهُمْ تَبِعَتْ دِينَ أُولَاهُمْ، قَوْلُهُ: فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ الضِّعْفُ: الزَّائِدُ عَلَى مِثْلِهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً «1» وَقِيلَ الضِّعْفُ هُنَا الْأَفَاعِي وَالْحَيَّاتُ، وَجُمْلَةُ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَالْمَعْنَى لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ ضِعْفٌ مِنَ الْعَذَابِ، أَيِ: الطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ بِمَا لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ أَيْ: قَالَ السَّابِقُونَ لِلَّاحِقِينَ، أَوِ الْمَتْبُوعُونَ لِلتَّابِعِينَ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَحْنُ سَوَاءٌ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَاسْتِحْقَاقِ عَذَابِهِ فَذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ كَمَا ذُقْنَاهُ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَالْكَفْرِ بِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: تَذَاكَرْنَا زِيَادَةَ الْعُمُرِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ أُنْسِئَ فِي أَجَلِهِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِزَائِدٍ فِي عُمُرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ وَلَكِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ الذَّرِّيَّةُ الصَّالِحَةُ، فَيَدْعُونَ اللَّهَ مِنْ بَعْدِهِ فَيَبْلُغُهُ ذَلِكَ، فَذَلِكَ الَّذِي يُنْسَأُ فِي أَجَلِهِ. وَفِي لَفْظٍ: فَيَلْحَقُهُ دُعَاؤُهُمْ فِي قَبْرِهِ، فَذَلِكَ زِيَادَةُ الْعُمُرِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَنْبَغِي أَنْ يُكْشَفَ عَنْ إِسْنَادِهِ فَفِيهِ نَكَارَةٌ، وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِخِلَافِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: مَا أَحْمَقَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ أَطِلْ عُمُرَهُ، وَاللَّهُ يَقُولُ: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جرير وابن المنذر من طريق

_ (1) . الأحزاب: 68.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 إلى 43]

الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ قَالَ كَعْبٌ: لَوْ دَعَا اللَّهَ لَأَخَّرَ فِي أَجَلِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فَقَالَ كَعْبٌ: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ «1» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ قَالَ: مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: مِنَ الْأَعْمَالِ مَنْ عَمِلَ خَيْرًا جُزِيَ بِهِ وَمَنْ عَمِلَ شَرًّا جُزِيَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: نَصِيبُهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَا سَبَقَ مِنَ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: رِزْقُهُ وَأَجَلُهُ وَعَمَلُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مِنَ الْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ قَالَ: قَدْ مَضَتْ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها قال: كلما دخلت أَهْلُ مِلَّةٍ لَعَنُوا أَصْحَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، يَلْعَنُ الْمُشْرِكُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْيَهُودُ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى النَّصَارَى، وَالصَّابِئُونَ الصَّابِئِينَ، وَالْمَجُوسُ الْمَجُوسَ، تَلْعَنُ الْآخِرَةُ الْأُولَى حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ الَّذِينَ كَانُوا فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِأُولاهُمْ الَّذِينَ شَرَعُوا لَهُمْ ذَلِكَ الدِّينَ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وَقَدْ ضَلَلْتُمْ كَمَا ضَلَلْنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: عَذاباً ضِعْفاً قَالَ: مُضَاعَفًا قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ قَالَ: مُضَاعَفٌ، وَفِي قَوْلِهِ: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ قال: تخفيف من العذاب. [سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 43] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) قَوْلُهُ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ لِكَوْنِ تَأْنِيثِ الْجَمْعِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ فَجَازَ تَذْكِيرُهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى التَّأْنِيثِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تُفْتَحُ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَا تُفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لِأَرْوَاحِهِمْ إِذَا مَاتُوا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَأَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا انْتَهَوْا بِرُوحِ الكافر إلى السماء

_ (1) . فاطر: 11.

الدُّنْيَا يَسْتَفْتِحُونَ فَلَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَقِيلَ: لَا تُفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لِأَدْعِيَتِهِمْ إِذَا دَعَوْا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَقِيلَ لِأَعْمَالِهِمْ، أَيْ: لَا تُقْبَلُ، بَلْ تُرَدُّ عَلَيْهِمْ فَيُضْرَبُ بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَهَا، لِأَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعَطْفُ لِجُمْلَةِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ عَطْفِ التَّفْسِيرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى مَا يَعُمُّ الْأَرْوَاحَ وَالدُّعَاءَ وَالْأَعْمَالَ، وَلَا يُنَافِيهِ وُرُودُ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهَا لَا تُفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى فَتْحِهَا لِغَيْرِهِ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أَيْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلِهَذَا عَلَّقَهُ بِالْمُسْتَحِيلِ، فَقَالَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَهُوَ لَا يَلِجُ أَبَدًا، وَخُصَّ الْجَمَلُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي كِبَرِ الذَّاتِ، وَخُصَّ سَمُّ الْخِيَاطِ، وَهُوَ ثُقْبُ الْإِبْرَةِ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ غَايَةً فِي الضِّيقِ، وَالْجَمَلُ الذَّكَرُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْجَمْعُ جمال وأجمال وجمالات، وإنما يسمى جَمَلًا إِذَا أَرْبَعَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْجَمَلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً، وَهُوَ حَبْلُ السَّفِينَةِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْقَلْسُ وَهُوَ حِبَالٌ مَجْمُوعَةٌ قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَقِيلَ الْحَبْلُ الْغَلِيظُ مِنَ الْقُنَّبِ، وَقِيلَ الْحَبَلُ الَّذِي يُصْعَدُ بِهِ فِي النَّخْلِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْجَمَلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ: وَهُوَ الْقَلْسُ أَيْضًا. وَقَرَأَ أبو السمال الْجَمَلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ. وَقُرِئَ أَيْضًا بِضَمِّهِمَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ الْأَصْغَرُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ» وَقُرِئَ فِي سَمِّ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، وَالسَّمِّ: كُلُّ ثُقْبٍ لَطِيفٍ، وَمِنْهُ ثُقْبُ الْإِبْرَةِ، وَالْخِيَاطُ مَا يُخَاطُ بِهِ، يُقَالُ خِيَاطٌ وَمَخِيطٌ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الْفَظِيعِ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ، أَيْ: جِنْسَ مَنْ أَجْرَمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ، وَالْغَوَاشِ: جُمَعُ غَاشِيَةٍ، أَيْ: نِيرَانٌ تَغْشَاهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ كَالْأَغْطِيَةِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ نَجْزِي مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الظُّلْمِ. قَوْلُهُ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أَيْ: لَا نُكَلِّفُ الْعِبَادَ إِلَّا بِمَا يَدْخُلُ تَحْتَ وُسْعِهِمْ وَيَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَلَا نُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وُسْعِهِمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَمِثْلُهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا «1» وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ تُكَلَّفُ بِالْفَوْقِيَّةِ وَرَفْعِ نَفْسٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَخَبَرُهُ أَصْحابُ الْجَنَّةِ والجملة خبر الموصول، وجملة وهُمْ فِيها خالِدُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَوْلُهُ وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُنْعِمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْ يَنْزِعَ اللَّهُ مَا في قلوبهم من الغلّ على بعضهم بعضا حَتَّى تَصْفُوَ قُلُوبُهُمْ وَيَوَدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ الْغِلَّ لَوْ بَقِيَ فِي صُدُورِهِمْ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا لَكَانَ فِي ذَلِكَ تَنْغِيصٌ لِنَعِيمِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْمُتَشَاحِنِينَ لَا يَطِيبُ لِأَحَدِهِمْ عَيْشٌ مَعَ وُجُودِ الْآخَرِ، وَالْغِلُّ: الْحِقْدُ الْكَامِنُ فِي الصُّدُورِ وَقِيلَ: نَزْعُ الْغِلِّ فِي الْجَنَّةِ أَنْ لَا يَحْسُدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي تُفَاضِلُ الْمَنَازِلِ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أَيْ: لِهَذَا الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ ونزع الغلّ من صدورهم، والهداية لِهَذَا هِيَ الْهِدَايَةُ لِسَبَبِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِثْبَاتِهَا، وما كنا نطيق أن نهتدي لهذا الْأَمْرِ لَوْلَا هِدَايَةُ اللَّهِ لَنَا، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ حَالِيَّةٌ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ: لَوْلَا هِدَايَةُ اللَّهِ لَنَا مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ. قَوْلُهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ

_ (1) . الطلاق: 7.

اللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، قَالُوا هَذَا: لَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ اغْتِبَاطًا بِمَا صَارُوا فِيهِ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ، مِنْ تَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَظُهُورِ صِدْقِ مَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنَّ جَزَاءَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ هُوَ هَذَا الَّذِي صَارُوا فِيهِ. قَوْلُهُ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ وَقَعَ النِّدَاءُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فَقِيلَ لَهُمْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا: أَيْ: وَرِثْتُمْ مَنَازِلَهَا بِعَمَلِكُمْ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ لَا بِالتَّفَضُّلِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُبْطِلَةُ انْتَهَى. أَقُولُ: يَا مِسْكِينُ! هَذَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» ، وَالتَّصْرِيحُ بِسَبَبٍ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ سَبَبٍ آخَرَ، وَلَوْلَا التَّفَضُّلُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْعَامِلِ بِإِقْدَارِهِ عَلَى الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ أَصْلًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ التَّفَضُّلُ إِلَّا بِهَذَا الْإِقْدَارِ لَكَانَ الْقَائِلُونَ بِهِ مُحِقَّةً لَا مُبْطِلَةً، وَفِي التَّنْزِيلِ ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ «1» وَفِيهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ «2» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ يَعْنِي لَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ مِنْ عَمَلِهِمْ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ لِعَمَلٍ وَلَا لِدُعَاءٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: لَا تُفَتَّحُ لِأَرْوَاحِهِمْ، وَهِيَ تُفَتَّحُ لِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ قَالَ: ذُو الْقَوَائِمِ فِي سَمِّ الْخِياطِ قَالَ: فِي خَرْتِ «3» الْإِبْرَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ قَالَ: زَوْجُ النَّاقَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْجُمَّلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَقَالَ: هُوَ الْحَبْلُ الْغَلِيظُ أَوْ هُوَ مِنْ حِبَالِ السُّفُنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ سَمِّ الْخِيَاطِ فَقَالَ: الْجَمَلُ فِي ثُقْبِ الْإِبْرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمِهَادُ: الْفِرَاشُ، وَالْغَوَاشِ: اللُّحُفُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِينَا- وَاللَّهِ أَهْلَ بَدْرٍ- نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ يَقُولُ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ فَيَكُونُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، وَكُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ لَوْلَا أَنَّ هُدَانَا اللَّهُ فَهَذَا شُكْرُهُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالدَّارِمِيُّ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَنُودُوا: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قَالَ: «نُودُوا: أَنْ صِحُّوا فَلَا تسقموا، وانعموا

_ (1) . النساء: 70. (2) . النساء: 175. (3) . قال في القاموس: الخرت: الثقب في الأذن وغيرها.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 إلى 49]

فَلَا تَبْأَسُوا، وَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا، وَاخْلُدُوا فَلَا تموتوا» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 49] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) مُنَادَاةُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ لِأَصْحَابِ النَّارِ لَمْ تَكُنْ لِقَصْدِ الْإِخْبَارِ لَهُمْ بِمَا نَادَوْهُمْ بِهِ، بَلْ لقصد تبكيتهم وإيقاع الحسرة في قلوبهم، وأَنْ قَدْ وَجَدْنا هُوَ نَفْسُ النِّدَاءِ، أَيْ: إِنَّا قَدْ وَصَلْنَا إِلَى مَا وَعَدَنَا اللَّهُ بِهِ مِنَ النَّعِيمِ فَهَلْ وَصَلْتُمْ إِلَى مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُوَ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ وَعَدَ الثَّانِي لِكَوْنِ الْوَعْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِخُصُوصِهِمْ، بَلْ لِكُلِّ النَّاسِ كَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، وَقِيلَ: حُذِفَ لِإِسْقَاطِ الْكُفَّارِ عَنْ رُتْبَةِ التَّشْرِيفِ بِالْخِطَابِ عِنْدَ الْوَعْدِ قالُوا نَعَمْ أَيْ: وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ نَعِمْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. قَالَ مَكِّيٌّ: مَنْ قَالَ نَعِمْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ نَعَمِ الَّتِي هي جَوَابٌ وَبَيْنَ نَعِمِ الَّتِي هِيَ اسْمٌ لِلْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ، وَالْمُؤَذِّنُ: الْمُنَادِي، أَيْ: فَنَادَى مُنَادٍ بَيْنَهُمْ، أَيْ: بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْبَزِّيُّ بِتَشْدِيدِ أَنْ وَهُوَ الْأَصْلُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّهَا الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَوِ الْمُفَسِّرَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَجُمْلَةُ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صِفَةٌ لِلظَّالِمِينَ، ويجوز الرفع والنصب على إضمارهم، أَوْ أَعْنِي. وَالصَّدُّ: الْمَنْعُ، أَيْ: يَمْنَعُونَ النَّاسَ عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أَيْ: يَطْلُبُونَ اعْوِجَاجَهَا، أَيْ: يُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنْهَا وَيَقْدَحُونَ فِي اسْتِقَامَتِهَا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهَا غَيْرُ حَقٍّ وَإِنَّ الحق ما هم فِيهِ، وَالْعِوَجُ بِالْكَسْرِ فِي الْمَعَانِي وَالْأَعْيَانِ مَا لَمْ يَكُنْ مُنْتَصِبًا، وَبِالْفَتْحِ مَا كَانَ فِي الْمُنْتَصِبِ كَالرُّمْحِ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَوْلُهُ وَبَيْنَهُما حِجابٌ أَيْ: بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَالْحِجَابُ: هُوَ السُّورُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ «1» قَوْلُهُ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ الْأَعْرَافُ: جَمْعُ عُرْفٍ، وَهِيَ شُرُفَاتُ السُّورِ الْمَضْرُوبِ بَيْنَهُمْ، وَمِنْهُ عُرْفُ الْفَرَسِ وَعُرْفُ الدِّيكِ وَالْأَعْرَافُ فِي اللُّغَةِ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَهَذَا الْكَلَامُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْمَدْحِ كَمَا فِي قَوْلِهِ رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ «2» . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ وَقِيلَ: هُمْ فُضَلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ فَرَغُوا مِنْ شُغْلِ أَنْفُسِهِمْ وَتَفَرَّغُوا لِمُطَالَعَةِ أَحْوَالِ النَّاسِ، ذكره مجاهد وقيل:

_ (1) . الحديد: 13. (2) . النور: 37.

هُمْ قَوْمُ أَنْبِيَاءُ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقِيلَ: هُمُ الْعَبَّاسُ وَحَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ الطَّيَّارُ يَعْرِفُونَ مُحِبِّيهِمْ بِبَيَاضِ الْوُجُوهِ، وَمُبْغِضِيهِمْ بِسَوَادِهَا، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ: هُمْ عُدُولُ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ وَهُمْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ وَقِيلَ: هُمْ أَوْلَادُ الزِّنَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ: هُمْ ملائكة موكولون بِهَذَا السُّورِ يُمَيِّزُونَ الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ ذَكَرَهُ أَبُو مِجْلَزٍ، وَجُمْلَةُ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ صفة الرجال. وَالسِّيمَا: الْعَلَامَةُ أَيْ: يَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِعَلَامَاتِهِمْ كَبَيَاضِ الْوُجُوهِ وَسَوَادِهَا، أَوْ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ عَلَامَةٍ يَجْعَلُهَا الله لكل فرق فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، يَعْرِفُ رِجَالُ الْأَعْرَافِ بِهَا السُّعَدَاءَ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَيْ: نَادَى رِجَالُ الْأَعْرَافِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَوْهُمْ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أَيْ: نَادَوْهُمْ بِقَوْلِهِمْ: سَلَامٌ عليكم تحية وَإِكْرَامًا وَتَبْشِيرًا، أَوْ أَخْبَرُوهُمْ بِسَلَامَتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ. قَوْلُهُ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ أَيْ: لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا وَقِيلَ: مَعْنَى يَطْمَعُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يدخلونها وذلك معروف عند أهل اللغة، أي: طَمِعَ بِمَعْنَى عَلِمِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْنِي كَوْنَهُمْ أَهْلَ الْأَعْرَافِ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، أَيْ: أَنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ قَالُوا لَهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ حَالَ كَوْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا. قَوْلُهُ وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ أَيْ: إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُ أَهْلِ الْأَعْرَافِ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ، أَيْ: جِهَةَ أَصْحَابِ، وَأَصْلُ مَعْنَى تِلْقاءَ جِهَةُ اللِّقَاءِ، وَهِيَ: جِهَةُ الْمُقَابَلَةِ وَلَمْ يَأْتِ مَصْدَرٌ عَلَى تِفْعَالٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ غَيْرُ مَصْدَرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالْآخَرُ: تِبْيَانٌ، وَمَا عَدَاهُمَا بِالْفَتْحِ قالُوا أَيْ قَالَ أَهْلُ الْأَعْرَافِ رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ مِنْهُمْ وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا مِنَ الْكُفَّارِ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ أَيْ: بِعَلَامَاتِهِمْ قالُوا بَدَلٌ مِنْ نَادَى مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ الَّذِي كُنْتُمْ تَجْمَعُونَ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ: لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، قَوْلُهُ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ. مَا مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ وَمَا أَغْنَى عَنْكُمُ اسْتِكْبَارُكُمْ أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، أَيْ: قَالُوا لِلْكُفَّارِ مُشِيرِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الذي صَارُوا إِلَى الْجَنَّةِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يُقْسِمُونَ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ لِضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْقَسَمِ، وَهَذَا تَبْكِيتٌ لِلْكُفَّارِ وَتَحْسِيرٌ لَهُمْ. قَوْلُهُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ هَذَا تَمَامُ كَلَامِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، أَيْ: قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَقَدِ انْتَفَى عَنْكُمُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ «أَدْخِلُوا» بِكَسْرِ الْخَاءِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا قَالَ: مِنَ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالَ: مِنَ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ وَالْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ

ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ وَبَيْنَهُما حِجابٌ قَالَ: هُوَ السُّورُ وَهُوَ الْأَعْرَافُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْأَعْرَافَ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ يَعْرِفُونَ النَّاسَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: الْأَعْرَافُ: سُورٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَعْرَافُ: هُوَ الشَّيْءُ الْمُشْرِفُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: الْأَعْرَافُ: سُورٌ لَهُ عُرْفٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْأَعْرَافُ: جِبَالٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَهُمْ عَلَى أَعْرَافِهَا، يَقُولُ: عَلَى ذُرَاهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا تَلٌّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حُبِسَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّهُ الصِّرَاطُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ قَوْمٌ كَانَتْ لَهُمْ أَعْمَالٌ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ بِهَا مِنَ النَّارِ، وَهُمْ آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، قَدْ عَرَفُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُمْ مَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ يَقِفُونَ عَلَى الصِّرَاطِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ نَحْوَهُ. وَكَذَا أَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بن عمرو ابن جَرِيرٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ؟ فَقَالَ: «هُمْ آخِرُ مَنْ يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعِبَادِ، فَإِذَا فَرَغَ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ قَالَ: أَنْتُمْ قَوْمٌ أَخْرَجَتْكُمْ حَسَنَاتُكُمْ مِنَ النَّارِ وَلَمْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَأَنْتُمْ عُتَقَائِي، فَارْعَوْا مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْتُمْ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا مُرْسَلٌ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ حُذَيْفَةَ أَرَاهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجْمَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْمَرُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُؤْمَرُ بِأَهْلِ النَّارِ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ: مَا تَنْتَظِرُونَ؟ قَالُوا: نَنْتَظِرُ أَمْرَكَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ حَسَنَاتِكُمْ تَجَاوَزَتْ بِكُمُ النَّارَ أَنْ تَدْخُلُوهَا وَحَالَتْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ خَطَايَاكُمْ فَادْخُلُوا بِمَغْفِرَتِي وَرَحْمَتِي» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ مَنِيعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ؟ فَقَالَ: «هُمْ قَوْمٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي مَعْصِيَةِ آبَائِهِمْ، فَمَنَعَهُمْ مِنَ النَّارِ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْعَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ مَعْصِيَتُهُمْ آبَاءَهُمْ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ الْهِلَالِيِّ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ رَجُلٍ مَنْ مُزَيْنَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ قَالَ: سَلَّمَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ أَنْ يَدْخُلُوهَا حِينَ سَلَّمَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِسِيمَاهُمْ، أَهْلَ النَّارِ بِسَوَادِ وُجُوهِهِمْ، وَأَهْلَ الْجَنَّةِ ببياض وجوههم،

[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 إلى 54]

فَإِذَا مَرُّوا بِزُمْرَةٍ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ قَالُوا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِزُمْرَةٍ يُذْهَبُ بِهَا إِلَى النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا قَالَ: فِي النَّارِ. يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ قَالَ اللَّهُ لِأَهْلِ التَّكَبُّرِ: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ يَعْنِي أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 54] وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) قَوْلُهُ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ الْإِفَاضَةُ: التَّوْسِعَةُ يُقَالُ: أَفَاضَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، طَلَبُوا مِنْهُمْ أَنْ يُوَاسُوهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ أَوِ الْأَطْعِمَةِ، فَأَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما أَيِ: الْمَاءَ وَمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْكافِرِينَ فَلَا نُوَاسِيكُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا النِّدَاءَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ أَهْلِ الْأَعْرَافِ الْجَنَّةَ، وَجُمْلَةُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً فِي مَحَلِّ جَرٍّ صِفَةُ الْكَافِرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تفسير اللهو واللعب والغرور. قَوْلُهُ فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ أَيْ نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا الْكَافُ: نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: نِسْيَانًا كَنِسْيَانِهِمْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا. قَوْلُهُ: وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا نَسُوا، أَيْ: كَمَا نَسُوا، وَكَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ، أَيْ: يُنْكِرُونَهَا، وَاللَّامُ فِي وَلَقَدْ جِئْناهُمْ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْجِنْسُ، إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِلْكُفَّارِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ لِلْمُعَاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَالتَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ، وعَلى عِلْمٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: عَالِمِينَ حَالَ كَوْنِهِ هُدىً لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةً لَهُمْ. قال الكسائي والفراء: ويجوز هُدىً وَرَحْمَةً لَهُمْ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ هُدىً وَرَحْمَةً بِالْخَفْضِ عَلَى النَّعْتِ لِكِتَابٍ. قَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ بِالْهَمْزِ مِنْ آلَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُخْفُونَ الْهَمْزَةَ. وَالنَّظَرُ: الِانْتِظَارُ، أَيْ: هَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْكِتَابِ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي يَؤُولُ الْأَمْرُ إِلَيْهِ وَقِيلَ تَأْوِيلُهُ: جَزَاؤُهُ وَقِيلَ عَاقِبَتُهُ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَيَوْمَ: ظَرْفٌ لِيَقُولَ، أَيْ: يَوْمَ

يَأْتِي تَأْوِيلُهُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ: تَرَكُوهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ تَأْوِيلُهُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ الَّذِي أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ إِلَيْنَا فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ اسْتِفْهَامٌ مِنْهُمْ، وَمَعْنَاهُ التَّمَنِّي فَيَشْفَعُوا لَنا مَنْصُوبٌ لِكَوْنِهِ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ. قَوْلُهُ أَوْ نُرَدُّ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَوْ هَلْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نُرَدُّ: عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: هَلْ يَشْفَعُ لَنَا أَحَدٌ أَوْ نُرَدُّ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ بِنَصْبِهِمَا، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَقُلْتُ لَهُ: لَا تَبْكِ عَيْنُكَ، إِنَّمَا ... نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتُ فَنُعْذَرَا وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِرَفْعِهِمَا، وَمَعْنَى الْآيَةِ: هَلْ لَنَا شُفَعَاءُ يُخَلِّصُونَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ هَلْ نُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا فَنَعْمَلَ صَالِحًا غَيْرَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنَ الْمَعَاصِي قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي: لن يَنْتَفِعُوا بِهَا فَكَانَتْ أَنْفُسُهُمْ بَلَاءً عَلَيْهِمْ وَمِحْنَةً، فَكَأَنَّهُمْ خَسِرُوهَا كَمَا يَخْسَرُ التَّاجِرُ رَأْسَ مَالِهِ وَقِيلَ: خَسِرُوا النَّعِيمَ وَحَظَّ الْأَنْفُسِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيِ: افْتِرَاؤُهُمْ أَوِ الَّذِي كَانُوا يَفْتَرُونَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ بَطَلَ كَذِبُهُمُ الَّذِي كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ غَابَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لِلَّهِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ وَلَا حَضَرَ مَعَهُمْ. قَوْلُهُ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ هَذَا نَوْعٌ مِنْ بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ وَجَلِيلِ قَدْرَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِيجَادِ الَّذِي يُوجِبُ عَلَى الْعِبَادِ تَوْحِيدَهُ وَعِبَادَتَهُ. وَأَصْلُ سِتَّةَ سِدْسَةُ أُبْدِلَتِ التَّاءُ مِنْ أَحَدِ السِّينَيْنِ وَأُدْغِمَ فِيهَا الدَّالُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: أَنَّكَ تَقُولُ فِي التَّصْغِيرِ: سُدَيْسَةُ، وفي الجمع: أسداس، وتقول: جاء فلان سَادِسًا. وَالْيَوْمُ: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، قِيلَ: هَذِهِ الْأَيَّامُ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ السِّتُّ أَوَّلُهَا: الْأَحَدُ، وَآخِرُهَا: الْجُمُعَةُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهَا فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، يَقُولُ لَهَا كَوْنِي فَتَكُونُ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ عِبَادَهُ الرِّفْقَ وَالتَّأَنِّيَ فِي الْأُمُورِ، أَوْ خَلَقَهَا فِي سِتَّةِ أيام لكون شَيْءٍ عِنْدَهُ أَجَلًا، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ «1» . قَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ: قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا، وَأَحَقُّهَا وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ: مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ أنه استوى سبحانه عليه بلا كيف عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: هُوَ الْعُلُوُّ وَالِاسْتِقْرَارُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ، أَيِ: اسْتَقَرَّ، وَاسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ: صَعِدَ، وَاسْتَوَى، أَيِ: اسْتَوْلَى وَظَهَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ وَاسْتَوَى الرجل، أي: انتهى شبابه، واستوى، أي: اتّسق وَاعْتَدَلَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ مَعْنَى (استوى) هنا: علا، ومثله قول الشاعر: فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وَقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ الْيَمَانِيُّ فَاسْتَوَى أَيْ عَلَا وَارْتَفَعَ. وَالْعَرْشُ: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ سَرِيرُ الْمَلِكِ. وَيُطْلَقُ الْعَرْشُ عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ مِنْهَا عَرْشُ

_ (1) . ق: 38.

الْبَيْتِ: سَقْفُهُ، وَعَرْشُ الْبِئْرِ: طَيُّهَا بِالْخَشَبِ، وَعَرْشُ السِّمَاكِ: أَرْبَعَةُ كَوَاكِبَ صِغَارٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ وَالْعِزِّ وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وقد ثلّ عرشها ... وذبيان إذ زلّت بأقدامها النَّعْلُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتُ عُرُوشُهُمْ ... بعتيبة بن الحرث بْنِ شِهَابِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: رَأَوْا عَرْشِي تَثَلَّمَ جَانِبَاهُ ... فَلَمَّا أَنْ تَثَلَّمَ أَفْرَدُونِي وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ صِفَةُ عَرْشِ الرَّحْمَنِ وَإِحَاطَتِهِ بالسموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا عَلَيْهِمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. قَوْلُهُ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أَيْ: يَجْعَلُ اللَّيْلَ كَالْغِشَاءِ لِلنَّهَارِ فَيُغَطِّي بِظُلْمَتِهِ ضِيَاءَهُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُغَشِّي بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: أَغْشَى يُغْشِي، وَغَشَّى يُغَشِّي، وَالتَّغْشِيَةُ فِي الْأَصْلِ: إِلْبَاسُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُغْشِي اللَّيْلَ بِالنَّهَارِ اكْتِفَاءً بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تعالى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» . وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى اللَّيْلِ، وَمَحَلُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مُغْشِيًا اللَّيْلَ النَّهَارَ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً حَالٌ مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ اللَّيْلِ طَالِبًا لِلنَّهَارِ طَلَبًا حَثِيثًا لَا يَفْتُرُ عَنْهُ بِحَالٍ، وَحَثِيثًا صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يَطْلُبُهُ طَلَبًا حَثِيثًا أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَطْلُبُ. وَالْحَثُّ: الِاسْتِعْجَالُ وَالسُّرْعَةُ، يُقَالُ: وَلَّى حَثِيثًا، أَيْ: مُسْرِعًا. قَوْلُهُ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ قال الأخفش: معطوف على السموات، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِرَفْعِهَا كُلِّهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ حَالَ كَوْنِهَا مُسَخَّرَاتٍ، وَعَلَى الثَّانِي: الْإِخْبَارُ عَنْ هَذِهِ بِالتَّسْخِيرِ. قَوْلُهُ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ إِخْبَارٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ بِأَنَّهُمَا لَهُ، وَالْخَلْقُ: الْمَخْلُوقُ، وَالْأَمْرُ: كَلَامُهُ، وَهُوَ كُنْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «2» . أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ مَا يَأْمُرُ بِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، أَوِ التَّصَرُّفُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ سبحانه في هذه الآية خلق السموات والأرض في ذلك الأمد اليسير، ثم ذكره اسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ وَتَسْخِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَأَنَّ لَهُ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ. قَالَ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أَيْ: كَثُرَتْ بَرَكَتُهُ وَاتَّسَعَتْ، وَمِنْهُ بُورِكَ الشَّيْءُ وَبُورِكَ فِيهِ، كَذَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي تَبارَكَ مَعْنَاهُ: تَعَالَى وَتَعَاظَمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي الْفَاتِحَةِ مُسْتَكْمَلًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الآية قَالَ: يُنَادِي الرَّجُلُ أَخَاهُ فَيَقُولُ: يَا أَخِي أَغِثْنِي فَإِنِّي قَدِ احْتَرَقْتُ، فَأَفِضْ عَلَيَّ مِنَ الْمَاءِ، فَيُقَالُ: أَجِبْهُ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن السدي في قوله أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قال:

_ (1) . النحل: 81. (2) . النحل: 40. [.....]

مِنَ الطَّعَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسْتَسْقُونَهُمْ وَيَسْتَطْعِمُونَهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ قَالَ: طَعَامُ الْجَنَّةِ وَشَرَابُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا يَقُولُ: نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ كَمَا تَرَكُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ قَالَ: نُؤَخِّرُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ قَالَ: عَاقِبَتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ جَزَاؤُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ قَالَ: مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ قَالَ: كُلُّ يَوْمٍ مِقْدَارُهُ أَلْفُ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ فِي قَوْلِهِ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْإِقْرَارُ بِهِ إِيمَانٌ، والجحود به كُفْرٌ. وَأَخْرَجَ اللَّالْكَائِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؟ فَقَالَ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالِاسْتِوَاءُ مِنْهُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدَعَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْعِشْرِينَ آيَةً فِي كُلِّ لَيْلَةٍ أَنْ يَعْصِمَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ سُلْطَانٍ ظَالِمٍ، وَمِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، وَمِنْ كل سبع ضار، ومن كل لص عاد: آيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَثَلَاثَ آيَاتٍ مِنَ الْأَعْرَافِ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «1» وعشرا من أوّل الصافات، وثلاث آيات من الرحمن. أولها يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «2» وخاتمة الحشر. وأخرج أبو الشيخ بن عُبَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْزُوقٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ عِنْدَ نَوْمِهِ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الْآيَةَ، بَسَطَ عَلَيْهِ مَلَكٌ جَنَاحَهُ حتى يصبح وقد عوفي مِنَ السَّرَقِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ ابن قَيْسٍ صَاحِبِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: مَرِضَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ زُمْرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعُودُونَهُ، فَقَرَأَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الْآيَةَ كُلَّهَا، وَقَدْ أَصْمَتَ الرَّجُلُ فَتَحَرَّكَ ثُمَّ اسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ سَجَدَ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي سَجَدَ فِيهَا، قَالَ لَهُ أَهْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَاكَ. قَالَ: بُعِثَ إِلَى نَفْسِي مَلَكٌ يَتَوَفَّاهَا، فَلَمَّا قَرَأَ صَاحِبُكُمُ الْآيَةَ الَّتِي قَرَأَ سَجَدَ الْمَلَكُ وَسَجَدْتُ بِسُجُودِهِ، فَهَذَا حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ مَالَ فَقَضَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن السدي في قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ قَالَ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ فَيَذْهَبُ بِضَوْئِهِ وَيَطْلُبُهُ سَرِيعًا حَتَّى يُدْرِكَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَلْبَسُ اللَّيْلُ النَّهَارَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَثِيثاً قَالَ: سَرِيعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ قَالَ: الْخَلْقُ: مَا دُونَ الْعَرْشِ، وَالْأَمْرُ: مَا فَوْقَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: الخلق هو المخلوق، والأمر هو الكلام.

_ (1) . الآيات: 54- 56. (2) . الآيات: 33- 35.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 إلى 58]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 58] ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) أَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالدُّعَاءِ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ بِكَوْنِ الدَّاعِي مُتَضَرِّعًا بِدُعَائِهِ مُخْفِيًا لَهُ، وَانْتِصَابُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُتَضَرِّعِينَ بِالدُّعَاءِ مُخْفِينَ لَهُ، أَوْ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: ادْعُوهُ دُعَاءَ تَضَرُّعٍ وَدُعَاءَ خُفْيَةٍ، وَالتَّضَرُّعُ: مِنَ الضَّرَاعَةِ، وَهِيَ الذِّلَّةُ وَالْخُشُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ، وَالْخُفْيَةُ: الْإِسْرَارُ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْطَعُ لِعِرْقِ الرِّيَاءِ، وَأَحْسَمُ لِبَابِ مَا يُخَالِفُ الْإِخْلَاصَ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أَيِ: الْمُجَاوِزِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ فِي الدُّعَاءِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ جَاوَزَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَقَدِ اعْتَدَى، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَتَدْخُلُ الْمُجَاوَزَةُ فِي الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْعُمُومِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَمِنَ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي مَا لَيْسَ لَهُ، كَالْخُلُودِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ إِدْرَاكِ مَا هو محال في نفسه، أو يطلب الْوُصُولِ إِلَى مَنَازِلِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ صَارِخًا بِهِ. قَوْلُهُ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها نَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَمِنْهُ قَتْلُ النَّاسِ، وَتَخْرِيبُ مَنَازِلِهِمْ، وَقَطْعُ أَشْجَارِهِمْ وَتَغْوِيرُ أَنْهَارِهِمْ. وَمِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ: الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَالْوُقُوعُ فِي مَعَاصِيهِ، وَمَعْنَى: بَعْدَ إِصْلاحِها: بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللَّهُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَتَقْرِيرِ الشرائع. قوله وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إعرابها يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وَفِيهِ: أَنَّهُ يُشْرَعُ لِلدَّاعِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ دُعَائِهِ خَائِفًا وَجِلًا طَامِعًا فِي إِجَابَةِ اللَّهِ لِدُعَائِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عِنْدَ الدُّعَاءِ جَامِعًا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ ظَفِرَ بِمَطْلُوبِهِ. وَالْخَوْفُ: الِانْزِعَاجُ مِنَ الْمَضَارِّ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ مِنْ وُقُوعِهَا، وَالطَّمَعُ: توقع حصول الأمور المحبوبة. قوله إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ رَحْمَتَهُ قَرِيبَةٌ مِنْ عِبَادِهِ الْمُحْسِنِينَ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ كَانَ إِحْسَانُهُمْ، وَفِي هَذَا تَرْغِيبٌ لِلْعِبَادِ إِلَى الْخَيْرِ وَتَنْشِيطٌ لَهُمْ، فَإِنَّ قُرْبَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْفَوْزُ بِكُلِّ مَطْلَبٍ مَقْصُودٌ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالْإِعْرَابِ فِي وَجْهِ تَذْكِيرِ خَبَرِ رَحْمَةَ اللَّهِ حَيْثُ قَالَ قَرِيبٌ وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الرَّحْمَةَ مُؤَوَّلَةٌ بِالرَّحِمِ لِكَوْنِهَا بِمَعْنَى الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ، وَرَجَّحَ هَذَا التَّأْوِيلَ النَّحَّاسُ. وَقَالَ النضر ابن شُمَيْلٍ: الرَّحْمَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّرَحُّمِ، وَحَقُّ الْمَصْدَرِ التَّذْكِيرُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: أَرَادَ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الْمَطَرَ، وَتَذْكِيرُ بَعْضِ الْمُؤَنَّثِ جَائِزٌ، وَأَنْشَدَ:

فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلَا أَرْضَ أَبَقَلَ أَبْقَالُهَا «1» وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَذْكِيرُ قَرِيبٌ عَلَى تَذْكِيرِ الْمَكَانِ، أَيْ: مَكَانٌ قَرِيبٌ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشُ: وَهَذَا خَطَّأٌ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ قَرِيبٌ مَنْصُوبًا كَمَا تَقُولُ: إِنَّ زَيْدًا قَرِيبًا مِنْكَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْقَرِيبَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَسَافَةِ فَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى النَّسَبِ فَيُؤَنَّثُ بِلَا اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ فِي النَّسَبِ قَرِيبَةُ فُلَانٍ، وَفِي غَيْرِ النَّسَبِ يَجُوزُ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ فَيُقَالُ: دَارُكَ عَنَّا قَرِيبٌ وَفُلَانَةٌ مِنَّا قَرِيبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «2» ومنه قول امرئ القيس: له الويل إن أمسى وَلَا أُمُّ هَاشِمٍ ... قَرِيبٌ وَلَا الْبَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا وَرَوِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ خَطَّأَ الْفَرَّاءَ فِيمَا قَالَهُ وَقَالَ: إِنَّ سَبِيلَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ أَنْ يَجْرِيَا عَلَى أَفْعَالِهِمَا وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَأْنِيثُ الرَّحْمَةِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ جَازَ فِي خَبَرِهَا التَّذْكِيرُ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْجَوْهَرِيُّ. قَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ نِعْمَةٍ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَثُبُوتِ إِلَاهِيَّتِهِ. وَرِيَاحٌ: جَمْعُ رِيحٍ، وَأَصْلُ رِيحٍ: رُوحٌ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو نُشُرًا بِضَمِّ النُّونِ وَالشِّينِ جَمْعُ نَاشِرٍ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ: أَيْ ذَاتِ نُشُرٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ عَامِرٍ نُشْرًا بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الشِّين مِنْ نَشَرَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نَشْرًا بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ يَرْجِعُ إِلَى النَّشْرِ الَّذِي هُوَ خِلَافَ الطَّيِّ فَكَأَنَّ الرِّيحَ مَعَ سُكُونِهَا كَانَتْ مَطْوِيَّةً ثُمَّ تُرْسَلُ مِنْ طَيِّهَا فَتَصِيرُ كَالْمُنْفَتِحَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي وُجُوهِهَا عَلَى مَعْنَى نَنْشُرُهَا هَاهُنَا وَهَاهُنَا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بُشْراً بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ جَمْعُ بَشِيرٍ، أَيِ: الرِّيَاحُ تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ، ومثله قوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ «3» . قَوْلُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَرَادَ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الْمَطَرَ، أَيْ: قُدَّامَ رَحْمَتِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نَاشِرَاتٍ أَوْ مُبَشِّرَاتٍ بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ. قَوْلُهُ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا أَقَلَّ فُلَانٌ الشَّيْءُ: حَمَلَهُ وَرَفَعَهُ، وَالسَّحَابُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى إِذَا حَمَلَتِ الرِّيَاحُ سَحَابًا ثِقَالًا بِالْمَاءِ الَّذِي صَارَتْ تَحْمِلُهُ سُقْناهُ أَيِ: السَّحَابَ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أَيْ: مُجْدِبٍ لَيْسَ فِيهِ نَبَاتٌ، يُقَالُ: سُقْتُهُ لِبَلَدِ كَذَا وَإِلَى بَلَدِ كَذَا وَقِيلَ: اللَّامُ هُنَا لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ: لِأَجْلِ بَلَدٍ مَيِّتٍ، وَالْبَلَدُ: هُوَ الْمَوْضِعُ الْعَامِرُ مِنَ الْأَرْضِ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ أَيْ: بِالْبَلَدِ الَّذِي سُقْنَاهُ لِأَجْلِهِ أَوْ بِالسَّحَابِ، أَيْ: أَنْزَلْنَا بِالسَّحَابِ الْمَاءَ الَّذِي تَحْمِلُهُ أَوْ بِالرِّيحِ، أَيْ: فَأَنْزَلْنَا بِالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ الْمَاءَ وَقِيلَ إِنَّ الْبَاءَ هُنَا بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ: فَأَنْزَلْنَا مِنْهُ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ أَيْ: بِالْمَاءِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أَيْ: مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا. قَوْلُهُ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ، وَهُوَ إِخْرَاجُ الثَّمَرَاتِ نُخْرِجُ الْمَوْتَى مِنَ القبور يوم حشرهم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

_ (1) . البيت لعامر الطائي. «المزنة» : السحابة. «الودق» : المطر. (2) . الأحزاب: 63. (3) . الروم: 46.

أَيْ: تَتَذَكَّرُونَ فَتَعْلَمُونَ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صَنْعَتِهِ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِكُمْ كَمَا قَدَرَ عَلَى إِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ الَّتِي تُشَاهِدُونَهَا. قَوْلُهُ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أَيِ: التُّرْبَةُ الطَّيِّبَةُ يَخْرُجُ نَبَاتُهَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ إِخْرَاجًا حَسَنًا تَامًّا وَافِيًا وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً أَيْ: وَالتُّرْبَةُ الْخَبِيثَةُ لَا يَخْرُجُ نَبَاتُهَا إِلَّا نَكِدًا، أَيْ: لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ نَكِداً بِسُكُونِ الْكَافِ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ نَكَدًا بِفَتْحِ الْكَافِ: أَيْ ذَا نَكَدٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ نَكِداً بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْكَافِ. وَقُرِئَ يُخْرِجُ أَيْ يُخْرِجُهُ الْبَلَدُ قيل: معنى الْآيَةِ التَّشْبِيهُ، شَبَّهَ تَعَالَى السَّرِيعَ الْفَهْمِ بِالْبَلَدِ الطَّيِّبِ، وَالْبَلِيدَ بِالْبَلَدِ الْخَبِيثِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَقِيلَ: هَذَا مَثَلٌ لِلْقُلُوبِ، فَشَبَّهَ الْقَلْبَ الْقَابِلَ لِلْوَعْظِ بِالْبَلَدِ الطَّيِّبِ، وَالنَّائِي عَنْهُ بِالْبَلَدِ الْخَبِيثِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقِيلَ: هُوَ مَثَلٌ لِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَقِيلَ: هُوَ مَثَلٌ لِلطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ مِنْ بَنِي آدَمَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّصْرِيفِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ اللَّهَ وَيَعْتَرِفُونَ بِنِعْمَتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً قَالَ: السِّرُّ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فِي الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: التَّضَرُّعُ: عَلَانِيَةٌ، وَالْخُفْيَةُ: سِرٌّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً يَعْنِي: مُسْتَكِينًا، وَخُفْيَةً: يَعْنِي فِي خَفْضٍ وَسُكُونٍ فِي حَاجَاتِكُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يَقُولُ: لَا تَدْعُوا عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ بِالشَّرِّ: اللَّهُمَّ اخْزِهِ وَالْعَنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ عُدْوَانٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قَالَ: لَا تَسْأَلُوا مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ إِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا فَرَضِيَ قَوْلَهُ فَقَالَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها قال: بعد ما أَصْلَحَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَأَصْحَابُهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي سِنَانٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَحْلَلْتُ حَلَالِي وَحَرَّمْتُ حَرَامِي وَحَدَّدْتُ حُدُودِي فَلَا تُفْسِدُوهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً قَالَ: خَوْفًا مِنْهُ، وَطَمَعًا لما عنده إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَهُوَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ الرِّيحَ فَيَأْتِي بِالسَّحَابِ مِنْ بَيْنِ الْخَافِقَيْنِ- طَرَفِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ يَلْتَقِيَانِ- فَيُخْرِجُهُ مِنْ ثَمَّ، ثُمَّ يَنْشُرُهُ فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ، ثُمَّ يَفْتَحُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ فَيَسِيلُ الْمَاءُ عَلَى السَّحَابِ، ثُمَّ يُمْطِرُ السَّحَابُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قَالَ: يَسْتَبْشِرُ بِهَا النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قَالَ: هُوَ الْمَطَرُ، وَفِي قَوْلِهِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى قَالَ: كَذَلِكَ تَخْرُجُونَ، وَكَذَلِكَ النُّشُورُ كَمَا يَخْرُجُ الزَّرْعُ بِالْمَاءِ. وَأَخْرَجَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 إلى 64]

ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى قَالَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخْرِجَ الْمَوْتَى أَمْطَرَ السَّمَاءَ حَتَّى يُشَقِّقَ عَنْهُمُ الْأَرْضَ، ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَرْوَاحَ فَيَهْوِي كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهِ، فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى بِالْمَطَرِ كَإِحْيَائِهِ الْأَرْضَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ الْآيَةَ قَالَ: هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله للمؤمن، يقول: هو طيب، عمله طَيِّبٌ، كَمَا أَنَّ الْبَلَدَ الطَّيِّبَ ثَمَرُهَا طَيِّبٌ وَالَّذِي خَبُثَ ضُرِبَ مَثَلًا لِلْكَافِرِ كَالْبَلَدِ السَّبَخَةِ الْمَالِحَةِ الَّتِي لَا تَخْرُجُ مِنْهَا الْبَرَكَةُ، فَالْكَافِرُ هُوَ الْخَبِيثُ وَعَمَلُهُ خَبِيثٌ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التابعين. [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَبَدِيعَ صَنْعَتهِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ذَكَرَ هُنَا أَقَاصِيصَ الْأُمَمِ وَمَا فِيهَا مِنْ تَحْذِيرِ الْكُفَّارِ وَوَعِيدِهِمْ، لِتَنْبِيهِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الصَّوَابِ، وَأَنْ لَا يَقْتَدُوا بِمَنْ خَالَفَ الْحَقَّ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَاللَّامُ: جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. وَهُوَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ نُوحٍ فِي آلِ عِمْرَانَ فَأَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ هُنَا، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ إِدْرِيسَ قَبْلَ نُوحٍ، فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّهُ وَهْمٌ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَرِّخُونَ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ نبيا غير مرسل، وجملة فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ. قَوْلُهُ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ اعْبُدُوا أَيِ: اعْبُدُوهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ، حَتَّى يَسْتَحِقَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا. قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ بِرَفْعِ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِإِلَهٍ عَلَى الْمَوْضِعِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالْخَفْضِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ عَلَى اللَّفْظِ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ النَّصْبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ: يَعْنِي: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِيَّاهُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: مَا أَعْرِفُ الْجَرَّ وَلَا النَّصْبَ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ بَعْضَ بَنِي أَسَدٍ يَنْصِبُونَ غَيْرَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ ... حَمَامَةٌ فِي غصون ذات أوقال «2» وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ جُمْلَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِتَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، أَيْ: إِنْ لم تعبدوه

_ (1) . هو أبو قيس بن الأسلت. (2) . «أوقال» : ثمار.

فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ عَذَابَ يَوْمِ الطُّوفَانِ. قَوْلُهُ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالْمَلَأُ: أَشْرَافُ الْقَوْمِ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَقِيلَ: هُمُ الرِّجَالُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَقَرَةِ، وَالضَّلَالُ: الْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالذَّهَابُ عَنْهُ، أَيْ: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي دُعَائِكَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ فِي ضَلَالٍ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَجُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَيْضًا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ كَمَا تَزْعُمُونَ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ لِسَوْقِ الْخَيْرِ إِلَيْكُمْ وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْكُمْ، نَفَى عَنْ نَفْسِهِ الضَّلَالَةَ، وَأَثْبَتَ لَهَا مَا هُوَ أَعْلَى مَنْصِبًا وَأَشْرَفُ رِفْعَةً وَهُوَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَجُمْلَةُ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِرَسُولٍ، أَوْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِ الرَّسُولِ. وَالرِّسَالَاتُ: مَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِمْ مِمَّا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَأَنْصَحُ لَكُمْ عَطْفٌ عَلَى أُبَلِّغُكُمْ يُقَالُ: نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ، وَفِي زِيَادَةِ اللَّامِ: دَلَالَةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِمْحَاضِ النصح. قال الْأَصْمَعِيُّ: النَّاصِحُ: الْخَالِصُ مِنَ الْغِلِّ، وَكُلُّ شَيْءٍ خَلَصَ فَقَدْ نَصَحَ، فَمَعْنَى أَنْصَحُ هُنَا: أُخْلِصُ النِّيَّةَ لَكُمْ عَنْ شَوَائِبِ الْفَسَادِ، وَالِاسْمُ: النَّصِيحَةُ، وَجُمْلَةُ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مُقَرِّرَةٌ لِرِسَالَتِهِ وَمُبَيِّنَةٌ لِمَزِيدِ عِلْمِهِ، وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِعِلْمِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَعْلَمُونَهَا بِإِخْبَارِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ. قَوْلُهُ أَوَعَجِبْتُمْ فُتِحَتْ الْوَاوُ لِكَوْنِهَا الْعَاطِفَةَ وَدَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ. وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ: كَأَنَّهُ قِيلَ: اسْتَبْعَدْتُمْ وَعَجِبْتُمْ أَوْ أَكَذَّبْتُمْ وَعَجِبْتُمْ أَوْ أَنْكَرْتُمْ وَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: وَحْيٌ وَمَوْعِظَةٌ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ أَيْ: عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ مِنْكُمْ تَعْرِفُونَهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ مَنْ لَا تَعْرِفُونَهُ أَوْ لَا تَعْرِفُونَ لُغَتَهُ، وَقِيلَ عَلَى بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ: مَعَ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِأَجْلِ يُنْذِرَكُمْ بِهِ وَلِتَتَّقُوا مَا يُخَالِفُهُ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بِسَبَبِ مَا يُفِيدُهُ الْإِنْذَارُ لَكُمْ وَالتَّقْوَى مِنْكُمْ مِنَ التَّعَرُّضِ لِرَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَكُمْ وَرِضْوَانِهِ عَنْكُمْ فَكَذَّبُوهُ أَيْ فَبَعْدَ ذَلِكَ كَذَّبُوهُ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ الْمُسْتَقِرِّينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى التَّوْبَةِ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ وَأَغْرَقْنَا أَيْ: أَغْرَقْنَا الْمُكَذِّبِينَ لِكَوْنِهِمْ عُمْيَ الْقُلُوبِ لَا تنجح فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ وَلَا يُفِيدُهُمُ التَّذْكِيرُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ نَبِيٍّ أُرْسِلَ نُوحٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ نُوْحًا لِطُولِ مَا نَاحَ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: الْمَلَأُ يَعْنِي الْأَشْرَافَ مِنَ قومه. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ يَقُولُ: بَيَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ قَالَ: كُفَّارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ قال: عن الحقّ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 إلى 72]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) قَوْلُهُ وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أَيْ: وَأَرْسَلَنَا إِلَى قَوْمِ عَادٍ أَخَاهُمْ، أَيْ: وَاحِدًا مِنْ قَبِيلَتِهِمْ أَوْ صَاحِبَهُمْ وسمّاه أَخًا لِكَوْنِهِ ابْنَ آدَمَ مِثْلَهُمْ، وَعَادٌ هُوَ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. قِيلَ: هُوَ عَادُ بْنُ عُوصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ شَالِخَ ابن أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَهُودٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ بْنِ الْخُلُودِ بن عوص بن إرم بن شالخ بن أرفخشذ ابن سام بن نوح، وهُوداً عطف بيان. قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا قَرِيبًا، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَلا تَتَّقُونَ لِلْإِنْكَارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا تَفْسِيرُ الْمَلَأِ، وَالسَّفَاهَةُ: الْخِفَّةُ وَالْحُمْقُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ، نَسَبُوهُ إِلَى الْخِفَّةِ وَالطَّيْشِ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى قَالُوا إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ مُؤَكِّدِينَ لِظَنِّهِمْ كَذِبَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الرِّسَالَةِ، ثُمَّ أَجَابَ عَلَيْهِمْ بِنَفْيِ السَّفَاهَةِ عَنْهُ، وَاسْتَدْرَكَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى هَذَا قَرِيبًا، وَكَذَلِكَ سَبَقَ تَفْسِيرُ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَتَقَدَّمَ مَعْنَى النَّاصِحِ، وَالْأَمِينُ: الْمَعْرُوفُ بِالْأَمَانَةِ، وَسَبَقَ أَيْضًا تَفْسِيرُ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ فِي قِصَّةِ نُوحٍ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ. قَوْلُهُ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أذكرهم نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، أَيْ: جَعَلَهُمْ سُكَّانَ الْأَرْضِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، أَوْ جَعَلَهُمْ مُلُوكًا، وَإِذْ مَنْصُوبٌ بِاذْكُرْ وَجَعَلَ الذِّكْرَ لِلْوَقْتِ. وَالْمُرَادُ: مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِخْلَافِ عَلَى الْأَرْضِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ وَقْتُهُ مُسْتَحِقًّا لِلذِّكْرِ، فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ بالأولى وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أَيْ: طُولًا فِي الْخَلْقِ وَعِظَمَ جِسْمٍ زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ فِي الْأَبْدَانِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ حِكَايَاتٌ عَنْ عِظَمِ أَجْرَامِ قَوْمِ عَادٍ. قَوْلُهُ فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ الْآلَاءُ: جَمْعُ إِلًى وَمِنْ جُمْلَتِهَا نِعْمَةُ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالْبَسْطَةُ فِي الْخَلْقِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَرَّرَ التَّذْكِيرَ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَالْآلَاءُ: النِّعَمُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنْ تَذَكَّرْتُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ الذِّكْرَ لِلنِّعْمَةِ سَبَبٌ بَاعِثٌ عَلَى شُكْرِهَا، وَمِنْ شَكَرَ فَقَدْ أَفْلَحَ. قَوْلُهُ قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ هَذَا اسْتِنْكَارٌ مِنْهُمْ لدعائه إلى

عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مُسْتَنْكَرًا عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا أَيْ: نَتْرُكُ الَّذِي كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، وَهَذَا دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ مَا اسْتَنْكَرُوهُ. قَوْلُهُ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ هَذَا اسْتِعْجَالٌ مِنْهُمْ لِلْعَذَابِ الَّذِي كَانَ هُودٌ يَعِدُهُمْ بِهِ، لِشِدَّةِ تَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَنُكُوصِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَبُعْدِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الصَّوَابِ، فَأَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ جَعَلَ مَا هُوَ مُتَوَقَّعٌ كَالْوَاقِعِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَقِيلَ: مَعْنَى وَقَعَ وَجَبَ، وَالرِّجْسُ: الْعَذَابُ، وَقِيلَ: هُوَ هُنَا الرَّيْنُ عَلَى الْقَلْبِ بِزِيَادَةِ الْكُفْرِ، ثُمَّ اسْتَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُجَادَلَةِ، فَقَالَ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ يَعْنِي: أَسْمَاءَ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا جَعَلَهَا أَسْمَاءً، لِأَنَّ مُسَمَّيَاتِهَا لَا حَقِيقَةَ لَهَا بَلْ تَسْمِيَتُهَا بِالْآلِهَةِ بَاطِلَةٌ، فَكَأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ لَمْ تُوجَدْ بَلِ الْمَوْجُودُ أَسْمَاؤُهَا فَقَطْ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أَيْ: سَمَّيْتُمْ بِهَا مَعْبُودَاتِكُمْ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِكُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ وَلَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أَيْ: مِنْ حُجَّةٍ تَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى مَا تَدَّعُونَهُ لَهَا مِنَ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِأَشَدِّ وَعِيدٍ فَقَالَ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أَيْ: فَانْتَظِرُوا مَا طَلَبْتُمُوهُ مِنَ الْعَذَابِ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لَهُ، وَهُوَ وَاقِعٌ بِكُمْ لَا مَحَالَةَ وَنَازِلٌ عَلَيْكُمْ بِلَا شَكٍّ ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ نَجَّى هُودًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِمَنْ كَفَرَ بِهِ وَلَمْ يَقْبَلْ رِسَالَتَهُ، وَأَنَّهُ قَطَعَ دَابِرَ الْقَوْمِ الْمُكَذِّبِينَ، أَيِ: اسْتَأْصَلَهُمْ جَمِيعًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ، وَجُمْلَةُ وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى كَذَّبُوا، أَيِ: اسْتَأْصَلْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الْجَامِعِينَ بَيْنَ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِنَا وَعَدَمِ الْإِيمَانِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قَالَ: لَيْسَ بِأَخِيهِمْ فِي الدِّينِ، وَلَكِنَّهُ أَخُوهُمْ فِي النَّسَبِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ فَلِذَلِكَ جُعِلَ أَخَاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ قَالَ: كَانَتْ عَادٌ مَا بَيْنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ مِثْلَ الذَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ وَهْبٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ عَادٍ سِتِّينَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِهِمْ، وَكَانَ هَامَةُ الرَّجُلِ مِثْلَ الْقُبَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَكَانَ عَيْنُ الرَّجُلِ لَتُفْرِخُ فِيهَا السِّبَاعُ، وَكَذَلِكَ مَنَاخِرُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَر ذِرَاعًا طُولًا. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنِ ابْنِ عباس قال: كان الرجل منهم ثمانين بَاعًا، وَكَانَتِ الْبُرَّةُ فِيهِمْ كَكُلْيَةِ الْبَقَرَةِ، وَالرُّمَّانَةُ الْوَاحِدَةُ يَقْعُدُ فِي قِشْرِهَا عَشَرَةُ نَفَرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً قَالَ: شِدَّةً. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ قَوْمِ عَادٍ لَيَتَّخِذُ الْمِصْرَاعَ مِنَ الْحِجَارَةِ لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُقِلُّوهُ «1» ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُدْخِلُ قَدَمَهُ فِي الْأَرْضِ فَتَدْخُلُ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ آلاءَ اللَّهِ قَالَ: نِعَمَ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ رِجْسٌ قَالَ: سُخْطٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ قَالَ: لَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ الرِّيحَ عَلَى عَادٍ اعْتَزَلَ هُودٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَظِيرَةٍ مَا يصيبهم

_ (1) . قال في القاموس: قلّه وأقلّه: حمله ورفعه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 إلى 79]

مِنَ الرِّيحِ إِلَّا مَا تَلِينُ عَلَيْهِ الْجُلُودُ وَتَلْتَذُّ بِهِ الْأَنْفُسُ، وَإِنَّهَا لَتَمُرُّ بِالْعَادِيِّ فَتَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَتَدْمَغُهُ بِالْحِجَارَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن زيد فِي قَوْلِهِ وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا قَالَ: اسْتَأْصَلْنَاهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قال: قبر هود يحضر موت فِي كَثِيبٍ أَحْمَرَ عِنْدَ رَأْسِهِ سِدْرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاتِكَةِ قَالَ: قُبْلَةَ مَسْجِدِ دِمَشْقَ قُبِرَ هُودٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ عُمْرُ هُودٍ أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً. [سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) قَوْلُهُ وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ، وَثَمُودُ: قَبِيلَةٌ سُمُّوا بِاسْمِ أَبِيهِمْ، وَهُوَ ثَمُودُ بْنُ عَادِ بْنِ إِرَمَ بْنِ شالخ بن أرفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَصَالِحٌ عَطْفُ بَيَانٍ، وَهُوَ صَالِحُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَسْفِ بْنِ مَاشِحِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حَاذَرَ بْنِ ثَمُودَ، وَامْتِنَاعُ ثَمُودَ مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ جُعِلَ اسَمًا لِلْقَبِيلَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهُ مِنَ الثَّمْدِ، وَهُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ، وَقَدْ قَرَأَ الْقُرَّاءُ ألا إنّ ثمودا كفروا ربهم «1» عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْحَيِّ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُ ثَمُودَ الْحِجْرَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ إِلَى وَادِي الْقُرَى. قوله قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَهِيَ إِخْرَاجُ النَّاقَةِ مِنَ الْحَجَرِ الصَّلْدِ، وَجُمْلَةُ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَيَانِ الْبَيِّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَانْتِصَابُ آيَةً: عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِشَارَةِ، وَفِي إِضَافَةِ النَّاقَةِ إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفٌ لَهَا وَتَكْرِيمٌ. قَوْلُهُ فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أَيْ: دَعُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ، فَهِيَ نَاقَةُ اللَّهِ، وَالْأَرْضُ أَرْضُهُ فَلَا تَمْنَعُوهَا مِمَّا لَيْسَ لَكُمْ وَلَا تَمْلِكُونَهُ وَلا تَمَسُّوها بِشَيْءٍ مِنَ السُّوءِ، أَيْ: لَا تَتَعَرَّضُوا لَهَا بِوَجْهٍ من الوجوه التي تسوؤها. قَوْلُهُ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هُوَ جَوَابُ النَّهْيِ: أَيْ إِذَا لَمْ تَتْرُكُوا مَسَّهَا بِشَيْءٍ مِنَ السُّوءِ أَخَذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَيْ: شَدِيدُ الْأَلَمِ. قَوْلُهُ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ أَيِ: اسْتَخْلَفَكُمْ فِي الْأَرْضِ أَوْ جَعَلَكُمْ ملوكا فيها، كما تقدّم

_ (1) . هود: 68.

فِي قِصَّةِ هُودٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا مَبَاءَةً، وَهِيَ الْمَنْزِلُ الَّذِي تَسْكُنُونَهُ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أَيْ: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولَةِ الْأَرْضِ قُصُورًا، أَوْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَسُهُولُ الْأَرْضِ تُرَابُهَا، يَتَّخِذُونَ مِنْهُ اللَّبِنَ وَالْآجُرَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَبْنُونَ بِهِ الْقُصُورَ وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أَيْ تَتَّخِذُونَ فِي الْجِبَالِ الَّتِي هِيَ صُخُورٌ بُيُوتًا تَسْكُنُونَ فِيهَا، وَقَدْ كَانُوا لِقُوَّتِهِمْ وَصَلَابَةِ أَبْدَانِهِمْ يَنْحِتُونَ الْجِبَالَ فَيَتَّخِذُونَ فِيهَا كُهُوفًا يَسْكُنُونَ فِيهَا لِأَنَّ الْأَبْنُيَةَ وَالسُّقُوفَ كَانَتْ تَفْنَى قَبْلَ فَنَاءِ أَعْمَارِهِمْ، وَانْتِصَابُ بُيُوتًا عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أو على أنها مفعول ثان لتنتحون عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى تَتَّخِذُونَ. قَوْلُهُ فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. قَوْلُهُ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ الْعَثْيُ وَالْعَثْوُ لُغَتَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي الْبَقَرَةِ بِمَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: أَيْ: قَالَ الرُّؤَسَاءُ الْمُسْتَكْبِرُونَ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ اسْتَضْعَفَهُمُ المستكبرون، ولِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، لِأَنَّ في الْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ هَذَا عَلَى عَوْدِ ضَمِيرِ مِنْهُمْ إِلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، فَإِنَ عَادَ إِلَى قَوْمِهِ كَانَ بَدَلَ كُلٍّ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَمَقُولُ الْقَوْلِ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالوا هذا على طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ. قَوْلُهُ: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ أَجَابُوهُمْ بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِرِسَالَتِهِ، مَعَ كَوْنِ سُؤَالِ الْمُسْتَكْبِرِينَ لَهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ، هَلْ تَعْلَمُونَ بِرِسَالَتِهِ أَمْ لَا؟ مُسَارَعَةً إِلَى إِظْهَارِ مَا لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مُرْسَلًا أَمْرٌ وَاضِحٌ مَكْشُوفٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، فَأَجَابُوا تَمَرُّدًا وَعِنَادًا بِقَوْلِهِمْ إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وَهَذِهِ الْجُمَلُ الْمَعْنَوِيَّةُ يُقَالُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا جَوَابَاتٌ عَنْ سُؤَالَاتٍ مَقَدَّرَةٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ. قَوْلُهُ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ الْعَقْرُ: الْجَرْحُ، وَقِيلَ: قَطْعُ عُضْوٍ يُؤَثِّرُ فِي تَلَفِ النَّفْسِ يُقَالُ: عَقَرَتِ الْفُرْسُ: إِذَا ضُرِبَتْ قَوَائِمُهُ بِالسَّيْفِ، وَقِيلَ أَصْلُ الْعَقْرِ: كَسْرُ عُرْقُوبِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ قِيلَ لِلنَّحْرِ عَقْرٌ لِأَنَّ الْعَقْرَ سَبَبُ النَّحْرِ فِي الْغَالِبِ، وَأَسْنَدَ الْعَقْرَ إِلَى الْجَمِيعِ مَعَ كَوْنِ الْعَاقِرِ وَاحِدًا مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ رَاضُونَ بِذَلِكَ مُوَافِقُونَ عَلَيْهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَاقِرِ النَّاقَةِ مَا كَانَ اسْمُهُ، فَقِيلَ قِدَارُ بْنُ سَالِفٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أَيِ: اسْتَكْبَرُوا، يُقَالُ عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا: اسْتَكْبَرَ، وَتَعَتَّى فُلَانٌ: إِذَا لَمْ يُطِعْ، وَاللَّيْلُ الْعَاتِي: الشَّدِيدُ الظلمة وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا مِنَ الْعَذَابِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ هَذَا اسْتِعْجَالٌ مِنْهُمْ لِلنِّقْمَةِ وَطَلَبٌ مِنْهُمْ لِنُزُولِ الْعَذَابِ وَحُلُولِ الْبَلِيَّةِ بِهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أَيِ الزَّلْزَلَةُ، يُقَالُ رَجَفَ الشَّيْءُ يَرْجُفُ رُجْفَانًا، وَأَصْلُهُ حَرَكَةٌ مَعَ صَوْتٍ، وَمِنْهُ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ «1» وَقِيلَ كَانَتْ صَيْحَةً شَدِيدَةً خَلَعَتْ قُلُوبَهُمْ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أَيْ بَلَدِهِمْ جاثِمِينَ لَاصِقِينَ بِالْأَرْضِ عَلَى رُكَبِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ كَمَا يَجْثُمُ الطَّائِرُ، وَأَصْلُ الْجُثُومِ لِلْأَرْنَبِ وَشَبَهِهَا، وَقِيلَ لِلنَّاسِ وَالطَّيْرِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَصْبَحُوا فِي دُورِهِمْ مَيِّتِينَ لَا حَرَاكَ بِهِمْ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ صَالِحٌ عِنْدَ اليأس من إجابتهم وَقالَ لهم الْمَقَالَةَ: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ لِحَالِهِمُ الْمَاضِيَةِ، كَمَا وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ التَّكْلِيمِ لِأَهْلِ قَلِيبِ بَدْرٍ بَعْدَ موتهم، أَوْ قَالَهَا لَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَكَأَنَّهُ كَانَ مُشَاهِدًا لِذَلِكَ فَتَحَسَّرَ عَلَى مَا

_ (1) . النازعات: 6.

فَاتَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ أَبَانَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْلُ جُهْدًا فِي إِبْلَاغِهِمُ الرِّسَالَةَ وَمَحْضِ النُّصْحِ، لَكِنْ أَبَوْا ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، وَنَزَلَ بِهِمْ مَا كَذَّبُوا بِهِ وَاسْتَعْجَلُوهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قَالَتْ ثَمُودُ لِصَالِحٍ: ائْتِنَا بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ: اخْرُجُوا، فَخَرَجُوا إِلَى هَضْبَةٍ من الأرض فإذا هي تَمَخَّضُ الْحَامِلُ، ثُمَّ إِنَّهَا انْفَرَجَتْ فَخَرَجَتِ النَّاقَةُ مِنْ وَسَطِهَا، فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَلَمَّا مَلُّوهَا عَقَرُوهَا فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ صَالِحًا قَالَ لَهُمْ حِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ: تَمَتَّعُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: آيَةُ هَلَاكِكُمْ أَنْ تُصْبِحَ وُجُوهُكُمْ غَدًا مُصْفَرَّةً، وَتُصْبِحَ الْيَوْمَ الثَّانِي مُحَمَّرَةً، ثُمَّ تُصْبِحَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ مُسَوَّدَةً، فَأَصْبَحَتْ كَذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ فتكفنوا وتحنطوا، ثم أخذتهم الصيحة فأخمدتهم. وَقَالَ عَاقِرُ النَّاقَةِ: لَا أَقْتُلُهَا حَتَّى تَرْضَوْا أَجْمَعِينَ، فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي خِدْرِهَا فَيَقُولُونَ: أَتَرْضِينَ؟ فَتَقُولُ: نَعَمْ، وَالصَّبِيُّ، حَتَّى رَضُوا أَجْمَعُونَ، فَعَقَرَهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الأوسط وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ قَامَ فَخَطَبَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَسْأَلُوا نَبِيَّكُمْ عَنِ الْآيَاتِ. فَإِنَّ قَوْمَ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ آيَةً فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُمُ النَّاقَةَ، فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ فَتَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمَ وِرْدِهَا وَيَحْتَلِبُونَ مِنْ لَبَنِهَا مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ مَائِهَا يَوْمَ غِبِّهَا وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ الْعَذَابَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ غَيْرَ مَكْذُوبٍ، ثُمَّ جَاءَتْهُمُ الصَّيْحَةُ فَأَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ تَحْتَ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، إِلَّا رَجُلًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: أَبُو رِغَالٍ فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْحِجْرِ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ» وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَبُوكَ نَزَلَ بِهِمُ الْحِجْرَ عِنْدَ بُيُوتِ ثَمُودَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قوله وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ قَالَ: لَا تَعْقِرُوهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً قَالَ: كَانُوا يَنْقُبُونَ فِي الْجِبَالِ الْبُيُوتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ قَالَ: غَلَوْا فِي الْبَاطِلِ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ: الصَّيْحَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ قَالَ: مَيِّتِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 إلى 84]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) قَوْلُهُ وَلُوطاً مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ، أَيْ: وَأَرْسَلْنَا لُوطًا، أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ لُوطًا وَقْتَ قَالَ لِقَوْمِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لُوطٌ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا أُلِيطَ بِقَلْبِي أَيْ: أُلْصِقَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: زَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ لُوطًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ لُطْتُ الْحَوْضَ إِذَا مَلَّسْتُهُ بِالطِّينِ، وَهَذَا غَلَطٌ. لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْأَعْجَمِيَّةَ لَا تُشْتَقُّ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: نُوحٌ وَلُوطٌ أَسْمَاءٌ أَعْجَمِيَّةٌ إِلَّا أَنَّهَا خَفِيفَةٌ، فَلِذَلِكَ صُرِفَتْ، وَلُوطٌ هُوَ ابْنُ هَارَانَ بْنِ تَارِخٍ، فَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أُمَّةٍ تُسَمَّى سَدُومَ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أَيِ: الْخَصْلَةُ الْفَاحِشَةُ الْمُتَمَادِيَةُ فِي الْفُحْشِ وَالْقُبْحِ، قَالَ ذَلِكَ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ وَتَوْبِيخًا لَهُمْ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَيْ: لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ قَبْلَكُمْ، فَإِنَّ اللِّوَاطَ لَمْ يَكُنْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَ «مِنْ» مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ لِلْعُمُومِ فِي النَّفْيِ، وَإِنَّهُ مُسْتَغْرِقٌ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ وَالتَّوْبِيخِ لَهُمْ. قَوْلُهُ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَلَى الْخَبَرِ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَكْسُورَةٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبِيخِ والتقريع واختار القراءة الأولى أو عُبَيْدٍ وَالْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَاخْتَارَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةً لِقَوْلِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَكَذَلِكَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ مَزِيدِ الِاسْتِفْهَامِ وَتَكْرِيرِهِ الْمُفِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَانْتِصَابُ شَهْوَةً عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: تَشْتَهُونَهُمْ شَهْوَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مُشْتَهِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ: لِأَجْلِ الشَّهْوَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهُمْ بِإِتْيَانِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ إِلَّا مُجَرَّدُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ يُوَافِقُ الْعَقْلَ، فهم في هذا كالبهائم التي تنزو بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لِمَا يَتَقَاضَاهَا مِنَ الشَّهْوَةِ مِنْ دُونِ النِّساءِ أَيْ: مُتَجَاوِزِينَ فِي فِعْلِكُمْ هَذَا لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي هُنَّ مَحَلٌّ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَمَوْضِعٌ لِطَلَبِ اللَّذَّةِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنِ الْإِنْكَارِ الْمُتَقَدِّمِ إِلَى الْإِخْبَارِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْرَافِ الَّذِي تَسَبَّبَ عَنْهُ إِتْيَانُ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْفَظِيعَةِ. قَوْلُهُ وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ الْوَاقِعِينَ فِي هَذِهِ الْفَاحِشَةِ عَلَى مَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ أَيْ: لُوطًا وَأَتْبَاعَهُ مِنْ قَرْيَتِكُمْ أَيْ: مَا كَانَ لَهُمْ جَوَابٌ إِلَّا هَذَا الْقَوْلُ الْمُبَايِنُ لِلْإِنْصَافِ الْمُخَالِفُ لِمَا طَلَبَهُ مِنْهُمْ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ تَعْلِيلٌ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْإِخْرَاجِ، وَوَصْفُهُمْ بِالتَّطَهُّرِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْفَاحِشَةِ فَلَا يُسَاكِنُونَا فِي قَرْيَتِنَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أنجى لوطا وأهله المؤمنين له، وَاسْتَثْنَى امْرَأَتَهُ مِنَ الْأَهْلِ لِكَوْنِهَا لَمْ تُؤْمِنْ له، وَمَعْنَى كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْبَاقِينَ فِي عَذَابِ اللَّهِ، يُقَالُ غَبَرَ الشَّيْءُ: إِذَا مَضَى. وَغَبَرَ: إِذَا بَقِيَ، فَهُوَ مِنَ الأضداد. وحكى

[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 إلى 93]

ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمَاضِي عَابِرٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْبَاقِي غَابِرٌ بِالْمُعْجَمَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنَ الْغابِرِينَ أَيْ: مِنَ الْغَائِبِينَ عَنِ النَّجَاةِ. وَقَالَ اَبُو عُبَيْدٍ: الْمَعْنَى مِنَ الْغابِرِينَ أَيْ: مِنَ الْمُعَمَّرِينَ وَكَانَتْ قَدْ هَرِمَتْ، وَأَكْثَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْغَابِرَ: الْبَاقِي. قَوْلُهُ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً قِيلَ: أَمْطَرَ بِمَعْنَى إِرْسَالِ الْمَطَرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَطَرَ فِي الرَّحْمَةِ وَأَمْطَرَ فِي الْعَذَابِ، وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّ اللَّهَ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ مَطَرًا غَيْرَ مَا يَعْتَادُونَهُ وَهُوَ رَمْيُهُمْ بِالْحِجَارَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «1» فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ هَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، أَوْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَسَيَأْتِي فِي هُودٍ قِصَّةُ لُوطٍ بِأَبْيَنَ مِمَّا هُنَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ قَالَ: أَدْبَارَ الرِّجَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ بَدْءُ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ: أَنَّ إِبْلِيسَ جَاءَهُمْ فِي هَيْئَةِ صَبِيٍّ، أَجْمَلَ صَبِيٍّ رَآهُ النَّاسُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى نَفْسِهِ فَنَكَحُوهُ ثُمَّ جَسَرُوا عَلَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ قَالَ: مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَمِنْ أَدْبَارِ النِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ قَالَ: مِنَ الْبَاقِينَ فِي عَذَابِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: كَانَ قَوْمُ لُوطٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ ألف. [سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 93] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) قَوْلُهُ: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ: وَأَرْسَلْنَا. ومدين: اسم قبيلة،

_ (1) . الحجر: 74.

وَقِيلَ: اسْمُ بَلَدٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَسُمِّيَتِ الْقَبِيلَةُ بِاسْمِ أَبِيهِمْ: وَهُوَ مَدْيَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ كَمَا يُقَالُ بَكْرٌ وَتَمِيمٌ. قَوْلُهُ: أَخاهُمْ شُعَيْباً شُعَيْبٌ: عَطْفُ بَيَانٍ، وَهُوَ شُعَيْبُ بْنُ مِيكَائِيلَ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ وغيرهما. وقال الشرقيّ بْنُ الْقَطَّامِيِّ: إِنَّهُ شُعَيْبُ بْنُ عَيْفَاءَ بْنِ يوبب بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَزَعَمَ ابْنُ سَمْعَانَ أنه شعيب بن جزي بْنِ يَشْجُبَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ شُعَيْبُ ابن صَفْوَانَ بْنِ عَيْفَاءَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ مَدْيَنَ بن إبراهيم. قوله: قالَ يا قَوْمِ إِلَى قَوْلِهِ: بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ قَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ. قَوْلُهُ: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ أَمَرَهُمْ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ مُعَامَلَةٍ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَكَانُوا لَا يُوَفُّونَهُمَا، وَذَكَرَ الْكَيْلَ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْمِيزَانَ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْآلَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَيْلِ: الْمِكْيَالُ، فَتَنَاسَبَ عَطْفُ الْمِيزَانِ عَلَيْهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمِيزَانِ الْوَزْنُ فَيُنَاسِبُ الْكَيْلَ، وَالْفَاءُ فِي فَأَوْفُوا لِلْعَطْفِ عَلَى اعْبُدُوا. قَوْلُهُ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ الْبَخْسُ: النَّقْصُ وَهُوَ يَكُونُ بِالتَّعْيِيبِ لِلسِّلْعَةِ أَوِ التَّزْهِيدِ فِيهَا أَوِ الْمُخَادَعَةِ لِصَاحِبِهَا وَالِاحْتِيَالِ عَلَيْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَشْياءَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْخَسُونَ النَّاسَ فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ، وَقِيلَ: كَانُوا مَكَّاسِينَ يَمْكِسُونَ كُلَّ مَا دَخَلَ إِلَى أَسْوَاقِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: أَفِي كُلِّ أَسْوَاقِ الْعِرَاقِ إِتَاوَةٌ ... وَفِي كُلِّ مَا بَاعَ امْرُؤٌ مَكْسُ دِرْهَمِ قَوْلُهُ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ قَرِيبًا وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ قَلِيلُ الْفَسَادِ وَكَثِيرُهُ وَدَقِيقُهُ وَجَلِيلُهُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ هُنَا: الزِّيَادَةُ الْمُطْلَقَةُ، لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عَدَمِ إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَفِي بَخْسِ النَّاسِ، وَفِي الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ أَصْلًا. قَوْلُهُ: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ الصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ، أَيْ: لَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ طَرِيقٍ تُوعِدُونَ النَّاسَ بِالْعَذَابِ، قِيلَ: كَانُوا يَقْعُدُونَ فِي الطُّرُقَاتِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى شُعَيْبٍ، فَيَتَوَعَّدُونَ مَنْ أَرَادَ الْمَجِيءَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ كَذَّابٌ فَلَا تَذْهَبْ إِلَيْهِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَفْعَلُهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْقُعُودُ عَلَى طُرُقِ الدِّينِ وَمَنْعُ مَنْ أَرَادَ سُلُوكَهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُعُودَ عَلَى الطُّرُقِ حَقِيقَةً، وَيُؤَيِّدُهُ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ: النَّهْيُ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَأَخْذِ السَّلْبِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَشَّارِينَ يَأْخُذُونَ الْجِبَايَةَ فِي الطُّرُقِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُهَا إِلَى الصَّوَابِ مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ النَّهْيِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ. وَجُمْلَةُ تُوعِدُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا، أَيْ: لَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ طَرِيقٍ مُوعِدِينَ لِأَهْلِهِ صَادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، بَاغِينَ لَهَا عِوَجًا، وَالْمُرَادُ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: صَدُّ النَّاسِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي قَعَدُوا عَلَيْهِ وَمَنْعُهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى شُعَيْبٍ، فَإِنَّ سُلُوكَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ السَّبِيلِ لِلْوُصُولِ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ هُوَ سُلُوكُ سَبِيلِ اللَّهِ، ومَنْ آمَنَ بِهِ مَفْعُولُ تَصُدُّونَ، وَالضَّمِيرُ فِي آمَنَ بِهِ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، أَوْ إِلَى سَبِيلِ الله، أو

إِلَى كُلِّ صِرَاطٍ أَوْ إِلَى شُعَيْبٍ، وَتَبْغُونَها عِوَجاً أَيْ: تَطْلُبُونَ سَبِيلَ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ مُعْوَجَّةً غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الْعِوَجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كَسْرُ الْعَيْنِ فِي الْمَعَانِي وفتحها في الإجرام وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ أَيْ: وَقْتَ كُنْتُمْ قَلِيلًا عَدَدُكُمْ فَكَثَّرَكُمْ بِالنَّسْلِ وَقِيلَ: كُنْتُمْ فُقَرَاءَ فَأَغْنَاكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُمْ وَأَنْزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ مَا ذَهَبَ بِهِمْ وَمَحَا أَثَرَهُمْ وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لَكُمْ وَطائِفَةٌ مِنْكُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لَهُمْ. وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَلَى الْكُفْرِ. وَحُكْمُ اللَّهِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ: هُوَ نَصْرُ الْمُحِقِّينَ عَلَى الْمُبْطِلِينَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ «1» أَوْ هُوَ أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ حَتَّى يَنْصُرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي: قال الأشراف المستكبرون لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ لَمْ يَكْتَفُوا بِتَرْكِ الْإِيمَانِ وَالتَّمَرُّدِ عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، بَلْ جَاوَزُوا ذَلِكَ بَغْيًا وَبَطَرًا وَأَشَرًا إِلَى توعد نبيهم ومن آمن به الإخراج مِنْ قَرْيَتِهِمْ أَوْ عَوْدِهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فِي مِلَّتِهِمُ الْكُفْرِيَّةِ، أَيْ: لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْإِخْرَاجُ، أَوِ الْعَوْدُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ، يُقَالُ: عَادَ إِلَيَّ مِنْ فُلَانٍ مَكْرُوهٌ، أَيْ: صَارَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَقَهُ مَكْرُوهٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا يُرَدُّ مَا يُقَالُ: كَيْفَ يَكُونُ شُعَيْبٌ عَلَى مِلَّتِهِمُ الْكُفْرِيَّةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ رَسُولًا؟ وَيَحْتَاجُ إِلَى الْجَوَابِ بِتَغْلِيبِ قَوْمِهِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْخِطَابِ بِالْعَوْدِ إِلَى مِلَّتِهِمْ، وَجُمْلَةُ قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ، جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالْهَمْزَةُ: لِإِنْكَارِ وُقُوعِ مَا طَلَبُوهُ مِنَ الْإِخْرَاجِ أَوِ الْعَوْدِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ: أَتُعِيدُونَنَا فِي مِلَّتِكُمْ فِي حَالِ كَرَاهَتِنَا لِلْعَوْدِ إِلَيْهَا، أَوْ: أَتُخْرِجُونَنَا مِنْ قَرْيَتِكُمْ فِي حَالِ كَرَاهَتِنَا لِلْخُرُوجِ مِنْهَا، أَوْ في الحال كَرَاهَتِنَا لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تُكْرِهُونَا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَلَا يَصِحُّ لَكُمْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ لَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا تُعَدُّ مُوَافَقَتُهُ مُكْرَهًا: مُوَافَقَةً، وَلَا عَوْدُهُ إِلَى مِلَّتِكُمْ مُكْرَهًا عَوْدًا، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ مَا اسْتَشْكَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، حَتَّى تَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ تَطْوِيلُ ذُيُولِ الْكَلَامِ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ الَّتِي هِيَ الشِّرْكُ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها بِالْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُ مِنَّا عَوْدٌ إِلَيْهَا أَصْلًا وَما يَكُونُ لَنا أَيْ: مَا يَصِحُّ لَنَا، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ نَعُودَ فِيها بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أَيْ: إِلَّا حَالَ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَّا الْعَوْدُ إِلَى الْكُفْرِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُنَا عَلَى جِهَةِ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا فِي قوله: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ «2» وَقِيلَ: هُوَ كَقَوْلِهِمْ: لَا أُكَلِّمُكَ حَتَّى يَبِيضَ الْغُرَابُ، وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وَالْغُرَابُ لَا يَبِيضُ، وَالْجَمَلُ لَا يَلِجُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ. وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَيْ: أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَعِلْمًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها أَيِ: الْقَرْيَةِ بَعْدَ أَنْ كرهتم مجاورتنا لهم إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ عَوْدَنَا إِلَيْهَا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي: عليه اعتمدنا

_ (1) . التوبة: 25. (2) . هود: 88.

فِي أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَيَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ، وَيُتِمَّ عَلَيْنَا نِعْمَتَهُ، وَيَعْصِمَنَا مِنْ نِقْمَتِهِ. قَوْلُهُ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ الْفُتَاحَةُ: الْحُكُومَةُ، أَيِ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، دَعَوُا اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَكُونُ حُكْمُهُ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِنَصْرِ الْمُحِقِّينَ عَلَى الْمُبْطِلِينَ كَمَا أَخْبَرَنَا بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا نُزُولَ العذاب بالكفرين وَحُلُولَ نِقْمَةِ اللَّهِ بِهِمْ وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ هُمْ أُولَئِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا غَيْرَهُمْ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ شُعَيْبٌ. وَاللَّامُ فِي لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً مُوَطِّئَةٌ لِجَوَابِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: دَخَلْتُمْ فِي دِينِهِ وَتَرَكْتُمْ دِينَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ سَادُّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَخُسْرَانُهُمْ: هَلَاكُهُمْ أَوْ مَا يَخْسَرُونَهُ بِسَبَبِ إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَتَرْكِ التَّطْفِيفِ الَّذِي كَانُوا يُعَامِلُونَ النَّاسَ بِهِ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أَيِ: الزَّلْزَلَةُ وَقِيلَ: الصَّيْحَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ «1» فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَا حَلَّ بِهِمْ من النعمة، وَالْمَوْصُولُ: مُبْتَدَأٌ، وَكَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا: خَبَرُهُ يُقَالُ: غَنَيْتُ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَمْتُ بِهِ، وَغَنِيَ الْقَوْمُ فِي دَارِهِمْ أَيْ: طَالَ مُقَامُهُمْ فِيهَا، وَالْمَغْنَى: الْمَنْزِلُ وَالْجَمْعُ: الْمَغَانِي. قَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ: غَنِينَا زمانا بالتّصعلك والغنى ... كما الدّهر في أيامه العسر واليسر كسبنا صروف الدّهر لينا وغلظة ... وكلّا سقاناه بكأسهما الدَّهْرُ فَمَا زَادَنَا بَغْيًا عَلَى ذِي قَرَابَةٍ ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الْفَقْرُ وَمَعْنَى الْآيَةِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شَعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا فِي دَارِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اسْتَأْصَلَهُمْ بِالْعَذَابِ، وَالْمَوْصُولُ فِي الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْأُولَى، مُتَضَمِّنَةٌ لِبَيَانِ خُسْرَانِ الْقَوْمِ الْمُكَذِّبِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ أَيْ: شُعَيْبٌ لَمَّا شَاهَدَ نُزُولَ العذاب بهم وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي الَّتِي أَرْسَلَنِي بِهَا إِلَيْكُمْ وَنَصَحْتُ لَكُمْ بِبَيَانٍ مَا فِيهِ سَلَامَةُ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ فَكَيْفَ آسَى أَيْ: أَحْزَنُ عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ بِاللَّهِ مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ مُتَمَرِّدِينَ عَنِ الْإِجَابَةِ أَوِ الْأَسَى: شِدَّةُ الْحُزْنِ، آسَى عَلَى ذَلِكَ: فَهُوَ آسٍ. قَالَ شُعَيْبٌ هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَحَسُّرًا عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ قَوْمِهِ، ثُمَّ سَلَّا نَفْسَهُ بِأَنَّهُ كَيْفَ يقع منه الأسى على قوم ليس بِأَهْلٍ لِلْحُزْنِ عَلَيْهِمْ لِكَفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدَّيِّ قَالَا: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مَرَّتَيْنِ إِلَّا شُعَيْبًا: مَرَّةً إِلَى مَدِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، وَمَرَّةً إِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ قَالَ: لَا تَظْلِمُوا النَّاسَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ قَالَ: لَا تَظْلِمُوهُمْ وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ قَالَ: كَانُوا يُوعِدُونَ مَنْ أَتَى شعيبا وَأَرَادَ الْإِسْلَامَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ قَالَ: كَانُوا يَجْلِسُونَ في الطريق فيخبرون من أتى عليهم

_ (1) . هود: 94. [.....]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 إلى 100]

أَنَّ شُعَيْبًا كَذَّابٌ فَلَا يَفْتِنَنَّكُمْ عَنْ دِينِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ قَالَ: بِكُلِّ سَبِيلِ حَقٍّ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: تَصُدُّونَ أَهْلَهَا وَتَبْغُونَها عِوَجاً قَالَ: تَلْتَمِسُونَ لَهَا الزَّيْغَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ قَالَ: هُوَ الْعَاشِرُ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: تَصُدُّونَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً قَالَ: هَلَاكًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمْ الْعِشَارُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ- شَكَّ أَبُو الْعَالِيَةِ- قَالَ: أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ عَلَى خَشَبَةٍ عَلَى الطَّرِيقِ لَا يَمُرُّ بِهَا ثَوْبٌ إِلَّا شَقَّتْهُ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا خَرَقَتْهُ قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا مَثَلُ أَقْوَامٍ مِنْ أُمَّتِكَ يَقْعُدُونَ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَقْطَعُونَهُ ثُمَّ تَلَا وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها قَالَ: مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعُودَ فِي شِرْكِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَاللَّهُ لَا يَشَاءُ الشِّرْكَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ قَدْ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا قَوْلُهُ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ حَتَّى سَمِعْتُ ابْنَةَ ذِي يَزَنَ تَقُولُ: تَعَالَ أُفَاتِحُكَ، تَعْنِي أُقَاضِيكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنَا افْتَحْ يَقُولُ: اقْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْفَتْحُ: الْقَضَاءُ، لُغَةٌ يَمَانِيَةٌ إِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ تَعَالَ أُقَاضِيكَ الْقَضَاءَ قَالَ: تَعَالَ أُفَاتِحُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا قَالَ: لَمْ يَعِيشُوا فِيهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَيْفَ آسَى قَالَ: أَحْزَنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَبْرَانِ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُمَا، قَبْرُ إِسْمَاعِيلَ وَقَبْرُ شُعَيْبٍ، فَقَبْرُ إِسْمَاعِيلَ فِي الْحِجْرِ، وَقَبْرُ شُعَيْبٍ مُقَابِلَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ شُعَيْبًا مَاتَ بِمَكَّةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُبُورُهُمْ فِي غَرْبِيِّ الْكَعْبَةِ بَيْنَ دَارِ النَّدْوَةِ وَبَيْنَ بَابِ بَنِي سَهْمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: ذَكَرَ لِي يَعْقُوبُ ابن أَبِي مَسْلَمَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ذَكَرَ شُعَيْبًا قَالَ: ذَاكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ قَوْمَهُ فِيمَا يُرِيدُهُمْ بِهِ، فَلَمَّا كَذَّبُوهُ وَتَوَعَّدُوهُ بِالرَّجْمِ وَالنَّفْيِ مِنْ بِلَادِهِمْ وَعَتَوْا عَلَى اللَّهِ أَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 100] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)

قَوْلُهُ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ لَمَّا فَصَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أُمَمِهِمْ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ سَابِقًا أَجْمَلَ حَالَ سَائِرِ الْأُمَمِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهَا، أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنَ الْقُرَى مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَكَذَّبَ أَهْلُهَا إِلَّا أَخَذْنَاهُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، أَيْ: مَا أَرْسَلْنَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ أَخْذِنَا أَهْلَهَا، فَمَحَلُّ أَخَذْنَا: النَّصْبُ، وَالْبَأْسَاءُ: الْبُؤْسُ وَالْفَقْرُ، وَالضَّرَّاءُ: الضُّرُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أَيْ: لِكَيْ يَتَضَرَّعُوا وَيَتَذَلَّلُوا، فَيَدَعُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِكْبَارِ وَتَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ بَدَّلْنا مَعْطُوفٌ عَلَى أَخَذْنَا، أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ الْأَخْذِ لِأَهْلِ الْقُرَى بَدَّلْنَاهُمْ مَكانَ السَّيِّئَةِ الَّتِي أَصَبْنَاهُمْ بِهَا مِنَ الْبَلَاءِ وَالِامْتِحَانِ الْحَسَنَةَ أَيِ: الْخَصْلَةَ الْحَسَنَةَ، فَصَارُوا فِي خَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَمْنٍ حَتَّى عَفَوْا يُقَالُ عَفَا: كَثُرَ، وَعَفَا: دَرَسَ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُمْ كَثُرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي أَمْوَالِهِمْ، أَيْ: أَعْطَيْنَاهُمُ الْحَسَنَةَ مَكَانَ السَّيِّئَةِ حَتَّى كَثُرُوا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أَيْ: قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ عِنْدَ أَنْ صَارُوا فِي الْحَسَنَةِ بَعْدَ السَّيِّئَةِ، أَيْ: أَنَّ هَذَا الَّذِي مَسَّنَا مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، ثُمَّ مِنَ الرَّخَاءِ وَالْخِصْبِ مِنْ بَعْدُ، هُوَ أَمْرٌ وَقَعَ لِآبَائِنَا قَبْلَنَا مِثْلُهُ، فَمَسَّهُمْ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ مَا مَسَّنَا وَمِنَ النِّعْمَةِ وَالْخَيْرِ مَا نِلْنَاهُ، وَمَعْنَاهُمْ: أَنَّ هَذِهِ الْعَادَةَ الْجَارِيَةَ فِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ابْتِلَاءً لَهُمْ وَاخْتِبَارًا لِمَا عِنْدَهُمْ، وَفِي هَذَا مِنْ شِدَّةِ عِنَادِهِمْ وَقُوَّةِ تَمَرُّدِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ مَا لَا يَخْفَى، وَلِهَذَا عَاجَلَهُمُ اللَّهُ بِالْعُقُوبَةِ وَلَمْ يُمْهِلْهُمْ فَقَالَ: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أَيْ: فَجْأَةً عَقِبَ أَنْ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ دُونِ تراخ ولا إمهال وَالحال أن هُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ وَلَا يَتَرَقَّبُونَهُ، وَاللَّامُ فِي الْقُرى لِلْعَهْدِ، أَيْ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى التي أرسلنا إليها رُسُلَنَا آمَنُوا بِالرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ وَاتَّقَوْا مَا صَمَّمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْقَبَائِحِ لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَيْ: يَسَّرْنَا لَهُمْ خَيْرَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا يَحْصُلُ التَّيْسِيرُ لِلْأَبْوَابِ الْمُغْلَقَةِ بِفَتْحِ أَبْوَابِهَا قِيلَ: الْمُرَادُ بِخَيْرِ السَّمَاءِ: الْمَطَرُ، وَخَيْرِ الْأَرْضِ: النَّبَاتُ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي الْقُرَى لِلْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى أَيْنَ كَانُوا، وَفِي أَيِّ بِلَادٍ سَكَنُوا، آمَنُوا وَاتَّقَوْا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَلكِنْ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَا اتَّقَوْا فَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذَابِ بِسَبَبِ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ مِنَ الذُّنُوبِ الْمُوجِبَةِ لِعَذَابِهِمْ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَأَهْلُ الْقُرَى هُمْ أَهْلُ الْقُرَى الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ، وَالْفَاءُ للعطف، وهو مثل أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ «1» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقُرَى مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا لِتَكْذِيبِهِمْ للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى. قَوْلُهُ: أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً أَيْ: وَقْتَ بَيَاتٍ، وَهُوَ اللَّيْلُ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَيَجُوزُ أن يكون مصدرا بمعنى: تبيتا، أو مصدرا

_ (1) . المائدة: 50.

فِي مَوْضِعِ الْحَالِ: أَيْ مُبَيَّتِينَ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ نائِمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ كَالِاسْتِفْهَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالضُّحَى: ضَحْوَةُ النَّهَارِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِضَوْءِ الشَّمْسِ إِذَا أَشْرَقَتْ وَارْتَفَعَتْ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْحَرَمِيَّانِ أَوَأَمِنَ بِإِسْكَانِ الْوَاوِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَشْتَغِلُونَ بِمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِفَائِدَةٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَإِنْكَارِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمَانِ مَا لَا يُؤْمَنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ وَعُقُوبَتِهِ لَهُمْ، وَفِي تَكْرِيرِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِإِنْكَارِ مَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ مَنْ أَمِنَ مَكْرَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ أَيِ: الَّذِينَ أَفْرَطُوا فِي الْخُسْرَانِ، وَوَقَعُوا فِي وَعِيدِهِ الشَّدِيدِ، وَقِيلَ: مَكْرُ اللَّهِ هُنَا هُوَ اسْتِدْرَاجُهُ بِالنِّعْمَةِ وَالصِّحَّةِ. وَالْأَوْلَى: حَمْلُهُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها قُرِئَ «نَهْدِ» بِالنُّونِ، وَبِالتَّحْتِيَّةِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ بِالنُّونِ يَكُونُ فَاعِلُ الْفِعْلِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أَيْ أَنَّ الشَّأْنَ هُوَ هَذَا، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ بِالتَّحْتِيَّةِ يَكُونُ فَاعِلُ يَهْدِ هُوَ أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أَيْ: أَخَذْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَالْهِدَايَةُ هُنَا بِمَعْنَى التَّبْيِينِ، وَلِهَذَا عُدِّيَتْ بِاللَّامِ. قَوْلُهُ: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ أَيْ: وَنَحْنُ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَلَا يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى أَصَبْنَا لِأَنَّهُمْ ممن طبع الله على قلبه لِعَدَمِ قَبُولِهِمْ لِلْإِيمَانِ وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَغْفُلُونَ عَنِ الْهِدَايَةِ وَنَطْبَعُ وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى يَرِثُونَ، قَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ جَوَابُ لَوْ، أَيْ: صَارُوا بِسَبَبِ إِصَابَتِنَا لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَالطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَعْظِ وَالْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ قَالَ: مَكَانَ الشِّدَّةِ الرَّخَاءَ حَتَّى عَفَوْا قَالَ: كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى عَفَوْا قَالَ: جَمُّوا «1» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ قَالَ: قَالُوا: قَدْ أَتَى عَلَى آبَائِنَا مِثْلُ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا قَالَ: بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَاتَّقَوْا قَالَ: مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ يَقُولُ: أَعْطَتْهُمُ السَّمَاءُ بِرْكَتَهَا وَالْأَرْضُ نَبَاتَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ مُوسَى الطَّائِفِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ، قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ حَرَامٍ قَالَ: صَلَّيْتُ الْقِبْلَتَيْنِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسمعت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ من

_ (1) . قال في القاموس: الجمّ: الكثير من الشيء.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 101 إلى 102]

بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَسَخَّرَ لَهُ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، وَمَنْ تَتَبَّعُ مَا يَسْقُطُ مِنَ السُّفْرَةِ غُفِرَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ قَرْيَةٍ أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْخُبْزِ فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجُوعَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «1» فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَهْدِ قَالَ: أَوَلَمْ نبين. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها قَالَ: المشركون. [سورة الأعراف (7) : الآيات 101 الى 102] تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) قَوْلُهُ: تِلْكَ الْقُرى أي: التي أهلكناها، وهي قرى قوم نوح وهود وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا نَقُصُّ عَلَيْكَ أَيْ: نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها أَيْ: مِنْ أَخْبَارِهَا، وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَنَقُصُّ إِمَّا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ على أنه حال، وتِلْكَ الْقُرى مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَوْ يَكُونُ فِي مَحَلِّ رفع على أنه الخبر، والْقُرى صِفَةٌ لِتِلْكَ، وَمِنْ فِي مِنْ أَنْبائِها لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: نَقُصُّ عَلَيْكَ بَعْضَ أَنْبَائِهَا، وَاللَّامُ فِي لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ أَخْبَارِهِمْ أَنَّهَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُ اللَّهِ بِبَيِّنَاتِهِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ قَبْلَ هَذَا فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عِنْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ مَجِيئِهِمْ، أَوْ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ بِمَا كَذَّبُوا بِهِ قَبْلِ مَجِيئِهِمْ، بَلْ هُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ، مُتَشَبِّثُونَ بِأَذْيَالِ الطُّغْيَانِ دَائِمًا، وَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِمْ مَجِيءُ الرُّسُلِ وَلَا ظَهَرَ لَهُ أَثَرٌ، بَلْ حَالُهُمْ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ كَحَالِهِمْ قَبْلَهُ وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ هَلَاكِهِمْ بِمَا كَذَّبُوا بِهِ لَوْ أَحْيَيْنَاهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا وَقِيلَ: سَأَلُوا الْمُعْجِزَاتِ، فَلَمَّا رَأَوْهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ رُؤْيَتِهَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمَعْنَى تَكْذِيبِهِمْ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُكَذِّبُونَ بِكُلِّ مَا سَمِعُوا بِهِ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ. قَوْلُهُ: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الطَّبْعِ الشَّدِيدِ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، فَلَا يَنْجَعُ فِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَعْظٌ وَلَا تَذْكِيرٌ وَلَا تَرْغِيبٌ وَلَا تَرْهِيبٌ. قَوْلُهُ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ الْقُرَى الْمَذْكُورِينَ سَابِقًا، أَيْ: مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِ أَهْلِ هَذِهِ الْقُرَى مِنْ عَهْدٍ، أَيْ: عَهْدٍ يُحَافِظُونَ عَلَيْهِ وَيَتَمَسَّكُونَ بِهِ، بَلْ دَأْبُهُمْ نَقْضُ الْعُهُودِ فِي كُلِّ حَالٍ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ أَيْ: مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ عَهْدٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ: هُوَ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ فِي عَالَمِ الذَّرِّ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْكُفَّارِ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِأَهْلِ الْقُرَى أَيِ: الْأَكْثَرُ مِنْهُمْ لَا عَهْدَ وَلَا وَفَاءَ، والقليل منهم قد يفي

_ (1) . في ابن جرير الطبري (9/ 7) : أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد ...

[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 إلى 122]

بِعَهْدِهِ وَيُحَافِظُ عَلَيْهِ، وَإِنْ فِي وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَنَّ الشَّأْنَ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ، أَوْ هِيَ النَّافِيَةُ، وَاللَّامُ فِي لَفاسِقِينَ بِمَعْنَى إِلَّا: أَيْ إِلَّا فَاسِقِينَ، خَارِجِينَ عَنِ الطَّاعَةِ خُرُوجًا شَدِيدًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ قَالَ: كان في علم الله يوم أقرّوا بِالْمِيثَاقِ مَنْ يُكَذِّبُ بِهِ مِمَّنْ يُصَدِّقُ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ قَالَ: مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ قَالَ: الْوَفَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ ذَاكَ الْعَهْدُ يَوْمَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ قَالَ: ذَاكَ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الْقُرَى لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا حَفِظُوا ما وصاهم به. [سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 122] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قَوْلُهُ: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى أَيْ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ، أَيْ: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى بَعْدَ إِرْسَالِنَا لِهَؤُلَاءِ الرُّسُلِ وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي مِنْ بَعْدِهِمْ رَاجِعٌ إِلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِهِمْ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فِرْعَوْنُ: هُوَ لَقَبٌ لِكُلِّ مَنْ يَمْلِكُ أَرْضَ مِصْرَ بَعْدَ الْعَمَالِقَةِ، وَمَلَأُ فِرْعَوْنَ: أَشْرَافُ قَوْمِهِ، وتخصيصهم بالذّكر مَعَ عُمُومِ الرِّسَالَةِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ لِأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ كَالْأَتْبَاعِ لَهُمْ. قَوْلُهُ:

فَظَلَمُوا بِها أَيْ كَفَرُوا بِهَا، وَأُطْلِقَ الظُّلْمُ عَلَى الْكُفْرِ لِكَوْنِ كُفْرِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى كَانَ كُفْرًا مُتَبَالِغًا لِوُجُودِ مَا يُوجِبُ الْإِيمَانَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ هُنَا: هِيَ الْآيَاتُ التِّسْعُ، أَوْ مَعْنَى فَظَلَمُوا بِها ظَلَمُوا النَّاسَ بِسَبَبِهَا لَمَّا صَدُّوهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أَيِ: الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَاتِ الْكَافِرِينَ بِهَا وَجَعَلَهُمْ مُفْسِدِينَ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ وَكُفْرَهُمْ مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ. قوله: وَقالَ مُوسى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عُنْوَانًا لِكَلَامِهِ مَعَهُ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُرْسَلًا مِنْ جِهَةِ مَنْ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَجْمَعِينَ فَهُوَ حَقِيقٌ بِالْقَبُولِ لِمَا جَاءَ بِهِ، كَمَا يَقُولُ مَنْ أَرْسَلَهُ الْمَلِكُ فِي حَاجَةٍ إِلَى رَعِيَّتِهِ: أَنَا رَسُولُ الْمَلِكِ إِلَيْكُمْ، ثُمَّ يَحْكِي مَا أُرْسِلَ بِهِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ تَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ وَإِدْخَالِ الرَّوْعَةِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ. قَوْلُهُ: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قُرِئَ «حَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ» . أَيْ: وَاجِبٌ عَلَيَّ وَلَازِمٌ لِي أَنْ لَا أَقُولَ فِيمَا أُبَلِّغُكُمْ عَنِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْلَ الْحَقَّ، وَقُرِئَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ بِدُونِ ضَمِيرٍ فِي عَلَى قِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ أَنَّ على بمعنى الْبَاءِ. أَيْ: حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ، وَيُؤَيِّدُهُ قراءة أبيّ والأعمش فإنهما قرءا: «حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ» وَقِيلَ: إِنَّ حَقِيقٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى حَرِيصٍ وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَازِمًا لِلْحَقِّ كَانَ الْحَقُّ لَازِمًا لَهُ، فَقَوْلُ الْحَقِّ حَقِيقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَقِيقٌ عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَغْرَقَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ حَتَّى جَعَلَ نَفْسَهُ حَقِيقَةً عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ كَأَنَّهُ وَجَبَ عَلَى الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ مُوسَى هُوَ قَائِلُهُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: «حَقِيقٌ أَنْ لَا أَقُولَ» بإسقاط على، ومعناها وَاضِحٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ بِمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ صِدْقِي وَأَنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ طَوَى هُنَا ذِكْرَ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ فرعون: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى «1» ثُمَّ قَالَ بَعْدَ جَوَابِ مُوسَى وَما رَبُّ الْعالَمِينَ الْآيَاتِ الْحَاكِيَةَ لِمَا دَارَ بَيْنَهُمَا. قَوْلُهُ: فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَدَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَذْهَبُونَ مَعَهُ وَيَرْجِعُونَ إِلَى أَوْطَانِهِمْ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، وَقَدْ كَانُوا بَاقِينَ لَدَيْهِ مُسْتَعْبَدِينَ مَمْنُوعِينَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِمْ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ قالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا تَزْعُمُ فَأْتِ بِها حَتَّى نُشَاهِدَهَا وَنَنْظُرَ فِيهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي جِئْتَ بِهَا. قَوْلُهُ: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أَيْ وَضَعَهَا عَلَى الْأَرْضِ فَانْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا، أَيْ: حَيَّةً عَظِيمَةً مِنْ ذُكُورِ الْحَيَّاتِ، وَمَعْنَى مُبِينٌ أَنَّ كَوْنَهَا حَيَّةً فِي تِلْكَ الْحَالِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ لَا لَبْسَ فِيهِ وَنَزَعَ يَدَهُ أَيْ أَخْرَجَهَا وَأَظْهَرَهَا مِنْ جَيْبِهِ أَوْ مِنْ تَحْتِ إِبِطِهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ «2» . قَوْلُهُ: فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أَيْ: فَإِذَا يَدُهُ الَّتِي أَخْرَجَهَا بَيْضَاءَ تَتَلَأْلَأُ نُورًا يَظْهَرُ لِكُلِّ مُبْصِرٍ قالَ الْمَلَأُ أَيِ: الْأَشْرَافُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لما شاهدوا انقلاب العصا حَيَّةً، وَمَصِيرَ يَدِهِ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ إِنَّ هَذَا أَيْ: مُوسَى لَساحِرٌ عَلِيمٌ أَيْ كَثِيرُ الْعِلْمِ بِالسِّحْرِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ نِسْبَةِ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الْمَلَأِ هُنَا وَإِلَى فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، فَكُلُّهُمْ قَدْ قَالُوهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مُصَحِّحًا لِنِسْبَتِهِ إِلَيْهِمْ تَارَةً وَإِلَيْهِ أُخْرَى، وَجُمْلَةُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ وَصْفٌ لساحر، والأرض المنسوبة

_ (1) . طه: 49. (2) . النمل: 12.

إِلَيْهِمْ هِيَ أَرْضُ مِصْرَ: وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الْمَلَأِ، وَأَمَّا فَماذا تَأْمُرُونَ فَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ، قَالَ لِلْمَلَأِ لَمَّا قَالُوا بِمَا تَقَدَّمَ، أَيْ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَأْمُرُونَنِي؟ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَأِ أَيْ: قَالُوا لِفِرْعَوْنَ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَأْمُرُنَا؟ وَخَاطَبُوهُ بِمَا تُخَاطَبُ بِهِ الْجَمَاعَةُ تَعْظِيمًا لَهُ كَمَا يُخَاطِبُ الرُّؤَسَاءَ أَتْبَاعُهُمْ، وَمَا: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ذَا بِمَعْنَى الَّذِي كَمَا ذَكَرَهُ النُّحَاةُ فِي: مَاذَا صَنَعْتَ، وَكَوْنُ هَذَا مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ هُوَ الْأَوْلَى بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ قَالَ الْمَلَأُ جَوَابًا لِكَلَامِ فِرْعَوْنَ حَيْثُ اسْتَشَارَهُمْ، وَطَلَبَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ: أَرْجِهْ، أَيْ: أَخِّرْهُ وَأَخَاهُ، يُقَالُ: أَرْجَأْتُهُ وَأَرْجَيْتُهُ: أَخَّرْتُهُ. قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ «أَرْجِهْ» بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا الْكِسَائِيَّ أَرْجِهْ بِسُكُونِ الْهَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةٌ لِلْعَرَبِ يَقِفُونَ عَلَى الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْبَصْرِيُّونَ وَقِيلَ: مَعْنَى أَرْجِهْ: احْبِسْهُ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ رَجَا يَرْجُو: أَيْ أَطْمِعْهُ وَدَعْهُ يَرْجُوكَ، حَكَاهُ النَّحَّاسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْمُبَرِّدِ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أَيْ: أَرْسِلْ جَمَاعَةً حَاشِرِينَ فِي الْمَدَائِنِ الَّتِي فِيهَا السَّحَرَةُ، وَحَاشِرِينَ: مَفْعُولُ أَرْسِلْ وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، ويَأْتُوكَ جَوَابُ الْأَمْرِ، أَيْ: يَأْتُوكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرْسَلْتَهُمْ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أَيْ: بِكُلِّ مَاهِرٍ فِي السِّحْرِ كَثِيرِ الْعِلْمِ بِصِنَاعَتِهِ. قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمٌ: «سَحَّارٍ» وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُمْ: «سَاحِرٍ» . قَوْلُهُ: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ فِي الْكَلَامِ طَيٌّ، أَيْ: فَبَعَثَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ. قَوْلُهُ: قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً أَيْ: فَلَمَّا جَاءُوا فِرْعَوْنَ قَالُوا لَهُ إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ قَالُوا لَهُ لَمَّا جَاءُوهُ؟ وَالْأَجْرُ: الْجَائِزَةُ وَالْجُعْلُ، أَلْزَمُوا فِرْعَوْنَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ جُعْلًا إِنْ غَلَبُوا مُوسَى بِسِحْرِهِمْ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ: «إِنَّ لَنا» عَلَى الْإِخْبَارِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: «أَئِنَّ لَنَا» عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، اسْتَفْهَمُوا فِرْعَوْنَ عَنِ الْجُعْلِ الَّذِي سَيَجْعَلُهُ لَهُمْ عَلَى الْغَلَبَةِ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرُ. وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّهُمْ قَاطِعُونَ بِالْجُعْلِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، فَأَجَابَهُمْ فِرْعَوْنُ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أَيْ: إِنَّ لَكُمْ لَأَجْرًا، وَإِنَّكُمْ مَعَ هَذَا الْأَجْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ لَدَيْنَا. قَوْلُهُ: قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا قَالُوا لِمُوسَى بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ خَيَّرُوا مُوسَى بَيْنَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِإِلْقَاءِ مَا يُلْقِيهِ عَلَيْهِمْ أَوْ يَبْتَدِئُوهُ هُمْ بِذَلِكَ تَأَدُّبًا مَعَهُ وَثِقَةً مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ غَالِبُونَ وَإِنْ تَأَخَّرُوا، وَأَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: أَيْ: إِمَّا أَنْ تَفْعَلَ الْإِلْقَاءَ أَوْ نَفْعَلَهُ نَحْنُ. فَأَجَابَهُمْ مُوسَى بِقَوْلِهِ: أَلْقُوا اخْتَارَ أَنْ يَكُونُوا الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ بِإِلْقَاءِ مَا يُلْقُونَهُ غَيْرَ مُبَالٍ بِهِمْ وَلَا هَائِبٍ لِمَا جَاءُوا بِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. الْمَعْنَى: قَالَ لَهُمْ مُوسَى إِنَّكُمْ لَنْ تَغْلِبُوا رَبَّكُمْ وَلَنْ تُبْطِلُوا آيَاتِهِ وَقِيلَ: هُوَ تَهْدِيدٌ، أَيِ: ابْتَدِئُوا بِالْإِلْقَاءِ فَسَتَنْظُرُونَ مَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنَ الِافْتِضَاحِ، وَالْمُوجِبُ لِهَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى مُوسَى أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالسِّحْرِ فَلَمَّا أَلْقَوْا أَيْ: حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أَيْ قَلَبُوهَا وَغَيَّرُوهَا عَنْ صِحَّةِ إِدْرَاكِهَا بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ التَّمْوِيهِ وَالتَّخْيِيلِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُشَعْوِذُونَ وَأَهْلُ الْخِفَّةِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أَيْ أَدْخَلُوا الرهبة في قلوبهم إدخالا شديدا وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ فِي أَعْيُنِ

النَّاظِرِينَ لِمَا جَاءُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ. قَوْلُهُ: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِنْدَ أَنْ جَاءَ السَّحَرَةُ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ السِّحْرِ أَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ فَإِذا هِيَ أَيِ: الْعَصَا تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ قَرَأَ حَفْصٌ تَلْقَفُ بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ مِنْ لَقِفَ يَلْقَفُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مِنْ تَلَقَّفَ يَتَلَقَّفُ، يُقَالُ: لَقِفْتُ الشَّيْءَ وَتَلَقَّفْتُهُ إذا أخذته أو بلعته. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَبَلَغَنِي فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ تَلَقَّمُ بِالْمِيمِ وَالتَّشْدِيدِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَنْتِ عَصَا مُوسَى الَّتِي لَمْ تَزَلْ ... تَلَقَّمُ مَا يَأْفِكُهُ السّاحر وما فِي مَا يَأْفِكُونَ مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، أَيْ: إِفْكِهِمْ أَوْ مَا يَأْفِكُونَهُ، سَمَّاهُ إِفْكًا، لِأَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ بَلْ هُوَ كَذِبٌ وَزُورٌ وَتَمْوِيهٌ وَشَعْوَذَةٌ فَوَقَعَ الْحَقُّ أَيْ: ظَهَرَ وَتَبَيَّنَ لِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ سِحْرِهِمْ، أَيْ: تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ فَغُلِبُوا أَيِ: السَّحَرَةُ هُنالِكَ أَيْ: فِي الْمَوْقِفِ الَّذِي أَظْهَرُوا فِيهِ سِحْرَهُمْ وَانْقَلَبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ صاغِرِينَ أَذِلَّاءَ مَقْهُورِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أَيْ: خَرُّوا سَاجِدِينَ كَأَنَّمَا أَلْقَاهُمْ مُلْقٍ عَلَى هَيْئَةِ السُّجُودِ، أَوْ لَمْ يَتَمَالَكُوا مِمَّا رَأَوْا فَكَأَنَّهُمْ أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ، وَجُمْلَةُ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ- رَبِّ مُوسى وَهارُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ، جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالُوا عِنْدَ سُجُودِهِمْ أَوْ فِي سُجُودِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى قَالُوا: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الْمُقِرِّينَ بِإِلَهِيَّتِهِ أَنَّ السُّجُودَ لَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْنا مُوسى قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ مُوسَى لِأَنَّهُ أُلْقِيَ بَيْنَ مَاءٍ وَشَجَرٍ، فَالْمَاءُ بِالْقِبْطِيَّةِ مُو وَالشَّجَرُ سِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ. أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ مِصْرَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا وأبو الشيخ عن محمد ابن الْمُنْكَدِرِ قَالَ: عَاشَ فِرْعَوْنُ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ قِبْطِيًّا وَلَدَ زِنَا طُولُهُ سَبْعَةُ أَشْبَارٍ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ عِلْجًا مِنْ هَمَذَانَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُقْسِمٍ الْهُذَلِيِّ قَالَ: مَكَثَ فِرْعَوْنُ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ لَمْ يُصْدَعْ لَهُ رَأْسٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقى عَصاهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ تِلْكَ الْعَصَا عَصَا آدَمَ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا مَلَكٌ حِينَ تَوَجَّهَ إِلَى مَدْيَنَ، فَكَانَتْ تُضِيءُ بِاللَّيْلِ وَيَضْرِبُ بِهَا الْأَرْضَ بِالنَّهَارِ فَتُخْرِجُ لَهُ رِزْقَهُ وَيَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِهِ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ قَالَ: حَيَّةٌ تَكَادُ تُسَاوِرُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَيْهِ «زَرْمَانَقَةٌ» مِنْ صُوفٍ مَا تَجَاوِزُ مِرْفَقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ: أَدْخِلُوهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ: إِنَّ إِلَهِي أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ حَوْلَهُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، خُذُوهُ. قَالَ: إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ بِآيَةٍ، قَالَ: فَائِتٌ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَصَارَتْ ثُعْبَانًا بَيْنَ لَحْيَيْهِ مَا بَيْنَ السَّقْفِ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ فَأَخْرَجَهَا مِثْلَ الْبَرْقِ تَلْتَمِعُ الْأَبْصَارَ، فَخَرُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وأخذ موسى

عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا نَفَرَ مِنْهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ وَذَهَبَ عَنْ فِرْعَوْنَ الرَّوْعُ قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ: مَاذَا تَأْمُرُونِي قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَلَا تَأْتِنَا بِهِ وَلَا يَقْرَبُنَا وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ وَكَانَتِ السَّحَرَةُ يَخْشَوْنَ مِنْ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ قَالُوا: قَدِ احْتَاجَ إِلَيْكُمْ إِلَهُكُمْ، قَالَ: إِنَّ هَذَا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، قَالُوا: إِنَّ هَذَا سَاحِرٌ سَحَرَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ- قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: عَصَا مُوسَى اسْمُهَا مَاشَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ قَالَ: الْحَيَّةُ الذَّكَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ قَالَ: الذَّكَرُ مِنَ الْحَيَّاتِ فَاتِحَةً فَمَهَا وَاضِعَةً لَحْيَهَا الْأَسْفَلَ فِي الْأَرْضِ وَالْأَعْلَى عَلَى سُورِ الْقَصْرِ، ثُمَّ تَوَجَّهَتْ نَحْوَ فِرْعَوْنَ لِتَأْخُذَهُ، فَلَمَّا رَآهَا ذُعِرَ مِنْهَا وَوَثَبَ، فَأَحْدَثَ وَلَمْ يَكُنْ يُحْدِثُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَصَاحَ يَا مُوسَى خُذْهَا وَأَنَا أُؤْمِنُ بِرَبِّكَ وَأُرْسِلُ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخَذَهَا مُوسَى فَصَارَتْ عَصًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَرْجِهْ قَالَ: أَخِّرْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: احْبِسْهُ وَأَخَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ قَالَ: الشُّرَطُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ السَّحَرَةُ قَالَ: كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا، أَصْبَحُوا سَحَرَةً، وَأَمْسَوْا شُهَدَاءَ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ كَلِمَةُ السَّلَفِ فِي عَدَدِهِمْ فَقِيلَ: كَانُوا سَبْعِينَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ: سَبْعِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ: ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ، وَقِيلَ: تِسْعُمِائَةِ أَلْفٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي عطاء. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ: أَلْقَوْا حِبَالًا غِلَاظًا وَخَشَبًا طِوَالًا، فَأَقْبَلَتْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ قَالَ: أَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَأَكَلَتْ كُلَّ حَيَّةٍ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ سَجَدُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ قَالَ: مَا يَكْذِبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ قَالَ: تَسْتَرِطُ «1» حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: الْتَقَى مُوسَى وَأَمِيرُ السَّحَرَةِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَرَأَيْتُكَ إِنْ غَلَبْتُكَ أَتُؤْمِنُ بِي وَتَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ حَقٌّ؟ فَقَالَ السَّاحِرُ: لَآتِيَنَّ غَدًا بِسِحْرٍ لَا يغلبه سحر، فو الله لئن غلبتني لأومننّ بِكَ وَلَأَشْهَدَنَّ أَنَّهُ حَقٌّ، وَفِرْعَوْنُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: لَمَّا خَرَّ السَّحَرَةُ سُجَّدًا رُفِعَتْ لهم الجنة حتى نظروا إليها.

_ (1) . تسترط: أي تبتلع.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 123 إلى 129]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 129] قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) قَوْلُهُ: آمَنْتُمْ بِهِ قُرِئَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْإِخْبَارِ وَبِإِثْبَاتِهَا. أَنْكَرَ عَلَى السَّحَرَةِ فِرْعَوْنُ إِيمَانَهُمْ بِمُوسَى قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ مُبَيِّنًا لِمَا هُوَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي زَعْمِهِ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ أَيْ: حِيلَةً احْتَلْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَمُوسَى عَنْ مُوَاطَأَةٍ بَيْنَكُمْ سَابِقَةٍ لِتُخْرِجُوا مِنْ مَدِينَةِ مِصْرَ أَهْلَها مِنَ الْقِبْطِ، وَتَسْتَوْلُوا عَلَيْهَا، وَتَسْكُنُوا فِيهَا أَنْتُمْ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ. وَمَعْنَى فِي الْمَدِينَةِ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ وَالْمُوَاطَأَةَ كَانَتْ بَيْنَكُمْ وَأَنْتُمْ بِالْمَدِينَةِ مَدِينَةِ مِصْرَ قَبْلَ أَنْ تَبْرُزُوا أَنْتُمْ وَمُوسَى إِلَى هَذِهِ الصَّحْرَاءِ، ثُمَّ هَدَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ صُنْعِكُمْ هَذَا وَسُوءَ مَغَبَّتِهِ ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِهَذَا الْوَعِيدِ الْمُجْمَلِ بَلْ فَصَّلَهُ فَقَالَ: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أَيِ: الرِّجْلَ الْيُمْنَى وَالْيَدَ الْيُسْرَى، أَوِ الرِّجْلَ الْيُسْرَى وَالْيَدَ الْيُمْنَى، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ عَدُوُّ اللَّهِ بِهَذَا، بَلْ جَاوَزَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَقَالَ: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أَيْ أَجْعَلُكُمْ عَلَيْهَا مَصْلُوبِينَ زِيَادَةَ تَنْكِيلٍ بِهِمْ وَإِفْرَاطًا فِي تَعْذِيبِهِمْ، وَجُمْلَةُ قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، جَوَابُ سُؤَالٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَعْنَاهُ: إِنَّكَ وَإِنْ فَعَلْتَ بِنَا هَذَا الْفِعْلَ فَتَعُدُّهُ يَوْمَ الْجَزَاءِ، سَيُجَازِيكَ اللَّهُ بِصُنْعِكَ وَيُحْسِنُ إِلَيْنَا بِمَا أَصَابَنَا فِي ذَاتِهِ، فَتَوَعَّدُوهُ بِعَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لَمَّا تَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بِالْمَوْتِ: أَيْ لَا بُدَّ لَنَا مِنَ الْمَوْتِ وَلَا يَضُرُّنَا كَوْنُهُ بِسَبَبٍ مِنْكَ. قَوْلُهُ: وَما تَنْقِمُ مِنَّا قَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْقَافِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ لُغَةٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، يُقَالُ: نَقِمْتُ الْأَمْرَ: أَنْكَرْتُهُ، أَيْ: لَسْتَ تَعِيبُ عَلَيْنَا وَتُنْكِرُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا مَعَ أَنَّ هَذَا هُوَ الشَّرَفُ الْعَظِيمُ وَالْخَيْرُ الْكَامِلُ، وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ مَوْضِعًا لِلْعَيْبِ وَمَكَانًا لِلْإِنْكَارِ، بَلْ هُوَ حَقِيقٌ بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالِاسْتِحْسَانِ الْبَالِغِ، ثُمَّ تَرَكُوا خِطَابَهُ، وَقَطَعُوا الْكَلَامَ مَعَهُ، وَالْتَفَتُوا إِلَى خِطَابِ الْجَنَابِ الْعَلِيِّ، مُفَوِّضِينَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ، طَالِبِينَ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُثَبِّتَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ بِالصَّبْرِ قَائِلِينَ: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً الْإِفْرَاغُ: الصَّبُّ أَيِ: اصْبُبْهُ عَلَيْنَا حَتَّى يَفِيضَ وَيَغْمُرَنَا. طَلَبُوا أَبْلَغَ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ اسْتِعْدَادًا مِنْهُمْ لِمَا سَيَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ وَتَوْطِينًا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى التَّصَلُّبِ فِي الْحَقِّ وَثُبُوتِ الْقَدَمِ عَلَى الْإِيمَانِ، ثُمَّ قَالُوا: وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أَيْ: تَوَفَّنَا إِلَيْكَ حَالَ ثُبُوتِنَا عَلَى الْإِسْلَامِ غَيْرَ مُحَرِّفِينَ وَلَا مُبَدِّلِينَ وَلَا مَفْتُونِينَ، وَلَقَدْ كَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَالْمَهَارَةِ فِي عِلْمِهِ مَعَ كَوْنِهِ شَرًّا مَحْضًا سَبَبًا لِلْفَوْزِ بِالسَّعَادَةِ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ هذا

الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى خَارِجٌ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَوَصَلُوا بِالشَّرِّ إِلَى الْخَيْرِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ مَا حَصَلَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِذْعَانِ وَالِاعْتِرَافِ وَالْإِيمَانِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَهَارَةُ فِي عِلْمِ الشَّرِّ قَدْ تَأْتِي بِمِثْلِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ فَمَا بَالُكَ بِالْمَهَارَةِ فِي عِلْمِ الْخَيْرِ، اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا عَلَى الْحَقِّ، وَأَفْرِغْ عَلَيْنَا سِجَالَ الصَّبْرِ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مِنْهُمْ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، أَيْ: أَتَتْرُكُهُ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ وَتَشْتِيتِ الشَّمْلِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ هُنَا: أَرْضُ مِصْرَ. قَوْلُهُ: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ «وَيَذَرُكَ» بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: وَهُوَ يَذَرُكَ أَوْ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى أَتَذَرُ مُوسى: أَيْ: أَتَذَرُهُ وَيَذَرُكَ، وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعَقِيلِيُّ وَيَذَرَكَ بِالْجَزْمِ: إِمَّا عَلَى التَّخْفِيفِ بِالسُّكُونِ لِثِقْلِ الضَّمَّةِ، أَوْ عَلَى مَا قِيلَ فِي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي تَوْجِيهِ الْجَزْمِ. وَقَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ «وَنَذَرَكَ» بِالنُّونِ وَالرَّفْعِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ سَيَذَرُوَنَهُ وَآلِهَتَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «وَيَذَرَكَ» بِالنَّصْبِ بِأَنْ مُقَدَّرَةً عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ نَائِبَةٌ عَنِ الْفَاءِ أَوْ عَطْفًا عَلَى لِيُفْسِدُوا أَيْ: لِيُفْسِدُوا وَلِيَذَرَكَ، لِأَنَّهُمْ عَلَى الْفَسَادِ فِي زَعْمِهِمْ، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ فِرْعَوْنَ وَآلِهَتِهِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى وَآلِهَتَكَ لِكَوْنِ فِرْعَوْنَ كَانَ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي، وَقَوْلِهِ: أَنَا رَبُّكُمْ فَقِيلَ مَعْنَى وَآلِهَتَكَ: وَطَاعَتَكَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَعِبَادَتَكَ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ «وَإِلَهَتَكَ» وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ «أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَقَدْ تَرَكُوكَ أَنْ يَعْبُدُوكَ» وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ بَقَرَةً، وَقِيلَ: كَانَ يَعْبُدُ النُّجُومَ، وَقِيلَ: كَانَ لَهُ أَصْنَامٌ يَعْبُدُهَا قَوْمُهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ. فَقَالَ فِرْعَوْنُ مُجِيبًا لَهُمْ ومُثَبِّتًا لِقُلُوبِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ «سَنَقْتُلُ» بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: سَنُقَتِّلُ الْأَبْنَاءَ وَنَسْتَحْيِي النِّسَاءَ، أَيْ: نَتْرُكُهُنَّ فِي الْحَيَاةِ، وَلَمْ يَقُلْ سَنُقَتِّلُ مُوسَى لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أَيْ: مُسْتَعْلُونَ عَلَيْهِمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، أَوْ هُمْ تَحْتَ قَهْرِنَا وَبَيْنَ أَيْدِينَا، مَا شِئْنَا أَنْ نَفْعَلَهُ بِهِمْ فَعَلْنَاهُ، وَجُمْلَةُ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ مستأنفة، جواب سؤال مقدّر. بما بَلَغَ مُوسَى مَا قَالَهُ فِرْعَوْنُ أَمَرَ قَوْمَهُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمِحْنَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ إِنَّ الْأَرْضَ يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَوْ جِنْسَ الْأَرْضِ، وَهُوَ وَعْدٌ مِنْ مُوسَى لِقَوْمِهِ بِالنَّصْرِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيُوَرِّثُهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ. ثم بشرهم بأن الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، أَيِ: الْعَاقِبَةَ الْمَحْمُودَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمْ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ. وَعَاقِبَةُ كُلِّ شَيْءٍ آخِرُهُ. وَقُرِئَ «وَالْعَاقِبَةَ» بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْأَرْضِ، وَجُمْلَةُ قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا مُسْتَأْنَفَةٌ: جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَالَّتِي قَبْلَهَا أَيْ أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا رَسُولًا وَذَلِكَ بِقَتْلِ فِرْعَوْنَ أَبْنُاءَنَا عِنْدَ مَوْلِدِكَ لَمَّا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ سَيُولَدُ مَوْلُودٌ يَكُونُ زَوَالُ مُلْكِهِ عَلَى يَدِهِ وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا رَسُولًا بِقَتْلِ أَبْنَائِنَا الْآنَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا بِاسْتِعْمَالِنَا فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ بِغَيْرِ جُعْلٍ وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا بِمَا صرنا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 130 إلى 136]

فِيهِ الْآنَ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَوْلَادِنَا وَأَهْلِنَا وَقِيلَ: إِنَّ الْأَذَى مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَاحِدٌ، وَهُوَ قَبْضُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَجُمْلَةُ قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَعَدَهُمْ بِإِهْلَاكِ اللَّهِ لِعَدُوِّهِمْ، وَهُوَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ. قَوْلُهُ: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ هُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا رَمَزَ إِلَيْهِ سَابِقًا مِنْ أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ. وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ، وَمَلَكُوا مِصْرَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَفَتَحُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَعَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَأَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ بِالْغَرَقِ وَأَنْجَاهُمْ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْكُمْ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيُجَازِيكُمْ بِمَا عَمِلْتُمْ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قوله: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ إِذِ الْتَقَيْتُمَا لِتَظَاهَرَا، فَتُخْرِجَا مِنْهَا أَهْلَهَا لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ الْآيَةَ، قَالَ: فَقَتَلَهُمْ وَقَطَّعَهُمْ كَمَا قَالَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ صَلَبَ فِرْعَوْنُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَطَعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلَ مِنْ خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خِلافٍ قَالَ: يَدًا مِنْ هَاهُنَا وَرِجْلًا مِنْ هَاهُنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا قَالَ: مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِ اللَّهِ إِيَّاكَ وَمِنْ بَعْدِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى كَانَ فِرْعَوْنُ يُكَلِّفُنَا اللَّبِنَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنَا، فَلَمَّا جِئْتَ كَلَّفَنَا اللَّبِنَ مَعَ التِّبْنِ أَيْضًا، فَقَالَ مُوسَى: أَيْ رَبِّ! أَهْلِكْ فِرْعَوْنَ، حَتَّى مَتَى تُبْقِيهِ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا الذَّنْبَ الَّذِي أُهْلَكَهُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: حَزَا «1» لِعَدُوِّ اللَّهِ حَازٍ أَنَّهُ يُولَدُ فِي الْعَامِ غُلَامٌ يَسْلِبُ مُلْكَكَ، قَالَ: فَتَتَبَّعَ أَوْلَادَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَامِ بِذَبْحِ الذَّكَرِ مِنْهُمْ، ثُمَّ ذبحهم أيضا بعد ما جَاءَهُمْ مُوسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: إن بناء- أَهْلَ الْبَيْتِ- يُفْتَحُ وَيُخْتَمُ، وَلَا بُدَّ أَنْ تقع دولة لبني هاشم فانظروا فيمن تكونوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ؟ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. وَيَنْبَغِيَ أَنْ يُنْظَرَ فِي صِحَّةِ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَالْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا فِي بَنِي هَاشِمٍ وَاقِعَةٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْحَاكِيَةِ لِمَا جَرَى بَيْنَ موسى وفرعون. [سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 136] وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)

_ (1) . قال في القاموس: حزا: تكهن.

الْمُرَادُ بِآلِ فِرْعَوْنَ هُنَا: قَوْمُهُ، وَالْمُرَادُ بِالسِّنِينَ: الْجَدْبُ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، يَقُولُونَ أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ: أَيْ جَدَبُ سَنَةٍ، وَفِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» . وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ يُعْرِبُونَ السِّنِينَ إِعْرَابَ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُعْرِبُهُ إِعْرَابَ الْمُفْرَدِ وَيُجْرِي الْحَرَكَاتِ عَلَى النُّونِ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: أَرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلَالِ بِكَسْرِ النُّونِ مِنَ السِّنِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ هَذَا الْبَيْتَ بِفَتْحِ النُّونِ. أَقُولُ: قَدْ وَرَدَ مَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَاذَا تَزْدَرِي الْأَقْوَامُ مِنِّي ... وَقَدْ جاوزت حدّ الأربعين وبعده: أخو خمسين مجتمع أشدّي ... ونجّدني مداورة الشّؤون فَإِنَّ الْأَبْيَاتَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مَكْسُورَةٌ. وَأَوَّلُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: أَنَا ابْنُ جَلَا وَطُلَّاعِ الثَّنَايَا ... مَتَى أَضَعُ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَقَمْتُ عِنْدَهُ سِنِينًا، مَصْرُوفًا، قَالَ: وَبَنُو تَمِيمٍ لَا يَصْرِفُونَهُ، وَيُقَالُ أَسْنَتَ الْقَوْمُ: أَيْ أَجْدَبُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الزِّبَعْرَى: ..... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ «1» وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بِسَبَبِ عَدَمِ نُزُولِ الْمَطَرِ وَكَثْرَةِ الْعَاهَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَيَتَّعِظُونَ وَيَرْجِعُونَ عَنْ غِوَايَتِهِمْ. قَوْلُهُ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ أَيِ: الْخَصْلَةُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْخِصْبِ بِكَثْرَةِ الْمَطَرِ وَصَلَاحِ الثَّمَرَاتِ وَرَخَاءِ الْأَسْعَارِ قالُوا لَنا هذِهِ أَيْ: أَعْطَيْنَاهَا بِاسْتِحْقَاقٍ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِنَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أَيْ: خَصْلَةٌ سَيِّئَةٌ مِنَ الْجَدْبِ وَالْقَحْطِ وَكَثْرَةِ الْأَمْرَاضِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْبَلَاءِ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَيْ: يَتَشَاءَمُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَالْأَصْلُ يَتَطَيَّرُوا أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطاء. وقرأ طلحة تطيروا عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَطَيَّرُ بِأَشْيَاءَ مِنَ الطُّيُورِ وَالْحَيَوَانَاتِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْ تَشَاءَمَ بِشَيْءٍ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ «2» قيل:

_ (1) . وصدره: عمرو العلا هشم الثّريد لقومه. (2) . النساء: 78.

وَوَجْهُ تَعْرِيفِ الْحَسَنَةِ أَنَّهَا كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ، وَوَجْهُ تَنْكِيرِ السَّيِّئَةِ نُدْرَةُ وُقُوعِهَا. قَوْلُهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: سَبَبُ خَيْرِهِمْ وَشَرِّهِمْ بجميع ما ينالهم من خصب وقحط مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ بِسَبَبِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، وَكَانَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى نَمَطِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ وَبِمَا يَفْهَمُونَهُ، وَلِهَذَا عَبَّرَ بِالطَّائِرِ عَنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ الَّذِي يَجْرِي بِقَدَرِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِهَذَا بَلْ يَنْسِبُونَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ جَهْلًا مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ طَيْرُهُمْ قَوْلُهُ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُ مَهْمَا «مَا» الشَّرْطِيَّةُ زِيدَتْ عَلَيْهِ «مَا» الَّتِي لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا تُزَادُ فِي سَائِرِ الْحُرُوفِ مِثْلَ: حَيْثُمَا وَأَيْنَمَا وَكَيْفَمَا وَمَتَى مَا، وَلَكِنَّهُمْ كَرِهُوا اجْتِمَاعَ الْمِثْلَيْنِ فَأَبْدَلُوا أَلِفَ الْأُولَى هَاءً. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَصْلُهُ مَهْ أَيِ: اكْفُفْ مَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ آيَةٍ، وَزِيدَتْ عَلَيْهَا «مَا» الشَّرْطِيَّةُ وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ يُجَازِي بِهَا، وَمَحَلُّ مَهْمَا الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَوِ النَّصْبُ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ما بعدها، ومن آيَةٍ: لِبَيَانِ مَهْمَا، وَسَمَّوْهَا آيَةَ اسْتِهْزَاءٍ بِمُوسَى كَمَا يُفِيدُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ لِتَسْحَرَنا بِها أَيْ: لِتَصْرِفَنَا عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ بِسِحْرِهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَهْمَا، وَالضَّمِيرُ فِي بِهَا عَائِدٌ إِلَى آيَةٍ وَقِيلَ: إِنَّهُمَا جَمِيعًا عَائِدَانِ إِلَى مَهْمَا، وَتَذْكِيرُ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَتَأْنِيثُ الثَّانِي بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَيْ: فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُصَدِّقِينَ، أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ من الآيات التي هي زَعْمِهِمْ مِنَ السِّحْرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَزَلَتْ بِهِمُ الْعُقُوبَةُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُبَيَّنَةُ بِقَوْلِهِ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَاحِدُهُ طُوفَانَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، كَالرُّجْحَانِ وَالنُّقْصَانِ فَلَا وَاحِدَ لَهُ، وَقِيلَ: الطُّوفَانُ: الْمَوْتُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الطُّوفَانُ فِي اللُّغَةِ مَا كَانَ مُهْلِكًا مِنْ مَوْتٍ أَوْ سَيْلٍ، أَيْ: مَا يُطِيفُ بِهِمْ فَيُهْلِكُهُمْ وَالْجَرادَ هُوَ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ لِأَكْلِ زُرُوعِهِمْ فَأَكَلَهَا وَالْقُمَّلَ قِيلَ: هِيَ الدَّبَّاءُ وَالدَّبَّاءُ: الْجَرَادُ قَبْلَ أَنْ تَطِيرَ، وَقِيلَ: هِيَ السُّوسُ، وَقِيلَ: الْبَرَاغِيثُ، وَقِيلَ: دَوَابُّ سُودٌ صِغَارٌ، وَقِيلَ: ضَرْبٌ مِنَ الْقِرْدَانِ، وَقِيلَ: الْجُعْلَانِ. قَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْقَمْلَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً. وَقَدْ فَسَّرَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ «الْقُمَّلَ» بِالْقَمْلِ، وَالضَّفادِعَ جَمْعُ ضُفْدَعٍ وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَاءِ وَالدَّمَ رُوِيَ أَنَّهُ سَالَ النِّيلُ عَلَيْهِمْ دَمًا، وَقِيلَ: هُوَ الرُّعَافُ. قَوْلُهُ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ أَيْ: مُبَيَّنَاتٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَالَ كَوْنِهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ظَاهِرَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا أَيْ: تَرَفَّعُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى حَقٍّ وَلَا يَنْزِعُونَ عَنْ بَاطِلٍ، قَوْلُهُ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أَيِ: الْعَذَابُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقُرِئَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الرِّجْزُ طَاعُونًا مَاتَ بِهِ مِنَ الْقِبْطِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سبعون ألفا قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أَيْ: بِمَا اسْتَوْدَعَكَ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ بِمَا اخْتَصَّكَ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ أَوْ بِمَا عَهِدَ إِلَيْكَ أَنْ تَدْعُوَ بِهِ فَيُجِيبُكَ، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِادْعُ، عَلَى مَعْنَى: أَسْعِفْنَا إِلَى مَا نَطْلُبُ مِنَ الدُّعَاءِ، بِحَقِّ مَا عِنْدَكَ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ، أَوِ ادْعُ لَنَا مُتَوَسِّلًا إِلَيْهِ بِعَهْدِهِ عِنْدَكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُهُ لَنُؤْمِنَنَّ أَيْ: أَقْسَمْنَا بِعَهْدِ

اللَّهِ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ على أن جواب الشرط سدّ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَعَلَى أَنَّ الْبَاءَ لَيْسَتْ لِلْقَسَمِ تَكُونُ اللَّامُ فِي لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ جواب قسم محذوف، ولَنُؤْمِنَنَّ جَوَابُ الشَّرْطِ، سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَنُؤْمِنَنَّ، وَقَدْ كَانُوا حَابِسِينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَهُمْ يَمْتَهِنُونَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ فَوَعَدُوهُ بِإِرْسَالِهِمْ مَعَهُ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أَيْ: رَفَعْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ عِنْدَ أَنْ رَجَعُوا إِلَى مُوسَى وسألوه ما سَأَلُوهُ، لَكِنْ لَا رَفْعًا مُطْلَقًا، بَلْ رَفْعًا مُقَيَّدًا بِغَايَةٍ هِيَ الْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ لِإِهْلَاكِهِمْ بِالْغَرَقِ، وَجَوَابُ لَمَّا إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أَيْ: يَنْقُضُونَ مَا عَقَدُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِذَا: هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، أي: فاجؤوا النَّكْثَ وَبَادَرُوهُ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أَيْ: أَرَدْنَا الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ لَمَّا نَكَثُوا بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ الْمُتَعَدِّدَةِ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ أَيْ: فِي الْبَحْرِ، قِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ، وَقِيلَ: هُوَ لُجَّتُهُ وَأَوْسَطُهُ، وَجُمْلَةُ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا تَعْلِيلٌ لِلْإِغْرَاقِ وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَذَّبُوا، أَيْ: كَانُوا غَافِلِينَ عَنِ النِّقْمَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِانْتَقَمْنَا، أَوْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا بَلْ كَذَّبُوا بِهَا وَكَانُوا فِي تَكْذِيبِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْغَافِلِينَ عَنْهَا، وَالثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ تَعْلِيلٌ لِلْإِغْرَاقِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ قَالَ: السِّنِينُ الْجُوعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: السِّنِينُ: الْجَوَائِحُ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ دُونَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَخَذَ اللَّهُ آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ يَبِسَ كُلُّ شَيْءٍ لَهُمْ، وَذَهَبَتْ مَوَاشِيهِمْ حَتَّى يَبِسَ نِيلُ مِصْرَ، وَاجْتَمَعُوا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ كَمَا تَزْعُمُ فَائْتِنَا فِي نِيلِ مِصْرَ بِمَاءٍ، قَالَ: غُدْوَةً يُصَبِّحُكُمُ الْمَاءُ فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ صَنَعْتُ إِنْ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى أَنْ أُجْرِيَ فِي نِيلِ مِصْرَ مَاءً غُدْوَةً كَذَّبُونِي؟ فَلَمَّا كَانَ جَوْفُ اللَّيْلِ قَامَ فَاغْتَسَلَ وَلَبِسَ مَدْرَعَةَ صُوفٍ ثُمَّ خَرَجَ حَافِيًا حَتَّى أَتَى نِيلَ مِصْرَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَمْلَأَ نِيلَ مِصْرَ مَاءً فَامْلَأْهُ مَاءً، فَمَا عَلِمَ إِلَّا بِجَزْرِ الْمَاءِ يُقْبِلُ، فَخَرَجَ وَأَقْبَلَ النِّيلُ يَزُخُّ بِالْمَاءِ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْهَلَكَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالَ: الْعَافِيَةُ وَالرَّخَاءُ قالُوا لَنا هذِهِ نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ قَالَ: بَلَاءٌ وَعُقُوبَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى قَالَ: يَتَشَاءَمُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ: الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطُّوفَانُ الْمَوْتُ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ حَدِيثٌ غريب. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الطُّوفَانُ الْغَرَقُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الطُّوفَانُ الْمَوْتُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الطُّوفَانُ: مُطِرُوا دَائِمًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَالْقُمَّلُ: الْجَرَادُ الَّذِي لَهُ أَجْنِحَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الطُّوفَانُ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ رَبِّكَ، ثُمَّ قَرَأَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابن جرير وابن المنذر وابن

_ (1) . القلم: 19.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 137 إلى 141]

أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الطُّوفانَ: الْمَاءُ وَالطَّاعُونُ «1» وَالْجَرادَ. قَالَ: يَأْكُلُ مَسَامِيرَ رتجهم يَعْنِي أَبْوَابَهُمْ، وَثِيَابَهُمْ، وَالْقُمَّلَ الدَّبَّاءُ وَالضَّفادِعَ تَسْقُطُ عَلَى فُرُشِهِمْ وَفِي أَطْعِمَتِهِمْ، وَالدَّمَ يَكُونُ فِي ثِيَابِهِمْ وَمَائِهِمْ وَطَعَامِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقُمَّلُ: الدَّبَّاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ الضَّفَادِعُ بَرِّيَّةً، فَلَمَّا أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ فَجَعَلَتْ تَقْذِفُ نَفْسَهَا فِي الْقِدْرِ وَهِيَ تَغْلِي، وَفِي التَّنَانِيرِ وَهِيَ تَفُورُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَالَ النِّيلُ دَمًا فَكَانَ الْإِسْرَائِيلِيُّ يَسْتَقِي مَاءً طَيِّبًا، وَيَسْتَقِي الْفِرْعَوْنِيُّ دَمًا، وَيَشْتَرِكَانِ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ مَا يَلِي الْإِسْرَائِيلِيَّ مَاءً طَيِّبًا وَمَا يَلِي الْفِرْعَوْنِيَّ دَمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ وَالدَّمَ قَالَ: سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرُّعَافَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَكَثَ مُوسَى فِي آلِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ مَا غَلَبَ السَّحَرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يُرِيهِمُ الْآيَاتِ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ قَالَ: كَانَتْ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا لِيَكُونَ لِلَّهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا تَمْكُثُ فِيهِمْ سَبْتًا إِلَى سَبْتٍ ثُمَّ تُرْفَعَ عَنْهُمْ شَهْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرِّجْزُ: الْعَذَابُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الرِّجْزُ: الطَّاعُونُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ قَالَ: الْغَرَقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْيَمُّ الْبَحْرُ. وأخرج أيضا عن السدّي مثله. [سورة الأعراف (7) : الآيات 137 الى 141] وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) قَوْلُهُ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ أَيْ يُذَلُّونَ وَيُمْتَهَنُونَ بِالْخِدْمَةِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا مَنْصُوبَانِ بِأَوْرَثْنَا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ الْأَصْلَ: فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، ثُمَّ حُذِفَتْ فِي فَنُصِبَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لأنه يقال أورثته المال، والأرض: هي

_ (1) . قال في القاموس: الطاعون: الوباء.

مِصْرُ وَالشَّامُ، وَمَشَارِقُهَا: جِهَاتُ مَشْرِقِهَا. وَمَغَارِبُهَا: جِهَاتُ مَغْرِبِهَا، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ الْقِبْطِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ جَمِيعُ الْأَرْضِ لِأَنَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ مَلَكَا الْأَرْضَ. قَوْلُهُ الَّتِي بارَكْنا فِيها صِفَةٌ لِلْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَقِيلَ: صِفَةُ الْأَرْضِ، وَالْمُبَارَكَةُ فِيهَا: إِخْرَاجُ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ مِنْهَا عَلَى أَتَمِّ مَا يَكُونُ وَأَنْفَعِ ما ينفع، قوله تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى أَيْ: مَضَتْ وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى التَّمَامِ، وَالْكَلِمَةُ هِيَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «1» ، وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِالْأَعْدَاءِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَالْحُسْنَى: صِفَةٌ لِلْكَلِمَةِ، وَهِيَ تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَتَمَامُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى مَا أُصِيبُوا بِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. قَوْلُهُ وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ التَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ، أَيْ: أَهْلَكْنَا بِالْخَرَابِ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَهُ مِنَ الْعِمَارَاتِ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يَعْرِشُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ يَعْرِشُونَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً أَيْ: مَا كَانُوا يَعْرِشُونَهُ مِنَ الْجَنَّاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ «2» وَقِيلَ مَعْنَى يَعْرِشُونَ: يَبْنُونَ، يُقَالُ: عَرَشَ يَعْرِشُ، أَيْ: بَنَى يَبْنِي. قَوْلُهُ وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ هذا شروع في بيان ما فعله بنو إسرائيل بعد الفراغ مما فعله فرعون وقومه. ومعنى جاوزنا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ: جُزْنَاهُ بِهِمْ وَقَطَعْنَاهُ. وَقُرِئَ جَوَّزْنَا بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ بِمَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يَعْكُفُونَ» بِكَسْرِ الْكَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، يُقَالُ عَكَفَ يَعْكُفُ، وَيَعْكِفُ بِمَعْنَى: أَقَامَ عَلَى الشَّيْءِ وَلَزِمَهُ، وَالْمَصْدَرُ مِنْهُمَا عُكُوفٌ قِيلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ أَتَاهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ هُمْ مِنْ لَخْمٍ كَانُوا نَازِلِينَ بِالرَّقَّةِ، كَانَتْ أَصْنَامُهُمْ تَمَاثِيلُ بَقَرٍ وَقِيلَ كَانُوا مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ قالُوا أَيْ: بَنُو إِسْرَائِيلَ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِمْ لِتِلْكَ التَّمَاثِيلِ يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي: صنما كَائِنًا كَالَّذِي لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَالْكَافُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقع صفة لإلهاً، فأجاب عليهم موسى، وقالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ لِأَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَا يَزْجُرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ عَنْ طَلَبِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، أَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدُّ خَلْقِ اللَّهِ عِنَادًا وَجَهْلًا وَتَلَوُّنًا. وَقَدْ سَلَفَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ مَا جَرَى مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ هؤُلاءِ يَعْنِي الْقَوْمَ الْعَاكِفِينَ عَلَى الْأَصْنَامِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ التَّبَارُ: الْهَلَاكُ، وَكُلُّ إِنَاءٍ مُنْكَسِرٍ فَهُوَ مُتَبَّرٌ، أَيْ: أَنَّ هَؤُلَاءِ هَالِكٌ مَا هُمْ فِيهِ مُدَمَّرٌ مُكَسَّرٌ، وَالَّذِي هم فيه: هو عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ هَذَا الدِّينَ الَّذِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَيْهِ هَالِكٌ مُدَمَّرٌ لَا يَتِمُّ مِنْهُ شَيْءٌ. قَوْلُهُ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ ذَاهِبٌ مُضْمَحِلٌّ جَمِيعُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَعَ عِبَادَتِهِمْ لِلْأَصْنَامِ. قَالَ فِي الكشاف: وفي إيقاع هؤلاء اسما لإن وَتَقْدِيمُ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لها، وسم لِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُعَرَّضُونَ لِلتَّبَارِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْدُوهُمْ أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ لَهُمْ ضَرْبَةُ لَازِبٍ لِيُحَذِّرَهُمْ عَاقِبَةَ مَا طَلَبُوا وَيُبَغِّضَ إِلَيْهِمْ مَا أَحَبُّوا. قَوْلُهُ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: كَيْفَ أَطْلُبُ لَكُمْ غَيْرَ اللَّهِ إِلَهًا تَعْبُدُونَهُ وَقَدْ شَاهَدْتُمْ مِنْ آيَاتِهِ الْعِظَامِ مَا يَكْفِي الْبَعْضُ مِنْهُ؟ وَالْمَعْنَى: أَنَّ هذا الذي طلبتم لا يكون

_ (1) . القصص: 5. (2) . الأنعام: 141.

أَبَدًا، وَإِدْخَالُ الْهَمْزَةِ عَلَى غَيْرِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمُنْكَرَ هُوَ كَوْنُ الْمُبْتَغَى غَيْرَهُ سُبْحَانَهُ إِلَهًا، وَغَيْرُ مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَإِلَهًا تَمْيِيزٌ أَوْ حَالٌ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِكُمْ، بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، مِنْ إِهْلَاكِ عَدُوِّكُمْ، وَاسْتِخْلَافِكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَإِخْرَاجِكُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ إِلَى الْعِزِّ وَالرِّفْعَةِ، فَكَيْفَ تُقَابِلُونَ هَذِهِ النِّعَمَ بِطَلَبِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ؟ قَوْلُهُ وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أَيْ: وَاذْكُرُوا وَقْتَ إِنْجَائِنَا لَكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَالِكِينَ لَكُمْ يَسْتَعْبِدُونَكُمْ فِيمَا يُرِيدُونَهُ مِنْكُمْ وَيَمْتَهِنُونَكُمْ بِأَنْوَاعِ الِامْتِهَانَاتِ، هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَحْكِيٌّ عَنْ مُوسَى، وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ لِلْيَهُودِ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرِ مُحَمَّدٍ، فَهُوَ بِمَعْنَى اذْكُرُوا إِذْ أَنْجَيْنَا أَسْلَافَكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَجُمْلَةُ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ حَالَ كَوْنِهِمْ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ مَا كَانُوا فِيهِ مِمَّا أَنْجَاهُمْ مِنْهُ، وَجُمْلَةُ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ مُفَسِّرَةٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَفِي ذلِكُمْ إِلَى الْعَذَابِ، أَيْ: فِي هَذَا الْعَذَابِ الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ بَلاءٌ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْإِنْجَاءِ، وَالْبَلَاءُ: النِّعْمَةُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها قَالَ: الشَّامُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: هِيَ فِلَسْطِينُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِ الشَّامِ أَحَادِيثُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى قَالَ: ظُهُورُ قَوْمِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَتَمْكِينُ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَمَا وَرَّثَهُمْ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ قَالَ: يَبْنُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: تَمَاثِيلُ بَقَرٍ مِنْ نُحَاسٍ، فَلَمَّا كَانَ عِجْلُ السَّامِرِيِّ شُبِّهَ لَهُمْ أَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْبَقَرِ، فَذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ شَأْنِ الْعِجْلِ لِيَكُونَ لِلَّهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ حُنَيْنٍ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ، فَقُلْتُ: يَا رسول الله! اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أَنْوَاطٍ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَنُوطُونَ سِلَاحَهُمْ بِسِدْرَةٍ وَيَعْكُفُونَ حولها، فقال النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، إِنَّكُمْ تَرْكَبُونَ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا، وَكَثِيرٌ: ضَعِيفٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ مُتَبَّرٌ قَالَ: خُسْرَانٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قال: هلاك.

[سورة الأعراف (7) : آية 142]

[سورة الأعراف (7) : آية 142] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا كَرَّمَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَرَّفَهُ. وَالثَلَاثِينَ: هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَالْعَشْرُ هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، ضَرَبَ اللَّهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ مَوْعِدًا لِمُنَاجَاةِ مُوسَى وَمُكَالَمَتِهِ، قِيلَ: وَكَانَ التَّكْلِيمُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَالْفَائِدَةُ فِي فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الثَلَاثِينَ وَالْعَشْرَ أَرْبَعُونَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَتْمَمْنَا الثَلَاثِينَ بِعَشْرٍ منها، فبين أن العشر غير الثلاثين، وأربعون لَيْلَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فَتَمَّ حَالُ كَوْنِهِ بَالِغًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. قَوْلُهُ وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي أَيْ: كُنْ خَلِيفَتِي فِيهِمْ، قَالَ مُوسَى هَذَا لَمَّا أَرَادَ الْمُضِيَّ إِلَى الْمُنَاجَاةِ وَأَصْلِحْ أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحُسْنِ سِيَاسَتِهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ أَيْ: لَا تَسْلُكُ سَبِيلَ الْعَاصِينَ وَلَا تَكُنْ عَوْنًا لِلظَّالِمِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَواعَدْنا مُوسى الْآيَةَ قَالَ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ مُوسَى قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّ رَبِّي وَعَدَنِي ثَلَاثِينَ لَيْلَةً أَنْ أَلْقَاهُ وَأَخْلُفَ هَارُونَ فِيكُمْ، فَلَمَّا فَصَلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ زَادَهُ اللَّهُ عَشْرًا، فَكَانَتْ فِتْنَتُهُمْ فِي العشر الذي زَادَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا مَضَى ثَلَاثُونَ لَيْلَةً كَانَ السَّامِرِيُّ قَدْ أَبْصَرَ جِبْرِيلَ، فَأَخَذَ مِنْ أَثَرِ الْفَرَسِ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ السامريّ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 143 الى 147] وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (147) اللَّامُ فِي لِمِيقاتِنا لِلِاخْتِصَاصِ أَيْ: كَانَ مَجِيئُهُ مُخْتَصًّا بِالْمِيقَاتِ الْمَذْكُورِ بِمَعْنَى أَنَّهُ جَاءَ فِي الْوَقْتِ الْمَوْعُودِ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أَيْ: أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ. قَوْلُهُ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أَيْ: أَرِنِي نَفْسَكَ أَنْظُرْ إِلَيْكَ أَيْ سَأَلَهُ النَّظَرَ إِلَيْهِ اشْتِيَاقًا إِلَى رُؤْيَتِهِ لَمَّا أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ. وَسُؤَالُ مُوسَى لِلرُّؤْيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا جَائِزَةٌ

عِنْدَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مُسْتَحِيلَةً عِنْدَهُ لَمَا سَأَلَهَا، وَالْجَوَابُ بِقَوْلِهِ لَنْ تَرانِي يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَرَاهُ هَذَا الْوَقْتَ الَّذِي طَلَبَ رُؤْيَتَهُ فِيهِ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُرَى مَا دَامَ الرَّائِي حَيًّا فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ ثَبَتَتْ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ تَوَاتُرًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ، وَالْجِدَالُ فِي مِثْلِ هَذَا وَالْمُرَاوَغَةُ لَا تَأْتِي بِفَائِدَةٍ، وَمَنْهَجُ الْحَقِّ وَاضِحٌ، وَلَكِنَّ الِاعْتِقَادَ لِمَذْهَبٍ نَشَأَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ وَأَدْرَكَ عَلَيْهِ آبَاءَهُ وَأَهْلَ بَلَدِهِ، مَعَ عَدَمِ التَّنَبُّهِ لِمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْعِبَادِ مِنْ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ يُوقِعُ فِي التَّعَصُّبِ، وَالْمُتَعَصِّبُ وَإِنْ كَانَ بَصَرُهُ صَحِيحًا فَبَصِيرَتُهُ عَمْيَاءُ، وَأُذُنُهُ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ صَمَّاءُ، يَدْفَعُ الْحَقَّ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مَا دَفَعَ غَيْرَ الْبَاطِلِ، وَيَحْسَبُ أَنَّ مَا نَشَأَ عَلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ غَفْلَةً مِنْهُ وَجَهْلًا بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ، وَتَلَقِّي مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِالْإِذْعَانِ وَالتَّسْلِيمِ، وما أقلّ المنصفين بعد ظهور هَذِهِ الْمَذَاهِبَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَإِنَّهُ صَارَ بِهَا بَابُ الْحَقِّ مُرْتَجًا، وَطَرِيقُ الْإِنْصَافِ مُسْتَوْعِرَةً، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْهِدَايَةُ مِنْهُ: يَأْبَى الْفَتَى إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى ... وَمَنْهَجُ الْحَقِّ لَهُ وَاضِحُ جملة قالَ لَنْ تَرانِي مُسْتَأْنَفَةٌ، لِكَوْنِهَا جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا قَالُ اللَّهُ لَهُ؟ وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي مَعْنَاهُ أَنَّكَ لَا تَثْبُتُ لِرُؤْيَتِي وَلَا يَثْبُتُ لَهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْكَ جِرْمًا وَصَلَابَةً وَقُوَّةً، وَهُوَ الْجَبَلُ فَانْظُرْ إِلَيْهِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ وَلَمْ يَتَزَلْزَلْ عِنْدَ رُؤْيَتِي لَهُ فَسَوْفَ تَرانِي وَإِنْ ضَعُفَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْتَ مِنْهُ أَضْعَفُ، فَهَذَا الْكَلَامُ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبِ الْمَثَلِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْجَبَلِ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ، وَعَلَى تَسْلِيمِ هَذَا فَهُوَ فِي الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا لِمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ كِلَا طَائِفَتَيِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فَالْمُعْتَزِلَةُ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ لَنْ تَرانِي، وَبِأَمْرِهِ بِأَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْجَبَلِ، وَالْأَشْعَرِيَّةُ قَالُوا: إِنَّ تَعْلِيقَ الرُّؤْيَةِ بِاسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا جَائِزَةٌ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الْأُخْرَوِيَّةَ هِيَ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، وَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ هُوَ فِيهَا، لَا فِي الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ كَانَ الْخِلَافُ فِيهَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَكَلَامُهُمْ فِيهَا مَعْرُوفٌ. قَوْلُهُ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا تَجَلَّى مَعْنَاهُ: ظَهَرَ، مِنْ قَوْلِكَ جَلَوْتُ الْعَرُوسَ: أَيْ أَبْرَزْتُهَا. وَجَلَوْتُ السَّيْفَ: أَخْلَصْتُهُ مِنَ الصَّدَأِ، وَتَجَلَّى الشَّيْءُ: انْكَشَفَ. وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا ظَهَرَ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا، وَقِيلَ الْمُتَجَلِّي: هُوَ أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ وَغَيْرُهُ، وَالدَّكُّ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ: جَعَلَهُ مَدْكُوكًا مَدْقُوقًا فَصَارَ تُرَابًا. هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ دَكًّا بِالْمَصْدَرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ جَعَلَهُ دَكَّاءَ عَلَى التَّأْنِيثِ، وَالْجَمْعُ دَكَّاوَاتٌ كَحَمْرَاءَ وَحَمْرَاوَاتٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِلرَّابِيَةِ النَّاشِزِةِ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ لِلْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجَبَلَ صَارَ صَغِيرًا كَالرَّابِيَةِ أَوْ أَرْضًا مُسْتَوِيَةً. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الدَّكُّ: الْجِبَالُ الْعِرَاضُ، وَاحِدُهَا أَدَكُ. وَالدَّكَاوَاتُ جَمْعُ دَكَّاءَ، وَهِيَ رَوَابٍ مِنْ طِينٍ ليست بالغلاظ، والد كادك: مَا الْتَبَدَ مِنَ الْأَرْضِ فَلَمْ يَرْتَفِعْ، وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ: لَا سَنَامَ لَهَا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أَيْ: مَغْشِيًّا عَلَيْهِ مَأْخُوذًا مِنَ الصَاعِقَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ صَارَ حَالُهُ لَمَّا غُشِيَ عَلَيْهِ كَحَالِ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ عِنْدَ إِصَابَةِ الصَّاعِقَةِ لَهُ. يُقَالُ صَعَقَ الرَّجُلُ فَهُوَ صَعِقٌ وَمَصْعُوقٌ: إِذَا أَصَابَتْهُ الصَّاعِقَةُ فَلَمَّا أَفاقَ مِنْ غَشْيَتِهِ قالَ سُبْحانَكَ أَيْ: أُنَزِّهُكَ تَنْزِيهًا مِنْ أَنْ أَسْأَلَ شَيْئًا لَمْ تَأْذَنْ لِي بِهِ تُبْتُ إِلَيْكَ

عَنِ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ مَا كَانَتْ عَنْ مَعْصِيَةٍ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ وَقِيلَ: هِيَ تَوْبَةٌ مِنْ قَتْلِهِ لِلْقِبْطِيِّ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بِكَ قَبْلَ قَوْمِي الْمَوْجُودِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ الْمُعْتَرِفِينَ بِعَظَمَتِكَ وَجَلَالِكَ، وَجُمْلَةُ قالَ يَا مُوسى مُسْتَأْنَفَةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، مُتَضَمِّنَةٌ لِإِكْرَامِ مُوسَى وَاخْتِصَاصِهِ بِمَا اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ. وَالِاصْطِفَاءُ: الِاجْتِبَاءُ وَالِاخْتِيَارُ، أَيِ: اخْتَرْتُكَ عَلَى النَّاسِ الْمُعَاصِرِينَ لَكَ بِرِسَالَتِي كَذَا قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ. وَالرِّسَالَةُ مَصْدَرٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِفْرَادُ، وَمَنْ جَمَعَ فَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ هِيَ عَلَى ضُرُوبٍ، فَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ الْأَنْوَاعِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلَامِ هُنَا: التَّكْلِيمُ. امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِكْرَامِ، وَهُمَا: الرِّسَالَةُ وَالتَّكْلِيمُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا آتَاهُ، أَيْ: أَعْطَاهُ مِنْ هَذَا الشَّرَفِ الْكَرِيمِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّاكِرِينَ عَلَى هَذَا الْعَطَاءِ الْعَظِيمِ وَالْإِكْرَامِ الْجَلِيلِ. قَوْلُهُ وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: أَيْ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَهَذِهِ الْأَلْوَاحُ: هِيَ التَّوْرَاةُ، قِيلَ: كَانَتْ مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَقِيلَ: مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَقِيلَ: مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَقِيلَ: مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَدَدِ الْأَلْوَاحِ وَفِي مِقْدَارِ طُولِهَا وَعَرْضِهَا، وَالْأَلْوَاحُ: جَمْعُ لَوْحٍ، وَسُمِّيَ لَوْحًا لِكَوْنِهِ تَلُوحُ فِيهِ الْمَعَانِي، وَأَسْنَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكِتَابَةَ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لِلْمَكْتُوبِ فِي الْأَلْوَاحِ، وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ وَقِيلَ: هِيَ كتابة خلقها الله في الألواح، ومِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مفعول كَتَبْنا ومَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّ كُلِّ شَيْءٍ، أَيْ: مَوْعِظَةً لِمَنْ يَتَّعِظُ بِهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ وَتَفْصِيلًا لِلْأَحْكَامِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى التَّفْصِيلِ فَخُذْها بِقُوَّةٍ أَيْ: خُذِ الْأَلْوَاحَ بِقُوَّةٍ، أَيْ: بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الرِّسَالَاتِ، أَوْ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ إِلَى التَّوْرَاةِ، قِيلَ: وَهَذَا الْأَمْرُ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: فَقُلْنَا لَهُ: خُذْهَا، وَقِيلَ: إِنَّ فَخُذْها بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أَيْ: بِأَحْسَنِ مَا فِيهَا بِمَا أَجْرُهُ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ «1» ، وقوله فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وَمِنَ الْأَحْسَنِ الصَّبْرُ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ، وَالْعَمَلُ بِالْعَزِيمَةِ دُونَ الرُّخْصَةِ، وَبِالْفَرِيضَةِ دُونَ النَّافِلَةِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. قَوْلُهُ سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قِيلَ: هِيَ أَرْضُ مِصْرَ الَّتِي كَانَتْ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَقِيلَ: مَنَازِلُ عَادٍ وَثَمُودَ، وَقِيلَ: هِيَ جَهَنَّمُ، وَقِيلَ: مَنَازِلُ الْكُفَّارِ من الجبارة وَالْعَمَالِقَةِ لِيَعْتَبِرُوا بِهَا، وَقِيلَ الدَّارُ: الْهَلَاكُ. وَالْمَعْنَى: سأريكم هَلَاكَ الْفَاسِقِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْفِسْقِ. قَوْلُهُ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قِيلَ: مَعْنَى سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ سَأَمْنَعُهُمْ فَهْمَ كِتَابِي، وَقِيلَ سَأَصْرِفُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، وَقِيلَ سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ نَفْعِهَا مُجَازَاةً عَلَى تَكَبُّرِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «2» ، وَقِيلَ: سَأَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى لَا يَتَفَكَّرُوا فِيهَا وَلَا يَعْتَبِرُوا بِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، فَقِيلَ: هِيَ الْمُعْجِزَاتُ، وَقِيلَ: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، وقيل: هي خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَصَرْفُهُمْ عَنْهَا: أَنْ لَا يَعْتَبِرُوا بِهَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَاتِ عَلَى جَمِيعِ ذلك، وحمل الصرف على

_ (1) . الزمر: 55. [.....] (2) . الصف: 5.

جميع المعاني المذكورة وبِغَيْرِ الْحَقِّ إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَتَكَبَّرُونَ أَيْ: يَتَكَبَّرُونَ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا، أَيْ: يَتَكَبَّرُونَ مُتَلَبِّسِينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. قَوْلُهُ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها مَعْطُوفٌ عَلَى يَتَكَبَّرُونَ مُنْتَظِمٌ مَعَهُ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ. وَالْمَعْنَى سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الْمُتَكَبِّرِينَ التَّارِكِينَ لِلْإِيمَانِ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ كُلِّ آيَةٍ الْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ، وَالْآيَاتُ التَّكْوِينِيَّةُ، وَالْمُعْجِزَاتُ، أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَرَوْا بِضَمِّ الْيَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَجُمْلَةُ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا دَاخِلَةٌ فِي حُكْمِهَا، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا وَجَدُوا سَبِيلًا مِنْ سُبُلِ الرُّشْدِ تَرَكُوهُ وَتَجَنَّبُوهُ، وَإِنْ رَأَوْا سَبِيلًا مِنْ سُبُلِ الْغَيِّ سَلَكُوهُ وَاخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ الرُّشْدِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمًا بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَرَّقَ أَبُو عَمْرٍو بَيْنَ الرَّشَدِ وَالرُّشْدِ، فَقَالَ: الرَّشَدُ الصَّلَاحُ، وَالرُّشْدُ فِي الدِّينِ. قَالَ النَّحَّاسُ: سِيبَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الرشد كَالسُّخْطِ وَالسَّخَطِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَالصَّحِيحُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ مَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَأَصْلُ الرُّشْدِ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَظْفَرَ الْإِنْسَانُ بِمَا يُرِيدُ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَيْبَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ إِلَى الصَّرْفِ، أَيْ: ذَلِكَ الصَّرْفُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّكَبُّرِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْآيَاتِ، وَتَجَنُّبِ سَبِيلِ الرُّشْدِ، وَسُلُوكِ سَبِيلِ الْغَيِّ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أَيْ: بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْآيَاتِ وَغَفْلَتِهِمْ عَنْهَا، وَالْمَوْصُولُ فِي وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ مُبْتَدَأٌ. وَخَبَرُهُ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ: لِقَاءُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَيْ: لِقَائِهِمْ لَهَا أَوْ لِقَائِهِمْ مَا وُعِدُوا بِهِ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الظَّرْفِ، وَحُبَاطُ الْأَعْمَالِ، بُطْلَانُهَا، أَيْ: بُطْلَانُ مَا عَمِلُوهُ مِمَّا صُورَتُهُ صُورَةُ الطَّاعَةِ كَالصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَإِنْ كَانُوا فِي حَالِ كُفْرِهِمْ لَا طَاعَاتٍ لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يراد أنها تبطل بعد ما كَانَتْ مَرْجُوَّةَ النَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ إِسْلَامِهِمْ لِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ» . هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ، وَتَنَكُّبِ سَبِيلِ الْحَقِّ، وَسُلُوكِ سَبِيلِ الْغَيِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ! أَهَكَذَا كَلَامُكَ؟ قَالَ: يَا مُوسَى إِنَّمَا أُكَلِّمُكَ بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا، وَلَوْ كَلَّمْتُكَ بِكُنْهِ كَلَامِي لَمْ تَكُ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى يَوْمَ الطُّورِ كَلَّمَهُ بِغَيْرِ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَهُ بِهِ يَوْمَ نَادَاهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا رَبِّ! أَهَذَا كَلَامُكَ الَّذِي كَلَّمْتَنِي بِهِ؟ قَالَ: يَا مُوسَى! إِنَّمَا كَلَّمْتُكَ بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا: يَا مُوسَى! صِفْ لَنَا كَلَامَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: لَا تَسْتَطِيعُونَهُ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى أَصْوَاتِ الصَّوَاعِقِ الَّتِي تَقْتُلُ، فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهُ فَذَاكَ قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَيْسَ بِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عبد الرحمن

ابن مُعَاوِيَةَ قَالَ: إِنَّمَا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِقَدْرِ مَا يُطِيقُ مِنْ كَلَامِهِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِهِ كُلِّهِ لَمْ يُطِقْهُ شَيْءٌ، فَمَكَثَ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا مَاتَ مِنْ نُورِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ يَقُولُ: أَعْطِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَمَّا سَمِعَ الْكَلَامَ طَمِعَ فِي الرُّؤْيَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ مُوسَى لِرَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ اللَّهُ: يَا مُوسَى! إِنَّكَ لَنْ تَرَانِي، قَالَ يَقُولُ: لَيْسَ تَرَانِي وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، يَا مُوسَى! إِنَّهُ لَنْ يَرَانِي أَحَدٌ فَيَحْيَا، قَالَ مُوسَى رَبِّ إِنِّي أَرَاكَ ثُمَّ أَمُوتُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ لَا أَرَاكَ ثُمَّ أَحْيَا، فَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: يَا مُوسَى! انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ الْعَظِيمِ الطَّوِيلِ الشَّدِيدِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ يَقُولُ: فَإِنْ ثَبَتَ مَكَانَهُ لَمْ يَتَضَعْضَعْ وَلَمْ يَنْهَدَّ لِبَعْضِ مَا يَرَى مِنْ عَظَمَتِي فَسَوْفَ تَرانِي أَنْتَ لِضَعْفِكَ وَذِلَّتِكَ، وَإِنِ الْجَبَلُ انْهَدَّ بِقُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ فَأَنْتَ أَضْعَفُ وَأَذَلُّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الرُّؤْيَةِ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قَالَ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ ووضع طرف إبهامه عَلَى أُنْمُلَةِ الْخِنْصَرِ، وَفِي لَفْظٍ عَلَى الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ، فَسَاخَ الْجَبَلُ وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً وَفِي لَفْظٍ فَسَاخَ الْجَبَلُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ يَهْوِي فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْجَبَلُ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ الطُّورُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الرُّؤْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ قَالَ: مَا تَجَلَّى مِنْهُ إِلَّا قَدْرُ الْخِنْصَرِ جَعَلَهُ دَكًّا قَالَ: تُرَابًا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً قَالَ: مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ لِلْجَبَلِ طَارَتْ لِعَظَمَتِهِ سِتَّةُ أَجْبُلٍ، فَوَقَعَتْ ثَلَاثَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَثَلَاثَةٌ بِمَكَّةَ، بِالْمَدِينَةِ: أُحُدٌ وَوَرْقَانُ وَرَضْوَى، وَبِمَكَّةَ: حِرَاءٌ وَثُبَيْرٌ وَثَوْرٌ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ لِمُوسَى تَطَايَرَتْ سَبْعَةُ أَجْبُلٍ، فَفِي الْحِجَازِ خَمْسَةٌ مِنْهَا، وَفِي الْيَمَنِ اثْنَانِ، فِي الْحِجَازِ: أُحُدٌ وَثُبَيْرٌ وَحِرَاءٌ وَثَوْرٌ وَوَرْقَانُ، وَفِي الْيَمَنِ: حُضُورٌ وَصَبْرٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُوسَى لَمَّا كَلَّمَهُ رَبُّهُ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ قَالَ: فَحَفَّ حَوْلَ الْجَبَلِ الْمَلَائِكَةُ، وَحَفَّ حَوْلَ الْمَلَائِكَةِ بِنَارٍ وَحَفَّ حَوْلَ النَّارِ بِمَلَائِكَةٍ وَحَفَّ حَوْلَهُمْ بِنَارٍ، ثُمَّ تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ تَجَلَّى مِنْهُ مِثْلُ الخنصر، فجعل دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، فَلَمْ يَزَلْ صَعِقًا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كَتَبَ اللَّهُ الْأَلْوَاحَ لِمُوسَى وَهُوَ يَسْمَعُ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ فِي لَوْحٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْأَلْوَاحُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى كَانَتْ مِنْ سِدْرِ الْجَنَّةِ، كَانَ طُولُ اللَّوْحِ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: كانت الألواح

[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 إلى 151]

مِنْ يَاقُوتَةٍ. وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ زُمُرُّدٍ وَكِتَابُهَا الذَّهَبُ، كَتَبَهَا اللَّهُ بِيَدِهِ، فَسَمِعَ أهل السموات صَرِيفَ الْأَقْلَامِ. أَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ سَعِيدًا مَا كَانَ أَغْنَاهُ عَنْ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، فَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ وَلَا بِالْحَدْسِ، وَالَّذِي يَغْلِبُ بِهِ الظَّنُّ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّلَفِ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- كَانُوا يَسْأَلُونَ الْيَهُودَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ وَاضْطَرَبَتْ، فَهَذَا يَقُولُ مِنْ خَشَبٍ، وَهَذَا يَقُولُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَهَذَا يَقُولُ مِنْ زُمُرُّدٍ، وَهَذَا يَقُولُ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَهَذَا يَقُولُ مَنْ بُرْدٍ، وَهَذَا يَقُولُ مَنْ حَجَرٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كُلِّ شَيْءٍ أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمَكْتُوبِ فِي الْأَلْوَاحِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْمَكْتُوبِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّنَافِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ قَالَ بجدّ وحزم سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قَالَ: دَارَ الْكُفَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها قَالَ: أُمِرَ مُوسَى أَنْ يَأْخُذَهَا بِأَشَدَّ مِمَّا أُمِرَ بِهِ قَوْمُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ قَالَ: بِطَاعَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ فَخُذْها بِقُوَّةٍ يَعْنِي: بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها قَالَ: بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُونَ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قَالَ: مَصِيرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَنَازِلُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: جَهَنَّمُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مِصْرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ قَالَ: عَنْ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي آيَاتِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ آياتِيَ قَالَ: عَنْ خَلْقِ السّموات وَالْأَرْضِ وَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا، سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِيهَا أَوْ يَعْتَبِرُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَنْزِعُ عَنْهُمْ فهم القرآن. [سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 151] وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)

قَوْلُهُ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ خُرُوجِهِ إِلَى الطُّورِ مِنْ حُلِيِّهِمْ متعلّق ب: اتّخذ أَوْ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَوْ لِلِابْتِدَاءِ، أَوْ لِلْبَيَانِ، وَالْحُلِيُّ: جَمْعُ حَلْيٍ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ مِنْ حُلِيِّهِمْ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمًا بِكَسْرِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وتخفيف الياء، قال النحاس: جمع حلي وحلي وحلي مثل ثدي وثدي وَثِدِيٌّ، وَالْأَصْلُ حَلْوِي أُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ فَانْكَسَرَتِ اللَّامُ لِمُجَاوَرَتِهَا الْيَاءَ وَتُكْسَرُ الْحَاءُ لِكَسْرَةِ اللَّامِ وَضَمُّهَا عَلَى الْأَصْلِ، وَأُضِيفَتْ الْحُلِيُّ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَجُوزُ لِأَدْنَى ملابسة، وعِجْلًا مَفْعُولُ اتَّخَذَ، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ ثَانِيهِمَا مَحْذُوفٌ، أَيِ: اتَّخَذُوا عِجْلًا إلها، وجَسَداً بَدَلٌ مِنْ عِجْلًا، وَقِيلَ: وَصْفٌ لَهُ، وَالْخُوَارُ: الصياح يقال: خار يخور خوارا إذا صاح، وكذلك جأر يجأر جؤارا. وَنُسِبَ اتِّخَاذُ الْعِجْلِ إِلَى الْقَوْمِ جَمِيعًا مَعَ أَنَّهُ اتَّخَذَهُ السَّامِرِيُّ وَحْدَهُ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَهُمْ رَاضُونَ بِفِعْلِهِ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَ مُوسَى قَوْمَهُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَشْرِ الْمَزِيدَةِ، قَالَ السَّامِرِيُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مُطَاعًا فِيهِمْ: إِنَّ مَعَكُمْ حُلِيًّا مِنْ حُلِيٍّ آلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي اسْتَعَرْتُمُوهُ مِنْهُمْ لِتَتَزَيَّنُوا بِهِ فِي الْعِيدِ وَخَرَجْتُمْ وَهُوَ مَعَكُمْ، وَقَدْ أَغْرَقَ اللَّهُ أَهْلَهُ مِنَ الْقِبْطِ فَهَاتُوهَا، فَدَفَعُوهَا إِلَيْهِ فَاتَّخَذَ مِنْهَا الْعِجْلَ الْمَذْكُورَ. قَوْلُهُ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: أَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِأَنَّ هَذَا الَّذِي اتَّخَذُوهُ إِلَهًا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَكْلِيمِهِمْ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ لَهُمْ، أَوْ دَفْعِ ضرّ عنهم وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا أَيْ: طَرِيقًا وَاضِحَةً يَسْلُكُونَهَا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ أَيِ: اتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَكانُوا ظالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي اتِّخَاذِهِ أَوْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: هَذَا الِاتِّخَاذُ. قَوْلُهُ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْ: نَدِمُوا وَتَحَيَّرُوا بَعْدَ عَوْدِ مُوسَى مِنَ الْمِيقَاتِ يُقَالُ لِلنَّادِمِ الْمُتَحَيِّرِ: قَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ سُقِطَ فِي يَدِهِ وَأُسْقِطَ، وَمَنْ قَالَ: سَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، فَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: سَقَطَ النَّدَمُ، وَأَصْلُهُ أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنِ اشْتَدَّ نَدَمُهُ وَحَسْرَتُهُ أَنْ يَعَضَّ يَدَهُ غَمًّا فَتَصِيرُ يَدُهُ مَسْقُوطًا فِيهَا، لِأَنَّ فَاهُ قَدْ وَقَعَ فِيهَا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَالزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ وَغَيْرُهُمْ: مَعْنَى سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ: أَيْ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، كَمَا يُقَالُ: حَصَلَ فِي يَدِهِ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ مُحَالًا أَنْ يَكُونَ فِي الْيَدِ، تَشْبِيهًا لِمَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْيَدِ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَشْيَاءِ فِي الْغَالِبِ بِالْيَدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَيْضًا النَّدَمُ وَإِنْ حَلَّ الْقَلْبَ فَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي الْبَدَنِ، لِأَنَّ النَّادِمَ يَعَضُّ يَدَهُ وَيَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها «1» ومنه وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ «2» أَيْ: مِنَ النَّدَمِ، وَأَيْضًا: النَّادِمُ يَضَعُ ذَقَنَهُ فِي يَدِهِ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا مَعْطُوفٌ عَلَى سُقِطَ، أَيْ: تَبَيَّنُوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا بِاتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ وَأَنَّهُمْ قَدِ ابْتُلُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْفَوْقِيَّةِ فِي الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاللَّامُ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُهُ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْهُمْ مَا يُفِيدُ الِاسْتِغَاثَةَ بِاللَّهِ وَالتَّضَرُّعَ وَالِابْتِهَالَ فِي السُّؤَالِ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ طه إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الْمَحْكِيَّ عَنْهُمْ هُنَا وَقَعَ بَعْدَ رُجُوعِ مُوسَى، وَإِنَّمَا قَدَّمَ هُنَا عَلَى رُجُوعِهِ لِقَصْدِ حِكَايَةِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. قَوْلُهُ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً

_ (1) . الكهف: 42. (2) . الفرقان: 27.

هَذَا بَيَانٌ لِمَا وَقَعَ مِنْ مُوسَى بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَانْتِصَابُ غَضْبَانَ وَأَسِفًا: عَلَى الْحَالِ، وَالْأَسِفُ: شَدِيدُ الْغَضَبِ. قِيلَ: هُوَ مَنْزِلَةٌ وَرَاءَ الْغَضَبِ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهُوَ أَسِفٌ وَأَسِيفٌ وَأَسْفَانُ وَأَسُوفٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: أَخْبَرَهُ اللَّهُ قَبْلَ رُجُوعِهِ بِأَنَّهُمْ قَدْ فُتِنُوا، فَلِذَلِكَ رَجَعَ وَهُوَ غضبان أسفا قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي هَذَا ذَمٌّ مِنْ مُوسَى لِقَوْمِهِ أَيْ: بِئْسَ الْعَمَلُ مَا عَمِلْتُمُوهُ مِنْ بَعْدِي أَيْ: مِنْ بَعْدِ غَيْبَتِي عَنْكُمْ، يُقَالُ: خَلَفَهُ بِخَيْرٍ وَخَلَفَهُ بِشَرٍّ، اسْتَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا فَعَلُوهُ وَذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ قَدْ شَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا يُوجِبُ بَعْضُهُ الِانْزِجَارَ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا شَأْنُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَلَوُّنِ حَالِهِمْ وَاضْطِرَابِ أَفْعَالِهِمْ، ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَالْعَجَلَةُ: التَّقَدُّمُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ، يُقَالُ: عَجِلْتُ الشَّيْءَ: سَبَقْتُهُ، وَأَعْجَلْتُ الرَّجُلَ حَمَلْتُهُ عَلَى الْعَجَلَةِ، وَالْمَعْنَى: أَعْجِلْتُمْ عَنِ انْتِظَارِ أَمْرِ رَبِّكُمْ: أَيْ مِيعَادِهِ الَّذِي وَعَدَنِيهِ، وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ فَفَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: تَعَجَّلْتُمْ سُخْطَ رَبِّكُمْ وَقِيلَ معناه: أعجلتم بعبادة العجل أَنْ يَأْتِيَكُمْ أَمْرُ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أَيْ: طَرَحَهَا لِمَا اعْتَرَاهُ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ وَالْأَسَفِ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى قَوْمِهِ وَهُمْ عَاكِفُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ. قَوْلُهُ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ أَيْ: أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هَارُونَ أَوْ بِشَعْرِ رَأْسِهِ حَالَ كَوْنِهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى السَّامِرِيِّ وَلَا غَيْرِهِ مَا رَآهُ مِنْ عِبَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْعِجْلِ فَقَالَ هَارُونُ مُعْتَذِرًا مِنْهُ: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي أَيْ: إِنِّي لَمْ أُطِقْ تَغْيِيرَ مَا فَعَلُوهُ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: اسْتِضْعَافُهُمْ لِي، وَمُقَارَبَتُهُمْ لِقَتْلِي، وَإِنَّمَا قَالَ ابْنَ أُمَّ مَعَ كَوْنِهِ أَخَاهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، لِأَنَّهَا كَلِمَةُ لِينٍ وَعَطْفٍ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ كَمَا قِيلَ مُؤْمِنَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ كَانَ هَارُونُ أَخَا مُوسَى لِأُمِّهِ لَا لِأَبِيهِ. قُرِئَ ابْنَ أُمَّ بِفَتْحِ الْمِيمِ تَشْبِيهًا لَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، فَصَارَ كَقَوْلِكَ يَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَقْبِلُوا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَاَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّ الْفَتْحَ على تقدير يا ابن أمّ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْأَلِفَ خَفِيفَةٌ لَا تُحْذَفُ، وَلَكِنَّ جَعْلَ الِاسْمَيْنِ اسْمًا وَاحِدًا كَخَمْسَةَ عَشَرَ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الْمِيمِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ ابْنَ أُمِّي، ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ وَأُبْقِيَتِ الْكَسْرَةُ لِتَدُلَّ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَأَبُو حَاتِمٍ: ابْنَ أُمِّ بِالْكَسْرِ، كَمَا تَقُولُ يَا غُلَامِ أَقْبِلْ، وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ وَالْقِرَاءَةُ بِهَا بَعِيدَةٌ، وَإِنَّمَا هَذَا فِيمَا يَكُونُ مُضَافًا إِلَيْكَ. وَقُرِئَ ابْنَ أُمِّي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ. قَوْلُهُ فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ الشَّمَاتَةُ: السُّرُورُ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِمَا يُصِيبُ مَنْ يُعَادُونَهُ مِنَ الْمَصَائِبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ، وَدَرْكِ الشَّقَاءِ، وَجَهْدِ الْبَلَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ ... كَلَاكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا ... سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا وَالْمَعْنَى: لَا تَفْعَلْ بِي مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّمَاتَةِ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ «فَلَا تَشْمَتْ بِيَ الْأَعْدَاءُ» بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الْأَعْدَاءِ، عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِمْ، أَيْ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِفِعْلٍ تَفْعَلُهُ بِي. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ (تُشْمِتْ) كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ مَعَ نَصْبِ الْأَعْدَاءِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَالْمَعْنَى فَلَا تَشْمَتْ بِي أَنْتَ يَا رَبِّ! وَجَازَ هَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمُرَادِ فَأَضْمَرَ فِعْلًا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 152 إلى 154]

نَصَبَ بِهِ الْأَعْدَاءَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تُشْمِتْ يَا رَبِّ بِيَ الْأَعْدَاءَ، وَمَا أَبْعَدَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنِ الصَّوَابِ، وَأَبْعَدَ تَأْوِيلَهَا عَنْ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ. قَوْلُهُ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ: لَا تَجْعَلْنِي بِغَضَبِكَ عَلَيَّ فِي عِدَادِ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، يَعْنِي: الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ أَوْ لَا تَعْتَقِدْ أَنِّي مِنْهُمْ. قَوْلُهُ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ مُوسَى بَعْدَ كَلَامِ هَارُونَ هَذَا؟ فَقِيلَ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ أَوَّلًا، وَلِأَخِيهِ ثَانِيًا لِيُزِيلَ عَنْ أَخِيهِ مَا خَافَهُ مِنَ الشَّمَاتَةِ، فَكَأَنَّهُ تَذَمَّمَ مِمَّا فَعَلَهُ بِأَخِيهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ، وَطَلَبَ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ مِمَّا فَرَطَ مِنْهُ فِي جَانِبِهِ، ثُمَّ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ لِأَخِيهِ إِنْ كَانَ قَدْ وقع منه تقصير فيما يجب عليهم مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَتَغْيِيرِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ، ثُمَّ طَلَبَ إِدْخَالَهُ وَإِدْخَالَ أَخِيهِ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى الْآيَةَ، قَالَ: حِينَ دَفَنُوهَا أَلْقَى عَلَيْهَا السَّامِرِيُّ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: اسْتَعَارُوا حُلِيًّا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَجَمَعَهُ السَّامِرِيُّ فَصَاغَ مِنْهُ عِجْلًا فَجَعَلَهُ جَسَداً لَحْمًا وَدَمًا لَهُ خُوارٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ خُوارٌ قَالَ: الصَّوْتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: خَارَ الْعِجْلُ خورة لم يثن أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ قَالَ: نَدِمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَسِفاً قَالَ: حَزِينًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: الْأَسَفُ: مَنْزِلَةٌ وَرَاءَ الْغَضَبِ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: الْأَسَفُ: الْغَضَبُ الشَّدِيدُ. وَأَخْرَجَ اَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ فَرُفِعَتْ إِلَّا سُدُسَهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: رَفَعَ اللَّهُ مِنْهَا سِتَّةَ أَسْبَاعِهَا وَبَقِيَ سُبُعٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَلْقَاهَا مُوسَى ذَهَبَ التَّفْصِيلُ وَبَقِيَ الْهُدَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كانت تسع رُفِعَ مِنْهَا لَوْحَانِ وَبَقِيَ سَبْعَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ: مَعَ أصحاب العجل. [سورة الأعراف (7) : الآيات 152 الى 154] إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) الْغَضَبُ: مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَمَا سَيَنْزِلُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَالذِّلَّةُ: هِيَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ «1» ، وَقِيلَ: هِيَ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقِيلَ هِيَ الْجِزْيَةُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ ذَرَارِيهِمْ، وَالْأَوْلَى: أَنْ يُقَيَّدَ الغضب والذلة بالدنيا

_ (1) . البقرة: 61.

لِقَوْلِهِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْمُتَّخِذِينَ لِلْعِجْلِ إِلَهًا لَا لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ ذَرَارِيهِمْ، وَمُجَرَّدُ مَا أُمِرُوا بِهِ، مِنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ هُوَ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبِهِ يَصِيرُونَ أَذِلَّاءَ. وَكَذَلِكَ خُرُوجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ هُوَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبِهِ يَصِيرُونَ أَذِلَّاءَ، وَأَمَّا مَا نَالَ ذَرَارِيَهُمْ مِنَ الذِّلَّةِ فَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ مَا فِي الْآيَةِ بِهِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ لَمْ يَتَعَذَّرْ هُنَا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ أي: ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين، والافتراء مثل: الْكَذِبُ، فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ سَيَنَالُهُ مِنَ اللَّهِ غَضَبٌ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِ مَا عُوقِبَ بِهِ هَؤُلَاءِ، بَلِ الْمُرَادُ: مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَنَّ فِيهِ ذِلَّةً بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ أَيَّ سَيِّئَةٍ كَانَتْ ثُمَّ تابُوا عَنْهَا مِنْ بَعْدِ عَمَلِهَا وَآمَنُوا بِاللَّهِ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أَيْ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ التَّوْبَةِ، أَوْ مِنْ بَعْدِ عَمَلِ هَذِهِ السَّيِّئَاتِ الَّتِي قَدْ تَابَ عَنْهَا فَاعِلُهَا وَآمَنَ بِاللَّهِ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْغُفْرَانِ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ، وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لَهُمْ. قَوْلُهُ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَصْلُ السُّكُوتِ: السُّكُونُ وَالْإِمْسَاكُ يُقَالُ: جَرَى الْوَادِي ثَلَاثًا ثُمَّ سَكَنَ أَيْ: أَمْسَكَ عَنِ الْجَرْيِ: قِيلَ: هَذَا مَثَلٌ كَأَنَّ الْغَضَبَ كَانَ يُغْرِيهِ عَلَى مَا فَعَلَ، وَيَقُولُ لَهُ قُلْ لِقَوْمِكَ كَذَا، وَأَلْقِ الْأَلْوَاحَ وَجُرَّ بِرَأْسِ أَخِيكَ فَتَرَكَ الْإِغْرَاءَ وَسَكَتَ وَقِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ فِيهِ قَلْبٌ، وَالْأَصْلُ سَكَتَ مُوسَى عَنِ الْغَضَبِ، كَقَوْلِهِمْ أَدْخَلْتُ الْأُصْبُعَ الْخَاتَمَ، وَالْخَاتَمَ الْأُصْبُعَ، وَأَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ رَأْسِي، وَرَأْسِي الْقَلَنْسُوَةَ. وَقَرَأَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ وَلَمَّا سَكَنَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ وَقُرِئَ سَكَتَ وَأَسْكَتَ أَخَذَ الْأَلْواحَ الَّتِي أَلْقَاهَا عِنْدَ غَضَبِهِ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ النَّسْخُ: نَقْلُ مَا فِي كِتَابٍ إِلَى كِتَابٍ آخَرَ، وَيُقَالُ لِلْأَصْلِ الَّذِي كَانَ النَّقْلُ مِنْهُ، نُسْخَةٌ. وَلِلْمَنْقُولِ: نُسْخَةٌ أَيْضًا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْمَعْنَى: وَفِي نُسْخَتِها: أَيْ فِيمَا نُسِخَ مِنَ الْأَلْوَاحِ الْمُتَكَسِّرَةِ وَنُقِلَ إِلَى الْأَلْوَاحِ الْجَدِيدَةِ هُدىً وَرَحْمَةٌ وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَفِيمَا نُسِخَ لَهُ مِنْهَا، أَيْ: مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَفِيمَا كُتِبَ لَهُ فِيهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَصْلٍ يُنْقَلُ عَنْهُ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: أَنْسِخْ مَا يَقُولُ فُلَانٌ، أَيْ: أَثْبِتْهُ فِي كِتَابِكَ وَالنُّسْخَةُ فُعْلَةٌ، بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ كَالْخُطْبَةِ. وَالْهُدَى: مَا يَهْتَدُونَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالرَّحْمَةُ: مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ عِنْدَ عَمَلِهِمْ بِمَا فِيهَا مِنَ الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ وَاللَّامُ فِي لِلَّذِينَ هُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ لَهُمْ أَوْ لِأَجْلِهِمْ، وَاللَّامُ فِي لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ لِلتَّقْوِيَةِ لِلْفِعْلِ، لِمَا كَانَ مَفْعُولُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَضْعُفُ بِذَلِكَ بَعْضَ الضَّعْفِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْكِسَائِيُّ بِأَنَّهَا زَائِدَةٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ لَامُ الْأَجْلِ أَيْ لِأَجْلِ رَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّذِينَ هُمْ رَهْبَتُهُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: تَلَا أَبُو قِلَابَةَ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَى قَوْلِهِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ قَالَ: هُوَ جَزَاءُ كُلِّ مُفْتَرٍ يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ يُذِلَّهُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: أُعْطِيَ مُوسَى التَّوْرَاةَ فِي سَبْعَةِ أَلْوَاحٍ مِنْ زَبَرْجَدٍ، فِيهَا تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَمَوْعِظَةٌ، وَلَمَّا جَاءَ فَرَأَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عُكُوفًا عَلَى الْعِجْلِ رَمَى التَّوْرَاةَ مِنْ يَدِهِ فَتَحَطَّمَتْ، وَأَقْبَلَ عَلَى هَارُونَ فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَرَفَعَ اللَّهُ مِنْهَا سِتَّةَ أَسْبَاعٍ وَبَقِيَ سُبُعٌ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 إلى 157]

وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ قَالَ: فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ زُمُرُّدٍ فَلَمَّا أَلْقَاهَا مُوسَى ذَهَبَ التَّفْصِيلُ، وَبَقِيَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ، وَقَرَأَ وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَقَرَأَ: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ قَالَ: وَلَمْ يذكر التفصيل هاهنا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 157] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قَوْلُهُ وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا كَانَ مِنْ مُوسَى وَمِنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ. وَسَبْعِينَ: مَفْعُولُ اخْتَارَ، وَقَوْمَهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنْ قَوْمِهِ عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الرَّاعِي: اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إِذْ رَثَّتْ خَلَائِقُهُمْ ... واختلّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عِنْدَهُ السُّولُ يُرِيدُ اخْتَرْتُكَ مِنَ النَّاسِ، وَمَعْنَى لِمِيقاتِنا لِلْوَقْتِ الَّذِي وَقَّتْنَاهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ مِنْ قَوْمِهِ مَا وَقَعَ، وَالْمِيقَاتُ: الْكَلَامُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ إِلَى الطُّورِ فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ كَذَا قِيلَ وَالرَّجْفَةُ فِي اللُّغَةِ: الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ، قِيلَ: إِنَّهُمْ زُلْزِلُوا حَتَّى مَاتُوا، فَلَمَّا رَأَى مُوسَى أَخْذَ الرَّجْفَةِ لَهُمْ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ قَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَسُّرًا وَتَلَهُّفًا، لِأَنَّ سَبَبَ أَخْذِ الرَّجْفَةِ لَهُمْ مَا حَكَى اللَّهُ عنهم من قولهم وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ السَبْعُونَ غَيْرُ مَنْ قَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «1» بَلْ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، بِسَبَبِ عَدَمِ انْتِهَائِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَوْمٌ لَمْ يَرْضَوْا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ وَلَا نَهَوُا السَّامِرِيَّ وَمَنْ مَعَهُ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ بِسَبَبِ سُكُوتِهِمْ، وَالْمَعْنَى: لَوْ شِئْتَ إِهْلَاكَنَا لَأَهْلَكْتَنَا بِذُنُوبِنَا قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ اعْتِرَافًا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالذَّنْبِ، وَتَلَهُّفًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْ قَوْمِهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا لِلْجَحْدِ، أَيْ: لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَهُ ثِقَةً مِنْهُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِعْطَافُ وَالتَّضَرُّعُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ وَالطَّلَبُ، أَيْ: لَا تُهْلِكْنَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِفْهَامِ اسْتِفْهَامُ الْإِعْظَامِ كَأَنَّهُ

_ (1) . البقرة: 55.

يَقُولُ: وَقَدْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ لَا يَهْلِكُ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ كَقَوْلِ عِيسَى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «1» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ: السَّبْعُونَ، والمعنى: أتهلك بني إسرائيل لما فَعَلَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءُ فِي قَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ: السَّامِرِيُّ وَأَصْحَابُهُ. قَوْلُهُ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أَيْ: مَا الْفِتْنَةُ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءُ إِلَّا فِتْنَتُكَ الَّتِي تَخْتَبِرُ بِهَا مَنْ شِئْتَ وَتَمْتَحِنُ بِهَا مَنْ أَرَدْتَ، وَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَفَادَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ «2» تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَيْ: تُضِلُّ بِهَذِهِ الْفِتْنَةِ مَنْ تَشَاءُ مِنْ عِبَادِكَ، وَتَهْدِي بِهَا مَنْ تَشَاءُ مِنْهُمْ، وَمِثْلُهُ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «3» ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الِاسْتِعْطَافِ وَالدُّعَاءِ فَقَالَ أَنْتَ وَلِيُّنا أَيِ: الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِنَا فَاغْفِرْ لَنا مَا أَذْنَبْنَاهُ وَارْحَمْنا بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ لِلذُّنُوبِ وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً بِتَوْفِيقِنَا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، أَوْ تَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِإِفَاضَةِ النِّعَمِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَافِيَةِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَفِي الْآخِرَةِ أَيْ: وَاكْتُبْ لَنَا فِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةَ بِمَا تُجَازِينَا بِهِ، أَوْ بِمَا تَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ، وَجُمْلَةُ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَيْ: إِنَّا تُبْنَا إِلَيْكَ وَرَجَعْنَا عَنِ الْغَوَايَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْهَوْدُ: التَّوْبَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ، وَجُمْلَةُ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَنَظَائِرِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُنَا: الرَّجْفَةُ، وَقِيلَ: أَمْرُهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ بِأَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، أَيْ: لَيْسَ هَذَا إِلَيْكَ يَا مُوسَى، بَلْ مَا شِئْتُ كَانَ، وَمَا لَمْ أَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَذَابَ هُنَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ كُلُّ عَذَابٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ عَذَابُ هَؤُلَاءِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ أَشَاءُ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ، أَوْ مَنْ أَشَاءُ أَنْ أُضِلَّهُ وَأَسْلُبَهُ التَّوْفِيقَ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ سَيَكْتُبُ هَذِهِ الرَّحْمَةَ الْوَاسِعَةَ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الذُّنُوبَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِمْ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ أَيْ: يُصَدِّقُونَ بِهَا وَيُذْعِنُونَ لَهَا، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبَ لَهُمْ هَذِهِ الرَّحْمَةَ بِبَيَانٍ أَوْضَحَ مِمَّا قَبْلَهُ وَأَصْرَحَ فَقَالَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ وَهُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَخَرَجَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَسَائِرُ الْمِلَلِ. وَالْأُمِّيُّ: إِمَّا نِسْبَةٌ إِلَى الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ الَّتِي لَا تَكْتُبُ وَلَا تَحْسِبُ، وَهُمُ الْعَرَبُ، أَوْ نِسْبَةٌ إِلَى الْأُمِّ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حَالَتِهِ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ الْمَكْتُوبَ وَقِيلَ: نِسْبَةٌ إِلَى أُمِّ الْقُرَى، وَهِيَ مَكَّةُ الَّذِي يَجِدُونَهُ يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، أَيْ: يَجِدُونَ نَعْتَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَهُمَا مَرْجِعُهُمْ فِي الدِّينِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ مع موسى هو قَبْلَ نُزُولِ الْإِنْجِيلِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِمَا سَيَكُونُ، ثُمَّ وَصَفَ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ: بِكُلِّ مَا تَعْرِفُهُ الْقُلُوبُ وَلَا تُنْكِرُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ أَيْ: مَا تُنْكِرُهُ الْقُلُوبُ وَلَا تَعْرِفُهُ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ إِلَى قَوْلِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كَلَامٌ يَتَضَمَّنُ تَفْصِيلَ أَحْكَامِ الرَّحْمَةِ الَّتِي وَعَدَ بِهَا، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: هُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ النَّبِيِّ، وَقِيلَ: هُوَ مُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ مَكْتُوباً. قَوْلُهُ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ أَيِ: الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَقِيلَ: يُحِلُّ لَهُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حرّمت عليهم بسبب

_ (1) . المائدة: 118. (2) . طه: 85. (3) . هود: 7.

ذُنُوبِهِمْ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ أَيِ: الْمُسْتَخْبَثَاتِ كَالْحَشَرَاتِ وَالْخَنَازِيرِ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ الْإِصْرُ: الثِّقَلُ، أَيْ: يَضَعُ عَنْهُمُ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ الثَّقِيلَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَقَرَةِ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أَيْ: وَيَضَعُ عَنْهُمُ الْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمُ، الْأَغْلَالُ مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ الَّتِي كَانُوا قَدْ كُلِّفُوهَا فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أَيْ: بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَاتَّبِعُوهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَعَزَّرُوهُ أَيْ: عَظَّمُوهُ وَوَقَّرُوهُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنَعُوهُ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَصْلُ الْعَزْرِ: الْمَنْعُ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعَزَّرُوهُ بِالتَّخْفِيفِ وَنَصَرُوهُ أَيْ: قَامُوا بِنَصْرِهِ عَلَى مَنْ يُعَادِيهِ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أَيِ: اتَّبَعُوا الْقُرْآنَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَعَ نُبُوَّتِهِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَاتَّبَعُوا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ إِلَيْهِ مَعَ اتِّبَاعِهِ بِالْعَمَلِ بِسُنَّتِهِ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، أَوِ اتَّبَعُوا الْقُرْآنَ مُصَاحِبِينَ لَهُ فِي اتِّبَاعِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِ أُولئِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الْفَائِزُونَ بِالْخَيْرِ وَالْفَلَاحِ لَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ الْآيَةَ. قَالَ: كَانَ اللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا، فَاخْتَارَ سَبْعِينَ رَجُلًا فَبَرَزَ بِهِمْ لِيَدْعُوا رَبَّهُمْ، فَكَانَ فِيمَا دَعَوُا اللَّهَ أَنْ قَالُوا: اللَّهُمَّ أَعْطِنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ قَبْلِنَا وَلَا تُعْطِهِ أَحَدًا بَعْدَنَا، فَكَرِهَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ دُعَائِهِمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ مُوسَى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ يَقُولُ: إِنْ هِيَ إِلَّا عَذَابُكَ تُصِيبُ بِهِ مَنْ تَشَاءُ وَتَصْرِفُهُ عَمَّنْ تَشَاءُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم وأبو الشيخ عن مُجَاهِدٍ لِمِيقاتِنا قَالَ: لِتَمَامِ الْمَوْعِدِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ: مَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ قَالَ: بَلِيَّتُكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ قَالَ: مَشِيئَتُكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ السَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ، إِنَّمَا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضَوْا بِالْعَمَلِ وَلَمْ يَنْهَوْا عَنْهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ فَلَمْ يُعْطِهَا مُوسَى قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ إِلَى قَوْلِهِ الْمُفْلِحُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ قَالَ: فَكَتَبَ الرَّحْمَةَ يَوْمئِذٍ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قَالَ: تُبْنَا إِلَيْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن أبي وجرة السَّعْدِيِّ، - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْعَرَبِيَّةِ- قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُدْنَا قِيلَ: فَكَيْفَ؟ قَالَ: هِدْنَا بِكَسْرِ الْهَاءِ؟ يَقُولُ: مِلْنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ قَالَ: وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، وَهِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَمِنْهَا رَحْمَةٌ يَتَرَاحَمُ بِهَا الْخَلْقُ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوُحُوشُ عَلَى أَوْلَادِهَا، وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ مِنْ حَدِيثِ

جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ قَالَ إِبْلِيسُ: وَأَنَا مِنَ الشَّيْءِ، فَنَسَخَهَا اللَّهُ، فَنَزَلَتْ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابن أريج قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ قَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا مِنَ الشَّيْءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ نَتَّقِي وَنُؤْتِي الزَّكَاةَ، قَالَ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ فَعَزَلَهَا اللَّهُ عَنْ إِبْلِيسَ وَعَنِ الْيَهُودِ، وَجَعَلَهَا لِأَمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ مَسْأَلَةً فأعطاها محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، قَوْلُهُ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ إِلَى قَوْلِهِ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ فَأَعْطَى مُحَمَّدًا كُلَّ شَيْءٍ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ قَالَ: كَتَبَهَا اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَتَّقُونَ الشِّرْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ النَّخَعِيِّ فِي قَوْلِهِ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ قَالَ: كَانَ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ أُمِيًّا لَا يَكْتُبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ قَالَ: يَجِدُونَ نَعْتَهُ وَأَمْرَهُ وَنُبُوَّتَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا تَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ تَعْفُو وَتَصْفَحُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعِيدٍ وَالدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِثْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مع اختلاف بعض الألفاظ وزيادة وَنَقْصٍ فِي بَعْضٍ عَنْ جَمَاعَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ قَالَ: الْحَلَالُ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ قَالَ: التَّثْقِيلُ الَّذِي كَانَ فِي دِينِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ قَالَ: كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالرِّبَا وَمَا كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمَآكِلِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِهِ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ قَالَ: هُوَ مَا كَانَ اللَّهُ أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ قَالَ: مَا غَلَّظَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَرْضِ الْبَوْلِ مِنْ جُلُودِهِمْ إِذَا أَصَابَهُمْ وَنَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَعَزَّرُوهُ يعني: عظّموه ووقروه.

[سورة الأعراف (7) : آية 158]

[سورة الأعراف (7) : آية 158] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ أوصاف رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْمَكْتُوبَةِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ الْمُقْتَضِي لِعُمُومِ رِسَالَتِهِ إِلَى النَّاسِ، جَمِيعًا، لَا كَمَا كَانَ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُبْعَثُونَ إِلَى قَوْمِهِمْ خَاصَّةً، وجَمِيعاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أي: حال كونكم جميعا، والَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِمَّا فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى الصِّفَةِ لِلِاسْمِ الشَّرِيفِ أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بَدَلٌ مِنَ الصِّلَةِ، مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِهَا مُبَيِّنٌ لَهَا، لأنّ من ملك السموات وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا هُوَ الْإِلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهَكَذَا مَنْ كَانَ يُحْيِي وَيُمِيتُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِتَفَرُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، وَهُمَا وَصْفَانِ لِرَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَصْفٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ أَوِ الْقُرْآنُ فَقَطْ، وَجُمْلَةُ وَاتَّبِعُوهُ مُقَرِّرَةٌ لِجُمْلَةِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ، ولَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَالِاتِّبَاعِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعْثُ الله محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَشْهُورَةٌ فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ قَالَ: آيَاتُهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَكَلِماتِهِ قال: عيسى. [سورة الأعراف (7) : الآيات 159 الى 166] وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)

قَوْلُهُ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى لَمَّا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مَا وَقَعَ مِنَ السَّامِرِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَمَا حَصَلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ التَّزَلْزُلِ فِي الدِّينِ، قَصَّ عَلَيْنَا سُبْحَانَهُ أَنَّ مِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةً مُخَالِفَةً لِأُولَئِكَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أَيْ: يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْهِدَايَةِ حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَلَبِّسِينَ بِالْحَقِّ وَبِهِ أَيْ: بِالْحَقِّ يَعْدِلُونَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحُكْمِ وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ. قَوْلُهُ: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِ مُوسَى الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ، لَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْأُمَّةِ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، وَالْمَعْنَى: صَيَّرْنَاهُمْ قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً وَمَيَّزْنَا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَيَّزَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى صَارُوا أَسْبَاطًا، كُلُّ سِبْطٍ مَعْرُوفٌ عَلَى انْفِرَادِهِ، لِكُلِّ سِبْطٍ نَقِيبٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً «1» وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ هو ثاني مَفْعُولَيْ قَطَّعْنَا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ، وَأَسْبَاطًا: تَمْيِيزٌ له، أو بدل منه، وأُمَماً نَعْتٌ لِلْأَسْبَاطِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَالْأَسْبَاطُ: جَمْعُ سِبْطٍ: وَهُوَ وَلَدُ الْوَلَدِ، صَارُوا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُمَّةً مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا، وَأَرَادَ بِالْأَسْبَاطِ: الْقَبَائِلَ، وَلِهَذَا أُنِّثَ الْعَدَدُ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا عَشْرُ أَبْطُنٍ ... وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِهَا الْعَشْرِ أَرَادَ بِالْبَطْنِ: الْقَبِيلَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْأَسْبَاطِ فِي الْبَقَرَةِ، وَرَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ قَطَّعْناهُمُ مُخَفَّفًا، وَسَمَّاهُمْ أُمَمًا، لِأَنَّ كُلَّ سِبْطٍ كَانَ جَمَاعَةً كَثِيرَةَ الْعَدَدِ، وَكَانُوا مُخْتَلِفِي الْآرَاءِ يَؤُمُّ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مَا يَؤُمُّهُ الْآخَرُ وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَيْ: وَقْتَ اسْتِسْقَائِهِمْ لَهُ لَمَّا أَصَابَهُمُ الْعَطَشُ فِي التِّيهِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ الْإِيحَاءِ فَانْبَجَسَتْ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ: فَضَرَبَ فَانْبَجَسَتْ، وَالِانْبِجَاسُ: الِانْفِجَارُ، أَيْ: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً بِعَدَدِ الْأَسْبَاطِ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ يَشْرَبُونَ مِنْهَا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ أَيْ: كُلُّ سِبْطٍ مِنْهُمُ الْعَيْنَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ الَّتِي يَشْرَبُ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ مُغْنِيَةٌ عَنِ الْإِعَادَةِ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ أَيْ: جَعَلْنَاهُ ظُلَلًا عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ، يَسِيرُ بِسَيْرِهِمْ، وَيُقِيمُ بِإِقَامَتِهِمْ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أَيِ: التَّرَنْجَبِينَ وَالسَّمَّانِيَّ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي الْبَقَرَةِ كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمْ كُلُوا مِنَ الْمُسْتَلَذَّاتِ الَّتِي رَزَقْنَاكُمْ وَما ظَلَمُونا بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَكُفْرَانِ النِّعَمِ وَعَدَمِ تَقْدِيرِهَا حَقَّ قَدْرِهَا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أَيْ: كَانَ ظُلْمُهُمْ مُخْتَصًّا بِهِمْ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ، لَا يُجَاوِزُهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ أَيْ: وَاذْكُرْ وَقْتَ قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ وَهُوَ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ أي: ببيت المقدس أو أريحاء، وقيل:

_ (1) . المائدة: 12.

غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَكُلُوا مِنْها أَيْ: مِنَ الْمَأْكُولَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِيهَا حَيْثُ شِئْتُمْ أَيْ: فِي أَيِّ مَكَانٍ شِئْتُمْ مِنْ أَمْكِنَتِهَا لَا مَانِعَ لَكُمْ مِنَ الْأَكْلِ فِيهِ وَقُولُوا حِطَّةٌ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي الْبَقَرَةِ وَادْخُلُوا الْبابَ أَيْ: بَابَ الْقَرْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَالَ كَوْنِكُمْ سُجَّداً أُمِرُوا بِأَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ قَوْلِهِمْ حِطَّةً، وَبَيْنَ الدُّخُولِ سَاجِدِينَ، فَلَا يُقَالُ كَيْفَ قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالْقَوْلِ هُنَا عَلَى الدُّخُولِ وَأَخَّرَهُ فِي الْبَقَرَةِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى السُّجُودِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ جَوَابُ الْأَمْرِ. وقرئ خطيتكم ثُمَّ وَعَدَهُمْ بِقَوْلِهِ: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ أَيْ: سَنَزِيدُهُمْ عَلَى الْمَغْفِرَةِ لِلْخَطَايَا بِمَا يُتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا لَهُمْ بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ؟ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ أَيْ: عَذَابًا كَائِنًا مِنْهَا بِما كانُوا يَظْلِمُونَ أَيْ: بِسَبَبِ ظلمهم. قوله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ مَعْطُوفٌ عَلَى عَامِلِ إِذِ الْمُقَدَّرِ، أَيِ: اذْكُرْ إِذْ قِيلَ لَهُمْ وَاسْأَلْهُمْ، وَهَذَا سُؤَالُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، وَالْمُرَادُ مِنْ سُؤَالِ الْقَرْيَةِ: سُؤَالُ أَهْلِهَا، أَيِ: اسْأَلْهُمْ عَنْ هَذَا الْحَادِثِ الَّذِي حَدَثَ لَهُمْ فِيهَا الْمُخَالِفِ لِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ. وَفِي ضِمْنِ هَذَا السُّؤَالِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَهِيَ تَعْرِيفُ الْيَهُودِ بِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَنَّ اطِّلَاعَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِخْبَارٍ لَهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ: أَيُّ قَرْيَةٍ هِيَ؟ فَقِيلَ: أَيْلَةُ، وَقِيلَ: طَبَرِيَّةُ، وَقِيلَ: مَدْيَنُ، وَقِيلَ: إِيلِيَا، وَقِيلَ: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى سَاحِلِ الشَّامِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ أَيِ: الَّتِي كَانَتْ بِقُرْبِ الْبَحْرِ، يُقَالُ كُنْتُ بِحَضْرَةِ الدَّارِ أَيْ: بِقُرْبِهَا. وَالْمَعْنَى: سَلْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الْمَوْجُودِينَ عَنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ. قُرِئَ «وَاسْأَلْهُمْ» وَقُرِئَ «سَلْهُمْ» . إِذْ يَعْدُونَ أَيْ: وَقْتَ يَعْدُونَ، وَهُوَ ظَرْفٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، لِأَنَّ السُّؤَالَ هُوَ عَنْ حَالِهِمْ وَقِصَّتِهِمْ وَقْتَ يَعْدُونَ وَقِيلَ: إِنَّهُ ظَرْفٌ لِكَانَتْ أَوْ لِحَاضِرَةٍ. وَقُرِئَ «يُعِدُّونَ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ الْإِعْدَادِ لِلْآلَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَعْدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الدَّالِ مُخَفَّفَةً، أَيْ: يَتَجَاوَزُونَ حُدُودَ اللَّهِ بِالصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ الَّذِي نُهُوا عَنِ الِاصْطِيَادِ فِيهِ، وَقُرِئَ «يَعَدُّونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْعَيْنِ وَضَمِّ الدال مشدّدة، وبمعنى يَعْتَدُونَ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ. وَالسَّبْتُ: هُوَ الْيَوْمُ الْمَعْرُوفُ، وَأَصْلُهُ السُّكُونُ، يُقَالُ سَبَتَ إِذَا سَكَنَ وَسَبَتَ الْيَهُودُ تَرَكُوا الْعَمَلَ فِي سَبْتِهِمْ، والجمع أسبت، وسبوت، وأسبات، وقرأ ابن السميقع فِي «الْأَسْبَاتِ» عَلَى الْجَمْعِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظَرْفٌ لِيَعْدُونَ. وَالْحِيتَانُ: جَمْعُ حُوتٍ وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ لِمَزِيدِ اخْتِصَاصٍ لَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْإِتْيَانِ يَوْمَ السَّبْتِ دُونَ ما عداه، ويَوْمَ سَبْتِهِمْ ظرف لتأتيهم. وقرئ «يوم أسباتهم» وشُرَّعاً حَالٌ، وَهُوَ جَمْعُ شَارِعٍ، أَيْ: ظَاهِرَةً عَلَى الْمَاءِ، وَقِيلَ: رَافِعَةً رُؤُوسَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ تشرع على أبوابهم كَالْكِبَاشِ الْبِيضِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: يُقَالُ: شَرَعَ علينا فلان: إذا أدنى مِنَّا، وَأَشْرَفَ عَلَيْنَا، وَشَرَعْتُ عَلَى فُلَانٍ فِي بَيْتِهِ، فَرَأَيْتُهُ يَفْعَلُ كَذَا، انْتَهَى وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ أَيْ: لَا يَفْعَلُونَ السَّبْتَ، وَذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ يَوْمِ السَّبْتِ لَا تَأْتِيهِمُ الْحِيتَانُ كَمَا كَانَتْ تَأْتِيهِمْ فِي يَوْمِ السَّبْتِ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أَيْ:

مِثْلَ ذَلِكَ الْبَلَاءِ الْعَظِيمِ نَبْلُوهُمْ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ، وَالِابْتِلَاءُ: الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى إِذْ يَعْدُونَ مَعْمُولٌ لِعَامِلِهِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهِ، وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ، أَيْ: قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ صُلَحَاءِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِآخَرِينَ مِمَّنْ كَانَ يَجْتَهِدُ فِي وَعْظِ الْمُتَعَدِّينَ فِي السَّبْتِ حِينَ أَيِسُوا مِنْ قَبُولِهِمْ لِلْمَوْعِظَةِ، وَإِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَيْ: مُسْتَأْمَلٌ لَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً بِمَا انْتَهَكُوا مِنَ الْحُرْمَةِ، وَفَعَلُوا مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَمَاعَةَ الْقَائِلَةَ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا؟ هُمُ الْعُصَاةُ الْفَاعِلُونَ لِلصَّيْدِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، قَالُوا ذَلِكَ لِلْوَاعِظِينَ لَهُمْ حِينَ وَعَظُوهُمْ. وَالْمَعْنَى: إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ مُهْلِكُنَا كَمَا تَزْعُمُونَ فَلِمَ تَعِظُونَنَا قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أَيْ: قَالَ الْوَاعِظُونَ لِلْجَمَاعَةِ الْقَائِلِينَ لَهُمْ لِمَ تَعِظُونَ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ صُلَحَاءِ الْقَرْيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَوِ الْفَاعِلِينَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ قَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ مَعْذِرَةً بِالنَّصْبِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَنَصْبُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالثَّانِي: عَلَى تَقْدِيرِ فَعَلْنَا ذَلِكَ مَعْذِرَةً، أَيْ: لِأَجْلِ الْمَعْذِرَةِ. وَالرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ حَتَّى لَا يُؤَاخِذَنَا بِتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ اللَّذَيْنِ أَوْجَبَهُمَا عَلَيْنَا، وَلِرَجَاءِ أَنْ يَتَّعِظُوا فَيَتَّقُوا وَيُقْلِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ عَصَتْ وَصَادَتْ وَكَانَتْ نَحْوَ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَفِرْقَةٌ اعْتَزَلَتْ فَلَمْ تَنْهَ وَلَمْ تَعْصِ، وَفِرْقَةٌ اعْتَزَلَتْ وَنَهَتْ وَلَمْ تَعْصِ، فَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَمْ تَنْهَ وَلَمْ تَعْصِ لِلْفِرْقَةِ النَّاهِيَةِ: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً يُرِيدُونَ: الْفِرْقَةَ الْعَاصِيَةَ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ لِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ اللَّهِ مِنْ إِهْلَاكِ الْعُصَاةِ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ مِنْ دُونِ اسْتِئْصَالٍ بِالْهَلَاكِ، فَقَالَتِ النَّاهِيَةُ: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ، وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، وَلَوْ كَانُوا فِرْقَتَيْنِ فَقَطْ نَاهِيَةً غَيْرَ عَاصِيَةٍ، وَعَاصِيَةً، لَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. قَوْلُهُ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَيْ: لَمَّا تَرَكَ الْعُصَاةُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ مَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ الصَّالِحُونَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ تَرْكَ النَّاسِي لِلشَّيْءِ الْمُعْرِضِ عَنْهُ كُلِّيَّةَ الْإِعْرَاضِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ أَيِ: الَّذِينَ فَعَلُوا النَّهْيَ، وَلَمْ يَتْرُكُوهُ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَهُمُ الْعُصَاةُ الْمُعْتَدُونَ فِي السَّبْتِ بِعَذابٍ بَئِيسٍ أَيْ: شَدِيدٍ، مِنْ بَؤُسَ الشَّيْءُ يَبْؤُسُ بَأْسًا إِذَا اشْتَدَّ، وَفِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ قِرَاءَةً لِلسَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أَيْ: بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِأَخَذْنَا فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ أَيْ: تَجَاوَزُوا الْحَدَّ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَمَرُّدًا وَتَكَبُّرًا قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً أَيْ: أَمَرْنَاهُمْ أَمْرًا كَوْنِيًا لَا أَمْرًا قَوْلِيًّا، أَيْ: مَسَخْنَاهُمْ قِرَدَةً، قِيلَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَذَّبَهُمْ أَوَّلًا بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ فَلَمَّا لَمْ يُقْلِعُوا مَسَخَهُمْ قِرَدَةً وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَأَنَّ الْمَسْخَ هُوَ الْعَذَابُ الْبَئِيسُ، وَالْخَاسِئُ: الصَّاغِرُ الذَّلِيلُ أَوِ الْمُبَاعَدُ الْمَطْرُودُ، يُقَالُ: خَسَأْتُهُ فَخُسِئَ، أَيْ: بَاعَدْتُهُ فَتَبَاعَدَ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا الْفِرْقَةُ النَّاهِيَةُ الَّتِي لَمْ تَعْصِ لِقَوْلِهِ: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَنَّهُ لَمْ يُعَذَّبْ بِالْمَسْخِ إِلَّا الطَّائِفَةُ الْعَاصِيَةُ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَإِنْ كَانَتِ الطَّوَائِفُ مِنْهُمْ ثَلَاثًا كَمَا تَقَدَّمَ فَالطَّائِفَةُ الَّتِي لَمْ تَنْهَ وَلَمْ تَعْصِ يَحْتَمِلُ

أَنَّهَا مَمْسُوخَةٌ مَعَ الطَّائِفَةِ الْعَاصِيَةِ لِأَنَّهَا قَدْ ظَلَمَتْ نَفْسَهَا بِالسُّكُوتِ عَنِ النَّهْيِ وَعَتَتْ عَمَّا نَهَاهَا اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَرْكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ تُمْسَخْ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ظَالِمَةً لِنَفْسِهَا عَاتِيَةً عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَنَهْيِهِ لَكِنَّهَا لَمْ تَظْلِمْ نَفْسَهَا بِهَذِهِ الْمَعْصِيَةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ صَيْدُ الْحُوتِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَلَا عَتَتْ عَنْ نَهْيِهِ لَهَا عَنِ الصَّيْدِ وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ نَاهِيَةً كَالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ طَائِفَةً مُسْتَقِلَّةً لِكَوْنِهَا قَدْ جَرَتِ الْمُقَاوَلَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى مِنَ النَّاهِينَ الْمُعْتَزِلِينَ، فَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي النَّهْيِ وَالِاعْتِزَالِ وَالنَّجَاةِ مِنَ الْمَسْخِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ! أَجِدُ أُمَّةً أَنَاجِيلُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةٌ تَكُونُ بَعْدَكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ: يَا رَبِّ! أَجِدُ أُمَّةً يُصَلُّونَ الْخَمْسَ تَكُونُ كَفَّارَاتٍ لِمَا بَيْنَهُنَّ، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةٌ تَكُونُ بَعْدَكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ: يَا رَبِّ! أَجِدُ أُمَّةً يُعْطُونَ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ ثُمَّ تَرْجِعُ فِيهِمْ فَيَأْكُلُونَ، قَالَ: تِلْكَ بَعْدَكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ: يَا رَبِّ! اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ كَهَيْئَةِ الْمَرْضَاةِ «1» لِمُوسَى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ الْآيَةَ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا قَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ وَكَفَرُوا وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا، تَبَرَّأَ سِبْطٌ مِنْهُمْ مِمَّا صَنَعُوا، وَاعْتَذَرُوا، وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ فَسَارُوا فِيهِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ وَرَاءِ الصِّينِ فَهُمْ هُنَالِكَ حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ يَسْتَقْبِلُونَ قِبْلَتَنَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً «2» ووعد الآخرة: عيسى بن مَرْيَمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَارُوا فِي السِّرْبِ سَنَةً وَنِصْفًا. أَقُولُ: وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ الْعَجِيبِ وَالنَّبَأِ الْغَرِيبِ مُحْتَاجٌ إِلَى تَصْحِيحِ النَّقْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: افْتَرَقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى بَعْدَ عِيسَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً، وَلَتَفْتَرِقَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً، فَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فَهَذِهِ الَّتِي تَنْجُو، وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ «3» فَهَذِهِ الَّتِي تَنْجُو، وَأَمَّا نَحْنُ فَيَقُولُ: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ «4» فَهَذِهِ الَّتِي تَنْجُو مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنَّ زِيَادَةَ كُلُّهَا فِي النَّارِ لَمْ تَصِحَّ لَا مَرْفُوعَةً وَلَا مَوْقُوفَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَانْبَجَسَتْ قَالَ: فَانْفَجَرَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عباس، وهو يقرأ هذه الآية وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قَالَ: يَا عِكْرِمَةُ! هَلْ تَدْرِي أَيَّ قَرْيَةٍ هَذِهِ؟ قُلْتُ لَا، قَالَ: هِيَ أَيْلَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: هِيَ طَبَرِيَّةُ. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس

_ (1) . أي: ترضية له. (2) . الإسراء: 104. (3) . المائدة: 66. (4) . الأعراف: 181.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 167 إلى 170]

فِي قَوْلِهِ: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ قَالَ: يَظْلِمُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: شُرَّعاً يَقُولُ: مِنْ كُلِّ مَكَانٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: ظَاهِرَةً عَلَى الْمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: وَارِدَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هِيَ قَرْيَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ بَيْن مِصْرَ وَالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهَا أَيْلَةُ، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ فَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَإِذَا مَضَى يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، فَمَكَثُوا كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ أَخَذُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ فَنَهَتْهُمْ طَائِفَةٌ، فَلَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا غَيًّا. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النُّهَاةِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ وَكَانُوا أَشَدَّ غَضَبًا مِنَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى وَكُلٌّ قَدْ كَانُوا يَنْهَوْنَ، فَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ نَجَتْ الطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ قَالُوا لِمَ تَعِظُونَ وَالَّذِينَ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَأَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْحِيتَانَ فَجَعَلَهُمْ قِرَدَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَنَّهُمْ ثَلَاثُ فِرَقٍ: فِرْقَةُ العصاة، وفرقة الناهون، وفرقة القائلون لِمَ تَعِظُونَ فَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ، فَأَصْبَحَ الَّذِينَ نَهَوْا ذَاتَ غَدَاةٍ فِي مَجَالِسِهِمْ يَتَفَقَّدُونَ النَّاسَ لَا يَرَوْنَهُمْ، وَقَدْ بَاتُوا مِنْ لَيْلَتِهِمْ وَغَلَّقُوا عَلَيْهِمْ دُورَهُمْ. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ إِنَّ لِلنَّاسِ لَشَأْنًا فَانْظُرُوا مَا شَأْنُهُمْ؟ فَاطَّلَعُوا فِي دَوْرِهِمْ فَإِذَا الْقَوْمُ قَدْ مُسِخُوا يَعْرِفُونَ الرَّجُلَ بِعَيْنِهِ وَإِنَّهُ لَقِرْدٌ، وَالْمَرْأَةَ بِعَيْنِهَا وَإِنَّهَا لَقِرْدَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سننه عن عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَفِي آخِرِهَا أَنَّهُ قَالَ: فَأَرَى الَّذِينَ نَهَوْا قَدْ نَجَوْا وَلَا أَرَى الْآخَرِينَ ذُكِرُوا، وَنَحْنُ نَرَى أَشْيَاءَ نُنْكِرُهَا وَلَا نَقُولُ فِيهَا. قَالَ عِكْرِمَةُ: فَقُلْتُ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَرِهُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفُوهُمْ، وَقَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ قَالَ: فَأَمَرَ بِي فَكُسِيتُ ثَوْبَيْنِ غَلِيظَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: نَجَا النَّاهُونَ وَهَلَكَ الْفَاعِلُونَ، وَلَا أَدْرِي مَا صُنِعَ بِالسَّاكِتِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَنْ أَكُونَ عَلِمْتُ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ قَالُوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً نَجَوْا مَعَ الَّذِينَ نَهَوْا عَنِ السُّوءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَدَلَ بِهِ. وَفِي لَفْظٍ: مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ. وَلَكِنْ أَخَافَ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ نَزَلَتْ بِهِمْ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَدْرِي أَنَجَا الَّذِينَ قَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَمْ لَا؟ قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَبْصُرُهُ حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فَكَسَانِي حُلَّةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ: مُسِخُوا حِجَارَةً الَّذِينَ قَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِعَذابٍ بَئِيسٍ قال: أليم وجيع. [سورة الأعراف (7) : الآيات 167 الى 170] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

قَوْلُهُ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَاسْأَلْهُمْ وَقْتَ تَأَذَّنَ رَبُّكَ، وَتَأَذَّنَ: تَفَعَّلَ، مِنِ الْإِيذَانِ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: آذَنَ بِالْمَدِّ: أَعْلَمَ، وَأَذَّنَ بِالتَّشْدِيدِ: نَادَى. وَقَالَ قَوْمٌ: كِلَاهُمَا بِمَعْنَى أَعْلَمَ كَمَا يُقَالُ أَيْقَنَ وَتَيَقَّنَ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: وَاسْأَلْهُمْ وَقْتَ أَنْ وَقَعَ الْإِعْلَامُ لَهُمْ مِنْ رَبِّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ قِيلَ: وَفِي هَذَا الْفِعْلِ مَعْنَى الْقَسَمِ كَعَلِمَ اللَّهُ وَشَهِدَ اللَّهُ، وَلِذَلِكَ أُجِيبُ بِمَا يُجَابُ بِهِ الْقَسَمُ حَيْثُ قَالَ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ أَيْ: لَيُرْسِلَنَّ عَلَيْهِمْ وَيُسَلِّطَنَّ كَقَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ «1» ، إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ غَايَةً لِسَوْمِهِمْ سُوءَ الْعَذَابِ ممن يبعثه الله عليهم، وقد كانوا أبقاهم اللَّهُ هَكَذَا أَذِلَّاءَ مُسْتَضْعَفِينَ مُعَذَّبِينَ بِأَيْدِي أَهْلِ الْمِلَلِ، وَهَكَذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي كُلِّ قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ فِي الذِّلَّةِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَيْهِمْ وَالْعَذَابِ وَالصَّغَارِ، يُسَلِّمُونَ الْجِزْيَةَ بِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَيَمْتَهِنُهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا فِيهِ ذِلَّةٌ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَنَزَّهُ عَنْهَا غَيْرُهُمْ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ. وَمَعْنَى يَسُومُهُمْ يُذِيقُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَصْلِ مَعْنَاهُ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ يُعَاجِلُ بِهِ فِي الدنيا كما وقع لهؤلاء وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: فَرَّقْنَاهُمْ فِي جَوَانِبِهَا، أَوْ شَتَّتْنَا أَمْرَهُمْ فَلَمْ تَجْتَمِعْ لَهُمْ كَلِمَةٌ، وأُمَماً مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَطَّعْنَا عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى صَيَّرْنَا، وَجُمْلَةُ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ بَدَلٌ مِنْ أُمَماً، قِيلَ: هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ غَيْرَ مُبَدِّلٍ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ سَكَنُوا وَرَاءَ الصِّينِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلَ هَذَا وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أَيْ: دُونَ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي اتَّصَفَتْ بِهِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى وَهُوَ الصَّلَاحُ، وَمَحَلُّ دُونَ ذلِكَ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنْهُمْ أُنَاسٌ دُونَ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ: هُمْ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، بَلِ انْهَمَكَ فِي الْمُخَالَفَةِ لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: دُونَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ أَيِ: امْتَحَنَّاهُمْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعُوا مِمَّا هُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ الْمُرَادُ بِهِمْ أَوْلَادُ الَّذِينَ قَطَّعَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْخَلْفُ بِسُكُونِ اللَّامِ: الْأَوْلَادُ، الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ. وَالْخَلَفُ بِفَتْحِ اللَّامِ: الْبَدَلُ ولدا كان أو غيره. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخَلَفُ بِالْفَتْحِ: الصَّالِحُ، وَبِالسُّكُونِ: الطَّالِحُ. قَالَ لَبِيَدٌ: ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّدِيءِ مِنَ الْكَلَامِ خَلْفٌ بِالسُّكُونِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: لَنَا الْقَدَمُ الْأُولَى إِلَيْكَ وَخَلْفُنَا ... لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ وَرِثُوا الْكِتابَ أَيِ: التَّوْرَاةَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ يَقْرَءُونَهَا وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى

_ (1) . الإسراء: 5. [.....]

أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ وَقُوَّةِ نَهْمَتِهِمْ، وَالْأَدْنَى: مَأْخُوذٌ مِنَ الدُّنُوِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ، أَيْ: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الشَّيْءِ الْأَدْنَى، وَهُوَ الدُّنْيَا يَتَعَجَّلُونَ مَصَالِحَهَا بِالرِّشَاءِ وَمَا هُوَ مَجْعُولٌ لَهُمْ مِنَ السُّحْتِ فِي مُقَابَلَةِ تَحْرِيفِهِمْ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَتَهْوِينِهِمْ لِلْعَمَلِ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَكَتْمِهِمْ لِمَا يَكْتُمُونَهُ مِنْهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْأَدْنَى مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّنَاءَةِ وَالسُّقُوطِ، أَيْ: إِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عَرَضَ الشَّيْءِ الدَّنِيءِ السَّاقِطِ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا أَيْ: يُعَلِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ مَعَ تَمَادِيهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَعَدَمِ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ، وَجُمْلَةُ يَأْخُذُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ حَالِهِمْ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ: التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ لَهُمْ، وَجُمْلَةُ وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَتَعَلَّلُونَ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ إِذَا أَتَاهُمْ عَرَضٌ مِثْلُ الْعَرَضِ الَّذِي كَانُوا يَأْخُذُونَهُ أَخَذُوهُ غَيْرَ مُبَالِينَ بِالْعُقُوبَةِ وَلَا خائفين من التبعة وقيل: الضمير في يَأْتِهِمْ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ، أَيْ: وَإِنْ يَأْتِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ هُمْ فِي عَصْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَرَضٌ مِثْلُ الْعَرَضِ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُهُ أَسْلَافُهُمْ أَخَذُوهُ كَمَا أَخَذَهُ أَسْلَافُهُمْ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَيِ: التَّوْرَاةِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَجُمْلَةُ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى يُؤْخَذْ عَلَى الْمَعْنَى، وَقِيلَ: عَلَى وَرِثُوا الْكِتابَ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ قَدْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِالْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ، وَالْحَالُ أَنْ قَدْ دَرَسُوا مَا فِي الْكِتَابِ وَعَلِمُوهُ، فَكَانَ التَّرْكُ مِنْهُمْ عَنْ عِلْمٍ لَا عَنْ جَهْلٍ، وَذَلِكَ أَشَدُّ ذَنْبًا وَأَعْظَمُ جُرْمًا. وَقِيلَ: مَعْنَى دَرَسُوا مَا فِيهِ أَيْ: مَحْوَهُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْفَهْمِ لَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ دَرَسَتِ الرِّيحُ الْآثَارَ: إِذَا مَحَتْهَا وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَرَضِ الَّذِي أَخَذُوهُ وَآثَرُوهُ عَلَيْهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ وَيَجْتَنِبُونَ مَعَاصِيهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ فَتَعْلَمُونَ بِهَذَا وَتَفْهَمُونَهُ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُمَسِّكُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ مَسَّكَ وَتَمَسَّكَ، أَيِ: اسْتَمْسَكَ بِالْكِتَابِ: وَهُوَ التَّوْرَاةُ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بالتخفيف من أمسك ويمسك. وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ مَسَكُوا وَالْمَعْنَى: أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَتَمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مَعَ كَوْنِهِمْ قَدْ دَرَسُوهُ وَعَرَفُوهُ وَهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَطَائِفَةٌ يَتَمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ، أَيِ: التَّوْرَاةِ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ وَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، فَهُمُ الْمُحْسِنُونَ الَّذِينَ لَا يَضِيعُ أَجْرُهُمْ عند الله، والموصول: مبتدأ، وإِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ خَبَرُهُ، أَيْ: لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَى الصَّلَاةِ مَعَ كَوْنِهَا دَاخِلَةً فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُتَمَسِّكُونَ بِالتَّوْرَاةِ لِأَنَّهَا رَأَسُ الْعِبَادَاتِ وَأَعْظَمُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ وَجْهًا لِتَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُقَامُ فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ مُسْتَمِرٌّ فَذُكِرَتْ لِهَذَا، وَفِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ فِي الْغَالِبِ تَخْتَصُّ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وَلِكَوْنِ أَفَلا تَعْقِلُونَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ قَالَ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسُوءُ الْعَذَابِ: الْجِزْيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ

[سورة الأعراف (7) : آية 171]

عَنْهُ قَالَ: سُوءَ الْعَذابِ الْخَرَاجُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَقَطَّعْناهُمُ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ بَسَطَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، فَلَيْسَ مِنْهَا بُقْعَةٌ إِلَّا وَفِيهَا عِصَابَةٌ مِنْهُمْ وَطَائِفَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي قَوْلِهِ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ قَالَ: عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَأْخُذُونَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً قَالَ: يَهُودُ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَهُمْ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ قَالَ: الْيَهُودُ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ قَالَ: الرَّخَاءِ وَالْعَافِيَةِ وَالسَّيِّئاتِ قَالَ: الْبَلَاءِ وَالْعُقُوبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ بِالْخِصْبِ وَالْجَدْبِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى قَالَ: أَقْوَامٌ يُقْبِلُونَ عَلَى الدُّنْيَا فَيَأْكُلُونَهَا وَيَتَّبِعُونَ رُخَصَ الْقُرْآنِ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا أَخَذُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قَالَ: النَّصَارَى يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى قَالَ: مَا أَشْرَفَ لَهُمْ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا حَلَالًا أَوْ حَرَامًا يَشْتَهُونَهُ أَخَذُوهُ ويتمنون المغفرة، وإن يجدوا آخر مِثْلَهُ يَأْخُذُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ الْآيَةَ، يَقُولُ: يَأْخُذُونَ مَا أَصَابُوا وَيَتْرُكُونَ مَا شَاؤُوا مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فِيمَا يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ مِنْ غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي لَا يَزَالُونَ يَعُودُونَ إِلَيْهَا وَلَا يَتُوبُونَ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ قَالَ: عَلِمُوا مَا فِي الْكِتَابِ، لَمْ يَأْتُوهُ بِجَهَالَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قَالَ: هِيَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وأبو الشيخ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قَالَ: من اليهود والنصارى. [سورة الأعراف (7) : آية 171] وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) قَوْلُهُ: وَإِذْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَاسْأَلْهُمْ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ أَيْ: رَفَعْنَا الجبل فَوْقَهُمْ وكَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أَيْ: كَأَنَّهُ لِارْتِفَاعِهِ سَحَابَةٌ تُظِلُّهُمْ، وَالظُّلَّةُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا أَظَلَّ، وَقُرِئَ «طُلَّةٌ» بِالطَّاءِ، مِنْ أَطَلَّ عَلَيْهِ إِذَا أَشْرَفَ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أَيْ: سَاقِطٌ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى بَابِهِ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمْ خُذُوا، وَالْقُوَّةُ: الْجِدُّ وَالْعَزِيمَةُ، أَيْ: أَخْذًا كَائِنًا بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تُنْسُوهُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رَجَاءَ أَنْ تَتَّقُوا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ وَتَعْمَلُوا بِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَا هُنَا فِي الْبَقَرَةِ مستوفى فلا نعيده.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 إلى 174]

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ يَقُولُ: رَفَعْنَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ «1» فَقَالَ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَإِلَّا أَرْسَلْتُهُ عَلَيْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: رَفَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ فَكَانُوا إِذَا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى الْكِتَابِ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ لِمَ تَسْجُدُ الْيَهُودُ عَلَى حَرْفٍ، قَالَ اللَّهُ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ قَالَ: لَتَأْخُذُنَّ أَمْرِي أَوْ لَأَرْمِيَنَّكُمْ بِهِ، فَسَجَدُوا وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ مَخَافَةَ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ سَجْدَةً رَضِيَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَاتَّخَذُوهَا سُنَّةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ قَالَ: انْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَصْلِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: لَتَأْخُذُنَّ أمري أو لأرمينكم به. [سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) قَوْلُهُ: وَإِذْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، قَوْلُهُ: مِنْ بَنِي آدَمَ اسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَأْخُوذِينَ هُنَا: هُمْ ذُرِّيَّةُ بَنِي آدَمَ، أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا: وَمَعْنَى أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ دَلَّهُمْ بِخَلْقِهِ عَلَى أَنَّهُ خَالِقُهُمْ، فَقَامَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مَقَامَ الْإِشْهَادِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «2» ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْرَجَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَادِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا مِنَ المعرفة ما فهمت به خِطَابِهِ سُبْحَانَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِبَنِي آدَمَ هُنَا: آدَمُ نَفْسُهُ كَمَا وَقَعَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ عَالَمُ الذَّرِّ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ وَلَا الْمَصِيرُ إِلَى غَيْرِهِ لِثُبُوتِهِ مَرْفُوعًا إِلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مُلْجِئَ لِلْمَصِيرِ إِلَى الْمَجَازِ، وَإِذَا جَاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ، وَسَنَذْكُرُ آخِرَ هَذَا الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ. قَوْلُهُ: مِنْ ظُهُورِهِمْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَقِيلَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ قَوْلُهُ: ذُرِّيَّاتِهِمْ، قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ كَثِيرٍ ذُرِّيَّتَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ، وَهِيَ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «ذُرِّيَّاتِهِمْ» بِالْجَمْعِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَيْ: أَشْهَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أَيْ: قَائِلًا أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، فَهُوَ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ: قالُوا بَلى شَهِدْنا أَيْ: عَلَى أَنْفُسِنَا بِأَنَّكَ رَبُّنَا. قَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِي هَذَا وفي قوله: أَوْ تَقُولُوا عَلَى الْغَيْبَةِ، كَمَا كَانَ فِيمَا قَبْلَهُ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى:

_ (1) . النساء: 154. (2) . فصلت: 11.

كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا أَوْ لِئَلَّا يَقُولُوا، أَيْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ الْأَخْذَ وَالْإِشْهَادَ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ أَيْ: عَنْ كَوْنِ اللَّهِ رَبَّنَا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قَوْلُهُ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ مَعْطُوفٌ عَلَى تَقُولُوا الْأَوَّلِ، أَيْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ تَعْتَذِرُوا بِالْغَفْلَةِ، أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم، وأَوْ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ دُونَ الْجَمْعِ، فَقَدْ يَعْتَذِرُونَ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ. مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ زَمَانِنَا وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ لَا نَهْتَدِي إِلَى الْحَقِّ وَلَا نَعْرِفُ الصَّوَابَ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ مِنْ آبَائِنَا وَلَا ذَنْبَ لَنَا لِجَهْلِنَا وَعَجْزِنَا عَنِ النَّظَرِ وَاقْتِفَائِنَا آثَارَ سَلَفِنَا، بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَعْتَلُّوا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ الْبَاطِلَةِ وَيَعْتَذِرُوا بِهَذِهِ الْمَعْذِرَةِ السَّاقِطَةِ وَكَذلِكَ أَيْ: وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ وَيَتْرُكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَأَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ الْآيَةَ فَقَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدُ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النَّارَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنُعْمَانَ «1» يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَشَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ فَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا إِلَى قَوْلِهِ: الْمُبْطِلُونَ» . وَإِسْنَادُهُ لَا مَطْعَنَ فِيهِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ، قَالَ: أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِهِ كَمَا يُؤْخَذُ الْمُشْطُ مِنَ الرَّأْسِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» وَفِي إِسْنَادِهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي ظبية أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ قَاضِي قَوْمَسَ كَانَ أَحَدَ الزُّهَّادِ، وَأَخْرَجَ لَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ غَرَائِبَ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عبد الله بن عمر،

_ (1) . واد إلى جنب عرفة.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 إلى 178]

وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ وَقَضَى الْقَضِيَّةَ وَأَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، فَأَخَذَ أَهْلَ الْيَمِينِ بِيَمِينِهِ وَأَخَذَ أَهْلَ الشَّمَالِ بِيَدِهِ الْأُخْرَى وَكِلْتَا يَدَيِ الرَّحْمَنِ يَمِينٌ، فَقَالَ: يَا أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ فَقَالُوا: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى» الْحَدِيثَ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا مُقَيَّدٌ بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَعْضُهَا مُطْلَقٌ يَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ إِخْرَاجِ ذَرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ، وَأَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِخْرَاجِ ذَرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ فِي عَالَمِ الذَّرِّ وَأَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ وَإِشْهَادِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الْآيَةَ قَالَ: [خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَأَخَذَ مِيثَاقَهُ أَنَّهُ رَبُّهُ وَكَتَبَ أجله ورزقه ومصيبته] «1» ، ثُمَّ أَخْرَجَ وَلَدَهُ مِنْ ظَهْرِهِ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَكَتَبَ آجَالَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ ومصائبهم «2» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَنْدَهْ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِ هَذِهِ مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الْآيَةَ قَالَ: أَخَذَهُمْ كَمَا يَأْخُذُ الْمُشْطَ مِنَ الرَّأْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ الْمُسْنَدِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الْآيَةَ قَالَ: جَمَعَهُمْ جَمِيعًا فَجَعَلَهُمْ أَرْوَاحًا فِي صُوَرِهِمْ، ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِخْرَاجِ ذَرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ، وَفِيمَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِهَا مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مَا يغني عن التطويل. [سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 178] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) قَوْلُهُ وَاتْلُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْقِصَصِ السَّابِقَةِ، وَإِيرَادُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَذْكِيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مَذْكُورَةً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الَّذِي أوتي الآيات فَانْسَلَخَ مِنْها

_ (1) . ما بين حاصرتين من الدر المنثور. (2) . في الأصل: «مصيباتهم» والتصحيح من الدر المنثور.

فَقِيلَ: هُوَ بَلْعَمُ بْنُ بَاعُورَاءَ، وَكَانَ قَدْ حَفِظَ بَعْضَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَقِيلَ: كَانَ قَدْ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى مَدْيَنَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَأَعْطَوْهُ الْأُعْطِيَّةَ الْوَاسِعَةَ فَاتَّبَعَ دِينَهُمْ وَتَرَكَ مَا بُعِثَ بِهِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ، سَأَلَ الْجَبَّارُونَ بَلْعَمَ بْنَ بَاعُورَاءَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مُوسَى، فَقَامَ لِيَدْعُوَ عَلَيْهِ فَتَحَوَّلَ لِسَانُهُ بِالدُّعَاءِ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا تَسْمَعُونَ، وَانْدَلَعَ لِسَانُهُ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ قَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي الْآنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْحِيلَةُ، وَسَأَمْكُرُ لَكُمْ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُخْرِجُوا إِلَيْهِمْ فَتَيَاتِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الزِّنَا، فَإِنْ وَقَعُوا فِيهِ هَلَكُوا، فَوَقَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الزِّنَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ ألْفًا وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ اسْمُهُ بَاعِمْ وَهُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكُتُبَ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مُرْسِلٌ رَسُولًا فِي ذَلِكَ فَلَمَّا أرسل الله محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حَسَدَهُ وَكَفَرَ بِهِ وَقِيلَ هُوَ أَبُو عَامِرِ بْنُ صَيْفِيِّ وَكَانَ يَلْبَسُ الْمُسُوحَ فِي الجاهلية، فكفر بمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ آتَاهُمُ اللَّهُ آيَاتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَكَفَرُوا بِهَا، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى انْتَظَرُوا خُرُوجَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَرُوا بِهِ. قَوْلُهُ فَانْسَلَخَ مِنْها أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أُوتِيَهَا كَمَا تَنْسَلِخُ الشَّاةُ عَنْ جِلْدِهَا فَلَمْ يَبْقَ لَهُ بِهَا اتِّصَالٌ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ عِنْدَ انْسِلَاخِهِ عَنِ الْآيَاتِ، أَيْ: لَحِقَهُ فَأَدْرَكَهُ وَصَارَ قَرِينًا لَهُ، أَوْ فَأَتْبَعَهُ خُطُوَاتِهِ، وَقُرِئَ فَأَتْبَعَهُ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى تَبِعَهُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ الْمُتَمَكِّنِينَ فِي الْغِوَايَةِ وَهُمُ الْكُفَّارُ. قَوْلُهُ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ، وَالْمَعْنَى: لَوْ شِئْنَا رَفْعَهُ بِمَا آتَيْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، أَيْ: بِسَبَبِهَا، وَلَكِنْ لَمْ نَشَأْ ذَلِكَ لِانْسِلَاخِهِ عَنْهَا وَتَرْكِهِ لِلْعَمَلِ بِهَا وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَوْ شِئْنَا لَأَمَتْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَعْصِيَ فَرَفَعْنَاهُ إِلَى الْجَنَّةِ بِهَا، أَيْ: بِالْعَمَلِ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أَصْلُ الْإِخْلَادِ: اللُّزُومُ، يُقَالُ أَخْلَدَ فُلَانٌ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ وَلَزِمَهُ، وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهُ مَالَ إِلَى الدُّنْيَا وَرَغِبَ فِيهَا وَآثَرَهَا عَلَى الْآخِرَةِ وَاتَّبَعَ هَواهُ أَيِ: اتَّبَعَ مَا يَهْوَاهُ وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ حُطَامُ الدُّنْيَا وَقِيلَ: كَانَ هَوَاهُ مَعَ الْكُفَّارِ وَقِيلَ: اتَّبَعَ رِضَا زَوْجَتِهِ، وَكَانَتْ هِيَ الَّتِي حَمَلَتْهُ عَلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. قَوْلُهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَيْ: فَصَارَ لَمَّا انْسَلَخَ عَنِ الْآيَاتِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا مُنْحَطًّا إِلَى أَسْفَلِ رُتْبَةٍ مُشَابِهًا لِأَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ فِي الدَّنَاءَةِ، مُمَاثِلًا لَهُ فِي أَقْبَحِ أَوْصَافِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَلْهَثُ فِي كِلَا حَالَتَيْ قَصْدِ الْإِنْسَانِ لَهُ وَتَرْكِهِ، فَهُوَ لَاهِثٌ سَوَاءً زُجِرَ أَوْ تُرِكَ، طُرِدَ أَوْ لَمْ يُطْرَدْ، شُدَّ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُشَدَّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَا فِي الْخِسَّةِ وَالدَّنَاءَةِ شَيْءٌ، وَجُمْلَةُ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ حَالَ كَوْنِهِ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْمُنْسَلِخَ عَنِ الْآيَاتِ لَا يَرْعَوِي عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي جَمِيعِ أحواله سواء وعظه وَذَكَّرَهُ الْمُذَكِّرُ، وَزَجَرَهُ الزَّاجِرُ أَوْ لَمْ يَقَعْ شيء من ذلك. قال القتبي: كُلُّ شَيْءٍ يَلْهَثُ فَإِنَّمَا يَلْهَثُ مِنْ إِعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ، إِلَّا الْكَلْبُ فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي حَالِ الكَلَالِ، وَحَالِ الرَّاحَةِ، وَحَالِ الْمَرَضِ، وَحَالِ الصِّحَّةِ، وَحَالِ الرِّيِّ، وَحَالِ الْعَطَشِ، فَضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ فَقَالَ: إِنْ وَعَظْتَهُ ضَلَّ وَإِنْ تَرَكْتَهُ ضَلَّ، فَهُوَ كَالْكَلْبِ إِنْ تَرَكْتَهُ لَهَثَ وَإِنْ طَرَدْتَهُ لَهَثَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ

صامِتُونَ «1» وَاللَّهْثُ: إِخْرَاجُ اللِّسَانِ لِتَعَبٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: لَهَثَ الْكَلْبُ بِالْفَتْحِ يَلْهَثُ لَهْثًا وَلُهَاثًا بِالضَّمِّ إِذَا أَخْرَجَ لِسَانَهُ مِنَ التَّعَبِ أَوِ الْعَطَشِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إِذَا أَعْيَا. قِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّكَ إِذَا حَمَلْتَ عَلَى الْكَلْبِ نَبَحَ وَوَلَّى هَارِبًا، وَإِنْ تَرَكْتَهُ شَدَّ عَلَيْكَ وَنَبَحَ، فَيُتْعِبُ نَفْسَهُ مُقْبِلًا عَلَيْكَ وَمُدْبِرًا عَنْكَ، فَيَعْتَرِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ مَا يَعْتَرِيهِ عِنْدَ الْعَطَشِ مِنْ إِخْرَاجِ اللِّسَانِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّمْثِيلِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الْخَسِيسَةِ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ ذَلِكَ الْمَثَلُ الْخَسِيسُ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا مِنَ الْيَهُودِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا بِهَا وَعَرَفُوهَا، فَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَكَتَمُوا صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبُوا بِهَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ أَيْ: فَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَصَصَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّجُلِ الْمُنْسَلِخِ عَنِ الْآيَاتِ فَإِنَّ مَثَلَهُ الْمَذْكُورَ كَمَثَلِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ تَقُصُّ عَلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ وَيُعْمِلُونَ فِيهِ أَفْهَامَهُمْ، فَيَنْزَجِرُونَ عَنِ الضَّلَالِ، وَيُقْبِلُونَ عَلَى الصَّوَابِ. قَوْلُهُ ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِبَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْبَالِغَةِ فِي الْقُبْحِ إِلَى الْغَايَةِ، يُقَالُ: سَاءَ الشَّيْءُ: قَبُحَ، فَهُوَ لَازِمٌ، وَسَاءَهُ يَسُوؤُهُ مَسَاءَةً: فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الذَّمِّ: كَبِئْسَ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ، وَمَثَلًا تَمْيِيزٌ مُفَسِّرٌ لَهُ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ هُوَ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ لِأَجْلِ الْمُطَابَقَةِ أَيْ: سَاءَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جُعِلَ الْمَثَلُ الْقَوْمَ مَجَازًا، وَالْقَوْمُ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، التَّقْدِيرُ: سَاءَ الْمَثَلُ مَثَلًا هُوَ مَثَلُ الْقَوْمِ، كَذَا قَالَ. وَقَدَّرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: سَاءَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ والأعمش ساء مثل الْقَوْمُ. قَوْلُهُ وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ أَيْ: مَا ظَلَمُوا بِالتَّكْذِيبِ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، لَا يَتَعَدَّاهَا ظُلْمُهُمْ إِلَى غَيْرِهَا، وَلَا يَتَجَاوَزُهَا، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي لَمَّا أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ لِعِبَادِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الْكَامِلُونَ فِي الْخُسْرَانِ، مَنْ هَدَاهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ بَلْعَمُ بْنَ آبَزَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ بَلْعَمُ بْنُ بَاعُورَاءَ، وَفِي لَفْظٍ: بَلْعَامُ بْنُ بَاعَرَ الَّذِي أُوتِيَ الِاسْمَ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ يُقَالُ لَهُ بَلْعَمُ، تَعَلَّمَ اسْمَ اللَّهِ الْأَكْبَرَ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِمْ مُوسَى أَتَاهُ بَنُو عَمِّهِ وَقَوْمُهُ فَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى رَجُلٌ حَدِيدٌ وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ إِنْ يَظْهَرْ عَلَيْنَا يُهْلِكْنَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَنَّا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ: إِنِّي إِنْ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مَضَتْ دُنْيَايَ وَآخِرَتِي، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى دَعَا اللَّهَ فَسَلَخَ مَا كَانَ فِيهِ. وَفِي قَوْلِهِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ قَالَ: إِنْ حُمِّلَ الْحِكْمَةَ لَمْ يَحْمِلْهَا، وَإِنْ تُرِكَ لَمْ يَهْتَدِ لِخَيْرٍ كَالْكَلْبِ إِنْ كَانَ رَابِضًا لَهَثَ وَإِنْ يُطْرَدْ لَهَثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حاتم

_ (1) . الأعراف: 193.

[سورة الأعراف (7) : آية 179]

وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ أُعْطِيَ ثَلَاثَ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُ فِيهِنَّ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَقَالَتْ: اجْعَلْ لِي مِنْهَا وَاحِدَةً، قَالَ: فَلَكِ وَاحِدَةٌ فَمَا الَّذِي تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَدَعَا اللَّهَ فَجَعَلَهَا أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهَا رَغِبَتْ عَنْهُ وَأَرَادَتْ شَيْئًا آخَرَ، فَدَعَا اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهَا كَلْبَةً فَصَارَتْ كَلْبَةً، فَذَهَبَتْ دَعْوَتَانِ، فَجَاءَ بَنُوهَا فَقَالُوا: لَيْسَ بِنَا عَلَى هَذَا قَرَارٌ قَدْ صَارَتْ أُمُّنَا كَلْبَةً يُعَيِّرُنَا النَّاسُ بِهَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ فَدَعَا اللَّهَ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ فَذَهَبْتِ الدَّعَوَاتُ الثَّلَاثُ وَسُمِّيَتِ الْبَسُوسُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ، وَفِي لَفْظٍ: نَزَلَتْ فِي صَاحِبِكُمْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَاءَ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ تَقُولُ: هُوَ ابْنُ الرَّاهِبِ الَّذِي بُنِيَ لَهُ مَسْجِدُ الشِّقَاقِ، وَكَانَتْ ثَقِيفُ تَقُولُ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ فَانْسَلَخَ مِنْها قَالَ: نُزِعَ مِنْهُ الْعِلْمُ وَفِي قَوْلِهِ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها قَالَ: رَفَعَهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في خُطْبَتِهِ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَصْدَقُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ. وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الْأُمُورِ محدثاتها، وكلّ محدثة بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» ثُمَّ يَقُولُ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» . [سورة الأعراف (7) : آية 179] وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَلَقَدْ ذَرَأْنا أَيْ: خَلَقْنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَصْلِ مَعْنَاهُ مُسْتَوْفًى، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا لِجَهَنَّمَ أَيْ: لِلتَّعْذِيبِ بِهَا كَثِيراً أَيْ: خَلَقًا كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَيْ: مِنْ طَائِفَتَيِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ جَعَلَهُمْ سُبْحَانَهُ لِلنَّارِ بِعَدْلِهِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِهَا يَعْمَلُونَ. وَقَدْ عَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ كَوْنِهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها كَمَا يَفْقَهُ غَيْرُهُمْ بِعُقُولِهِمْ، وَجُمْلَةُ لَا يَفْقَهُونَ بِها فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِقُلُوبٍ، وَجُمْلَةُ لَهُمْ قُلُوبٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةً لكثيرا، جَعَلَ سُبْحَانَهُ قُلُوبَهُمْ لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ فَاقِهَةٍ لِمَا فِيهِ نَفْعُهُمْ وَإِرْشَادُهُمْ غَيْرَ فَاقِهَةٍ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَتْ تَفْقَهُ فِي غَيْرِ مَا فِيهِ النَّفْعُ وَالرَّشَادُ فَهُوَ كَالْعَدَمِ، وَهَكَذَا مَعْنَى وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّ الَّذِي انْتَفَى مِنَ الْأَعْيُنِ هُوَ إِبْصَارُ مَا فِيهِ الْهِدَايَةُ بِالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وَإِنْ كَانَتْ مُبْصِرَةً فِي غَيْرِ ذَلِكَ،

[سورة الأعراف (7) : آية 180]

وَالَّذِي انْتَفَى مِنَ الْآذَانِ هُوَ سَمَاعُ الْمَوَاعِظِ النَّافِعَةِ، وَالشَّرَائِعِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أُولئِكَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ كَالْأَنْعَامِ فِي انْتِفَاءِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَذِهِ الْمَشَاعِرِ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَضَلُّ مِنْهَا، لِأَنَّهَا تُدْرِكُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَنْفَعُهَا وَيَضُرُّهَا فَتَنْتَفِعُ بِمَا يَنْفَعُ، وَتَجْتَنِبُ مَا يَضُرُّ، وَهَؤُلَاءِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا يَنْفَعُ وَمَا يَضُرُّ بِاعْتِبَارِ مَا طَلَبَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَكَلَّفَهُمْ بِهِ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْغَفْلَةِ الْكَامِلَةِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ التَّمْيِيزِ الَّذِي هُوَ مِنْ شَأْنِ مَنْ لَهُ عَقْلٌ وَبَصَرٌ وَسَمْعٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَلَقَدْ ذَرَأْنا قَالَ: خَلَقْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: خَلَقْنَا لِجَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النجّار عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن اللَّهَ لَمَّا ذَرَأَ لِجَهَنَّمَ مَنْ ذَرَأَ كَانَ وَلَدُ الزِّنَا مِمَّنْ ذَرَأَ لِجَهَنَّمَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ قَالَ: لَقَدْ خَلَقْنَا لِجَهَنَّمَ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها قَالَ: لَا يَفْقَهُونَ شَيْئًا من أمور الآخرة وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها الْهُدَى وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها الْحَقَّ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ كَالْأَنْعَامِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ شَرًّا مِنَ الْأَنْعَامِ، فَقَالَ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمُ الْغَافِلُونَ. [سورة الأعراف (7) : آية 180] وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (180) هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْإِخْبَارِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِمَا لَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ، وَالْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ أَيِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْأَسْمَاءِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَحْسَنِ مُسَمًّى وَأَشْرَفِ مَدْلُولٍ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوهُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ فَإِنَّهُ إِذَا دُعِيَ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِجَابَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَسَيَأْتِي، وَيَأْتِي أَيْضًا بَيَانُ عَدَدِهَا آخِرَ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَوْلُهُ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ الْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ وَتَرْكُ الْقَصْدِ، يُقَالُ: لَحَدَ الرَّجُلُ فِي الدِّينِ وَأَلْحَدَ: إِذَا مَالَ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ لِأَنَّهُ فِي نَاحِيَةٍ، وَقُرِئَ يُلْحِدُونَ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْإِلْحَادُ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، إِمَّا بِالتَّغْيِيرِ كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّهُمْ أَخَذُوا اسْمَ اللَّاتِ مِنَ اللَّهِ، وَالْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ، وَمَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ أَوْ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا بِأَنْ يَخْتَرِعُوا أَسْمَاءً مِنْ عِنْدِهِمْ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهَا، أَوْ بِالنُّقْصَانِ مِنْهَا، بِأَنْ يَدْعُوهُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَمَعْنَى وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ اتْرُكُوهُمْ وَلَا تُحَاجُّوهُمْ وَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1» وقوله ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا «2» وَهَذَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فَإِنَّهُ وَعِيدٌ لَهُمْ بِنُزُولِ الْعُقُوبَةِ وَتَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلُوا كَفِعْلِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يَقُولُ فِي صِلَاتِهِ يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ رَبًّا وَاحِدًا، فَمَا بَالُ هَذَا يَدْعُو رَبَّيْنِ اثْنَيْنِ؟ حَكَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خزيمة وأبو عوانة وابن جرير وابن

_ (1) . المدثر: 11. (2) . الحجر: 3.

أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» . وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَأَبِي نعيم: «من دعا بِهَا اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ» وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ يُحِبُّ الْوِتْرَ: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ، الْقُدُّوسُ، السَّلَامُ، الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ، الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الْخَالِقُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ، الْغَفَّارُ، الْقَهَّارُ، الْوَهَّابُ، الرَّزَّاقُ، الْفَتَّاحُ، الْعَلِيمُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ، الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ، الْمُذِلُّ، السَّمِيعُ، الْبَصِيرُ، الْحَكَمُ، الْعَدْلُ، اللَّطِيفُ، الْخَبِيرُ، الْحَلِيمُ، الْعَظِيمُ، الْغَفُورُ، الشَّكُورُ، الْعَلِيُّ، الْكَبِيرُ، الْحَفِيظُ، الْمَقِيتُ، الْحَسِيبُ، الْجَلِيلُ، الْكَرِيمُ، الرَّقِيبُ، الْمُجِيبُ، الْوَاسِعُ، الْحَكِيمُ، الْوَدُودُ، الْمُجِيدُ، الْبَاعِثُ، الشَّهِيدُ، الْحَقُّ، الْوَكِيلُ، الْقَوِيُّ، الْمَتِينُ، الْوَلِيُّ، الْحَمِيدُ، الْمُحْصِي، الْمُبْدِئُ، الْمُعِيدُ، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الْحَيُّ، الْقَيُّومُ، الْوَاجِدُ، الْمَاجِدُ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الْقَادِرُ، الْمُقْتَدِرُ، الْمُقَدِّمُ، الْمُؤَخِّرُ، الْأَوَّلُ، الْآخِرُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ، الْوَالِي، الْمُتَعَالِي، الْبَرُّ، التَّوَّابُ، الْمُنْتَقِمُ، الْعَفُوُّ، الرَّؤُوفُ، مَالِكُ الْمُلْكِ، ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الْمُقْسِطُ، الْجَامِعُ، الْغَنِيُّ، الْمُغْنِي، الْمَانِعُ، الضَّارُّ، النَّافِعُ، النُّورُ، الْهَادِي، الْبَدِيعُ، الْبَاقِي، الْوَارِثُ، الرَّشِيدُ، الصَّبُورُ» . هَكَذَا أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَنِ الْجُوزْجَانِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الْوَلِيدِ بن مسلم عن شعيب ابن أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعَةً وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا يُعْلَمُ فِي كَثِيرِ شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ ذِكْرُ الْأَسْمَاءِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ صَفْوَانَ بِإِسْنَادِهِ السَّابِقِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فَسَرَدَ الْأَسْمَاءَ الْمُتَقَدِّمَةَ بِزِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنَّ سَرْدَ الْأَسْمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُدْرَجٌ فِيهِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْعَانِيُّ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ: أَيْ أَنَّهُمْ جَمَعُوهَا مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا رُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَبِي زَيْدٍ اللُّغَوِيِّ. قَالَ: ثُمَّ لْيُعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الْجُهَنِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عبدك ابن عَبْدِكَ وَأَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا» . وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِمِثْلِهِ انْتَهَى. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا

فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: جَاءَتْ فِي إِحْصَائِهَا، يَعْنِي الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى أَحَادِيثُ مُضْطَرِبَةٌ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ أَصْلًا. وَقَدْ أَخْرَجَهَا بِهَذَا الْعَدَدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَاهُ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ إِسْنَادُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ كِلَاهُمَا فِي الدُّعَاءِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الرَّحْمَنَ، الرَّحِيمَ، الْإِلَهَ، الرَّبَّ، الْمَلِكَ، الْقُدُّوسَ، السَّلَامُ، الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ، الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ، المتكبر، الخالق، الْبَارِئَ، الْمُصَوِّرَ، الْحَلِيمَ، الْعَلِيمَ، السَّمِيعَ، الْبَصِيرَ، الْحَيَّ، الْقَيُّومَ، الْوَاسِعَ، اللَّطِيفَ، الْخَبِيرَ، الْحَنَّانَ، الْمَنَّانَ، الْبَدِيعَ، الْغَفُورَ، الْوَدُودَ، الشَّكُورَ، الْمَجِيدَ، الْمُبْدِئَ، الْمُعِيدَ، النُّورَ، البادئ، وَفِي لَفْظٍ: الْقَائِمَ، الْأَوَّلَ، الْآخِرَ، الظَّاهِرَ، الْبَاطِنَ، الْعَفُوَّ، الْغَفَّارَ، الْوَهَّابَ، الْفَرْدَ، وَفِي لَفْظٍ: الْقَادِرَ، الْأَحَدَ، الصَّمَدَ، الْوَكِيلَ، الْكَافِيَ، الْبَاقِيَ، الْمُغِيثَ، الدَّائِمَ، الْمُتَعَالِيَ، ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الْمَوْلَى، الْبَصِيرَ، الْحَقَّ، الْمَتِينَ، الْوَارِثَ، الْمُنِيرَ، الْبَاعِثَ، الْقَدِيرَ، وَفِي لَفْظٍ: الْمُجِيبَ، الْمُحْيِيَ، الْمُمِيتَ، الْحَمِيدَ وَفِي لَفْظٍ: الْجَمِيلَ: الصَّادِقَ، الْحَفِيظَ، الْمُحِيطَ، الْكَبِيرَ، الْقَرِيبَ، الرَّقِيبَ، الْفَتَّاحَ، التَّوَّابَ، الْقَدِيمَ، الْوِتْرَ، الْفَاطِرَ، الرَّزَّاقَ، الْعَلَّامَ، الْعَلِيَّ، الْعَظِيمَ، الْغَنِيَّ، الْمَلِكَ، الْمُقْتَدِرَ، الْأَكْرَمَ، الرَّؤُوفَ، الْمُدَبِّرَ، الْمَالِكَ، الْقَاهِرَ، الْهَادِيَ، الشَّاكِرَ، الْكَرِيمَ، الرَّفِيعَ، الشَّهِيدَ، الْوَاحِدَ، ذَا الطَّوْلِ، ذَا الْمَعَارِجِ، ذَا الْفَضْلِ، الْخَلَّاقَ، الْكَفِيلَ، الْجَلِيلَ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ عَنِ الْأَسْمَاءِ التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ الَّتِي مَنْ أَحْصَاهَا دَخْلَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: هِيَ فِي الْقُرْآنِ، فَفِي الْفَاتِحَةِ خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ، يَا اللَّهُ، يَا رَبُّ، يَا رَحْمَنُ، يَا رَحِيمُ، يَا مَلِكُ وَفِي الْبَقَرَةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ اسْمًا: يَا مُحِيطُ، يَا قَدِيرُ، يَا عَلِيمُ، يَا حَكِيمُ، يَا عَلِيُّ، يَا عَظِيمُ، يَا تَوَّابُ، يَا بَصِيرُ، يَا وَلِيُّ، يَا وَاسِعُ، يَا كَافِي، يَا رَؤُوفُ، يَا بَدِيعُ، يَا شَاكِرُ، يَا وَاحِدُ، يَا سَمِيعُ، يَا قَابِضُ، يَا باسط، يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، يَا غَنِيُّ، يَا حَمِيدُ، يَا غَفُورُ، يَا حَلِيمُ، يَا إِلَهُ، يَا قَرِيبُ، يَا مُجِيبُ، يَا عَزِيزُ، يَا نَصِيرُ، يَا قَوِيُّ، يَا شَدِيدُ، يَا سَرِيعُ، يَا خَبِيرُ وَفِي آلِ عِمْرَانَ: يَا وَهَّابُ، يَا قَائِمُ، يَا صَادِقُ، يَا بَاعِثُ، يَا مُنْعِمُ، يَا مُتَفَضِّلُ، وَفِي النِّسَاءِ: يَا رَقِيبُ، يَا حَسِيبُ، يَا شَهِيدُ، يَا مُقِيتُ، يَا وَكِيلُ، يَا عَلِيُّ، يَا كَبِيرُ، وَفِي الْأَنْعَامِ: يَا فَاطِرُ، يَا قَاهِرُ، يَا لَطِيفُ، يَا بُرْهَانُ، وَفِي الْأَعْرَافِ: يَا مُحْيِي، يَا مُمِيتُ، وَفِي الْأَنْفَالِ: يَا نِعْمَ الْمَوْلَى، وَيَا نِعْمَ النَّصِيرُ وَفِي هُودٍ: يَا حَفِيظُ يَا مَجِيدُ، يَا وَدُودُ، يَا فَعَّالُ لِمَا تُرِيدُ وَفِي الرَّعْدِ: يَا كَبِيرُ، يَا مُتَعَالِي وَفِي إِبْرَاهِيمَ: يَا مَنَّانُ، يَا وَارِثُ وَفِي الْحِجْرِ: يَا خَلَّاقُ وَفِي مَرْيَمَ: يَا فَرْدُ وَفِي طه: يا غفار، وفي قد أفلح: يَا كَرِيمُ وَفِي النُّورِ: يَا حَقُّ يَا مُبِينُ وَفِي الْفُرْقَانِ: يَا هَادِي وَفِي سَبَأٍ: يَا فَتَّاحُ، وَفِي الزُّمَرِ: يَا عَالِمُ وَفِي غَافِرٍ: يَا قَابِلَ التَّوْبِ، يَا ذَا الطَّوْلِ، يَا رَفِيعُ وَفِي الذَّارِيَاتِ: يَا رَزَّاقُ، يَا ذَا الْقُوَّةِ، يَا مَتِينُ وَفِي الطُّورِ: يَا برّ وفي اقتربت: يَا مُقْتَدِرُ، يَا مَلِيكُ وَفِي الرَّحْمَنِ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا رَبَّ الْمَشْرِقَيْنِ، يَا رَبَّ الْمَغْرِبَيْنِ، يَا بَاقِي

[سورة الأعراف (7) : الآيات 181 إلى 186]

يَا مُعِينُ، وَفِي الْحَدِيدِ: يَا أَوَّلُ، يَا آخِرُ، يَا ظَاهِرُ، يَا بَاطِنُ وَفِي الْحَشْرِ: يَا مَلِكُ، يَا قُدُّوسُ، يَا سَلَامُ، يَا مُؤْمِنُ، يَا مُهَيْمِنُ، يَا عَزِيزُ، يَا جَبَّارُ، يَا مُتَكَبِّرُ، يَا خَالِقُ، يَا بَارِئُ، يَا مُصَوِّرُ، وَفِي الْبُرُوجِ: يَا مُبْدِئُ، يَا مُعِيدُ وَفِي الْفَجْرِ: يَا وَتْرُ وَفِي الْإِخْلَاصِ: يَا أَحَدُ، يَا صَمَدُ، انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ أَنَّهُ تَتَبَّعَهَا مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ إِلَى أَنْ حَرَّرَهَا مِنْهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ ثُمَّ سَرَدَهَا فَابْحَثْهُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي اسْمَ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، قَالَ لَهَا: قُومِي فَتَوَضَّئِي وَادْخُلِي الْمَسْجِدَ فَصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ ادْعِي حَتَّى أَسْمَعَ، فَفَعَلَتْ فَلَمَّا جَلَسَتْ لِلدُّعَاءِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ وَفِّقْهَا، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِكَ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْنَا مِنْهَا وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الْعَظِيمِ الْأَعْظَمِ الْكَبِيرِ الْأَكْبَرِ الَّذِي مَنْ دَعَاكَ بِهِ أَجَبْتَهُ، وَمَنْ سَأَلَكَ بِهِ أَعْطَيْتَهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: أصبتيه، أصبتيه. وقد أطال أهل العلم عَلَى الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى حَتَّى أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ حَكَى عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ جَمَعَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَلْفَ اسْمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قَالَ: الْإِلْحَادُ: أَنْ يَدْعُوَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْإِلْحَادُ: التَّكْذِيبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: اشْتَقُّوا الْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ، وَاشْتَقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْإِلْحَادُ: الْمُضَاهَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ يُلْحِدُونَ مِنْ لَحَدَ، وَقَالَ: تَفْسِيرُهَا: يُدْخِلُونَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرزاق بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قال: يشركون. [سورة الأعراف (7) : الآيات 181 الى 186] وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) قوله وَمِمَّنْ خَلَقْنا خبر مقدّم وأُمَّةٌ مبتدأ مؤخر ويَهْدُونَ وما بعده صفة ما، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَمِمَّنْ خَلَقْنا هُوَ الْمُبْتَدَأُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ أُمَّةً يَهْدُونَ النَّاسَ مُتَلَبِّسِينَ بِالْحَقِّ، أَوْ يَهْدُونَهُمْ بما عرفوه من الحق وَبالحق يَعْدِلُونَ بَيْنَهُمْ، قِيلَ هُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّهُمُ الْفِرْقَةُ الَّذِينَ لَا يَزَالُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّالِحَةِ بَيَّنَ حَالَ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فَقَالَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ

لَا يَعْلَمُونَ وَالِاسْتِدْرَاجُ: هُوَ الْأَخْذُ بِالتَّدْرِيجِ مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ، وَالدَّرْجُ: كَفُّ الشَّيْءِ، يُقَالُ أَدْرَجْتُهُ وَدَرَجْتُهُ، وَمِنْهُ إِدْرَاجُ الْمَيِّتِ فِي أَكْفَانِهِ وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الدَّرَجَةِ، فَالِاسْتِدْرَاجُ: أَنْ يَخْطُوَ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَمِنْهُ دَرَجَ الصَّبِيُّ: إِذَا قَارَبَ بَيْنَ خُطَاهُ، وَأَدْرَجَ الْكِتَابَ: طَوَاهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَدَرَجَ الْقَوْمُ: مَاتَ بَعْضُهُمْ في أثر بعض والمعنى: سنستدرجهم قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى مَا يُهْلِكُهُمْ، وَذَلِكَ بِإِدْرَارِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ وَإِنْسَائِهِمْ شُكْرَهَا، فَيَنْهَمِكُونَ فِي الْغَوَايَةِ، وَيَتَنَكَّبُونَ طُرُقَ الْهِدَايَةِ لِاغْتِرَارِهِمْ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ إِلَّا بِمَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ وَالزُّلْفَةِ، قَوْلُهُ وَأُمْلِي لَهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ، أَيْ: أُطِيلُ لَهُمُ الْمُدَّةَ وَأُمْهِلُهُمْ وَأُؤَخِّرُ عَنْهُمُ الْعُقُوبَةَ، وَجُمْلَةُ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الِاسْتِدْرَاجِ وَالْإِمْلَاءِ وَمُؤَكِّدَةٌ لَهُ، وَالْكَيْدُ: الْمَكْرُ، وَالْمَتِينُ: الشَّدِيدُ الْقَوِيُّ وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَتْنِ وَهُوَ اللَّحْمُ الْغَلِيظُ الَّذِي عَلَى جَانِبِ الصُّلْبِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: سَمَّاهُ كَيْدًا، لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْكَيْدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ إِحْسَانٌ وَفِي الْحَقِيقَةِ خِذْلَانٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وفيما جاء به وما فِي مَا بِصاحِبِهِمْ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ: بِصَاحِبِهِمْ، وَالْجَنَّةُ: مَصْدَرٌ، أَيْ: وَقَعَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أَيُّ شَيْءٍ مِنْ جُنُونٍ كَائِنٌ بِصَاحِبِهِمْ كَمَا يَزْعُمُونَ، فَإِنَّهُمْ لَوْ تَفَكَّرُوا لَوَجَدُوا زَعْمَهُمْ بَاطِلًا، وَقَوْلَهُمْ زورا وبهتانا وَقِيلَ إِنَّ مَا نَافِيَةٌ وَاسْمُهَا مِنْ جِنَّةٍ وَخَبَرُهَا بِصَاحِبِهِمْ، أَيْ: لَيْسَ بِصَاحِبِهِمْ شَيْءٌ مِمَّا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْجُنُونِ، فَيَكُونُ هَذَا رَدًّا لِقَوْلِهِمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «1» وَيَكُونُ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْقَافِ الْحَسَنَةِ، وَجُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَمُبَيِّنَةٌ لِحَقِيقَةِ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَلِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالْمَلَكُوتُ: مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالِغَةِ، وَمَعْنَاهُ: الْمُلْكُ الْعَظِيمُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَتَفَكَّرُوا حَتَّى يَنْتَفِعُوا بِالتَّفَكُّرِ، وَلَا نَظَرُوا فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ حَتَّى يَهْتَدُوا بِذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، بَلْ هُمْ سَادِرُونَ فِي ضَلَالَتِهِمْ خَائِضُونَ فِي غَوَايَتِهِمْ لَا يُعْمِلُونَ فِكْرًا وَلَا يُمْعِنُونَ نَظَرًا. قَوْلُهُ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أَيْ: لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السموات وَالْأَرْضِ وَلَا فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ، فَإِنَّ فِي كُلِّ مَخْلُوقَاتِهِ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَفَكِّرِينَ، سَوَاءٌ كانت من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات وَالْأَرْضِ، أَوْ مِنْ دَقَائِقِهَا مِنْ سَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ، قَوْلُهُ: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَلَكُوتٍ، وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَخَبَرُهَا عَسَى وما بعدها: أي: أو لم يَنْظُرُوا فِي أَنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجْلُهُمْ فَيَمُوتُونَ عَنْ قَرِيبٍ. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يُجَوِّزُونَ قُرْبَ آجَالِهِمْ فَمَا لَهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِيمَا يَهْتَدُونَ بِهِ وَيَنْتَفِعُونَ بِالتَّفَكُّرِ فِيهِ وَالِاعْتِبَارِ بِهِ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهُ يُؤْمِنُونَ؟ وَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ، وَقِيلَ: لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: للأجل المذكور قبله، وجملة

_ (1) . الحجر: 6.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 187 إلى 192]

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: إِنَّ هَذِهِ الْغَفْلَةَ مِنْهُمْ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْوَاضِحَةِ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ إِلَّا لِكَوْنِهِمْ مِمَّنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَيْ: فَلَا يُوجَدُ مَنْ يَهْدِيهِ إِلَى الْحَقِّ وَيَنْزِعُهُ عَنِ الضَّلَالَةِ أَلْبَتَّةَ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَبِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْجَزَاءِ، وَقُرِئَ بِالنُّونِ، وَمَعْنَى يَعْمَهُونَ: يَتَحَيَّرُونَ، وَقِيلَ: يَتَرَدَّدُونَ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَذِهِ أُمَّتِي بِالْحَقِّ يَحْكُمُونَ وَيَقْضُونَ وَيَأْخُذُونَ وَيُعْطُونَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَرَأَهَا: «هَذِهِ لَكَمَ وَقَدْ أُعْطِيَ الْقَوْمُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا، وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ «1» » . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَتَى نَزَلَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السدي في قوله: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ يَقُولُ: سَنَأْخُذُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، قَالَ: عَذَابُ بَدْرٍ. وأخرج أبو الشيخ عن يحيى ابن الْمُثَنَّى فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَةً تُنْسِيهِمُ الِاسْتِغْفَارَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ سُفْيَانَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نُسْبِغُ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ وَنَمْنَعُهُمْ شُكْرَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِدْرَاجِ فَقَالَ: ذَلِكَ مَكْرُ اللَّهِ بِالْعِبَادِ الْمُضَيِّعِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي قَوْلِهِ وَأُمْلِي لَهُمْ يَقُولُ: أَكُفُّ عَنْهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ إِنْ مَكْرِي شَدِيدٌ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ فَأَنْزَلَ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَيْدُ اللَّهِ: الْعَذَابُ وَالنِّقْمَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الصَّفَا، فَدَعَا قُرَيْشًا فَخِذًا فَخِذًا: يَا بَنِي فُلَانٍ! يَا بَنِي فُلَانٍ! يُحَذِّرُهُمْ بِأْسَ اللَّهِ وَوَقَائِعَ اللَّهِ إِلَى الصَّبَاحِ، حَتَّى قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٌ، بَاتَ يُصَوِّتُ حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 187 الى 192] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)

_ (1) . الأعراف: 159. (2) . التوبة: 5.

قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ السَّائِلُونَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَقِيلَ: قُرَيْشٌ، وَالسَّاعَةُ: الْقِيَامَةُ، وَهِيَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ، وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْقِيَامَةِ لِوُقُوعِهَا بَغْتَةً، أَوْ لِسُرْعَةِ حِسَابِهَا، وأيان: ظَرْفُ زَمَانٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ. قَالَ الرَّاجِزُ: أَيَّانَ تَقْضِي حَاجَتِي أَيَّانَا ... أَمَا تَرَى لِنُجْحِهَا أَوَانًا وَمَعْنَاهُ: مَعْنَى مَتَى، وَاشْتِقَاقُهُ: مِنْ أَيْ، وَقِيلَ: مِنْ أَيْنَ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ إِيَّانَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِ، ومُرْساها الْمُبْتَدَأُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَمُرْسَاهَا بِضَمِّ الْمِيمِ: أَيْ وَقْتُ إِرْسَائِهَا، مِنْ أَرْسَاهَا اللَّهُ، أَيْ: أَثْبَتَهَا، وبفتح الميم من رست: أي تثبتت، ومنه وَقُدُورٍ راسِياتٍ، وَمِنْهُ رَسَا الْجَبَلُ. وَالْمَعْنَى مَتَى يُرْسِيهَا اللَّهُ: أي يثبتها ويوقعها، وظاهر يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ نَفْسِ السَّاعَةِ، وَظَاهِرُ أَيَّانَ مُرْساها أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ وَقْتِهَا، فَحَصَلَ مِنَ الْجَمِيعِ أَنَّ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ هُوَ عَنِ السَّاعَةِ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِهَا فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أَيْ: عِلْمُهَا بِاعْتِبَارِ وُقُوعِهَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ، وَلَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا سِوَاهُ لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ أَيْ: لَا يُظْهِرُهَا لِوَقْتِهَا وَلَا يَكْشِفُ عَنْهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالتَّجْلِيَةُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ، يُقَالُ جَلَّى لِي فُلَانٌ الْخَبَرَ: إِذَا أَظْهَرَهُ وَأَوْضَحَهُ، وَفِي اسْتِئْثَارِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ السَّاعَةِ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَتَدْبِيرٌ بَلِيغٌ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَخْفَاهَا اللَّهُ وَاسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا. قَوْلُهُ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أنه لما خفي علمها على أهل السّموات وَالْأَرْضِ كَانَتْ ثَقِيلَةً، لِأَنَّ كُلَّ مَا خَفِيَ عِلْمُهُ ثَقِيلٌ عَلَى الْقُلُوبِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا تطيقها السّموات وَالْأَرْضُ لِعِظَمِهَا لِأَنَّ السَّمَاءَ تَنْشَقُّ، وَالنُّجُومَ تَتَنَاثَرُ، وَالْبِحَارَ تَنْضُبُ وَقِيلَ: عَظُمَ وَصْفُهَا عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: ثَقُلَتِ الْمَسْأَلَةُ عَنْهَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا أَيْضًا لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً إِلَّا فَجْأَةً عَلَى غَفْلَةٍ، وَالْبَغْتَةُ، مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي التقرير. قوله: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْحَفِيُّ: الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ، وَالْحَفِيُّ: الْمُسْتَقْصِي فِي السُّؤَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سَائِلٍ ... حَفِيٍّ عَنِ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا يُقَالُ: أَحْفَى فِي الْمَسْأَلَةِ وَفِي الطَّلَبِ فَهُوَ مُحْفٍ، وَحَفِيٌّ عَلَى التَّكْثِيرِ، مِثْلَ مُخَصِّبٍ وَخَصِيبٍ. وَالْمَعْنَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا، أَوْ كَأَنَّهُ مُسْتَقْصٍ لِلسُّؤَالِ عَنْهَا، وَمُسْتَكْثِرٌ مِنْهُ، وَالْجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَسْأَلُونَكَ مُشَبَّهًا حَالُكَ حَالَ مَنْ هُوَ حَفِيٌّ عَنْهَا وَقِيلَ الْمَعْنَى: يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهِمْ، أَيْ: حَفِيٌّ بِبِرِّهِمْ وَفَرِحٌ بِسُؤَالِهِمْ. وَالْأَوَّلُ: هُوَ مَعْنَى النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ عَلَى مُقْتَضَى الْمَسْلَكِ الْعَرَبِيِّ. قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أَمْرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُكَرِّرَ مَا أجاب به عَلَيْهِمْ سَابِقًا، لِتَقْرِيرِ الْحُكْمِ وَتَأْكِيدِهِ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِتَكْرِيرٍ، بَلْ أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ الِاسْتِئْثَارُ بِوُقُوعِهَا، وَالْآخِرُ: الِاسْتِئْثَارُ بِكُنْهِهَا نَفْسِهَا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ باستثناء اللَّهِ بِهَذَا وَعَدَمِ عِلْمِ خَلْقِهُ بِهِ، لَمْ يَعْلَمْهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا

نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. قَوْلُهُ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِتَأْكِيدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ عِلْمِهِ بِالسَّاعَةِ، أَيَّانَ تَكُونُ، وَمَتَى تَقَعُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ لَهُ، أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهُ إِلَّا ما شاء الله سبحانه مع النَّفْعِ لَهُ وَالدَّفْعِ عَنْهُ فَبِالْأَوْلَى أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى عِلْمِ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَفِي هَذَا مِنْ إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْعَجْزِ عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ شَأْنِ الْعَبِيدِ وَالِاعْتِرَافِ بِالضَّعْفِ عَنِ انْتِحَالِ مَا لَيْسَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِيهِ أَعْظَمُ زَاجِرٍ، وَأَبْلَغُ وَاعِظٍ لِمَنْ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا، وَيَنْتَحِلُ عِلْمَ الْغَيْبِ بِالنَّجَّامَةِ، أو الرمل، أو الطرق بالحصى، أَوِ الزَّجْرِ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا وَقَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أَيْ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ جِنْسَ الْغَيْبِ لَتَعَرَّضْتُ لِمَا فِيهِ الْخَيْرُ، فَجَلَبْتُهُ إِلَى نَفْسِي وَتَوَقَّيْتُ مَا فِيهِ السُّوءُ حَتَّى لَا يَمَسَّنِي، وَلَكِنِّي عَبْدٌ لَا أَدْرِي مَا عِنْدَ رَبِّي، وَلَا مَا قَضَاهُ فِيَّ وَقَدَّرَهُ لِي، فَكَيْفَ أَدْرِي غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَتَكَلَّفُ عِلْمَهُ؟ وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُ أَعْلَمَ مَا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنِّي مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعَرِّفَنِيهِ لِفَعَلْتُهُ وَقِيلَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَتَى يَكُونُ لِي النَّصْرُ فِي الْحَرْبِ لَقَاتَلْتُ فَلَمْ أُغْلَبْ وَقِيلَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَأَجَبْتُ عَنْ كُلِّ مَا أُسْأَلُ عَنْهُ، وَالْأَوْلَى: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ فَتَنْدَرِجُ هَذِهِ الْأُمُورُ وَغَيْرُهَا تَحْتَهَا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، أَيْ: لَيْسَ بِي مَا تَزْعُمُونَ مِنَ الْجُنُونِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: لَوْ عَلِمْتُ الْغَيْبَ مَا مَسَّنِي السُّوءُ وَلَحَذِرْتُ عَنْهُ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ. قَوْلُهُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أَيْ: مَا أَنَا إِلَّا مُبْلِّغٌ عَنِ اللَّهِ لِأَحْكَامِهِ، أُنْذِرُ بِهَا قَوْمًا، وَأُبَشِّرُ بِهَا آخَرِينَ، وَلَسْتُ أَعْلَمُ بِغَيْبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَاللَّامُ فِي لِقَوْمٍ مُتَعَلِّقٌ بِكِلَا الصِّفَتَيْنِ، أَيْ: بَشِيرٌ لِقَوْمٍ، وَنَذِيرٌ لِقَوْمٍ، وَقِيلَ: هُوَ متعلق ببشير، والمتعلق بنذير: مَحْذُوفٌ، أَيْ: نَذِيرٌ لِقَوْمٍ يَكْفُرُونَ، وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قَوْلُهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَعَدَمِ مُكَافَأَتِهِمْ لَهَا مِمَّا يَجِبُ مِنَ الشُّكْرِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ: آدَمُ، وَقَوْلُهُ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها مَعْطُوفٌ عَلَى خَلَقَكُمْ أَيْ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ آدَمَ وَجَعَلَ مِنْ هَذِهِ النَّفْسِ زَوْجَهَا، وَهِيَ حَوَّاءُ خَلَقَهَا مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى جَعَلَ مِنْها مِنْ جِنْسِهَا كَمَا فِي قوله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً «1» وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِيَسْكُنَ إِلَيْها عِلَّةٌ لِلْجَعْلِ، أَيْ: جَعَلَهُ مِنْهَا لِأَجَلِ يَسْكُنُ إِلَيْهَا، يَأْنَسُ إِلَيْهَا، وَيُطَمْئِنُ بِهَا، فَإِنَّ الْجِنْسَ بِجِنْسِهِ أَسْكُنُ وَإِلَيْهِ آنَسُ، وَكَانَ هَذَا فِي الْجَنَّةِ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ سُبْحَانَهُ بِحَالَةٍ أُخْرَى كَانَتْ بَيْنَهُمَا فِي الدُّنْيَا بَعْدَ هُبُوطِهِمَا، فَقَالَ فَلَمَّا تَغَشَّاها وَالتَّغَشِّي: كِنَايَةٌ عَنِ الْوِقَاعِ، أَيْ: فَلَمَّا جَامَعَهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ الْجِمَاعِ، وَوَصَفَهُ بِالْخِفَّةِ لِأَنَّهُ عِنْدَ إِلْقَاءِ النُّطْفَةِ أَخَفُّ مِنْهُ عِنْدَ كَوْنِهِ عَلَقَةً، وَعِنْدَ كَوْنِهِ عَلَقَةً أَخَفُّ مِنْهُ عِنْدَ كَوْنِهِ مُضْغَةً، وَعِنْدَ كَوْنِهِ مُضْغَةً أَخَفُّ مِمَّا بَعْدَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خَفَّ عَلَيْهَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِ ابْتِدَائِهِ إِلَى انْتِهَائِهِ، وَلَمْ تَجِدْ مِنْهُ ثِقَلًا كَمَا تَجِدُهُ الْحَوَامِلُ مِنَ النِّسَاءِ لِقَوْلِهِ فَمَرَّتْ بِهِ أَيِ: اسْتَمَرَّتْ بِذَلِكَ الْحَمْلِ، تَقُومُ وَتَقْعُدُ وَتَمْضِي فِي حَوَائِجِهَا لَا تَجِدُ بِهِ ثِقَلًا، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَلَمَّا صَارَتْ ذَاتَ ثِقَلٍ لِكِبَرِ الْوَلَدِ فِي بَطْنِهَا، وَقُرِئَ فَمَرَّتْ بِهِ بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: فَجَزِعَتْ لذلك، وقرئ «فمارت به» من المور،

_ (1) . النحل: 72.

وَهُوَ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَتْ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، وَرُوِيَتْ قِرَاءَةُ فَمَارَتْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَرَوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ قَوْلُهُ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما جَوَابٌ لِمَا، أَيْ: دَعَا آدَمُ وَحَوَّاءُ رَبَّهُمَا وَمَالِكَ أَمْرِهِمَا لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أَيْ وَلَدًا صَالِحًا، وَاللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، ولَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ جَوَابُ الْقَسَمِ سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، أَي: مِنَ الشَّاكِرِينَ لَكَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَفِي هَذَا الدُّعَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ عَلِمَا أَنَّ مَا حَدَثَ فِي بَطْنِ حَوَّاءَ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ الْجِمَاعِ هُوَ مِنْ جِنْسِهِمَا، وَعَلِمَا بِثُبُوتِ النَّسْلِ الْمُتَأَثِّرِ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ فَلَمَّا آتاهُما مَا طَلَبَاهُ مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ وَأَجَابَ دُعَاءَهُمَا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ جَاءَ إِبْلِيسُ إِلَى حَوَّاءَ وَقَالَ لَهَا: إِنْ وُلَدْتِ وَلَدًا فَسَمِّيهِ بِاسْمِي فَقَالَتْ: وَمَا اسْمُكَ؟ قَالَ: الْحَارِثُ، وَلَوْ سَمَّى لَهَا نَفْسَهُ لَعَرَفَتْهُ فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَكَانَ هَذَا شِرْكًا فِي التَّسْمِيَةِ ولم يكن شركا في العبادة. وإنما قصد أَنَّ الْحَارِثَ كَانَ سَبَبَ نَجَاةِ الْوَلَدِ، كَمَا يُسَمِّي الرَّجُلُ نَفْسَهُ عَبْدَ ضَيْفِهِ، كَمَا قَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ: وَإِنِّي لِعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًا ... وَمَا فِي إِلَّا تِلْكَ مِنْ شِيمَةِ الْعَبْدِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْجَاعِلَ شِرْكًا فِيمَا آتَاهُمَا هُمْ جِنْسُ بَنِي آدَمَ، كَمَا وَقَعَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا جَمْعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ مِنْ هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَشَكْلٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها أَيْ: مِنْ جِنْسِهَا فَلَمَّا تَغَشَّاها يَعْنِي جِنْسُ الذَّكَرِ جِنْسَ الْأُنْثَى، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ وَتَكُونُ ضَمَائِرُ التَّثْنِيَةِ رَاجِعَةً إِلَى الْجِنْسَيْنِ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْإِشَارَةَ إِلَى نَحْوِ هَذَا، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى لِأُمُورٍ مِنْهَا: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها بِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ لِحَوَّاءَ، وَمِنْهَا: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما فَإِنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ لَا يَكُونُ مِنْهُمَا عِنْدَ مُقَارَبَةِ وَضْعِهِ هَذَا الدُّعَاءُ. وَقَدْ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ شِرْكًا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ أبو عمر وَسَائِرُ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِالْجَمْعِ. وَأَنْكَرَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: جَعَلَا لَهُ ذَا شَرْكٍ، أَوْ ذَوِي شِرْكٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَي: كَيْفَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ شَرِيكًا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعٍ لَهُمْ وَلَا دَفْعٍ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ وَهُمْ يُخْلَقُونَ عَطْفٌ عَلَى مَا لَا يَخْلُقُ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا، أَيْ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ مِنَ الْأَصْنَامِ أَوِ الشَّيَاطِينِ مَخْلُوقُونَ، وَجَمْعُهُمْ جَمْعَ الْعُقَلَاءِ لِاعْتِقَادِ مَنْ جَعَلَهُمْ شُرَكَاءَ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ أَيْ: لِمَنْ جَعَلَهُمْ شُرَكَاءَ نَصْراً إِنْ طَلَبَهُ مِنْهُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ إِنْ حَصَلَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِمْ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ نَصْرِ نَفْسِهِ فَهُوَ عَنْ نَصْرِ غَيْرِهِ أَعْجَزُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ حمل بن أبي قشير وسمول بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنَا مَتَى السَّاعَةُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا كَمَا تَقُولُ فَإِنَّا نَعْلَمُ مَا هِيَ؟ فَأَنْزَلَ الله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي إِلَى قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. وَأَخْرَجَ

عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَيَّانَ مُرْساها أي: متى قيامها؟ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ يَا مُحَمَّدُ! أَسِرَّ إِلَيْنَا السَّاعَةَ لِمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ من القرابة؟ قال يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «تَهَيِجُ السَّاعَةُ بِالنَّاسِ وَالرَّجُلُ يَسْقِي عَلَى مَاشِيَتِهِ، وَالرَّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ، وَالرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ، وَالرَّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي السُّوقِ قَضَاءُ اللَّهِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ أَيَّانَ مُرْساها قَالَ: مُنْتَهَاهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ يَقُولُ: لَا يَأْتِي بِهَا إِلَّا اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا يُصِيبُهُ مِنْ ضَرَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ: ثقل علمها على أهل السموات وَالْأَرْضِ، يَقُولُ: كَبُرَتْ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ: إِذَا جَاءَتِ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ، وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ، وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ، وَمَا يُصِيبُ الْأَرْضَ، وَكَانَ مَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَذَلِكَ ثِقَلُهَا فِيهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً قَالَ: فَجْأَةً آمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قَالَ: اسْتَحْفَيْتُ عَنْهَا السُّؤَالَ حَتَّى عَلِمْتُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها يَقُولُ: كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا، أَيْ: لَسْتَ تَعْلَمُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قَالَ: لَطِيفٌ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَيْضًا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها يَقُولُ: كَأَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةٌ كَأَنَّكَ صَدِيقٌ لَهُمْ، قَالَ: لَمَّا سَأَلَ النَّاسُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ سَأَلُوهُ سُؤَالَ قَوْمٍ كَأَنَّهُمْ يُرَوْنَ أَنَّ مُحَمَّدًا حَفِيٌّ بِهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا فَلَمْ يُطْلِعْ مَلَكًا وَلَا رَسُولًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا قَالَ: الْهُدَى وَالضَّلَالَةُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ مَتَّى أَمُوتُ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ قَالَ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ قال: لعملت إِذَا اشْتَرَيْتُ شَيْئًا مَا أَرْبَحُ فِيهِ فَلَا أَبِيعُ شَيْئًا لَا رِبْحَ فِيهِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ قال: ولا يصيبني الفقر. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زيد في قوله وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ قَالَ: لَاجْتَنَبْتُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّرِّ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالرُّويَانِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَمَّا وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ لها

[سورة الأعراف (7) : الآيات 193 إلى 198]

وَلَدٌ، فَقَالَ: سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَمُرَةَ فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ قَالَ: سَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَ حَدِيثِ سَمُرَةَ الْمَرْفُوعِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَمَلَتْ حَوَّاءُ فَأَتَاهَا إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنِّي صَاحِبُكُمَا الَّذِي أَخْرَجْتُكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ لَتُطِيعِنَّنِي أَوْ لَأَجْعَلَنَّ لَهُ قَرْنَيْ أَيَلٍ فَيَخْرُجَ مِنْ بَطْنِكِ فَيَشُقَّهُ وَلَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ يُخَوِّفُهُمَا، سَمِّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَأَبَيَا أَنْ يُطِيعَاهُ فَخَرَجَ مَيِّتًا، ثُمَّ حَمَلَتْ فَأَتَاهُمَا أَيْضًا فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَبَيَا أَنْ يُطِيعَاهُ فَخَرَجَ مَيِّتًا، ثُمَّ حَمَلَتْ فَأَتَاهُمَا فَذَكَرَ لَهُمَا فَأَدْرَكَهُمَا حُبُّ الْوَلَدِ فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَلَيْسَ بِآدَمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَمُرَةَ فِي قَوْلِهِ حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً لَمْ يَسْتَبِنْ فَمَرَّتْ بِهِ لَمَّا اسْتَبَانَ حَمْلُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَمَرَّتْ بِهِ قَالَ: فَشَكَّتْ أَحَمَلَتْ أَمْ لَا؟ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ قَوْلِهِ فَمَرَّتْ بِهِ قَالَ: لَوْ كُنْتَ عَرَبِيًّا لَعَرَفْتَهَا إِنَّمَا هِيَ اسْتَمَرَّتْ بِالْحَمْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً قَالَ: هِيَ النُّطْفَةُ فَمَرَّتْ بِهِ يَقُولُ اسْتَمَرَّتْ بِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَرَّتْ بِهِ قَالَ: فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ فَمَرَّتْ بِهِ يَقُولُ: اسْتَخَفَّتْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً فَقَالَ: أَشْفَقَا أَنْ يَكُونَ بَهِيمَةً، فَقَالَا لَئِنْ آتَيْتَنَا بَشَرًا سَوِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ غُلَامًا سَوِيًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ قَالَ: كَانَ شَرِيكًا فِي طَاعَةٍ وَلَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فِي عِبَادَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مَا أَشْرَكَ آدَمُ، إِنَّ أَوَّلَهَا: شُكْرٌ، وَآخِرَهَا: مَثَلٌ ضَرَبَهُ لِمَنْ بَعْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ هَذَا فَصْلٌ مِنْ آيَةِ آدَمَ خَاصَّةً فِي آلِهَةِ الْعَرَبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ نَحْوَهُ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا فِي الْكُفَّارِ يَدْعُونَ اللَّهَ فَإِذَا آتَاهُمَا صَالِحًا هَوَّدَا أَوْ نَصَّرَا، ثُمَّ قَالَ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ يَقُولُ: يُطِيعُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا، وَهِيَ الشَّيَاطِينُ لَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَهِيَ تُخْلَقُ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً يقول: لمن يدعوهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 193 الى 198] وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)

قَوْلُهُ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ هَذَا خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ: وَإِنْ تَدْعُوا هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ إِلَى الْهُدَى وَالرَّشَادِ بِأَنْ تَطْلُبُوا مِنْهُمْ أَنْ يَهْدُوكُمْ وَيُرْشِدُوكُمْ لَا يَتَّبِعُوكُمْ وَلَا يُجِيبُوكُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ دُونُ مَا تَطْلُبُونَهُ مِنْهُمْ مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَاهُ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ أَيِ: الْأَصْنَامَ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. وَقُرِئَ لَا يَتَّبِعُوكُمْ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: اتْبَعَهُ مُخَفَّفًا: إِذَا مَضَى خَلْفَهُ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، وَاتَّبَعَهُ مُشَدَّدًا: إِذَا مَضَى خَلْفَهُ فَأَدْرَكَهُ، وَجُمْلَةُ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ: دُعَاؤُكُمْ لَهُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ، وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُجِيبُونَ، وَقَالَ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ مكان أم صمتم، لِمَا فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: إِنَّمَا جَاءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِكَوْنِهَا رَأْسَ آيَةٍ، يَعْنِي لِمُطَابَقَةِ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَمَا قَبْلَهُ، قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أَخْبَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بأن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلْتُمُوهُمْ آلِهَةً هُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ كَمَا أَنْتُمْ عِبَادٌ لَهُ مَعَ أَنَّكُمْ أَكْمَلُ مِنْهُمْ، لِأَنَّكُمْ أَحْيَاءٌ تَنْطِقُونَ وَتَمْشُونَ وَتَسْمَعُونَ وَتُبْصِرُونَ، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا مِثْلُكُمْ فِي كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لِلَّهِ مُسَخَّرَةً لِأَمْرِهِ. وَفِي هَذَا تَقْرِيعٌ لَهُمْ بَالِغٌ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ عَظِيمٌ، وَجُمْلَةُ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ مقرة لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا مِنْ أَنَّهُمْ إِنْ دَعَوْهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ شَيْئًا، أَيِ: ادْعُوا هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا تَزْعُمُونَ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِيمَا تَدَّعُونَهُ لَهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِمْ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ وَمَا بَعْدَهُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي هِيَ ثَابِتَةٌ لَكُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى مَا تَطْلُبُونَهُ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي تَعْكِفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا لَيْسَتْ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها فِي نَفْعِ أَنْفُسِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْشُوا فِي نَفْعِكُمْ وَلَيْسَ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها كَمَا يَبْطِشُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها كَمَا تُبْصِرُونَ، وَلَيْسَ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها كَمَا تَسْمَعُونَ، فَكَيْفَ تَدْعُونَ مَنْ هُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مَنْ سَلْبِ الْأَدَوَاتِ، وَبِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ الْعَجْزِ، وَأَمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةُ، كَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ النَّحْوِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ بِتَخْفِيفِ إِنَّ وَنَصْبِ عِبَادًا، أَيْ: مَا الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ عَلَى إِعْمَالِ إِنِ النَّافِيَةِ عَمَلَ مَا الْحِجَازِيَّةِ، وَقَدْ ضُعِّفَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِأَنَّهَا خِلَافُ مَا رَجَّحَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنِ اخْتِيَارِ الرَّفْعِ فِي خَبَرِهَا، وَبِأَنَّ الْكِسَائِيَّ قَالَ: إِنَّهَا لَا تَكَادُ تَأْتِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى مَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا إِيجَابٌ كَمَا فِي قوله: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، وَالْبَطْشُ: الْأَخْذُ بِقُوَّةٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ يَبْطِشُونَ بِضَمِّ الطَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ لهم

[سورة الأعراف (7) : الآيات 199 إلى 206]

حَالَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، وَتَعَاوَرَ وُجُوهَ النَّقْصِ وَالْعَجْزِ لَهَا مِنْ كُلِّ بَابٍ، أَمْرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ قُدْرَةً عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ ثُمَّ كِيدُونِ أَنْتُمْ وَهَمَ جَمِيعًا بِمَا شِئْتُمْ مِنْ وُجُوهِ الْكَيْدِ فَلا تُنْظِرُونِ أَيْ: فَلَا تُمْهِلُونِي، وَلَا تُؤَخِّرُونَ إِنْزَالَ الضَّرَرِ بِي مِنْ جِهَتِهَا، وَالْكَيْدُ: الْمَكْرُ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَا التَّحَدِّي لَهُمْ وَالتَّعْجِيزِ لِأَصْنَامِهِمْ شَيْءٌ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ أَيْ: كَيْفَ أَخَافُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي هَذِهِ صِفَتُهَا وَلِي وَلِيٌّ أَلْجَأُ إِلَيْهِ وَأَسْتَنْصِرُ بِهِ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهَا، وَوَلِيُّ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهُ وَيَقُومُ بِنُصْرَتِهِ، وَيَمْنَعُ مِنْهُ الضَّرَرَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أَيْ: يَحْفَظُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ، وَيَحُولُ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِمْ قَالَ الْأَخْفَشُ: وَقُرِئَ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ يعني: جبريل. قَالَ النَّحَّاسُ: هِيَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ الْجَحْدَرَيِّ وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَبْيَنُ، لِقَوْلِهِ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. قَوْلُهُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ هَذَا لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَلِمَا فِي تَكْرَارِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ من الإهانة للمشركين والتنقيص بِهِمْ، وَإِظْهَارِ سَخْفِ عُقُولِهِمْ، وَرَكَاكَةِ أَحْلَامِهِمْ وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ جُمْلَةٌ مُبْتَدِأَةٌ لِبَيَانِ عَجْزِهِمْ، أَوْ حَالِيَّةٌ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكَ تَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ حَالُ كَوْنِهِمْ لَا يُبْصِرُونَ، وَالْمُرَادُ: الْأَصْنَامُ إِنَّهُمْ يُشْبِهُونَ النَّاظِرِينَ، وَلَا أَعْيُنَ لَهُمْ يُبْصِرُونَ بِهَا، قِيلَ: كَانُوا يَجْعَلُونَ لِلْأَصْنَامِ أَعْيُنًا مِنْ جَوَاهِرَ مَصْنُوعَةٍ، فَكَانُوا بِذَلِكَ فِي هَيْئَةِ النَّاظِرِينَ وَلَا يُبْصِرُونَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ، أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَ حِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَبْصَارِهِمْ، وَإِنْ أَبْصَرُوا بِهَا غَيْرَ مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: يُجَاءُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حَتَّى يُلَقَيَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُجَاءُ بِمَنْ كَانَ يَعْبُدُهُمَا، فَيُقَالُ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن السدي في قوله وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ما تدعوهم إليه من الهدى. [سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 206] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) قَوْلُهُ خُذِ الْعَفْوَ لَمَّا عَدَّدَ اللَّهُ مَا عَدَّدَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَتَسْفِيهِ رَأْيِهِمْ وَضَلَالِ سَعْيهِمْ أَمَرَ رَسُولَهُ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ، يُقَالُ: أَخَذْتُ حَقِّي عَفْوًا: أَيْ سَهْلًا، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ التَّيْسِيرِ الَّذِي كَانَ يَأْمُرُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «يَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» ، وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ هُنَا: ضِدُّ الْجَهْدِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ خُذِ الْعَفْوَ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ وَلَا تُشَدِّدْ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَتَأْخُذَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أَيْ: بِالْمَعْرُوفِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالْعُرْفِ بِضَمَّتَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْعُرْفُ وَالْمَعْرُوفُ وَالْعَارِفَةُ: كُلُّ خَصْلَةٍ حَسَنَةٍ تَرْتَضِيهَا الْعُقُولُ وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا النُّفُوسُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازَيْهِ ... لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أَيْ: إِذَا أَقَمْتَ الْحُجَّةَ فِي أَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَا تُمَارِهِمْ، وَلَا تُسَافِهْهُمْ مُكَافَأَةً لِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مَنِ الْمِرَاءِ وَالسَّفَاهَةِ قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. قَوْلُهُ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النَّزْغُ: الْوَسْوَسَةُ، وَكَذَا النَّغْزُ وَالنَّخْسُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: النَّزْغُ: أَدْنَى حَرَكَةٍ تَكُونُ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ: أَدْنَى وَسْوَسَةٍ، وَأَصْلُ النَّزْغِ: الْفَسَادُ، يُقَالُ نَزَغَ بَيْنَنَا: أَيْ أَفْسَدَ، وَقِيلَ: النَّزْغُ: الْإِغْوَاءُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ خُذِ الْعَفْوَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ يَا رَبِّ بِالْغَضَبِ» ؟ فَنَزَلَتْ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ عِلَّةٌ لِأَمْرِهِ بِالِاسْتِعَاذَةِ، أَيِ: اسْتَعِذْ بِهِ، وَالْتَجِئْ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْكَ وَيَعْلَمُ بِهِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ: إِنَّ شَأْنَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ وَحَالَهُمْ هُوَ التَّذَكُّرُ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ عِنْدَ أَنْ يَمَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا. قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ طَيْفٌ وَكَذَا أَهْلُ مَكَّةَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ طائِفٌ. وَقَرَأَ سَعِيدُ ابن جُبَيْرٍ طَيِّفٌ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ النَّحَّاسُ: كَلَامُ الْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذَا طَيْفٌ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مَنْ طَافَ يَطِيفُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مُخَفَّفٌ مِثْلُ مَيِّتٍ وَمَيْتٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ مَا يُتَخَيَّلُ فِي الْقَلْبِ، أَوْ يُرَى فِي النَّوْمِ، وَكَذَا مَعْنَى طَائِفٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: سَأَلْتُ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ طَيِّفٍ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْمَصَادِرِ فَيْعِلٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ هُوَ مَصْدَرًا وَلَكِنْ يَكُونُ بِمَعْنَى طَائِفٍ وَقِيلَ: الطَّيْفُ وَالطَّائِفُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَالْأَوَّلُ التَّخَيُّلُ، وَالثَّانِي الشَّيْطَانُ نَفْسُهُ فَالْأَوَّلُ مِنْ طَافَ الْخَيَالُ يَطُوفُ طَيْفًا، وَلَمْ يَقُولُوا مِنْ هَذَا طَائِفٌ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: لِأَنَّهُ تَخَيُّلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَأَمَّا قوله فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ «1» فَلَا يُقَالُ فِيهِ طَيْفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ حَقِيقَةً. قَالَ الزَّجَّاجُ: طُفْتُ عَلَيْهِمْ أَطُوفُ، فَطَافَ الْخَيَالُ يَطِيفُ. قَالَ حَسَّانٌ: فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لَطَيْفٍ ... يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ وَسُمِّيَتِ الْوَسْوَسَةُ طَيْفًا، لِأَنَّهَا لَمَّةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تُشْبِهُ لَمَّةَ الْخَيَالِ فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ بِسَبَبِ التَّذَكُّرِ أَيْ: مُنْتَبِهُونَ، وَقِيلَ: عَلَى بَصِيرَةٍ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ تَذَكَّرُوا بِتَشْدِيدِ الذَّالِ. قَالَ النَّحَّاسُ: ولا

_ (1) . القلم: 19.

وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. قَوْلُهُ وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ قِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ، وَهُمُ الْفُجَّارُ مِنْ ضُلَّالِ الْإِنْسِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِخْوَانِهِمْ يَعُودُ إِلَى الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورِ سَابِقًا، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْجِنْسُ، فَجَازَ إِرْجَاعُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ إِلَيْهِ. يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أَيْ: تُمِدُّهُمُ الشَّيَاطِينُ فِي الْغَيِّ، وَتَكُونُ مَدَداً لَهُمْ، وَسُمِّيَتُ الْفُجَّارُ مِنَ الْإِنْسِ: إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ لِأَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ وَيَقْتَدُونَ بِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِخْوَانِ: الشَّيَاطِينُ، وَبِالضَّمِيرِ: الْفُجَّارُ مِنَ الْإِنْسِ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ جَارِيًا عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ لِأَنَّ الْكُفَّارَ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ، ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ الْإِقْصَارُ: الِانْتِهَاءُ عَنِ الشَّيْءِ، أَيْ: لَا تُقَصِّرُ الشَّيَاطِينُ فِي مَدِّ الْكُفَّارِ فِي الْغَيِّ، قِيلَ: إِنَّ فِي الْغَيِّ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ يَمُدُّونَهُمْ وَقِيلَ: بِالْإِخْوَانِ، وَالْغَيُّ: الْجَهْلُ. قَرَأَ نَافِعٌ يَمُدُّونَهُمْ بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ، وَهُمَا لُغَتَانِ: يُقَالُ مَدَّ وَأَمَدَّ. قال مكي: ومدّ أكثر. وقال أبو عبيدة وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: فَإِنَّهُ يُقَالُ إِذَا كَثَّرَ شَيْءٌ شَيْئًا بِنَفْسِهِ مَدَّهُ، وَإِذَا كَثَّرَهُ بِغَيْرِهِ، قِيلَ أَمَدَّهُ نَحْوُ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ «1» وَقِيلَ: يُقَالُ مَدَدْتُ فِي الشَّرِّ وَأَمْدَدْتُ فِي الْخَيْرِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرَيُّ يُمَادُونَهُمْ فِي الْغَيِّ. وقرأ عيسى ابن عُمَرَ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الصَّادِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ. قَوْلُهُ وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها اجْتَبَى الشَّيْءَ بِمَعْنَى جَبَاهُ لِنَفْسِهِ: أَيْ جَمَعَهُ، أَيْ: هَلَّا اجْتَمَعْتَهَا افْتِعَالًا لَهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ وَقِيلَ: الْمَعْنَى اخْتَلَقْتَهَا، يُقَالُ اجْتَبَيْتُ الْكَلَامَ: انْتَحَلْتُهُ وَاخْتَلَقْتُهُ وَاخْتَرَعْتُهُ، إِذَا جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ، كَانُوا يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَرَاخَى الْوَحْيُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ أَيْ: لَسْتُ مِمَّنْ يَأْتِي بِالْآيَاتِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ كَمَا تَزْعُمُونَ قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فَمَا أوحاه إليّ وأنزله عليّ أبلغه إِلَيْكُمْ، وَبَصَائِرُ: جُمَعُ بَصِيرَةٍ، أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَيَّ هُوَ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ يَتَبَصَّرُ بِهَا مَنْ قَبِلَهَا، وَقِيلَ: الْبَصَائِرُ، الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْبَصَائِرُ: الطُّرُقُ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى بَصَائِرَ، أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ بَصَائِرُ وَهُدًى، يَهْتَدِي بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَرَحْمَةٌ لَهُمْ. قَوْلُهُ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا أَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِمَاعِ لِلْقُرْآنِ وَالْإِنْصَاتِ لَهُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ لِيَنْتَفِعُوا بِهِ، وَيَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ قِيلَ: هَذَا الْأَمْرُ خَاصٌّ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ اللَّفْظَ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا وَالْعَامُّ لَا يُقْصَرُ عَلَى سَبَبِهِ، فَيَكُونُ الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَعَلَى أَيِّ صِفَةٍ، مِمَّا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِ وَقِيلَ: هَذَا خَاصٌّ بِقِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقُرْآنِ، دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَيْ: تَنَالُونَ الرَّحْمَةَ، وَتَفُوزُونَ بِهَا بِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ الْإِخْفَاءَ أَدْخَلُ فِي الْإِخْلَاصِ وَأَدْعَى لِلْقَبُولِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ الَّتِي يُذْكَرُ اللَّهُ بِهَا. وَقَالَ النَّحَّاسُ: لَمْ يُخْتَلَفْ فِي مَعْنَى وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ أَنَّهُ الدُّعَاءُ وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالْقُرْآنِ أَيِ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ بِتَأَمُّلٍ وتدبر، وتَضَرُّعاً وَخِيفَةً مُنْتَصِبَانِ عَلَى الْحَالِ، أَي: مُتَضَرِّعًا وَخَائِفًا، والخيفة: الخوف، وأصلها: خوفة

_ (1) . آل عمران: 125. [.....]

قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهُ يُقَالُ فِي جَمْعِ خِيفَةٍ: خِيَفٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْخِيفَةُ: الْخَوْفُ وَالْجَمْعُ: خِيَفٌ، وَأَصْلُهُ الْوَاوُ، أَي: خَوْفٌ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ: دُونَ الْمَجْهُورِ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: مُتَضَرِّعًا، وَخَائِفًا، وَمُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ هُوَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ، وبِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ متعلق باذكر أَيْ أَوْقَاتِ الْغَدَوَاتِ وَأَوْقَاتِ الْأَصَائِلِ، وَالْغُدُوُّ: جَمْعُ غُدْوَةٍ، وَالْآصَالُ: جَمْعُ أَصِيلٍ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَالْأَخْفَشُ، مِثْلُ يَمِينٍ وَأَيْمَانٍ، وَقِيلَ: الْآصَالُ جَمْعُ أُصُلٍ، وَالْأُصُلُ جَمْعُ أَصِيلٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا جَمْعُ الْجَمْعِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْأَصِيلُ الْوَقْتُ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَجَمْعُهُ أُصُلٌ وَآصَالٌ وَأَصَائِلُ كَأَنَّهُ جَمْعُ أَصِيلَةٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أَكْرَمُ أَهْلُهُ ... وَأَقْعَدُ فِي أَفَنَائِهِ بِالْأَصَائِلِ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أُصْلَانٍ مِثْلَ بَعِيرٍ وَبُعْرَانٍ، وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ وَالْإِيصَالِ وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَخَصَّ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِشَرَفِهِمَا، وَالْمُرَادُ دَوَامُ الذِّكْرِ لِلَّهِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ أَيْ: عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ الْمُرَادُ بِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَالَ: عِنْدَ رَبِّكَ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكُلِّ مَكَانٍ، لِأَنَّهُمْ قَرِيبُونَ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَكُلُّ قَرِيبٍ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ عِنْدَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لِأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَنْفُذُ فِيهِ إِلَّا حُكْمُ اللَّهِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ، كَمَا يُقَالُ: عِنْدَ الْخَلِيفَةِ جَيْشٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ هَذَا على جهة التشريف والتكريم لهم، ومعنى يُسَبِّحُونَهُ يُعَظِّمُونَهُ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْ كُلِّ شَيْنٍ وَلَهُ يَسْجُدُونَ أَيْ: يَخْصُّونَهُ بِعِبَادَةِ السُّجُودِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ عِبَادَةٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ: الْخُضُوعُ وَالذِّلَّةُ، وَفِي ذِكْرِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى تَعْرِيضٌ لِبَنِي آدَمَ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ خُذِ الْعَفْوَ الْآيَةَ، قَالَ: مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ، وَفِي لَفْظٍ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ خُذِ الْعَفْوَ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: لَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ قال: «والله لأمثلنّ بسبعين منهم، فجاء جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ خُذِ الْعَفْوَ قَالَ: مَا عَفَا لَكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ خُذِ الْعَفْوَ قَالَ: خُذْ مَا عَفَا من أموالهم

مَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَخُذْهُ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةٌ بِفَرَائِضِ الصَّدَقَةِ وَتَفْصِيلِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْفَضْلُ مِنَ الْمَالِ نَسَخَتْهُ الزَّكَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ خُذِ الْعَفْوَ الْآيَةَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَيْفَ بِالْغَضَبِ يَا رَبُّ؟ فَنَزَلَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مجاهد في قوله إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ قَالَ: الْغَضَبُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الطَّيْفُ: الْغَضَبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ تَذَكَّرُوا قَالَ: إِذَا زَلُّوا تَابُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الطَّائِفُ: اللَّمَّةُ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ يَقُولُ: فَإِذَا هُمْ مُنْتَهُونَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ آخِذُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَاصُونَ لِلشَّيْطَانِ. وَإِخْوانُهُمْ قَالَ: إِخْوَانُ الشيطان يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ قَالَ: لَا الْإِنْسُ يُمْسِكُونَ عَمَّا يَعْمَلُونَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، ولا الشياطين تمسك عنهم، وإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها يَقُولُ: لَوْلَا أَحْدَثْتَهَا، لَوْلَا تَلَقَّيْتَهَا فَأَنْشَأْتَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ قَالَ: هُمُ الجنّ يوحون إلى أولياؤهم مِنَ الْإِنْسِ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ يَقُولُ: لَا يَسْأَمُونَ وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها يَقُولُ: هَلَّا افْتَعَلْتَهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ الْآيَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَهُمْ خَلْفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ خَلْفَهُ قَوْمٌ فَخَلَطُوا، فَنَزَلَتْ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ الْآيَةَ. فَهَذِهِ فِي الْمَكْتُوبَةِ. قَالَ: وَإِنْ كُنَّا لَمْ نَسْتَمِعْ لِمَنْ يَقْرَأْ بِالْأَخْفَى مِنَ الْجَهْرِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْإِمَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: عِنْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَعِنْدَ الذِّكْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: فِي الصَّلَاةِ وَحِينَ يَنْزِلُ الْوَحْيُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا فِي الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ الْآيَةَ، قَالَ: أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَذْكُرَهُ، وَنَهَاهُ عَنِ الْغَفْلَةِ، أَمَّا بِالْغُدُوِّ: فَصَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالْآصَالِ: بِالْعَشِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَخْرٍ. قَالَ: الْآصَالُ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَا تَجْهَرُ بِذَاكَ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ بِالْبَكْرِ وَالْعَشِيِّ. وَأَخْرُجُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ

بِالْغُدُوِّ قَالَ: آخِرُ الْفَجْرِ: صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالْآصَالُ: آخِرُ الْعَشِيِّ، صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَعَدَدِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْجَدُ فِيهَا، وَكَيْفِيَّةِ السُّجُودِ وَمَا يُقَالُ فِيهِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، فَلَا نُطَوِّلُ بإيراد ذلك هاهنا.

سورة الأنفال

سورة الأنفال صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: سُورَةُ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ. وَفِي لَفْظٍ تِلْكَ سُورَةُ بَدْرٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا سَبْعَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخَرِ سَبْعِ آيَاتٍ، وَجُمْلَةُ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ سِتٌّ وَسَبْعُونَ آيَةً، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عن أبي أيوب. وأخرج أيضا عن زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الْأَنْفَالِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنفال (8) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) الْأَنْفَالُ: جَمْعُ نَفَلٍ مُحَرَّكًا، وَهُوَ: الْغَنِيمَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: إِنَّا إِذَا احْمَرَّ الْوَغَى نَرْوِي الْقَنَا ... وَنَعُفُّ عِنْدَ مَقَاسِمِ الْأَنْفَالِ أَيِ: الْغَنَائِمِ، وَأَصْلُ النَّفَلِ: الزِّيَادَةُ، وَسُمِّيَتِ الْغَنِيمَةُ بِهِ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِيمَا أَحِلَّ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى غَيْرِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا يَحْصُلُ لِلْمُجَاهِدِ مِنْ أَجْرِ الْجِهَادِ، وَيُطْلَقُ النَّفَلُ عَلَى مَعَانٍ أخر منها: اليمين، والانتفاء، وَنَبْتٌ مَعْرُوفٌ. وَالنَّافِلَةُ التَّطَوُّعُ لِكَوْنِهَا زَائِدَةً عَلَى الْوَاجِبِ. وَالنَّافِلَةُ: وُلَدُ الْوَلَدِ، لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْوَلَدِ وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ: اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فَنَزَعَ اللَّهُ مَا غَنِمُوهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَجَعَلَهُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَقَالَ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أَيْ حُكْمُهَا مُخْتَصٌّ بِهِمَا يُقَسِّمُهَا بَيْنَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلَيْسَ لَكُمْ حُكْمٌ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الْأَنْفَالَ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَطَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ بِالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِمَا، وَتَرْكِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيِ: امْتَثِلُوا هَذِهِ الْأَوَامِرَ الثَّلَاثَةَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَفِيهِ مِنَ التَّهْيِيجِ وَالْإِلْهَابِ مَا لَا يَخْفَى، مَعَ

كَوْنِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَلَى الْإِيمَانِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ كُنْتُمْ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأُمُورَ الَّتِي هِيَ تَقْوَى اللَّهِ، وَإِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَطَاعَةُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ، لَا يَكْمُلُ الْإِيمَانُ بِدُونِهَا، بَلْ لَا يَثْبُتُ أَصْلًا لِمَنْ لَمْ يَمْتَثِلْهَا، فَإِنَّ مَنْ لَيْسَ بِمُتَّقٍ وَلَيْسَ بِمُطِيعٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: فِينَا أَصْحَابَ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا. فَانْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا وَجَعَلَهُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَسَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَوَاءٍ، يَقُولُ: عَنْ سَوَاءٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا، فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَسْكَرِ يَحُوزُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصِيبُ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ: نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ، وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ نَفَيْنَا عَنْهُ الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ، وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً فَاشْتَغَلْنَا به، فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ قَسَّمَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَغَارَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ نَفَلَ الرُّبُعَ، وَإِذَا أَقْبَلَ رَاجِعًا وَكُلَّ النَّاسِ نَفَلَ الثُّلُثَ، وَكَانَ يَكْرَهُ الْأَنْفَالَ وَيَقُولُ: لِيَرُدَّ قَوِيُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ضَعِيفِهِمْ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَنَصَرَهَا اللَّهُ وَفَتَحَ عَلَيْهَا، فَكَانَ مَنْ آتَاهُ بِشَيْءٍ نَفَلَهُ مِنَ الْخُمْسِ، فَرَجَعَ رِجَالٌ كَانُوا يَسْتَقْدِمُونَ وَيَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ وَتَرَكُوا الْغَنَائِمَ خَلْفَهُمْ، فَلَمْ يَنَالُوا مِنَ الْغَنَائِمِ شَيْئًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا بَالُ رِجَالٍ مِنَّا يَسْتَقْدِمُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَتَخَلَّفَ رِجَالٌ لَمْ يَصِلُوا بِالْقِتَالِ فَنَفَلْتَهُمْ بِالْغَنِيمَةِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ونزل يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الْآيَةَ، فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «رَدُّوا مَا أَخَذْتُمْ، وَاقْتَسِمُوا بِالْعَدْلِ وَالسَّوِيَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِذَلِكَ، فَقَالُوا: قَدْ أَنْفَقْنَا وَأَكَلْنَا، فَقَالَ: احْتَسِبُوا ذَلِكَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ شَفَانِي اللَّهُ الْيَوْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا السَّيْفَ لَا لَكَ وَلَا لِي، ضَعْهُ، فَوَضَعْتُهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ قُلْتُ: عَسَى يُعْطَى هَذَا السَّيْفَ الْيَوْمَ مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي إِذَا رَجُلٌ يَدْعُونِي مِنْ وَرَائِي، قُلْتُ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ شَيْئًا؟ قَالَ: كُنْتَ سَأَلْتَنِي هَذَا السَّيْفَ وَلَيْسَ هُوَ لِي، وَإِنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِي فَهُوَ لك» وأنزل الله هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ أَنَّ سَعْدًا قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَخِي يَوْمَ بَدْرٍ وَقَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَنِيفَةِ فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ

عَنْ سَعْدٍ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ يوم بدر فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ. وأخرج ابن مردويه عَنْهُ قَالَ: لَمْ يَنْفَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بعد إذ نزلت عليه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ فَإِنَّهُ نَفَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْخُمُسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حِبَّانَ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، فَأَمَّا الْمَشْيَخَةُ فَثَبَتُوا تَحْتَ الرَّايَاتِ، وَأَمَّا الشُّبَّانُ فَسَارَعُوا إِلَى الْقَتْلِ وَالْغَنَائِمِ، فَقَالَتِ الْمَشْيَخَةُ لِلشُّبَّانِ: أَشْرِكُونَا مَعَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا لَكُمْ رِدَءًا، وَلَوْ كَانَ مِنْكُمْ شَيْءٌ لَلَجَأْتُمْ إِلَيْنَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الْآيَةَ، فَقَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قَالَ: الْأَنْفَالُ الْمَغَانِمُ، كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصَةً لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهَا شَيْءٌ مَا أَصَابَ مِنْ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَيْءٍ أَتَوْهُ بِهِ، فَمَنْ حَبَسَ مِنْهُ إِبْرَةً أَوْ سِلْكًا فَهُوَ غُلُولٌ، فَسَأَلُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يعطيهم منها شيئا فأنزل الله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِي جَعَلْتُهَا وَلِرَسُولِي لَيْسَ لَكُمْ فِيهَا شَيْءٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ، ثُمَّ قَسَّمَ ذَلِكَ الْخُمُسَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَجَعَلَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ النَّاسِ فِيهِ سَوَاءً، لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قال: هي الغنائم، ثُمَّ نَسَخَهَا وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: الْفَرَسُ مِنَ النَّفَلِ وَالسَّلَبُ مِنَ النَّفَلِ، فَأَعَادَ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مِثْلُ ضُبَيْعٍ الَّذِي ضَرَبَهُ عُمَرُ وَفِي لَفْظٍ: فَقَالَ: مَا أَحْوَجَكَ أَنْ يُصْنَعَ بِكَ كَمَا صَنَعَ عُمَرُ بِضُبَيْعٍ الْعِرَاقِيِّ، وَكَانَ عُمَرُ ضَرَبَهُ حَتَّى سَالَتِ الدِّمَاءُ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: الْأَنْفَالُ الْمَغَانِمُ، أُمِرُوا أَنْ يُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ فِيهَا فَيَرُدَّ الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عطاء في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قَالَ: هُوَ مَا شَذَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، مِنْ عَبْدٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ مَتَاعٍ فَذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَرْسَلْنَا إلى سعيد ابن الْمُسَيَّبِ نَسْأَلُهُ عَنِ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: تَسْأَلُونِي عَنِ الْأَنْفَالِ وَإِنَّهُ لَا نَفَلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سَعِيدٍ أَيْضًا قَالَ: مَا كَانُوا يَنْفُلُونَ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَفَلَ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي خُمُسِ الْخُمُسِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَمِيرًا مِنَ الْأُمَرَاءِ أَرَادَ أَنْ يُنَفِّلَهُ قَبْلَ أَنْ يُخَمِّسَهُ فَأَبَى أَنَسٌ أَنْ يَقْبَلَهُ حَتَّى يُخَمِّسَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الشعبي

[سورة الأنفال (8) : الآيات 2 إلى 4]

في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قَالَ: مَا أَصَابَتِ السَّرَايَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ حَتَّى نَسَخَهَا آيَةُ الْخُمُسِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ قَالَ: هَذَا تَخْرِيجٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَأَنْ يُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ حَيْثُ اخْتَلَفُوا فِي الْأَنْفَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: كَانَ صَلَاحُ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَنْ رُدَّتِ الْغَنَائِمُ، فَقُسِّمَتْ بَيْنَ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَنْ قَاتَلَ وَغَنِمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ: طَاعَةُ الرَّسُولِ: اتّباع الكتاب والسّنّة. [سورة الأنفال (8) : الآيات 2 الى 4] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) الْوَجَلُ: الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ حُصُولَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ وَالْفَزَعِ مِنْهُ عِنْدَ ذِكْرِهِ هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِي الْإِيمَانِ، الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ، فَالْحَصْرُ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ الْإِيمَانِ لَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْإِيمَانِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا وَإِنْ صَحَّ إِدْرَاجُهُ تَحْتَ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ: أَنَّ وَجَلَ الْقُلُوبِ عِنْدَ الذَّكَرِ وَزِيَادَةَ الْإِيمَانِ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ يَسْتَلْزِمَانِ امْتِثَالَ مَا أَمَرَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ كَوْنِ الْأَنْفَالِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَقْصُودَ الْآيَةِ هُوَ إِثْبَاتُ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ لِمَنْ كَمُلَ إِيمَانُهُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَلَا بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا بِوَاقِعَةٍ دُونَ وَاقِعَةٍ، وَالْمُرَادُ مِنْ تِلَاوَةِ آيَاتِهِ: تِلَاوَةُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ، أَوِ التَّعْبِيرُ عَنْ بَدِيعِ صَنْعَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ فِي آيَاتِهِ التَّكْوِينِيَّةِ بِذِكْرِ خَلْقِهَا الْبَدِيعِ وَعَجَائِبِهَا الَّتِي يَخْشَعُ عِنْدَ ذِكْرِهَا الْمُؤْمِنُونَ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، هُوَ زِيَادَةُ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، وَطُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ، وَانْثِلَاجُ الْخَاطِرِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ: زِيَادَةُ الْعَمَلِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَالْآيَاتُ الْمُتَكَاثِرَةُ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ، تَرُدُّ ذَلِكَ وَتَدْفَعُهُ وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ: تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْمَوْصُولِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ بَيَانٌ لَهُ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ، وَخَصَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةَ لِكَوْنِهِمَا أَصْلَ الْخَيْرِ وَأَسَاسَهُ، وَ «مِنْ» فِي مِمَّا لِلتَّبْعِيضِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِالْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ: أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْكَامِلُونَ الْإِيمَانِ، الْبَالِغُونَ فيه إلى أعلى درجاته وأقصى غاياته وحَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، أَوْ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا حَقًّا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِمَنْ كَانَ جَامِعًا بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ الْكَرَامَةِ فَقَالَ: لَهُمْ دَرَجاتٌ أَيْ: مَنَازِلُ خَيْرٍ وَكَرَامَةٍ وَشَرَفٍ فِي الْجَنَّةِ كَائِنَةٌ عند ربهم، وفي كونها عنده سبحانه: تَشْرِيفٍ لَهُمْ وَتَكْرِيمٍ وَتَعْظِيمٍ وَتَفْخِيمٍ، وَجُمْلَةُ لَهُمْ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 إلى 8]

دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ خَبَرٌ ثَانٍ لِ أُولئِكَ أو مستأنفة جوابا لسؤال مقدر، وَمَغْفِرَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى دَرَجَاتٍ، أَيْ: مَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِمْ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يُكْرِمُهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ وَاسِعِ فَضْلِهِ وَفَائِضِ جُودِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قَالَ: فَرَقَتْ قُلُوبُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: الْمُنَافِقُونَ لَا يَدْخُلُ قُلُوبَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ، وَلَا يَصِلُونَ إِذَا غَابُوا، وَلَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فَأَدَّوْا فَرَائِضَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: إِنَّمَا الْوَجَلُ فِي الْقَلْبِ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ يَا شَهْرُ بْنَ حَوْشَبٍ، أَمَا تَجِدُ قَشْعْرِيرَةً؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَادْعُ عِنْدَهَا فَإِنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: قَالَ فُلَانٌ: إِنِّي لَأَعْلَمُ مَتَى يُسْتَجَابُ لِي؟ قَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ؟ قَالَ: إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدِي، وَوَجِلَ قَلْبِي، وَفَاضَتْ عَيْنَايَ، فَذَلِكَ حِينَ يُسْتَجَابُ لِي. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا الْوَجَلُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ إِلَّا كَضَرْمَةِ السَّعَفَةِ، فَإِذَا وَجِلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَدْعُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ، أَوْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ فَيُقَالُ لَهُ اتَّقِ الله فيجل قَلْبُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: زادَتْهُمْ إِيماناً قَالَ: تَصْدِيقًا. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: زادَتْهُمْ إِيماناً قَالَ: خَشْيَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يَقُولُ: لَا يَرْجُونَ غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا قَالَ: بَرِئُوا مِنَ الْكُفْرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ حَقًّا قَالَ: خَالِصًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ يَعْنِي: فَضَائِلَ وَرَحْمَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ قَالَ: أَعْمَالٌ رفيعة. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ قَالَ: أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَرَى الَّذِي هُوَ فَوْقُ فَضْلَهُ عَلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ. وَلَا يَرَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلُ أَنَّهُ فُضِّلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَغْفِرَةٌ قَالَ: بِتَرْكِ الذُّنُوبِ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قَالَ: الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ اللَّهَ يَقُولُ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فهي الجنة. [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 8] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)

قوله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيِ: الْأَنْفَالُ ثَابِتَةٌ لَكَ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ أَيْ: مِثْلَ إِخْرَاجِ رَبِّكَ، وَالْمَعْنَى: امْضِ لِأَمْرِكَ فِي الْغَنَائِمِ وَنَفِّلْ مَنْ شِئْتَ وَإِنْ كَرِهُوا، لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جُعِلَ لِكُلِّ مَنْ أَتَى بِأَسِيرٍ شَيْئًا قَالَ: بَقِيَ أَكْثَرُ النَّاسِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَمَوْضِعُ الْكَافِ نَصْبٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ قَسَمٌ، أَيْ: وَالَّذِي أَخْرَجَكَ، فَالْكَافُ: بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَمَا: بِمَعْنَى الَّذِي. وَقَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: الْمَعْنَى أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمَعْنَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ وَقِيلَ: كَمَا أَخْرَجَكَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ أَيْ: هَذَا الْوَعْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ فِي الْآخِرَةِ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ الْوَاجِبُ لَهُ، فَأَنْجَزَ وَعْدَكَ وَظَفَّرَكَ بَعَدُوِّكِ وَأَوْفَى لَكَ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَاخْتَارَهُ، وَقِيلَ: الْكَافُ فِي «كَمَا» كَافُ التَّشْبِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَازَاةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِعَبْدِهِ: كَمَا وَجَّهْتُكَ إِلَى أَعْدَائِي فَاسْتَضْعَفُوكَ، وَسَأَلْتَ مَدَدًا فَأَمْدَدْتُكَ، وَقَوَّيْتُكَ، وَأَزَحْتُ عِلَّتَكَ، فَخُذْهُمُ الْآنَ، فَعَاقِبْهُمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْكَافَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذِهِ الْحَالُ كَحَالِ إِخْرَاجِكَ، يَعْنِي: أَنَّ حَالَهُمْ فِي كَرَاهَةِ مَا رَأَيْتَ مِنْ تَنْفِيلِ الْغُزَاةِ، مِثْلُ حَالِهِمْ فِي كَرَاهَةِ خُرُوجِكَ لِلْحَرْبِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وبالحق مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِخْرَاجًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَجُمْلَةُ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَمَا أَخْرَجَكَ فِي حَالِ كَرَاهَتِهِمْ لِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَعَدَهُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا الْعِيرُ أَوِ النَّفِيرُ، رَغِبُوا فِي الْعِيرِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْقِتَالِ، كَمَا سيأتي بيانه، وجملة يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ وما: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ بَعْدَ حَالٍ، أَوْ مُسْتَأْنِفَةٌ، جَوَابَ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَمُجَادَلَتِهِمْ لِمَا نَدَبَهُمْ إِلَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَفَاتَ الْعِيرَ، وَأَمَرَهُمْ بِقِتَالِ النَّفِيرِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ كَثِيرُ أُهْبَةٍ، لِذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: لَوْ أَخْبَرْتَنَا بِالْقِتَالِ لَأَخَذْنَا الْعُدَّةَ وَأَكْمَلْنَا الْأُهْبَةَ، وَمَعْنَى: فِي الْحَقِّ أي: في القتال بعد ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّكَ لَا تَأْمُرُ بِالشَّيْءِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، أَوْ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِالظَّفَرِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَنَّ العير إذا فاتت ظفروا بالنفير، وبَعْدَ ظرف ليجادلونك، وما مصدرية، أي: يجادلونك بعد ما تَبَيَّنَ الْحَقُّ لَهُمْ. قَوْلُهُ: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ الْكَافُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَكارِهُونَ أَيْ: حَالُ كَوْنِهِمْ فِي شِدَّةِ فَزَعِهِمْ مِنَ الْقِتَالِ يُشْبِهُونَ حَالَ مَنْ يُسَاقُ لِيُقْتَلُ، وَهُوَ مُشَاهِدٌ لِأَسْبَابِ قَتْلِهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهَا، لَا يَشُكُّ فِيهَا. قوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ الظَّرْفُ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَاذْكُرُوا وَقْتَ وَعَدَ اللَّهُ إِيَّاكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَمَرَهُمْ بذكر الْوَقْتِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ، لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، وَالطَّائِفَتَانِ: هُمَا الْعِيرُ والنّفير، وإحدى: هو ثاني مفعولي يعد، وأَنَّها لَكُمْ بَدَلٌ مِنْهُ، بَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ لَكُمْ، وَأَنَّكُمْ تَغْلِبُونَهَا، وَتَغْنَمُونَ مِنْهَا، وَتَصْنَعُونَ بِهَا مَا شِئْتُمْ مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَغَنِيمَةٍ، لَا يُطِيقُونَ لَكُمْ دَفْعًا، وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِنِعْمَةٍ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ: وَتَوَدُّونَ مَعْطُوفٌ عَلَى يَعِدُكُمُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي أُمِرُوا بِذِكْرِ وَقْتِهَا أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ،

وَهِيَ طَائِفَةُ الْعِيرِ تَكُونُ لَكُمْ دُونَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، وَهِيَ طَائِفَةُ النَّفِيرِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ غَيْرُ ذَاتِ الْحَدِّ. وَالشَّوْكَةُ: السِّلَاحُ، وَالشَّوْكَةُ: النَّبْتُ الَّذِي لَهُ حَدٌّ، وَمِنْهُ: رَجُلٌ شَائِكُ السِّلَاحِ، أَيْ: حَدِيدُ السِّلَاحِ ثُمَّ يُقْلَبُ فَيُقَالُ شَاكِي السِّلَاحِ فَالشَّوْكَةُ مُسْتَعَارَةٌ مِنْ وَاحِدَةِ الشَّوْكِ، وَالْمَعْنَى: وَتَوَدُّونَ أَنْ تَظْفَرُوا بِالطَّائِفَةِ الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا سِلَاحٌ، وَهِيَ طَائِفَةُ الْعِيرِ لِأَنَّهَا غَنِيمَةٌ صَافِيَةٌ عَنْ كَدَرِ الْقِتَالِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَنْ يَقُومُ بِالدَّفْعِ عَنْهَا. قَوْلُهُ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى تَوَدُّونَ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرُوا بِذِكْرِ وَقْتِهِ، أَيْ: وَيُرِيدُ اللَّهُ غَيْرَ مَا تُرِيدُونَ، وَهُوَ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِإِظْهَارِهِ لِمَا قَضَاهُ من ظفركم بذات الشوكة. وقتلكم لِصَنَادِيدِهِمْ، وَأَسْرِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَاغْتِنَامِ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي أَجَلَبُوا بِهَا عَلَيْكُمْ وَرَامُوا دَفْعَكُمْ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ: الْآيَاتُ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي مُحَارَبَةِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، وَوَعْدُكُمْ مِنْهُ بِالظَّفَرِ بِهَا وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ الدَّابِرُ: الْآخِرُ، وَقَطْعُهُ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِئْصَالِ. وَالْمَعْنَى: وَيَسْتَأْصِلُهُمْ جَمِيعًا. قَوْلُهُ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، أَيْ: أَرَادَ ذَلِكَ، أَوْ يُرِيدُ ذَلِكَ لِيُظْهِرَ الْحَقَّ وَيَرْفَعَهُ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَيَضَعَهُ، أَوِ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَعَلَ ذلك ليحق الحق، وقيل: متعلق بيقطع، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَكْرِيرٌ لِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّ الْأُولَى لِبَيَانِ التَّفَاوُتِ فِيمَا بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ، وَهَذِهِ لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَالْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ، وَالْمَصْلَحَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ، وَإِحْقَاقُ الْحَقِّ: إِظْهَارُهُ، وَإِبْطَالُ الْبَاطِلِ: إِعْدَامُهُ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ «1» وَمَفْعُولُ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَلَوْ كَرِهُوا أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ، وَالْمُجْرِمُونَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ، أَوْ جَمِيعُ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ عِيرَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ أَقْبَلَتْ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ فِيهَا لَعَلَّ اللَّهَ يُغْنِمُنَاهَا وَيُسَلِّمُنَا، فَخَرَجْنَا فَلَمَّا سِرْنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَعَادَّ، فَفَعَلْنَا فَإِذَا نَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَأَخْبَرْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِدَّتِنَا، فَسُّرَّ بِذَلِكَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: عِدَّةُ أَصْحَابِ طَالُوتَ، فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أُخْبِرُوا بِمَخْرَجِكُمْ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا وَاللَّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِقِتَالِ الْقَوْمِ، إِنَّمَا خَرَجْنَا لِلْعِيرِ، ثُمَّ قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ؟ فَقُلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ: لَا تَقُولُوا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «2» فَأَنْزَلَ اللَّهُ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ فَلَمَّا وَعَدَنَا اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا الْقَوْمُ وَإِمَّا الْعِيرُ، طَابَتْ أَنْفُسُنَا، ثُمَّ إِنَّا اجْتَمَعْنَا مَعَ الْقَوْمِ فَصَفَفْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ وَعْدَكَ، فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشِيرَ عَلَيْكَ- وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يُشِيرَ عَلَيْهِ- إِنِ اللَّهَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ تنشده وعده. فقال: يا بن رَوَاحَةَ! لَأَنْشُدَنَّ اللَّهَ وَعْدَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَانْهَزَمُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «3» فَقَتَلْنَا وَأَسَرْنَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَرَى أَنْ يَكُونَ لَكَ أَسْرَى فَإِنَّمَا نَحْنُ دَاعُونَ مُؤَلِّفُونَ، فَقُلْنَا: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّمَا يَحْمِلُ عُمَرُ عَلَى مَا قَالَ حَسَدٌ لنا، فنام

_ (1) . الأنبياء: 18. (2) . المائدة: 24. (3) . الأنفال: 17.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 9 إلى 10]

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَقَالَ: ادْعُوا لِي عُمَرَ، فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عَلِيَّ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى الْآيَةَ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَوْنَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بَلَغَنَا أَنَّهُمْ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَوْنَ؟ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِيَّانَا تُرِيدُ؟ فو الذي أَكْرَمَكَ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا سَلَكْتَهَا قَطُّ، وَلَا لِي بِهَا عِلْمٌ، وَلَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَأْتِيَ بَرْكَ الْغِمَادِ مِنْ ذِي يَمَنٍ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ وَلَا نَكُونَنَّ كَالَّذِينِ قَالُوا لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1» وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتَلَا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَّبِعُونَ، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَأَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ غَيْرَهُ، فَانْظُرِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَامْضِ لَهُ، فَصِلْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَعَادِ مَنْ شِئْتَ، وَسَالِمْ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَوْلِ سَعْدٍ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ وَإِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الْغَنِيمَةَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ فَأَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ الْقِتَالَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ قَالَ: كَذَلِكَ يُجَادِلُونَكَ فِي خُرُوجِ الْقِتَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ فقال: خُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ قَالَ: لطلب المشركين يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أَنَّكَ لَا تَصْنَعُ إِلَّا مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ قَالَ: هِيَ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ، وَدَّ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعِيرَ كَانَتْ لَهُمْ، وَأَنَّ الْقِتَالَ صُرِفَ عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أَيْ: شَأْفَتَهُمْ. وَوَقْعَةُ بَدْرٍ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا كُتُبُ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ وَالتَّارِيخِ مُسْتَوْفَاةٌ فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا. [سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 10] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) قَوْلُهُ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاذْكُرُوا وَقْتَ اسْتِغَاثَتِكُمْ وَقِيلَ بَدَلٌ مِنْ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ مَعْمُولٌ لِعَامِلِهِ وَقِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَالِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ، يُقَالُ: اسْتَغَاثَنِي فُلَانٌ فَأَغَثْتُهُ، وَالِاسْمُ: الْغِيَاثُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قِتَالِ الطَّائِفَةِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَهُمُ النَّفِيرُ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَأَرَادَهُ مِنْهُمْ، وَرَأَوْا كَثْرَةَ عَدَدِ النَّفِيرِ، وَقِلَّةَ عَدَدِهِمُ، اسْتَغَاثُوا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَدَدَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بدر ألف، وعدد المسلمين ثلاثمائة وَسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى ذَلِكَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثم

_ (1) . المائدة: 24.

مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِنِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» الْحَدِيثَ. فَاسْتَجابَ لَكُمْ عَطْفٌ عَلَى تَسْتَغِيثُونَ دَاخِلٌ مَعَهُ فِي التَّذْكِيرِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَلِهَذَا عَطَفَ عَلَيْهِ: اسْتَجَابَ. قَوْلُهُ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ أَيْ: بِأَنِّي مُمِدُّكُمْ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَأَوْصَلَ الْفِعْلَ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ، أَوْ عَلَى أَنَّ فِي، اسْتَجَابَ: مَعْنَى الْقَوْلِ. قَوْلُهُ: مُرْدِفِينَ قَرَأَ نَافِعٌ بِفَتْحِ الدَّالِ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا اسْمُ فَاعِلٍ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ تَابِعًا لِبَعْضٍ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُمْ جُعِلُوا بَعْضَهُمْ تَابِعًا لِبَعْضٍ وَقِيلَ: إِنَّ مُرْدِفِينَ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، نَعْتٌ لِأَلْفٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى القراءة الأولى حال من الضمير المنصوب فِي مُمِدُّكُمْ، أَيْ: مُمِدُّكُمْ فِي حَالِ إِرْدَافِكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ رَدَفَ وَأَرْدَفَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ لقوله تعالى: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ «1» وَلَمْ يَقُلِ الْمُرْدَفَةُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَفِي الْآيَةِ قِرَاءَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ «مُرُدِّفِينَ» بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ مُشَدَّدَةً. وَقِرَاءَةٌ رَابِعَةٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرَيُّ «بِآلَافٍ» جَمْعِ أَلْفٍ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَالضَّمِيرُ فِي وَما جَعَلَهُ اللَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْإِمْدَادِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ، إِلَّا بُشْرى أَيْ: إِلَّا بِشَارَةً لَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، أَيْ: مَا جُعِلَ إِمْدَادُكُمْ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِلْبُشْرَى لَكُمْ بِالنَّصْرِ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ أَيْ: بِالْإِمْدَادِ قُلُوبُكُمْ، وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يُقَاتِلُوا، بَلْ أَمَدَّ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ لِلْبُشْرَى لَهُمْ وَتَطْمِينِ قُلُوبِهِمْ وَتَثْبِيتِهَا، وَاللَّامُ فِي لِتَطْمَئِنَّ: مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ مُتَأَخِّرًا، أَيْ: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ، لَيْسَ لِلْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ، فَهُوَ النَّاصِرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسُوا إِلَّا سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الَّتِي سَبَّبَهَا اللَّهُ لَكُمْ، وَأَمَدَّكُمْ بِهَا إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يُغَالَبُ حَكِيمٌ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْمَنَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَنَزَلَ مِيكَائِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْسَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا فِي الْمَيْسَرَةِ. وَأَخْرَجَ سُنَيْدٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَا أُمِدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْأَنْفَالِ، وَمَا ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ الْآلَافَ وَالْخَمْسَةَ الْآلَافَ إِلَّا بُشْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُرْدِفِينَ قَالَ: مُتَتَابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: مُرْدِفِينَ يَقُولُ: الْمَدَدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: وَرَاءَ كُلِّ مَلَكٍ مَلَكٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ أَلْفٌ مُرْدِفِينَ وَثَلَاثَةُ آلَافٍ مُنْزَلِينَ، فَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَهُمْ مَدَدُ الْمُسْلِمِينَ فِي ثُغُورِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مُرْدِفِينَ قَالَ: مُجِدِّينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مُتَتَابِعِينَ أَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِأَلْفٍ ثُمَّ بِثَلَاثَةٍ، ثُمَّ أَكْمَلَهُمْ خَمْسَةَ آلَافٍ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ قَالَ: يَعْنِي نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: أَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فَلَا نَشُكُّ أَنَّ الملائكة

_ (1) . النازعات: 7.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 11 إلى 14]

كَانُوا مَعَنَا وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مُرْدِفِينَ قَالَ: بَعْضُهُمْ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 11 الى 14] إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) قوله: إِذْ يُغَشِّيكُمُ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ كَالَّذِي قَبْلَهُ، أَوْ بَدَلٌ ثَانٍ مِنْ إِذْ يَعِدُكُمْ، أَوْ مَنْصُوبٌ بالنصر المذكور قبله وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ، ويُغَشِّيكُمُ هِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمُطَابِقَةُ لِمَا قَبْلَهَا: أَعْنِي قَوْلَهُ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلِمَا بَعْدَهَا أَعْنِي وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ فَيَتَشَاكَلُ الْكَلَامُ وَيَتَنَاسَبُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يَغْشَاكُمْ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ النُّعَاسُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يُغَشِّيكُمُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ، وَهِيَ كَقِرَاءَةِ نَافِعٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى اللَّهِ، وَنَصْبِ النُّعَاسِ قَالَ مَكِّيٌّ: وَالِاخْتِيَارُ ضَمُّ الْيَاءِ وَالتَّشْدِيدِ، وَنَصْبُ النُّعَاسَ لِأَنَّ بَعْدَهُ أَمَنَةً مِنْهُ وَالْهَاءُ فِي مِنْهُ: لِلَّهِ فَهُوَ الَّذِي يُغَشَّيهِمُ النُّعَاسَ، وَلِأَنَّ الْأَكْثَرَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ يَكُونُ انْتِصَابُ أَمَنَةً عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ لَهُ. وَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَكَلُّفٍ، لِأَنَّ فَاعِلَ الْفِعْلِ الْمُعَلِّلِ وَالْعِلَّةَ وَاحِدٌ بِخِلَافِ انْتِصَابِهَا عَلَى الْعِلَّةِ، بِاعْتِبَارِ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ، وَأَمَّا عَلَى جَعْلِ الْأَمَنَةِ مَصْدَرًا فَلَا إِشْكَالَ، يُقَالُ أَمِنَ أَمَنَةً وَأَمْنًا وَأَمَانًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَتَضَمَّنُ ذِكْرَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ مَعَ خَوْفِهِمْ مِنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَالْمَهَابَةِ لِجَانِبِهِ سَكَّنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَأَمَّنَهَا حَتَّى نَامُوا آمِنِينَ غَيْرَ خَائِفِينَ، وَكَانَ هَذَا النَّوْمُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي كَانَ الْقِتَالُ فِي غَدِهَا. قِيلَ: وَفِي امْتِنَانِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالنَّوْمِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَوَّاهُمْ بِالِاسْتِرَاحَةِ عَلَى الْقِتَالِ مِنَ الْغَدِ، الثَّانِي: أَنَّهُ أَمَّنَهُمْ بِزَوَالِ الرُّعْبِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ النَّوْمَ غَشِيَهُمْ فِي حَالِ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ، وَقَدْ مَضَى فِي يَوْمِ أُحُدٍ نَحْوٌ مَنْ هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. قَوْلُهُ: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ هَذَا الْمَطَرُ كَانَ بَعْدَ النُّعَاسِ، وَقِيلَ: قَبْلَ النُّعَاسِ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبَقُوا الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَاءِ بِدْرٍ، فَنَزَلُوا عَلَيْهِ وَبَقِيَ الْمُؤْمِنُونَ لَا مَاءَ لَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ لَيْلَةَ بَدْرٍ. وَالَّذِي فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ سَبَقُوا إِلَى مَاءِ بَدْرٍ وَأَنَّهُ مَنَعَ قُرَيْشًا مِنَ السَّبْقِ إِلَى الْمَاءِ مَطَرٌ عَظِيمٌ، وَلَمْ يُصِبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ إِلَّا مَا شَدَّ لَهُمْ دَهَسَ الْوَادِي «1» ، وَأَعَانَهُمْ على المسير، ومعنى لِيُطَهِّرَكُمْ

_ (1) . الدهس: الأرض يثقل فيها المشي للينها.

بِهِ لِيَرْفَعَ عَنْكُمُ الْأَحْدَاثَ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أَيْ: وَسْوَسَتَهُ لَكُمْ، بِمَا كَانَ قَدْ سَبَقَ إِلَى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ الَّتِي هِيَ مِنْهُ، مِنَ الْخَوْفِ وَالْفَشَلِ، حَتَّى كَانَتْ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ فَيَجْعَلَهَا صَابِرَةً قَوِيَّةً ثَابِتَةً فِي مُوَاطِنِ الْحَرْبِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ، أَيْ: يُثَبِّتُ بِهَذَا الْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ أَقْدَامَكُمْ فِي مَوَاطِنِ القتال وقيل: الضمير راجع إلى الرابط الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ. قَوْلُهُ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ خَاصٍّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا يَقِفُ عَلَى ذَلِكَ سِوَاهُ، أَيْ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ وَقْتَ إِيحَاءِ رَبِّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ إِذْ يَعِدُكُمُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ يَأْبَى ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ يُثَبِّتَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يُثَبِّتُ الْأَقْدَامَ وَقْتَ الْوَحْيِ وَلَيْسَ لِهَذَا التَّقْيِيدِ مَعْنَى، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ لِيَرْبِطَ وَلَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ الرَّبْطِ عَلَى الْقُلُوبِ بِوَقْتِ الْإِيحَاءِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنِّي مَعَكُمْ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ لِلْهَمْزَةِ هُوَ مَفْعُولُ يُوحِي وَعَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ يَكُونُ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ. وَمَعْنَى فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بَشِّرُوهُمْ بِالنَّصْرِ أَوْ ثَبِّتُوهُمْ عَلَى الْقِتَالِ بِالْحُضُورِ مَعَهُمْ، وَتَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ، وَهَذَا أَمَرٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ مَعَهُمْ، وَالْفَاءُ: لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا. قَوْلُهُ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي آلِ عِمْرَانَ، قِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَنِّي مَعَكُمْ. قَوْلُهُ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ قِيلَ: الْمُرَادُ الْأَعْنَاقُ أنفسها وفَوْقَ زَائِدَةٌ. قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ فَوْقَ يُفِيدُ مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ زِيَادَتُهَا وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ أُبِيحَ لَهُمْ ضَرْبُ الْوُجُوهِ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَقِيلَ الْمُرَادُ بِمَا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ: الرُّؤُوسُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بفوق الْأَعْنَاقِ: أَعَالِيهَا لِأَنَّهَا الْمَفَاصِلُ الَّذِي يَكُونُ الضَّرْبُ فِيهَا أَسْرَعَ إِلَى الْقَطْعِ. قِيلَ: وَهَذَا أَمْرٌ لِلْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ قِيلَ: هُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا. قَوْلُهُ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَاحِدُ الْبَنَانِ بَنَانَةٌ، وَهِيَ هُنَا الْأَصَابِعُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَالْبَنَانِ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَبَنَّ الرَّجُلُ بِالْمَكَانِ: إِذَا أَقَامَ بِهِ، لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِهَا مَا يَكُونُ لِلْإِقَامَةِ وَالْحَيَاةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَنَانِ هُنَا: أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الثَّبَاتِ فِي الْحَرْبِ، فَإِذَا ضُرِبَتِ الْبَنَانُ تَعَطَّلَ مِنَ الْمَضْرُوبِ الْقَتَّالُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. قال عنترة: وكان فتى الْهَيْجَاءِ يَحْمِي ذِمَارَهَا ... وَيَضْرِبُ عِنْدَ الْكَرْبِ كُلَّ بَنَانِ وَقَالَ عَنْتَرَةُ أَيْضًا: وَإِنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا مَا ... وَصَلْتُ بَنَانَهَا بِالْهِنْدُوَانِي قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْبَنَانُ: الْأَصَابِعُ، ويقال: الأطراف، والإشارة بقوله: لِكَ إِلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَدَخَلَ في قلوبهم من الرعب، وهو مبتدأ، وأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ خَبَرُهُ، أَيْ: ذَلِكَ بِسَبَبِ مُشَاقَّتِهِمْ، وَالشِّقَاقُ أَصْلُهُ: أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ فِي شِقٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ذلك

مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لَهُ، يُعَاقِبُهُ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الشِّقَاقِ. قَوْلُهُ: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُقَابِ، أَوِ الْخِطَابُ هُنَا لِلْكَافِرِينَ، كَمَا أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَلِكُمْ: رَفْعٌ بِإِضْمَارِ الْأَمْرِ أَوِ الْقِصَّةِ، أَيِ: الْأَمْرُ أَوِ الْقِصَّةُ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُضْمِرَ وَاعْلَمُوا. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى: عَلَيْكُمْ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ، كَقَوْلِكَ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ، وأسماء الأفعال لا تضمر، وتشبيهه: بزيدا فَاضْرِبْهُ، غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ فِيهِ: عَلَيْكَ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، وَجُمْلَةُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ عَلَى هَذَا: إِلَى الْعِقَابِ الْعَاجِلِ الَّذِي أُصِيبُوا بِهِ وَيَكُونُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ: إِشَارَةً إِلَى الْعِقَابِ الْآجِلِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي تَحْتَ شَجَرَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فِيمَا أَغْشَاهُمُ اللَّهُ مِنَ النُّعَاسِ أَمَنَةً مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَمَنَةً مِنْهُ قَالَ: أَمْنًا مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَمَنَةً مِنْهُ قَالَ: رَحْمَةً مِنْهُ، أَمَنَةً مِنَ الْعَدِّوِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: النُّعَاسُ فِي الرَّأْسِ، وَالنَّوْمُ فِي الْقَلْبِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ النُّعَاسُ أَمَنَةً مِنَ اللَّهِ، وَكَانَ النُّعَاسُ نُعَاسَيْنِ: نُعَاسٌ يَوْمَ بَدْرٍ، وَنُعَاسٌ يَوْمَ أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي قَوْلِهِ: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ قَالَ: طَشٌّ «1» كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْمَطَرُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ النُّعَاسِ فَأَطْفَأَ بِالْمَطَرِ الْغُبَارَ، وَالْتَبَدَتْ بِهِ الْأَرْضُ، وَطَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ السَّمَاءَ وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا، وَأَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ما لبد الأرض ولم يمنعهم المسير، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَرْتَحِلُوا مَعَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ غَلَبُوا المسلمين في أوّل أمرهم على الماء، فظمئ الْمُسْلِمُونَ وَصَلَّوْا مُجْنِبِينَ مُحْدِثِينَ، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَزَنَ وَقَالَ أَتَزْعُمُونِ أَنَّ فِيكُمْ نَبِيًّا وَأَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَتُصَلُّونَ مُجْنِبِينَ مُحْدَثِينَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي مَاءً، فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا، وَثَبَتَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَذَهَبَتْ وسوسته. وقد قدّمنا الْمَشْهُورَ فِي كُتُبِ السِّيَرِ الْمُعْتَمِدَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَغْلِبُوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمَاءِ بَلِ الْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنَ الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِسْنَادِهِ الْعَوْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم وأبو

_ (1) . قال في القاموس: الطّشّ والطّشيش: المطر الضعيف وهو فوق الرذاذ.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 إلى 18]

الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: رِجْزَ الشَّيْطانِ قَالَ: وَسْوَسَتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ قَالَ: بِالصَّبْرِ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ قَالَ: كَانَ بَطْنُ الْوَادِي دَهَاسًا، فَلَمَّا مُطِرُوا اشْتَدَّتِ الرَّمْلَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ قَالَ: حَتَّى تَشْتَدَّ عَلَى الرَّمْلِ وَهُوَ كَهَيْئَةِ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ» ، وَأَصَابَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَطَرٌ شَدِيدٌ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: يَا بُنَيَّ! لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُشِيرُ بِسَيْفِهِ إِلَى رَأْسِ الْمُشْرِكِ فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّيْفُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ يَعْرِفُونَ قَتْلَى الْمَلَائِكَةِ مِمَّنْ قَتَلُوهُمْ بِضَرْبٍ عَلَى الْأَعْنَاقِ وَعَلَى الْبَنَانِ مِثْلَ سِمَةِ النَّارِ قَدِ احْتَرَقَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ يَقُولُ: الرُّؤُوسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطِيَّةَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ قَالَ: اضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ يَقُولُ: اضْرِبُوا الرِّقَابَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ قَالَ: يَعْنِي بِالْبَنَانِ: الْأَطْرَافَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَطِيَّةَ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ قال: كلّ مفصل. [سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 18] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) الزَّحْفُ: الدُّنُوُّ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَأَصْلُهُ: الِانْدِفَاعُ عَلَى الْإِلْيَةِ، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ مَاشٍ فِي الْحَرْبِ إِلَى آخَرَ: زَاحِفًا، وَالتَّزَاحُفُ: التَّدَانِي وَالتَّقَارُبُ، تَقُولُ: زَحَفَ إِلَى الْعَدُوِّ زَحْفًا، وَازْدَحَفَ الْقَوْمُ: أَيْ مَشَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَانْتِصَابُ زَحْفًا: إِمَّا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ تَزْحَفُونَ زَحْفًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: حَالَ كَوْنِكُمْ زَاحِفِينَ إِلَى الْكُفَّارِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَيْ حَالَ كَوْنِ الْكُفَّارِ زَاحِفِينَ إِلَيْكُمْ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَيْ مُتَزَاحِفَيْنِ فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْهَزِمُوا عَنِ الْكُفَّارِ إِذَا لَقُوهُمْ وَقَدْ دَبَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ لِلْقِتَالِ، فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْعُمُومُ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ زَمَنٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَّا حَالَةَ التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي نَضْرَةَ وَعِكْرِمَةَ وَنَافِعٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ تَحْرِيمَ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مختصّ بيوم

بَدْرٍ، وَأَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَنْحَازُوا، وَلَوِ انْحَازُوا لَانْحَازُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمُونَ غَيْرَهُمْ وَلَا لَهُمْ فِئَةٌ إِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا بَعْدُ ذَلِكَ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ فِئَةٌ لِبَعْضٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. قَالُوا: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الضَّعْفِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ عَامَّةٌ غَيْرُ خَاصَّةٍ، وَأَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مُحَرَّمٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ. وَأُجِيبُ عَنْ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ: بِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِي يَوْمَئِذٍ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ: بِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى يَوْمِ الزَّحْفِ كَمَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ الضَّعْفِ، بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مُقَيَّدَةٌ بِهَا، فَيَكُونُ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ مُحَرَّمًا بِشَرْطِ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي آيَةِ الضَّعْفِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ يَوْمَ بَدْرٍ مُسْلِمُونَ غَيْرَ مِنْ حَضَرَهَا، فَقَدْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ إِذْ ذَاكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَمْ يَأْمُرْهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ خَرَجَ مَعَهُ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ سَيَكُونُ قِتَالٌ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا وُرُودُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، وَفِيهِ: وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ» وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَهَذَا الْبَحْثُ تَطُولُ ذُيُولُهُ وَتَتَشَعَّبُ طُرُقُهُ، وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاطِنِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَدْبَارُ: جَمْعُ دُبُرٍ، وَالْعِبَارَةُ بِالدُّبُرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مُتَمَكِّنَةٌ فِي الْفَصَاحَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الشَّنَاعَةِ عَلَى الْفَارِّ وَالذَّمِّ لَهُ، قَوْلُهُ: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ التَّحَرُّفُ: الزَّوَالُ عَنْ جِهَةِ الِاسْتِوَاءِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: التَّحَرُّفُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ فِي الْمَعْرَكَةِ طَلَبًا لمكايد الحرب وخدعا لِلْعَدُوِّ، وَكَمَنَ يُوهِمُ أَنَّهُ مُنْهَزِمٌ لِيَتْبَعَهُ الْعَدُوُّ فَيَكِرَّ عَلَيْهِ وَيَتَمَكَّنَ مِنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ مَكَائِدِ الْحَرْبِ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ. قَوْلُهُ: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أَيْ: إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْجَمَاعَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْعَدُوِّ، وَانْتِصَابُ مُتَحَرِّفًا ومتحيزا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمُوَلِّينَ، أَيْ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ دُبُرَهُ إِلَّا رَجُلًا مِنْهُمْ مُتَحَرِّفًا أَوْ مُتَحَيِّزًا، وَيَجُوزُ انْتِصَابُهُمَا عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ لَغْوًا لَا عَمَلَ لَهُ، وَجُمْلَةُ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ جَزَاءٌ لِلشَّرْطِ. وَالْمَعْنَى: مَنْ يَنْهَزِمُ وَيَفِرُّ مِنَ الزَّحْفِ فَقَدْ رَجَعَ بِغَضَبٍ كَائِنٍ مِنَ اللَّهِ إِلَّا الْمُتَحَرِّفَ وَالْمُتَحَيِّزَ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ أَيِ: الْمَكَانُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ هُوَ النَّارُ: فَفِرَارُهُ أَوْقَعُهُ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ بَلَاءً مِمَّا فَرَّ مِنْهُ وَأَعْظَمُ عُقُوبَةً. وَالْمَأْوَى: مَا يَأْوِي إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مَا صَارَ إِلَيْهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِمَنْ يَفِرُّ عَنِ الزَّحْفِ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُوبِقَةِ. قَوْلُهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٌ، أَيْ: إِذَا عَرَفْتُمْ مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ إِمْدَادِهِ لَكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ، وَإِيقَاعِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، بِمَا يَسَّرَهُ لَكُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّصْرِ. قَوْلُهُ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الرَّمْيِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: مَا كَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ، فَإِنَّهُ رَمَى الْمُشْرِكِينَ بِقَبْضَةٍ مِنْ حَصْبَاءِ الْوَادِي فَأَصَابَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ: الرَّمْيَةُ الَّتِي رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ بِالْحَرْبَةِ فِي عُنُقِهِ فَانْهَزَمَ وَمَاتَ مِنْهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ: السَّهْمُ الَّذِي رَمَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِصْنِ خَيْبَرَ، فَسَارَ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى أَصَابَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ ضَعِيفَةٌ، فَإِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَقِبَ وَقْعَةِ بِدْرٍ. وَأَيْضًا الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ السِّيَرِ

وَالْحَدِيثِ فِي قَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى صُورَةٍ غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ. وَالصَّحِيحُ كَمَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ مَا كَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ أَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَصَابَتْ كُلَّ واحد منهم، ودخلت في عينيه ومنخريه وفمه. قَالَ ثَعْلَبٌ: الْمَعْنَى وَما رَمَيْتَ الْفَزَعَ وَالرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ إِذْ رَمَيْتَ بِالْحَصْبَاءِ فَانْهَزَمُوا وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أَيْ: أَعَانَكَ وَأَظْفَرَكَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: رَمَى اللَّهُ لَكَ، أَيْ: أَعَانَكَ وَأَظْفَرَكَ وَصَنَعَ لَكَ. وَقَدْ حَكَى مِثْلَ هَذَا أَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: الْمَعْنَى: وَما رَمَيْتَ بِقُوَّتِكَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّكَ بِقُوَّةِ اللَّهِ رَمَيْتَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ تِلْكَ الرَّمْيَةَ بِالْقَبْضَةِ مِنَ التُّرَابِ الَّتِي رَمَيْتَهَا لَمْ تَرْمِهَا أَنْتَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّكَ لَوْ رَمَيْتَهَا مَا بَلَغَ أَثَرُهَا إِلَّا مَا يَبْلُغُهُ رَمْيُ الْبَشَرِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ رَمْيَةَ اللَّهِ حَيْثُ أَثَّرَتْ ذَلِكَ الْأَثَرَ الْعَظِيمَ، فَأَثْبَتَ الرَّمْيَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ صُورَتَهَا وُجِدَتْ مِنْهُ، وَنَفَاهَا عَنْهُ لِأَنَّ أَثَرَهَا الَّذِي لَا يُطِيقُهُ الْبَشَرُ فِعْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَأَنَّ اللَّهَ فَاعِلُ الرَّمْيَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَكَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلًا، هَكَذَا فِي الْكَشَّافِ. قَوْلُهُ: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً الْبَلَاءُ هَاهُنَا: النِّعْمَةُ وَالْمَعْنَى: وَلِيُنْعِمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِنْعَامًا جَمِيلًا، وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَلِلْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ الْجَمِيلَةِ فَعَلَ ذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِ، أَوِ الْوَاوُ عَاطِفَةٌ لِمَا بَعْدَهَا عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ قَبْلَهَا، أَيْ: وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى لِيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لِدُعَائِهِمْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكُمْ، إِلَى الْبَلَاءِ الْحَسَنِ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبْرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْغَرَضُ ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ أَيْ: إِنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِمَا وَقَعَ مِمَّا حَكَتْهُ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ إِبْلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَوْهِينُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ وَقِيلَ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ الْقَتْلُ وَالرَّمْيُ. وَقَدْ قُرِئَ بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِهَا مَعَ التَّنْوِينِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِتَخْفِيفِ الْهَاءِ مَعَ الْإِضَافَةِ. وَالْكَيْدُ: الْمَكْرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ نَافِعٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرٍ قَالَ: إِنَّا قَوْمٌ لَا نَثْبُتُ عِنْدَ قِتَالِ عَدُوِّنَا، وَلَا نَدْرِي مَنِ الْفِئَةُ، أَمَامَنَا أَوْ عَسْكَرُنَا؟ فَقَالَ لِي: الْفِئَةُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ بدر لا لقبلها ولا لبعدها. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الْآيَةَ قَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ لِأَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّمَا كَانَتْ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَا فِئَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْهَزِمُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتْرُكُوهُ. وَقَدْ رُوِيَ اخْتِصَاصُ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَهْلِ بَدْرٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَقَدْ قَدَّمَنَا الْإِشَارَةَ إِلَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ يَعْنِي مُسْتَطْرِدًا يُرِيدُ الْكَرَّةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ يَعْنِي: أَوْ يَنْحَازُ إِلَى أَصْحَابِهِ مِنْ غَيْرِ هَزِيمَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يَقُولُ: اسْتَوْجَبُوا سَخَطًا مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فَهَذَا يَوْمَ بدر خاصّة،

كأن الله شدّد عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ لِيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ وَهُوَ أوّل قتال قاتلوا فيه الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن الضَّحَّاكِ قَالَ: الْمُتَحَرِّفُ: الْمُتَقَدِّمُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَرَى عَوْرَةً مِنَ الْعَدُوِّ فَيُصِيبُهَا. وَالْمُتَحَيِّزُ: الْفَارُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّ الْيَوْمَ إِلَى أَمِيرِهِ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْأَنْفَالِ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً، قُلْنَا: كَيْفَ نَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وبؤنا بالغضب؟ فأتينا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَخَرَجَ فَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، فَقَالَ: لَا، بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ «1» ، فَقَبَّلْنَا يَدَهُ فَقَالَ: أَنَا فِئَتُكُمْ وَأَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَرَأَ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَحْرِيمِ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ أَحَادِيثُ، وَوَرْدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر. وأخرجه ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وأبو الشيخ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ قَالَ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ: هَذَا قَتَلْتُ، وَهَذَا قَتَلْتُ. وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَصَبَ الْكُفَّارَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ قَالَ: رَمَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالْحَصْبَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ سَمِعْنَا صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ كَأَنَّهُ صَوْتُ حَصَاةٍ وَقَعَتْ فِي طَسْتٍ، وَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْحَصْبَاءِ وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَانْهَزَمْنَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ صَوْتَ حَصَيَاتٍ وَقَعْنَ مِنَ السَّمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ كَأَنَّهُنَّ وَقَعْنَ فِي طَسْتٍ، فَلَمَّا اصْطَفَّ النَّاسُ أَخَذَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَمَى بِهِنَّ فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، فَانْهَزَمُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. وأخرج الطبراني وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لَعَلِيٍّ: نَاوِلْنِي قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءَ، فَنَاوَلَهُ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إلا امتلأت عيناه من الْحَصْبَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَخَذَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ يَرْكُضُ فَرَسُهُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَرَضَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ لِيَقْتُلُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَأْخِرُوا، فَاسْتَأْخَرُوا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم حربته في يده

_ (1) . قال في القاموس: العكّار: الكرار، العطّاف.

[سورة الأنفال (8) : آية 19]

فَرَمَى بِهَا أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ وَكَسَرَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَرَجَعَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ إِلَى أَصْحَابِهِ ثَقِيلًا، فَاحْتَمَلُوهُ حِينَ وَلَّوْا قَافِلِينَ، فَطَفِقُوا يَقُولُونَ لَا بَأْسَ، فَقَالَ أُبَيٌّ حِينَ قَالُوا لَهُ ذَلِكَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ بِالنَّاسِ لَقَتَلَتْهُمْ، أَلَمْ يَقُلْ إِنِّي أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَانْطَلَقَ بِهِ أَصْحَابُهُ يُنْعِشُونَهُ حَتَّى مَاتَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَدَفَنُوهُ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَيْهِمَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ غَرِيبٌ جِدًّا، وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا أَنَّ الْآيَةَ تتناولهما بعمومها، وهكذا قال فيما قال عبد الرحمن ابن جُبَيْرٍ كَمَا سَيَأْتِي- وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عبد الرحمن بن جبير: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ دَعَا بِقَوْسٍ فَرَمَى بها الحصن، فأقبل السهم يهوي حَتَّى قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ فِي فِرَاشِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أَيْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِرَمْيَتِكَ لَوْلَا الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ مِنْ نَصْرِكَ وَمَا أَلْقَى فِي صُدُورِ عَدُوِّكَ حَتَّى هَزَمَهُمْ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أَيْ: لِيَعْرِفَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فِي إِظْهَارِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، لِيَعْرِفُوا بذلك حقه، ويشركوا بذلك نعمته. [سورة الأنفال (8) : آية 19] إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) الِاسْتِفْتَاحُ: طَلَبُ النَّصْرِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ تَهَكُّمًا بِهِمْ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا اللَّهَ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ، وَقَدْ كَانُوا عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مَكَّةَ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَنْصُرَ أَحَقَّ الطَّائِفَتَيْنِ بِالنَّصْرِ فَتَهَكَّمَ اللَّهُ بِهِمْ، وَسَمَّى مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ نَصْرًا وَمَعْنَى بَقِيَّةِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ تَنْتَهُوا عَمَّا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ فَهُوَ أَيِ: الِانْتِهَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ نَعُدْ بِتَسْلِيطِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكُمْ وَنَصْرِهِمْ كَمَا سَلَّطْنَاهُمْ وَنَصَرْنَاهُمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ أَيْ: جَمَاعَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ أَيْ: لَا تُغْنِي عَنْكُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَوْ فِي حَالِ كَثْرَتِهَا، ثُمَّ قَالَ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ، وَمَنْ كان الله عليه فهو المخذول. وقرئ بِكَسْرِ إِنَّ وَفَتْحِهَا فَالْكَسْرُ: عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالْفَتْحُ عَلَى تَقْدِيرِ: وَلِأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَعَلَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا اللَّهَ فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنْ مَثَلِ مَا فَعَلْتُمُوهُ مِنْ أَخْذِ الْغَنَائِمِ، وَفِدَاءِ الْأَسْرَى قَبْلَ الْإِذْنِ لَكُمْ بِذَلِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَعُودُوا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ، نَعُدْ إِلَى تَوْبِيخِكُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الْآيَةَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَأْبَى هَذَا الْقَوْلَ مَعْنَى وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَيَأْبَاهُ أَيْضًا وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ لا يمكن إلا بتكليف وَتَعَسُّفٍ، وَقِيلَ: إِنِ الْخِطَابَ فِي إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَا بَعْدَهُ لِلْكَافِرِينَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ تَفْكِيكِ النَّظْمِ، وُعُودِ الضَّمَائِرِ الْجَارِيَةِ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 إلى 23]

فِي الْكَلَامِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ إِلَى طَائِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ مَنْدَهْ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صَغِيرٍ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ: اللَّهُمَّ! أَقْطَعَنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ، فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِفْتَاحًا مِنْهُ فَنَزَلَتْ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطِيَّةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَهْدَى الْفِئَتَيْنِ، وَأَفْضَلَ الْفِئَتَيْنِ، وَخَيْرَ الْفِئَتَيْنِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، أَيْ: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْمَدَدُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ قَالَ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ فِي قَوْلِهِمْ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَفَتَحَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا قَالَ: إِنْ تَسْتَقْضُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْقَضَاءُ فِي يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن السدي في قَوْلِهِ وَإِنْ تَنْتَهُوا قَالَ: عَنْ قِتَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ قَالَ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الثَّانِيَةَ، أَفْتَحْ لِمُحَمَّدٍ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: مَعَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ يَقُولُ: نَعُدْ لَكُمْ بِالْأَسْرِ وَالْقَتْلِ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) أَمْرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّوَلِّي عَنْ رَسُولِهِ، فَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ عَائِدٌ إِلَى الرَّسُولِ، لِأَنَّ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ مِنْ طَاعَةِ الله، ومَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الضَّمِيرُ رَاجَعًا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَمْرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ أَطِيعُوا، وَأَصْلُ تَوَلَّوْا: تَتَوَلَّوْا، فَطُرِحَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَقِيلَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ فَقَطْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا عَلَى بُعْدٍ فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، لِأَنَّ الله وصف من خاطبه في هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْمُنَافِقُونَ لَا يَتَّصِفُونَ مِنَ التَّصْدِيقِ بِشَيْءٍ، وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا مَنْ قَالَ: الْخِطَابُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْآيَةِ، وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، وَتُصَدِّقُونَ بِهَا ولستم كالصمّ البكم وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، أَوِ الْمُنَافِقُونَ، أَوِ الْيَهُودُ، أَوِ الْجَمِيعُ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ بِآذَانِهِمْ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ وَلَا عَمَلٍ، فَهُمْ كَالَّذِي لَمْ يَسْمَعْ أَصْلًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا سَمِعَهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ سبحانه بأنّ شَرَّ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 24 إلى 25]

الدَّوَابِّ أَيْ: مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: فِي حُكْمِهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ أَيِ: الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَلَا يَنْطِقُونَ، وُصِفُوا بِذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِمْ مِمَّنْ يَسْمَعُ وَيَنْطِقُ، لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالسَّمْعِ وَالنُّطْقِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مَا فِيهِ النَّفْعُ لَهُمْ فَيَأْتُونَهُ، وَمَا فِيهِ الضَّرَرُ عَلَيْهِمْ فَيَجْتَنِبُونَهُ، فَهُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ، لِأَنَّهَا تُمَيِّزُ بَعْضَ تَمْيِيزٍ، وَتَفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهَا وَيَضُرُّهَا وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ أَيْ: فِي هَؤُلَاءِ الصُّمِّ الْبُكْمِ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ سَمَاعًا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَيَتَعَقَّلُونَ عِنْدَهُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ لَأَسْمَعَهُمْ جَوَابَ كُلِّ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَقِيلَ: لَأَسْمَعَهُمْ كَلَامَ الْمَوْتَى الَّذِينَ طَلَبُوا إِحْيَاءَهَمْ، لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا إِحْيَاءَ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، وَغَيْرِهِ لِيَشْهَدُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤَمِّنُونَ وَجُمْلَةُ وَهُمْ مُعْرِضُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ قَالَ: غَاضِبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الْآيَةَ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي فُلَانٍ وَأَصْحَابٍ لَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ: هُمْ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ قَالَ: لَا يَتَّبِعُونَ الْحَقَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَقَوْمِهِ، ولعله المكنّى بعنه بِفُلَانٍ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أَيْ: لَأَنْفَذَ لَهُمْ قَوْلَهُمُ الَّذِي قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الْقُلُوبَ خَالَفَتْ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَالُوا نَحْنُ صُمٌّ عَمَّا يَدْعُونَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ لَا نَسْمَعُهُ، بُكْمٌ لَا نُجِيبُهُ فِيهِ بِتَصْدِيقٍ، قُتِلُوا جِمَيِعًا بأحد، وكانوا أصحاب اللواء يوم أحد. [سورة الأنفال (8) : الآيات 24 الى 25] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) الْأَمْرُ هُنَا بِالِاسْتِجَابَةِ مُؤَكِّدٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ هُنَا حَيْثُ قَالَ إِذا دَعاكُمْ كما وحده في قوله وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي وَجْهِ ذَلِكَ، وَالِاسْتِجَابَةُ: الطَّاعَةُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْنَى اسْتَجِيبُوا: أَجِيبُوا، وَإِنْ كَانَ اسْتَجَابَ: يَتَعَدَّى بِاللَّامِ، وَأَجَابَ: بِنَفْسِهِ كما في قوله: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ «1» ، وقد يتعدّى بنفسه كما في قول الشاعر «2» :

_ (1) . الأحقاف: 31. (2) . هو كعب بن سعد الغنوي.

وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ اسْتَجِيبُوا أَيِ: اسْتَجِيبُوا لِمَا يُحْيِيكُمْ إِذَا دَعَاكُمْ، وَلَا مَانِعَ من أن تكون متعلقة بدعا، أَيْ: إِذَا دَعَاكُمْ إِلَى مَا فِيهِ حَيَاتُكُمْ مِنْ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ حَيَاةٌ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ مَوْتٌ، فَالْحَيَاةُ هُنَا: مُسْتَعَارَةٌ لِلْعِلْمِ، قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى اسْتَجِيبُوا لِلطَّاعَةِ وما تضمّنه القرآن من أوامر ونواه، فَفِيهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَالنِّعْمَةُ السَّرْمَدِيَّةُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِما يُحْيِيكُمْ الْجِهَادُ، فَإِنَّهُ سَبَبُ الْحَيَاةِ فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا لَمْ يُغْزَ غَزَا، وَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْأَمْرِ بِالِاسْتِجَابَةِ عَلَى أَنَّهُ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِذَا بَلَغَهُ قَوْلُ اللَّهِ، أَوْ قَوْلُ رَسُولِهِ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَيَدَعَ مَا خَالَفَهُ مِنَ الرَّأْيِ، وَأَقْوَالِ الرِّجَالِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَعْظَمُ بَاعِثٍ عَلَى الْعَمَلِ بِنُصُوصِ الْأَدِلَّةِ، وَتَرْكِ التَّقَيُّدِ بِالْمَذَاهِبِ، وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا يُخَالِفُ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَائِنًا مَا كَانَ. قَوْلُهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ قِيلَ مَعْنَاهُ: بَادِرُوا إِلَى الِاسْتِجَابَةِ، قَبْلَ أَنْ لَا تَتَمَكَّنُوا مِنْهَا، بِزَوَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي تَعْقِلُونَ بِهَا، بِالْمَوْتِ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ خَافَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ كَثْرَةَ الْعَدُوِّ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، بِأَنْ يُبَدِّلَهُمْ بَعْدَ الْخَوْفِ أَمْنًا، وَيُبَدِّلَ عَدُوَّهُمْ مِنَ الْأَمْنِ خَوْفًا وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ لِقُرْبِهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْعَبْدِ كَقَوْلِهِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «1» وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِ الْقُلُوبِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِأَنَّهُ أَمْلَكُ لِقُلُوبِ عِبَادِهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا إِذَا شَاءَ، حَتَّى لَا يُدْرِكَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِالْخَيْرِ خَيْرًا، وَبِالشَّرِّ شَرًّا، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوِ اسْتَأْنَفْتَ فَكَسَرْتَ هَمْزَةَ أَنَّهُ لَكَانَ صَوَابًا، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَائِزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ. قَوْلُهُ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أَيِ: اتَّقُوا فِتْنَةً تَتَعَدَّى الظَّالِمَ، فَتُصِيبُ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ، وَلَا تَخْتَصُّ إِصَابَتُهَا بِمَنْ يُبَاشِرُ الظُّلْمَ مِنْكُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي دُخُولِ هَذِهِ النُّونِ الْمُؤَكِّدَةِ فِي تُصِيبَنَّ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحَنَّكَ، فَهُوَ جَوَابُ الْأَمْرِ بِلَفْظِ النَّهْيِ، أَيْ: إِنْ تَنْزِلْ عَنْهَا لَا تَطْرَحَنَّكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ «2» أَيْ: إِنْ تَدْخُلُوا لَا يَحْطِمَنَّكُمْ، فَدَخَلَتِ النُّونُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْجَزَاءِ، وَقَالَ الْمِبْرِّدُ: إِنَّهُ نَهْيٌ بَعْدَ أَمْرٍ. وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ لِلظَّالِمِينَ، أَيْ: لَا يَقْرَبَنَّ الظُّلْمَ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: لَا تَكُنْ هَاهُنَا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ هَاهُنَا رَأَيْتَهُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: إِنَّ: لَا تُصِيبَنَّ، نَهْيٌ فِي مَوْضِعِ وَصْفٍ لِفِتْنَةٍ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بن ثَابِتٍ وَأُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ لَتُصِيبَنَّ عَلَى أَنَّ اللَّامَ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: اتَّقَوْا فِتْنَةً وَاللَّهِ لَتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، فَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مُخَالِفًا لِمَعْنَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهَا تُفِيدُ أَنَّ الْفِتْنَةَ تُصِيبُ الظَّالِمَ خَاصَّةً بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَمِنْ شِدَّةِ عِقَابِهِ أَنَّهُ يُصِيبُ بِالْعَذَابِ من لم يباشر أسبابه، وقد وردت

_ (1) . ق: 16. (2) . النمل: 18.

الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يُصَابُ أَحَدٌ إِلَّا بِذَنْبِهِ، وَلَا يُعَذَّبُ إِلَّا بِجِنَايَتِهِ، فَيُمْكِنُ حَمْلُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَكُونُ بِتَسْلِيطِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةً بِالْعُقُوبَاتِ الْعَامَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ لَمْ يَظْلِمُوا قَدْ تَسَبَّبُوا لِلْعُقُوبَةِ بِأَسْبَابٍ، كَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَتَكُونُ الْإِصَابَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ لِلظَّالِمِ إِلَى غَيْرِهِ مُخْتَصَّةً بِمَنْ تَرَكَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِ الظُّلْمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ قَالَ: لِلْحَقِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ: قَالَ: هُوَ هَذَا الْقُرْآنُ فِيهِ الْحَيَاةُ وَالثِّقَةُ وَالنَّجَاةُ وَالْعِصْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ أَيْ: لِلْحَرْبِ الَّتِي أَعَزَّكُمُ اللَّهُ بِهَا بَعْدَ الذُّلِّ، وَقَوَّاكُمْ بِهَا بَعْدَ الضَّعْفِ، وَمَنَعَكُمْ بِهَا مِنَ الْعَذَابِ بَعْدَ الْقَهْرِ مِنْهُمْ لَكُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: «كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ» . الْحَدِيثَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ كُلَّ دُعَاءٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ مِنْ رَسُولِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ قَالَ: يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَمَعَاصِي اللَّهِ، وَيَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: عِلْمُهُ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ حَتَّى يَتْرُكَهُ لَا يَعْقِلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: فِي الْقُرْبِ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! ضَيَّعْتُمُ الْخَلِيفَةَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ جِئْتُمْ تَطْلُبُونَ بِدَمِهِ. قَالَ الزُّبَيْرُ: إِنَّا قَرَأْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَلَمْ نَكُنْ نَحْسَبُ أَنَّا أَهْلُهَا حَتَّى وَقَعَتْ فِينَا حَيْثُ وَقَعَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَرَأَ الزُّبَيْرُ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً قَالَ: الْبَلَاءُ وَالْأَمْرُ الَّذِي هُوَ كَائِنٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً، فَأَصَابَتْهُمْ يَوْمَ الْجَمَلِ فَاقْتَتَلُوا، فَكَانَ مِنَ الْمَقْتُولِينَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: تُصِيبُ الظَّالِمَ، وَالصَّالِحَ عَامَّةً. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هِيَ مِثْلُ. يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ حَتَّى يَتْرُكَهُ لَا يَعْقِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ إِذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 26 إلى 28]

عمهم الله بعذاب من عنده. [سورة الأنفال (8) : الآيات 26 الى 28] وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ لِلْمُهَاجِرِينَ، أَيِ: اذكروا وقت قلتكم، ومُسْتَضْعَفُونَ خَبَرٌ ثَانٍ لِلْمُبْتَدَأِ، وَالْأَرْضُ: هِيَ أَرْضُ مَكَّةَ، وَالْخَطْفُ: الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: مُشْرِكُو قُرَيْشٍ وَقِيلَ: فَارِسُ وَالرُّومُ فَآواكُمْ يُقَالُ: آوَى إِلَيْهِ بِالْمَدِّ وَبِالْقَصْرِ بِمَعْنَى: انْضَمَّ إِلَيْهِ. فَالْمَعْنَى: ضَمَّكُمُ اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوْ إِلَى الْأَنْصَارِ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ أَيْ: قُوَاكُمْ بِالنَّصْرِ فِي مُوَاطِنِ الْحَرْبِ الَّتِي مِنْهَا يَوْمُ بَدْرٍ، أَوْ قَوَّاكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْغَنَائِمُ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ: إِرَادَةَ أَنْ تَشْكُرُوا هَذِهِ النِّعَمَ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ، وَالْخَوْنُ أَصْلُهُ كَمَا فِي الْكَشَّافِ: النَّقْصُ، كَمَا أَنَّ الْوَفَاءَ التَّمَامُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي ضِدِّ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ، لِأَنَّكَ إِذَا خُنْتَ الرَّجُلَ فِي شَيْءٍ فَقَدْ أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ النُّقْصَانَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: الْغَدْرُ وَإِخْفَاءُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ «1» نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ أَنْ يَخُونُوهُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِمَّا افْتَرَضَهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَخُونُوا رَسُولَهُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِمَّا أَمَّنَهُمْ عَلَيْهِ، أَوْ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِمَّا سَنَّهُ لَهُمْ، أَوْ يَخُونُوا شَيْئًا مِنَ الْأَمَانَاتِ الَّتِي اؤْتُمِنُوا عَلَيْهَا، وَسُمِّيَتْ أَمَانَاتٍ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ مَعَهَا مِنْ مَنْعِ الْحَقِّ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَمْنِ، وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ خِيَانَةٌ فَتَفْعَلُونَ الْخِيَانَةَ عَنْ عَمْدٍ، أَوْ وأنتم مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا مَنْ أَهْلِ الْجَهْلِ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ لِأَنَّهُمْ سَبَبُ الْوُقُوعِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ، فَصَارُوا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ مِحْنَةً يَخْتَبِرُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ حَيْثِيَّةٍ أُخْرَى زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَآثِرُوا حَقَّهُ عَلَى أَمْوَالِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ، لِيَحْصُلَ لَكُمْ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ أَذَلَّ النَّاسِ ذُلًّا، وَأَشْقَاهُ عَيْشًا، وَأَجْوَعَهُ بُطُونًا، وَأَعْرَاهُ جُلُودًا، وَأَبْيَنَهُ ضَلَالَةً، مَنْ عَاشَ عَاشَ شَقِيًّا، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ رُدِّيَ فِي النَّارِ، يُؤَكَلُونَ وَلَا يَأْكُلُونَ، لَا وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ قَبِيلًا مِنْ حَاضِرِي الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ كَانَ أَشَرَّ مَنْزِلًا مِنْهُمْ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَكَّنَ بِهِ فِي الْبِلَادِ، وَوَسَّعَ بِهِ فِي الرِّزْقِ، وَجَعَلَهُمْ بِهِ مُلُوكًا عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَبِالْإِسْلَامِ أَعْطَى اللَّهُ مَا رَأَيْتُمْ، فَاشْكُرُوا لِلَّهِ نِعَمَهُ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشُّكْرَ، وَأَهْلُ الشُّكْرِ فِي مَزِيدٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ قَالَ: فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمَكَّةَ فَآواكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ وهب فِي قَوْلِهِ: يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ قَالَ: النَّاسُ إِذْ ذاك فارس والروم.

_ (1) . غافر: 19.

[سورة الأنفال (8) : آية 29]

وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمَيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَنِ النَّاسُ؟ قَالَ: أَهْلُ فَارِسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: فَآواكُمْ قَالَ: إِلَى الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِ أَبَا سُفْيَانَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَاخْرُجُوا إِلَيْهِ وَاكْتُمُوا، فَكَتَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ إِنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، سَأَلُوهُ يَوْمَ قُرَيْظَةَ مَا هَذَا الْأَمْرُ؟ فَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ أَنَّهُ الذَّبْحُ فَنَزَلَتْ. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: مَا زَالَتْ قَدَمَايَ حَتَّى عَلِمْتُ أَنِّي خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَخْرَجَ سُنَيْدٌ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا لُبَابَةَ إِلَى قُرَيْظَةَ وَكَانَ حَلِيفًا لَهُمْ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ أَنَّهُ الذَّبْحُ فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ وَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي بَرَاءَةٌ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ «1» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تَخُونُوا اللَّهَ قَالَ: بِتَرْكِ فَرَائِضِهِ وَالرَّسُولَ بِتَرْكِ سُنَنِهِ، وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ يَقُولُ: لَا تُنْقِصُوهَا، وَالْأَمَانَةُ: الْأَعْمَالُ الَّتِي ائْتَمَنَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعِبَادَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهَا قَتْلَ عُثْمَانَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشيخ عن يزيد بن حَبِيبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ الْإِخْلَالُ «2» بِالسِّلَاحِ في المغازي، ولعل مراده أن هذا يَنْدَرِجُ تَحْتَ عُمُومِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن ابن مسعود قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى فِتْنَةٍ. لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ فَمَنِ اسْتَعَاذَ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ ابن زيد في الآية قال: فتنة الأخبار اختبرهم، وقرأ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً «3» . [سورة الأنفال (8) : آية 29] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) جَعَلَ سُبْحَانَهُ التَّقْوَى شَرْطًا فِي الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ، مَعَ سَبْقِ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ لَا يَتَّقُونَ، جَرْيًا عَلَى مَا يُخَاطِبُ بِهِ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَالتَّقْوَى: اتِّقَاءُ مُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ وَالْوُقُوعِ فِي مَنَاهِيهِ. والفرقان: ما يفرق به

_ (1) . التوبة: 102. [.....] (2) . قال في لسان العرب: أخلّ بالشيء: غاب عنه وتركه. (3) . الأنبياء: 35.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 30 إلى 33]

بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ ثَبَاتِ الْقُلُوبِ، وَثُقُوبِ الْبَصَائِرِ، وَحُسْنِ الْهِدَايَةِ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الِالْتِبَاسِ وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ: الْمَخْرَجُ مِنَ الشُّبَهَاتِ، وَالنَّجَاةُ مِنْ كُلِّ ما يخافونه، ومنه قول الشاعر: مالك مِنْ طُولِ الْأَسَى فُرْقَانُ ... بَعْدَ قَطِينٍ رَحَلُوا وَبَانُوا وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: وَكَيْفَ أُرَجَّى الْخُلْدَ وَالْمَوْتُ طَالِبِي ... وَمَا لِي مِنْ كَأْسِ الْمَنِيَّةِ فُرْقَانُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ بِالْفُرْقَانِ: الْفَتْحُ وَالنَّصْرُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْفُرْقَانُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبِمَثَلِهِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْفُرْقَانُ: النَّجَاةُ، وَيُؤَيِّدُ تَفْسِيرُ الْفُرْقَانِ بِالْمَخْرَجِ وَالنَّجَاةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أَيْ: يَسْتُرُهَا حَتَّى تَكُونَ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ وَيَغْفِرْ لَكُمْ «1» مَا اقْتَرَفْتُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَاتِ: الصَّغَائِرُ، وَبِالذُّنُوبِ الَّتِي تُغْفَرُ: الْكَبَائِرُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا تَأَخَّرَ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فَهُوَ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى عِبَادِهِ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً قَالَ: هُوَ الْمَخْرَجُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: هُوَ النَّجَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ النّصر. [سورة الأنفال (8) : الآيات 30 الى 33] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) قَوْلُهُ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الظَّرْفُ مَعْمُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ وَقْتَ مَكْرِ الْكَافِرِينَ بِكَ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا ذَكَّرَ اللَّهُ رَسُولَهُ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعُظْمَى الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ، وَهِيَ نَجَاتُهُ مِنْ مَكْرِ الْكَافِرِينَ وكيدهم، كما سيأتي بيانه لِيُثْبِتُوكَ أي: يُثْبِتُوكَ بِالْجِرَاحَاتِ كَمَا قَالَ ثَعْلَبُ وَأَبُو حَاتِمٍ وغيرهما، وعنه قول الشاعر: فقلت ويحكما مَا فِي صَحِيفَتِكُمْ ... قَالُوا الْخَلِيفَةُ أَمْسَى مُثْبَتًا وَجِعًا وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِيَحْبِسُوكَ، يُقَالُ: أَثْبَتَهُ: إِذَا حبسه وقيل ليوثقوك، ومنه: فَشُدُّوا الْوَثاقَ «2» . وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ «لِيُبَيِّتُوكَ» مِنَ الْبَيَاتِ. وَقُرِئَ لِيُثبِّتُوكَ بِالتَّشْدِيدِ أَوْ يُخْرِجُوكَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: يُخْرِجُوكَ مِنْ مَكَّةَ الَّتِي هِيَ بَلَدُكَ وَبَلَدُ أَهْلِكَ. وَجُمْلَةُ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ مُسْتَأْنَفَةٌ، والمكر:

_ (1) . الطلاق: 2. (2) . محمد: 4.

التَّدْبِيرُ فِي الْأَمْرِ فِي خُفْيَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُخْفُونَ مَا يُعِدُّونَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَكَايِدِ، فَيُجَازِيهِمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَرِدُّ كَيْدَهُمْ فِي نُحُورِهِمْ، وَسُمِّيَ مَا يَقَعُ مِنْهُ تَعَالَى: مَكْرًا، مُشَاكَلَةً كَمَا فِي نَظَائِرِهِ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أَيِ: الْمُجَازِينَ لِمَكْرِ الْمَاكِرِينَ بِمِثْلِ فِعْلِهِمْ، فَهُوَ يُعَذِّبُهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ وَأَعْظَمَ بَلَاءً مِنْ مَكْرِهِمْ. قَوْلُهُ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أَيِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ بِهَا وَتَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ قالُوا تَعَنُّتًا وَتَمَرُّدًا وَبُعْدًا عَنِ الْحَقِّ قَدْ سَمِعْنا مَا تَتْلُوهُ عَلَيْنَا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا الَّذِي تَلَوْتَهُ عَلَيْنَا، قِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا هَذَا تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا رَامُوا أَنْ يقولوا مثله عجزوا عنه، ثم قال عِنَادًا وَتَمَرُّدًا: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: مَا يَسْتَطِرُهُ الْوَرَّاقُونَ مِنْ أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى وَإِذْ قالُوا أَيْ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ بِنَصْبِ الْحَقِّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَالضَّمِيرُ لِلْفَصْلِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ بِهَا، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِي إِجَازَتِهَا، وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ، وَالْمَعْنَى: إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ هُوَ الْحَقُّ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةُ مُبَالَغَةٌ فِي الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ: أَمْطَرَ: فِي الْعَذَابِ، وَمَطَرَ: فِي الرَّحْمَةِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: قَدْ كَثُرَ الْإِمْطَارُ فِي مَعْنَى الْعَذَابِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ سَأَلُوا أَنْ يُعَذَّبُوا بِالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ فِيهِمْ مَوْجُودٌ فَإِنَّكَ مَا دُمْتَ فِيهِمْ فَهُمْ فِي مُهْلَةٍ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِئْصَالُ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الطَّوَافِ غُفْرَانَكَ، أَيْ: وَمَا كَانَ الله معذبهم في حال كونهم يستغفرونه وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَوْ كَانُوا مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُهُ لَمْ يُعَذِّبْهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، أَيْ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَفِيهِمْ مَنْ يَسْتَغْفِرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ عَذَّبَهُمْ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَمَا بَعْدَهُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَفِي أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوِثَاقِ، يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَلِيًّا رَدَّ اللَّهِ مَكْرَهُمْ فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ، فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِأَطْوَلَ مِمَّا هُنَا. وَفِيهَا ذِكْرُ الشَّيْخِ النَّجْدِيِّ أَيْ: إِبْلِيسَ وَمَشُورَتِهِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ لِلْمُشَاوَرَةِ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ أَبَا جَهْلٍ أَشَارَ بِأَنْ يَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ غُلَامًا وَيُعْطُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَيْفًا ثم

[سورة الأنفال (8) : الآيات 34 إلى 37]

يَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا قَتَلُوهُ تَفَرَّقَ دمه في القبائل، فقال الشيخ الجندي: هَذَا وَاللَّهِ هُوَ الرَّأْيُ، فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم وأبو الشيخ عن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا ائْتَمَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُثْبِتُوهُ أَوْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ قَالَ لَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ: هَلْ تَدْرِي مَا ائْتَمَرُوا بِكَ؟ قَالَ: يُرِيدُونَ أَنْ يَسْجُنُونِي أَوْ يَقْتُلُونِي أَوْ يُخْرِجُونِي، قَالَ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ، اسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا، قَالَ: أَنَا أَسْتَوْصِي بِهِ؟ بَلْ هُوَ يَسْتَوْصِي بِي. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، فَقَدْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ مَاتَ قَبْلَ وَقْتِ الْهِجْرَةِ بِسِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جرير فِي قَوْلِهِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال: قال عكرمة هي مكية. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء في قوله لِيُثْبِتُوكَ يَعْنِي: لِيُوثِقُوكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ صبرا عقبة بن أبي معيط، وطعيمة ابن عَدِيٍّ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَكَانَ الْمِقْدَادُ أَسَرَ النَّضْرَ، فَلَمَّا أُمِرَ بِقَتْلِهِ قَالَ الْمِقْدَادُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَسِيرِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا يَقُولُ، قَالَ: وَفِيهِ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا، وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الْآيَةَ، فَنَزَلَتْ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ عَطَاءٍ نَحْوَهُ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكَ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَيَقُولُونَ: غُفْرَانُكَ غُفْرَانُكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِيهِمْ أَمَانَانِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِغْفَارُ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ الِاسْتِغْفَارُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لِأُمَّتِي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ الْآيَةَ. فَإِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمُ الِاسْتِغْفَارَ» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ فِيكُمْ أَمَانَانِ مَضَى أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ، قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ نَحْوَهُ أَيْضًا، وَالْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُطْلَقِ الِاسْتِغْفَارِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 34 الى 37] وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)

قَوْلُهُ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانِهِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ هُوَ الْأَمْرَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ: وُجُودُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ظُهُورِهِمْ، وَوُقُوعُ الِاسْتِغْفَارِ. ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ، أَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ مُسْتَحِقُّونَ لِعَذَابِ اللَّهِ لِمَا ارْتَكَبُوا مِنَ الْقَبَائِحِ. وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ لَهُمْ يَمْنَعُ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ؟ قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ أَنْ زَائِدَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَرَفَعَ يُعَذِّبَهُمْ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَمَا يَمْنَعُ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ؟ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَمَا وَقَعَ مِنْهُمْ عَامُ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنَ الْبَيْتِ. وَجُمْلَةُ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَصُدُّونَ وَهَذَا كَالرَّدِّ لِمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّهُمْ وُلَاةُ الْبَيْتِ. وَأَنَّ أَمْرَهُ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا لِمَنْ لَهُ ذَلِكَ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أَيْ: مَا أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا مَنْ كَانَ فِي عِدَادِ الْمُتَّقِينَ لِلشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ عَلَى الْأَكْثَرِينَ بِالْجَهْلِ يُفِيدُ أَنَّ الْأَقَلِّينَ يَعْلَمُونَ وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَ. قَوْلُهُ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً الْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ مِنْ مَكَا يَمْكُو مُكَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: وحليل غانية تركت مجدّلا ... تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ الْأَعْلَمِ أَيْ تُصَوِّتُ. وَمِنْهُ: مَكَتِ اسْتُ الدَّابَّةِ: إِذَا نَفَخَتْ بِالرِّيحِ، قِيلَ الْمُكَاءُ: هُوَ الصَّفِيرُ عَلَى لَحْنِ طَائِرٍ أَبْيَضَ بِالْحِجَازِ يُقَالُ لَهُ الْمُكَّاءُ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا غَرَّدَ الْمُكَّاءُ فِي غَيْرِ دَوْحَةٍ ... فَوَيْلٌ لِأَهْلِ الشَّاءِ وَالْحُمُرَاتِ وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ، يُقَالُ: صَدَّى يُصَدِّي تصدية: إذا صفق، ومنه قول عمرو بْنُ الْإِطْنَابَةِ: وَظَلُّوا جَمِيِعًا لَهُمْ ضَجَّةٌ ... مُكَاءٌ لَدَى الْبَيْتِ بِالتَّصْدِيَةِ أَيْ: بِالتَّصْفِيقِ وَقِيلَ الْمُكَاءُ: الضَّرْبُ بِالْأَيْدِي، وَالتَّصْدِيَةُ: الصِّيَاحُ وَقِيلَ الْمُكَاءُ: إِدْخَالُهُمْ أَصَابِعَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَالتَّصْدِيَةُ: الصَّفِيرُ وَقِيلَ التَّصْدِيَةُ: صَدُّهُمْ عَنِ الْبَيْتِ قِيلَ: وَالْأَصْلُ عَلَى هَذَا تَصْدِدَةٌ فَأُبْدِلُ مِنْ إِحْدَى الدَّالَيْنِ يَاءٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ عِنْدَ الْبَيْتِ، الَّذِي هُوَ مَوْضِعٌ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، فَوَضَعُوا ذَلِكَ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ، قَاصِدِينَ بِهِ أَنْ يَشْغَلُوا الْمُصَلِّينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الصَّلَاةِ، وَقُرِئَ بِنَصْبِ صَلَاتَهُمْ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ كَانَ، وَمَا بَعْدَهُ اسْمُهَا. قَوْلُهُ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ هَذَا الْتِفَاتٌ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْكُفَّارِ تَهْدِيدًا لَهُمْ وَمُبَالَغَةً فِي إِدْخَالِ الرَّوْعَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ: عَذَابُ الدُّنْيَا كَيَوْمِ بَدْرٍ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ. قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ

مِنْ شَرْحِ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ فِي الطَّاعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ أَتْبَعَهَا شَرْحَ أَحْوَالِهِمْ فِي الطَّاعَاتِ الْمَالِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ غَرَضَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فِي إِنْفَاقِ أَمْوَالِهِمْ هُوَ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ بِمُحَارَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَمْعِ الْجُيُوشِ لِذَلِكَ، وَإِنْفَاقِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ كَمَا وَقَعَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَيَوْمَ أُحُدٍ، وَيَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَإِنَّ الرُّؤَسَاءَ كَانُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ عَلَى الْجَيْشِ ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْغَيْبِ عَلَى وَجْهِ الْإِعْجَازِ، فَقَالَ: فَسَيُنْفِقُونَها أَيْ: سَيَقَعُ مِنْهُمْ هَذَا الْإِنْفَاقُ ثُمَّ تَكُونُ عَاقِبَةُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إِنْفَاقُهُمْ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، وكأن ذات الأموال تنقلب حسرة وتصير ندما، ثُمَّ آخر الأمر يُغْلَبُونَ كَمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ فِي مِثْلِ قوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي. وَمَعْنَى (ثُمَّ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ: إِمَّا التَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ، لِمَا بَيْنَ الْإِنْفَاقِ الْمَذْكُورِ، وَبَيْنَ ظُهُورِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الِامْتِدَادِ، وَإِمَّا التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، لِمَا بَيْنَ بَذْلِ الْمَالِ، وَعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمُبَايَنَةِ، ثُمَّ قَالَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أَيِ: اسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمَذْكُورِينَ سَابِقًا مَنْ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، أَيْ: يُسَاقُونَ إِلَيْهَا لَا إِلَى غَيْرِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا فَعَلَ بِهِمْ مَا فَعَلَهُ فَقَالَ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ أَيِ: الْفَرِيقَ الْخَبِيثَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنَ الْفَرِيقِ الطَّيِّبِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ أَيْ: يَجْعَلَ فَرِيقَ الْكُفَّارِ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً عِبَارَةٌ عَنِ الجمع والضم، أي: يجمع بعضهم إلى بَعْضٍ، وَيَضُمَّ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى يَتَرَاكَمُوا لِفَرْطِ ازْدِحَامِهِمْ، يُقَالُ: رَكَمَ الشَّيْءَ يَرْكُمُهُ: إِذَا جَمَعَهُ وَأَلْقَى بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أُولئِكَ إِلَى الْفَرِيقِ الْخَبِيثِ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْخُسْرَانِ وَقِيلَ: الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ: صِفَةٌ لِلْمَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَمِيزَ الْمَالَ الْخَبِيثَ الَّذِي أَنْفَقَهُ الْمُشْرِكُونَ، مِنَ الْمَالِ الطَّيِّبِ الَّذِي أَنْفَقَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَيَضُمَّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ الْخَبِيثَةَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فيلقيه فِي جَهَنَّمَ، وَيُعَذِّبَهُمْ بِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَاللَّامُ عَلَى هَذَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً، وَعَلَى الْأَوَّلِ: ب: يُحْشَرُونَ وأُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ثُمَّ اسْتَثْنَى أَهْلَ الشِّرْكِ فَقَالَ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ قَالَ: عَذَابُهُمْ فَتْحُ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو حَاتِمٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَيْ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَعَبَدَهُ، أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ، وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْهُ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَهُ، أَيْ: أَنْتَ وَمَنْ آمَنَ بِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ قَالَ: مَنْ كَانُوا حَيْثُ كَانُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يُعَارِضُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّوَافِ وَيَسْتَهْزِئُونَ وَيُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ، فَنَزَلَتْ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ

وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يَطُوفُونَ بِالْكَعْبَةِ عُرَاةً تُصَفِّرُ وَتُصَفِّقُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً قَالَ: وَالْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، إِنَّمَا شُبِّهُوا بِصَفِيرِ الطَّيْرِ، وَتَصْدِيَةً: التَّصْفِيقُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فيهم قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: الْمُكَاءُ: إِدْخَالُ أَصَابِعِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَالتَّصْدِيَةُ: الصَّفِيرُ، يَخْلِطُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ. قَالَ: الْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، عَلَى نَحْوِ طَيْرٍ أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ: الْمُكَّاءُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ إِلَّا مُكاءً قَالَ: كَانُوا يُشَبِّكُونَ أَصَابِعَهُمْ وَيُصَفِّرُونَ فِيهِنَّ وَتَصْدِيَةً قَالَ: صَدُّهُمُ النَّاسَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عَلَى الشِّمَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَالْمُكَاءُ: مِثْلُ نَفْخِ الْبُوقِ، وَالتَّصْدِيَةُ: طَوَافُهُمْ عَلَى الشِّمَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قَالَ: يَعْنِي أَهْلَ بَدْرٍ، عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِهِ: قَالَ: حدّثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم ابن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو قَالُوا: لَمَّا أُصِيبَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ بَدْرٍ وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِعِيرِهِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهِلٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي رِجَالٍ مَنْ قُرَيْشٍ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُوا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ فَلَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرًا. فَفَعَلُوا، فَفِيهِمْ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ، أَنْفَقَ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَتِ الْوُقِيَّةُ يَوْمَئِذٍ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِثْقَالًا «2» مَنْ ذَهَبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ قَالَ: يَمِيزَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ تُؤْخَذُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً قال: يجمعه جميعا.

_ (1) . الأعراف: 32. (2) . المثقال: 60، 3 غرام.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 38 إلى 40]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 38 الى 40] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ هَذَا الْمَعْنَى، وَسَوَاءٌ قَالَهُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّهُ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يَعْنِي بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ لِمَا تَأَدَّتِ الرِّسَالَةُ إِلَّا بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ بِعَيْنِهَا. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: أَيْ: قُلْ لِأَجْلِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ، وَهُوَ إِنْ يَنْتَهُوا وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى: خَاطِبْهُمْ، لَقِيلَ: إِنْ تَنْتَهُوا يَغْفِرُ لَكُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَنَحْوُهُ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ «1» خَاطَبُوا بِهِ غَيْرَهُمْ لِأَجْلِهِمْ لِيَسْمَعُوهُ، أَيْ: إِنْ يَنْتَهُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِتَالِهِ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ لَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ، انْتَهَى. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْكُفْرِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْحَامِلُ على هذا جواب الشرط: يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ، وَمَغْفِرَةُ مَا قَدْ سَلَفَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمُنْتَهٍ عَنِ الْكُفْرِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلُهُ وَإِنْ يَعُودُوا إِلَى الْقِتَالِ وَالْعَدَاوَةِ، أَوْ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ الْعَوْدُ بِمَعْنَى الِاسْتِمْرَارِ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ هَذِهِ الْعِبَارَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّمْثِيلِ بِمَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ فِي سَالِفِ الدَّهْرِ بِعَذَابِ اللَّهِ أَيْ: قَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِيمَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِ هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأُمَمِ أَنْ يُصِيبَهُ بِعَذَابٍ، فَلْيَتَوَقَّعُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ أَيْ: كُفْرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى فَإِنِ انْتَهَوْا عَمَّا ذُكِرَ فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الِانْتِهَاءِ، وَإِنْ تَوَلَّوْا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الِانْتِهَاءِ، فَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أَيْ: نَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ فَمَنْ وَالَاهُ فَازَ، وَمِنْ نَصَرَهُ غَلَبَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ قَالَ: فِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْأُمَمُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يمينه فقبضت يدي، قال: مالك؟ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: «تَشْتَرِطُ مَاذَا» ؟ قُلْتُ: أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِي، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا» . وَقَدْ فَسَّرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ قَوْلَهُ تَعَالَى فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ بِمَا مَضَى فِي الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ عَذَابِ مَنْ قَاتَلَ الْأَنْبِيَاءَ وَصَمَّمَ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَفَسَّرَ جُمْهُورُ السَّلَفِ الْفِتْنَةَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا بِالْكُفْرِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: بَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ حَتَّى لا يفتن مسلم عن دينه.

_ (1) . الأحقاف: 11.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 إلى 42]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 42] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقِتَالِ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَكَانَتِ الْمُقَاتَلَةُ مَظَنَّةَ حُصُولِ الْغَنِيمَةِ ذَكَرَ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ، وَالْغَنِيمَةُ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَصْلَهَا: إِصَابَةُ الْغَنَمِ مِنَ الْعَدُوِّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي كُلِّ مَا يُصَابُ مِنْهُمْ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُنَالُ بِسَعْيٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: ومُطْعَمُ الغُنْمِ يَومَ الغُنْمِ مُطْعَمُهُ ... أَنَّى تَوَجَّه وَالْمَحْرُومُ مَحْرُومُ وَأَمَّا مَعْنَى الْغَنِيمَةِ فِي الشَّرْعِ، فَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ: مَالِ الْكُفَّارِ إِذَا ظَفَرَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ. قَالَ: وَلَا تَقْتَضِي اللُّغَةُ هَذَا التَّخْصِيصَ، وَلَكِنْ عُرْفَ الشَّرْعِ قَيَّدَ اللَّفْظَ بِهَذَا النَّوْعِ. وَقَدِ ادَّعَى ابن عبد البر الإجماع على هذه الآية بعد قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ وَأَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ مَقْسُومَةٌ عَلَى الغانمين، وأن قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ نَزَلَتْ حِينَ تَشَاجَرَ أَهْلُ بَدْرٍ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ السورة وقيل إنها أعني قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَتْ مَقْسُومَةً بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَكَذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، قَالُوا: وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُمْ، وَاحْتَجُّوا بِفَتْحِ مَكَّةَ وَقِصَّةِ حُنَيْنٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ: افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ عَنْوَةً وَمَنَّ عَلَى أَهْلِهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُقَسِّمْهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا فَيْئًا، وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ، وَمِمَّنْ حَكَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالدَّاوُدِيُّ وَالْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَكَيْفِيَّتِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِيمَا أَعْلَمُ أن قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الْآيَةَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ، بَلْ قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ قَوْلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ نَاسِخٌ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ التَّحْرِيفُ وَلَا التَّبْدِيلُ لِكِتَابِ اللَّهِ. وَأَمَّا قِصَّةُ فَتْحِ مَكَّةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي فَتْحِهَا، قَالَ: وَأَمَّا قِصَّةُ حُنَيْنٍ فَقَدْ عَوَّضَ الْأَنْصَارَ لَمَّا قَالُوا: تُعْطِي الْغَنَائِمَ قُرَيْشًا وَتَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ نَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: «أَمَّا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بُيُوتِكُمْ» كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ، بَلْ

ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ. قَوْلُهُ أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ يَشْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الغنيمة ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِمَا الْمَوْصُولَةِ، وَقَدْ خَصَّصَ الْإِجْمَاعُ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ الْأُسَارَى. فَإِنَّ الْخِيَرَةَ فِيهَا إِلَى الْإِمَامِ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَلِكَ سَلَبُ الْمَقْتُولِ إِذَا نَادَى بِهِ الْإِمَامُ وَقِيلَ: كَذَلِكَ الْأَرْضُ الْمَغْنُومَةُ. وَرَدَ بِأَنَّهُ لَا إِجْمَاعَ عَلَى الْأَرْضِ. قَوْلُهُ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ قَرَأَ النَّخَعِيُّ فَإِنَّ لِلَّهِ بِكَسْرِ أَنَّ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّ: أَنَّ وَمَا بَعْدَهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَحَقٌّ أَوْ فَوَاجِبٌ أَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْخُمُسِ عَلَى أَقْوَالٍ سِتَّةٍ: الْأَوَّلُ: قَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى سِتَّةٍ، فَيُجْعَلُ السُّدُسُ لِلْكَعْبَةِ. وَهُوَ الَّذِي لِلَّهِ، وَالثَّانِي: لِرَسُولِ اللَّهِ، وَالثَّالِثُ: لِذَوِي الْقُرْبَى، وَالرَّابِعُ: لِلْيَتَامَى، وَالْخَامِسُ: لِلْمَسَاكِينِ، وَالسَّادِسُ: لِابْنِ السَّبِيلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ: إِنَّهَا تُقَسَّمُ الْغَنِيمَةَ عَلَى خَمْسَةٍ، فَيُعْزَلُ مِنْهَا سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَيُقَسَّمُ أَرْبَعَةٌ عَلَى الْغَانِمِينَ، ثُمَّ يَضْرِبُ يَدَهُ فِي السَّهْمِ الَّذِي عَزَلَهُ فَمَا قَبَضَهُ مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ بقية السهم الذي عزله على خمسة للرسول ومن بعده الآية. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: رُوِيَ عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْخُمُسَ لَنَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَقَالَ: يَتَامَانَا وَمَسَاكِينِنَا وَأَبْنَاءِ سَبِيلِنَا. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةٍ، وَإِنَّ سَهْمَ اللَّهِ، وَسَهْمَ رَسُولِهِ وَاحِدٌ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةٍ: الْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينُ، وَابْنُ السَّبِيلِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ حُكْمُ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ كَمَا ارْتَفَعَ حُكْمُ سَهْمِهِ. قَالَ: وَيَبْدَأُ مِنَ الْخُمُسِ بِإِصْلَاحِ الْقَنَاطِرِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْجُنْدِ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ. الْقَوْلُ السَّادِسُ: قَوْلُ مَالِكٍ: إِنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَيُعْطِي مِنْهُ الْغُزَاةَ بِاجْتِهَادٍ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِيَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَبِهِ قَالَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَبِهِ عَمِلُوا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قوله صلّى الله عليه وسلّم «مالي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ. وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ» فَإِنَّهُ لَمْ يُقَسِّمْهُ أَخْمَاسًا وَلَا أَثْلَاثًا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ ذِكْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُمْ مِنْ أهل مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ مُحْتَجًّا لِهَذَا القول: قال الله تعالى يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ «1» وَجَائِزٌ بِإِجْمَاعٍ أَنْ يُنْفَقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ إِذَا رَأَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ وَلِذِي الْقُرْبى قِيلَ: إِعَادَةُ اللَّامِ فِي ذِي الْقُرْبَى دُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ اشْتِرَاكِهِمْ فِي سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقُرْبَى عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَاسْتُدِلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا صَعِدَ الصَّفَّا جَعَلَ يَهْتِفُ بِبُطُونِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا قَائِلًا: يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ خَاصَّةً، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمُجَاهِدٍ. قَوْلُهُ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ قَالَ الزَّجَّاجُ عَنْ فِرْقَةٍ: إِنِ الْمَعْنَى فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، وَقَالَتْ

_ (1) . البقرة: 215.

فِرْقَةٌ أُخْرَى: إِنَّ إِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاعْلَمُوا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي الْغَنَائِمِ، فَعَلَّقَ إِنْ بِقَوْلِهِ وَاعْلَمُوا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، فَانْقَادُوا، وَسَلِّمُوا لِأَمْرِ اللَّهِ فِيمَا أَعْلَمَكُمْ بِهِ مِنْ حَالِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَاعْلَمُوا بِمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْخُمُسَ مِنَ الْغَنِيمَةِ يَجِبُ التَّقَرُّبُ بِهِ، فَاقْطَعُوا عَنْهُ أَطْمَاعَكُمْ، وَاقْتَنِعُوا بِالْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، وليس المراد بالعلم المجرد، ولكن العلم المضمن بِالْعَمَلِ، وَالطَّاعَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُجَرَّدَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، انْتَهَى. قَوْلُهُ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا مَعْطُوفٌ عَلَى الِاسْمِ الْجَلِيلِ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلْنَا، ويَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ بَدْرٍ. لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ أَهْلِ الحق، وأهل الباطل والْجَمْعانِ الْفَرِيقَانِ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ نَصْرُ الْفَرِيقِ الْأَقَلِّ عَلَى الْفَرِيقِ الْأَكْثَرِ. قَوْلُهُ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي العدوة، في الموضعين، وقرأ الباقون بالضم فيهما، وإِذْ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْفُرْقَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا، أَيْ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ. وَالْعُدْوَةُ: جَانِبُ الْوَادِي، وَالدُّنْيَا: تَأْنِيثُ الْأَدْنَى. وَالْقُصْوَى: تَأْنِيثُ الْأَقْصَى، مَنْ: دَنَا يَدْنُو، وَقَصَا يَقْصُو، وَيُقَالُ: الْقُصْيَا، وَالْأَصْلُ الْوَاوُ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْعُدْوَةُ الدُّنْيَا كَانَتْ مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةَ، وَالْقُصْوَى كَانَتْ مِمَّا يَلِي مَكَّةَ. وَالْمَعْنَى: وَقْتَ نُزُولِكُمْ بِالْجَانِبِ الْأَدْنَى مِنَ الْوَادِي إِلَى جِهَةِ الْمَدِينَةِ، وَعَدُوُّكُمْ بِالْجَانِبِ الْأَقْصَى مِنْهُ مِمَّا يَلِي مَكَّةَ. وَجُمْلَةُ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَانْتِصَابُ أَسْفَلَ عَلَى الظَّرْفِ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ الرَّكْبَ فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ رَفْعَ أَسْفَلَ عَلَى مَعْنَى أَشَدَّ سُفْلًا مِنْكُمْ، وَالرَّكْبُ: جَمْعُ رَاكِبٍ، وَلَا تَقُولُ الْعَرَبُ رَكْبٌ إِلَّا لِلْجَمَاعَةِ الرَّاكِبِي الْإِبِلِ، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ كَانَ عَلَى فَرَسٍ وَغَيْرِهَا: رَكْبٌ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ السِّكِّيتِ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَالْمُرَادُ بِالرَّكْبِ هَاهُنَا: رَكْبُ أَبِي سُفْيَانَ، وَهِيَ: الْمُرَادُ بِالْعِيرِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي مَوْضِعٍ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، مِمَّا يَلِي سَاحِلَ الْبَحْرِ. قِيلَ: وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، مِنْ كَوْنِهِمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا، وَعَدُوُّهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْهُمُ الدَّلَالَةُ عَلَى قُوَّةِ شَأْنِ الْعَدُوِّ وَشَوْكَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُدْوَةَ الْقُصْوَى الَّتِي أَنَاخَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ كَانَ فِيهَا الْمَاءُ، وَكَانَتْ أَرْضًا لا بأس بِهَا، وَأَمَّا الْعُدْوَةُ الدُّنْيَا فَكَانَتْ رَخْوَةً تَسُوخُ فِيهَا الْأَقْدَامُ وَلَا مَاءَ بِهَا، وَكَانَتِ الْعِيرُ وَرَاءَ ظَهْرِ الْعَدُوِّ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، فَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِنُصْرَتِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَالْحَالُ هَذِهِ. قَوْلُهُ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أَيْ: لَوْ تَوَاعَدْتُمْ أَنْتُمْ وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى أَنْ تَلْتَقُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْقِتَالِ، لَخَالَفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَثَبَّطَكُمْ قِلَّتُكُمْ وَكَثْرَتُهُمْ عَنِ الْوَفَاءِ بِالْمَوْعِدِ وَثَبَّطَهُمْ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْمَهَابَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلكِنْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أَيْ: حَقِيقًا بِأَنْ يَفْعَلَ مِنْ نَصْرِ أَوْلِيَائِهِ، وَخِذْلَانِ أَعْدَائِهِ، وَإِعْزَازِ دِينِهِ، وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ، فَأَخْرَجَ الْمُسْلِمِينَ لِأَخْذِ الْعِيرِ وَغَنِيمَتِهَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، وَأَخْرَجَ الْكَافِرِينَ لِلْمُدَافِعَةِ عَنْهَا. وَلَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِ الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ يَقَعَ هَذَا الِاتِّفَاقُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَاللَّامُ في

لِيَقْضِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: جَمَعَهُمْ لِيَقْضِيَ. وَجُمْلَةُ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ بَدَلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: لِيَمُوتَ مَنْ يَمُوتُ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَعِيشَ عَنْ بَيِّنَةٍ لِئَلَّا يَبْقَى لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ حجة وقيل: الهلاك والحياة مستعار لِلْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ، أَيْ: لِيَصْدُرَ إِسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ عَنْ وُضُوحِ بَيِّنَةٍ، وَيَقِينٍ بِأَنَّهُ دِينُ الْحَقِّ وَيَصْدُرَ كُفْرُ مَنْ كَفَرَ عَنْ وُضُوحِ بَيِّنَةٍ، لَا عَنْ مُخَالَجَةِ شُبْهَةٍ. قَرَأَ نَافِعٌ وَخَلَفٌ وَسَهْلٌ وَيَعْقُوبُ وَالْبَزِّيُّ وَأَبُو بَكْرٍ مَنْ حَيِيَ بِيَاءَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْإِدْغَامِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، لِأَنَّهَا كَذَلِكَ وَقَعَتْ فِي الْمُصْحَفِ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ: سَمِيعٌ بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ، عَلِيمٌ بِهِ، وَسَمِيعٌ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، عَلِيمٌ بِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: ثُمَّ وَضَعَ مَقَاسِمَ الْفَيْءِ، فَقَالَ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ الَّذِي كَانَ مَضَى مِنْ بَدْرٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ الْجَدَلِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ قَالَ: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ، لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى فَاخْتَلَفُوا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ. قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِقَرَابَةِ رسول الله، وَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِقَرَابَةِ الْخَلِيفَةِ، وَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ فِي الْخَيْلِ وَالْعُدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا، خَمَّسَ الْغَنِيمَةَ فَضَرَبَ ذَلِكَ فِي خُمُسِهِ، ثُمَّ قَرَأَ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ الْآيَةَ، قَالَ قَوْلُهُ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مِفْتَاحُ كَلَامٍ، لِلَّهِ مَا في السّموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، فَجَعَلَ اللَّهُ سَهْمَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَاحِدًا وَلِذِي الْقُرْبى فَجَعَلَ هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ قُوَّةً فِي الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ، وَجَعْلَ سَهْمَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ لَا يُعْطِيهِ غَيْرَهُمْ، وَجَعَلَ الْأَرْبَعَةَ الْأَسْهُمَ الْبَاقِيَةَ لِلْفَرَسِ سَهْمًا وَلِرَاكِبِهِ سَهْمًا وللراجل سهما. وأخرج ابن جرير وأبو الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَتِ الْغَنِيمَةُ تُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ: فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَخُمُسٌ وَاحِدٌ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ، فَرُبُعٌ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى، يَعْنِي قَرَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا كَانَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ فَهُوَ لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا، وَالرُّبُعُ الثَّانِي لِلْيَتَامَى وَالرُّبُع الثَّالِثُ لِلْمَسَاكِينِ وَالرُّبْعُ الرَّابِعُ لِابْنِ السَّبِيلِ، وَهُوَ الضَّيْفُ الْفَقِيرُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ قَالَ: كَانَ يُجَاءُ بِالْغَنِيمَةِ فَتُوضَعُ، فَيُقَسِّمُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَيَعْزِلُ سَهْمًا مِنْهَا وَيُقَسِّمُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ بَيْنَ النَّاسِ، يَعْنِي لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ، ثُمَّ يَضْرِبُ بِيَدِهِ فِي جَمِيعِ السَّهْمِ الَّذِي عَزَلَهُ، فَمَا قَبَضَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ. فَهُوَ الَّذِي سَمَّى اللَّهُ، لَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا فَإِنَّ لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ- ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى بَقِيَّةِ السَّهْمِ فَيُقَسِّمُهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلنَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَهْمٌ لِذِي الْقُرْبَى وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلُ سَهْمَ اللَّهِ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ وَطِيبِهَا وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْكَعْبَةُ، وَيَجْعَلُ سَهْمَ الرَّسُولِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَنَفَقَةِ أَهْلِهِ، وَسَهْمَ ذِي الْقُرْبَى لِقَرَابَتِهِ، يَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ مَعَ سَهْمِهِمْ مَعَ النَّاسِ، وَلِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ يَضَعُهَا رَسُولُ اللَّهِ فِيمَنْ شَاءَ حَيْثُ شَاءَ، لَيْسَ لِبَنِي عَبْدِ الْمَطْلَبِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَسْهُمِ وَلِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم سهم مع سِهَامِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ عَنْ قَوْلِهِ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ فَقَالَ: الَّذِي لِلَّهِ لِنَبِيِّهِ وَالَّذِي لِلرَّسُولِ لِأَزْوَاجِهِ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّا كُنَّا نَرَى أَنَّا هُمْ فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا. وَقَالُوا: قُرَيْشٌ كُلُّهَا ذَوُو قُرْبَى. وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: وَقَالُوا قُرَيْشٌ كُلُّهَا، تَفَرَّدَ بِهَا أَبُو مَعْشَرٍ، وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورَيَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَقُولُ لِمَنْ تَرَاهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ لِقُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَهُ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَرَضَ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ عَرْضًا رَأَيْنَاهُ دُونَ حَقِّنَا فَرَدَدْنَاهُ عَلَيْهِمْ وَأَبَيْنَا أَنْ نَقْبَلَهُ، وَكَانَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعِينَ نَاكِحَهُمْ وَأَنْ يَقْضِيَ عَنْ غَارِمِهِمْ وَأَنْ يُعْطِيَ فَقِيرَهُمْ وَأَبَى أَنْ يَزِيدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: رَغِبْتُ لَكُمْ عَنْ غُسَالَةِ الْأَيْدِي، لِأَنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يَكْفِيكُمْ أَوْ يُغْنِيكُمْ» . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمِ بْنِ مَهْدِيٍّ الْمِصِّيصِيِّ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَنَشٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ مَرْفُوعًا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ هَذَا وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ: يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَأْتِي بِمَنَاكِيرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ خَيْبَرَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، قَالَ: فَمَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَؤُلَاءِ إِخْوَانُكَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ مِنْهُمْ، أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مَنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ دُونَنَا؟ فَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي النَّسَبِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ» . وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: آلُ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ أُعْطُوا الْخُمُسَ: آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ الْعَبَّاسِ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَقِيلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمَغْنَمِ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ، إِمَّا خَادِمٌ وَإِمَّا فَرَسٌ، ثُمَّ يُصِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْخُمُسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا وَلَّيْتَنِي مَا خَصَّنَا اللَّهُ بِهِ مِنَ الْخُمُسِ؟ فَوَلَّانِيهِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ قَالَ: وَلَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمُسَ الْخُمُسِ فَوَضَعْتُهُ مَوَاضِعَهُ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ الْفُرْقانِ قَالَ: هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَبَدْرٌ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي

[سورة الأنفال (8) : الآيات 43 إلى 44]

الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ يَوْمَ الْفُرْقانِ قَالَ: هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، فَرَّقَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كَانَتْ لَيْلَةُ الْفُرْقَانِ- لَيْلَةَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فِي صَبِيحَتِهَا- لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وأخرج عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا قَالَ: الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا شَاطِئُ الْوَادِي وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ. قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْعُدْوَةُ الدُّنْيَا: شَفِيرُ الْوَادِي الْأَدْنَى، وَالْعُدْوَةُ الْقُصْوَى: شَفِيرُ الْوَادِي الْأَقْصَى. [سورة الأنفال (8) : الآيات 43 الى 44] إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) إِذْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ أَوْ هُوَ بَدَلٌ ثَانٍ مِنْ يَوْمِ الْفُرْقَانِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُمْ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا، فَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِثَبَاتِهِمْ، وَلَوْ رَآهُمْ فِي مَنَامِهِ كَثِيرًا لَفَشِلُوا، وَجَبُنُوا عَنْ قِتَالِهِمْ، وَتَنَازَعُوا فِي الْأَمْرِ، هَلْ يُلَاقُونَهُمْ أَمْ لَا؟ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أَيْ: سَلَّمَهُمْ وَعَصَمَهُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ فَقَلَّلَهُمْ فِي عَيْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَقِيلَ: عَنَى بِالْمَنَامِ: مَحَلَّ النُّوَّمِ، وهو العين، أي: فهو مَوْضِعِ مَنَامِكَ وَهُوَ عَيْنُكَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا مَذْهَبٌ حَسَنٌ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَسْوَغُ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِقَوْلِهِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ رُؤْيَةَ الِالْتِقَاءِ، وَأَنَّ تِلْكَ رُؤْيَةُ النَّوْمِ. قَوْلُهُ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ، أي: واذكروا وقت إراءتكم إياهم حَالَ كَوْنِهِمْ قَلِيلًا، حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِآخَرَ: أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: هُمْ نَحْوُ الْمِائَةِ، وَقَلَّلَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: إِنَّمَا هُمْ أَكَلَةُ جَزُورٍ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ الْقِتَالِ، فَلَمَّا شَرَعُوا فِيهِ كَثَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَوَجْهُ تَقْلِيلِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ، هُوَ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُمْ قَلِيلًا أَقْدَمُوا عَلَى الْقِتَالِ غَيْرَ خَائِفِينَ، ثُمَّ يَرَوْنَهُمْ كَثِيرًا فَيَفْشَلُونَ، وَتَكُونُ الدَّائِرَةُ عَلَيْهِمْ، وَيَحِلُّ بِهِمْ عَذَابُ اللَّهِ، وَسَوْطُ عِقَابِهِ، وَاللَّامُ فِي لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ كَمَا سَبَقَ مِثْلُهُ قَرِيبًا، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ لِاخْتِلَافِ الْمُعَلَّلِ بِهِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كُلُّهَا يَفْعَلُ فِيهَا مَا يُرِيدُ، وَيَقْضِي فِي شَأْنِهَا مَا يَشَاءُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا قَالَ: أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُمْ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ تَثْبِيتًا لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ يَقُولُ: لَجَبُنْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ قَالَ: لَاخْتَلَفْتُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 إلى 49]

أي: أَتَمَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ يَقُولُ: سَلَّمَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ حَتَّى أَظْهَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الْآيَةَ قَالَ: لَقَدْ قَلُّوا فِي أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي: تُرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: لَا، بَلْ هُمْ مِائَةٌ، حَتَّى أَخَذْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ فَسَأَلْنَاهُ قَالَ: كُنَّا أَلْفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: حَضَّضَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أَيْ: لِيَلُفَّ بَيْنَهُمُ الْحَرْبَ لِلنِّقْمَةِ مِمَّنْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ، وَالْإِنْعَامِ عَلَى مَنْ أَرَادَ النِّعْمَةَ عَلَيْهِ مَنْ أهل ولايته. [سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 49] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) قَوْلُهُ: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً اللِّقَاءُ: الْحَرْبُ، وَالْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ، أَيْ: إِذَا حَارَبْتُمْ جَمَاعَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَاثْبُتُوا لَهُمْ، وَلَا تَجْبُنُوا عَنْهُمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الرُّخْصَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالثَّبَاتِ هُوَ فِي حَال السِّعَةِ، وَالرُّخْصَةُ هِيَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ. وَقَدْ لَا يَحْصُلُ الثَّبَاتُ إِلَّا بِالتَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ أَيِ: اذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ جَزَعِ قُلُوبِكُمْ، فَإِنَّ ذِكْرَهُ يُعِينُ عَلَى الثَّبَاتِ فِي الشَّدَائِدِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: اثْبُتُوا بِقُلُوبِكُمْ، وَاذْكُرُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، فَإِنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَسْكُنُ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَيَضْطَرِبُ اللِّسَانُ، فَأَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ حَتَّى يَجْتَمِعَ ثَبَاتُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، قِيلَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَا قَالَهُ أَصْحَابُ طَالُوتَ: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «1» . وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الذِّكْرِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، حَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي تَرْجُفُ فِيهَا الْقُلُوبُ، وَتَزِيغُ عِنْدَهَا الْبَصَائِرُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فِيمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَيْهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّنَازُعِ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي الرَّأْيِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الْفَشَلُ، وَهُوَ الْجُبْنُ فِي الْحَرْبِ. وَالْفَاءُ جَوَابُ النَّهْي، وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَعْطُوفًا عَلَى تَنَازَعُوا، مَجْزُومًا بِجَازِمِهِ. قَوْلُهُ: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قُرِئَ بِنَصْبِ الْفِعْلِ، وَجَزْمِهِ عَطْفًا عَلَى تَفْشَلُوا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَالرِّيحُ: الْقُوَّةُ وَالنَّصْرُ، كَمَا يُقَالُ: الرِّيحُ لِفُلَانٍ، إِذَا كَانَ غَالِبًا فِي الْأَمْرِ وَقِيلَ: الرِّيحُ الدَّوْلَةُ، شُبِّهَتْ فِي نُفُوذِ أَمْرِهَا بِالرِّيحِ فِي هُبُوبِهَا، ومنه قول الشاعر:

_ (1) . البقرة: 250.

إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنَمَهَا ... فَعُقْبَى كُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالرِّيحِ: رِيحُ الصَّبَا، لِأَنَّ بِهَا كَانَ يَنْصُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى شَدَائِدِ الْحَرْبِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَنْبَغِي الصَّبْرُ فِيهِ، وَيَا حَبَّذَا هَذِهِ الْمَعِيَّةُ الَّتِي لَا يَغْلِبُ مَنْ رُزِقَهَا غَالِبٌ، وَلَا يُؤْتَى صَاحِبُهَا مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ تَكُونَ حَالَتُهُمْ كَحَالَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ، وَهُمْ قُرَيْشٌ، فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِيَحْفَظُوا الْعِيرَ الَّتِي مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، وَمَعَهُمُ الْقِيَانُ وَالْمَعَازِفُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجُحْفَةَ، بَلَغَهُمْ أَنَّ الْعِيرَ قَدْ نَجَتْ وَسَلِمَتْ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، بَلْ قَالُوا: لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى بَدْرٍ، لِيَشْرَبُوا الْخَمْرَ، وَتُغْنِيَ لَهُمُ الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ الْعَرَبُ بِمَخْرَجِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بَطَرًا وَأَشَرًا وَطَلَبًا لِلثَّنَاءِ مِنَ النَّاسِ، وَلِلتَّمَدُّحِ إِلَيْهِمْ، وَالْفَخْرِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الرِّيَاءُ قِيلَ: وَالْبَطَرُ فِي اللُّغَةِ: التَّقَوِّي بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: خَرَجُوا بَطِرِينَ مُرَائِينَ وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ لَهُ، وَكَذَا، رِيَاءً، أَيْ: خَرَجُوا لِلْبَطَرِ وَالرِّيَاءِ. وَقَوْلُهُ: وَيَصُدُّونَ مَعْطُوفٌ عَلَى بَطَرًا، وَالْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ: خَرَجُوا بَطِرِينَ مُرَائِينَ صَادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَالصَّدُّ: إِضْلَالُ النَّاسِ، وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ طُرُقِ الْهِدَايَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَيَصُدُّونَ: مَعْطُوفًا عَلَى يَخْرُجُونَ، وَالْمَعْنَى: يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْخُرُوجِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَالصَّدِّ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ خَافِيَةٌ فَهُوَ مُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ وَقْتَ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ الشَّيْطَانَ تَمَثَّلَ لَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ تِلْكَ الْمَقَالَةَ وَهِيَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أَيْ: مُجِيرٌ لَكُمْ مَنْ كُلِّ عَدُوٍّ، أَوْ مَنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَمَعْنَى الْجَارِ هُنَا: الدَّافِعُ عَنْ صَاحِبِهِ أَنْوَاعَ الضَّرَرِ كَمَا يَدْفَعُ الْجَارُ عَنِ الْجَارِ، وَكَانَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْشَمٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَخَافُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ أَنْ يَأْتُوهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّهُ أَلْقَى فِي رُوعِهِمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَخَيَّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُغْلَبُونَ وَلَا يُطَاقُونَ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أَيْ: فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ أَيْ: رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَيْسَ النُّكُوصُ عَلَى الْأَعْقَابِ مُكْرُمَةً ... إِنَّ الْمَكَارِمَ إِقْدَامٌ عَلَى الأسل وقول الآخر: وما ينفع الْمُسْتَأْخِرِينَ نُكُوصُهُمْ ... وَلَا ضَرَّ أَهْلَ السَّابِقَاتِ التَّقَدُّمُ وَقِيلَ: مَعْنَى نَكَصَ هَاهُنَا: بَطَلَ كَيْدُهُ وَذَهَبَ مَا خَيَّلَهُ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ أَيْ: تَبَرَّأَ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى أَمَارَاتِ النَّصْرِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِإِمْدَادِ اللَّهِ لَهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ، ثُمَّ عَلَّلَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ قِيلَ: خَافَ أَنْ يُصَابَ بِمَكْرُوهٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ حَضَرُوا الْوَقْعَةَ وَقِيلَ إِنَّ دَعْوَى الْخَوْفِ كَذِبٌ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ رَأَى أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا لِلْمُشْرِكِينَ فَاعْتَلَّ بِذَلِكَ، وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ إِبْلِيسَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تكون كلاما

مُسْتَأْنَفًا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ الظَّرْفُ مَعْمُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ اذكر، ويجوز أن يتعلق بنكص، أو بزين، أو بشديد الْعِقَابِ قِيلَ: الْمُنَافِقُونَ: هُمُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ الشَّاكُّونَ مِنْ غَيْرِ نِفَاقٍ، بَلْ لِكَوْنِهِمْ حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ فَوَافَقُوا الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، أَعْنِي غَرَّ هؤُلاءِ أَي: الْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ حَتَّى تَكَلَّفُوا مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ مِنْ قِتَالِ قُرَيْشٍ وَقِيلَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْيَهُودُ السَّاكِنُونَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَأَنَّهُمْ هُمْ وَالْمُنَافِقُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالُوا هذا الْمَقَالَةَ عِنْدَ خُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَدْرٍ، لَمَّا رَأَوْهُمْ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَدَدِ وَضَعْفٍ مِنَ الْعُدَدِ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، وَلَا يُذِلُّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ حَكِيمٌ لَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الَّتِي تَقْصُرُ عِنْدَهَا الْعُقُولُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ قَالَ: افْتَرَضَ اللَّهُ ذِكْرَهُ عِنْدَ أَشْغَلِ مَا يَكُونُونَ: عِنْدَ الضِّرَابِ بِالسُّيُوفِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثِنْتَانِ لَا يُرَدَّانِ: الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَعِنْدَ الْبَأْسِ، حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ الصَّوْتَ عِنْدَ الْقِتَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ يَقُولُ: لَا تَخْتَلِفُوا فَتَجْبُنُوا وَيَذْهَبُ نَصْرُكُمْ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قَالَ: نَصْرُكُمْ، وَقَدْ ذَهَبَ رِيحُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ حِينَ نَازَعُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ الْآيَةَ، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَاتَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يوم بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَدْرٍ خَرَجُوا بِالْقِيَانِ وَالدُّفُوفِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَاتَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ خَرَجُوا وَلَهُمْ بَغْيٌ وَفَخْرٌ، وقد قيل لهم: ارْجِعُوا فَقَدِ انْطَلَقَتْ عِيرُكُمْ وَقَدْ ظَفِرْتُمْ، فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ، حَتَّى يَتَحَدَّثَ أَهْلُ الْحِجَازِ بِمَسِيرِنَا وَعَدَدِنَا، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ: «اللَّهُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ أَقْبَلَتْ بِفَخْرِهَا وَخُيَلَائِهَا لِتُجَادِلَ رَسُولَكَ» ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ قَالَ يَوْمَئِذٍ: «جَاءَتْ مِنْ مَكَّةَ أَفْلَاذُهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ إِبْلِيسُ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمَعَهُ رَايَةٌ فِي صُورَةِ رِجَالٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَالشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْشَمٍ فَقَالَ الشَّيْطَانُ: لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ عَلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انْتَزَعَ إِبْلِيسُ يَدَهُ وَوَلَّى مُدْبِرًا هو وشيعته، فقال الرجال: يَا سُرَاقَةُ إِنَّكَ جَارٌ لَنَا فَقَالَ: إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ وَذَلِكَ حِينَ رَأَى الْمَلَائِكَةَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ قَالَ: وَلَمَّا دَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ قَلَّلَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَلَّلَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ،

[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 إلى 54]

فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: وَمَا هَؤُلَاءِ؟ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ مِنْ قِلَّتِهِمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ سَيَهْزِمُونَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: لَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ مَا تَفْعَلُ الْمَلَائِكَةُ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَشْفَقَ أَنْ يَخْلُصَ الْقَتْلُ إِلَيْهِ، فَتَشَبَّثَ به الحارث بن هشام وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، فَوَكَزَ فِي صَدْرِ الْحَارِثِ فَأَلْقَاهُ ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَظِرَتَكَ إِيَّايَ. وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ تَنْزِلُ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ، فَعَلِمَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَدَانِ لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وكذب عَدُوُّ اللَّهِ، مَا بِهِ مَخَافَةُ اللَّهِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ بِهِ وَلَا مَنَعَةَ لَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: ذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ قَالَ: وَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوا الْقِتَالَ يَوْمَ بَدْرٍ فَسُمُّوا مُنَافِقِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ بِمَكَّةَ ثُمَّ خَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ المنذر وأبو الشيخ عن الشعبي نحوه. [سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 54] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) قَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَالْمَعْنَى: وَلَوْ رَأَيْتَ، لأن لو تقلب المضارع ماضيا، وإِذْ ظَرْفٌ لِتَرَى، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَلَوْ تَرَى الْكَافِرِينَ وَقْتَ تَوَفِّي الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ قِيلَ أَرَادَ بِالَّذِينِ كَفَرُوا: مَنْ لَمْ يُقْتَلْ يَوْمَ بَدْرٍ وَقِيلَ هِيَ فِيمَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَجُمْلَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمُرَادُ بِأَدْبَارِهِمْ: أَسْتَاهُهُمْ، كَنَّى عَنْهَا بِالْأَدْبَارِ، وَقِيلَ: ظُهُورُهُمْ قِيلَ: هَذَا الضَّرْبُ يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا يُفِيدُهُ ذِكْرُ التَّوَفِّي، وَقِيلَ: هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَسِيرُونَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ. قَوْلُهُ: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى: وَيَقُولُونَ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى يَضْرِبُونَ وَقِيلَ إِنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، وَالذَّوْقِ قَدْ يَكُونُ مَحْسُوسًا، وَقَدْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ، وَأَصْلُهُ مِنَ

الذَّوْقِ بِالْفَمِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الضَّرْبِ وَالْعَذَابِ وَالْبَاءُ فِي بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ: ذَلِكَ وَاقِعٌ بِسَبَبِ مَا كَسَبْتُمْ مِنَ الْمَعَاصِي، وَاقْتَرَفْتُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَجُمْلَةُ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَالْأَمْرُ أَنَّهُ لَا يَظْلِمُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لِقَوْلِهِ: ذلِكَ وَهِيَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أَيْ: ذَلِكَ العذاب بسبب المعاصي، وبسبب أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتَبَهُ، وَأَوْضَحَ لَهُمُ السَّبِيلَ، وَهَدَاهُمُ النَّجْدَيْنِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «1» قَوْلُهُ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا أَنْزَلَهُ بِأَهْلِ بَدْرٍ، أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ سُنَّتُهُ فِي فِرَقِ الْكَافِرِينَ، وَالدَّأْبُ: الْعَادَةُ، وَالْكَافُ: فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: دَأْبِ هَؤُلَاءِ مِثْلُ دَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جُوزِيَ هَؤُلَاءِ كَمَا جُوزِيَ أُولَئِكَ، فَكَانَتِ الْعَادَةُ فِي عَذَابِ هَؤُلَاءِ كَالْعَادَةِ الْمَاضِيَةِ لِلَّهِ فِي تَعْذِيبِ طَوَائِفِ الْكُفْرِ، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ مُفَسِّرَةٌ لِدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، أَي: دَأْبُهُمْ هَذَا هُوَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، فَتَسَبَّبَ عَنْ كُفْرِهِمْ أَخْذُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِذُنُوبِهِمْ: مَعَاصِيهِمُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَيَكُونُ الْبَاءَ فِي بِذُنُوبِهِمْ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ: فَأَخَذَهُمْ مُتَلَبِّسِينَ بِذُنُوبِهِمْ غَيْرَ تَائِبِينَ عَنْهَا، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ مُعْتَرِضَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْعِقَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِهِمْ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْجُمْلَةُ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ بِسَبَبِ أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ عَدَمُ تَغْيِيرِ نِعَمِهِ الَّتِي يُنْعِمُ بِهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ بِكُفْرَانِ نِعَمِ اللَّهِ، وَغَمْطِ إِحْسَانِهِ، وَإِهْمَالِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَذَلِكَ كَمَا كَانَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُمْ، وَمِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ يُمَاثِلُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ فَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، فَقَابَلُوا هَذِهِ النِّعَمَ بِالْكُفْرِ فَاسْتَحَقُّوا تَغْيِيرَ النِّعَمِ، كَمَا غَيَّرُوا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ سُلُوكُهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ مِنْ شُكْرِهَا وَقَبُولِهَا، وَجُمْلَةُ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً دَاخِلَةٌ مَعَهَا فِي التَّعْلِيلِ، أَيْ: ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا إِلَخْ، وَبِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَهُ وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُونَهُ. وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، ثُمَّ كَرَّرَ مَا تَقَدَّمَ، فَقَالَ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ، مَعَ زِيَادَةِ أَنَّهُ كَالْبَيَانِ لِلْأَخْذِ بِالذُّنُوبِ بِأَنَّهُ كَانَ بِالْإِغْرَاقِ وَقِيلَ: إِنَّ الْأَوَّلَ بِاعْتِبَارِ مَا فَعَلَهُ آلُ فِرْعَوْنَ وَمَنْ شُبِّهَ بِهِمْ، وَالثَّانِي بِاعْتِبَارٍ مَا فُعِلَ بِهِمْ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ، وَبِالثَّانِي تَكْذِيبُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْ تعسف، والكلام في فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ كَالْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ فِي: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَهْلَكْنَاهُمْ، عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِفَظَاعَتِهِ وَكَوْنِهِ مِنْ أَشَدِّ أنواع الإهلاك، ثم حكم على كلا الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمِنْ كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِالظُّلْمِ لِأَنْفُسِهِمْ، بِمَا تَسَبَّبُوا بِهِ لِعَذَابِ اللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ، وَبِالظُّلْمِ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا كَانَ يَجْرِي مِنْهُمْ في معاملاتهم للناس بأنواع الظلم.

_ (1) . النحل: 118.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 إلى 60]

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ قَالَ: الَّذِينَ قَتَلَهُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي رَأَيْتُ بِظَهْرِ أَبِي جَهْلٍ مِثْلَ الشَّوْكِ، قَالَ: ذَلِكَ ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ. وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَدْبارَهُمْ قَالَ: وَأَسْتَاهَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُكَنِّي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السدي في قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ قَالَ: نِعْمَةُ اللَّهِ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ فَكَفَرُوا، فنقله الله إلى الأنصار. [سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 60] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) قَوْلُهُ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أَيْ: شَرَّ مَا يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: فِي حُكْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيِ: الْمُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ الْمُتَمَادُّونَ فِي الضَّلَالِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ: إِنَّ هَذَا شَأْنُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا، وَلَا يَرْجِعُونَ عَنِ الْغَوَايَةِ أَصْلًا، وَجَعَلَهُمْ شَرَّ الدَّوَابِّ، لَا شَرَّ النَّاسِ، إِيمَاءً إِلَى انْسِلَاخِهِمْ عَنِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَدُخُولِهِمْ فِي جِنْسٍ غَيْرِ النَّاسِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، لِعَدَمِ تَعَقُّلِهِمْ لِمَا فِيهِ رَشَادُهُمْ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الذَّمِّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ هُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ، أَيْ: أَخَذْتَ مِنْهُمْ عَهْدَهُمْ ثُمَّ هم يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ الذي عاهدتهم فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ مَرَّاتِ الْمُعَاهَدَةِ وَالحال أنَّ هُمْ لَا يَتَّقُونَ النَّقْضَ وَلَا يَخَافُونَ عَاقِبَتَهُ وَلَا يَتَجَنَّبُونَ أَسْبَابَهُ وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْهُمْ لِلتَّبْعِيضِ، وَمَفْعُولُ عَاهَدْتَ مَحْذُوفٌ، أَيِ: الَّذِينَ عَاهَدْتَهُمْ، وَهُمْ بَعْضُ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ، يَعْنِي: الْأَشْرَافَ مِنْهُمْ، وَعَطَفَ الْمُسْتَقْبَلَ، وَهُوَ ثُمَّ يَنْقُضُونَ، عَلَى الْمَاضِي، وَهُوَ عَاهَدْتَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ النَّقْضِ مِنْهُمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ قُرَيْظَةُ، عَاهَدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لَا يُعِينُوا الْكُفَّارَ، فَلَمْ يَفُوا بِذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أَيْ: فَإِمَّا تُصَادِفْنَّهُمْ فِي ثِقَافٍ «1» وَتَلْقَاهُمْ فِي حَالَةٍ تَقْدِرُ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَتَتَمَكَّنُ مِنْ غَلَبِهِمْ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أي: ففرّق

_ (1) . قال القرطبي: تأسرهم وتجعلهم في ثقاف أو تلقاهم بحال ضعف.

بِقَتْلِهِمْ وَالتَّنْكِيلِ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ مِنَ الْمُحَارِبِينَ لَكَ مَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، حَتَّى يَهَابُوا جَانِبَكَ، وَيَكُفُّوا عَنْ حَرْبِكَ، مَخَافَةَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلْ بِهَؤُلَاءِ. وَالثِّقَافُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: مَا يُشَدُّ بِهِ الْقَنَاةُ أَوْ نَحْوُهَا، وَمِنْهُ قول النابغة: تدعو قعينا وقد عضّ الحديد بها ... عضّ الثِّقَافِ عَلَى ضَمِّ الْأَنَابِيبِ يُقَالُ ثَقَفْتُهُ: وَجَدْتُهُ، وَفُلَانٌ ثَقِفٌ: سَرِيعُ الْوُجُودِ لِمَا يُحَاوِلُهُ، وَالتَّشْرِيدُ: التَّفْرِيقُ مَعَ الِاضْطِرَابِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فَشَرِّدْ بِهِمْ سَمِّعْ بِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: افْعَلْ بِهِمْ فِعْلًا مِنَ الْقَتْلِ تُفَرِّقُ بِهِ مَنْ خَلْفَهُمْ، يُقَالُ شَرَّدْتُ بَنِي فُلَانٍ: قَلَعْتُهُمْ عَنْ مَوَاضِعِهِمْ، وَطَرَدْتُهُمْ عَنْهَا، حَتَّى فَارَقُوهَا. قَالَ الشَّاعِرُ: أَطُوفُ في الأباطح كلّ يوم ... مخافة أن يشرّد بي حَكِيمٌ وَمِنْهُ شَرَدَ الْبَعِيرُ: إِذَا فَارَقَ صَاحِبَهُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ فَشَرِّذْ بِهِمْ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ. قَالَ قُطْرُبٌ: التَّشْرِيذُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: هُوَ التَّنْكِيلُ، وَبِالْمُهْمَلَةِ: هُوَ التَّفْرِيقُ. وَقَالَ المهدوي: الذَّالُ الْمُعْجَمَةُ لَا وَجْهَ لَهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ لِتَقَارُبِهِمَا. قَالَ: ولا يعرف فشرّذ فِي اللُّغَةِ، وَقُرِئَ مَنْ خَلْفَهُمْ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْفَاءِ. قَوْلُهُ وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً أَيْ غِشًّا وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ مِنَ الْقَوْمِ الْمُعَاهِدِينَ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أَيْ: فَاطْرَحْ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَلى سَواءٍ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَوِيَةٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ إِخْبَارًا ظَاهِرًا مَكْشُوفًا بِالنَّقْضِ وَلَا يُنَاجِزُهُمُ الْحَرْبَ بَغْتَةً وَقِيلَ: مَعْنَى: عَلى سَواءٍ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَوِي فِي الْعِلْمِ بِالنَّقْضِ أَقْصَاهُمْ وَأَدْنَاهُمْ، أَوْ تَسْتَوِي أَنْتَ وَهُمْ فِيهِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّوَاءُ الْعَدْلُ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الوسط، ومنه قوله فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «1» ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانٍ: يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبِيِّ وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَاضْرِبْ وُجُوهَ الْغُدَّرِ الْأَعْدَاءِ ... حتّى يجيبوك إلى السّواء وَقِيلَ: مَعْنَى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ عَلَى جَهْرٍ، لَا عَلَى سِرٍّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُعَاهِدٍ يُخَافُ مِنْ وُقُوعِ النَّقْضِ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، أَنَّ أَمْرَ بَنِي قُرَيْظَةَ انْقَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ: فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَأْمُرُهُ بِمَا يَصْنَعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ خِيَانَةً، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تَحْذِيرًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُنَاجَزَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ تُخَافُ مِنْهُمُ الْخِيَانَةُ. قَوْلُهُ ولا تحسبن قرأ ابن عامر ويزيد وحمزة وَحَفْصٌ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى يَكُونُ الَّذِينَ كَفَّرُوا: فَاعِلَ الْحُسْبَانِ، وَيَكُونُ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ: مَحْذُوفًا، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَمَفْعُولُهُ الثَّانِي: سَبَقُوا، وَمَعْنَاهُ: فَاتُوا وَأَفْلَتُوا مِنْ أَنْ يُظْفَرَ بِهِمْ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: يَكُونُ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ: الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالثَّانِي: سَبَقُوا، وَقُرِئَ: إِنَّهُمْ سَبَقُوا وقرئ يحسبن بكسر الياء، وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أي: إنهم لا يفوتون، ولا

_ (1) . الصافات: 55.

يَجِدُونَ طَالَبَهُمْ عَاجِزًا عَنْ إِدْرَاكِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: أَنَّهُمْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ مُفِيدَةٌ لِكَوْنِ الْجُمْلَةِ تَعْلِيلِيَّةً وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ أَفْلَتَ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَإِنْ أَفْلَتُوا مِنْ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَنَجَوْا فَإِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ، بَلْ هُمْ وَاقِعُونَ فِي عَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ زَعَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ يَحْسَبَنَّ بِالتَّحْتِيَّةِ لَحْنٌ، لَا تَحِلُّ الْقِرَاءَةَ بها، لأنه لم يأت ليحسبنّ بِمَفْعُولٍ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا تَحَامُلٌ شَدِيدٌ. وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ مَنْ خَلْفِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالتَّاءِ أَبْيَنُ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: يَجُوزُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَاعِلًا، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ. وَالْمَعْنَى وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ سَبَقُوا. قَالَ مَكِّيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُضْمَرَ مَعَ سَبَقُوا أَنْ فَتَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يَحْسَبْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ سَبَقُوا، فهو مثل أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا «1» فِي سَدِّ أَنْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ لِلْأَعْدَاءِ، وَالْقُوَّةُ: كُلُّ مَا يُتَقَوَّى بِهِ فِي الْحَرْبِ، وَمِنْ ذَلِكَ السِّلَاحُ وَالْقِسِيُّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» وَقِيلَ: هِيَ الْحُصُونُ، وَالْمَصِيرُ إِلَى التَّفْسِيرِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَيِّنٌ. قَوْلُهُ: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ. قَرَأَ الْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَمِنْ رُبُطِ الْخَيْلِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْبَاءِ، كَكُتُبٍ: جَمْعِ كِتَابٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الرِّبَاطُ مِنَ الْخَيْلِ: الْخَمْسُ فَمَا فَوْقَهَا، وَهِيَ الْخَيْلُ الَّتِي تَرْتَبِطُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَمَرَ الْإِلَهُ بِرَبْطِهَا لِعَدُوِّهِ ... فِي الْحَرْبِ إِنَّ اللَّهَ خَيْرُ مُوَفَّقِ قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالرِّبَاطُ: اسْمٌ لِلْخَيْلِ الَّتِي تَرْبُطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِالرِّبَاطِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمُرَابَطَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ رَبِيطٍ، كَفَصِيلٍ وَفِصَالٍ، انْتَهَى. وَمَنْ فَسَّرَ الْقُوَّةَ بِكُلِّ مَا يُتَقَوَّى بِهِ فِي الْحَرْبِ جَعْلَ عَطْفَ الْخَيْلِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَجُمْلَةُ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الحال، الترهيب: التَّخْوِيفُ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي مَا اسْتَطَعْتُمْ أَوْ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ وَأَعِدُّوا وَهُوَ الْإِعْدَادُ. وَالْمُرَادُ بِعَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِمْ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. قَوْلُهُ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ، وَمَعْنَى مِنْ دُونِهِمْ: مِنْ غَيْرِهِمْ قِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَقِيلَ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَقِيلَ: الْجِنُّ وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآخَرِينَ مَنْ غَيْرِهِمْ، كُلُّ مَنْ لَا تُعْرَفُ عَدَاوَتُهُ، قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَقِيلَ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ خَاصَّةً، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْأَوْلَى: الْوَقْفُ فِي تَعْيِينِهِمْ لِقَوْلِهِ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ. قَوْلُهُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: فِي الْجِهَادِ، وَإِنْ كَانَ يسيرا حقيرا يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه في الآخرة. فالحسنة بعشرة أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ كَمَا قَرَّرْنَاهُ سَابِقًا وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النَّفَقَةِ الَّتِي تُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ: مِنْ ثَوَابِهَا بَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ وَافِيًا وَافِرًا كَامِلًا وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً «2» أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ «3» .

_ (1) . العنكبوت: 2. (2) . النساء: 40. [.....] (3) . آل عمران: 195.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 61 إلى 63]

وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: نَزَلَتْ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الْآيَةَ فِي سِتَّةِ رَهْطٍ مِنَ الْيَهُودِ فِيهِمُ ابْنُ تَابُوتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ قال: قريظة يوم الخندق مالؤوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْدَاءَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ قَالَ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَنْذِرْ بِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: عِظْ بِهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَخِفْهُمْ بِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يقول: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أَنْ يَنْكُثُوا فَيُصْنَعَ بِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: دَخَلَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ، وَمَا زِلْنَا فِي طَلَبِ الْقَوْمِ فَاخْرُجْ، فَإِنَّ الله أَذِنَ لَكَ فِي قُرَيْظَةَ، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ قَالَ: لَا يَفُوتُونَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ قَالَ: الرَّمْيُ وَالسُّيُوفُ وَالسِّلَاحُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ قَالَ: أَمَرَهُمْ بِإِعْدَادِ الْخَيْلِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْقُوَّةُ ذُكُورُ الْخَيْلِ، وَالرِّبَاطُ الْإِنَاثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْقُوَّةُ الحصون، ومِنْ رِباطِ الْخَيْلِ قَالَ: الْإِنَاثُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ قَالَ: تُخْزُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي اسْتِحْبَابِ الرَّمْيِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي اسْتِحْبَابِ اتِّخَاذِ الْخَيْلِ وَإِعْدَادِهَا، وَكَثْرَةِ ثَوَابِ صَاحِبِهَا، أَحَادِيثُ لَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لِبَسْطِهَا. وَقَدْ أَفْرَدَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ العلماء بمصنفات. [سورة الأنفال (8) : الآيات 61 الى 63] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) الْجُنُوحُ: الْمَيْلُ، يُقَالُ: جَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ: مَالَ إِلَيْهِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَضَالِعِ: جَوَانِحُ، لِأَنَّهَا مَالَتْ إِلَى الْحَنْوَةِ، وَجَنَحَتِ الْإِبِلُ: إِذَا مَالَتْ أَعْنَاقُهَا فِي السَّيْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: إِذَا مَاتَ فَوْقَ الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ رُوحَهُ ... بِذِكْرَاكَ وَالْعِيسُ الْمَرَاسِيلُ جُنَّحُ وَمِثْلُهُ قَوْلُ النابغة:

جَوَانِحُ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ ... إِذَا مَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ أَوَّلَ غَالِبٍ يَعْنِي: الطَّيْرَ، وَالسَّلْمُ: الصُّلْحُ. قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو بَكْرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْمُفَضَّلُ بِكَسْرِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْعُقَيْلِيُّ فَاجْنَحْ بِضَمِّ النُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَالْأُولَى: لُغَةُ قَيْسٍ، وَالثَّانِيَةُ: لُغَةُ تَمِيمٍ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وَلُغَةُ قَيْسٍ: هِيَ الْقِيَاسُ، وَالسَّلْمُ تُؤَنَّثُ كَمَا تُؤَنَّثُ الْحَرْبُ، أَوْ هِيَ مُؤَوَّلَةٌ بِالْخَصْلَةِ، أَوِ الْفِعْلَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ أَمْ مُحْكَمَةٌ؟ فَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا قَبُولُ الْجِزْيَةِ، وَقَدْ قَبِلَهَا مِنْهُمُ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَتَكُونُ خَاصَّةً بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنْ دَعَوْا إِلَى الصُّلْحِ جَازَ أَنْ يُجَابُوا إِلَيْهِ، وَتَمَسَّكَ الْمَانِعُونَ مِنْ مُصَالَحَةِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ «1» وَقَيَّدُوا عَدَمَ الْجَوَازِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عِزَّةٍ وَقُوَّةٍ، لَا إِذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ، كَمَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُهَادَنَةِ قُرَيْشٍ، وَمَا زَالَتِ الْخُلَفَاءُ وَالصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَلَامُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ، مُقَرَّرٌ فِي مَوَاطِنِهِ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي جُنُوحِكَ لِلسَّلْمِ وَلَا تَخَفْ مِنْ مَكْرِهِمْ، فَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا يَقُولُونَ الْعَلِيمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ بِالصُّلْحِ، وَهُمْ مُضْمِرُونَ الْغَدْرَ وَالْخَدْعَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أَيْ: كَافِيَكَ مَا تَخَافُهُ مِنْ شُرُورِهِمْ بِالنَّكْثِ وَالْغَدْرِ، وَجُمْلَةُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ: لَا تَخَفْ مِنْ خَدْعِهِمْ وَمَكْرِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ الَّذِي قَوَّاكَ عَلَيْهِمْ بِالنَّصْرِ فِيمَا مَضَى، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، هُوَ الَّذِي سَيَنْصُرُكَ، وَيُقَوِّيكَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ حُدُوثِ الْخَدْعِ وَالنَّكْثِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفَ كَانَ تَأْيِيدُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَأَنَّ ائْتِلَافَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الَّتِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ: الْأَوْسُ، وَالْخَزْرَجُ، فَقَدْ كَانَ بَيْنَهُمْ عَصَبِيَّةٌ شَدِيدَةٌ، وَحُرُوبٌ عَظِيمَةٌ، فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: أَرَادَ التَّأْلِيفَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى، فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَحْتَرِمُ مَالَهُ، وَلَا دَمَهُ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ، فَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً، وَذَهَبَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، وَجُمْلَةُ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ وَالْعَدَاوَةِ، قَدْ بَلَغَ إِلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَوْ أَنْفَقَ الطَّالِبُ لَهُ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ لَمْ يَتِمَّ لَهُ مَا طَلَبَهُ مِنَ التَّأْلِيفِ، لِأَنَّ أَمْرَهُمْ فِي ذَلِكَ قَدْ تَفَاقَمَ جِدًّا وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ إِنَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ، وَلَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ وَنُفُوذِ نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ قَالَ: قُرَيْظَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، نَسَخَتْهَا فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ إلى

_ (1) . محمد: 35.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 64 إلى 66]

آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السَّلْمُ: الطَّاعَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنْ رَضُوا فَارْضَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنْ أَرَادُوا الصُّلْحَ فَأَرِدْهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «1» إلى قوله: وَهُمْ صاغِرُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ثُمَّ نسخ ذلك فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ قَالَ: قُرَيْظَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَبِالْمُؤْمِنِينَ قَالَ: الأنصار. وأخرج ابن مردويه عن النعمان ابن بَشِيرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ أَيْضًا وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَكْتُوبٌ عَلَى الْعَرْشِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَنَا اللَّهُ وَحْدِي لَا شَرِيكَ لِي، وَمُحَمَّدٌ عَبْدِي وَرَسُولِي أَيَّدْتُهُ بِعِلْمِي. وَذَلِكَ قَوْلُهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ هذه الآية نزلت في المتحابين في الله لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَاللَّفْظُ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَرَابَةُ الرَّحِمِ تُقْطَعُ، وَمِنَّةُ الْمُنْعِمِ تُكْفَرُ، وَلَمْ نَرَ مِثْلَ تَقَارُبِ الْقُلُوبِ، يَقُولُ اللَّهُ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ نَحْوَهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ مَعَ أَنَّ الْوَاقِعَ قَبْلَهَا هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَالْوَاقِعَ بعدها يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعَ كَوْنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ يَرْجِعُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ بِلَا شَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ، وَكَذَلِكَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّأْلِيفَ الْمَذْكُورَ هُوَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِمْ رَسُولَهُ صَلَّى الله عليه وسلّم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 64 الى 66] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ هَذَا تَكْرِيرًا لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُقَيَّدٌ بِإِرَادَةِ الْخَدْعِ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هذه كفاية خاصة، وفي قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ كِفَايَةٌ عَامَّةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ، أَيْ: حَسْبُكَ اللَّهُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَطْفِ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ. وَالْمَعْنَى: حَسْبُكَ اللَّهُ وحسبك المؤمنون، أي: كافيك الله،

_ (1) . التوبة: 29. (2) . التوبة: 5.

وَكَافِيكَ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَعَ، كَمَا تَقُولُ: حَسْبُكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ، وَالْمَعْنَى: كَافِيكَ وَكَافِي الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُ، لِأَنَّ عَطْفَ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ مُمْتَنِعٌ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَيْسَ بِكَثِيرٍ فِي كَلَامِهِمْ أَنْ تَقُولَ حَسْبُكَ وَأَخِيكَ، بَلِ الْمُسْتَعْمَلُ أَنْ يُقَالَ: حَسْبُكَ وَحَسْبُ أَخِيكَ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مجرورا، لقيل: حسبك أو حسب مَنِ اتَّبَعَكَ. وَاخْتَارَ النَّصْبَ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ النَّحَّاسُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُهُمُ اللَّهُ، فَحَذَفَ الْخَبَرَ. قَوْلُهُ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ أَيْ: حِثَّهُمْ وَحُضَّهُمْ، وَالتَّحْرِيضُ فِي اللُّغَةِ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْحَثِّ، وَهُوَ كَالتَّحْضِيضِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَرَضِ، وَهُوَ أَنْ يُنْهِكَهُ الْمَرَضُ وَيَتَبَالَغَ فِيهِ حَتَّى يُشْفِيَ عَلَى الْمَوْتِ كَأَنَّهُ يَنْسُبُهُ إِلَى الْهَلَاكِ لَوْ تَخَلَّفَ عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ، ثُمَّ بَشَّرَهُمْ تَثْبِيتًا لِقُلُوبِهِمْ وَتَسْكِينًا لِخَوَاطِرِهِمْ بِأَنَّ الصَّابِرِينَ مِنْهُمْ فِي الْقِتَالِ يَغْلِبُونَ عَشْرَةً أَمْثَالَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَالَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ثُمَّ زَادَ هَذَا إِيضَاحًا مُفِيدًا لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ بِهَذَا الْعَدَدِ، بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ فِي كُلِّ عَدَدٍ فَقَالَ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَلِيلًا كَانُوا أَوْ كَثِيرًا لَا يَغْلِبُهُمْ عَشْرَةُ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الْخَارِجِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَكَمْ مِنْ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ يَغْلِبُونَ مَنْ هُوَ مِثْلُ عُشْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ مِثْلُ نِصْفِهِمْ بَلْ مِثْلُهُمْ. وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ وُجُودَ هَذَا فِي الْخَارِجِ لَا يُخَالِفُ مَا فِي الْآيَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تَكُونَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُتَّصِفَةً بِصِفَةِ الصبر وقيل: إن هذا الخبر والواقع في الآية فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ «1» وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ «2» فَالْمُؤْمِنُونَ كَانُوا مَأْمُورِينَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنْ تَثْبُتَ الْجَمَاعَةُ مِنْهُمْ لِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَعْظَمُوهُ، خَفَّفَ عَنْهُمْ، وَرَخَّصَ لَهُمْ لِمَا عَلِمَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ وُجُودِ الضَّعْفِ فِيهِمْ، فَقَالَ: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَأَوْجَبَ عَلَى الْوَاحِدِ أَنْ يَثْبُتَ لِاثْنَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم ضعفا بفتح الضاد. قوله بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَغْلِبُوا أَيْ: إِنَّ هَذَا الْغَلَبَ بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ وَعَدَمِ فِقْهِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ مَغْلُوبٌ فِي الْغَالِبِ. وَقَدْ قِيلَ فِي نُكْتَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى غَلَبِ الْعِشْرِينَ لِلْمِائَتَيْنِ. وَالْمِائَةِ لِلْأَلْفِ أَنَّ سَرَايَاهُ الَّتِي كَانَ يبعثها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَنْقُصُ عَدَدُهَا عَنِ الْعِشْرِينَ، وَلَا يُجَاوِزُ الْمِائَةَ، وَقِيلَ فِي التَّنْصِيصِ فِيمَا بَعْدُ ذَلِكَ عَلَى غَلَبِ الْمِائَةِ لِلْمِائَتَيْنِ وَالْأَلِفِ لِلْأَلْفَيْنِ، عَلَى أَنَّهُ بِشَارَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، بِأَنَّ عَسَاكِرَ الْإِسْلَامِ سَيُجَاوِزُ عَدَدُهَا الْعَشَرَاتِ وَالْمِئَاتِ إِلَى الْأُلُوفِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ هَذَا الْغَلَبَ هُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَسْهِيلِهِ وَتَيْسِيرِهِ لَا بِقُوَّتِهِمْ وَجَلَادَتِهِمْ، ثُمَّ بَشَّرَهُمْ بِأَنَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَفِيهِ التَّرْغِيبُ إِلَى الصَّبْرِ، وَالتَّأْكِيدُ عَلَيْهِمْ بِلُزُومِهِ وَالتَّوْصِيَةِ بِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ النَّجَاحِ وَالْفَلَاحِ وَالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ لَمْ يَسْتَقِمْ لِأَحَدٍ أَنْ يَغْلِبَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ، هَلْ هَذَا التَّخْفِيفُ نَسْخٌ أَمْ لَا؟ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدِ انْتَصَفَ القوم منّا اليوم، وأنزل الله يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مردويه عن

_ (1) . البقرة: 233. (2) . البقرة: 228.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 إلى 69]

ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا وَامْرَأَةٌ، ثُمَّ إِنْ عُمَرَ أَسْلَمَ صَارُوا أَرْبَعِينَ، فنزل يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَسِتُّ نِسْوَةٍ، ثُمَّ أسلم عمر نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن الشعبي في قوله يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فَكَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، وَأَنْ لَا يَفِرَّ عِشْرُونَ مِنْ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ نَزَلَتْ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ الْآيَةَ فَكَتَبَ أَنْ لَا يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ، قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: وَأَرَى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِثْلَ هَذَا، إِنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أَمَرَهُمَا وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَهُوَ فِي سِعَةٍ مِنْ تَرْكِهِمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، فَجَاءَ التَّخْفِيفُ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ الْآيَةَ قَالَ: فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بقدر ما خفّف عنهم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 69] مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) هَذَا حُكْمٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِ الْجِهَادِ. وَمَعْنَى مَا كانَ لِنَبِيٍّ مَا صَحَّ لَهُ وَمَا اسْتَقَامَ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَسُهَيْلٌ وَيَعْقُوبُ وَيَزِيدُ، وَالْمُفَضَّلُ: أَنْ تَكُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ أَيْضًا يَزِيدُ وَالْمُفَضَّلُ أُسَارَى وَقَرَأَ الْبَاقُونَ أَسْرى وَالْأَسْرَى: جَمْعُ أَسِيرٍ، مِثْلَ: قَتْلَى وَقَتِيلٍ، وَجَرْحَى وَجَرِيحٍ. وَيُقَالُ: فِي جَمْعِ أَسِيرٍ أَيْضًا: أُسَارَى بضم الهمزة وبفتحها، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَسْرِ، وَهُوَ الْقَدُّ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشُدُّونَ بِهِ الْأَسِيرَ، فَسُمِّيَ كُلُّ أَخِيذٍ وَإِنْ لَمْ يُشَدَّ بِالْقَدِّ أَسِيرًا. قَالَ الْأَعْشَى: وقيّدني الشّعر في بيته ... كما قيّد الْأَسَرَاتُ الْحِمَارَا وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الأسرى: هم غير الموثقين عند ما يؤخذون، والأسارى: هم الموثقون ربطا. وَالْإِثْخَانُ: كَثْرَةُ الْقَتْلِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ تَقُولُ الْعَرَبُ: أَثْخَنَ فُلَانٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ: أَيْ بَالَغَ فِيهِ. فَالْمَعْنَى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُبَالِغَ فِي قَتْلِ الْكَافِرِينَ، وَيَسْتَكْثِرَ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْإِثْخَانِ: التَّمَكُّنُ وَقِيلَ: هُوَ الْقُوَّةُ. أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ أَوْلَى مِنْ أَسْرِهِمْ، وَفِدَائِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ رَخَّصَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً «1» كَمَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْقِتَالِ إِنْ شَاءَ الله. قوله

_ (1) . محمد: 4.

تُرِيدُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيا أَيْ: نَفْعَهَا وَمَتَاعَهَا بِمَا قَبَضْتُمْ مِنَ الْفِدَاءِ وَسُمِّيَ عَرَضًا: لِأَنَّهُ سَرِيعُ الزَّوَالِ كَمَا تَزُولُ الْأَعْرَاضُ الَّتِي هِيَ مُقَابِلُ الْجَوَاهِرِ وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أَيْ: يُرِيدُ لَكُمُ الدَّارَ الْآخِرَةَ بِمَا يَحْصُلُ لَكُمْ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْإِثْخَانِ بِالْقَتْلِ، وَقُرِئَ يُرِيدُ الْآخِرَةِ بِالْجَرِّ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ وَهُوَ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ، أَيْ: وَاللَّهُ يُرِيدُ عَرَضَ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغَالَبُ حَكِيمٌ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ. قَوْلُهُ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ مَا هُوَ؟ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ أَنَّهُ سَيُحِلُّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْغَنَائِمَ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَغْفِرَةُ اللَّهِ لِأَهْلِ بَدْرٍ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَمَا تَأَخَّرَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . الْقَوْلُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا بِذَنْبٍ فَعَلَهُ جَاهِلًا لِكَوْنِهِ ذَنْبًا. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَا قَضَاهُ اللَّهُ مِنْ مَحْوِ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. الْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ الْحُجَّةِ، وَتَقْدِيمِ النَّهْيِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ. وَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ اللَّفْظِ، وَأَنَّهُ يَعُمُّهَا لَمَسَّكُمْ أَيْ: لَحَلَّ بِكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ أَيْ: لِأَجْلِ مَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْفِدَاءِ عَذابٌ عَظِيمٌ وَالْفَاءُ فِي فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى سَبَبٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: قَدْ أَبَحْتُ لَكُمُ الْغَنَائِمَ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى مُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ أَيِ: اتْرُكُوا الْفِدَاءَ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ مِنْ غَيْرِهِ وَقِيلَ: إِنَّ مَا عِبَارَةٌ عَنِ الْفِدَاءِ، أَيْ: كُلُوا مِنَ الْفِدَاءِ الَّذِي غَنِمْتُمْ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنَائِمِ الَّتِي أَحَلَّهَا الله لكم وحَلالًا طَيِّباً مُنْتَصِبَانِ عَلَى الْحَالِ، أَوْ صِفَةِ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: أَكْلًا حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، فَلَا تُقْدِمُوا عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لَكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لِمَا فَرَطَ مِنْكُمْ رَحِيمٌ بِكُمْ، فَلِذَلِكَ رَخَّصَ لَكُمْ فِي أَخْذِ الْفِدَاءِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمْكَنَكُمْ مِنْهُمْ» . فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ!؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ عَادَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدِ أَمْكَنَكُمْ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ بِالْأَمْسِ» فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَادَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَأَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، فَعَفَا عَنْهُمْ، وَقَبِلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جِيءَ بِالْأُسَارَى وَفِيهِمُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى» ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَوْمُكَ وأهلك فاستبقهم لعلّ الله يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ وَقَاتَلُوكَ قَدِّمْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَضْرِمْهُ عَلَيْهِمْ نَارًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ وَهُوَ يَسْمَعُ: قَطَعْتَ رَحِمَكَ، فَدَخَلَ النبي

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَقَالَ أُنَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ أُنَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُلَيِّنُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، مَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» وَمَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى عَلَيْهِ السلام إذ قَالَ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2» ، وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «3» وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ «4» ، أَنْتُمْ عَالَةٌ، فَلَا يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ! أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ مِنْ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْحِجَارَةُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ «إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمْ وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِالْفِدَاءِ، وَاسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ بِعِدَّتِهِمْ» فَكَانَ آخِرُ السَبْعِينَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ اسْتَشْهَدَ بِالْيَمَامَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُبَيْدَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا أُسِرَ الْأُسَارَى يَوْمَ بدر أسر العباس فيمن أسر، أَسَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَقَدْ وَعَدَتْهُ الْأَنْصَارُ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَمْ أَنَمِ اللَّيْلَةَ مِنْ أَجْلِ عَمِّي الْعَبَّاسِ. وَقَدْ زَعَمَتِ الْأَنْصَارُ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَآتِيهِمْ؟ قَالَ نَعَمْ. فَأَتَى عُمَرُ الْأَنْصَارَ فَقَالَ: أَرْسِلُوا الْعَبَّاسَ، فَقَالُوا: لا والله لا نرسله. فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: فَإِنْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِضًا، قَالُوا: فَإِنْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِضًا فَخُذْهُ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا صَارَ فِي يده قال له: يا عباس أسلم، فو الله إِنْ تُسْلِمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُسْلِمَ الْخَطَّابُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ إِسْلَامُكَ، قَالَ: فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَشِيرَتُكَ فَأَرْسِلْهُمْ، فَاسْتَشَارَ عُمَرَ فَقَالَ: اقتلهم، ففاداهم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يَقُولُ حَتَّى يَظْهَرُوا عَلَى الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْإِثْخَانُ هُوَ الْقَتْلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ بَعْدُ، إِنْ شِئْتَ فَمُنَّ، وَإِنْ شِئْتَ فَفَادِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا قَالَ: أَرَادَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ الْفِدَاءَ، فَفَادُوهُمْ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ أَرْبَعَةِ آلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا قَالَ: الْخَرَاجُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ قَالَ: سَبَّقَ لَهُمُ الْمَغْفِرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَا سَبَقَ لِأَهْلِ بَدْرٍ مِنَ السَّعَادَةِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ الله الرحمة

_ (1) . إبراهيم: 36. (2) . المائدة: 118. (3) . نوح: 26. (4) . يونس: 88.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 إلى 71]

قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِالْمَعْصِيَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَبَقَ أَنْ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ وَيَتَقَدَّمَ إليه. [سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي أَسْرَى وَالْأُسَارَى هُوَ هُنَا كَمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، خَاطَبَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا: أَيْ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْأَسْرَى الَّذِينَ هُمْ فِي أَيْدِيكُمْ أَسَرْتُمُوهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَخَذْتُمْ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً مِنْ حُسْنِ إِيمَانٍ، وَصَلَاحِ نِيَّةٍ، وَخُلُوصِ طَوِيَّةٍ يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ مِنَ الْفِدَاءِ: أَيْ: يُعَوِّضْكُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا رِزْقًا خَيْرًا مِنْهُ، وَأَنْفَعَ لَكُمْ، أَوْ فِي الْآخِرَةِ بِمَا يَكْتُبُهُ لَكُمْ مِنَ الْمَثُوبَةِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ شَأْنُهُ الْمَغْفِرَةُ لِعِبَادِهِ، وَالرَّحْمَةُ لَهُمْ، وَلَمَّا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعِوَضِ لِمَنْ عَلِمَ فِي قَلْبِهِ خَيْرًا ذَكَرَ مَنْ هُوَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَالَ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ بِمَا قَالُوهُ لَكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، مِنْ أَنَّهُمْ قَدْ آمَنُوا بِكَ وَصَدَّقُوكَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَنْ عَزِيمَةٍ صَحِيحَةٍ وَنِيَّةٍ خَالِصَةٍ، بَلْ هُوَ مُمَاكَرَةٌ وَمُخَادَعَةٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَبْعَدٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ فَعَلُوا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَظْفَرَ بِهِمْ، فَكَفَرُوا بِهِ وَقَاتَلُوا رَسُولَهُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ بِأَنْ نَصَرَكَ عَلَيْهِمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، فَقَتَلْتَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلْتَ، وَأَسَرْتَ مَنْ أَسَرْتَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا فِي ضَمَائِرِهِمْ حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ بِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقّ رقّة شديدة وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ، فَإِنْ تَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَاللَّهُ يَجْزِيكَ، فَافْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخَوَيْكَ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ وَعَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ: مَا ذَاكَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتَ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ؟ فَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فَهَذَا الْمَالُ لَبَنِيَّ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا عَلِمَهُ غَيْرِي وَغَيْرُهَا، فَاحْسِبْ لِي مَا أَصَبْتُمْ مِنِّي عِشْرُونَ أُوقِيَّةً مِنْ مَالٍ كَانَ مَعِي، قَالَ: لَا أَفْعَلُ، فَفَدَى نَفْسَهُ، وَابْنَيْ أَخَوَيْهِ، وَحَلِيفَهُ، وَنَزَلَتْ: قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الْآيَةَ، فَأَعْطَانِي مَكَانَ الْعِشْرِينَ الْأُوقِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ عِشْرِينَ عَبْدًا كُلَّهُمْ فِي يَدِهِ مَالٌ يَضْرِبُ بِهِ مَعَ مَا أَرْجُو مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرِينِ ثَمَانِينَ أَلْفًا، فَمَا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالٌ أَكْثَرُ مِنْهُ، فَنُشِرَ عَلَى حَصِيرٍ، وَجَاءَ النَّاسُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ، وَمَا كَانَ يَوْمَئِذٍ عَدَدٌ وَلَا وَزْنٌ، فَجَاءَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَعْطَيْتُ فِدَائِي وَفِدَاءَ عَقِيلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، أعطني هذا المال. فقال: خذ، فجثا فِي خُمَيْصَتِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يَنْصَرِفُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فرفع

[سورة الأنفال (8) : الآيات 72 إلى 75]

رَأَسَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ارْفَعْ عَلَيَّ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَهَبَ وَهُوَ يَقُولُ: أَمَّا أَحَدُ اللَّذَيْنِ وَعَدَ اللَّهُ فَقَدْ أَنْجَزَنَا وَمَا نَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي الْأُخْرَى قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ فَهَذَا خَيْرٌ مِمَّا أُخِذَ مِنِّي، وَلَا أَدْرِي مَا يُصْنَعُ فِي الْمَغْفِرَةِ. وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ مِنْهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ إِنْ كَانَ قَوْلُهُمْ كَذِبًا فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فقد كفروا وقاتلوك فَأَمْكَنَ ك الله مِنْهُمْ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) خَتَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ الْمُوَالَاةِ لِيَعْلَمَ كُلُّ فَرِيقٍ وَلَيَّهُ الَّذِي يَسْتَعِينُ بِهِ، وَسَمَّى سُبْحَانَهُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّهُمْ هَجَرُوا أَوْطَانَهُمْ وَفَارَقُوهَا طَلَبًا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَإِجَابَةً لِدَاعِيهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا هُمُ الْأَنْصَارُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ بَدَلًا مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْخَبَرُ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أَيْ: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الْمِيرَاثِ. وَقَدْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ مِنْ وَلايَتِهِمْ بِكَسْرِ الْوَاوِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، أَيْ: مَا لَكَمَ مِنْ نُصْرَتِهِمْ وَإِعَانَتِهِمْ، أَوْ مِنْ مِيرَاثِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ قَرَابَاتِكُمْ لِعَدَمِ وُقُوعِ الْهِجْرَةِ مِنْهُمْ حَتَّى يُهاجِرُوا فَيَكُونُ لَهُمْ مَا كَانَ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ أَيْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلَمْ يُهَاجِرُوا، إِذَا طَلَبُوا مِنْكُمُ النُّصْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ أَيْ: فَوَاجِبٌ عَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا أَنْ يَسْتَنْصِرُوكُمْ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَلَا تَنْصُرُوهُمْ، وَلَا تَنْقُضُوا الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الْقَوْمِ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّتُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ: فَعَلَيْكُمُ النَّصْرَ، بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ. قَوْلُهُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أَيْ: بَعْضُهُمْ يَنْصُرُ بَعْضًا، وتولاه فِي أُمُورِهِ، أَوْ يَرِثُهُ إِذَا مَاتَ، وَفِيهِ تعريض

لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يُنَاصِرُونَ الْكُفَّارَ وَلَا يَتَوَلَّوْنَهُمْ. قَوْلُهُ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى مَا أُمِرُوا بِهِ قَبْلَ هَذَا، مِنْ مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُنَاصَرَتِهِمْ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، وَتَرْكِ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ أَيْ: تَقَعْ فِتْنَةٌ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أَيْ: مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حُكْمًا آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آوَوْا مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَنَصَرُوهُمْ، وَهُمُ الْأَنْصَارُ، فَقَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أَيِ الْكَامِلُونَ فِي الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْرِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ وَارِدٌ فِي الثَّنَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَالْأَوَّلُ وَارِدٌ فِي إِيجَابِ الْمُوَالَاةِ وَالنُّصْرَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ لَهُمْ مِنْهُ مَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلهم فِي الدُّنْيَا رِزْقٌ كَرِيمٌ خَالِصٌ عَنِ الْكَدَرِ، طَيِّبٌ مُسْتَلِذٌّ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ مَنْ هاجر بعد هجرتهم، وجاهد مع المهاجرين الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَهُوَ مَنْ جُمْلَتِهِمْ، أَي: مِنْ جُمْلَةِ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنَ الْمُوَالَاةِ، وَالْمُنَاصَرَةِ، وَكَمَالِ الْإِيمَانِ، وَالْمَغْفِرَةِ، وَالرِّزْقِ الْكَرِيمِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ مِنْ غَيْرِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ رَحِمٌ فِي الْمِيرَاثِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْقَرَابَاتُ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ قَرَابَةٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْعَصَبَاتُ، قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ قَرَابَةَ الْأُمِّ. قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ قُتَيْلَةُ: ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ ... لِلَّهِ أَرْحَاَمٌ هُنَاكَ تَشَقُّقُ وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَمْنَعُ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِ الْعَصَبَاتِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ أَثْبَتَ مِيرَاثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَهُمْ: مِنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ، وَلَا ذِي سَهْمٍ عَلَى حَسَبِ اصْطِلَاحِ أَهْلِ عِلْمِ الْمَوَارِيثِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاطِنِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِلْمِيرَاثِ بِالْمُوَالَاةِ وَالنُّصْرَةِ عِنْدَ مَنْ فَسَّرَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَا بَعْدَهُ بِالتَّوَارُثِ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهَا بِالنُّصْرَةِ، وَالْمَعُونَةِ، فَيَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ إِخْبَارًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنَّ الْقَرَابَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أَيْ: فِي حُكْمِهِ، أَوْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ فِي الْقُرْآنِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ الْمِيرَاثُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لِوُجُودِ سَبَبِهِ، أَعْنِي: الْقَرَابَةَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا الْآيَةَ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثِ مَنَازِلَ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ الْمُبَايِنُ لِقَوْمِهِ، وَفِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا قَالَ: آوَوْا وَنَصَرُوا وَأَعْلَنُوا مَا أَعْلَنَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ، وَشَهَرُوا السُّيُوفَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَجَحَدَ، فَهَذَانِ مُؤْمِنَانِ جَعَلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، وَفِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا قَالَ: كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بَيْنَهُمْ إِذَا تُوُفِّيَ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ بِالْوِلَايَةِ فِي الدِّينِ، وَكَانَ الَّذِي آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ لَا يَرِثُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ وَلَمْ يَنْصُرْ، فَبَرَّأَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ مِيرَاثِهِمْ، وَهِيَ الْوِلَايَةُ الَّتِي قَالَ مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ

كَانَ حَقًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا إِذَا اسْتَنْصَرُوهُمْ فِي الدِّينِ أَنْ يَنْصُرُوهُمْ إِنْ قُوتِلُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَنْصِرُوا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيثَاقٌ، فَلَا نَصْرَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى الْعَدُوِّ الَّذِي لَا مِيثَاقَ لَهُمْ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ أَلْحِقْ كُلَّ ذِي رَحِمٍ بِرَحِمِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا فَجَعَلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نصيبا مفروضا لقوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ الْآيَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ قَالَ: يَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ، جَعَلَ اللَّهُ الْمِيرَاثَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَ الْأَرْحَامِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ مَا لَكَمَ مِنْ مِيرَاثِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ يَعْنِي: إِنِ اسْتَنْصَرَ الْأَعْرَابُ الْمُسْلِمُونَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، عَلَى عَدْوٍ لَهُمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَنْصُرُوهُمْ، إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، فَكَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَى ذَلِكَ حتى أنزل الله هذه الآية وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فَنَسَخَتِ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَصَارَتِ الْمَوَارِيثُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُ لَا يَتَوَلَّى الْأَعْرَابِيَّ وَلَا يَرِثُهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَرِثُ الْأَعْرَابِيُّ الْمُهَاجِرَ، فَنَسَخَتْهَا هذه الآية وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مردويه عنه أيضا: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: لَنُوَرِّثَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى مِنَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُهَاجِرُونَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالطُّلَقَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَالْعُتَقَاءُ مِنْ ثَقِيفٍ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُسَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ، وَلَا يَرِثُ مُسْلِمٌ كَافِرًا، وَلَا كَافِرٌ مُسْلِمًا، ثُمَّ قَرَأَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: أَنْزَلَ الله فينا خاصة معشر قريش وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ وَذَلِكَ أَنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قَدِمْنَا وَلَا أَمْوَالَ لَنَا، فَوَجَدْنَا الْأَنْصَارَ نِعْمَ الْإِخْوَانُ، فَوَاخَيْنَاهُمْ وَوَارَثْنَاهُمْ فَآخُونَا، فَآخَى أَبُو بَكْرٍ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَآخَى عُمَرُ فُلَانًا، وَآخَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَجُلًا مِنْ بَنِي زُرَيْقِ بْنِ أَسْعَدَ الزُّرَقِيِّ، قَالَ الزُّبَيْرُ: وَآخَيْتُ أَنَا كعب ابن مَالِكٍ، وَوَارَثُونَا وَوَارَثْنَاهُمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قِيلَ لِي قَدْ قُتِلَ أَخُوكَ كَعْبُ بْنُ مالك، فجئته فانتقلته فوجدت السلاح قد ثقلته فيما نرى، فو الله يَا بُنَيَّ لَوْ مَاتَ يَوْمَئِذٍ عَنِ الدُّنْيَا مَا وَرِثَهُ غَيْرِي، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فَرَجَعْنَا إِلَى مَوَارِيثِنَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَوَرِثَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى نزلت هذه الآية وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فَتَرَكُوا ذَلِكَ وَتَوَارَثُوا بالنسب.

سورة التوبة

سورة التّوبة هِيَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً، وَقِيلَ: مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً، وَلَهَا أَسْمَاءٌ: مِنْهَا: سُورَةُ التَّوْبَةِ لِأَنَّ فِيهَا التَّوْبَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَتُسَمَّى: الْفَاضِحَةَ لِأَنَّهُ مَا زَالَ يَنْزِلُ فِيهَا: وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ، حَتَّى كَادَتْ أَنْ لَا تَدَعَ أَحَدًا وَتُسَمَّى: الْبَحُوثَ، لِأَنَّهَا تَبْحَثُ عَنْ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ وَتُسَمَّى: المبعثرة، والبعثرة: البحث وتسمّى أيضا بأسماء: كَالْمُقَشْقِشَةِ، لِكَوْنِهَا تُقَشْقِشُ مِنَ النِّفَاقِ: أَيْ تُبَرِّئُ مِنْهُ وَالْمُخْزِيَةِ: لِكَوْنِهَا أَخْزَتِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُثِيرَةِ. لِكَوْنِهَا تُثِيرُ أَسْرَارَهُمْ وَالْحَافِرَةِ: لِكَوْنِهَا تَحْفِرُ عَنْهَا وَالْمُنَكِّلَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنْكِيلِ لَهُمْ وَالْمُدَمْدِمَةِ لِأَنَّهَا تُدَمْدِمُ عَلَيْهِمْ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِاتِّفَاقٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ التَّوْبَةِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «1» وآخر سورة نزلت تَامَّةٍ: بَرَاءَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَبَبِ سُقُوطِ الْبَسْمَلَةِ مِنْ أَوَّلِهَا عَلَى أَقْوَالٍ. الْأَوَّلُ: عَنِ الْمُبَرِّدِ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَإِذَا أَرَادُوا نَقْضَهُ كَتَبُوا إِلَيْهِمْ كِتَابًا، وَلَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ بَسْمَلَةً «2» فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ بِنَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكِينَ، بَعَثَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُبَسْمِلْ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لِمَ لَا تَكْتُبُ فِي بَرَاءَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ قَالَ: لِأَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَانٌ. وبراءة نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلْ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم

_ (1) . النساء: 176. (2) . أي: باسمك اللهم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 1 إلى 3]

وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ قال: سألت الحسن عن الأنفال وبراءة أَسُورَتَانِ أَوْ سُورَةٌ؟ قَالَ: سُورَتَانِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ حُذَيْفَةَ قَالَ: يُسَمُّونَ هَذِهِ السُّورَةَ: سُورَةَ التَّوْبَةِ، وَهِيَ سُورَةُ الْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: هِيَ: الْفَاضِحَةُ مَا زَالَتْ تَنْزِلُ: وَمِنْهُمْ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: سُورَةَ التَّوْبَةِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وأيتهنّ سورة التوبة قال: براءة، فقال: وَهَلْ فَعَلَ بِالنَّاسِ الْأَفَاعِيلَ إِلَّا هِيَ؟ مَا كُنَّا نَدْعُوهَا إِلَّا الْمُقَشْقِشَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يُسَمُّونَهَا سُورَةَ التَّوْبَةِ، وَإِنَّهَا لَسُورَةُ عَذَابٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتْ بَرَاءَةٌ تُسَمَّى فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ الْمُبَعْثِرَةَ لِمَا كَشَفَتْ مِنْ سَرَائِرِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَتْ بَرَاءَةٌ تُسَمَّى الْمُنَقِّرَةَ، نَقَرَتْ عَمَّا فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ الْهَمَدَانِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: تَعَلَّمُوا سُورَةَ بَرَاءَةٌ وَعَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ. وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ فِي حَذْفِ الْبَسْمَلَةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَعْدُلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، وَأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ أَوَّلُهَا سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ، رُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ عَجْلَانِ. وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ فِي سُقُوطِ الْبَسْمَلَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا كَتَبُوا الْمُصْحَفَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَرَاءَةٌ وَالْأَنْفَالُ: سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمَا سُورَتَانِ، فَتُرِكَتْ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: هُمَا سُورَتَانِ، وَتُرِكَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: هُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، فَرَضِيَ الْفَرِيقَانِ. قَالَهُ خَارِجَةُ وَأَبُو عِصْمَةَ وَغَيْرُهُمَا. وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَهُمَا سُورَةً وَاحِدَةً أَظْهَرُ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا فِي الْقِتَالِ، وَتُعَدَّانِ جَمِيعًا سَابِعَةَ السَّبْعِ الطِّوَالِ. [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 3] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) قَوْلُهُ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَرِئْتُ مِنَ الشَّيْءِ أَبْرَأُ بَرَاءَةً، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ: إِذَا أَزَلْتَهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَقَطَعْتَ سَبَبَ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَبَرَاءَةٌ: مُرْتَفِعَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَرْتَفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَالْخَبَرُ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بَراءَةٌ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: اسْمَعُوا بَرَاءَةً، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ: التزموا براءة، لأن فيها معنى الإغراء، ومِنَ فِي قَوْلِهِ مِنَ اللَّهِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً، أَيْ: وَاصِلَةٌ مِنَ اللَّهِ ورسوله إلى الذين عاهدتم. وَالْعَهْدُ: الْعَقْدُ الْمُوَثَّقُ بِالْيَمِينِ. وَالْخِطَابُ فِي عَاهَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانُوا عَاهِدُوا مُشْرِكِي مَكَّةَ وَغَيْرَهُمْ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ

وَمِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: الإخبار بِأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ بَرِئَا مِنْ تِلْكَ الْمُعَاهَدَةِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنَ النقض، فصار النبذ إليه بِعَهْدِهِمْ وَاجِبًا عَلَى الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعْنَى بَرَاءَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وُقُوعُ الْإِذْنِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِالنَّبْذِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِعَهْدِ الْمُشْرِكِينَ، بَعْدَ وُقُوعِ النَّقْضِ مِنْهُمْ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّفْخِيمِ لِشَأْنِ الْبَرَاءَةِ، وَالتَّهْوِيلِ لَهَا، وَالتَّسْجِيلِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ مَا لَا يَخْفَى. قَوْلُهُ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ هَذَا أَمْرٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِالسِّيَاحَةِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِتِلْكَ الْبَرَاءَةِ، وَالسِّيَاحَةُ: السَّيْرُ، يُقَالُ: سَاحَ فُلَانٌ فِي الْأَرْضِ يَسِيحُ سِيَاحَةً وَسُيُوحًا وَسَيَحَانًا، وَمِنْهُ: سَيَحَ الْمَاءُ فِي الْأَرْضِ، وَسَيَحَ الْخَيْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ: لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَنِي ... حَتَّى تَرَى خَيْلًا أَمَامِي تَسِيحُ وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ أَذِنَ بِالنَّبْذِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِعَهْدِهِمْ، أَبَاحَ لِلْمُشْرِكِينَ الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ، وَالذَّهَابَ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُونَ، وَالِاسْتِعْدَادَ لِلْحَرْبِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِالسِّيَاحَةِ تَكْلِيفَهُمْ بِهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: إن المشركين صنفان: صنف كانت مدة عهده أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَأُمْهِلَ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالْآخَرُ: كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَصَرَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِيَرْتَادَ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ حَرِبٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، يُقْتلُ حَيْثُ يُوجَدُ، وَابْتِدَاءُ هَذَا الْأَجَلِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَانْقِضَاؤُهُ إِلَى عَشْرٍ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ، فَإِنَّمَا أَجْلُهُ انْسِلَاخُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ يَوْما: عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَشَهْرُ مُحَرَّمٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّمَا كَانَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ لِمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَمَنْ كَانَ عَهْدُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُتِمَّ لَهُ عَهْدَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ وَرَجَّحَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مِنَ الرِّوَايَةِ مَا يَتَّضِحُ بِهِ مَعْنَى الْآيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أَيِ: اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْإِمْهَالَ لَيْسَ لِعَجْزٍ، وَلَكِنْ لِمَصْلَحَةٍ، لِيَتُوبَ مَنْ تَابَ، وَفِي ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ التَّهْدِيدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: افْعَلُوا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلَّ مَا أَمْكَنَكُمْ مِنْ إِعْدَادِ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ، فَإِنَّكُمْ لَا تَفُوتُونَ اللَّهَ وَهُوَ مُخْزِيكُمْ، أَيْ: مُذِلُّكُمْ وَمُهِينُكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ، وَفِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْإِخْزَاءِ هُوَ الْكُفْرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جِنْسَ الْكَافِرِينَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُخَاطَبُونَ دُخُولًا أَوَّلِيًا. قَوْلُهُ وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ارْتِفَاعُ أَذَانٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ: مُبْتَدَأُ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي ارْتِفَاعِ بَرَاءَةٌ، وَالْجُمْلَةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ قَوْلَهُ وأَذانٌ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بَرَاءَةٌ. وَاعْتُرِضَ عليه بأن الأمر لو كان كذلك لكن أذان مخبر عَنْهُ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الْخَبَرُ عنه هُوَ إِلَى النَّاسِ وَالْأَذَانُ: بِمَعْنَى الْإِيذَانِ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ، كَمَا أَنَّ الْأَمَانَ وَالْعَطَاءَ بِمَعْنَى: الْإِيمَانِ وَالْإِعْطَاءِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ إِلَى النَّاسِ التَّعْمِيمُ فِي هَذَا، أَيْ: أَنَّهُ إِيذَانٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى كَافَّةِ النَّاسِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِخْبَارِ بِوُجُوبِ الْإِعْلَامِ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَالْجُمْلَةُ الْأَوْلَى مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِخْبَارِ بِالْبَرَاءَةِ إِلَى المعاهدين

خاصة، ويَوْمَ الْحَجِّ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ وَأَذَانٌ، وَوَصَفَهُ بِالْأَكْبَرِ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ، أَوْ لِكَوْنِ مُعْظَمِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِيهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، فَذَهَبَ جَمْعٌ مِنْهُمْ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمُجَاهِدٌ، أَنَّهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٌ، أَنَّهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مَنْ بَعَثَهُ لِإِبْلَاغِ هَذَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُبْلِغَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ. قَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ قُرِئَ بِفَتْحٍ أَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحُذِفَتِ الْبَاءُ تَخْفِيفًا. وَقُرِئَ بِكَسْرِهَا، لِأَنَّ فِي الْإِيذَانِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَارْتِفَاعُ رَسُولُهُ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ أَنَّ، أَوْ عَلَى الضَّمِيرِ فِي بَرِيءٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ وَرَسُولَهُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ اسْمِ أَنَّ. وَقُرِئَ وَرَسُولِهِ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْقَسَمِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، إِذْ لَا مَعْنَى لِلْقَسَمِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاهُنَا مَعَ مَا ثَبَتَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَقِيلَ إِنَّهُ مَجْرُورٌ عَلَى الْجِوَارِ. قَوْلُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ أَيْ: مِنَ الْكُفْرِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، قِيلَ: وَفَائِدَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ زِيَادَةُ التَّهْدِيدِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى التَّوْبَةِ الْمَفْهُومَةِ مَنْ تُبْتُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ: أَعْرَضْتُمْ عَنِ التَّوْبَةِ، وَبَقِيتُمْ عَلَى الْكُفْرِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أَيْ: غَيْرُ فَائِتِينَ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ مُدْرِكُكُمْ، فَمُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. قَوْلُهُ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ هَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ، وَفِيهِ مِنَ التَّهْدِيدِ مَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ خُزَاعَةَ وَمُدْلِجٍ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ حِينَ فَرَغَ مِنْهَا فَأَرَادَ الْحَجَّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ يَحْضُرُ الْبَيْتَ مُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ عُرَاةً فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى لَا يَكُونَ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا فَطَافَا فِي النَّاسِ بِذِي الْمَجَازِ، وَبِأَمْكِنَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَبِيعُونَ بِهَا، أَوْ بِالْمَوْسِمِ كُلِّهِ، فَآذَنُوا أَصْحَابَ الْعَهْدِ أَنْ يَأْمَنُوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمُنْسَلِخَاتُ الْمُتَوَالِيَاتُ عِشْرُونَ مِنْ آخَرِ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى عَشْرٍ تَخْلُو مِنْ رَبِيعِ الْآخَرِ، ثُمَّ لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَآذَنَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَمُوتُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عشر آيات من براءة على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أَبَا بَكْرٍ لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ لِي: أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ، فَحَيْثُمَا لَقِيتَهُ فَخُذِ الْكِتَابَ مِنْهُ فَاقْرَأْهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَلَحِقْتُهُ فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ مِنْهُ، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ جَاءَنِي فَقَالَ: لَنْ يُؤَدِّيَ عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نحوه. وأخرج ابن مردويه من حديث سعيد بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أهل مكة ببراءة، فَكُنَّا نُنَادِي: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ

الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَإِنَّ أَجْلَهُ وَأَمَدَهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَحُجُّ هَذَا الْبَيْتَ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى: أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، ثُمَّ أَرْدَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فأمره أن يؤذن ببراءة فأذن علي في يوم النحر ببراءة: أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ وَأَمْرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ عَلِيًّا وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، فَانْطَلَقَا فَحَجَّا، فَقَامَ عَلِيٌّ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَنَادَى: إِنِ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ فَكَانَ عَلِيٌّ يُنَادِي، فَإِذَا أَعْيَا قَامَ أَبُو بَكْرٍ يُنَادِي بِهَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ تُبَيْعٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْحَجِّ؟ قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ. وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَلَا يَجْتَمِعُ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا. وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْآيَةَ قَالَ: حَدَّ اللَّهُ لِلَّذِينِ عَاهَدُوا رَسُولَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يسيحون فيها حيث شاؤوا، وَحَدَّ أَجْلَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ انْسِلَاخَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى انْسِلَاخِ الْمُحَرَّمِ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَمْرَهُ أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ عَاهَدَ إِنْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَنَقَضَ مَا سُمِّيَ لَهُمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، وَأَذْهَبَ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنْهُ نَحْوَ هَذَا، وَقَالَ: وَلَمْ يُعَاهِدْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هذا أحد. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي شَوَّالٍ فَهِيَ الأربعة أشهر: شوّال، وذو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: هُوَ إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: «يَوْمُ النَّحْرِ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ عنه نحو قَوْلِهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ القرّ «1» » . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الحيلة عن ابن عمر:

_ (1) . هو أول يوم من أيام التشريق. [.....]

[سورة التوبة (9) : الآيات 4 إلى 6]

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ فَقَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: «هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَالْحَجُّ الْأَكْبَرُ: الْحَجُّ وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكٌ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْعَامِ الَّذِي نَبَذَ فِيهِ أبو بكر إلى المشركين يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ زَمَنَ الْفَتْحِ: «إِنَّ هَذَا عَامُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، قَالَ: اجْتَمَعَ حَجُّ الْمُسْلِمِينَ وَحَجُّ الْمُشْرِكِينَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَاجْتَمَعَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، فَاجْتَمَعَ حَجُّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، ولم يجتمع منذ خلق السموات وَالْأَرْضِ كَذَلِكَ قَبْلَ الْعَامِ، وَلَا يُجْتَمَعُ بَعْدَ الْعَامِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: مَا لَكُمْ وَلِلْحَجِّ الْأَكْبَرِ؟ ذَاكَ عَامٌ حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَجَّ بِالنَّاسِ، وَاجْتَمَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ، وَوَافَقَ عِيدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ: الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْإِمَامَ يَخْطُبُ فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَوْمُ عَرَفَةَ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ يَوْمُ عَرَفَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْبِكْرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: يَوْمُ عَرَفَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الزُّبَيْرِ نَحْوَهُ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي كَوْنِ يَوْمِ النَّحْرِ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الصحيحين وغيرهما مِنْ طُرُقٍ، فَلَا تَقْوَى لِمُعَارَضَتِهَا هَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ: هَذَا الْحَجُّ الْأَكْبَرُ، فَمَا الْحَجُّ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ عَنِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ: الْعُمْرَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الْبِشَارَةِ تَكُونُ فِي الْمَكْرُوهِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. [سورة التوبة (9) : الآيات 4 الى 6] إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)

الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ يَعُودُ إِلَى قَوْلِهِ بَراءَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْمُعَاهَدِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا الَّذِينَ لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ مِنْهُمْ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهُ مُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ فَسِيحُوا وَالتَّقْدِيرُ: فَقُولُوا لَهُمْ: فَسِيحُوا إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ. قَالَ: وَالِاسْتِثْنَاءُ: بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ، كَأَنَّهُ قِيلَ- بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا فِي النَّاكِثِينَ-: وَلَكِنِ الَّذِينَ لَمْ يَنْكُثُوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّلَ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَهُوَ وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ إِلَخْ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ، فَيَكُونُ مُتَّصِلًا وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً أَيْ: لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ أَيُّ نَقْصٍ. وَإِنْ كَانَ يَسْيرًا، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ يَنْقُضُوكُمْ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: لَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَكُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مَنْ خَاسَ بِعَهْدِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَقْضِ عَهِدِ مَنْ نَقَضَ، وَبِالْوَفَاءِ لِمَنْ لَمْ يَنْقُضْ إِلَى مُدَّتِهِ وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً الْمُظَاهَرَةُ: الْمُعَاوَنَةُ، أَيْ: لَمْ يُعَاوِنُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا مِنْ أَعْدَائِكُمْ فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ أَيْ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ تَامًّا غَيْرَ نَاقِصٍ إِلى مُدَّتِهِمْ التي عاهدتموهم إليها، وإن كانت أكبر مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَا تُعَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ النَّاكِثِينَ مِنَ الْقِتَالِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ سَابِقًا، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ خَمْسُونَ يَوْمًا عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. قَوْلُهُ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ انْسِلَاخُ الشَّهْرِ: تَكَامُلُهُ جُزْءًا فَجُزْءًا إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ، كَانْسِلَاخِ الْجِلْدِ عَمَّا يَحْوِيهِ. شَبَّهَ خُرُوجَ الْمُتَزَمِّنُ عَنْ زَمَانِهِ بِانْفِصَالِ الْمُتَمَكِّنِ عَنْ مَكَانِهِ، وَأَصْلُهُ الِانْسِلَاخُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَجَلْدِهِ، فَاسْتُعِيرَ لِانْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ، يُقَالُ: سَلَخْتُ الشَّهْرَ تَسْلُخُهُ سَلْخًا وَسُلُوخًا بِمَعْنَى: خَرَجْتُ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا مَا سَلَخْتُ الشَّهْرَ أَهَلَلْتُ مِثْلَهُ ... كَفَى قَاتِلًا سِلْخِي الشُّهُورِ وَإِهْلَالِي وَيُقَالُ: سَلَخَتِ الْمَرْأَةُ دِرْعَهَا: نَزَعَتْهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «1» . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا، فَقِيلَ: هِيَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، وَمُحَرَّمٌ، وَرَجَبٌ: ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ، وَوَاحِدٌ فَرْدٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ عَنْ قِتَالِ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَقَدْ وَقَعَ النِّدَاءُ وَالنَّبْذُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِعَهْدِهِمْ يَوْمَ النَّحْرِ، فَكَانَ الْبَاقِي مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي هِيَ الثَّلَاثَةُ الْمَسْرُودَةُ خَمْسِينَ يَوْمًا تَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ يُوجَدُونَ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ وَالْبَاقِرُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بها: شهور العهد المشار إليه بِقَوْلِهِ فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ وَسُمِّيَتْ حُرُمًا لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِيهَا دِمَاءَ الْمُشْرِكِينَ، وَالتَّعَرُّضَ لَهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذهب جماعة

_ (1) . يس: 37.

مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ. وَقِيلَ: هِيَ الْأَشْهُرُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَكَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الدَّائِرَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمَعْنَى حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ: فِي أَيِّ مَكَانٍ وَجَدْتُمُوهُمْ مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ. وَمَعْنَى خُذُوهُمْ الْأُسَرُ، فَإِنَّ الْأَخِيذَ هُوَ الْأَسِيرُ. وَمَعْنَى الْحَصْرِ: مَنْعُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُمْ، وَالْمَرْصَدُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُرْقَبُ فِيهِ الْعَدُوُّ، يُقَالُ: رَصَدْتُ فُلَانًا أَرْصُدُهُ، أَيْ: رَقَبْتُهُ، أَيِ: اقْعُدُوا لَهُمْ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَرْتَقِبُونَهُمْ فِيهَا. قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا إِخَالُكَ عَالِمًا ... أَنَّ المنيّة للفتى بالمرصد وقال عديّ: أَعَاذِلَ إِنَّ الْجَهْلَ مِنْ لَذَّةِ الْفَتَى ... وَإِنَّ المنايا للنفوس بمرصد وكل في كُلَّ مَرْصَدٍ منتصب عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ، وَقِيلَ: هُوَ مُنْتَصِبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: فِي كُلِّ مَرْصَدٍ، وَخَطَّأَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الزَّجَّاجَ فِي جَعْلِهِ ظَرْفًا. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْأَمْرِ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُشْرِكٍ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا إِلَّا مَنْ خَصَّتْهُ السُّنَّةُ، وَهُوَ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْعَاجِزُ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ، وَكَذَلِكَ يُخَصَّصُ مِنْهَا أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَلَى فَرْضِ تَنَاوُلِ لَفْظِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ كُلَّ آيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً «1» وَأَنَّ الْأَسِيرَ لَا يُقْتَلُ صَبْرًا، بَلْ يُمَنُّ عَلَيْهِ، أَوْ يُفَادَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: بَلْ هِيَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْأُسَارَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا الْقَتْلُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْآيَتَانِ مُحْكَمَتَانِ. قال القرطبي: وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمَنَّ وَالْقَتْلَ وَالْفِدَاءَ لَمْ تَزَلْ مِنْ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ مَنْ أَوَّلِ حَرْبٍ جَاءَ بِهِمْ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ. قَوْلُهُ: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ أَيْ: تَابُوا عَنِ الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقَتْلِ، وَحَقَّقُوا التَّوْبَةَ بِفِعْلِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَهَذَا الرُّكْنُ اكْتَفَى بِهِ عَنْ ذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ مِنَ الْعِبَادَاتِ لِكَوْنِهِ رَأْسَهَا، وَاكْتَفَى بِالرُّكْنِ الْآخَرِ الْمَالِيِّ، وَهُوَ إِيتَاءُ الزَّكَاةِ عَنْ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، لِأَنَّهُ أَعْظَمَهَا فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أَيِ: اتْرُكُوهُمْ وَشَأْنَهُمْ، فَلَا تَأْسِرُوهُمْ، وَلَا تَحْصُرُوهُمْ، وَلَا تَقْتُلُوهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لَهُمْ رَحِيمٌ بِهِمْ. قَوْلُهُ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ، يُقَالُ: اسْتَجَرْتُ فُلَانًا، أَيْ: طَلَبْتُ أَنْ يَكُونَ جَارًا أَيْ: مُحَامِيًا وَمُحَافِظًا مِنْ أَنْ يَظْلِمَنِي ظَالِمٌ، أَوْ يَتَعَرَّضَ لِي مُتَعَرِّضٌ، وَأَحَدٌ مُرْتَفِعٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يُفَسِّرُهُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، أَيْ: وَإِنِ اسْتَجَارَكَ أَحَدٌ اسْتَجَارَكَ، وَكَرِهُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُفَسَّرِ وَالْمُفَسِّرِ. وَالْمَعْنَى: وَإِنِ اسْتَجَارَكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُمِرْتَ بِقِتَالِهِمْ فَأَجِرْهُ، أَيْ: كُنْ جَارًا لَهُ مؤمنا

_ (1) . محمد: 4.

مُحَامِيًا حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ مِنْكَ وَيَتَدَبَّرُهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ، وَيَقِفَ عَلَى حَقِيقَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أَيْ: إِلَى الدَّارِ الَّتِي يَأْمَنُ فِيهَا بَعْدَ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ قَاتِلْهُ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ جِوَارِكَ وَرَجَعَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ إِبَاحَةِ دَمِهِ، وَوُجُوبِ قَتْلِهِ حَيْثُ يُوجَدُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِجَارَةِ وَمَا بَعْدَهُ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ: بِسَبَبِ فُقْدَانِهِمْ لِلْعِلْمِ النَّافِعِ الْمُمَيِّزِ، بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ: فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ قَالَ: هُمْ قُرَيْشٌ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَاهَدَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ بَقِيَ مِنْ مُدَّتِهِمْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنَّ يُوفِيَ بِعَهْدِهِمْ هَذَا إِلَى مُدَّتِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ قَالَ: هُمْ بَنُو جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرٍ مِنْ بني بكر ابن كِنَانَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ قَالَ: كَانَ بَقِيَ لَبَنِي مَذْحِجٍ وَخُزَاعَةَ عَهْدٌ، فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: هَؤُلَاءِ بَنُو ضَمْرَةَ وَبَنُو مُدْلِجٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ كَانُوا حُلَفَاءَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْعَشِيرَةِ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوا عَهْدَكُمْ بِغَدْرٍ وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً قَالَ: لَمْ يُظَاهِرُوا عَدُوَّكُمْ عَلَيْكُمْ فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ يَقُولُ: أَجْلُهُمُ الَّذِي شَرَطْتُمْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يَقُولُ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فَيُوفُونَ بِالْعَهْدِ. قَالَ: فَلَمْ يُعَاهِدِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ أَحَدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ قَالَ: هِيَ الْأَرْبَعَةُ: عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَصَفَرٌ، وَشَهْرُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعَشْرٌ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ. قُلْتُ: مُرَادُ السُّدِّيِّ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ تُسَمَّى حُرُمًا لِكَوْنِ تَأْمِينِ الْمُعَاهَدِينَ فِيهَا يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ، لَا أَنَّهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمَعْرُوفَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: هِيَ عشر من ذي القعدة، وذو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمِ، سَبْعُونَ لَيْلَةً. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هِيَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهَرُ الَّتِي قَالَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَ قَوْلِ السُّدِّيِّ السَّابِقِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ثُمَّ نَسَخَ وَاسْتَثْنَى. فَقَالَ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، وَقَالَ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ يَقُولُ: مَنْ جَاءَكَ وَاسْتَمَعَ مَا تَقُولُ. وَاسْتَمَعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَهُوَ آمَنٌ حِينَ يَأْتِيكِ فَيَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ حَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ قَالَ: إِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ مَا يُقَصُّ عَلَيْهِ وَيُخْبَرُ بِهِ فَأَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ أَيْ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ إذا سمع كلام اللَّهِ وَأَقَرَّ بِهِ وَأَسْلَمَ

[سورة التوبة (9) : الآيات 7 إلى 11]

فَذَاكَ الَّذِي دُعِيَ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ وَلَمْ يقرّ به ردّ إلى مَأْمَنَهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً. [سورة التوبة (9) : الآيات 7 الى 11] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) قَوْلُهُ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّعَجُّبِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْإِنْكَارِ، وَعَهْدٌ: اسْمُ يَكُونُ. وَفِي خَبَرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ كيف، وقدم الاستفهام والثاني للمشركين، وعِنْدَ على هذين: ظرف للعهد، أو ليكون، أَوْ صِفَةٌ لِلْعَهْدِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْخَبَرَ عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ. وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ يَأْمَنُونَ بِهِ مِنْ عَذَابِهِ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: مُحَالٌ أَنْ يَثْبُتَ لِهَؤُلَاءِ عَهْدٌ، وَهُمْ أَضْدَادٌ لَكُمْ، مُضْمِرُونَ لِلْغَدْرِ، فَلَا يَطْمَعُوا فِي ذَلِكَ، وَلَا يُحَدِّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ، فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَيْ: لَكِنَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَنْقَضُوا، وَلَمْ يَنْكُثُوا، فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ، فَمَا دَامُوا مُسْتَقِيمِينَ لَكُمْ عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قِيلَ: هُمْ بَنُو بَكْرٍ، وَقِيلَ: بَنُو كِنَانَةَ، وَبَنُو ضَمْرَةَ، وَفِي «مَا» وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ زَمَانِيَّةٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَالِاسْتِقَامَةَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْمُتَّقِينَ، فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ. قَوْلُهُ: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أَعَادَ الِاسْتِفْهَامَ التَّعَجِيبِيَّ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ؟ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ بِالْغَلَبَةِ لَكُمْ لَا يَرْقُبُوا أَيْ: لَا يُرَاعُوا فِيكُمْ إِلًّا أَيْ: عَهْدًا وَلا ذِمَّةً. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْإِلُّ الْعَهْدُ وَالْقَرَابَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانُ: لَعَمْرُكَ أَنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ ... كَإِلِّ السَّقْبِ من رأل النَّعَامِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِلُّ عِنْدِي عَلَى مَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ يَدُورُ عَلَى مَعْنَى الْحِدَّةِ، وَمِنْهُ الْإِلَّةُ لِلْحَرْبَةِ، وَمِنْهُ: أُذُنٌ مُؤَلَّلَةٌ: أَيْ: مُحَدَّدَةٌ، وَمِنْهُ: قَوْلُ طَرْفَةَ بْنِ الْعَبْدِ يَصِفُ أُذُنَيْ ناقته بالحدة والانتصاب: مؤلّلتان يعرف العتق «1» فيهما ... كسامعتي شاة بحومل مفرد

_ (1) . العتق: الكرم والجمال والنجابة والشرف.

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْإِلُّ الْعَهْدُ، وَالذِّمَّةُ وَالنَّدِيمُ. وقال الأزهري: هُوَ اسْمٌ لِلَّهِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْأَلِيلِ، وَهُوَ الْبَرِيقُ، يُقَالُ: أَلَّ لَوْنُهُ يَؤُلُّ إِلًّا أَيْ صَفَا وَلَمَعَ، وَالذِّمَّةُ: الْعَهْدُ، وَجَمْعُهَا ذِمَمٌ، فَمَنْ فَسَّرَ الْإِلَّ بِالْعَهْدِ كَانَ التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الذِّمَّةُ: التذمم. وقال أبو عبيد: الذِّمَّةُ: الْأَمَانُ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا أَنَّ الذِّمَّةَ مَا يُتَذَمَّمُ بِهِ، أَيْ: مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الذَّمُّ. قَوْلُهُ: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ أَيْ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا فِيهِ مُجَامَلَةٌ وَمُحَاسَنَةٌ لَكُمْ طَلَبًا لِمَرْضَاتِكُمْ وَتَطْيِيبَ قُلُوبِكُمْ، وَقُلُوبُهُمْ تَأْبَى ذَلِكَ وَتُخَالِفُهُ وَتَوَدُّ مَا فِيهِ مَسَاءَتُكُمْ وَمَضَرَّتُكُمْ، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ النِّفَاقِ وَذَوُو الْوَجْهَيْنِ ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ، وَهُوَ التَّمَرُّدُ وَالتَّجَرِّي، وَالْخُرُوجُ عَنِ الْحَقِّ لِنَقْضِهِمُ الْعُهُودَ، وَعَدَمِ مُرَاعَاتِهِمْ لِلْعُقُودِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أَيِ: اسْتَبْدَلُوا بِآيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ ثَمَنًا قَلِيلًا حَقِيرًا وَهُوَ مَا آثَرُوهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أَيْ: فَعَدَلُوا وَأَعْرَضُوا عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ، أَوْ صَرَفُوا غيرهم عنه. قوله: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ هَذَا تَكْرِيرًا، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ: لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، وَالثَّانِيَ: لِلْيَهُودِ خَاصَّةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يَعْنِي: الْيَهُودَ، وَقِيلَ: هَذَا فِيهِ مُرَاعَاةٌ لِحُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَفِي الْأَوَّلِ الْمُرَاعَاةُ لِحُقُوقِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ أَيِ: الْمُجَاوَزُونَ لِلْحَلَالِ إِلَى الْحَرَامِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ، أَوِ الْبَالِغُونَ فِي الشَّرِّ وَالتَّمَرُّدِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى فَإِنْ تابُوا عَنِ الشِّرْكِ وَالْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَإِخْوانُكُمْ أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ أَيْ: فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ أَيْ: نُبَيِّنُهَا، وَنُوَضِّحُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَيَفْهَمُونَهُ، وَخَصَّ أَهْلَ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: مَا مَرَّ مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قَالَ: قُرَيْشٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاهَدَ أُنَاسًا مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ بَنِي بَكْرٍ وَكِنَانَةَ خَاصَّةً، عَاهَدَهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَجَعَلَ مُدَّتَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ يَقُولُ: مَا وَفُّوا لَكُمْ بِالْعَهْدِ ففوا لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُمْ بَنُو جَذِيمَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قَالَ: هُوَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلًّا وَلا ذِمَّةً قَالَ: الْإِلُّ: الْقَرَابَةُ، وَالذِّمَّةُ: الْعَهْدُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْإِلُّ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَطْعَمَ حُلَفَاءَهُ وَتَرَكَ حُلَفَاءَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ تابُوا الْآيَةَ يَقُولُ: إِنْ تَرَكُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَشَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ

[سورة التوبة (9) : الآيات 12 إلى 16]

اللَّهِ فَإِخْوَانَكُمْ فِي الدِّينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَرَّمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قِتَالَ أَوْ دِمَاءَ أَهْلِ الصَّلَاةِ. [سورة التوبة (9) : الآيات 12 الى 16] وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) قَوْلُهُ: وَإِنْ نَكَثُوا مَعْطُوفٌ عَلَى فَإِنْ تابُوا وَالنَّكْثُ: النَّقْضُ، وَأَصْلُهُ: نَقْضُ الْخَيْطِ بَعْدَ إِبْرَامِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ نَقْضٍ، وَمِنْهُ نَقْضُ الْأَيْمَانِ وَالْعُهُودِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ. وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ أَيْ: مِنْ بَعْدِ أَنْ عَاهَدُوكُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ إِنْ نَكَثُوا الْعُهُودَ الَّتِي عَاهَدُوا بِهَا الْمُسْلِمِينَ، وَوَثَّقُوا لَهُمْ بِهَا، وَضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ الطَّعْنَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالْقَدْحَ فِيهِ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ. وَأَئِمَّةُ الْكُفْرِ: جَمَعَ إِمَامٍ، وَالْمُرَادُ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلُ الرِّئَاسَةِ فِيهِمْ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ أَإِمَةَ، وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ هَذَا لَحْنٌ لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِجَعْلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنٍ، أَيْ: بَيْنَ مَخْرَجِ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ، وَقُرِئَ بِإِخْلَاصِ الْيَاءِ وَهُوَ لَحْنٌ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْأَيْمَانُ: جَمْعُ يَمِينٍ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «لَا إِيمَانَ لَهُمْ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ أَيْمَانَ الْكَافِرِينَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الصُّورَةِ يَمِينًا، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّاكِثِينَ لِلْأَيْمَانِ الطَّاعِنِينَ فِي الدِّينِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، حَتَّى يَسْتَحِقُّوا الْعِصْمَةَ لِدِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَقِتَالُهُمْ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَيْ: عَنْ كُفْرِهِمْ وَنَكْثِهِمْ وَطَعْنِهِمْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ قِتَالَهُمْ يَكُونُ إِلَى الْغَايَةِ هِيَ: الِانْتِهَاءُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا طَعَنَ فِي الدِّينِ، لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَنْكُثَ الْعَهْدَ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَقْضُ الْعَهْدَ، وَالثَّانِي: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَعَنَ فِي الدِّينِ قُتِلَ، لِأَنَّهُ يَنْتَقِضُ عَهْدَهُ بِذَلِكَ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ إِذَا حَصَلَ مِنَ الذِّمِّيِّ مُجَرَّدُ النَّكْثِ فَقَطْ مِنْ دُونِ طَعْنٍ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. قَوْلُهُ: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الْهَمْزَةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ: لِلِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ مَعَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا مِنَ التَّحْضِيضِ عَلَى الْقِتَالِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّقِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ حَالُهُ كَحَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ، وَالْبَدَاءَةِ بِالْقِتَالِ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا يُتْرَكَ قِتَالُهُ، وَأَنْ يُوَبَّخَ مَنْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ زَادَ فِي التَّوْبِيخِ فَقَالَ: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَإِنَّ هَذَا

الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، أَيْ: تَخْشَوْنَ أَنْ يَنَالَكُمْ مِنْهُمْ مَكْرُوهٌ فَتَتْرُكُونَ قِتَالَهُمْ لِهَذِهِ الْخَشْيَةِ، ثُمَّ بَيْنَ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ: هُوَ أَحَقُّ بِالْخَشْيَةِ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ الضَّارُّ النَّافِعُ بِالْحَقِيقَةِ، وَمِنْ خَشْيَتِكُمْ لَهُ أَنْ تُقَاتِلُوا مَنْ أَمَرَكُمْ بِقِتَالِهِ، فَإِنَّ قَضِيَّةَ الْإِيمَانِ تُوجِبُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ زَادَ فِي تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فَقَالَ: قاتِلُوهُمْ وَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ فَوَائِدَ: الْأُولَى: تَعْذِيبُ اللَّهِ لِلْكَفَّارِ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالثَّانِيَةُ: إِخْزَاؤُهُمْ، قِيلَ: بِالْأَسْرِ، وَقِيلَ: بِمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَالثَّالِثَةُ: نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَغَلَبَتُهُمْ لَهُمْ وَالرَّابِعَةُ: أَنَّ اللَّهَ يَشْفِي بِالْقِتَالِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدِ الْقِتَالَ وَلَا حَضَرَهُ وَالْخَامِسَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُذْهِبُ بِالْقِتَالِ غَيْظَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِي نَالَهُمْ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنَ الْأُمُورِ الْجَالِبَةِ لِلْغَيْظِ، وَحَرَجِ الصَّدْرِ. فَإِنْ قِيلَ: شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَإِذْهَابُ غَيْظِ الْقُلُوبِ كِلَاهُمَا بِمَعْنًى، فَيَكُونُ تِكْرَارًا. قِيلَ فِي الْجَوَابِ: إِنَّ الْقَلْبَ أَخَصُّ مِنَ الصَّدْرِ، وَقِيلَ: إِنَّ شِفَاءَ الصَّدْرِ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَعْدِ بِالْفَتْحِ، وَلَا رَيْبَ أن الانتظار لإنجاز الْوَعْدِ مَعَ الثِّقَةِ بِهِ فِيهِمَا شِفَاءٌ لِلصَّدْرِ، وَأَنَّ إِذْهَابَ غَيْظِ الْقُلُوبِ إِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ الْفَتْحِ، وَقَدْ وَقَعَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ هَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا، ثُمَّ قَالَ: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَهُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ بِمَا سَيَكُونُ، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْكَافِرِينَ يَتُوبُ عَنْ كُفْرِهِ، كَمَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَإِنَّهُمْ أَسْلَمُوا، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فِي يَتُوبُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقُرِئَ بِنَصْبِ يَتُوبَ بِإِضْمَارِ أَنْ، وَدُخُولُ التَّوْبَةِ فِي جُمْلَةِ مَا أُجِيبَ بِهِ الْأَمْرُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى. قَرَأَ بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ وَالْأَعْرَجُ، فَإِنْ قِيلَ: كيف تقع التوبة جزاء للمقاتلة؟ وأجيب بأن الْقِتَالَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لَهَا، إِذَا كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ فَوَجْهُهُ أَنَّ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ يَكُونُ سَبَبًا لِخُلُوصِ النِّيَّةِ، وَالتَّوْبَةِ عَنِ الذُّنُوبِ، قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا أَمْ هَذِهِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ، وَالْهَمْزَةُ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ، وَحَرْفُ الْإِضْرَابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى آخَرَ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَقَعُ الْحُسْبَانُ مِنْكُمْ بِأَنْ تُتْرَكُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: أَنْ تُتْرَكُوا فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيِ الْحُسْبَانَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّهُ حُذِفَ الثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُبْتَلَوْا بِمَا يَظْهَرُ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ الظُّهُورَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَجُمْلَةُ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمُرَادُ مِنْ نَفْيِ الْعِلْمِ نَفْيِ الْمَعْلُومِ، وَالْمَعْنَى كَيْفَ تَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ تُتْرَكُونَ وَلَمَّا يَتَبَيَّنِ الْمُخْلِصُ مِنْكُمْ فِي جِهَادِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُخْلِصِ، وَجُمْلَةُ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جَاهَدُوا دَاخِلَةٌ مَعَهُ فِي حُكْمِ النَّفْيِ، وَاقِعَةٌ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، وَالْوَلِيجَةُ مِنَ الْوُلُوجِ: وَهُوَ الدُّخُولُ، وَلَجَ يَلِجُ وُلُوجًا: إذ دَخَلَ، فَالْوَلِيجَةُ: الدَّخِيلَةُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ وليجة. قال أبان بن تغلب: فَبِئْسَ الْوَلِيجَةُ لِلْهَارِبِي ... نَ وَالْمُعْتَدِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَلِيجَةُ: الْبِطَانَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ أَيْ: كَيْفَ تَتَّخِذُونَ دَخِيلَةً، أَوْ بِطَانَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ تُفْشُونَ إِلَيْهِمْ بِأَسْرَارِكُمْ، وَتُعْلِمُونَهُمْ أُمُورَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ: بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ.

وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ قَالَ: عَهْدَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ وَإِنْ نَكَثُوا الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَقَاتِلْهُمْ إِنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَأُمِّيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَعَتَبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهِلِ بْنُ هِشَامٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُمُ الَّذِينَ نَكَثُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مالك ابن أَنَسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قَالَ: رُؤُوسُ قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمُ الدَّيْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن حذيفة أنهم ذكروا عنده هذه الآية فقال: مَا قُوتِلَ أَهْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: مَا بَقِيَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ، وَلَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، فقال أعرابيّ: إنكم أصحاب محمد تخبروننا بأمور ولا ندري ما هي فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أَعْلَاقَنَا «1» ، قَالَ: أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ، أَجَلْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، أَحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَوْ شَرِبَ الْمَاءَ الْبَارِدَ لَمَا وَجَدَ بَرْدَهُ، وَالْأَوْلَى أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ رُؤَسَاءِ الْكُفَّارِ من غير تقييد بزمن معني أَوْ بِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظُ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَمِمَّا يُفِيدُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن ابن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى النَّاسِ حِينَ وَجَّهَهُمْ إِلَى الشَّامِ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ قَوْمًا مُجَوَّفَةً رؤوسهم، فاضربوا مقاعد الشّيطان منهم بالسيوف، فو الله لَأَنْ أَقْتُلَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَ سَبْعِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ حُذَيْفَةَ لَا أَيْمانَ لَهُمْ قَالَ: لَا عُهُودَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَمَّارٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ قَالَ: قِتَالُ قُرَيْشٍ حُلَفَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَمُّهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ، زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ عَامَ عُمْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِ التَّابِعِ لِلْحُدَيْبِيَةِ «2» ، نَكَثَتْ قُرَيْشٌ الْعَهْدَ، عَهْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَجَعَلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ إِذَا دَخَلُوا مَكَّةَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَذَلِكَ هَمُّهُمْ بِإِخْرَاجِهِ، فَلَمْ تُتَابِعْهُمْ خُزَاعَةُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ لِخُزَاعَةَ: عَمَّيْتُمُونَا عَنْ إِخْرَاجِهِ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا، وَقَدْ سَاقَ الْقِصَّةَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ، وَأَوْرَدَ فِيهَا النَّظْمَ الَّذِي أَرْسَلَتْهُ خُزَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم وأوّله:

_ (1) . قال في القاموس: العلق: النفيس من كل شيء. (2) . أي في العام السابع للهجرة حيث أدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرة القضاء.

[سورة التوبة (9) : الآيات 17 إلى 22]

يَا رَبِّ إِنِّي نَاشَدٌ مُحَمَّدًا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا وَأَخْرَجَ الْقِصَّةَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْوَلِيجَةُ: الْبِطَانَةُ مِنْ غَيْرِ دِينِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: وَلِيجَةٌ: أَيْ خيانة. [سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 22] مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَعْمُرُوا بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ مِنْ عَمَرَ يَعْمُرُ، وَقَرَأَ ابْنُ السميقع بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ مِنْ أَعْمَرَ يُعْمِرُ، أَيْ: يَجْعَلُونَ لَهَا مَنْ يَعْمُرُهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَسَهْمٌ وَيَعْقُوبُ مَسْجِدَ اللَّهِ بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مَساجِدَ بِالْجَمْعِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ النَّحَّاسُ: لِأَنَّهَا أَعَمُّ، وَالْخَاصُّ يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَامِّ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْجَمْعِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ خَاصَّةً، وَهَذَا جَائِزٌ فِيمَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ إِلَّا فَرَسًا قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا قَالَ مَساجِدَ وَالْمُرَادُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لِأَنَّهُ قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا وَإِمَامُهَا، فَعَامِرُهُ كَعَامِرِ جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ قَدْ تَضَعُ الْوَاحِدَ مَكَانَ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ كَثِيرُ الدِّرْهَمِ وَبِالْعَكْسِ كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ يُجَالِسُ الْمُلُوكَ وَلَعَلَّهُ لَمْ يُجَالِسْ إِلَّا مَلِكًا وَاحِدًا وَالْمُرَادُ بِالْعِمَارَةِ: إِمَّا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، أَوِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ، وَهُوَ مُلَازَمَتُهُ، وَالتَّعَبُّدُ فِيهِ، وَكِلَاهُمَا لَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْمِنَّةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِعِمَارَةِ مَسَاجِدِهِمْ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِكَوْنِ الْكُفَّارِ لَا عِبَادَةَ لَهُمْ مَعَ نَهْيِهِمْ عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَعْنَى مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ مَا صَحَّ لَهُمْ وَمَا اسْتَقَامَ أَنْ يفعلوا ذلك، وشاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ حَالٌ، أَيْ: مَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ حَالَ كَوْنِهِمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، بِإِظْهَارٍ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ نَصْبِ الْأَوْثَانِ، وَالْعِبَادَةِ لَهَا، وَجَعْلِهَا آلِهَةً، فَإِنَّ هَذَا شَهَادَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، وَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَكَيْفَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ: عمارة المسجد الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ شَأْنِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِعِمَارَةِ مَسَاجِدِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ قَوْلُهُمْ فِي طَوَافِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكَ هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ وَقِيلَ: شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ: إِنَّ الْيَهُودِيَّ يَقُولُ هُوَ يهودي،

والنصراني يقول هو نصراني، والصابئ، وَالْمُشْرِكُ يَقُولُ هُوَ مُشْرِكٌ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الَّتِي يَفْتَخِرُونَ بِهَا وَيَظُنُّونَ أَنَّهَا مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، أَيْ: بَطَلَتْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مَعَ تَقْدِيمِ الظَّرْفِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْخَبَرِ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِهَا، ثُمَّ بَيْنَ سُبْحَانِهِ مَنْ هُوَ حَقِيقٌ بعمارة المساجد فَقَالَ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَفَعَلَ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَلَمْ يَخْشَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ فَمَنْ كَانَ جَامِعًا بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَهُوَ الْحَقِيقُ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ، لَا مَنْ كَانَ خَالِيًا مِنْهَا أَوْ مِنْ بَعْضِهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْخَشْيَةِ تَنْبِيهًا بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُمُورِ الدِّينِ عَلَى مَا عَدَاهُ مِمَّا افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمَ الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي وَجْهِ جَمْعِ الْمَسَاجِدِ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْعِمَارَةِ، وَمَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ حَمَلَ الْعِمَارَةَ هُنَا عَلَيْهِمَا، وَفِي قَوْلِهِ: فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ حَسْمٌ لِأَطْمَاعِ الْكُفَّارِ فِي الِانْتِفَاعِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ إِذَا كَانَ اهْتِدَاؤُهُمْ مَرْجُوًّا فَقَطْ، فَكَيْفَ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّصِفُوا بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَقِيلَ: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى خَلِيقٍ، أَيْ: فَخَلِيقٌ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ وَقِيلَ: إِنَّ الرَّجَاءَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لِلْإِنْكَارِ، وَالسِّقَايَةُ وَالْعِمَارَةُ: مَصْدَرَانِ كَالسِّعَايَةِ وَالْحِمَايَةِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَجَعَلْتُمْ أَصْحَابَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ، أَوْ أَهْلَهُمَا كَمَنْ آمَنَ حَتَّى يَتَّفِقَ الْمَوْضُوعُ وَالْمَحْمُولَ، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي الْخَبَرِ، أَيْ: جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَعَمَلِ مَنْ آمَنَ، أَوْ كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ، وقرأ ابن أبي وجرة السَّعْدِيُّ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «أَجَعَلْتُمْ سُقَاةَ الْحَاجِّ وَعَمَرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» ، جَمْعُ سَاقٍ وَعَامِرٍ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَا كَانَ تَعْمَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي صَوَّرَتْهَا صُورَةُ الْخَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا وَبَيْنَ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَجِهَادِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْتَخِرُونَ بِالسِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ وَيُفَضِّلُونَهُمَا عَلَى عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِالْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَتَفَاوُتِهِمْ، وَعَدَمِ اسْتِوَائِهِمْ فَقَالَ: لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: لَا تُسَاوِي تِلْكَ الطَّائِفَةُ الْكَافِرَةُ السَّاقِيَةُ لِلْحَجِيجِ الْعَامِرَةُ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمُؤْمِنَةُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الْمُجَاهِدَةُ فِي سَبِيلِهِ، وَدَلَّ سُبْحَانَهُ بِنَفْيِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْمُشْرِكُونَ، أَيْ: إِذَا لَمْ تَبْلُغْ أَعْمَالُ الْكُفَّارِ إِلَى أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِأَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ تَكُونُ فَاضِلَةً عَلَيْهَا كَمَا يَزْعُمُونَ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ وَأَنَّهُمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ، لَا يَسْتَحِقُّونَ الْهِدَايَةَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَفِي هَذَا إشارة إلى الفريق المفضول، ثُمَّ صَرَّحَ بِالْفَرِيقِ الْفَاضِلِ فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأَحَقُّ بِمَا لَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ مِنْ تِلْكَ الطَّائِفَةِ الْمُشْرِكَةِ الْمُفْتَخِرَةِ بِأَعْمَالِهَا الْمُحْبَطَةِ الْبَاطِلَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُمُ الْفائِزُونَ أَيِ: الْمُخْتَصُّونَ بِالْفَوْزِ عِنْدَ اللَّهِ، ثُمَّ فَسَّرَ الْفَوْزَ بِقَوْلِهِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ وَالتَّنْكِيرُ فِي الرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَالْجَنَّاتِ

لِلتَّعْظِيمِ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا فَوْقَ وَصْفِ الْوَاصِفِينَ، وَتَصَوُّرِ الْمُتَصَوِّرِينَ. وَالنَّعِيمُ الْمُقِيمُ: الدَّائِمُ الْمُسْتَمِرُّ الَّذِي لَا يُفَارِقُ صَاحِبَهُ، وَذِكْرُ الْأَبَدِ بَعْدَ الْخُلُودِ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مَعَ تَضَمُّنِهَا لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: أَعْطَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأُجُورَ الْعَظِيمَةَ لِكَوْنِ الْأَجْرِ الَّذِي عِنْدَهُ عَظِيمٌ، يَهَبُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ وَقَالَ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَنَفَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ «1» مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يَقُولُ: مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَأَقامَ الصَّلاةَ يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ يَقُولُ: لَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ يَقُولُ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ كَقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «2» يَقُولُ: إِنَّ رَبَّكَ سَيَبْعَثُكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ، وَكُلُّ عَسَى فِي الْقُرْآنِ: فَهِيَ وَاجِبَةٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالدَّارِمَيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدُ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي اسْتِحْبَابِ مُلَازِمَةِ الْمَسَاجِدِ وَعِمَارَتِهَا وَالتَّرَدُّدِ إِلَيْهَا لِلطَّاعَاتِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ لِلَّهِ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ: بَلْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ آخَرُ: بَلْ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا قُلْتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ، وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْتَفْتِيهِ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: عِمَارَةُ بَيْتِ اللَّهِ وَقِيَامٌ عَلَى السِّقَايَةِ خَيْرٌ مِمَّنْ آمَنَ وَجَاهَدَ، فَكَانُوا يَفْخَرُونَ بِالْحَرَمِ، وَيَسْتَكْبِرُونَ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أَهْلُهُ وَعَمَّارُهُ، فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتِكْبَارَهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ، فَقَالَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ- مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ «3» يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَكْبِرُونَ بِالْحَرَمِ، وَقَالَ: بِهِ سَامِرًا: كَانُوا بِهِ يَسْمُرُونَ وَيَهْجُرُونَ بِالْقُرْآنِ وَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَيْرُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْجِهَادِ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ عَلَى عِمْرَانِ الْمُشْرِكِينَ البيت وقيامهم على السعاية وَلَمْ يَكُنْ لِيَنْفَعَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَعَ الشِّرْكِ بِهِ وَإِنْ كَانُوا يَعْمُرُونَ بَيْتَهُ وَيَخْدِمُونَهُ، قَالَ الله لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يَعْنِي: الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْعِمَارَةِ فَسَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ بِشِرْكِهِمْ فَلَمْ تُغْنِ عنهم العمارة شيئا، وفي إسناده العوفي

_ (1) . المقصود: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله. (2) . الإسراء: 79. (3) . المؤمنون: 66- 67.

[سورة التوبة (9) : الآيات 23 إلى 24]

وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ حِينَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ: إِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَسَقِي الْحَاجَّ وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الْآيَةَ: يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الشِّرْكِ فَلَا أَقْبَلُ مَا كَانَ فِي الشِّرْكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: تَفَاخَرَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَشَيْبَةُ فِي السِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الْآيَةَ، وَقَدْ روي معنى هذا من طرق. [سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً، وَهُوَ حُكْمٌ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الْوِلَايَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحَضِّ عَلَى الْهِجْرَةِ وَرَفْضِ بِلَادِ الْكُفْرِ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِمَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا من بلاد العرب، نهوا بأن يُوَالُوا الْآبَاءَ وَالْإِخْوَةَ فَيَكُونُونَ لَهُمْ تَبَعًا فِي سكنى بلاد الكفر إِنِ اسْتَحَبُّوا: أَيْ أَحَبُّوا، كَمَا يُقَالُ اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ طَلَبُ الْمَحَبَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «1» ثُمَّ حَكَمَ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى مَنِ اسْتَحَبَّ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ بِالظُّلْمِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَوَلِّيَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَشَدِّهَا، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ إِلَى آخِرِهِ، وَالْعَشِيرَةُ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَعَشِيرَةُ الرَّجُلِ قَرَابَتُهُ الْأَدْنَوْنَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُعَاشِرُونَهُ وَهِيَ اسْمُ جَمْعٍ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَحَمَّادٌ: عَشِيرَاتُكُمْ بِالْجَمْعِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: لَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَجْمَعُ عَشِيرَةً عَلَى عَشِيرَاتٍ، وَإِنَّمَا يَجْمَعُونَهَا عَلَى عشائر. قرأ الْحَسَنُ عَشَائِرَكُمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَشِيرَتُكُمْ وَالِاقْتِرَافُ: الِاكْتِسَابُ، وَأَصْلُهُ اقْتِطَاعُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانِهِ، وَالتَّرْكِيبُ يَدُورُ عَلَى الدُّنُوِّ، وَالْكَاسِبُ يُدْنِي الشَّيْءَ مِنْ نَفْسِهِ وَيُدْخِلُهُ تَحْتَ مُلْكِهِ، وَالتِّجَارَةُ: الْأَمْتِعَةُ الَّتِي يَشْتَرُونَهَا لِيَرْبَحُوا فِيهَا، وَالْكَسَادُ: عَدَمُ النَّفَاقِ لِفَوَاتِ وَقْتِ بَيْعِهَا بِالْهِجْرَةِ وَمُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ. وَمِنْ غَرَائِبِ التَّفْسِيرِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتِّجَارَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ إِذَا كَسَدْنَ فِي الْبَيْتِ لَا يَجِدْنَ لَهُنَّ خَاطِبًا، وَاسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: كَسَدْنَ مِنَ الْفَقْرِ فِي قَوْمِهِنَّ ... وَقَدْ زَادَهُنَّ مَقَامِي كَسَادًا وَهَذَا الْبَيْتُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِطْلَاقُ الْكَسَادِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الْخَاطِبِ لَهُنَّ، فَلَيْسَ فيه جواز إطلاق اسم التجارة

_ (1) . المائدة: 51.

[سورة التوبة (9) : الآيات 25 إلى 27]

عَلَيْهِنَّ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسَاكِنِ الَّتِي يَرْضَوْنَهَا: الْمَنَازِلُ الَّتِي تُعْجِبُهُمْ وَتَمِيلُ إِلَيْهَا أَنْفُسُهُمْ وَيَرَوْنَ الْإِقَامَةَ فِيهَا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُهَاجَرَةِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وأحبّ خَبَرُ كَانَ، أَيْ: كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَرَبَّصُوا أَيِ: انْتَظِرُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فِيكُمْ وَمَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ مِنْ عُقُوبَتِكُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: الْقِتَالُ وَقِيلَ: فَتْحُ مَكَّةَ وَفِيهِ بُعْدٌ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ. وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَيُؤَكِّدُهُ إِبْهَامُ الْأَمْرِ وَعَدَمُ التَّصْرِيحِ بِهِ لِتَذْهَبَ أَنْفُسَهُمْ كُلَّ مَذْهَبٍ وَتَتَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أَيِ: الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ، النَّافِرِينَ عَنِ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أمروا بالهجرة فقال العباس ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَا أَسْقِي الْحَاجَّ. وَقَالَ طَلْحَةُ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: أَنَا أَحْجُبُ الْكَعْبَةَ فَلَا نُهَاجِرُ، فَأُنْزِلَتْ لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هِيَ الْهِجْرَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ اقْتَرَفْتُمُوها قَالَ: أَصَبْتُمُوهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ قَالَ: بِالْفَتْحِ، فِي أَمْرِهِ بِالْهِجْرَةِ، هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: جَعَلَ أَبُو أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ يَنْعَتُ لَهُ الْآلِهَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَجَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَحِيدُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ الْجَرَّاحُ قَصَدَهُ ابْنُهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَقَتَلَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الْآيَةَ، وَهِيَ تُؤَكِّدُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِ الْهِجْرَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. [سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) الْمَوَاطِنُ: جَمْعُ مَوْطِنٍ، وَمَوَاطِنُ الْحَرْبِ: مَقَامَاتُهَا، وَالْمَوَاطِنُ الَّتِي نَصَرَ اللَّهُ المسلمين فيها: هي يوم بدر وما بعد، مِنَ الْمَوَاطِنِ الَّتِي نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ فِيهَا، قَبْلَ يَوْمِ حُنَيْنٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ مَعْطُوفٌ عَلَى مُوَاطِنَ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، إِمَّا فِي الْأَوَّلِ وَتَقْدِيرُهُ فِي أَيَّامِ مُوَاطِنَ، أَوْ فِي الثَّانِي وَتَقْدِيرُهُ وَمَوْطِنِ يَوْمِ حُنَيْنٍ، لِئَلَّا يَعْطِفُ الزَّمَانُ عَلَى الْمَكَانِ. وَرَدَّ بِأَنَّهُ لَا اسْتِبْعَادَ فِي عَطْفِ الزَّمَانِ عَلَى الْمَكَانِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ وَقِيلَ: إِنَّ يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى نَصَرَكُمُ أَيْ: وَنَصَرَكُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَرَجَّحَ هَذَا صَاحِبُ الْكَشَّافِ. قَالَ: وَمُوجِبُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَلَوْ جُعِلَتْ نَاصِبَةً هَذَا الظَّاهِرُ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ كَثْرَتَهُمْ لَمْ تُعْجِبْهُمْ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ، وَلَمْ يَكُونُوا كَثِيرًا فِي جَمِيعِهَا، وَرَدَّ بِأَنَّ الْعَطْفَ

لَا يَجِبُ فِيهِ تَشَارُكُ الْمُتَعَاطِفِينَ فِي جَمِيعِ مَا ثَبَتَ لِلْمَعْطُوفِ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو مَعَ قَوْمِهِ، أَوْ فِي ثِيَابِهِ، أَوْ عَلَى فَرَسِهِ وَقِيلَ: إِنَّ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ لَيْسَ بِبَدَلٍ مِنْ يَوْمَ حُنَيْنٍ، بَلْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ: أَيِ اذْكُرُوا إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، وَحُنَيْنٌ: وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَانْصَرَفَ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَمْنَعُهُ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَصَرُوا نَبِيَّهُمْ وَشَدُّوا أَزْرَهُ ... بِحُنَيْنَ يَوْمَ تَوَاكَلَ الْأَبْطَالُ وَإِنَّمَا أَعْجَبَ مَنْ أُعْجِبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكَثْرَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، فَوُكِلُوا إِلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَلَمْ تُغْنِ الْكَثْرَةُ شَيْئًا عَنْهُمْ، بَلِ انْهَزَمُوا وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَبَتَ مَعَهُ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مِنْهُمْ: عَمُّهُ الْعَبَّاسُ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، ثُمَّ تَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ. وَالْإِغْنَاءُ: إِعْطَاءُ مَا يَدْفَعُ الْحَاجَةَ أَيْ: لَمْ تُعْطِكُمُ الْكَثْرَةُ شَيْئًا يَدْفَعُ حَاجَتَكُمْ، وَلَمْ تُفِدْكُمْ. قَوْلُهُ: بِما رَحُبَتْ الرُّحْبُ بِضَمِّ الرَّاءِ: السِّعَةُ، وَالرَّحْبُ بِفَتْحِ الرَّاءِ: الْمَكَانُ الْوَاسِعُ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى مع، وما مَصْدَرِيَّةٌ، وَمَحَلُّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَرْضَ مَعَ كَوْنِهَا وَاسِعَةَ الْأَطْرَافِ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: عَلَى رُحْبِهَا ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أَيِ: انْهَزَمْتُمْ حَالَ كَوْنِكُمْ مُدْبِرِينَ، أَيْ: مُوَلِّينَ أَدْبَارَكُمْ، جَاعِلِينَ لَهَا إِلَى جِهَةِ عَدُوِّكُمْ. قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: أنزل ما يسكنهم فيذهب خوفهم حتى وقع منهم الاجتراء على قتال المشركين بعد أن ولوا مدبرين، والمراد بالمؤمنين: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَنْهَزِمُوا، وَقِيلَ: الَّذِينَ انْهَزَمُوا، وَالظَّاهِرُ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ ثَبَتُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَاتَلُوا، وَانْتَصَرُوا. قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَدَدِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ: قِيلَ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، وَقِيلَ: سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ قَاتَلَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تُقَاتِلْ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ، وأنهم إنما حضروا في غير يوم بَدْرٍ، لِتَقْوِيَةِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِدْخَالِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَسَبِّي الذُّرِّيَّةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ إِلَى التَّعْذِيبِ الْمَفْهُومِ مِنْ عَذَّبَ، وَسُمِّيَ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي هَذَا الْيَوْمِ جَزَاءً مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ كَافٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ مُبَالَغَةً فِي وَصْفِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ، وَتَعْظِيمًا لَهُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ أَيْ: مِنْ بَعْدِ هَذَا التَّعْذِيبِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ هَدَاهُ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ غَفُورٌ يَغْفِرُ لِمَنْ أَذْنَبَ فَتَابَ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَا اقْتَرَفُوهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حُنَيْنٌ: مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، قَاتَلَ نَبِيُّ اللَّهِ هَوَازِنَ وثقيف، وَعَلَى هَوَازِنَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَعَلَى ثَقِيفٍ عبد يا ليل بْنُ عَمْرٍو الثَّقَفِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ قَالُوا: الْآنَ نُقَاتِلُ حِينَ اجْتَمَعْنَا، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا

[سورة التوبة (9) : الآيات 28 إلى 29]

قَالُوا، وَمَا أَعْجَبَهُمْ مِنْ كَثْرَتِهِمْ، فَالْتَقَوْا، فَهُزِمُوا حَتَّى مَا يَقُومُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ حَتَّى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينادي أحياء العرب: إليّ إليّ، فو الله مَا يَعْرُجُ عَلَيْهِ أَحَدٌ حَتَّى أَعْرَى مَوْضِعُهُ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْأَنْصَارِ وَهُمْ نَاحِيَةٌ فَنَادَاهُمْ: يَا أَنْصَارَ اللَّهِ! وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، فَجَثَوْا يَبْكُونَ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَرَبِّ الْكَعْبَةِ إِلَيْكَ وَاللَّهِ، فَنَكَّسُوا رُؤُوسَهُمْ يَبْكُونَ وَقَدَّمُوا أَسْيَافَهُمْ يَضْرِبُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الرَّبِيعِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلَّةٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ قَالَ الرَّبِيعُ: وَكَانُوا اثْنَيْ عَشْرَ أَلْفًا، مِنْهُمْ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ وَبَقِيتُ مَعَهُ فِي ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَكُنَّا عَلَى أَقْدَامِنَا نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ قَدَمًا وَلَمْ نُولَّهُمُ الدُّبُرَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ يَمْضِي قُدُمًا، فَقَالَ: نَاوِلْنِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ، فَنَاوَلْتُهُ فَضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَامْتَلَأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا، وَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ أَدْبَارَهُمْ، وَوَقْعَةُ حُنَيْنٍ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالْحَدِيثِ بِطُولِهَا وَتَفَاصِيلِهَا فَلَا نُطَوِّلُ بِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها قَالَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: قَتَلَهُمْ بِالسَّيْفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ أَمَدَّ اللَّهُ رَسُولَهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَيَوْمئِذَ سَمَّى اللَّهُ الْأَنْصَارَ مُؤْمِنِينَ قَالَ: فَأَنْزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِثْلَ النِّجَادِ الْأَسْوَدِ أَقْبَلَ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى سَقَطَ بَيْنَ الْقَوْمِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا نَمْلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ، لَمْ أَشُكَّ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَلَمْ تَكُنْ إلا هزيمة القوم. [سورة التوبة (9) : الآيات 28 الى 29] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) النَّجَسُ: مَصْدَرٌ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، يُقَالُ رَجُلٌ نَجَسٌ، وَامْرَأَةٌ نَجَسٌ، وَرَجُلَانِ نَجَسٌ، وَامْرَأَتَانِ نَجَسٌ، وَرِجَالٌ نَجَسٌ، وَنِسَاءٌ نَجِسٌ وَيُقَالُ: نَجِسٌ وَنَجُسٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَضَمِّهَا وَيُقَالُ: نِجْسٌ، بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَهُوَ تَخْفِيفٌ مِنْ الْمُحَرَّكِ، قِيلَ: لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا إِذَا قِيلَ مَعَهُ رِجْسٌ، وَقِيلَ: ذَلِكَ أَكْثَرِيٌّ لَا كُلِّيٌّ. وَالْمُشْرِكُونَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الْمَصْدَرُ مُبَالَغَةً فِي وَصْفِهِمْ بِذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ: أَيْ ذَوُو نَجَسٍ، لِأَنَّ مَعَهُمُ الشِّرْكَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّجَسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمَعْمَرٌ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّهُمْ وُصِفُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَطَهَّرُونَ، وَلَا يَغْتَسِلُونَ، وَلَا يَتَجَنَّبُونَ النَّجَاسَاتِ.

وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْمُشْرِكَ نَجَسُ الذَّاتِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ وَالزَّيْدِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِنَجَسِ الذَّاتِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَلَّ طَعَامَهُمْ، وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ مَا يُفِيدُ عَدَمَ نَجَاسَةِ ذَوَاتِهِمْ، فَأَكَلَ فِي آنِيَتِهِمْ، وَشَرِبَ مِنْهَا، وَتَوَضَّأَ فِيهَا، وَأَنْزَلَهُمْ فِي مَسْجِدِهِ. قَوْلُهُ: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ، فَعَدَمُ قُرْبَانِهِمْ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى نَجَاسَتِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَمِيعُ الْحَرَمِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، فَيُمْنَعُونَ عِنْدَهُ مِنْ جَمِيعِ الْحَرَمِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ نَفْسُهُ فَلَا يُمْنَعُ الْمُشْرِكُ مِنْ دُخُولِ سَائِرِ الْحَرَمِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي دُخُولِ الْمُشْرِكِ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْمَسَاجِدِ فَذَهَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى مَنْعِ كُلِّ مُشْرِكٍ عَنْ كُلِّ مَسْجِدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا جُمُودٌ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ بِالشِّرْكِ وَالنَّجَاسَةِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مَرْدُودٌ بِرَبْطِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ فِي مَسْجِدِهِ، وَإِنْزَالِ وَفْدِ ثَقِيفٍ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَزَادَ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُ الذِّمِّيِّ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيُّ بِالْحَاجَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلذِّمِّيِّ دُونَ الْمُشْرِكِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ الْحَرَمِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَنَهْيُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ هُوَ نَهْيٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يُمَكِّنُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا. قَوْلُهُ: بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَنَةُ تِسْعٍ، وَهِيَ الَّتِي حَجَّ فيها أبو بكر على الموسم. والثاني: أَنَّهُ سَنَةُ عَشْرٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَنَةُ تِسْعٍ، وهو العام الذي وقع في الْأَذَانُ، وَلَوْ دَخْلَ غُلَامُ رَجُلٍ دَارَهُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: لَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ بَعْدَ يَوْمِكَ، لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ الْيَوْمَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ انْتَهَى. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الَّذِي يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ هُوَ خِلَافُ مَا زَعَمَهُ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا إِلَى الْعَامِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ عَامُ النِّدَاءِ، وَهَكَذَا فِي الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُرَادُ: النَّهْيُ عَنْ دُخُولِهَا بَعْدَ يَوْمِ الدُّخُولِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِطَابُ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَ مَا بَعْدَ الْمُضَافِ إِلَى عَامِهِمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَامُ عَشْرٍ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْعَامِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِهَذَا، فَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ عَامُ تِسْعٍ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُشْرِكِينَ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ بِهَذَا الْقَيْدِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قَائِلًا إِنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِوَقْتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَهُمْ مَمْنُوعُونَ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقَطْ لَا عَنْ مُطْلَقِ الدُّخُولِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ عَنِ الْقُرْبَانِ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ يُفِيدُ الْمَنْعَ مِنَ الْقُرْبَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْكَائِنَةِ بَعْدَهُ، وَتَخْصِيصُ بَعْضِهَا بِالْجَوَازِ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَصِّصٍ. قَوْلُهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَيْلَةُ: الْفَقْرُ، يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ: إِذَا افْتَقَرَ، قَالَ الشَّاعِرِ: وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ

وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ «عايلة» وهو مصدر كالقائلة وَالْعَافِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: خَصْلَةٌ شَاقَّةٌ، يُقَالُ عَالَنِي الْأَمْرُ يَعُولُنِي: أَيْ شَقَّ عَلَيَّ وَاشْتَدَّ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرَيُّ أَنَّهُ يُقَالُ عَالَ يَعُولُ: إِذَا افْتَقَرَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا مَنَعُوا الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَوْسِمِ وَهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَ إِلَيْهِ الْأَطْعِمَةَ وَالتِّجَارَاتِ، قَذَفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمُ الْخَوْفَ مِنَ الْفَقْرِ وَقَالُوا: مَنْ أَيْنَ نَعِيشُ؟ فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُغْنِيَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَابَ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الْآيَةَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَغْنَاهُمْ بِإِدْرَارِ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَخَصْبِ الْأَرْضِ، وَأَسْلَمَتِ الْعَرَبُ فَحَمَلُوا إِلَى مَكَّةَ مَا أَغْنَاهُمُ اللَّهُ بِهِ. وَقِيلَ: أَغْنَاهُمْ بِالْفَيْءِ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالْمَشِيئَةِ التَّعْلِيمُ لِلْعِبَادِ بِأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِئَلَّا يَفْتُرُوا عَنِ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِكُمْ حَكِيمٌ فِي إِعْطَائِهِ وَمَنْعِهِ، مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. قَوْلُهُ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الْآيَةَ، فِيهِ الْأَمْرُ بِقِتَالِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ. قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ: إِنَّ قَوْلَهُ: قاتِلُوا أَمْرٌ بِالْعُقُوبَةِ، ثُمَّ قَالَ: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَبَيَّنَ الذَّنْبَ الَّذِي تُوجِبُهُ الْعُقُوبَةُ، ثُمَّ قَالَ: وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَأَكَّدَ الذَّنْبَ فِي جَانِبِ الِاعْتِقَادِ، ثُمَّ قَالَ: وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ زِيَادَةٌ لِلذَّنْبِ فِي مُخَالَفَةِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ قَالَ: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَأْكِيدِ الْمَعْصِيَةِ بِالِانْحِرَافِ وَالْمُعَانَدَةِ وَالْأَنَفَةِ عَنِ الِاسْتِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ تَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فَبَيَّنَ الْغَايَةَ الَّتِي تَمْتَدُّ إِلَيْهَا الْعُقُوبَةُ. انْتَهَى قَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بَيَانٌ لِلْمَوْصُولِ مَعَ مَا فِي حَيِّزِهِ، وَهُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. قَوْلُهُ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ الْجِزْيَةُ، وَزْنُهَا فِعْلَةٌ مَنْ جَزَى يَجْزِي: إِذَا كَافَأَ عَمَّا أُسْدِيَ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ أَعْطَوْهَا جَزَاءً عَمَّا مُنِحُوا مِنَ الْأَمْنِ وَقِيلَ: سُمِّيَتْ جِزْيَةً لِأَنَّهَا طَائِفَةٌ مِمَّا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَجْزُوهُ، أَيْ: يَقْضُوهُ، وَهِيَ فِي الشَّرْعِ: مَا يُعْطِيهِ الْمُعَاهِدُ عَلَى عهده، وعَنْ يَدٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: عَنْ يَدٍ مُوَاتِيَةٍ، غَيْرِ مُمْتَنِعَةٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُعْطُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ غَيْرُ مُسْتَنِيبِينَ فِيهَا أَحَدًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: نَقْدٍ غَيْرِ نَسِيئَةٍ وَقِيلَ: عَنْ قَهْرٍ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَنْ إِنْعَامٍ مِنْكُمْ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ أَخْذَهَا مِنْهُمْ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَذْمُومُونَ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وأصحابه الثوري وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ: إِنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْكَفَرَةِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيَدْخُلُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْمَجُوسُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ منهم. واختلف أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ عَطَاءٌ: لَا مِقْدَارَ لَهَا، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ عَلَى مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: أَقَلُّهَا دِينَارٌ وَأَكْثَرُهَا لَا حَدَّ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دِينَارٌ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ مِنَ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ دِينَارٍ جَازَ، وَإِذَا زَادُوا وَطَابَتْ بِذَلِكَ أَنْفُسُهُمْ قُبِلَ مِنْهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهَا أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ، وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ، الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ سَوَاءٌ، وَلَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا، لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. وَقَالَ

أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: اثْنَا عَشَرَ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَالْكَلَامُ فِي الْجِزْيَةِ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاطِنِهِ، وَالْحَقُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى وَغَيْرِهِ مِنْ مُؤَلَّفَاتِنَا، قَوْلُهُ: وَهُمْ صاغِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالصَّغَارُ: الذُّلُّ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ الذِّمِّيَّ يُعْطِي الْجِزْيَةَ حَالَ كَوْنِهِ صَاغِرًا، قِيلَ: وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا بِنَفْسِهِ مَاشِيًا غَيْرَ رَاكِبٍ، وَيُسَلِّمَهَا وَهُوَ قَائِمٌ، وَالْمُتَسَلِّمُ قَاعِدٌ. وَبِالْجُمْلَةِ يَنْبَغِي لِلْقَابِضِ لِلْجِزْيَةِ أَنْ يَجْعَلَ الْمُسَلِّمَ لَهَا حَالَ قَبْضِهَا صَاغِرًا ذَلِيلًا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ الْآيَةَ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ مَسْجِدَنَا هَذَا بَعْدَ عَامِنَا هَذَا مُشْرِكٌ إِلَّا أَهْلُ الْعَهْدِ وَخَدَمُكُمْ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا. وَالْمَوْقُوفُ: أَصَحُّ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجِيئُونَ إِلَى الْبَيْتِ، وَيَجِيئُونَ مَعَهُمْ بِالطَّعَامِ يَتَّجِرُونَ بِهِ. فَلَمَّا نُهُوا عَنْ أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ. قَالَ الْمُسْلِمُونَ: فَمَنْ أَيْنَ لَنَا الطَّعَامُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ قَالَ: فَأَنْزَلَ الله عليهم المطر، وكثر خيرهم حين ذَهَبَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: فَأَغْنَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَرَهُمْ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً قَالَ: الْفَاقَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قَالَ: بِالْجِزْيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قَالَ: قَذَرٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: مَنْ صَافَحَهُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَافَحَ مُشْرِكًا فَلْيَتَوَضَّأْ أَوْ لِيَغْسِلْ كَفَّيْهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ أُمِرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَأُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْلُ نَجْرَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ يَعْنِي: الَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَعْنِي: الْخَمْرَ وَالْحَرِيرَ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ يَعْنِي: دِينَ الْإِسْلَامِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ يَعْنِي مُذَلَّلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: عَنْ يَدٍ قَالَ: عَنْ قَهْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ: عَنْ يَدٍ قَالَ: مِنْ يَدِهِ وَلَا يَبْعَثُ بِهَا غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي سِنَانٍ فِي قَوْلِهِ: عَنْ يَدٍ قَالَ: عَنْ قُدْرَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ صاغِرُونَ قَالَ: يَمْشُونَ بِهَا

[سورة التوبة (9) : الآيات 30 إلى 33]

مُتَلْتَلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: يُلْكَزُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَلْمَانَ فِي الْآيَةِ قَالَ: غير محمودين. [سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) قَوْلُهُ: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِبَيَانِ شرك أهل الكتابين، وعزيز: مُبْتَدَأٌ، وَابْنُ اللَّهِ: خَبَرُهُ، وَقَدْ قَرَأَ عَاصِمٌ والكسائي «عزيز» بِالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ لِاجْتِمَاعِ الْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ فِيهِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّنْوِينِ فَقَدْ جَعَلَهُ عَرَبِيًّا وَقِيلَ: إِنَّ سُقُوطَ التَّنْوِينِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا بَلْ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنِينَ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ- اللَّهُ الصَّمَدُ «1» . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشِّعْرِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرَيُّ: لِتَجِدنِي بِالْأَمِيرِ برّا ... وبالقناة مدعسا مِكَرًّا إِذَا غُطَيْفٌ السُّلَمِيُّ فَرَّا وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِجَمِيعِهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ لَفْظٌ خَرَجَ عَلَى الْعُمُومِ، وَمَعْنَاهُ: الْخُصُوصُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا الْبَعْضُ مِنْهُمْ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: لَمْ يَبْقَ يَهُودِيٌّ يَقُولُهَا؟ بَلْ قَدِ انْقَرَضُوا وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُتَضَمِّنَةً لِحِكَايَةِ ذَلِكَ عَنِ الْيَهُودِ، لِأَنَّ قَوْلَ بَعْضِهِمْ لَازِمٌ لِجَمِيعِهِمْ، قَوْلُهُ: وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ قَالُوا هَذَا لَمَّا رَأَوْا مِنْ إِحْيَائِهِ الْمَوْتَى مَعَ كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَالْأُولَى أن يقال: إنهم قالوا هذه المقالة لكونه فِي الْإِنْجِيلِ وَصْفُهُ تَارَةً بِابْنِ اللَّهِ، وَتَارَةً بِابْنِ الْإِنْسَانِ، كَمَا رَأَيْنَا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْإِنْجِيلِ، وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لِقَصْدِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِ سَلَفِهِمْ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ قِيلَ: وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ إِنَّمَا هِيَ لِبَعْضِ النَّصَارَى لَا لِكُلِّهِمْ. قَوْلُهُ: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ هذه المقالة الباطلة. ووجه قوله بِأَفْوَاهِهِمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْفَمِ، بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمَّا كَانَ سَاذَجًا لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ، وَلَا عَضَّدَهُ بِرِهَانٌ، كَانَ مُجَرَّدَ دَعْوَى لَا مَعْنَى تَحْتَهَا، فَارِغَةٍ صَادِرَةٍ عَنْهُمْ صُدُورَ الْمُهْمَلَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا إِلَّا كَوْنُهَا خَارِجَةً مِنَ الْأَفْوَاهِ، غَيْرَ مُفِيدَةٍ لِفَائِدَةٍ يُعْتَدُّ بِهَا وَقِيلَ: إِنَّ ذِكْرَ الْأَفْوَاهِ لقصد التأكيد،

_ (1) . الإخلاص: 1- 2.

كَمَا فِي كَتَبْتُ بِيَدِي، وَمَشَيْتُ بِرِجْلِي، وَمِنْهُ قوله تعالى: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ «1» . قوله: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «2» . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلًا مَقْرُونًا بِذِكْرِ الْأَفْوَاهِ، وَالْأَلْسُنِ إِلَّا وَكَانَ قَوْلًا زُورًا كَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ «3» ، وقوله: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ «4» ، وَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ «5» . قوله: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُضَاهَاةُ: الْمُشَابِهَةُ، قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: امْرَأَةٌ ضَهْيَاءُ: وَهِيَ الَّتِي لَا تَحِيضُ لِأَنَّهَا شَابَهَتِ الرِّجَالَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسي: من قال: يضاهون مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمُ: امْرَأَةٌ ضَهْيَاءُ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ فِي ضَاهَأَ أَصْلِيَّةٌ، وَفِي ضَهْيَاءَ زَائِدَةٌ كَحَمْرَاءَ، وَأَصْلُهُ: يُضَاهِئُونَ، وَامْرَأَةٌ ضَهْيَاءُ. وَمَعْنَى مُضَاهَاتِهِمْ لِقَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِيهِ أَقْوَالٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ شَابَهُوا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ عَبَدَةَ الأوثان في قولهم: اللات وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بَنَاتُ اللَّهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ شَابَهُوا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْكَافِرِينَ: إِنَّ الملائكة بنات الله، الثالث: أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزيز ابْنُ اللَّهِ وَأَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ. قَوْلُهُ: قاتَلَهُمُ اللَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ، لِأَنَّ مَنْ قَاتَلَهُ اللَّهُ هَلَكَ وَقِيلَ: هُوَ تَعَجُّبٌ مِنْ شَنَاعَةِ قَوْلِهِمْ وَقِيلَ: مَعْنَى قَاتَلَهُمُ اللَّهُ: لَعَنَهُمُ الله، ومنه قول أبان بن تغلب: قَاتَلَهَا اللَّهُ تَلْحَانِي وَقَدْ عَلِمَتْ ... أَنِّي لِنَفْسِي إِفْسَادِي وَإِصْلَاحِي وَحَكَى النِّقَاشُ أَنَّ أَصْلَ «قَاتَلَ اللَّهُ» : الدُّعَاءُ، ثُمَّ كَثُرَ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ حَتَّى قَالُوهُ عَلَى التَّعَجُّبِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ الدُّعَاءَ، وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ: يَا قَاتَلَ اللَّهُ لَيْلَى كَيْفَ تُعْجِبُنِي ... وَأُخْبِرُ النَّاسَ أَنِّي لَا أُبَالِيهَا أَنَّى يُؤْفَكُونَ أَيْ: كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ. قَوْلُهُ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ الْأَحْبَارُ: جَمَعَ حَبْرٌ، وَهُوَ الَّذِي يُحْسِنُ الْقَوْلَ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ مُحَبَّرٌ وَقِيلَ: جَمْعُ حِبْرٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ، قَالَ يُونُسُ: لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا بِكَسْرِ الْحَاءِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ لُغَتَانِ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الحبر بالكسر: المداد، وَالْحَبْرُ بِالْفَتْحِ الْعَالِمُ. وَالرُّهْبَانُ: جَمْعُ رَاهِبٍ، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّهْبَةِ، وَهُمْ عُلَمَاءُ النَّصَارَى، كَمَا أَنَّ الْأَحْبَارَ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَمَّا أَطَاعُوهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْهُ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَّخِذِينَ لَهُمْ أَرْبَابًا، لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ كَمَا تُطَاعُ الْأَرْبَابُ. قَوْلُهُ: وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ مَعْطُوفٌ عَلَى رُهْبَانَهُمْ، أَيِ: اتَّخَذَهُ النَّصَارَى رَبًّا مَعْبُودًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَتَّخِذُوا عزير رَبًّا مَعْبُودًا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَزْجُرُ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ عَنِ التَّقْلِيدِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَتَأْثِيرُ مَا يَقُولُهُ الْأَسْلَافُ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، فَإِنَّ طَاعَةَ الْمُتَمَذْهِبِ لِمَنْ يَقْتَدِي بِقَوْلِهِ وَيَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِ مِنْ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ، وَقَامَتْ بِهِ حُجَجُ اللَّهِ وَبَرَاهِينُهُ، وَنَطَقَتْ بِهِ كُتُبُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ، هُوَ كَاتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ، بَلْ أَطَاعُوهُمْ، وَحَرَّمُوا مَا حَرَّمُوا، وَحَلَّلُوا مَا حَلَّلُوا. وَهَذَا هُوَ صَنِيعُ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِهِ من شبه البيضة بالبيضة،

_ (1) . البقرة: 79. (2) . الأنعام: 38. (3) . آل عمران: 167. (4) . الكهف: 5. [.....] (5) . الفتح: 11.

وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَةِ، وَالْمَاءِ بِالْمَاءِ فَيَا عِبَادَ اللَّهِ! وَيَا أَتْبَاعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَا بَالُكُمْ تَرَكْتُمُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ جَانِبًا، وَعَمَدْتُمْ إِلَى رِجَالٍ هُمْ مِثْلُكُمْ فِي تَعَبُّدِ اللَّهِ لَهُمْ بِهِمَا، وَطَلَبِهِ مِنْهُمْ لِلْعَمَلِ بِمَا دَلَّا عَلَيْهِ وَأَفَادَهُ، فَعَلْتُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْآرَاءِ الَّتِي لَمْ تُعَمَّدْ بِعِمَادِ الْحَقِّ، وَلَمْ تُعَضَّدْ بِعَضُدِ الدِّينِ وَنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، تُنَادِي بِأَبْلَغِ نِدَاءٍ وَتُصَوِّتُ بِأَعْلَى صَوْتٍ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَيُبَايِنُهُ، فَأَعَرْتُمُوهُمَا آذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، وَأَفْهَامًا مَرِيضَةً، وَعُقُولًا مَهِيضَةً، وَأَذْهَانًا كَلَيْلَةً، وَخَوَاطِرَ عَلِيلَةً، وَأَنْشَدْتُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ: وَمَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشَدُ فَدَعُوا أَرْشَدَكُمُ اللَّهُ وَإِيَّايَ كُتُبًا كَتَبَهَا لَكُمُ الْأَمْوَاتُ مِنْ أَسْلَافِكُمْ، وَاسْتَبْدِلُوا بِهَا كِتَابَ اللَّهِ خَالِقِهُمْ وَخَالِقِكُمْ، وَمُتَعَبَّدِهِمْ وَمُتَعَبَّدِكُمْ، وَمَعْبُودِهِمْ وَمَعْبُودِكُمْ، وَاسْتَبْدَلُوا بِأَقْوَالِ مَنْ تَدْعُونَهُمْ بِأَئِمَّتِكُمْ وَمَا جَاءُوكُمْ بِهِ مِنَ الرَّأْيِ بِأَقْوَالِ إِمَامِكُمْ وَإِمَامِهِمْ وَقُدْوَتِكُمْ وَقُدْوَتِهِمْ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. دَعُوا كُلَّ قَوْلٍ عِنْدَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ... فَمَا آمن فِي دِينِهِ كَمُخَاطِرِ اللَّهُمَّ هَادِيَ الضَّالِّ، مُرْشِدَ التَّائِهِ، مُوَضَّحَ السَّبِيلِ، اهْدِنَا إِلَى الْحَقِّ، وَأَرْشِدْنَا إِلَى الصَّوَابِ، وَأَوْضِحْ لَنَا مَنْهَجِ الْهِدَايَةِ. قَوْلُهُ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أي: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَا أمروا إلا بعبادة الله وحده، أو ما أُمِرَ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ إِلَّا بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَصْلُحُونَ لِمَا أَهَّلُوهُمْ لَهُ مِنَ اتِّخَاذِهِمْ أَرْبَابًا؟ قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِقَوْلِهِ إِلَهًا سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ عَنِ الْإِشْرَاكِ فِي طاعته وعبادته. قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ هَذَا كَلَامٌ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ ضَلَالِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ مَا رَامُوهُ مِنْ إِبْطَالِ الْحَقِّ بِأَقَاوِيلِهِمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي هِيَ مُجَرَّدُ كَلِمَاتٍ سَاذَجَةٍ وَمُجَادَلَاتٍ زَائِفَةٍ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي مُحَاوَلَةِ إِبْطَالِ دِينِ الْحَقِّ وَنُبُوَّةِ نَبِيِّ الصِّدْقِ، بِحَالِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْفُخَ فِي نُورٍ عَظِيمٍ قَدْ أَنَارَتْ بِهِ الدُّنْيَا، وَانْقَشَعَتْ بِهِ الظُّلْمَةُ لِيُطْفِئَهُ وَيُذْهِبَ أَضْوَاءَهُ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أَيْ: دِينَهُ الْقَوِيمَ، وَقَدْ قِيلَ: كَيْفَ دَخَلَتْ إِلَّا الِاسْتِثْنَائِيَّةُ عَلَى يَأْبَى؟ وَلَا يَجُوزُ كَرِهْتُ أَوْ بَغَضْتُ إِلَّا زَيْدًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا دَخَلْتُ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ طَرَفًا مِنَ الْجَحْدِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْعَرَبَ تَحْذِفُ مَعَ «أَبَى» ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَأْبَى اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: إِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي «أَبَى» لِأَنَّهَا مَنْعٌ أَوِ امْتِنَاعٌ فَضَارَعَتِ النَّفْيَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَحْسَنُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَهَلْ لِي أُمٌّ غَيْرُهَا إِنْ تَرَكْتُهَا ... أَبَى اللَّهُ إِلَّا أن أكون لها ابنما وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّ «أَبَى» قَدْ أُجْرِيَ مَجْرَى لَمْ يُرِدْ أَيْ: وَلَا يُريدُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. قَوْلُهُ: وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةٍ قَبْلَهُ مُقَدَّرَةٍ، أَيْ: أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتَمَّ نُورَهُ وَلَوْ لَمْ يَكْرَهِ الْكَافِرُونَ ذَلِكَ وَلَوْ كَرِهُوا، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أَيْ: بِمَا يَهْدِي بِهِ النَّاسَ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَدِينِ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ لِيُظْهِرَهُ أَيْ: لِيُظْهِرَ

رَسُولَهُ، أَوْ دِينَ الْحَقِّ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى، وَأَبُو أَنَسٍ، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ فَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَقَدْ تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزير ابْنُ اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: كُنَّ نِسَاءُ بَنِي إسرائيل يجتمعن بالليل فيصلين ويعتزلن ويذكرن مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا أَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ شَرَّ خَلْقِهِ بُخَتُنَصَّرَ، فَحَرَقَ التَّوْرَاةَ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَعُزَيْرٌ يَوْمَئِذٍ غلام، فقال عزير: أو كان هَذَا؟ فَلَحِقَ بِالْجِبَالِ وَالْوَحْشِ فَجَعَلَ يَتَعَبَّدُ فِيهَا، وَجَعْلَ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، فَإِذَا هُوَ ذَاتُ يوم بامرأة عند قبر وهي تبكي. فقال: يَا أُمَّهْ! اتَّقِي اللَّهَ، وَاحْتَسِبِي، وَاصْبِرِي، أَمَّا تَعْلَمِينَ أَنَّ سَبِيلَ النَّاسِ إِلَى الْمَوْتِ؟ فَقَالَتْ: يا عزيز! أَتَنْهَانِي أَنْ أَبْكِيَ وَأَنْتَ قَدْ خَلَّفْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَحِقْتَ بِالْجِبَالِ وَالْوَحْشِ؟ ثُمَّ قَالَتْ: إِنِّي لَسْتُ بِامْرَأَةٍ وَلَكِنِّي الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ سَيَنْبُعُ فِي مُصَلَّاكَ عَيْنٌ وَتَنْبُتُ شَجَرَةٌ، فَاشْرَبْ مِنْ مَاءِ الْعَيْنِ، وَكُلْ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرَةِ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَلَكَانِ فَاتْرُكْهُمَا يَصْنَعَانِ مَا أَرَادَا فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ نَبَعَتِ الْعَيْنُ وَنَبَتَتِ الشَّجَرَةُ، فَشَرِبَ مِنْ مَاءِ الْعَيْنِ وَأَكَلَ مِنْ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، وَجَاءَ مَلَكَانِ وَمَعَهُمَا قَارُورَةٌ فِيهَا نُورٌ، فَأَوْجَرَاهُ مَا فِيهَا: فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ، فَجَاءَ فَأَمْلَاهُ عَلَى النَّاسِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فَذَكَرَ قِصَّةً وَفِيهَا: أن عزير سَأَلَ اللَّهَ بَعْدَ مَا أَنْسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ التَّوْرَاةَ وَنَسَخَهَا مِنْ صُدُورِهِمْ أَنْ يَرُدَّ الَّذِي نَسَخَ مِنْ صَدْرِهِ. فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي نَزَلَ نُورٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَدَخَلَ جَوْفَهُ، فَعَادَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ ذَهَبَ مِنْ جَوْفِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَأَذَّنَ فِي قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمُ! قَدْ آتَانِي اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَرَدَّهَا إِلَيَّ. وأخرج أبو الشيخ عن كعب قال: دعا عُزَيْرٍ رَبَّهُ أَنْ يُلْقِيَ التَّوْرَاةَ كَمَا أَنْزَلَ عَلَى مُوسَى فِي قَلْبِهِ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثَلَاثٌ أَشُكُّ فِيهِنَّ: فَلَا أَدْرِي عُزَيْرٌ كان نبيا أو لَا؟ وَلَا أَدْرِي أَلُعِنَ تُبَّعٌ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ في قوله: يُضاهِؤُنَ قَالَ: يُشْبِهُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: قاتَلَهُمُ اللَّهُ قَالَ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ قَتْلٌ فَهُوَ: لَعْنٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَالَ: أَمَّا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبِي الْبَحْتَرِيِّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ

[سورة التوبة (9) : الآيات 34 إلى 35]

كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: أَحْبَارُهُمْ: قُرَّاؤُهُمْ، وَرُهْبَانُهُمْ: عُلَمَاؤُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالرُّهْبَانُ مِنَ النَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وأخرج أيضا عن الفضيل ابن عِيَاضٍ قَالَ: الْأَحْبَارُ: الْعُلَمَاءُ، وَالرُّهْبَانُ: الْعُبَّادُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ قَالَ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا الْإِسْلَامَ بِأَقْوَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ يَقُولُ: يُرِيدُونَ أَنْ يَهْلِكَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى يَعْنِي: بِالتَّوْحِيدِ والإسلام والقرآن. [سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ حَالِ أَتْبَاعِ الْأَحْبَارِ والرهبان والمتّخذين لَهُمْ أَرْبَابًا ذَكَرَ حَالَ الْمَتْبُوعِينَ فَقَالَ: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ إِلَى آخِرِهِ، وَمَعْنَى أَكْلِهِمْ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ: أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا بِالْوُجُوهِ الْبَاطِلَةِ كَالرِّشْوَةِ، وَأَثْبَتَ هَذَا لِلْكَثِيرِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِذَلِكَ، بَلْ بَقِيَ عَلَى مَا يُوجِبُهُ دِينُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ، وَلَا تَبْدِيلٍ، وَلَا مَيْلٍ إِلَى حُطَامِ الدُّنْيَا، وَلَقَدِ اقْتَدَى بِهَؤُلَاءِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحَصْرُ فِي كُلِّ زمان، فالله المستعان. قوله: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: عَنِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، أَوْ عَنْ مَا كَانَ حَقًّا فِي شَرِيعَتِهِمْ قَبْلَ نَسْخِهَا، بِسَبَبِ أَكْلِهِمْ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ قِيلَ: هُمُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَصْنَعُونَ هَذَا الصُّنْعَ وَقِيلَ: هُمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَوْلَى: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى عُمُومِ اللَّفْظِ، فَهُوَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَصْلُ الْكَنْزِ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْكَنْزُ كُلُّ شَيْءٍ مَجْمُوعٍ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ كَانَ أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا انْتَهَى. وَمِنْهُ نَاقَةٌ كِنَازٌ: أَيْ مُكْتَنِزَةُ اللَّحْمِ، وَاكْتَنَزَ الشَّيْءُ: اجْتَمَعَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمَالِ الَّذِي أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ هَلْ يُسَمَّى كَنْزًا أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ كَنْزٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ بِكَنْزٍ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَبُو ذَرٍّ. وَقَيَّدَهُ بِمَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي عُمَرُ ابن الْخَطَّابِ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الْحَقُّ لِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّ مَا أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ. قَوْلُهُ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ اخْتَلَفَ فِي وَجْهِ إفراد

الضَّمِيرِ مَعَ كَوْنِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ شَيْئَيْنِ، هَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، فَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهُ قَصْدٌ إِلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ وَهُوَ الْفِضَّةُ قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ «1» رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «2» أَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى التِّجَارَةِ، لِأَنَّهَا الْأَهَمُّ وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهِ، وَالْعَرَبُ تُؤَنِّثُ الذَّهَبَ وَتُذَكِّرُهُ وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْكُنُوزِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ يَكْنِزُونَ وَقِيلَ: إِلَى الْأَمْوَالِ، وَقِيلَ: لِلزَّكَاةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اكْتَفَى بِضَمِيرِ أَحَدِهِمَا عَنْ ضَمِيرِ الْآخَرِ مَعَ فَهْمِ الْمَعْنَى، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَلَمْ يَقُلْ رَاضُونَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطّويّ رماني ولم يقل بريئين، ومثله قول حسان: إنّ شرح الشّباب والشّعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا ولم يقل يعاصيا. وَقِيلَ: إِنَّ إِفْرَادَ الضَّمِيرِ مِنْ بَابِ الذَّهَابِ إِلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جُمْلَةٌ وَافِيَةٌ، وَعِدَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَدَنَانِيرُ وَدَرَاهِمُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «3» وَإِنَّمَا خُصَّ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ الأموال لكونهما أثمن الْأَشْيَاءِ، وَغَالِبَ مَا يُكْنَزُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمَا لَهُ حُكْمُهُمَا فِي تَحْرِيمِ الْكَنْزِ. قَوْلُهُ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ هو خَبَرُ الْمَوْصُولِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: تَحِيَّةٌ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ وَقِيلَ: إِنَّ الْبِشَارَةَ هِيَ الْخَبَرُ الَّذِي يَتَغَيَّرُ لَهُ لَوْنُ الْبَشَرَةِ لِتَأْثِيرِهِ فِي الْقَلْبِ، سَوَاءٌ كان من الفرح أو من الْغَمِّ. وَمَعْنَى يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ أَنَّ النَّارَ تُوقَدُ عَلَيْهَا وَهِيَ ذَاتُ حِمًى وَحَرٍّ شَدِيدٍ، وَلَوْ قَالَ يَوْمَ تُحْمَى: أَيِ الْكُنُوزُ، لَمْ يُعْطِ هَذَا الْمَعْنَى، فَجَعَلَ الْإِحْمَاءَ لِلنَّارِ مُبَالَغَةً، ثُمَّ حَذَفَ النَّارَ وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْجَارِّ كَمَا تَقُولُ: رَفَعْتُ الْقِصَّةَ إِلَى الْأَمِيرِ، فَإِنْ لَمْ تَذْكُرِ الْقِصَّةَ قُلْتَ رُفِعَ إِلَى الْأَمِيرِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تُحْمَى بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ فَيُكْوَى بِالتَّحْتِيَّةِ. وَخَصَّ الْجِبَاهَ وَالْجَنُوبَ وَالظُّهُورَ، لِكَوْنِ التَّأَلُّمِ بِكَيِّهَا أَشَدَّ، لِمَا فِي دَاخِلِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ، وَقِيلَ: لِيَكُونَ الْكَيُّ فِي الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ: مِنْ قُدَّامٍ، وَخَلْفٍ، وَعَنْ يَمِينٍ، وَعَنْ يَسَارٍ وَقِيلَ: لِأَنَّ الْجَمَالَ فِي الْوَجْهِ، وَالْقُوَّةَ فِي الظَّهْرِ وَالْجَنْبَيْنِ، وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَطْلُبُ الْمَالَ لِلْجَمَالِ وَالْقُوَّةِ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ. قَوْلُهُ: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أَيْ: يقال لهم مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، أَيْ: كَنَزْتُمُوهُ لِتَنْتَفِعُوا بِهِ، فَهَذَا نَفْعُهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ، وَالتَّوْبِيخِ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ أَيْ: ذُوقُوا وَبَالَهُ، وَسُوءَ عَاقِبَتِهِ، وَقُبْحَ مَغَبَّتِهِ، وشؤم فائدته.

_ (1) . البقرة: 45. (2) . الجمعة: 11. (3) . الحجرات: 9.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ يَعْنِي عُلَمَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَالْبَاطِلُ: كُتُبٌ كَتَبُوهَا لَمْ يُنْزِلْهَا اللَّهُ فَأَكَلُوا بِهَا أَمْوَالَ النَّاسِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَكُلُّ مَالٍ لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، أَوْ فِي بَطْنِهَا فَهُوَ كَنْزٌ، وَكُلُّ مَالٍ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، أَوْ فِي بَطْنِهَا. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَأَخْرَجَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَالْخَطِيبُ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا أَيْضًا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عمر فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرَةً لِلْأَمْوَالِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أُبَالِي لو كان عند مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا أَعْلَمُ عَدَدَهُ وَأُزَكِّيهِ، وَأَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَاتِ اللَّهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَيْسَ بِكَنْزٍ مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: مَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَّا لِوَلَدِهِ مالا يَبْقَى بَعْدَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أُفَرِّجُ عَنْكُمْ، فَانْطَلَقَ عُمَرُ وَاتَّبَعَهُ ثَوْبَانُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ كَبُرَ عَلَى أَصْحَابِكَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ بِهَا مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ مِنْ أَمْوَالٍ تَبْقَى بَعْدَكُمْ، فَكَبَّرَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا أخبرك بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الَّتِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظْتُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، والترمذي وحسّنه، وابن ماجة عن سالم ابن أَبِي الْجَعْدِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ ثَوْبَانَ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ سَالِمًا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ ثَوْبَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَقَالَ: هِيَ خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دُوْنَهَا نَفَقَةٌ وَمَا فَوْقَهَا كَنْزٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: حِلْيَةُ السُّيُوفِ مِنَ الْكُنُوزِ، مَا أُحَدِّثُكُمْ إِلَّا مَا سَمِعْتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا قَالَا فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِنَّهَا نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الأخرى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فضّة لا يؤدّي زكاتها إلا جعلها يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ، ثُمَّ أَحَمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وهب قال: مررت على أبي ذرّ بالرّبذة فقلت:

_ (1) . البقرة: 79.

[سورة التوبة (9) : الآيات 36 إلى 37]

مَا أَنْزَلَكَ بِهَذِهِ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: كُنَّا بِالشَّامِ فَقَرَأْتُ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْآيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا هَذِهِ فِينَا، مَا هَذِهِ إِلَّا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، قُلْتُ: إِنَّهَا لَفِينَا وَفِيهِمْ. [سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) قَوْلُهُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ قَبَائِحِ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَكَمَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِحُكْمٍ خَاصٍّ غَيَّرُوا تِلْكَ الْأَوْقَاتَ بِالنَّسِيءِ وَالْكَبِيسَةِ، فَأَخْبَرَنَا اللَّهُ بِمَا هُوَ حُكْمُهُ فَقَالَ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ أَيْ: عَدَدِ شُهُورِ السَّنَةِ عِنْدَ اللَّهِ فِي حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ وَحِكْمَتِهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا. قَوْلُهُ: فِي كِتابِ اللَّهِ أَيْ: فِيمَا أَثْبَتَهُ فِي كِتَابِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَعَلَّقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: عِدَّةَ الشُّهُورِ، لِلْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ الْخَبَرُ أَعْنِي اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فَقَوْلُهُ: فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ خَلَقَ، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يوم خلق السّموات وَالْأَرْضَ. وَفَائِدَةُ الْإِبْدَالَيْنِ: تَقْرِيرُ الْكَلَامِ فِي الْأَذْهَانِ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ وَاجِبٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَثَابِتٌ فِي عِلْمِهِ فِي أَوَّلِ مَا خَلْقَ اللَّهُ الْعَالَمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: صِفَةُ اثْنَا عَشَرَ: أَيِ: اثْنَا عَشَرَ مُثْبَتَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَضَعَ هَذِهِ الشُّهُورَ وَسَمَّاهَا بِأَسْمَائِهَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْمَعْرُوفِ يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمَا عِنْدَ الْعَجَمِ وَالرُّومِ وَالْقِبْطِ مِنَ الشُّهُورِ الَّتِي يَصْطَلِحُونَ عَلَيْهَا وَيَجْعَلُونَ بَعْضَهَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَبَعْضَهَا أَكْثَرَ، وَبَعْضَهَا أَقَلَّ. قَوْلُهُ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ هي: ذي الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ، ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ، وَوَاحِدٌ فَرْدٌ، كَمَا وَرَدَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ. قَوْلُهُ: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أَيْ: كَوْنُ هَذِهِ الشُّهُورِ كَذَلِكَ، وَمِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، هُوَ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ، وَالْحِسَابُ الصَّحِيحُ، وَالْعَدَدُ الْمُسْتَوْفَى. قَوْلُهُ: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أَيْ: فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، بِإِيقَاعِ الْقِتَالِ فِيهَا، وَالْهَتْكِ لِحُرْمَتِهَا وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى الشُّهُورِ كُلِّهَا الْحُرُمِ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنِ الظُّلْمِ فِيهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ثَابِتٌ مُحْكَمٌ لَمْ يُنْسَخْ لهذه الآية، ولقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ «1» وَلِقَوْلِهِ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السيف. ويجاب عنه بأن الأمر

_ (1) . المائدة: 2.

بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَمُقَاتَلَتِهِمْ مُقَيَّدٌ بِانْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَتَكُونُ سَائِرُ الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْأَمْرِ بِالْقِتَالِ مُقَيَّدَةً بِمَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، كَمَا هِيَ مُقَيَّدَةٌ بِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ لِلْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهِ، وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ وَهُوَ ذُو الْقِعْدَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِ مُحَاصَرَتَهُمْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ بَلْ فِي شَوَّالٍ، وَالْمُحَرَّمُ إِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لَا إِتْمَامُهُ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ. قَوْلُهُ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً أَيْ: جَمِيعًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مِثْلُ هَذَا مِنَ الْمَصَادِرِ: كَعَامَّةٍ، وَخَاصَّةٍ، لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أَيْ: جَمِيعًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُ فُرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ إِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْبَعْضُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أَيْ: يَنْصُرُهُمْ وَيُثَبِّتُهُمْ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَهُوَ الْغَالِبُ، وَلَهُ الْعَاقِبَةُ وَالْغَلَبَةُ، قَوْلُهُ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ قَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ وَرْشٍ عَنْهُ النَّسِيُّ بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بِدُونِ هَمْزٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِيَاءٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ عَنْ نَافِعٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ إِلَّا وَرْشٌ وَحْدَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَسَأَهُ وَأَنْسَأَهُ: إِذَا أَخَّرَهُ، حَكَى ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: النَّسِيءُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ قَوْلِكَ نَسَأْتُ الشَّيْءَ فَهُوَ مَنْسُوءٌ: إِذَا أَخَّرْتَهُ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مَنْسُوءٌ إِلَى نَسِيءٍ كَمَا تَحَوَّلَ مَقْتُولٌ إِلَى قَتِيلٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي النَّسِيءِ بِالْهَمْزَةِ مَعْنَى: الزِّيَادَةِ، يُقَالُ: نَسَأَ يَنْسَأُ: إِذَا زَادَ، قَالَ: وَلَا يَكُونُ بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ إِلَّا مِنَ النِّسْيَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ، وَرَدَّ عَلَى نَافِعٍ قِرَاءَتَهُ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِذَا احْتَاجُوا إِلَى الْقِتَالِ فِيهَا قَاتَلُوا فِيهَا وَحَرَّمُوا غَيْرَهَا، فَإِذَا قَاتَلُوا فِي الْمُحَرَّمِ حَرَّمُوا بَدَلَهُ شَهْرَ صَفَرٍ، وَهَكَذَا فِي غَيْرِهِ، وَكَانَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى هَذَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَعِيشُونَ بِالْغَارَةِ عَلَى بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ، وَنَهْبِ مَا يُمْكِنُهُمْ نَهْبُهُ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يُغِيرُونَ عَلَيْهِ، وَيَقَعُ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقِتَالُ. وَكَانَتِ الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ الْمَسْرُودَةُ يَضُرُّ بِهِمْ تَوَالِيهَا وَتَشْتَدُّ حَاجَتُهُمْ وَتَعْظُمُ فَاقَتُهُمْ، فَيُحَلِّلُونَ بَعْضَهَا وَيُحَرِّمُونَ مَكَانَهُ بِقَدْرِهِ مِنْ غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى النَّسِيءِ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي أَوَّلِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقِيلَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِيَ كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ: حُذَيْفَةُ بْنُ عَتِيدٍ، وَيُلَقَّبُ: الْقَلَمَّسَ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ الْكُمَيْتُ بِقَوْلِهِ: أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا وَفِيهِ يَقُولُ قَائِلُهُمْ: وَمِنَّا نَاسِئُ الشَّهْرِ الْقَلَمَّسُ وَقِيلَ: هُوَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَقِيلَ: هُوَ نُعَيْمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ. وَسَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ النَّسِيءَ زِيَادَةً فِي الْكُفْرِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمْ، وَمَعْصِيَةٌ مِنْ مَعَاصِيهِمُ الْمُنْضَمَّةِ إِلَى كَفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قَوْلُهُ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا قَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ يَضِلُّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَعْلُومِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: أَنَّ الْكُفَّارَ يَضِلُّونَ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ النَّسِيءِ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ الَّذِي سَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ يَجْعَلُهُمْ ضَالِّينَ بِهَذِهِ السُّنَّةِ السَّيِّئَةِ، وَقَدِ اخْتَارَ الْقِرَاءَةَ

الْأُولَى أَبُو حَاتِمٍ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةِ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَيَعْقُوبُ: يُضِلُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ الْمَوْصُولُ، وَمَفْعُولَهُ مَحْذُوفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَمَفْعُولُهُ الْمَوْصُولَ. وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالضَّادِ مِنْ ضَلَّ يَضَلُّ. وَقُرِئَ نَضِلُّ بِالنُّونِ. قَوْلُهُ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى النَّسِيءِ، أَيْ: يُحِلُّونَ النَّسِيءَ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا، أَوْ إِلَى الشَّهْرِ الَّذِي يُؤَخِّرُونَهُ وَيُقَاتِلُونَ فِيهِ، أَيْ: يُحِلُّونَهُ عَامًا بِإِبْدَالِهِ بِشَهْرٍ آخر من شهور الحل، ويحرّمونه عَامًا، أَيْ: يُحَافِظُونَ عَلَيْهِ فَلَا يُحِلُّونَ فِيهِ القتال، بل يبقونه على حرمته. قوله: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ أَيْ: لِكَيْ يُوَاطِئُوا، وَالْمُوَاطَأَةُ: الْمُوَافَقَةُ، يُقَالُ: تَوَاطَأَ الْقَوْمُ عَلَى كَذَا: أَيْ: تَوَافَقُوا عَلَيْهِ وَاجْتَمَعُوا. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ لَمْ يُحِلُّوا شَهْرًا إِلَّا حَرَّمُوا شَهْرًا لِتَبْقَى الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَرْبَعَةً. قَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَاهُ: عَمَدُوا إِلَى صَفَرٍ فَزَادُوهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَقَرَنُوهُ بِالْمُحَرَّمِ فِي التَّحْرِيمِ. وَكَذَا قَالَ الطَّبَرَيُّ. قَوْلُهُ: فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ أَيْ: مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي أَبْدَلُوهَا بِغَيْرِهَا زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ أَيْ: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا. وَمِنْ جُمْلَتِهَا النَّسِيءُ. وَقُرِئَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أَيِ: الْمُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمُ، الْمُسْتَمِرِّينَ عَلَيْهِ، فَلَا يَهْدِيهِمْ هِدَايَةً تَوَصِّلُهُمْ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَأَمَّا الْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْإِرْشَادِ إِلَيْهِ فَقَدْ نَصَبَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِجَمِيعِ عِبَادِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي حجته قال: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السّموات وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حرم، ثلاثة مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عَمِّهِ مَرْفُوعًا مُطَوَّلًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابن عباس مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ قال: الْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّينَ حُرُمًا لِئَلَّا يَكُونَ فِيهِنَّ حَرْبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حُرُمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ. وَجَعَلَ الدِّينَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْأَجْرَ أَعْظَمَ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ قال: كُلِّهِنَّ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً يَقُولُ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً قَالَ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلَّ آيَةٍ فِيهَا رُخْصَةٌ. وَأَخْرَجَ الطبراني وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ يُحِلُّونَ عَامًا شَهْرًا وَعَامًا شَهْرَيْنِ، ولا يصيبون الحجّ إلا في كلّ عشرين سَنَةً مَرَّةً، وَهِيَ النَّسِيءُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ حَجِّ أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ وَافَقَ ذَلِكَ الْعَامُ، فَسَمَّاهُ اللَّهُ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ، ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الْأَهِلَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

[سورة التوبة (9) : الآيات 38 إلى 42]

«إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات وَالْأَرْضَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ فَقَالَ: «إِنَّمَا النَّسِيءُ مِنَ الشَّيْطَانِ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا، فكانوا يحرّمون المحرّم عاما ويستحلّون صفر، ويحرّمون صفر عَامًا وَيَسْتَحِلُّونَ الْمُحَرَّمَ، وَهِيَ النَّسِيءُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ جَنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ الْكِنَانِيُّ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلَّ عَامٍ، وَكَانَ يُكْنَى أَبَا ثُمَامَةَ، فَيُنَادِي: أَلَا إِنَّ أبا ثمامة لا يحاب وَلَا يُعَابُ، أَلَّا وَإِنَّ صَفَرَ الْأَوَّلَ الْعَامَ حلال فيحلّه للناس، فيحرّم صفر عَامًا، وَيُحَرِّمُ الْمُحَرَّمَ عَامًا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: المحرّم كانوا يسمّونه صفر، وَصَفَرٌ يَقُولُونَ صَفَرَانِ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، يُحِلُّ لَهُمْ مَرَّةً الْأَوَّلَ، وَمَرَّةً الْآخِرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عنه قال: كانت النساة حَيًّا مِنْ بَنِي مَالِكٍ مِنْ كِنَانَةَ مِنْ بَنِيَ فُقَيْمٍ، فَكَانَ آخِرُهُمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ القلمّس، وهو الذي أنسأ المحرم. [سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 42] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَمَّا شَرَحَ مَعَايِبَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ عَادَ إِلَى تَرْغِيبِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِهِمْ، وَالِاسْتِفْهَامِ فِي مَا لَكُمْ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: أَيُّ شيء يمنعكم عن ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عِتَابًا لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ بِعَامٍ، وَالنَّفْرُ: هُوَ الِانْتِقَالُ بِسُرْعَةٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِأَمْرٍ يَحْدُثُ. قَوْلُهُ: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَصْلُهُ تَثَاقَلْتُمْ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الثَّاءِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، وَجِيءَ بِأَلِفِ الْوَصْلِ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى النطق بالساكن، ومثله: ادّاركوا، واطيرتم، واطيروا، وأنشد الكسائي: تولي الضّجيع إذا ما استافها خصرا ... عَذْبُ الْمَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَلَ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ تَثَاقَلْتُمْ عَلَى الْأَصْلِ، وَمَعْنَاهُ تَبَاطَأْتُمْ، وَعُدِّيَ بإلى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْمَيْلِ وَالْإِخْلَادِ

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: مِلْتُمْ إِلَى الْإِقَامَةِ بِأَرْضِكُمْ، وَالْبَقَاءِ فِيهَا، وَقُرِئَ آثَاقَلْتُمْ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَمَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مَا فِي مَا لَكُمْ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا يَمْنَعُكُمْ؟ أو ما تصنعون إذا قيل لكم؟ وإِلَى الْأَرْضِ متعلق باثاقلتم وَكَمَا مَرَّ. قَوْلُهُ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: بِنَعِيمِهَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ «1» أي: بدلا منكم، ومثله قول الشاعر: فليت لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طَهَيَانِ أَيْ: بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَالطَّهَيَانُ: عُودٌ يُنْصَبُ فِي نَاحِيَةِ الدَّارِ لِلْهَوَاءِ يعلق عليه لِيَبْرُدَ، وَمَعْنَى فِي الْآخِرَةِ أَيْ: فِي جَنْبِ الْآخِرَةِ، وَفِي مُقَابِلِهَا إِلَّا قَلِيلٌ أَيْ: إِلَّا مَتَاعٌ حَقِيرٌ لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَلِيلِ: الْعَدَمُ، إِذْ لَا نِسْبَةَ لِلْمُتَنَاهِي الزَّائِلِ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي الْبَاقِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّثَاقُلَ لَمْ يَصْدُرْ مِنَ الْكُلِّ، إِذْ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يُطْبِقُوا جَمِيعًا عَلَى التَّبَاطُؤِ وَالتَّثَاقُلِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ نِسْبَةِ مَا يَقَعُ مِنَ الْبَعْضِ إِلَى الْكُلِّ، وَهُوَ كَثِيرٌ شَائِعٌ. قَوْلُهُ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ مُؤَكَّدٌ لِمَنْ تَرَكَ النَّفِيرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً أَيْ: يُهْلِكْكُمْ بِعَذَابٍ شَدِيدٍ مُؤْلِمٍ قِيلَ: فِي الدُّنْيَا فَقَطْ، وَقِيلَ: هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أَيْ: يجعل لِرُسُلِهِ بَدَلًا مِنْكُمْ مِمَّنْ لَا يَتَبَاطَأُ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَنْ هُمْ. فَقِيلَ: أَهْلُ الْيَمَنِ، وَقِيلَ: أَهْلُ فَارِسَ، وَلَا وَجْهَ لِلتَّعْيِينِ بِدُونِ دَلِيلٍ. قَوْلُهُ: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً مَعْطُوفٌ عَلَى يَسْتَبْدِلْ، وَالضَّمِيرُ قِيلَ: لِلَّهِ، وَقِيلَ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: وَلَا تَضُرُّوا اللَّهَ بِتَرْكِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ بالنفير شيئا، أو تَضُرُّوا رَسُولَ اللَّهِ بِتَرْكِ نَصْرِهِ، وَالنَّفِيرِ مَعَهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ جُمْلَةِ مَقْدُورَاتِهِ تَعْذِيبُكُمْ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِكُمْ. قَوْلُهُ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ أَيْ: إِنْ تَرَكْتُمْ نصره فالله سيتكفل بِهِ، فَقَدْ نَصَرَهُ فِي مَوَاطِنِ الْقِلَّةِ، وَأَظْهَرَهُ عَلَى عَدُوِّهِ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ أَوْ فَسَيَنْصُرُهُ مَنْ نَصَرَهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَقْتَ إِخْرَاجِ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُ حَالَ كَوْنِهِ ثانِيَ اثْنَيْنِ أَيْ: أَحَدَ اثْنَيْنِ، وَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر الصديق رضي الله عنه. قرئ بِسُكُونِ الْيَاءِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: حَكَاهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَوَجْهُهَا أَنْ تُسَكَّنَ الْيَاءُ تشبيها لها بِالْأَلِفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهِيَ كَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ: ما بقي من الربا. وكقول جرير: هو الخليفة فارضوا ما رضي لَكُمْ ... مَاضِي الْعَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ قَوْلُهُ: إِذْ هُما فِي الْغارِ بَدَلٌ مِنْ إِذْ أَخْرَجَهُ بَدَلُ بَعْضٍ، وَالْغَارُ: ثُقْبٌ فِي الْجَبَلِ الْمُسَمَّى ثَوْرًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ بِغَارِ ثَوْرٍ، وَهُوَ جَبَلٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ، وَقِصَّةُ خُرُوجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَدُخُولِهِمَا الْغَارَ مَشْهُورَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالْحَدِيثِ. قَوْلُهُ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ بَدَلٌ ثَانٍ، أَيْ: وَقْتَ قَوْلِهِ لِأَبِي بَكْرٍ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أَيْ: دَعِ الْحُزْنَ فَإِنَّ اللَّهَ بِنَصْرِهِ وَعَوْنِهِ وَتَأْيِيدِهِ مَعَنَا، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَلَنْ يُغْلَبَ، وَمَنْ لَا يُغْلَبُ فَيَحِقُّ لَهُ أَنْ لَا يَحْزَنَ، قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ: تَسْكِينُ جَأْشِهِ وَتَأْمِينُهُ حَتَّى ذَهَبَ رَوْعُهُ وَحَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِ لأبي

_ (1) . الزخرف: 60.

بَكْرٍ وَقِيلَ: هُوَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّكِينَةِ النَّازِلَةِ عَلَيْهِ: عِصْمَتَهُ عَنْ حُصُولِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْخَوْفِ لَهُ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّمِيرُ فِي وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها فَإِنَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ الْمُؤَيَّدُ بِهَذِهِ الْجُنُودِ الَّتِي هِيَ الْمَلَائِكَةُ كَمَا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي رُجُوعِ الضَّمِيرِ مِنْ عَلَيْهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَمِنْ وَأَيَّدَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى أَي: كَلِمَةَ الشِّرْكِ، وَهِيَ دَعْوَتُهُمْ إِلَيْهِ، وَنِدَاؤُهُمْ لِلْأَصْنَامِ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَعْقُوبُ بِنَصْبِ كَلِمَةٍ حَمْلًا عَلَى جَعَلَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَدْ ضَعَّفَ قِرَاءَةَ النَّصْبِ الْفَرَّاءُ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَفِي ضَمِيرِ الْفَصْلِ، أَعْنِي: هِيَ تَأْكِيدٌ لِفَضْلِ كَلِمَتِهِ فِي الْعُلُوِّ وَأَنَّهَا الْمُخْتَصَّةُ بِهِ دُونَ غَيْرِهَا، وَكَلِمَةُ اللَّهِ: هِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ: غَالِبٌ قَاهِرٌ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا فِيهِ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، ثُمَّ لَمَّا تَوَّعَدَ مَنْ لَمْ يَنْفِرْ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَرَبَ لَهُ مِنَ الْأَمْثَالِ مَا ذَكَرَهُ عَقَّبَهُ بِالْأَمْرِ الْجَزْمِ فَقَالَ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا أَيْ: حَالَ كَوْنِكُمْ خِفَافًا وَثِقَالًا، قِيلَ: الْمُرَادُ مُنْفَرِدِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَقِيلَ: نَشَاطًا وَغَيْرَ نَشَاطٍ، وَقِيلَ: فُقَرَاءَ وَأَغْنِيَاءَ، وَقِيلَ: شَبَابًا وَشُيُوخًا، وَقِيلَ: رِجَالًا وَفِرْسَانًا، وَقِيلَ: مَنْ لَا عِيَالَ لَهُ وَمَنْ لَهُ عِيَالٌ وَقِيلَ: مَنْ يَسْبِقُ إِلَى الْحَرْبِ كَالطَّلَائِعِ، وَمَنْ يَتَأَخَّرُ كَالْجَيْشِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: انْفِرُوا خَفَّتْ عَلَيْكُمُ الْحَرَكَةُ أَوْ ثَقُلَتْ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى، وَقِيلَ: النَّاسِخُ لَهَا قَوْلُهُ فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ الْآيَةَ، وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، وَيَكُونُ إِخْرَاجُ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ بِقَوْلِهِ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ «1» وَإِخْرَاجُ الضَّعِيفِ وَالْمَرِيضِ بِقَوْلِهِ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ، لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ عَلَى فَرْضِ دُخُولِ هَؤُلَاءِ تَحْتَ قَوْلِهِ: خِفافاً وَثِقالًا وَالظَّاهِرُ عَدَمُ دُخُولِهِمْ تَحْتَ الْعُمُومِ. قَوْلُهُ: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ بِالْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَإِيجَابُهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَالْفُقَرَاءُ يُجَاهِدُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَالْأَغْنِيَاءُ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. وَالْجِهَادُ مِنْ آكَدِ الْفَرَائِضِ وَأَعْظَمِهَا، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ مَهْمَا كَانَ الْبَعْضُ يَقُومُ بِجِهَادِ الْعَدُوِّ وَبِدَفْعِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقُومُ بِالْعَدُوِّ إِلَّا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِي قُطْرٍ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ أَقْطَارٍ وَجَبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وُجُوبَ عَيْنٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالنَّفِيرِ وَالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: خَيْرٌ عَظِيمٌ فِي نَفْسِهِ، وَخَيْرٌ مِنَ السُّكُونِ وَالدَّعَةِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَتَعْرِفُونَ الْأَشْيَاءَ الْفَاضِلَةَ وَتُمَيِّزُونَهَا عَنِ الْمَفْضُولَةِ. قَوْلُهُ: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْ كَانَ الْمَدْعُوُّ إِلَيْهِ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَالْعَرَضُ: مَا يَعْرِضُ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى: غَنِيمَةٌ قَرِيبَةٌ غَيْرُ بَعِيدَةٍ وَسَفَراً قاصِداً عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: سَفَرًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَكُلُّ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فَهُوَ قَاصِدٌ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الشُّقَّةَ السَّفَرُ إِلَى أَرْضٍ بَعِيدَةٍ، يُقَالُ مِنْهُ: شُقَّةٌ شَاقَّةٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشُّقَّةُ بِالضَّمِّ مِنَ الثِّيَابِ، وَالشُّقَّةُ أَيْضًا: السفر البعيد، وربما قالوه بالكسر، والمراد بهذه غَزْوَةُ تَبُوكَ فَإِنَّهَا كَانَتْ سَفْرَةً بَعِيدَةً شَاقَّةً،

_ (1) . الفتح: 17.

وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالشِّينِ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أَيِ: الْمُتَخَلِّفُونَ عن غزوة تبوك حال كونهم قَائِلِينَ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ أَيْ: لَوْ قَدَرْنَا عَلَى الْخُرُوجِ وَوَجَدْنَا مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ لَخَرَجْنا مَعَكُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ سَادَّةٌ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَالشَّرْطِ. قَوْلُهُ: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: سَيَحْلِفُونَ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ كَاذِبًا فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ، أَوْ يَكُونُ حَالًا: أَيْ مُهْلِكِينَ أَنْفُسَهُمْ، مُوقِعِينَ لَهَا مَوْقِعَ الْهَلَاكِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فِي حَلِفِهِمُ الَّذِي سَيَحْلِفُونَ بِهِ لَكُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ في قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا حِينَ أُمِرُوا بِغَزْوَةِ تَبُوكَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَحِينَ أَمَرَهُمْ بِالنَّفِيرِ فِي الصَّيْفِ، وَحِينَ خَرَفَتِ النَّخْلُ، وَطَابَتِ الثِّمَارُ، وَاشْتَهَوُا الظِّلَالَ، وَشَقَّ عَلَيْهِمُ الْمَخْرَجُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَنْفَرَ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَتَثَاقَلُوا عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَأَمْسَكَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ، فَكَانَ ذَلِكَ عَذَابَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَقَدْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ أُنَاسٌ فِي الْبَدْوِ يُفَقِّهُونَ قَوْمَهُمْ، فَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: قَدْ بَقِيَ نَاسٌ فِي الْبَوَادِي، وَقَالُوا هَلَكَ أَصْحَابُ الْبَوَادِي، فَنَزَلَتْ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِلَّا تَنْفِرُوا الْآيَةَ قَالَ: نَسَخَتْهَا وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ قَالَ: ذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ أَوَّلِ شَأْنِهِ حِينَ بُعِثَ، يَقُولُ: فَأَنَا فَاعِلٌ ذَلِكَ بِهِ، وَنَاصِرُهُ كَمَا نَصَرْتُهُ إِذْ ذَاكَ وَهُوَ ثَانِي اثْنَيْنِ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَعُرْوَةَ: أَنَّهُمْ رَكِبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ يَطْلُبُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثُوا إِلَى أَهْلِ الْمِيَاهِ يَأْمُرُونَهُمْ ويجعلون لهم الجعل الْعَظِيمَ، وَأَتَوْا عَلَى ثَوْرٍ: الْجَبَلِ الَّذِي فِيهِ الْغَارُ، وَالَّذِي فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى طَلَعُوا فَوْقَهُ، وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ أَصْوَاتَهُمْ، فَأَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْهَمُّ وَالْخَوْفُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ مِنَ اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ حَبَشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَفَعَ قَدَمَهُ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِذْ هُما فِي الْغارِ قَالَ: هُوَ الْغَارُ الَّذِي فِي الْجَبَلِ الَّذِي يُسَمَّى ثَوْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قَالَ: عَلَى أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَزَلْ مَعَهُ السَّكِينَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم وأبو

[سورة التوبة (9) : الآيات 43 إلى 49]

بكر غار ثور، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يُبْصِرُ مَوْضِعَ قَدَمِهِ لَأَبْصَرَنِي وَإِيَّاكَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ؟! إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَيْكَ وَأَيَّدَنِي بِجُنُودٍ لَمْ يَرَوْهَا» . وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قَالَ: عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى قَالَ: هِيَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي الضُّحَى قَالَ: أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مِنْ بَرَاءَةٌ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا ثُمَّ نَزَلَ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خِفافاً وَثِقالًا قَالَ: نَشَاطًا وَغَيْرَ نَشَاطٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَكَمِ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَشَاغِيلَ وَغَيْرَ مَشَاغِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: فِتْيَانًا وَكُهُولًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: شَبَابًا وشيوخا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالُوا إِنَّ فِينَا الثَّقِيلَ وَذَا الْحَاجَةِ وَالضَّيْعَةِ وَالشُّغْلِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَأَبَى أَنْ يَعْذِرَهُمْ دُونَ أَنْ يَنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا، وَعَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السدي قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ زَعَمُوا أَنَّهُ الْمِقْدَادُ، وَكَانَ عَظِيمًا سَمِينًا، فَشَكَا إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فَأَبَى، فَنَزَلَتْ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ شَأْنُهَا فَنَسَخَهَا اللَّهُ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: أَلَا تَغْزُو بَنِي الْأَصْفَرِ لَعَلَّكَ أَنْ تُصِيبَ ابْنَةَ عَظِيمِ الرُّومِ؟ فَقَالَ رَجُلَانِ: قَدْ عَلِمْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَّ النِّسَاءَ فِتْنَةٌ فَلَا تَفْتِنَّا بِهِنَّ فَأْذَنْ لَنَا، فأذن لهما، فلما انطلقا قَالَ أَحَدُهُمَا: إِنْ هُوَ إِلَّا شَحْمَةٌ لِأَوَّلِ آكِلٍ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ، فلما كان ببعض الطريق نزل عليه وهو على بعض المياه لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَنَزَلَ عَلَيْهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ وَنَزَلَ عَلَيْهِ: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَنَزَلَ عَلَيْهِ: إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً قَالَ: غَنِيمَةً قَرِيبَةً، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ قَالَ: الْمَسِيرُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قتادة قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ قَالَ: لَقَدْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ، وَلَكِنْ كَانَ تَبْطِئَةً مِنْ عند أنفسهم، وزهادة في الجهاد. [سورة التوبة (9) : الآيات 43 الى 49] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)

الِاسْتِفْهَامُ فِي: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ لِلْإِنْكَارِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ وَقَعَ مِنْهُ الإذن لِمَنِ اسْتَأْذَنَهُ فِي الْقُعُودِ، قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ مَنْ هُوَ صَادِقٌ مِنْهُمْ فِي عُذْرِهِ الَّذِي أَبْدَاهُ، وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ فِيهِ. وَفِي ذِكْرِ الْعَفْوِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِذْنَ الصَّادِرَ مِنْهُ كَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَفِي هَذَا عِتَابٌ لَطِيفٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا عِتَابٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِذْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ، لَا فِي إِذْنِهِ لَهُمْ بِالْقُعُودِ عَنِ الْخُرُوجِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَدْ رَخَّصَ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ النُّورِ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «1» وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِأَنَّ الْعِتَابَ هنا متوجّه إِلَى الْإِذْنِ قَبْلَ الِاسْتِثْبَاتِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ، وَالْإِذْنَ هُنَالِكَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْإِذْنِ بَعْدَ الِاسْتِثْبَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ هِيَ افْتِتَاحُ كَلَامٍ كَمَا تَقُولُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، وَأَعَزَّكَ، وَرَحِمَكَ، كَيْفَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَكَذَا حَكَاهُ مَكِّيٌّ وَالنَّحَّاسُ وَالْمَهْدَوِيُّ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ لَا يَحْسُنُ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ عَلَى حَسَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا وَجْهَ لِإِخْرَاجِهِ عَنْ مَعْنَاهُ الْعَرَبِيِّ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُدَوَّنَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَفِيهَا أَيْضًا: دَلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْعَجَلَةِ وَالِاغْتِرَارِ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ، وحَتَّى فِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا للغاية، كأنه قيل: لم سَارَعْتَ إِلَى الْإِذْنِ لَهُمْ؟ وَهَلَّا تَأَنَّيْتَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ صِدْقُ مَنْ هُوَ صَادِقٌ مِنْهُمْ فِي الْعُذْرِ الَّذِي أَبْدَاهُ، وَكَذِبُ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ؟ ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ، بَلْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَذِنَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقُعُودِ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ. فَقَالَ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا وَهَذَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنْ لَا يُجَاهِدُوا، عَلَى حَذْفِ حَرْفِ النَّفْيِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الْمُؤْمِنُونَ فِي التَّخَلُّفِ كَرَاهَةَ الْجِهَادِ وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الِاسْتِئْذَانِ فِي الشَّيْءِ الْكَرَاهَةُ لَهُ، وَأَمَّا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْجِهَادِ بَلْ دَأْبُهُمْ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَلَا ارْتِقَابٍ مِنْهُمْ لِوُقُوعِ الْإِذْنِ مِنْكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوكَ فِي التَّخَلُّفِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْ يُجَاهِدُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ فِي: أَيْ فِي أَنْ يُجَاهِدُوا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ وَهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَأْذِنُوا إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ، وَالتَّخَلُّفِ عَنْهُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَذَكَرَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ثَانِيًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، لِأَنَّهُمَا الْبَاعِثَانِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَجَاءَ بِالْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِ الرَّيْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهُوَ الشَّكُّ. قَوْلُهُ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ أي: في شكهم الذي

_ (1) . النور: 62.

حَلَّ بِقُلُوبِهِمْ يَتَحَيَّرُونَ، وَالتَّرَدُّدُ: التَّحَيُّرُ. وَالْمَعْنَى: فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُوكَ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ بَلْ مُرْتَابِينَ حَائِرِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ، وَلَا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ. قَوْلُهُ وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً أَيْ: لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيمَا يَدَّعُونَهُ- وَيُخْبِرُونَكَ بِهِ- مِنْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْجِهَادَ مَعَكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الْعُدَّةِ لِلْجِهَادِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، لَمَا تَرَكُوا إِعْدَادَ الْعُدَّةِ، وَتَحْصِيلَهَا قَبْلَ وَقْتِ الْجِهَادِ كَمَا يَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ المؤمنون، فمعنى هذا الكلام: أنهم لم يريدوا الْخُرُوجَ أَصْلًا، وَلَا اسْتَعَدُّوا لِلْغَزْوِ. وَالْعُدَّةُ: مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُجَاهِدُ مِنَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَالسِّلَاحِ. قَوْلُهُ: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أَيْ: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ خُرُوجَهُمْ، فَتَثَبَّطُوا عَنِ الْخُرُوجِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: مَا خَرَجُوا وَلَكِنْ تَثَبَّطُوا، لِأَنَّ كَرَاهَةَ اللَّهِ انْبِعَاثَهُمْ تَسْتَلْزِمُ تَثَبُّطَهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ، وَالِانْبِعَاثُ: الْخُرُوجُ، أَيْ: حَبَسَهُمُ اللَّهُ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَكَ وَخَذَلَهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَنَا فِي الْجُلُوسِ أَفْسَدْنَا وَحَرَّضْنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، وَلَكِنْ مَا أَرَادُوهُ لِكَرَاهَةِ اللَّهِ لَهُ قَوْلُهُ: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ قِيلَ: الْقَائِلُ لَهُمْ هو الشيطان بما يلقيه إليه مِنَ الْوَسْوَسَةِ، وَقِيلَ: قَالَهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَقِيلَ: قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخِذْلَانِ، أَيْ: أَوْقَعَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْقُعُودَ خِذْلَانًا لَهُمْ. وَمَعْنَى مَعَ الْقاعِدِينَ أَيْ: مَعَ أُولِي الضَّرَرِ مِنَ الْعُمْيَانِ وَالْمَرْضَى، وَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَفِيهِ من الذمّ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّنَقُّصِ بِهِمْ مَا لَا يَخْفَى. قوله: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَخَلُّفِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْخَبَالُ: الْفَسَادُ وَالنَّمِيمَةُ، وَإِيقَاعُ الِاخْتِلَافِ، وَالْأَرَاجِيفِ. قِيلَ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ أَيْ مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً، وَلَكِنْ طَلَبُوا الْخَبَالَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا يَزِيدُونَكُمْ فِيمَا تَرَدَّدُونَ فِيهِ مِنَ الرَّأْيِ إِلَّا خَبَالًا، فَيَكُونُ مُتَّصِلًا وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، أَيْ: مَا زَادُوكُمْ شَيْئًا إِلَّا خَبَالًا، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قِسْمِ الْمُتَّصِلِ، لِأَنَّ الْخَبَالَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ. قَوْلُهُ: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ الْإِيضَاعُ: سُرْعَةُ السَّيْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ يُقَالُ أَوْضَعَ الْبَعِيرُ: إِذَا أَسْرَعَ السَّيْرَ، وَقِيلَ الْإِيضَاعُ: سَيْرُ الْخَبَبِ، وَالْخَلَلُ: الْفُرْجَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالْجَمْعُ الْخِلَالُ أَيِ: الْفُرَجُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الصُّفُوفِ. وَالْمَعْنَى: لَسَعَوْا بَيْنَكُمْ بِالْإِفْسَادِ بِمَا يَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الْأَكَاذِيبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْإِرْجَافِ، وَالنَّمَائِمِ الْمُوجِبَةِ لِفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ. قَوْلُهُ: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يُقَالُ بَغَيْتُهُ كَذَا: طَلَبْتُهُ لَهُ، وَأَبْغَيْتُهُ كَذَا: أَعَنْتُهُ عَلَى طَلَبِهِ. وَالْمَعْنَى: يَطْلُبُونَ لَكُمُ الْفِتْنَةَ فِي ذَاتِ بَيْنِكُمْ بِمَا يَصْنَعُونَهُ مِنَ التَّحْرِيشِ وَالْإِفْسَادِ وَقِيلَ: الْفِتْنَةُ هُنَا: الشِّرْكُ. وَجُمْلَةُ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ مَا يَقُولُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ فَيَنْقُلُهُ إِلَيْكُمْ، فَيَتَأَثَّرُ مِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَكُمْ، وَالْفَسَادُ لِإِخْوَانِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَبِمَا يَحْدُثُ مِنْهُمْ لَوْ خَرَجُوا مَعَكُمْ، فَلِذَلِكَ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ أَنْ لَا يَخْرُجُوا مَعَكُمْ، وَكَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ مَعَكُمْ وَلَا يُنَافِي حَالُهُمْ هَذَا لَوْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما تَقَدَّمَ مِنْ عِتَابِهِ عَلَى الْإِذْنِ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ، لِأَنَّهُ سَارَعَ إِلَى الْإِذْنِ لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ لَوْ خَرَجُوا أنهم

يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ، فَعُوتِبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَسَرُّعِهِ إِلَى الْإِذْنِ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ الصَّادِقَ مِنْهُمْ فِي عُذْرِهِ مِنَ الْكَاذِبِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً الْآيَةَ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ إِلَى قَوْلِهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا «1» . قَوْلُهُ: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أَيْ: لَقَدْ طَلَبُوا الْإِفْسَادَ، وَالْخَبَالَ، وَتَفْرِيقَ كَلِمَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَشْتِيتَ شَمْلِهِمْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ الَّتِي تَخَلَّفُوا عَنْكَ فِيهَا. كَمَا وَقَعَ مِنْ عَبْدِ الله ابن أُبَيٍّ وَغَيْرِهِ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. قَوْلُهُ: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أَيْ: صَرَفُوهَا مِنْ أَمْرٍ إِلَى أَمْرٍ، وَدَبَّرُوا لَكَ الْحِيَلَ وَالْمَكَائِدَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: «حُوَّلٌ قُلَّبٌ» إِذَا كَانَ دَائِرًا حَوْلَ الْمَكَائِدِ وَالْحِيَلِ يُدِيرُ الرَّأْيَ فِيهَا وَيَتَدَبَّرُهُ. وَقُرِئَ وَقَلَّبُوا بِالتَّخْفِيفِ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ أَيْ: إِلَى غَايَةٍ هِيَ مَجِيءُ الْحَقِّ، وَهُوَ النَّصْرُ لَكَ وَالتَّأْيِيدُ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ بِإِعْزَازِ دينه، وإعلاء شَرْعِهِ، وَقَهْرِ أَعْدَائِهِ وَقِيلَ: الْحَقُّ: الْقُرْآنُ، وَهُمْ كارِهُونَ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ كَارِهُونَ لِمَجِيءِ الْحَقِّ، وَظُهُورِ أَمْرِ اللَّهِ، وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى رُغْمٍ مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ أَيْ: مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْذَنْ لِي فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ وَلا تَفْتِنِّي أَيْ: لَا تُوقِعْنِي فِي الْفِتْنَةِ: أَيِ الْإِثْمِ إِذَا لَمْ تَأْذَنْ لِي، فَتَخَلَّفْتُ بِغَيْرِ إِذْنِكَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تُوقِعْنِي فِي الْهَلَكَةِ بِالْخُرُوجِ أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أَيْ: فِي نَفْسِ الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، وَهِيَ فِتْنَةُ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، وَالِاعْتِذَارِ الْبَاطِلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ظَنُّوا: أَنَّهُمْ بِالْخُرُوجِ أَوْ بِتَرْكِ الْإِذْنِ لَهُمْ يَقَعُونَ فِي الْفِتْنَةِ، وَهُمْ بِهَذَا التَّخَلُّفِ سَقَطُوا فِي الْفِتْنَةِ الْعَظِيمَةِ. وَفِي التَّعْبِيرِ بِالسُّقُوطِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ وَقَعُوا فِيهَا، وُقُوعَ مَنْ يَهْوِي مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، وَذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّخُولِ فِي الْفِتْنَةِ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أَيْ: مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، لَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَخْلَصًا، وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: اثْنَتَانِ فَعَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِمَا بِشَيْءٍ: إِذْنُهُ لِلْمُنَافِقِينَ، وَأَخْذُهُ مِنَ الْأُسَارَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُمْ بِمُعَاتِبَةٍ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا؟ بَدَأَ بِالْعَفْوِ قَبْلَ الْمُعَاتَبَةِ، فَقَالَ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ الْآيَةَ، قَالَ: نَاسٌ قَالُوا: اسْتَأْذِنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ أَذِنَ لَكُمْ فَاقْعُدُوا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ فَاقْعُدُوا. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الثَّلَاثَ الْآيَاتِ، قَالَ: نَسَخَهَا: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الْآيَةَ، قَالَ: هذا تعبير لِلْمُنَافِقِينَ حِينَ اسْتَأْذَنُوا فِي الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَعَذَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ أيضا في قوله: لا يَسْتَأْذِنُكَ

_ (1) . الفتح: 15. (2) . النور: 62.

[سورة التوبة (9) : الآيات 50 إلى 57]

الْآيَتَيْنِ قَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» فَجَعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْلَى النَّظَرَيْنِ فِي ذَلِكَ، مَنْ غَزَا غَزَا فِي فَضِيلَةٍ، وَمَنْ قَعَدَ قَعَدَ فِي غَيْرِ حَرَجٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ قَالَ: خُرُوجَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَثَبَّطَهُمْ قَالَ: حَبَسَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ فِي قوله: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ قَالَ: لَأَسْرَعُوا بَيْنَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ قَالَ: لأوفضوا يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يُبَطِّئُونَكُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ تَابُوتَ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ مُحَدِّثُونَ لَهُمْ بِأَحَادِيثِكُمْ غَيْرُ مُنَافِقِينَ، وَهُمْ عُيُونٌ لِلْمُنَافِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ لِجَدِّ بْنِ قَيْسٍ: يَا جَدُّ بْنَ قَيْسٍ مَا تَقُولُ فِي مُجَاهَدَةِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي امْرُؤٌ صَاحِبُ نِسَاءٍ، وَمَتَى أَرَى نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَفْتَتِنُ، فَأْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَفْتِنِّي قَالَ: لَا تُخْرِجْنِي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا يَعْنِي: فِي الْخُرُوجِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ وَلا تَفْتِنِّي قَالَ: لَا تُؤَثِّمْنِي أَلا فِي الْفِتْنَةِ قَالَ: أَلَا فِي الْإِثْمِ، وَقِصَّةُ تَبُوكَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ، فَلَا نُطَوِّلُ بذكرها. [سورة التوبة (9) : الآيات 50 الى 57] إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) قَوْلُهُ: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ أَيُّ حَسَنَةٍ كَانَتْ، بِأَيِّ سَبَبٍ اتَّفَقَ، كَمَا يُفِيدُهُ وُقُوعُهَا فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ،

_ (1) . النور: 62.

وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْمُصِيبَةِ، وَتَدْخُلُ الْحَسَنَةُ وَالْمُصِيبَةُ الْكَائِنَةُ فِي الْقِتَالِ كَمَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَصْدُقُ عَلَيْهِ الْحَسَنَةُ: الْغَنِيمَةُ وَالظَّفَرُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَصْدُقُ عَلَيْهِ الْمُصِيبَةُ: الْخَيْبَةُ وَالِانْهِزَامُ، وَهَذَا ذِكْرُ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ خُبْثِ ضَمَائِرِ الْمُنَافِقِينَ وَسُوءِ أَفْعَالِهِمْ، وَالْإِخْبَارِ بِعَظِيمِ عَدَاوَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْمُسَاءَةَ بِالْحَسَنَةِ، وَالْفَرَحَ بِالْمُصِيبَةِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْعَدَاوَةِ قَدْ بَلَغُوا إِلَى الْغَايَةِ، وَمَعْنَى: يَتَوَلَّوْا يرجعوا إِلَى أَهْلِهِمْ عَنْ مَقَامَاتِ الِاجْتِمَاعِ وَمُوَاطِنِ التَّحَدُّثِ حَالَ كَوْنِهِمْ فَرِحِينَ بِالْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ أَيِ: احْتَطْنَا لِأَنْفُسِنَا، وَأَخَذْنَا بِالْحَزْمِ، فَلَمْ نَخْرُجْ إِلَى الْقِتَالِ كَمَا خَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى نَالَهُمْ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْمُصِيبَةِ، ثُمَّ لَمَّا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا أَيْ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْنَا، وَفَائِدَةُ هَذَا الْجَوَابِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ كَائِنٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَا نَالَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِنَّمَا هُوَ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ، وَلَمْ يَجِدْ مَرَارَةَ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ، وَتَشَفِّي الْحَسَدَةِ هُوَ مَوْلانا أَيْ: نَاصِرُنَا، وَجَاعِلُ الْعَاقِبَةِ لَنَا، وَمُظْهِرٌ دِينَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ: تَفْوِيضُ الْأُمُورِ إِلَيْهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْعَلُوا تَوَكُّلَهُمْ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا يَتَوَكَّلُونَ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ يُصَيِّبَنَا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ أَعْيَنُ قَاضِي الرَّيِّ يُصِيبَنَّا بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ، وَهُوَ لَحْنٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يُؤَكَّدُ، وَرُدَّ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تعالى: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ «1» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَا يُصِيبُنَا إِلَّا مَا اخْتَصَّنَا اللَّهُ مِنَ النُّصْرَةِ عَلَيْكُمْ أَوِ الشَّهَادَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ تَكْرِيرًا لِغَرَضِ التَّأْكِيدِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَوَابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِهِمَا مُفِيدًا لِفَائِدَةٍ غَيْرِ فَائِدَةِ الْآخَرِ، وَالتَّأْسِيسُ خَيْرٌ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَمَعْنَى: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ هَلْ تَنْتَظِرُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْخَصْلَتَيْنِ الْحُسْنَيَيْنِ؟ إِمَّا النُّصْرَةُ أَوِ الشَّهَادَةُ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا يَحْسُنُ لَدَيْنَا، وَالْحُسْنَى: تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ إِحْدَى الْمَسَاءَتَيْنِ لَكُمْ: إِمَّا أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَيْ: قَارِعَةٍ نَازِلَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابِهِ، أَوْ بِعَذَابٍ لَكُمْ بِأَيْدِينا أَيْ: بِإِظْهَارِ اللَّهِ لَنَا عَلَيْكُمْ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ وَالسَّبْيِ. وَالْفَاءُ فِي: فَتَرَبَّصُوا، فَصِيحَةٌ، وَالْأَمْرُ لِلتَّهْدِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «2» أَيْ: تَرَبَّصُوا بِنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَاقِبَتِنَا، فَنَحْنُ مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ مَا هُوَ عَاقِبَتُكُمْ، فَسَتَنْظُرُونَ عِنْدَ ذَلِكَ مَا يَسُرُّنَا وَيَسُوءُكُمْ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ وَابْنُ فُلَيْحٍ: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِإِظْهَارِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي التَّاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِإِظْهَارِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ التَّاءِ. قَوْلُهُ: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ هَذَا الْأَمْرُ مَعْنَاهُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُهُمْ بِمَا لَا يَتَقَبَّلُهُ مِنْهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ أَنْفَقْتُمْ طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ فَلَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ، أَيْ: أَنْفَقْتُمْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَفِيهِ الْإِشْعَارُ بِتَسَاوِي الْأَمْرَيْنِ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ، وَانْتِصَابُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا: عَلَى الْحَالِ، فَهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْقِعِ الْمُشْتَقَّيْنِ، أَيْ: أَنْفِقُوا طَائِعِينَ من غَيْرِ أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ مُكْرَهِينَ

_ (1) . الحج: 15. (2) . الدخان: 49. [.....]

بِأَمْرٍ مِنْهُمَا، وَسُمِّيَ الْأَمْرُ مِنْهُمَا: إِكْرَاهًا لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ لَا يَأْتَمِرُونَ بِالْأَمْرِ، فَكَانُوا بِأَمْرِهِمُ الَّذِي لَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ كَالْمُكْرَهِينَ عَلَى الْإِنْفَاقِ، أَوْ طَائِعِينَ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ مِنْ رُؤَسَائِكُمْ أَوْ مُكْرَهِينَ مِنْهُمْ، وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ قَبُولِ إِنْفَاقِهِمْ، وَالْفِسْقُ: التَّمَرُّدُ وَالْعُتُوُّ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ لُغَةً وَشَرْعًا ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ السَّبَبَ الْمَانِعَ مِنْ قَبُولِ نَفَقَاتِهِمْ فَقَالَ: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ أَيْ: كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ جَعَلَ الْمَانِعَ مِنَ الْقَبُولِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: الْكُفْرُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْكَسَلِ وَالتَّثَاقُلِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ ثَوَابًا وَلَا يَخَافُونَ عقابا فصلاتهم ليست إلا رياء للناس، وتظهرا بِالْإِسْلَامِ الَّذِي يُبْطِنُونَ خِلَافَهُ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ، وَلَا يُنْفِقُونَهَا طَوْعًا لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ إِنْفَاقَهَا وَضْعًا لَهَا فِي مَضْيَعَةٍ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَوْلُهُ: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ الْإِعْجَابُ بِالشَّيْءِ: أَنْ يُسَرَّ بِهِ سُرُورًا رَاضٍ بِهِ مُتَعَجِّبٌ مِنْ حُسْنِهِ، قِيلَ: مَعَ نَوْعٍ مِنَ الِافْتِخَارِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مَا يُسَاوِيهِ وَالْمَعْنَى: لَا تَسْتَحْسِنْ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بِمَا يَحْصُلُ مَعَهُمْ مِنَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ عِنْدَ أَنْ يَغْنَمَهَا الْمُسْلِمُونَ وَيَأْخُذُوهَا قَسْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ مَعَ كَوْنِهَا زِينَةَ حَيَاتِهِمْ وَقُرَّةَ أَعْيُنِهِمْ، وَكَذَا فِي الْآخِرَةِ يُعَذِّبُهُمْ بِعَذَابِ النَّارِ بِسَبَبِ عَدَمِ الشُّكْرِ لِرَبِّهِمُ الَّذِي أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ، وَتَرْكِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَالتَّصَدُّقِ بِمَا يَحِقُّ التَّصَدُّقُ بِهِ، وَقِيلَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، فَهُمْ يُنْفِقُونَ كَارِهِينَ فَيُعَذَّبُونَ بِمَا يُنْفِقُونَ. قَوْلُهُ: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ الزُّهُوقُ: الْخُرُوجُ بِصُعُوبَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ، وَتَخْرُجَ أَرْوَاحُهُمْ حَالَ كُفْرِهِمْ، لِعَدَمِ قَبُولِهِمْ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَأُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَتَمَادِيهِمْ فِي الضَّلَالَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ قَبَائِحِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أَيْ: مِنْ جُمْلَتِكُمْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَما هُمْ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِمُجَرَّدِ ظَوَاهِرِهِمْ دُونَ بَوَاطِنِهِمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ أَيْ: يَخَافُونَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلْ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، فَيُظْهِرُونَ لَكُمُ الْإِسْلَامَ تَقِيَّةً مِنْهُمْ، لَا عَنْ حَقِيقَةٍ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً يَلْتَجِئُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْفَظُونَ نُفُوسَهُمْ فِيهِ مِنْكُمْ مِنْ حِصْنٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ مَغاراتٍ: جَمْعُ مَغَارَةٍ، مِنْ غَارَ يَغِيرُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ: أَغَارَ يُغِيرُ، وَالْمَغَارَاتُ: الْغِيرَانُ وَالسَّرَادِيبُ، وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي يَسْتَتِرُ فِيهَا، وَمِنْهُ غَارَ الْمَاءُ وَغَارَتِ الْعَيْنُ وَالْمَعْنَى: لَوْ وَجَدُوا أَمْكِنَةً يُغَيِّبُونَ فِيهَا أَشْخَاصَهُمْ هَرَبًا مِنْكُمْ أَوْ مُدَّخَلًا مِنَ الدُّخُولِ، أَيْ: مَكَانًا يَدْخُلُونَ فِيهِ مِنَ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَغَارَاتٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْأَصْلُ فِيهِ مُتْدَخَلٌ قُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مُدْتَخَلٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ متدخلا وروي عنه أنه مُنْدَخَلًا بِالنُّونِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَوْ مَدْخَلًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيُقْرَأُ أَوْ مُدْخَلًا بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مَعَ ضَمِّ الْمِيمِ لَوَلَّوْا إِلَيْهِ أَيْ: لَالْتَجَئُوا إليه وأدخلوا أنفسهم فيه وَالحال أن هُمْ يَجْمَحُونَ أَيْ: يُسْرِعُونَ إِسْرَاعًا لَا يَرُدُّهُمْ شَيْءٌ، من جمع الْفَرَسُ: إِذَا لَمْ

[سورة التوبة (9) : الآيات 58 إلى 60]

يردّه اللجام، ومنه قول الشاعر: سبوحا جموحا وَإِحْضَارُهَا ... كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ الْمُوقَدِ وَالْمَعْنَى: لَوْ وَجَدُوا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ لَوَلَّوْا إِلَيْهِ مُسْرِعِينَ هَرَبًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَعَلَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِالْمَدِينَةِ يُخْبِرُونَ عن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَخْبَارَ السَّوْءِ، يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ قَدْ جُهِدُوا فِي سَفَرِهِمْ وَهَلَكُوا، فَبَلَغَهُمْ تَكْذِيبُ حديثهم وعافية النبيّ وَأَصْحَابِهِ، فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ سُنَيْدٌ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ يَقُولُ: إِنْ يُصِبْكَ فِي سَفَرِكَ هَذِهِ الْغَزْوَةَ تَبُوكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ قَالَ: الْجَدُّ وَأَصْحَابُهُ، يَعْنِي الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا قَالَ: إِلَّا مَا قَضَى اللَّهُ لَنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ قَالَ: فَتْحٌ أَوْ شَهَادَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ أَوْ بِأَيْدِينا قَالَ: الْقَتْلُ بِالسُّيُوفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ: إِنِّي إِذَا رَأَيْتُ النِّسَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى أَفْتَتِنَ، وَلَكِنْ أُعِينُكَ بِمَالِي، قَالَ: فَفِيهِ نَزَلَتْ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ قَالَ: هَذِهِ مِنْ تَقَادِيمِ الْكَلَامِ، يقول: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ قَالَ: تَزْهَقُ أَنْفُسُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ كافِرُونَ قَالَ: هَذِهِ آيَةٌ فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ فَلا تُعْجِبْكَ يقول: لا يغررك وَتَزْهَقَ قَالَ: تَخْرُجُ أَنْفُسُهُمْ، قَالَ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ كَافِرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً الْآيَةَ قَالَ: الْمَلْجَأُ: الْحِرْزُ فِي الْجِبَالِ، وَالْمَغَارَاتُ: الْغِيرَانُ، وَالْمُدَّخَلُ: السِّرْبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ وَهُمْ يَجْمَحُونَ قَالَ: يُسْرِعُونَ. [سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 60] وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ هَذَا ذِكْرُ نوع آخر من قبائحهم، يقال: لمزه يَلْمِزُهُ إِذَا عَابَهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اللَّمْزُ الْعَيْبُ، وَأَصْلُهُ الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ لَمَزَهُ يَلْمَزُهُ وَيَلْمِزُهُ، وَرَجُلٌ لَمَّازٌ، وَلُمَزَةٌ:

أَيْ عَيَّابٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمَزْتُ الرَّجُلَ أَلْمِزُهُ وَأَلْمُزُهُ، بِكَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا: إِذَا عِبْتُهُ، وَكَذَا هَمَزْتُهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَعِيبُكَ فِي الصَّدَقَاتِ أَيْ: فِي تَفْرِيقِهَا وَقِسْمَتِهَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى يَلْمِزُكَ: يَرْزَؤُكَ وَيَسْأَلُكَ، وَالْقَوْلُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا قَالَ النَّحَّاسُ. وَقُرَئَ يَلْمُزُكَ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَيُلَمِّزُكَ بِكَسْرِهَا مَعَ التَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا مُخَفَّفَةً، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها أَيْ: مِنَ الصَّدَقَاتِ بِقَدْرِ مَا يُرِيدُونَ رَضُوا بِمَا وَقَعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعِيبُوهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا مَقْصِدَ لَهُمْ إِلَّا حُطَامُ الدُّنْيَا، وَلَيْسُوا مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها أَيْ: مِنَ الصَّدَقَاتِ مَا يُرِيدُونَهُ وَيَطْلُبُونَهُ إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ أَيْ: وإن لم يعطوا فاجؤوا السخط، وفائدة إذا الفجائية أن الشرط مفاجىء لِلْجَزَاءِ وَهَاجِمٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَابَتْ إِذَا الْفُجَائِيَّةُ مَنَابَ فَاءِ الْجَزَاءِ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَيْ: مَا فَرَضَهُ اللَّهُ لَهُمْ، وَمَا أَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فَإِنَّ فِيمَا أَعْطَاهُمُ الْخَيْرَ الْعَاجِلَ وَالْآجِلَ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ أَيْ: قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ عِنْدَ أَنْ أَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ لَهُمْ، أَيْ: كَفَانَا اللَّهُ، سَيُعْطِينَا مِنْ فَضْلِهِ، وَيُعْطِينَا رَسُولُهُ بَعْدَ هَذَا مَا نَرْجُوهُ وَنُؤَمِّلُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ فِي أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْ فَضْلِهِ مَا نَرْجُوهُ. قَوْلُهُ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ لَمَّا لَمَزَ الْمُنَافِقُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ مَصْرِفَهَا دَفْعًا لطعنهم وقطعا لشغبهم، وإِنَّمَا مِنْ صِيَغِ الْقَصْرِ، وَتَعْرِيفُ الصَّدَقَاتِ لِلْجِنْسِ، أَيْ: جِنْسُ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ مَقْصُورٌ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ المذكورة لا تجاوزها، بَلْ هِيَ لَهُمْ لَا لِغَيْرِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ يَجِبُ تَقْسِيطُ الصَّدَقَاتِ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، أَوْ يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ أَوْ صَاحِبُ الصَّدَقَةِ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَحُذَيْفَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَسَعِيدُ بْنُ جبير وميمون ابن مِهْرَانَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ: احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا فِي الْآيَةِ من القصر وبحديث زياد ابن الحرث الصُّدَائِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ، فَأَتَى رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ الصدقة، فقاله لَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ ولا غيره من الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَصْنَافٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ. وَأَجَابَ الْآخَرُونَ: بِأَنَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْقَصْرِ إِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ الصَّرْفِ وَالْمَصْرِفِ، لَا لِوُجُوبِ اسْتِيعَابِ الْأَصْنَافِ، وَبِأَنَّ فِي إِسْنَادِ الْحَدِيثِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ الْإِفْرِيقِيَّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْآخَرُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «1» وَالصَّدَقَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبَةِ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى المندوبة. وصح عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ» . وَقَدِ ادَّعَى مَالِكٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُرِيدُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْهُمْ. قَوْلُهُ: لِلْفُقَراءِ قَدَّمَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ مِنَ الْبَقِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ لِشِدَّةِ فَاقَتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ عَلَى أَقْوَالٍ فَقَالَ يعقوب بن السّكّيت والقتبي ويونس

_ (1) . البقرة: 271.

ابن حَبِيبٍ: إِنَّ الْفَقِيرَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي لَهُ بَعْضُ مَا يَكْفِيهِ وَيُقِيمُهُ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَذَهَبَ إِلَى هَذَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ بِالْعَكْسِ، فَجَعَلُوا الْمِسْكِينَ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَاحْتَجُّوا بقوله تعالى أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ «1» فَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ سَفِينَةً مِنْ سُفُنِ الْبَحْرِ، وَرُبَّمَا سَاوَتْ جُمْلَةً مِنَ الْمَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَعَوُّذُ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْفَقْرِ مَعَ قَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا» وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَائِرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْفَقِيرُ: الْمُحْتَاجُ الْمُتَعَفِّفُ، وَالْمِسْكِينُ: السَّائِلُ. قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ شَعْبَانَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِمَّا لَا يَأْتِي الِاسْتِكْثَارُ مِنْهُ بِفَائِدَةٍ يُعْتَدُّ بِهَا. وَالْأَوْلَى فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْمِسْكِينِ مَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ. وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا» . قَوْلُهُ: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها أَيِ: السُّعَاةِ وَالْجُبَاةِ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ الْإِمَامُ لِتَحْصِيلِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا قِسْطًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَأْخُذُونَهُ مِنْهَا، فَقِيلَ: الثُّمُنُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْأُجْرَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: يُعْطَوْنَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَدْرَ أُجْرَتِهِمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ لَهُمْ نَصِيبًا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَكَيْفَ يُمْنَعُونَ مِنْهَا، وَيُعْطَوْنَ مِنْ غَيْرِهَا؟ وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ هَاشِمِيًّا أَمْ لَا؟ فَمَنَعَهُ قَوْمٌ، وَأَجَازَهُ آخَرُونَ. قَالُوا: وَيُعْطَى مِنْ غَيْرِ الصَّدَقَةِ. قَوْلُهُ: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ هُمْ قَوْمٌ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَقِيلَ: هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم يتألفهم ليسلموا، كانوا لَا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ بِالْقَهْرِ وَالسَّيْفِ، بَلْ بِالْعَطَاءِ، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ أَسْلَمُوا فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَحْسُنْ إِسْلَامُهُمْ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفُهُمْ بِالْعَطَاءِ وَقِيلَ: هُمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ، أَعْطَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لِيَتَأَلَّفُوا أَتْبَاعَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ أَعْطَى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مِمَّنْ أَسْلَمَ ظَاهِرًا كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ تَأَلَّفَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَعْطَى آخَرِينَ دُونَهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ بَاقٍ بَعْدِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ عُمَرُ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ: قَدِ انْقَطَعَ هَذَا الصِّنْفُ بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ، وَهَذَا مَشْهُورٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: سَهْمُهُمْ بَاقٍ لِأَنَّ الْإِمَامَ رُبَّمَا احْتَاجَ أَنْ يَتَأَلَّفَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا قَطَعَهُمْ عُمَرُ لَمَّا رَأَى مِنْ إِعْزَازِ الدِّينِ. قَالَ يُونُسُ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْهُمْ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ نَسْخَ ذَلِكَ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَرْجِعُ سَهْمُهُمْ لِسَائِرِ الْأَصْنَافِ. قَوْلُهُ: وَفِي الرِّقابِ أي: في

_ (1) . الكهف: 79.

فَكِّ الرِّقَابِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ رِقَابًا ثُمَّ يُعْتِقَهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُمُ الْمُكَاتَبُونَ يُعَانُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، لِصِدْقِ الرِّقَابِ عَلَى شِرَاءِ الْعَبْدِ وَإِعْتَاقِهِ، وَعَلَى إِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ. قَوْلُهُ: وَالْغارِمِينَ هُمُ الَّذِينَ رَكِبَتْهُمُ الدُّيُونُ وَلَا وَفَاءَ عِنْدِهِمْ بِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ فِي سَفَاهَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا إِلَّا أَنْ يَتُوبَ. وَقَدْ أَعَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّدَقَةِ مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، وَأَرْشَدَ إِلَى إِعَانَتِهِ مِنْهَا. قَوْلُهُ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هُمُ الْغُزَاةُ وَالْمُرَابِطُونَ يُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَةِ مَا يُنْفِقُونَ فِي غَزْوِهِمْ وَمُرَابَطَتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُمُ الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمَا جَعَلَا الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يُعْطَى الْغَازِي إِلَّا إِذَا كَانَ فَقِيرًا مُنْقَطَعًا بِهِ. قَوْلُهُ وَابْنِ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ، وَالسَّبِيلِ: الطَّرِيقُ، وَنُسِبَ إِلَيْهَا الْمُسَافِرُ لِمُلَازَمَتِهِ إِيَّاهَا، وَالْمُرَادُ: الَّذِي انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ فِي سَفَرِهِ عَنْ بَلَدِهِ، وَمُسْتَقَرِّهِ، فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ، وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُسْلِفُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا وَجَدَ مَنْ يُسْلِفُهُ فَلَا يُعْطَى. قَوْلُهُ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ مَعْنَاهُ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّدَقَاتِ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ كَوْنَ الصَّدَقَاتِ مَقْصُورَةً عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ هُوَ حُكْمٌ لَازِمٌ، فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مُجَاوَزَتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَقِيلَ: إِنَّ فَرِيضَةً مُنْتَصِبَةً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: فَرَضَ اللَّهُ ذَلِكَ فَرِيضَةً. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ عَدَلَ عَنِ اللَّامِ إِلَى فِي فِي الْأَرْبَعَةِ الْآخِرَةِ؟ قُلْتُ: لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهَا أَرْسَخُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ وَقِيلَ: النُّكْتَةُ فِي الْعُدُولِ: أَنَّ الْأَصْنَافَ الْأَرْبَعَةَ الْأُوَلَ يُصْرَفُ المال إليهم حتى يتصرفوا به كما شاؤوا، وَفِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ لَا يُصْرَفُ الْمَالُ إِلَيْهِمْ، بَلْ يُصْرَفُ إِلَى جِهَاتِ الْحَاجَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي لِأَجْلِهَا اسْتَحَقُّوا سَهْمَ الزَّكَاةِ، كَذَا قِيلَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ قَسْمًا إِذْ جَاءَهُ ابْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّيْمِيُّ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عنقه فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ» . الْحَدِيثَ، حَتَّى قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ قَالَ: يَرْزَؤُكَ، يَسْأَلُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَطْعَنُ عَلَيْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ لَقَسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا اللَّهُ، فَأَتَيْتُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ، وَنَزَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نسخت هذه آية كُلَّ صَدَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ حُذَيْفَةَ فِي قَوْلِهِ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ الْآيَةَ قَالَ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ أَوْ صِنْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْفُقَرَاءُ: فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَسَاكِينُ: الطَّوَّافُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْفَقِيرُ: الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ، وَالْمِسْكِينُ: الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَيْسَ بِهِ زَمَانَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ قَالَ: هُمْ زَمْنَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها قَالَ: السُّعَاةُ أَصْحَابُ الصَّدَقَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَسْلَمُوا، وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِذَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الصَّدَقَةِ فَأَصَابُوا مِنْهَا خَيْرًا قَالُوا: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ عَابُوهُ وَتَرَكُوهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنَ اليمن إلى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ فِيهَا تُرْبَتُهَا «1» ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ: الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ، وَزَيْدِ الْخَيْلِ الطَّائِيِّ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ: يَقْسِمُ بَيْنَ صَنَادِيدِ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قَالَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ، قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: لَيْسَ الْيَوْمَ مُؤَلَّفَةٌ قُلُوبُهُمْ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ فِي قَوْلِهِ: وَفِي الرِّقابِ قَالَ: هُمُ الْمُكَاتَبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ النَّخَعِيِّ نحوه. وأخرج أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَهْمُ الرِّقَابِ نِصْفَانِ: نَصِفٌ لِكُلِّ مَكَاتَبٍ مِمَّنْ يدّعي الإسلام، والنصف الآخر يشترى به رقاب مِمَّنْ صَلَّى وَصَامَ وَقَدَّمَ إِسْلَامَهُ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى يَعْتِقُونَ لِلَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو عَبِيدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ مِنْ زَكَاتِهِ فِي الْحَجِّ وَأَنْ يُعْتِقَ مِنْهَا رَقَبَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْغَارِمِينَ قَالَ: أَصْحَابُ الدَّيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن أبي جَعْفَرٍ فِي قَوْلِهِ وَالْغارِمِينَ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ فِي دَمٍ أَوْ جَائِحَةٍ تُصِيبُهُ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: هُمُ الْمُجَاهِدُونَ وَابْنِ السَّبِيلِ قَالَ: الْمُنْقَطِعُ بِهِ يُعْطَى قَدْرَ مَا يُبَلِّغُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الضَّيْفُ الْفَقِيرُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: الْعَامِلِ عَلَيْهَا، أَوِ الرَّجُلِ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ مسكين تصدّق عليه فأهدى منها

_ (1) . يعني أنها غير مسبوكة، لم تخلص من ترابها.

[سورة التوبة (9) : الآيات 61 إلى 66]

لِغَنِيٍّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي هِلَالٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عن عبيد اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ فَسَأَلَاهُ مِنْهَا، فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ فَرَآنَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فيها لغنيّ ولا لقويّ مكتسب» . [سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 66] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) قَوْلُهُ: وَمِنْهُمُ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مما حَكَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضَائِحِ الْمُنَافِقِينَ وَقَبَائِحِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الطَّعْنِ وَالذَّمِّ: هُوَ أُذُنٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ: رَجُلٌ أُذُنٌ: إِذَا كَانَ يَسْمَعُ مَقَالَ كُلِّ أَحَدٍ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَمُرَادُهُمْ، أَقْمَأَهُمُ اللَّهُ، أَنَّهُمْ إِذَا آذَوُا النبيّ وبسطوا فيه ألسنتهم، وَبَلَغَهُ ذَلِكَ اعْتَذَرُوا لَهُ، وَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ يَسْمَعُ كُلَّ مَا يُقَالُ لَهُ فَيُصَدِّقُهُ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَتِ الْعَرَبُ عَلَى مَنْ يَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَهُ فَيُصَدِّقُهُ أَنَّهُ أُذُنٌ، مُبَالَغَةً، لِأَنَّهُمْ سَمَّوْهُ بِالْجَارِحَةِ الَّتِي هِيَ آلَةُ السَّمَاعِ، حَتَّى كَأَنَّ جُمْلَتَهُ أُذُنٌ سَامِعَةٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ لِلرَّبِيئَةِ: عين، وإيذاؤهم له هو قوله: هُوَ أُذُنٌ لِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يُقَالُ لَهُ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْبَاطِلِ، اغْتِرَارًا مِنْهُمْ بِحِلْمِهِ عَنْهُمْ، وَصَفْحِهِ عَنْ جِنَايَاتِهِمْ كَرَمًا وَحِلْمًا وَتَغَاضِيًا، ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا، فَقَالَ: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ بِالْإِضَافَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالتَّنْوِينِ، وَكَذَا قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: نَعَمْ هُوَ أُذُنٌ، وَلَكِنْ نِعْمَ الْأُذُنُ هُوَ، لِكَوْنِهِ: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، وَلَيْسَ بِأُذُنٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ: رَجُلُ صِدْقٍ، يُرِيدُونَ الْجَوْدَةَ وَالصَّلَاحَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَسْمَعُ الْخَيْرَ وَلَا يَسْمَعُ الشَّرَّ. وَقُرِئَ أُذُنٌ بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّهَا، ثُمَّ فَسَّرَ كَوْنَهُ أُذُنَ خَيْرٍ بِقَوْلِهِ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: يُصَدِّقُ بِاللَّهِ، وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا عَلِمَ فِيهِمْ مِنْ خُلُوصِ الْإِيمَانِ، فَتَكُونُ اللَّامُ فِي لِلْمُؤْمِنِينَ لِلتَّقْوِيَةِ، كَمَا قَالَ الْكُوفِيُّونَ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا قَالَ الْمُبَرِّدُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَرَحْمَةٌ بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى أُذُنُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى خَيْرٍ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: هُوَ أَنَّهُ أُذُنُ خَيْرٍ، وَأَنَّهُ هُوَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ أُذُنُ خَيْرٍ، وَأُذُنُ رَحْمَةٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بِعِيدٌ، يَعْنِي قِرَاءَةَ الْجَرِّ لِأَنَّهُ قَدْ تَبَاعَدَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ، وَهَذَا يَقْبُحُ فِي الْمَخْفُوضِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ

النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أُذُنُ خَيْرٍ لِلْمُنَافِقِينَ وَرَحْمَةٌ لَهُمْ، حَيْثُ لَمْ يَكْشِفْ أَسْرَارَهُمْ، وَلَا فَضَحَهُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ أُذُنٌ كَمَا قُلْتُمْ لَكِنَّهُ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، لَا أُذُنَ سُوءٍ، فَسَلَّمَ لَهُمْ قَوْلَهُمْ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِمَا هُوَ مَدْحٌ لَهُ، وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا قَصَدُوا بِهِ الْمَذَمَّةَ، وَالتَّقْصِيرَ بِفِطْنَتِهِ، وَمَعْنَى لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أَيِ: الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ حَقِيقَةً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ أُذُنٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَذِيَّةٌ لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: شَدِيدُ الْأَلَمِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهَا عِلَّةٌ لِمُعَلَّلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَرَحْمَةً لَكُمْ يَأْذَنُ لَكُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مِنْ قَبَائِحِ الْمُنَافِقِينَ إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ، فَقَالَ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا فِي خِلْوَاتِهِمْ يَطْعَنُونَ عَلَى المؤمنين، وعلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ جَاءَ الْمُنَافِقُونَ فَحَلَفُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مَا بُلِّغَ عَنْهُمْ، قَاصِدِينَ بِهَذِهِ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ أَنْ يُرْضُوا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ معه من المؤمنين، فنعى الله ذلك عليهم، وَقَالَ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أَيْ: هُمَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ إِرْضَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ، فَإِنَّهُمْ لَوِ اتَّقَوُا اللَّهَ وَآمَنُوا بِهِ وَتَرَكُوا النِّفَاقَ لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى لَهُمْ، وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ فِي يُرْضُوهُ: إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ لِلْجَنَابِ الْإِلَهِيِّ بِإِفْرَادِهِ بِالذِّكْرِ أَوْ لِكَوْنِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِرْضَاءِ اللَّهِ، وَإِرْضَاءِ رَسُولِهِ، فَإِرْضَاءُ اللَّهِ إِرْضَاءٌ لِرَسُولِهِ أَوِ الْمُرَادُ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُولُهُ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَرَجَّحَهُ النَّحَّاسُ أَوْ لِأَنَّ الضَّمِيرَ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَإِنَّهُ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْوَاحِدِ وَالْمُتَعَدِّدِ أَوِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَاللَّهُ افْتِتَاحُ كَلَامٍ كَمَا تَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَعْنِي وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَجَوَابُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَلْيُرْضُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَوْلُهُ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ. قَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ هرم أَلَمْ تَعْلَمُوا بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَالْمُحَادَدَةُ: وُقُوعُ هَذَا فِي حَدٍّ، وَذَلِكَ فِي حَدٍّ كَالْمُشَاقَقَةِ: يُقَالُ: حَادَّ فُلَانٌ فُلَانًا: أَيْ: صَارَ في حدّ غير حَدُّهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَحُقَّ أَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: إِنَّ «أَنَّ» الثَّانِيَةَ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْأُولَى، وَزَعَمَ الْمُبَرِّدُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَ الْجَرْمِيُّ: أَنَّ الثَّانِيَةَ مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى فَوُجُوبُ النَّارِ لَهُ، وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّدُ وَقَالَ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّ «أَنَّ» الْمَفْتُوحَةَ الْمُشَدَّدَةَ لَا يُبْتَدَأُ بِهَا وَيُضْمَرُ الْخَبَرُ. وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ جَيِّدَةٌ، وَأَنْشَدَ: وَإِنِّي إِذَا مَلَّتْ رِكَابِي مُنَاخَهَا ... فَإِنِّي عَلَى حَظِّي مِنَ الْأَمْرِ جَامِحُ وَانْتِصَابُ خَالِدًا عَلَى الْحَالِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ أَيِ: الْخِزْيُ الْبَالِغُ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَا يَبْلُغُ إِلَيْهَا غَيْرُهُ، وَهُوَ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ. قَوْلُهُ: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ قِيلَ: هُوَ خَبَرٌ، وَلَيْسَ بِأَمْرٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: لِيَحْذَرِ. فَالْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَحْذَرُونَ نُزُولَ الْقُرْآنِ فِيهِمْ، وَعَلَى الثاني: الأمر لهم بأن يحذروا ذلك،

وأَنْ تُنَزَّلَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: مِنْ أَنْ تُنَزَّلَ، وَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى تَقْدِيرِ مِنْ وَإِعْمَالِهَا، ويجوز أن يكون النصب على المفعولية، وَقَدْ أَجَازَ سِيبَوَيْهِ: حَذَرْتُ زَيْدًا، وَأَنْشَدَ: حَذِرٌ أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه مِنَ الْأَقْدَارِ وَمَنَعَ مِنَ النَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُبَرِّدُ. وَمَعْنَى: عَلَيْهِمْ أَيْ: عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْمُنَافِقِينَ، أَيْ: فِي شَأْنِهِمْ تُنَبِّئُهُمْ أَيِ: الْمُنَافِقِينَ بِما فِي قُلُوبِهِمْ مِمَّا يُسِرُّونَهُ فَضُلًا عَمَّا يُظْهِرُونَهُ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ فَالْمُرَادُ مِنْ إِنْبَاءِ السُّورَةِ لَهُمْ: إِطْلَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمُوا بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رسوله بأن يجيب عليهم، فقال: قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ هُوَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ، أَيِ: افْعَلُوا الِاسْتِهْزَاءَ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ مِنْ ظُهُورِهِ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، إِمَّا بِإِنْزَالِ سُورَةٍ أَوْ بِإِخْبَارِ رَسُولِهِ بِذَلِكَ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ أَيْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَمَّا قَالُوهُ مِنَ الطَّعْنِ فِي الدِّينِ، وَثَلْبِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَ إِلَيْكَ ذَلِكَ، وَيُطْلِعَكَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِيَقُولُنَّ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَلَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ وَلَا أَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ فَقَالَ: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَأَثْبَتَ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَعْبَأْ بِإِنْكَارِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِي الْإِنْكَارِ، بَلْ جَعَلَهُمْ كَالْمُعْتَرِفِينَ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ حَيْثُ جَعَلَ الْمُسْتَهْزَأَ بِهِ، وَالْبَاءَ لِحَرْفِ النَّفْيِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ وُقُوعِ الِاسْتِهْزَاءِ وَثُبُوتِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَعْتَذِرُوا نَهْيًا لَهُمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالِاعْتِذَارَاتِ الْبَاطِلَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّ مَعْنَى الِاعْتِذَارِ: مَحْوُ أَثَرِ الذَّنْبِ وَقَطْعُهُ، مِنْ قَوْلِهِمُ: اعْتَذَرَ الْمَنْزِلُ، إِذَا دَرَسَ، وَاعْتَذَرَتِ الْمِيَاهُ، إِذَا انْقَطَعَتْ قَدْ كَفَرْتُمْ أَيْ: أَظْهَرْتُمُ الْكُفْرَ بِمَا وَقَعَ مِنْكُمْ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أَيْ: بَعْدِ إِظْهَارِكُمُ الْإِيمَانَ مَعَ كَوْنِكُمْ تُبْطِنُونَ الْكُفْرَ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ وَهُمْ: مَنْ أَخْلَصَ الْإِيمَانَ وَتَرَكَ النِّفَاقَ وَتَابَ عَنْهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الطَّائِفَةُ فِي اللُّغَةِ الْجَمَاعَةُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ عِنْدَ الْعَرَبِ نُعَذِّبْ طائِفَةً سبب بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ مُصِرِّينَ عَلَى النِّفَاقِ لَمْ يَتُوبُوا مِنْهُ، قُرِئَ نُعَذِّبْ بِالنُّونِ، وَبِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَبِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجْلِسُ إِلَيْهِ فَيَسْمَعُ مِنْهُ، ثُمَّ يَنْقُلُ حَدِيثَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ. مَنْ حَدَّثَهُ بِشَيْءٍ صَدَّقَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: اجْتَمَعَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ خِلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ، وَمَخْشِيُّ بْنُ حِمْيَرٍ وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، فَأَرَادُوا أَنْ يَقَعُوا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالُوا: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يُبْلُغَ مُحَمَّدًا فَيَقَعَ بِكُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ نَحْلِفُ لَهُ فَيُصَدِّقُنَا، فَنَزَلَ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أُذُنٌ

يَعْنِي: أَنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي: يُصَدِّقُ بِاللَّهِ وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عمر بْنِ سَعْدٍ قَالَ: فِيَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ وَذَلِكَ أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَسْمَعُ أَحَادِيثَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَيَأْتِي النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَيُسَارُّهُ، حَتَّى كَانُوا يَتَأَذَّوْنَ بِعُمَيْرِ بْنِ سعد، وكرهوا مجالسته، وقالوا: هُوَ أُذُنٌ فأنزلت فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَخِيَارُنَا وَأَشْرَافُنَا، وَلَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ لَحَقٌّ، وَلَأَنْتَ شَرٌّ مِنَ الْحِمَارِ، فَسَعَى بِهَا الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي قُلْتَ؟ فَجَعَلَ يَلْتَعِنُ، وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَدِّقِ الصَّادِقَ، وَكَذِّبِ الْكَاذِبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ، وَسَمَّى الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ عَامِرَ بْنَ قَيْسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَقُولُ: يُعَادِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ الْآيَةَ قَالَ: يَقُولُونَ الْقَوْلَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ عَسَى اللَّهُ أَنْ لَا يُفْشِيَ عَلَيْنَا هَذَا. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عن شريح ابن عُبَيْدٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ! مَا بَالُكُمْ أَجْبَنُ مِنَّا وَأَبْخَلُ إِذَا سُئِلْتُمْ، وَأَعْظَمُ لَقْمًا إِذَا أَكَلْتُمْ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إلى الرّجل الذي قال ذلك، فأخذه بِثَوْبِهِ وَخَنَقَهُ وَقَادَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي مَجْلِسٍ يَوْمًا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ، لَا أَرْغَبَ بُطُونًا، وَلَا أَكْذَبَ أَلْسِنَةً، وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ، لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْحِجَارَةُ تَنْكُبُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم يقول: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. وأخرجه ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَهُوَ يَشْتَدُّ قُدَّامَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْأَحْجَارُ تَنْكُبُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يقول: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوِهِ إِلَى تَبُوكَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ أُنَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالُوا: أَيَرْجُو هَذَا الرَّجُلُ أَنْ تُفْتَحَ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ وَحُصُونُهَا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: احْبِسُوا عَلَيَّ هَؤُلَاءِ الرَّكْبَ، فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: قُلْتُمْ: كَذَا، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ مَا تَسْمَعُونَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ عن جماعة

[سورة التوبة (9) : الآيات 67 إلى 70]

مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ قال: الطائفة: الرّجل والنّفر. [سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 70] الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) قَوْلُهُ: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ذَكَرَ هَاهُنَا جُمْلَةَ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّ ذُكُورَهُمْ فِي ذَلِكَ كَإِنَاثِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مُتَنَاهَوْنَ فِي النِّفَاقِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، ثُمَّ فَصَّلَ ذَلِكَ الْمُجْمَلَ بِبَيَانِ مُضَادَّةِ حَالِهِمْ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَهُوَ كُلُّ قَبِيحٍ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ كُلُّ حَسَنٍ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ أَيْ: لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، أَيْ: مُتَشَابِهُونَ فِي الْأَمْرِ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ أَيْ: يَشِحُّونَ فِيمَا يَنْبَغِي إِخْرَاجُهُ مِنَ الْمَالِ فِي الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْجِهَادِ، فَالْقَبْضُ كِنَايَةٌ عَنِ الشُّحِّ، كَمَا أَنَّ الْبَسْطَ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَرَمِ، وَالنِّسْيَانُ: التَّرْكُ أَيْ: تَرَكُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَتَرَكَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، لِأَنَّ النِّسْيَانَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ هُنَا مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ، أَيِ: الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَى مَعَاصِيهِ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ يُفِيدُ أَنَّهُمْ هُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْفِسْقِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَآلَ حَالِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ بِأَنَّهُ: نارَ جَهَنَّمَ وخالِدِينَ فِيها حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ: مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ: وَعَدَ، يُقَالُ فِي الشَّرِّ، كَمَا يُقَالُ فِي الْخَيْرِ هِيَ حَسْبُهُمْ أَيْ: كَافِيَتُهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةٍ عَلَى عَذَابِهَا، وَمع ذَلِكَ فَقَدْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَيْ: طَرَدَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أَيْ: نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْعَذَابِ دَائِمٌ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شَبَّهَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ، مُلْتَفِتًا مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَالْكَافُ مَحَلُّهَا رَفْعٌ عَلَى خَبَرِيَّةِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَنْتُمْ مِثْلُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَوْ مَحَلُّهَا نَصْبٌ، أَيْ: فَعَلْتُمْ مِثْلَ فِعْلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ: وَعَدَ اللَّهُ الْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ وَعْدًا كَمَا وَعَدَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ

وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَعَلْتُمْ كَأَفْعَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ. ثُمَّ وَصَفَ حَالَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَبَيَّنَ وَجْهَ تَشْبِيهِهِمْ بِهِمْ، وَتَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِهِمْ، بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا أَيْ: تَمَتَّعُوا بِخَلاقِهِمْ أَيْ: نَصِيبِهِمُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ مَلَاذِّ الدُّنْيَا فَاسْتَمْتَعْتُمْ أَنْتُمْ بِخَلاقِكُمْ أَيْ: نَصِيبِكُمُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لَكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ أَيِ: انْتَفَعْتُمْ بِهِ كَمَا انْتَفَعُوا بِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ ذَمُّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ بِسَبَبِ مُشَابِهَتِهِمْ لِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ. وَقَدْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ ذِكْرِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْخَلَاقِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِينَ مَرَّةً، ثُمَّ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ ثَانِيًا، ثُمَّ تَكْرِيرِهِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِينَ ثَالِثًا؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْأَوَّلِينَ بِالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا أُوتُوا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا، وَحِرْمَانِهِمْ عَنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ بِسَبَبِ اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي تِلْكَ الْحُظُوظِ، فَلَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى هَذَا عَادَ فَشَبَّهَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ بِحَالِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ نِهَايَةً فِي الْمُبَالَغَةِ. قَوْلُهُ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: كَالْفَوْجِ الَّذِي خَاضُوا، أَوْ كَالْخَوْضِ الَّذِي خَاضُوا وَقِيلَ: أَصْلُهُ كَالَّذِينِ، فَحُذِفَتِ النُّونُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي: اسْمٌ مَوْصُولٌ مِثْلَ: مَنْ وَمَا، يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. يُقَالُ: خُضْتُ الْمَاءَ أَخُوضُهُ خَوْضًا وَخِيَاضًا، وَالْمَوْضِعُ: مَخَاضَةٌ، وَهُوَ مَا جَازَ النَّاسُ فِيهِ مُشَاةً وَرُكْبَانًا، وَجَمْعُهَا: الْمَخَاضُ وَالْمَخَاوِضُ وَيُقَالُ مِنْهُ: خَاضَ الْقَوْمُ فِي الْحَدِيثِ، وَتَخَاوَضُوا فِيهِ، أَيْ: تَفَاوَضُوا فِيهِ، وَالْمَعْنَى: خُضْتُمْ فِي أسباب الدنيا واللهو واللعب وَقِيلَ: فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ، أَيْ: دَخَلْتُمْ فِي ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ الْمُشَبَّهِينَ، وَالْمُشَبَّهِ بِهِمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أَيْ: بَطَلَتْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ: مَا عَمِلُوهُ مِمَّا هُوَ فِي صُورَةِ طَاعَةٍ، لَا هَذِهِ الْأَعْمَالُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا فَإِنَّهَا مِنَ الْمَعَاصِي وَمَعْنَى: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَمَّا بُطْلَانُهَا فِي الدُّنْيَا: فَلِأَنَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فِيهَا لَا يَحْصُلُ لَهُمْ، بَلْ يَصِيرُ مَا يَرْجُونَهُ مِنَ الْغِنَى فَقْرًا، وَمِنَ الْعِزِّ ذُلًّا، وَمِنَ الْقُوَّةِ ضَعْفًا وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ: فَلِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى عَذَابِ النَّارِ، وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا عَمِلُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَظُنُّونَهَا طَاعَةً وَقُرْبَةً وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيِ: الْمُتَمَكِّنُونَ فِي الْخُسْرَانِ الْكَامِلُونَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَلَمْ يَأْتِهِمْ أَيِ: الْمُنَافِقِينَ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: خَبَرُهُمُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ، وَهُوَ مَا فَعَلُوهُ وَمَا فُعِلَ بِهِمْ، وَلَمَّا شَبَّهَ حَالَهُمْ بحالهم فيما سلف على الْإِجْمَالِ فِي الْمُشَبَّهِ بِهِمْ ذَكَرَ مِنْهُمْ هَاهُنَا سِتَّ طَوَائِفَ، قَدْ سَمِعَ الْعَرَبُ أَخْبَارَهُمْ، لِأَنَّ بِلَادَهُمْ وَهِيَ الشَّامُ قَرِيبَةٌ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، فَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَأَوَّلُهُمْ: قَوْمُ نُوحٍ وَقَدْ أُهْلِكُوا بِالْإِغْرَاقِ، وَثَانِيهِمْ: قَوْمُ عَادٍ وَقَدْ أُهْلِكُوا بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، وَثَالِثُهُمْ: قَوْمُ ثَمُودَ وَقَدْ أُخِذُوا بِالصَّيْحَةِ، وَرَابِعُهُمْ: قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَدْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْبَعُوضَ، وَخَامِسُهُمْ: أَصْحَابُ مَدْيَنَ، وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ وَقَدْ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ. وَسَادِسُهُمْ: أَصْحَابُ الْمُؤْتَفِكَاتِ، وَهِيَ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِمَا أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحِجَارَةِ وَسُمِّيَتْ مُؤْتَفِكَاتٍ: لِأَنَّهَا انْقَلَبَتْ بِهِمْ حَتَّى صَارَ عَالِيهَا سَافِلَهَا، وَالِائْتِفَاكُ: الِانْقِلَابُ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ: رُسُلُ هَذِهِ الطَّوَائِفِ السِّتِّ وَقِيلَ: رُسُلُ أَصْحَابِ الْمُؤْتَفِكَاتِ لِأَنَّ رَسُولَهُمْ لُوطٌ وَقَدْ بَعَثَ إِلَى كُلِّ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ رَسُولًا، وَالْفَاءُ فِي فَما كانَ اللَّهُ

[سورة التوبة (9) : الآيات 71 إلى 72]

لِيَظْلِمَهُمْ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ: فَكَذَّبُوهُمْ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، فَمَا ظَلَمَهُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ فَأَنْذَرُوهُمْ، وَحَذَّرُوهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بِسَبَبِ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَعَدَمِ الِانْقِيَادِ لِأَنْبِيَائِهِ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظُلْمَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَ مُسْتَمِرًّا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ قَالَ: هُوَ التَّكْذِيبُ، قَالَ: وَهُوَ أَنْكَرُ الْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْمَعْرُوفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ قَالَ: لَا يَبْسُطُونَهَا بِنَفَقَةٍ فِي حَقٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ قَالَ: تَرَكُوا اللَّهَ فَتَرَكَهُمْ مِنْ كَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَالَ: صَنِيعُ الْكُفَّارِ كَالْكُفَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً إِلَى قَوْلِهِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا هَؤُلَاءِ بنو إسرائيل: أشبهناهم، والذي نفسي بيده لتتبعنهم حَتَّى لَوْ دَخَلَ رَجُلٌ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: بِخَلاقِهِمْ قَالَ: بِدِينِهِمْ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ الْخَلَاقُ: الدِّينُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ قَالَ: بِنَصِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا قَالَ: لَعِبْتُمْ كَالَّذِي لَعِبُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْتَفِكاتِ قال: قوم لوط، ائتفك بهم أرضهم، فجعل عاليها سافلها. [سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) قَوْلُهُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أَيْ: قُلُوبُهُمْ مُتَّحِدَةٌ فِي التَّوَادُدِ، وَالتَّحَابُبِ، وَالتَّعَاطُفِ بِسَبَبِ مَا جَمَعَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَضَمَّهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَوْصَافَهُمُ الْحَمِيدَةَ كَمَا بَيَّنَ أَوْصَافَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الشَّرْعِ غَيْرَ مُنْكَرٍ، وَمِنْ ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَرْكُ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَيْ: عَمَّا هُوَ معروف في الشرع غير منكر، وَخَصَّصَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ بِالذِّكْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ لِكَوْنِهِمَا الرُّكْنَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا. وَيُطِيعُونَ اللَّهَ فِي صُنْعِ مَا أَمَرَهُمْ بِفِعْلِهِ أَوْ نَهَاهُمْ عَنْ تَرْكِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِ أُولئِكَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَالسِّينُ فِي سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ

فِي إِنْجَازِ الْوَعْدِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يُغَالَبُ حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَفْصِيلَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الرَّحْمَةِ إِجْمَالًا، بِاعْتِبَارِ الرَّحْمَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالْإِظْهَارُ فِي مَوْقِعِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَمَعْنَى: جَرْيِ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِ الْجَنَّاتِ، أَنَّهَا تَجْرِي تَحْتَ أَشْجَارِهَا وَغُرَفِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي الْبَقَرَةِ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أَيْ: مَنَازِلَ يَسْكُنُونَ فِيهَا من الدرّ والياقوت، وجَنَّاتِ عَدْنٍ يُقَالُ: عَدَنَ بِالْمَكَانِ: إِذَا أَقَامَ بِهِ، ومنه المعدن وقيل: هِيَ أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: أَوْسَطُهَا، وَقِيلَ: قُصُورٌ مِنْ ذَهَبٍ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ. وَصَفَ الْجَنَّةَ بِأَوْصَافٍ: الْأَوَّلُ: جَرْيُ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَالثَّالِثُ: طِيبُ مَسَاكِنِهَا، وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا دَارُ عَدْنٍ، أَيْ: إِقَامَةٍ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ، هَذَا عَلَى مَا هُوَ مَعْنَى عَدْنٍ لُغَةً وَقِيلَ: هُوَ عَلَمٌ، وَالتَّنْكِيرُ فِي رِضْوَانٌ: لِلتَّحْقِيرِ، أَيْ: وَرِضْوانٌ حقير يسير مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الَّذِي أَعْطَاهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنَ النِّعَمِ وَإِنْ جَلَّتْ وَعَظُمَتْ يُمَاثِلُ رِضْوَانَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَنَّ أَدْنَى رِضْوَانٍ مِنْهُ لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَايَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا غَايَةٌ، اللَّهُمَّ ارْضَ عَنَّا رِضًا لَا يَشُوبُهُ سَخَطٌ، وَلَا يُكَدِّرُهُ نَكَدٌ، يَا مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ دِقُّهُ وَجِلُّهُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِمَّا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ دُونَ كُلِّ فَوْزٍ مِمَّا يَعُدُّهُ النَّاسُ فَوْزًا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ: يَدْعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالنَّفَقَاتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ قَالَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، كَتَبَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ قَالَ: إِخَاؤُهُمْ فِي اللَّهِ، يَتَحَابُّونَ بِجَلَالِ اللَّهِ وَالْوِلَايَةِ لِلَّهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قَالَا: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، سَأَلْنَا عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ فِي الْجَنَّةِ، فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرًا، عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ فِرَاشًا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ امْرَأَةٌ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مَائِدَةً، فِي كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْنًا مِنْ كُلِّ طَعَامٍ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفًا وَوَصِيفَةً فَيُعْطَى الْمُؤْمِنُ مِنَ الْقُوَّةِ فِي كُلِّ غَدَاةٍ مَا يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جَنَّاتِ عَدْنٍ قَالَ: مَعْدِنُ الرَّجُلِ: الَّذِي يَكُونُ فِيهِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مَعْدِنُهُمْ فِيهَا أَبَدًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ يَعْنِي: إِذَا أُخْبِرُوا أَنَّ اللَّهَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَهُوَ أَكْبَرُ عِنْدَهُمْ مِنَ التُّحَفِ وَالتَّسْنِيمِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ،

[سورة التوبة (9) : الآيات 73 إلى 74]

فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بعده أبدا» . [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) الْأَمْرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْجِهَادِ أَمْرٌ لِأُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَجِهَادُ الْكُفَّارِ يَكُونُ بِمُقَاتَلَتِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ يَكُونُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَخْرُجُوا عَنْهُ وَيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ جِهَادَ الْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، وَاخْتَارَهُ قَتَادَةُ. قِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا أَكْثَرَ مَنْ يَفْعَلُ مُوجِبَاتِ الْحُدُودِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ هَذِهِ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ الْعَاصِي بِمُنَافِقٍ، إِنَّمَا الْمُنَافِقُ بِمَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ مِنَ النِّفَاقِ دَائِمًا لَا بِمَا تَتَلَبَّسُ بِهِ الْجَوَارِحُ ظَاهِرًا، وَأَخْبَارُ الْمَحْدُودِينَ تَشْهَدُ بِسِيَاقَتِهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ. قَوْلُهُ: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ الْغِلَظُ: نَقِيضُ الرَّأْفَةِ، وَهُوَ شِدَّةُ الْقَلْبِ وَخُشُونَةُ الْجَانِبِ قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ وَالصَّفْحِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ خِصَالِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ الْأَيْمَانَ الْكَاذِبَةَ، فَقَالَ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ، وَوَدِيعَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ نُزُولُ الْقُرْآنِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ وذمّهم، قالا: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا عَلَى إِخْوَانِنَا الَّذِينَ هُمْ سَادَاتُنَا وَخِيَارُنَا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ مُصَدَّقٌ، وَإِنَّكَ لَشَرٌّ مِنَ الْحِمَارِ وَأَخْبَرَ عَامِرٌ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَجَاءَ الْجُلَاسُ فَحَلَفَ بِاللَّهِ إِنَّ عَامِرًا لَكَاذِبٌ، وَحَلَفَ عَامِرٌ: لَقَدْ قَالَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَى نَبِيِّكَ شَيْئًا فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي سَمِعَ ذَلِكَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَقِيلَ: حُذَيْفَةُ، وَقِيلَ: بَلْ سَمِعَهُ وَلَدُ امْرَأَتِهِ، أَيِ: امرأة الجلاس، واسمه: عمير ابن سَعْدٍ، فَهَمَّ الْجُلَاسُ بِقَتْلِهِ لِئَلَّا يُخْبِرَ بِخَبَرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا قَالَ: مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا كَمَا قَالَ القائل «سمن كلبك يأكلك» ، ولَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ «1» فأخبر النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَحَلَفَ: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْقَائِلَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ فَنِسْبَةُ الْقَوْلِ إِلَى جَمِيعِهِمْ هِيَ بِاعْتِبَارِ مُوَافَقَةِ مَنْ لَمْ يَقُلْ وَلَمْ يَحْلِفْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِمَنْ قَدْ قَالَ وَحَلَفَ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَكَذَّبَهُمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ حَلَفُوا كَذِبًا، فَقَالَ: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أَيْ: كَفَرُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بَعْدَ إِظْهَارِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوجِبُ كُفْرَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ إِسْلَامِهِمْ. قَوْلُهُ: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قيل:

_ (1) . المنافقون: 8.

هُوَ هَمُّهُمْ بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقِيلَ: هَمُّوا بِعَقْدِ التَّاجِ عَلَى رَأْسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَقِيلَ: هُوَ هَمُّ الْجُلَاسِ بِقَتْلِ مَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ: وَمَا عَابُوا وَأَنْكَرُوا إِلَّا مَا هُوَ حَقِيقٌ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَهُوَ إِغْنَاءُ اللَّهِ لَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ النَّابِغَةِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَمِنْ بَابِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا فَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ. وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي ضِيقٍ مِنَ الْعَيْشِ، فلما قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ اتَّسَعَتْ مَعِيشَتُهُمْ وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ. قَوْلُهُ: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ أَيْ: فَإِنْ تَحْصُلْ مِنْهُمُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ يَكُنْ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلُوهُ مِنَ التَّوْبَةِ خَيْرًا لَهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقَدْ تَابَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنَ الْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُولِهَا مِنَ الزِّنْدِيقِ، فَمَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا مَالِكٌ وَأَتْبَاعُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ، إِذْ هُوَ فِي كُلِّ حِينٍ يُظْهِرُ التَّوْبَةَ وَالْإِسْلَامَ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أَيْ: يُعْرِضُوا عَنِ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ وَفي الْآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ يُوَالِيهِمْ وَلا نَصِيرٍ يَنْصُرُهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهِ ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ قَالَ الْجُلَاسُ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَسَمِعَهَا عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا جُلَاسُ إِنَّكَ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَحْسَنُهُمْ عِنْدِي أثرا، وأعزّهم أن يدخل عليه شيء يكرهه، وقد قُلْتَ مَقَالَةً لَئِنْ ذَكَرْتُهَا لَتَفْضَحَنَّكَ، وَلَئِنْ سَكَتُّ عَنْهَا لَتُهْلِكَنِّي، وَلَإِحْدَاهُمَا أَشَدُّ عَلَيَّ مِنَ الْأُخْرَى، فَمَشَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ مَا قَالَ الْجُلَاسُ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَ: وَلَكِنْ كَذَبَ عَلَيَّ عُمَيْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَخْطُبُ: إِنْ كَانَ هَذَا صَادِقًا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ قَالَ زَيْدٌ: هُوَ وَاللَّهِ صَادِقٌ وَأَنْتَ شَرٌّ مِنَ الْحِمَارِ، فَرَفَعَ ذَلِكَ إلى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَجَحَدَ الْقَائِلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ، فَإِذَا جَاءَكُمْ فَلَا تُكَلِّمُوهُ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ طَلَعَ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا قَالُوا حَتَّى تَجَاوَزَ عَنْهُمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ

[سورة التوبة (9) : الآيات 75 إلى 79]

ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلَيْنِ اقْتَتَلَا، أَحَدُهُمَا مِنْ جُهَيْنَةَ وَالْآخَرُ مِنْ غِفَارٍ، وَكَانَتْ جُهَيْنَةُ حُلَفَاءَ الْأَنْصَارِ، فَظَهَرَ الْغِفَارِيُّ عَلَى الْجُهَنِيِّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِلْأَوْسِ: انْصُرُوا أَخَاكُمْ، وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: «سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ» وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ «1» فَسَعَى بِهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ، فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ الْآيَةَ، وفي الباب أحاديث مختلفة في سبب نزول هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قَالَ: هَمَّ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الأسود بقتل النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قَالَ: أَرَادُوا أَنْ يُتَوِّجُوا عَبْدَ اللَّهِ ابن أُبَيٍّ بِتَاجٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عباس قال: قُتِلَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ قال: بأخذهم الدّية. [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 79] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اللَّامُ الْأُولَى وَهِيَ لَئِنْ آتانا الله مِنْ فَضْلِهِ لَامُ الْقَسَمِ، وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ لَنَصَّدَّقَنَّ لَامُ الْجَوَابِ لِلْقِسْمِ وَالشَّرْطِ. وَمَعْنَى: لَنَصَّدَّقَنَّ لَنُخْرِجُ الصَّدَقَةَ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْمَفْرُوضَةِ وَغَيْرِهَا وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الصَّلَاحِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، الْقَائِمِينَ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ، التَّارِكِينَ لِمُحَرَّمَاتِهِ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ أَيْ: لَمَّا أَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوا مِنَ الرِّزْقِ بَخِلُوا بِهِ، أَيْ: بِمَا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، فَلَمْ يَتَصَدَّقُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ كَمَا حَلَفُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِخْرَاجِ صَدَقَاتِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ من فضله، وَالحال أن هُمْ مُعْرِضُونَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُمُ اللَّهُ مَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَبَعْدَهُ. قَوْلُهُ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ الْفَاعِلُ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، أَيْ: فَأَعْقَبَهُمُ اللَّهُ بِسَبَبِ الْبُخْلِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ وَالْإِعْرَاضِ نِفَاقًا كَائِنًا فِي قُلُوبِهِمْ، مُتَمَكِّنًا مِنْهَا، مُسْتَمِرًّا فِيهَا إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى الْبُخْلِ، أَيْ: فَأَعْقَبَهُمُ الْبُخْلُ بِمَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ نِفَاقًا كَائِنًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَ بُخْلَهُمْ، أَيْ: جَزَاءَ بُخْلِهِمْ. وَمَعْنَى فَأَعْقَبَهُمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ النِّفَاقَ الْمُتَمَكِّنَ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ عَاقِبَةَ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْبُخْلِ، وَالْبَاءُ فِي بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ إِخْلَافِهِمْ لِمَا وَعَدُوهُ مِنَ التصدّق والصلاح، وكذلك الباء

_ (1) . المنافقون: 8.

في وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي: بسبب تَكْذِيبِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَيِ: الْمُنَافِقُونَ، وَقُرِئَ بِالْفَوْقِيَّةِ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أَيْ: جَمِيعَ مَا يُسِرُّونَهُ مِنَ النِّفَاقِ، وَجَمِيعَ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الطَّعْنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ، وَعَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَغِيبَةِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ. قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ الْمَوْصُولُ: مَحَلُّهُ النَّصْبُ، أَوِ الرَّفْعُ عَلَى الذَّمِّ، أَوِ الْجَرُّ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ، وَمَعْنَى يَلْمِزُونَ: يَعِيبُونَ. وقد تقدّم تحقيقه، والمطّوّعين: أَيِ الْمُتَطَوِّعِينَ، وَالتَّطَوُّعُ: التَّبَرُّعُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعِيبُونَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا تَطَوَّعُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَأَخْرَجُوهُ لِلصَّدَقَةِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: مَا أَغْنَى اللَّهَ عَنْ هَذَا، وَيَقُولُونَ: مَا فَعَلُوا هَذَا إلا رياء، ولم يكن لله خالصا، وفِي الصَّدَقاتِ متعلق بيلمزون، أَيْ: يَعِيبُونَهُمْ فِي شَأْنِهَا. قَوْلُهُ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُطَّوِّعِينَ، أَيْ: يلمزون المتطوّعين، ويلمزون الذي لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: يَلْمِزُونَ الْمُتَطَوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ، وَقُرِئَ جُهْدَهُمْ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَالْجُهْدُ بِالضَّمِّ: الطَّاقَةُ، وَبِالْفَتْحِ: الْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعِيبُونَ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ بِمَا فَضَلَ عَنْ كِفَايَتِهِمْ. قَوْلُهُ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى يَلْمِزُونَ، أَيْ: يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ لِحَقَارَةِ مَا يُخْرِجُونَهُ فِي الصَّدَقَةِ، مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ جَهْدَ الْمُقِلِّ، وَغَايَةَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْهُ. قَوْلُهُ: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَيْ: جَازَاهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَسَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ بِأَنْ أَهَانَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ وَعَذَّبَهُمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي غَيْرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَسْخَرَ اللَّهُ بِهِمْ كَمَا سَخِرُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ شَدِيدُ الْأَلَمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، والعسكري في الأمثال، والطبراني وابن مندة والماوردي وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: جَاءَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا، قَالَ: وَيْلَكَ يَا ثَعْلَبَةُ! قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ، خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا، قَالَ: وَيَحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ أَمَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مِثْلِي؟ فَلَوْ شِئْتُ أَنْ يُسَيِّرَ رَبِّي هَذِهِ الْجِبَالَ مَعِيَ ذَهَبًا لَسَارَتْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يرزقني مالا، فو الذي بَعْثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ آتَانِي اللَّهُ مَالًا لَأُعْطِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، قَالَ: وَيَحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُطِيقُ شُكْرَهُ، خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ الله تعالى، فَقَالَ يَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا قَالَ: فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا تَنْمُو الدُّودُ حَتَّى ضَاقَتْ بِهَا الْمَدِينَةُ، فَتَنَحَّى بِهَا فَكَانَ يَشْهَدُ الصَّلَاةَ بِالنَّهَارِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَشْهَدُهَا بِاللَّيْلِ، ثُمَّ نَمَتْ كَمَا تَنْمُو الدُّودُ، فَتَنَحَّى بِهَا، فَكَانَ لَا يَشْهَدُ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ وَلَا بِالنَّهَارِ إِلَّا مِنْ جُمْعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَمَتْ كَمَا تَنْمُو الدُّودُ فَضَاقَ بِهَا مَكَانُهُ، فَتَنَحَّى بِهَا فَكَانَ لَا يَشْهَدُ جُمْعَةً وَلَا جِنَازَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ وَيَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَخْبَارِ، وفقده

رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عَنْهُ. فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ اشْتَرَى غَنَمًا، وَأَنَّ الْمَدِينَةَ ضَاقَتْ بِهِ وَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْحَ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ، وَيْحَ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ، وَأَنْزَلَ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الْآيَةَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ، رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ، وَرَجُلًا مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَأْخُذَانِ الصَّدَقَاتِ، وَكَتَبَ لَهُمَا أَسْنَانَ الإبل والغنم كيف يأخذانها على وجوهها، وَأَمْرَهُمَا أَنْ يَمُرَّا عَلَى ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ، وَبِرَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَخَرَجَا فَمَرَّا بِثَعْلَبَةَ فَسَأَلَا الصَّدَقَةَ، فَقَالَ: أَرَيَانِي كِتَابَكُمَا، فَنَظَرَ فِيهِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ، انْطَلِقَا حَتَّى تفرغا ثم مرّا إليّ، فانطلقا، وسمع بهما السّلمي فاستقبلهما بخيار إبله، فقالا: إنما عليك دون هذا، فقال: ما كنت أتقرّب إلى الله إلّا بخير مالي، فقبلا، فلما فرغا مرّا بثعلبة، فَقَالَ: أَرَيَانِي كِتَابَكُمَا، فَنَظَرَ فِيهِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ، انْطَلِقَا حَتَّى أَرَى رَأْيِي، فَانْطَلَقَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا رَآهُمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا: وَيْحَ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ، وَدَعَا لِلسُّلَمِيِّ بِالْبَرَكَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الثَّلَاثَ الْآيَاتِ، قَالَ: فَسَمِعَ بَعْضُ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ، فَأَتَى ثَعْلَبَةَ فَقَالَ: وَيَحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ! أُنْزِلَ فِيكَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَقَدِمَ ثَعْلَبَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رسول الله! خذ صَدَقَةُ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَحْثِي التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا عَمَلُكَ بِنَفْسِكَ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَضَى ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ! اقْبَلْ مِنِّي صَدَقَتِي فَقَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَتِي مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَأَقْبَلُهَا؟ فَلَمْ يَقْبَلْهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا أَبَا حَفْصٍ! يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! اقْبَلْ مِنِّي صَدَقَتِي، قَالَ: وَيُثْقِلُ عَلَيْهِ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَزْوَاجِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ أَقْبَلُهَا أَنَا؟ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا ثُمَّ وَلِيَ عُثْمَانُ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ، فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَأَنَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ؟ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ، فَهَلَكَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَفِيهِ نَزَلَتْ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ قَالَ: وَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ رَفَاعَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُقَالُ لَهُ: ثَعْلَبَةُ، مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى مَجْلِسًا، فَأَشْهَدَهُمْ فَقَالَ: لَئِنْ آتَانِي اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ آتَيْتُ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، وَتَصَدَّقْتُ مِنْهُ، وَجَعَلْتُ مِنْهُ لِلْقَرَابَةِ فَابْتَلَاهُ اللَّهُ فَآتَاهُ مِنْ فَضْلِهِ فَأَخْلَفَ مَا وَعَدَهُ، فَأَغْضَبَ اللَّهَ بِمَا أَخْلَفَهُ مَا وَعَدَهُ، فَقَصَّ اللَّهُ شَأْنَهُ فِي الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ هُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا، فَمَاتَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ فَوَرِثَ مِنْهُ مَالًا فَبَخِلَ بِهِ وَلَمْ يَفِ بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ، فَأَعْقَبَهُ بِذَلِكَ نِفَاقًا فِي قَلْبِهِ إِلَى أَنْ يَلْقَاهُ. قَالَ ذَلِكَ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نَتَحَامَلُ عَلَى ظُهُورِنَا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَاءٍ وَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ

[سورة التوبة (9) : الآيات 80 إلى 83]

صَدَقَةِ هَذَا، فَنَزَلَتِ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ الْآيَةَ، وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ أي: يطعنون على المطوّعين. [سورة التوبة (9) : الآيات 80 الى 83] اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ صُدُورَ الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ لِلْمُنَافِقِينَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِاسْتِغْفَارِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَا لِلْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وَفِيهِ بَيَانٌ لِعَدَمِ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِلْمُنَافِقِينَ وَإِنْ أَكْثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ لَكَانَ ذَلِكَ مَقْبُولًا كَمَا فِي سَائِرِ مَفَاهِيمِ الْأَعْدَادِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهَذَا: الْمُبَالَغَةُ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ. فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تُجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي كَلَامِهَا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّكْثِيرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمُ اسْتُغْفَارًا بَالِغًا فِي الْكَثْرَةِ غَايَةَ الْمُبَالِغِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِهَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ يُفِيدُ قَبُولَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا سَيَأْتِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ لِتَخْصِيصِ السَّبْعِينَ وَجْهًا فَقَالَ: إِنَّ السَّبْعَةَ عدد شريف، لأنّها عدد السموات، وَالْأَرَضِينَ، وَالْبِحَارِ، وَالْأَقَالِيمِ، وَالنُّجُومِ السَّيَّارَةِ، وَالْأَعْضَاءِ، وَأَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، فَصَيَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعَةِ إِلَى عَشَرَةٍ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَقِيلَ: خُصَّتِ السبعون بالذكر لأنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَبَّرَ عَلَى عَمِّهِ الْحَمْزَةِ سَبْعِينَ تَكْبِيرَةً، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً بِإِزَاءِ تَكْبِيرَاتِكَ عَلَى حَمْزَةَ. وَانْتِصَابُ سَبْعِينَ عَلَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبْتُهُ عِشْرِينَ ضَرْبَةً. ثُمَّ عَلَّلَ عَدَمَ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَيْ: ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أَيِ: الْمُتَمَرِّدِينَ، الْخَارِجِينَ عَنِ الطَّاعَةِ، الْمُتَجَاوِزِينَ لِحُدُودِهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا الْهِدَايَةُ الْمُوصِلَةُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، لَا الْهِدَايَةُ الَّتِي بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ وَإِرَاءَةِ الطَّرِيقِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ قَبَائِحِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ الْمُخَلَّفُونَ: الْمَتْرُوكُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَخَلَّفَهُمْ بِالْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَوِ الَّذِينَ خَلَّفَهُمُ اللَّهُ وَثَبَّطَهُمْ، أَوِ الشَّيْطَانُ، أَوْ كَسَّلَهُمْ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَعْنَى بِمَقْعَدِهِمْ أَيْ: بِقُعُودِهِمْ، يُقَالُ: قَعَدَ قُعُودًا وَمَقْعَدًا أَيْ: جَلَسَ، وَأَقْعَدَهُ غَيْرُهُ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الجوهري فهو متعلق بفرح، أي: فرح المخلفون بقعودهم، وخلاف رسول الله:

منتصب على أنه ظرف لمقعدهم. قَالَ الْأَخْفَشُ وَيُونُسُ: الْخِلَافُ بِمَعْنَى الْخَلْفِ، أَيْ: بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ جِهَةَ الْأَمَامِ الَّتِي يَقْصِدُهَا الْإِنْسَانُ تُخَالِفُهَا جِهَةُ الْخَلْفِ، وَقَالَ قُطْرُبٌ وَالزَّجَّاجُ: مَعْنَى خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ: مُخَالَفَةَ الرَّسُولِ حِينَ سَارَ وأقاموا، فانتصابه على مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: قَعَدُوا لِأَجْلِ الْمُخَالَفَةِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ مِثْلِ: وَأَرْسَلَهَا الْعِرَاكَ، أَيْ: مُخَالِفِينَ لَهُ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَيُونُسُ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ: خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَبَبُ ذَلِكَ الشُّحُّ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ، وَعَدَمُ وُجُودِ باعث الإيمان وداعي الإخلاص وجود الصَّارِفِ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّفَاقِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الْبَاذِلِينَ لِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِوُجُودِ الدَّاعِي مَعَهُمْ، وَانْتِفَاءِ الصَّارِفِ عَنْهُمْ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ أَيْ: قَالَ الْمُنَافِقُونَ لِإِخْوَانِهِمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَثْبِيطًا لَهُمْ، وَكَسْرًا لِنَشَاطِهِمْ: وَتَوَاصِيًا بَيْنَهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ! كَيْفَ تَفِرُّونَ مِنْ هَذَا الْحَرِّ الْيَسِيرِ، وَنَارُ جَهَنَّمَ الَّتِي سَتَدْخُلُونَهَا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَشَدُّ حَرًّا مِمَّا فَرَرْتُمْ مِنْهُ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا فَرَرْتُمْ مِنْ حَرٍّ يَسِيرٍ فِي زَمَنٍ قَصِيرٍ، وَوَقَعْتُمْ فِي حَرٍّ كَثِيرٍ فِي زَمَنٍ كَبِيرٍ، بَلْ غَيْرِ مُتَنَاهٍ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينِ. فكنت كالسّاعي إلى مثعب ... موائلا مِنْ سُبُلِ الرَّاعِدِ وَجَوَابُ لَوْ فِي لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ: مُقَدَّرٌ، أَيْ: لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أَنَّهَا كَذَلِكَ لَمَا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا. قَوْلُهُ: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً هَذَانِ الْأَمْرَانِ مَعْنَاهُمَا الْخَبَرُ، وَالْمَعْنَى: فَسَيَضْحَكُونَ قَلِيلًا وَيَبْكُونَ كَثِيرًا، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهِمَا عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مَحْتُومٌ لَا يَكُونُ غَيْرُهُ، وقليلا وكثيرا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَوِ الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: ضَحِكًا قَلِيلًا، وَبُكَاءً كَثِيرًا، أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا، وَزَمَانًا كَثِيرًا جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ: جَزَاءً بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَهُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَانْتِصَابُ جَزَاءً عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: يُجْزَوْنَ جَزَاءً فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ الرَّجْعُ مُتَعَدٍّ كَالرَّدِّ، وَالرُّجُوعُ لَازِمٌ، وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا وَإِنَّمَا قَالَ: إِلى طائِفَةٍ لِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ بَلْ كَانَ فِيهِمْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لهم أعذارا صَحِيحَةٌ، وَفِيهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، ثُمَّ عَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ: إِلَى طَائِفَةٍ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ عَنِ النِّفَاقِ، وَنَدِمَ عَلَى التَّخَلُّفِ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ مَعَكَ فِي غَزْوَةٍ أُخْرَى بَعْدَ غَزْوَتِكَ هَذِهِ فَقُلْ لَهُمْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا أَيْ: قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلِمَا فِي اسْتِصْحَابِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا. وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ مَعِيَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقُرِئَ بِسُكُونِهَا فِيهِمَا، وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ وَلَنْ تُقَاتِلُوا لِأَنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ، وَالْفَاءُ فِي فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ لِتَفْرِيعِ مَا بَعْدَهَا على ما قبلها، والخالفين: جَمْعُ خَالِفٍ، كَأَنَّهُمْ خَلَفُوا الْخَارِجِينَ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ: مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْخُرُوجِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَاقْعُدُوا مَعَ الْفَاسِدِينَ، مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ خَالَفَ أَهْلَ بَيْتِهِ إِذَا كَانَ فَاسِدًا فِيهِمْ، مِنْ قَوْلِكَ خلف

[سورة التوبة (9) : الآيات 84 إلى 89]

اللَّبَنُ، أَيْ: فَسَدَ بِطُولِ الْمُكْثِ فِي السِّقَاءِ. ذكر معناه الأصمعي. وقرئ: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ الْمُخَالِفِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ: لَوْلَا أَنَّكُمْ تُنْفِقُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وهو القائل: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ «1» فَأَنْزَلَ اللَّهُ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فقال النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبيّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَامَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا وَقَفَ قُلْتُ: أَعَلَى عَدُوِّ اللَّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْقَائِلِ كَذَا وَكَذَا، وَالْقَائِلِ كَذَا وَكَذَا؟ أُعَدِّدُ أَيَّامَهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ حَتَّى إِذَا أَكْثَرْتُ قَالَ: يَا عُمَرُ أَخِّرْ عَنِّي، إِنِّي قَدْ خُيِّرْتُ، قَدْ قِيلَ لِي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَمَشَى مَعَهُ حَتَّى قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى فُرِغَ مِنْهُ، فَعَجِبْتُ لِي وَلِجُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله ورسوله أعلم، فو الله مَا كَانَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُنَافِقٍ بَعْدُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ الْآيَةَ قَالَ: عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَنْبَعِثُوا مَعَهُ، وَذَلِكَ في الصيف، فقال رجل: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْحَرُّ شَدِيدٌ وَلَا نَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ فَلَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، فَقَالَ اللَّهُ: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا، يَقُولُ اللَّهُ: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا فِي الدُّنْيَا: وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَفِيهِمْ قِيلَ مَا قِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ قَالَ: هُمُ الرِّجَالُ الَّذِينَ تخلفوا عن الغزو. [سورة التوبة (9) : الآيات 84 الى 89] وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

_ (1) . المنافقون: 8.

قوله: ماتَ صفة لأحد، وأَبَداً ظَرْفٌ لِتَأْبِيدِ النَّفْيِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ وَدَعَا لَهُ فَمُنِعَ هَاهُنَا مِنْهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَقُمْ بِمُهِمَّاتِ إِصْلَاحِ قَبْرِهِ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كَفَرُوا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْفِسْقِ بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِالْكُفْرِ لِأَنَّ الْكَافِرَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي دِينِهِ، وَالْكَذِبُ وَالنِّفَاقُ وَالْخِدَاعُ وَالْجُبْنُ والخبث مستقبحة في كلّ دين. ثُمَّ نَهَى رَسُولَهُ عَنْ أَنْ تُعْجِبَهُ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِمَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَتَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي قَوْمٍ، وَهَذِهِ فِي آخَرِينَ، وَقِيلَ: هَذِهِ فِي الْيَهُودِ، وَالْأُولَى: فِي الْمُنَافِقِينَ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى جَمِيعُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ عَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى تَوْبِيخِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَيْ: مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بَعْضُ السُّورَةِ، وَأَنْ يُرَادَ: تَمَامُهَا وَقِيلَ: هِيَ هَذِهِ السُّورَةُ، أَيْ: سُورَةُ بَرَاءَةٍ وَ «أَنْ» فِي أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْإِنْزَالِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا الْجَارُّ، أَيْ: بِأَنْ آمِنُوا، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْجِهَادِ لَا يُفِيدُ إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ أَيْ: ذَوُو الْفَضْلِ وَالسِّعَةِ، مِنْ طال عليه طولا، كذا قال ابن العباس وَالْحَسَنُ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: الرُّؤَسَاءُ، وَالْكُبَرَاءُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِمْ، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الذَّمَّ لَهُمْ أَلْزَمُ، إِذْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ وَقالُوا ذَرْنا أَيِ: اتْرُكْنَا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ أَيِ: الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْغَزْوِ مِنَ الْمَعْذُورِينَ كَالضُّعَفَاءِ وَالزَّمْنَى، وَالْخَوَالِفُ: النِّسَاءُ اللَّاتِي يَخْلُفْنَ الرِّجَالَ فِي الْقُعُودِ فِي الْبُيُوتِ، جَمْعُ خَالِفَةٍ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ خَالَفٍ، وَهُوَ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ هو كقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ شَيْئًا مِمَّا فِيهِ نَفْعُهُمْ وَضُرُّهُمْ، بَلْ هُمْ كَالْأَنْعَامِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبيّ بن سَلُولَ أَتَى ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ لِيُكَفِّنَهُ فِيهِ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ رَبِّي خَيَّرَنِي وَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وَسَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ، فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَصَلَّى عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الْآيَةَ فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَاتَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ بِالْمَدِينَةِ فَأَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَنْ يُكَفِّنَهُ فِي قَمِيصِهِ، فَجَاءَ ابْنُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي أَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ فِي قَمِيصِكَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أُولُوا الطَّوْلِ قَالَ: أَهْلُ الْغِنَى. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ قَالَ: مَعَ النِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: رَضُوا بِأَنْ يَقْعُدُوا كَمَا قَعَدَتِ النِّسَاءُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْخَوَالِفُ: النِّسَاءُ.

[سورة التوبة (9) : آية 90]

الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: لكِنِ الرَّسُولُ إِلَى آخِرِهِ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ تَخَلُّفَ هَؤُلَاءِ غَيْرُ ضَائِرٍ، فَإِنَّهُ قَدْ قَامَ بِفَرِيضَةِ الْجِهَادِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَخْلَصُ نِيَّةً كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ «1» . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْجِهَادِ بِالْأَمْوَالِ، وَالْأَنْفُسِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنَافِعَ الْجِهَادِ فَقَالَ: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَهِيَ: جَمْعُ خَيْرٍ، فَيَشْمَلُ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ: النِّسَاءُ الْحِسَانُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ «2» وَمُفْرَدُهُ خَيِّرَةٌ بِالتَّشْدِيدِ، ثُمَّ خُفِّفَتْ مِثْلُ هَيِّنَةٍ وَهَيْنَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْفَلَاحِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْفَائِزُونَ بِالْمَطْلُوبِ، وَتَكْرِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِمْ، وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِمْ، وَالْجَنَّاتُ: الْبَسَاتِينُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ جَرْيِ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهَا، وَبَيَانُ الْخُلُودِ وَالْفَوْزِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخَيْرَاتِ وَالْفَلَاحِ، وَإِعْدَادُ الْجَنَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَوَصْفُ الْفَوْزِ بِكَوْنِهِ عَظِيمًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْفَرْدُ الْكَامِلُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَوْزِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قال الخيرات: هنّ النّساء الحسان. [سورة التوبة (9) : آية 90] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) قَرَأَ الْأَعْرَجُ وَالضَّحَّاكُ: الْمُعَذِّرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، مِنْ أَعْذَرَ، وَرَوَاهَا أَبُو كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوَاهَا أَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مُخَفَّفَةً مِنْ أَعْذَرَ. وَيَقُولُ: وَاللَّهِ هَكَذَا أُنْزِلَتْ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِلَّا أَنَّ مَدَارَهَا عَلَى الْكَلْبِيِّ، وَهِيَ مِنْ أَعْذَرَ: إِذَا بَالَغَ فِي الْعُذْرِ، وَمِنْهُ «مَنْ أَنْذَرَ فَقَدْ أَعْذَرَ» أَيْ: بَالَغَ فِي الْعُذْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْمُعَذِّرُونَ بِالتَّشْدِيدِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْمُعْتَذِرُونَ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَهُمْ عُذْرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ فَالْمُعَذِّرُونَ عَلَى هَذَا: هُمُ الْمُحِقُّونَ فِي اعْتِذَارِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ الْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ عَذَّرَ، وَهُوَ الَّذِي يَعْتَذِرُ وَلَا عُذْرَ لَهُ، يُقَالُ: عَذَّرَ فِي الْأَمْرِ: إِذَا قَصَّرَ وَاعْتَذَرَ بِمَا لَيْسَ بِعُذْرٍ، ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَصَاحِبُ الْكَشَّافِ فَالْمُعَذِّرُونَ عَلَى هَذَا: هُمُ الْمُبْطِلُونَ، لِأَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا بِأَعْذَارٍ بَاطِلَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا. وَرُوِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ، وَالْفَرَّاءِ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وأبي عبيد، أَنَّهُ يَجُوزُ كَسْرُ الْعَيْنِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَضَمِّهَا لِلْإِتْبَاعِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَاءَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَعْرَابِ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْأَعْذَارِ بِحَقٍّ أَوْ بِبَاطِلٍ عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ لِأَجْلِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يَعْتَذِرُوا، بل قعدوا عن الغزو لغير عذر،

_ (1) . الأنعام: 89. (2) . الرحمن: 70.

[سورة التوبة (9) : الآيات 91 إلى 93]

وَهُمْ مُنَافِقُو الْأَعْرَابِ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَلَا صَدَقُوا، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أَيْ: مِنَ الْأَعْرَابِ، وَهُمُ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا بِالْأَعْذَارِ الْبَاطِلَةِ، والذين لم يعتذروا، بل كذبوا بالله وَرَسُولَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْأَلَمِ فَيَصْدُقُ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ أَيْ: أَهْلُ الْعُذْرِ مِنْهُمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ نَحْوَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ الْأَضْدَادِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُعَذِّرِينَ» وَيَقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ، كَأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُعَذِّرَ بِالتَّشْدِيدِ: هُوَ الْمُظْهِرُ لِلْعُذْرِ اعْتِلَالًا مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ جَاءُوا فاعتذروا، منهم خفاف بن إيماء، وقيل: هم رَهْطُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ قَالُوا: إِنْ غَزْوَنَا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا. [سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 93] لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) لَمَّا ذَكَرَ سبحانه «المعذّرون» ذَكَرَ بَعْدَهُمْ أَهْلَ الْأَعْذَارِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْقِطَةِ لِلْغَزْوِ، وَبَدَأَ بِالْعُذْرِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَهُمْ أَرْبَابُ الزَّمَانَةِ، وَالْهَرَمِ، وَالْعَمَى، وَالْعَرَجِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعُذْرَ الْعَارِضَ فَقَالَ: وَلا عَلَى الْمَرْضى وَالْمُرَادُ بِالْمَرَضِ: كُلُّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَرَضِ لُغَةً أَوْ شَرْعًا وَقِيلَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْمَرَضِ: الْأَعْمَى، وَالْأَعْرَجِ، وَنَحْوُهُمَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْعُذْرَ الرَّاجِعَ إِلَى الْمَالِ لَا إِلَى الْبَدَنِ فَقَالَ: وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ أَيْ: لَيْسَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ يُنْفِقُونَهَا فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ التَّجَهُّزِ لِلْجِهَادِ، فَنَفَى سُبْحَانَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْحَرَجَ وَأَبَانَ أَنَّ الْجِهَادَ مَعَ هَذِهِ الْأَعْذَارِ سَاقِطٌ عَنْهُمْ، غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِمْ، مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَصْلُ النُّصْحِ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ مِنَ الْغِشِّ، وَمِنْهُ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ. قَالَ نَفْطَوَيْهِ: نَصَحَ الشَّيْءُ: إِذَا خَلُصَ، وَنَصَحَ لَهُ الْقَوْلَ: أَيْ: أَخْلَصَهُ لَهُ، وَالنُّصْحُ لِلَّهِ: الْإِيمَانُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِشَرِيعَتِهِ، وَتَرْكُ مَا يُخَالِفُهَا كَائِنًا مَا كَانَ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا نُصْحُ عِبَادِهِ، وَمَحَبَّةُ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، وَبَذْلُ النَّصِيحَةِ لَهُمْ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ، وَتَرْكُ الْمُعَاوَنَةِ لِأَعْدَائِهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَنَصِيحَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَطَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ، وَمُوَالَاةُ مَنْ وَالَاهُ، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُ، وَمَحَبَّتُهُ، وَتَعْظِيمُ سُنَّتِهِ، وَإِحْيَاؤُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِمَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ الْقُدْرَةُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ- ثَلَاثًا-، قَالُوا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ، ولكتابه،

وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» ، وَجُمْلَةُ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا سَبَقَ، أَيْ: لَيْسَ عَلَى الْمَعْذُورِينَ النَّاصِحِينَ مِنْ سَبِيلٍ، أي: طريق عقاب ومؤاخذة، ومن: مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ لَفْظُ الْمُحْسِنِينَ مَوْضُوعًا فِي مَوْضِعِ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمَذْكُورِينَ سَابِقًا، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ: مَا عَلَى جِنْسِ المحسنين من سبيل، وهؤلاء المذكورين سَابِقًا مِنْ جُمْلَتِهِمْ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلِيَّةً، وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلِيَّةً، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، وَقَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ «1» ، وَإِسْقَاطُ التَّكْلِيفِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَعْذُورِينَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ ثُبُوتِ ثَوَابِ الْغَزْوِ لَهُمُ الَّذِي عَذَرَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ رَغْبَتِهِمْ إِلَيْهِ لَوْلَا حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ عَنْهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَأَحْمَدَ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَقَدْ تَرَكْتُمْ بَعْدَكُمْ قَوْمًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَنَا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْذُورِينَ مَنْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ وَالْعَطْفُ عَلَى جُمْلَةِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ أَيْ: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ إِلَى آخِرِهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى الضُّعَفَاءِ، أَيْ: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ إِلَى آخِرِهِ حَرَجٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْذُورِينَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ عَلَى مَا يَرْكَبُونَ عَلَيْهِ فِي الْغَزْوِ فَلَمْ تَجِدْ ذَلِكَ الَّذِي طَلَبُوهُ مِنْكَ. قِيلَ: وَجُمْلَةُ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكَافِ فِي أَتَوْكَ بِإِضْمَارِ قَدْ، أَيْ: إِذَا مَا أَتَوْكَ قَائِلًا لَا أَجِدُ وَقِيلَ: هِيَ بَدَلٌ مِنْ أَتَوْكَ وَقِيلَ: جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ: تَوَلَّوْا جَوَابُ إِذَا، وَجُمْلَةُ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: تَوَلَّوْا عَنْكَ لَمَّا قُلْتَ لَهُمْ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِمْ بَاكِينَ، وحَزَناً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، أَوِ الحالية، وأَلَّا يَجِدُوا مَفْعُولٌ لَهُ، وَنَاصِبُهُ حَزَناً، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْ لَا بِمَعْنَى لَيْسَ أَيْ حَزَنًا أَنْ لَيْسَ يَجِدُوا وَقِيلَ الْمَعْنَى: حَزَنًا عَلَى أَنْ لَا يَجِدُوا وَقِيلَ الْمَعْنَى: حَزَنًا أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ لَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا عِنْدَكَ. ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ عَلَيْهِ السَّبِيلُ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ فَقَالَ: إِنَّمَا السَّبِيلُ أَيْ: طَرِيقُ الْعُقُوبَةِ وَالْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ فِي التخلف عن الغزو، وَالحال أن هُمْ أَغْنِياءُ أَيْ: يَجِدُونَ مَا يَحْمِلُهُمْ وَمَا يَتَجَهَّزُونَ بِهِ، وَجُمْلَةُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ مُسْتَأْنَفَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا بَالُهُمُ اسْتَأْذَنُوا وَهُمْ أَغْنِيَاءُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخَوَالِفِ قَرِيبًا. وَجُمْلَةُ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى رَضُوا أَيْ: سَبَبُ الِاسْتِئْذَانِ مَعَ الْغِنَى أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: الرِّضَا بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَالثَّانِي: الطَّبْعُ مِنَ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ بِسَبَبِ هَذَا الطَّبْعِ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ الرِّبْحُ لَهُمْ حَتَّى يَخْتَارُوهُ عَلَى مَا فِيهِ الْخُسْرُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَوَاضِعٌ الْقَلَمَ عَنْ أُذُنِي إِذْ أمرنا بالقتال، فجعل

_ (1) . النور: 61.

رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَنْظُرُ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ، إِذْ جَاءَ أَعْمَى فَقَالَ: كَيْفَ بِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أَعْمَى؟ فَنَزَلَتْ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَابِدِ بْنِ عُمَرَ الْمُزَنِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَزَلَ مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ إِلَى قَوْلِهِ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ قَالَ: مَا عَلَى هَؤُلَاءِ من سبيل بأنهم نصحوا الله وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يُطِيقُوا الْجِهَادَ، فَعَذَرَهُمُ اللَّهُ، وَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ مَا جَعَلَ لِلْمُجَاهِدِينَ، أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «1» فَجَعَلَ اللَّهُ لِلَّذِينِ عَذَرَ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَأُولِي الضَّرَرِ، وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا جَعَلَ لِلْمُجَاهِدِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ قَالَ: وَاللَّهُ لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ الْآيَةَ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْبَعِثُوا غَازِينَ مَعَهُ، فَجَاءَتْ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! احْمِلْنَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، فَتُوَلُّوا وَلَهُمْ بُكَاءٌ، وَعَزِيزٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْلِسُوا عَنِ الْجِهَادِ، وَلَا يَجِدُونَ نَفَقَةً، وَلَا مَحْمَلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهُمْ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: إِنِّي لَا أَجِدُ الرَّهْطَ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ محمد ابن كَعْبٍ قَالَ: هُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ: مِنْ بَنِي عُمَرَ بْنِ عَوْفٍ: سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنْ بَنِي وَاقِفٍ: حَرَمِيُّ بْنُ عَمْرٍو، وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ يُكْنَى أَبَا لَيْلَى، وَمِنْ بَنِي الْمُعَلَّى: سَلْمَانُ بْنُ صَخْرٍ، وَمِنْ بَنِي حَارِثَةَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ أَبُو عَبْلَةَ، وَمِنْ بَنِي سَلَمَةَ: عَمْرُو بْنُ غَنَمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ. وَقَدِ اتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَعْضِ، وَلَا يَأْتِي التَّطْوِيلُ فِي ذَلِكَ بِكَثِيرِ فَائِدَةٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم البكّاؤون، وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ ذكروا أسماءهم، وفيه: فاستحملوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ. قَالَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ مِنَ الْبَكَّائِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ قَالَ: الْمَاءُ وَالزَّادُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَشْيَخَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالُوا: أَدْرَكْنَا الَّذِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِمْلَانَ، فَقَالُوا: مَا سَأَلْنَاهُ إِلَّا الْحِمْلَانَ عَلَى النِّعَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ إبراهيم ابن أَدْهَمَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ فِي قَوْلِهِ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قَالَ: مَا سَأَلُوهُ الدَّوَابَّ، مَا سَأَلُوهُ إِلَّا النِّعَالَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: اسْتَحْمَلُوهُ النِّعَالَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ قَالَ: هي وما بعدها إلى

_ (1) . النساء: 95.

[سورة التوبة (9) : الآيات 94 إلى 99]

قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ في المنافقين. [سورة التوبة (9) : الآيات 94 الى 99] يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) قَوْلُهُ: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِخْبَارٌ مِنَ الله سبحانه عن المنافقين المعتذرين بِالْبَاطِلِ بِأَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذَا رَجَعُوا مِنَ الْغَزْوِ، وَهَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِلَيْهِمْ أَيْ: إِلَى الْمُعْتَذِرِينَ بِالْبَاطِلِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ مَدَارَ الِاعْتِذَارِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِمْ لَا الرُّجُوعُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرُبَّمَا يَقَعُ الِاعْتِذَارُ عِنْدَ الْمُلَاقَاةِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُجِيبُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ فَنَهَاهُمْ أَوَّلًا عَنِ الِاعْتِذَارِ بِالْبَاطِلِ، ثُمَّ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أَيْ: لَنْ نُصَدِّقَكُمْ، كَأَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي اعْتِذَارِهِمْ، لِأَنَّ غَرَضَ الْمُعْتَذِرِ أَنْ يُصَدَّقَ فِيمَا يَعْتَذِرُ بِهِ، فَإِذَا عَرَفَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ تَرَكَ الِاعْتِذَارَ، وَجُمْلَةُ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ تَعْلِيلِيَّةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: لَا يَقَعُ مِنَّا تَصْدِيقٌ لَكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْلَمَنَا بِالْوَحْيِ مَا هُوَ مُنَافٍ لِصِدْقِ اعْتِذَارِكُمْ، وَإِنَّمَا خَصَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِالْجَوَابِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا مَعَ أَنَّ الِاعْتِذَارَ مِنْهُمْ كَائِنٌ إِلَى جَمِيعِ المؤمنين، لأنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ رَأْسُهُمْ، وَالْمُتَوَلِّي لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْكُمْ هُوَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمَشْهُورِ فِي مِثْلِ هَذَا. قَوْلُهُ: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أَيْ: مَا سَتَفْعَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فِيمَا بَعْدُ، هَلْ تُقْلِعُونَ عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْآنَ مِنَ الشَّرِّ، أَمْ تَبْقُونَ عليه؟. قوله: وَرَسُولُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ، وَوَسَّطَ مَفْعُولَ الرُّؤْيَةِ إِيذَانًا بِأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِمَا سَيَفْعَلُونَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ هِيَ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْإِثَابَةُ أَوِ الْعُقُوبَةُ، وَفِي جُمْلَةِ: ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ إِلَى آخِرِهَا: تَخْوِيفٌ شَدِيدٌ، لِمَا هِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِ مِنَ التَّهْدِيدِ، وَلَا سِيَّمَا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، لِإِشْعَارِ ذَلِكَ بِإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ مِنْهُمْ مِمَّا يَكْتُمُونَهُ وَيَتَظَاهَرُونَ بِهِ، وَإِخْبَارِهِ لَهُمْ بِهِ وَمُجَازَاتِهِمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَذِرِينَ بِالْبَاطِلِ سَيُؤَكِّدُونَ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْأَعْذَارِ الْبَاطِلَةِ بِالْحَلِفِ عِنْدَ رُجُوعِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْغَزْوِ، وَغَرَضُهُمْ مِنْ هَذَا التَّأْكِيدِ: هُوَ أَنْ يُعْرِضَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْهُمْ فَلَا يُوَبِّخُونَهُمْ، وَلَا يُؤَاخِذُونَهُمْ بِالتَّخَلُّفِ، وَيُظْهِرُونَ الرِّضَا عَنْهُمْ، كَمَا يُفِيدُهُ ذِكْرُ الرِّضَا مِنْ بَعْدُ،

وَحَذْفُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: لِكَوْنِ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ اعْتِذَارُهُمُ الْبَاطِلُ، وَأَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمُ الْمُرَادُ: بِهِ تَرْكُهُمْ وَالْمُهَاجَرَةُ لَهُمْ، لَا الرِّضَا عَنْهُمْ وَالصَّفْحُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، كَمَا تُفِيدُهُ جُمْلَةُ إِنَّهُمْ رِجْسٌ الْوَاقِعَةُ عِلَّةً لِلْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ رِجْسٌ لِكَوْنِ جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ نَجِسَةٌ، فَكَأَنَّهَا قَدْ صَيَّرَتْ ذَوَاتِهِمْ رِجْسًا، أَوْ أَنَّهُمْ ذَوُو رِجْسٍ، أَيْ: ذَوُو أَعْمَالٍ قَبِيحَةٍ، وَمِثْلُهُ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ وَهَؤُلَاءِ لَمَّا كَانُوا هَكَذَا كَانُوا غَيْرَ مُتَأَهِّلِينَ لِقَبُولِ الْإِرْشَادِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّرِّ، فَلَيْسَ لَهُمْ إِلَّا التَّرْكُ، وَقَوْلُهُ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيلِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَا يُجْدِي فِيهِ الدُّعَاءُ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْمَأْوَى: كُلُّ مَكَانٍ يَأْوِي إِلَيْهِ الشَّيْءُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا. وَقَدْ أَوَى فُلَانٌ إِلَى مَنْزِلِهِ يَأْوِي أُوِيًّا وإيواء، وجَزاءً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَكْسِبُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَجُمْلَةُ يَحْلِفُونَ لَكُمْ بَدَلٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَحُذِفَ هُنَا الْمَحْلُوفُ بِهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِمَّا سَبَقَ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَقْصِدَهُمْ بِهَذَا الْحَلِفِ هُوَ رِضَا الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرِّضَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَذِرِينَ بِالْبَاطِلِ، فَقَالَ: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ كَمَا هُوَ مَطْلُوبُهُمْ مُسَاعَدَةً لَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عَدَمِ الرِّضَا عَلَى هَؤُلَاءِ الْفَسَقَةِ الْعُصَاةِ، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ لَا تَفْعَلُوا خِلَافَ ذَلِكَ بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَرْضَوْا عَنْهُمْ، عَلَى أَنَّ رِضَاكُمْ عَنْهُمْ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَلَا مُفِيدٍ لَهُمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِعَدَمِ رِضَاهُ عَنْهُمْ: نَهْيُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الرِّضَا عَلَى مَنْ لَا يَرْضَى اللَّهُ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَفْعَلُهُ مُؤْمِنٌ. قَوْلُهُ: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ بِالْمَدِينَةِ ذَكَرَ حَالَ مَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهَا مِنَ الْأَعْرَابِ وَبَيَّنَ أَنَّ كُفْرَهُمْ وَنِفَاقَهُمْ أَشَدُّ مِنْ كُفْرِ غَيْرِهِمْ، وَمِنْ نِفَاقِ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَقْسَى قَلْبًا، وَأَغْلَظُ طَبْعًا، وَأَجْفَى قَوْلًا، وَأَبْعَدُ عَنْ سَمَاعِ كُتُبِ اللَّهِ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ. وَالْأَعْرَابُ: هُمْ مَنْ سَكَنَ الْبَوَادِيَ بِخِلَافِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُ عَامٌّ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ بَنِي آدَمَ، سَوَاءٌ سَكَنُوا الْبَوَادِيَ أَوِ الْقُرَى، هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ الْأَعْرَابَ صِيغَةُ جَمْعٍ، وَلَيْسَتْ بِصِيغَةِ جَمْعٍ الْعَرَبُ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: رَجُلٌ عَرَبِيٌّ إِذَا كَانَ نَسَبُهُ إِلَى الْعَرَبِ ثَابِتًا، وَجَمْعُهُ عَرَبٌ كَالْمَجُوسِيِّ وَالْمَجُوسِ. وَالْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِ فَالْأَعْرَابِيُّ إِذَا قِيلَ لَهُ يَا عَرَبِيُّ فَرِحَ، وَإِذَا قِيلَ لِلْعَرَبِيِّ يَا أَعْرَابِيُّ غَضِبَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اسْتَوْطَنَ الْقُرَى الْعَرَبِيَّةَ فَهُوَ عَرَبِيٌّ، وَمَنْ نَزَلَ الْبَادِيَةَ فَهُوَ أَعْرَابِيٌّ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَعْرَابٌ، وَإِنَّمَا هُمْ عَرَبٌ، قَالَ: قِيلَ إِنَّمَا سُمِّيَ الْعَرَبُ عَرَبًا لِأَنَّ أَوْلَادَ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَشَئُوا بِالْعَرَبِ، وَهِيَ مِنْ تِهَامَةَ فَنُسِبُوا إِلَى بَلَدِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ يَسْكُنُ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ وَيَنْطِقُ بِلِسَانِهِمْ فَهُوَ منهم وقيل: لأن ألسنتهم مُعْرِبَةٌ عَمَّا فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَلِمَا فِي لِسَانِهِمْ مِنَ الْفَصَاحَةِ، وَالْبَلَاغَةِ، انْتَهَى. وَأَجْدَرُ مَعْطُوفٌ عَلَى أَشَدُّ، وَمَعْنَاهُ: أَخْلَقُ، يُقَالُ: فُلَانٌ جَدِيرٌ بِكَذَا، أَيْ: خَلِيقٌ بِهِ، وَأَنْتَ جَدِيرٌ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، وَالْجَمْعُ: جُدُرٌ، أَوْ جَدِيرُونَ. وَأَصْلُهُ مِنْ جَدْرِ الْحَائِطِ، وَهُوَ رَفْعُهُ بِالْبِنَاءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَحَقُّ وَأَخْلَقُ بِ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَالْأَحْكَامِ، لِبُعْدِهِمْ عَنْ مَوَاطِنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَدِيَارِ التَّنْزِيلِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ حَكِيمٌ فِيمَا يُجَازِيهِمْ بِهِ مِنْ

خَيْرٍ وَشَرٍّ، قَوْلُهُ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً هذا تنويع لجنس إلى نَوْعَيْنِ، الْأَوَّلُ: هَؤُلَاءِ وَالثَّانِي: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والمغرم: الغرامة والخسران، وهو ثان مفعولي يتّخذ، لأنه بمعنى الجعل، والمعنى: اعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران، وَأَصْلُ الْغُرْمِ وَالْغَرَامَةِ: مَا يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُ فِي اعْتِقَادِهِ، وَلَكِنَّهُ يُنْفِقُهُ لِلرِّيَاءِ وَالتَّقِيَّةِ وَقِيلَ: أَصْلُ الْغُرْمِ اللُّزُومُ كَأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ لَا تَنْبَعِثُ لَهُ النفس. والدَّوائِرَ جُمَعُ دَائِرَةٍ، وَهِيَ الْحَالَةُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنِ النِّعْمَةِ إِلَى الْبَلِيَّةِ، وَأَصْلُهَا مَا يُحِيطُ بِالشَّيْءِ، وَدَوَائِرُ الزَّمَانِ: نُوَبُهُ وَتَصَارِيفُهُ وَدُوَلُهُ، وَكَأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ دَعَا سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَجَعَلَ مَا دَعَا بِهِ عَلَيْهِمْ مُمَاثِلًا لِمَا أَرَادُوهُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَالسَّوْءُ بِالْفَتْحِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ مَصْدَرٌ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ الدَّائِرَةُ لِلْمُلَابَسَةِ كَقَوْلِكَ رَجُلُ صِدْقٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِضَمِّ السِّينِ، وَهُوَ الْمَكْرُوهُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ الْهَزِيمَةِ وَالشَّرِّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ الْعَذَابُ وَالْبَلَاءُ. قَالَ: وَالسَّوْءُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ سُؤْتُهُ سَوْءًا وَمَسَاءَةً، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ لَا مَصْدَرَ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: دَائِرَةُ الْبَلَاءِ، وَالْمَكْرُوهِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَهُ عَلِيمٌ بِمَا يُضْمِرُونَهُ. قَوْلُهُ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هَذَا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْرَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ: يُصَدِّقُ بِهِمَا وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ أَيْ: يَجْعَلُ مَا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قُرُباتٍ وَهِيَ جَمْعُ قُرْبَةٍ، وَهِيَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، تَقُولُ مِنْهُ: قَرَّبْتُ لِلَّهِ قُرْبَانًا، وَالْجَمْعُ قُرَبٌ وَقُرُبَاتٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجْعَلُ مَا يُنْفِقُهُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْقُرُبَاتِ عِنْدَ اللَّهِ وَسببا لِ صَلَواتِ الرَّسُولِ أَيْ لِدَعَوَاتِ الرَّسُولِ لَهُمْ، لِأَنَّهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو لِلْمُتَصَدِّقِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، ومنه قوله «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ بِأَنَّ مَا يُنْفِقُهُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَعْرَابِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ مَقْبُولٌ وَاقِعٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادُوهُ فَقَالَ: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِقَبُولِهَا خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِأِسْمِيَّةِ الْجُمْلَةِ، وَحَرْفَيِ التَّنْبِيهِ وَالتَّحْقِيقِ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّطْيِيبِ لِخَوَاطِرِهِمْ، وَالتَّطْمِينِ لِقُلُوبِهِمْ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ مَعَ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ النَّعْيِ عَلَى مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا، وَالتَّوْبِيخِ لَهُ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهَا رَاجِعٌ إِلَى «مَا» فِي مَا يُنْفِقُ، وَتَأْنِيثُهُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قُرْبَةٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا تَخْفِيفًا، ثُمَّ فَسَّرَ سُبْحَانَهُ الْقُرْبَةَ بِقَوْلِهِ: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وَالسِّينُ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَنَّكُمْ لَوْ خَرَجْتُمْ مَا زِدْتُمُونَا إِلَّا خَبَالًا، وَفِي قَوْلِهِ: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ قَالَ: لما رجع النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا تُكَلِّمُوهُمْ، وَلَا تُجَالِسُوهُمْ، فَأَعْرَضُوا عَنْهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ قَالَ: لِتُجَاوِزُوا عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً قَالَ: مِنْ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ يَعْنِي: الْفَرَائِضَ وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْجِهَادِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَكَنَ

[سورة التوبة (9) : الآيات 100 إلى 106]

الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ» . وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ هَكَذَا: حَدَّثَنَا عبد الرحمن ابن مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: وَأَبُو مُوسَى عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَجْهُولٌ مِنَ السَّادِسَةِ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِسْرَائِيلُ بْنُ مُوسَى، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَا جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتُتِنَ، وَمَا ازْدَادَ أَحَدٌ مِنْ سُلْطَانِهِ قُرْبًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً قَالَ: يَعْنِي بِالْمَغْرَمِ: أَنَّهُ لَا يَرْجُو لَهُ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ وَلَا مُجَازَاةً، وإنما يعطي ما يُعْطِي مِنَ الصَّدَقَاتِ كَرْهًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ الْهِلْكَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ إِنَّمَا يُنْفِقُونَ رِيَاءً اتِّقَاءً عَلَى أَنْ يَغْزُوا، وَيُحَارِبُوا، وَيُقَاتِلُوا، وَيَرَوْنَ نَفَقَاتِهِمْ مَغْرَمًا. وأخرج ابن أبي جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ قَالَ: هُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: كُنَّا عَشَرَةً وَلَدَ مُقَرِّنٍ، فَنَزَلَتْ فِينَا وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَصَلَواتِ الرَّسُولِ يَعْنِي اسْتِغْفَارَ النبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 106] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَصْنَافَ الْأَعْرَابِ ذَكَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمُ السَّابِقِينَ إِلَى الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ مِنْهُمُ التَّابِعِينَ لَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ: وَالْأَنْصارِ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى وَالسَّابِقُونَ وَقَرَأَ سَائِرُ الْقُرَّاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ بِالْجَرِّ. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْخَفْضُ فِي الْأَنْصَارِ الْوَجْهُ،

لِأَنَّ السَّابِقِينَ مِنْهُمْ يَدْخُلُونَ فِي قَوْلِهِ وَالسَّابِقُونَ وَفِي الْآيَةِ تَفْضِيلُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَهُمُ الَّذِينَ صَلَّوُا الْقِبْلَتَيْنِ فِي قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَطَائِفَةٍ، أَوِ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَهِيَ بَيْعَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ، أَوْ أَهْلُ بَدْرٍ فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا، قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: أَصْحَابُنَا مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، ثُمَّ السِّتَّةُ الْبَاقُونَ، ثُمَّ الْبَدْرِيُّونَ، ثُمَّ أَصْحَابُ أُحُدٍ، ثُمَّ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةِ. قَوْلُهُ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ قرأ عمر ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ مَحْذُوفَ الْوَاوِ، وَصْفًا لِلْأَنْصَارِ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِرَفْعِ الْأَنْصَارِ، فَرَاجَعَهُ فِي ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَسَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَصَدَّقَ زَيْدًا فَرَجَعَ عُمَرُ عَنِ الْقِرَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَمَعْنَى الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ: الَّذِينَ اتَّبَعُوا السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَهُمُ الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمُ: التَّابِعِينَ اصْطِلَاحًا، وَهُمْ كُلُّ مَنْ أَدْرَكَ الصَّحَابَةَ وَلَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، بَلْ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَدْخُلُ تَحْتَ الْآيَةِ، فَتَكُونُ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ مِنَ الْمُهاجِرِينَ عَلَى هَذَا لِلتَّبْعِيضِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلْبَيَانِ، فَيَتَنَاوَلُ الْمَدْحُ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالتَّابِعِينَ: مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ: بِإِحْسانٍ قَيْدٌ لِلتَّابِعِينَ، أَيْ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ مُتَلَبِّسِينَ بِإِحْسَانٍ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ اقْتِدَاءً مِنْهُمْ بِالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ. قَوْلُهُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خَبَرٌ للمتبدأ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى رِضَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ: أنه قيل طَاعَاتِهِمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَسْخَطْ عَلَيْهِمْ وَرَضُوا عَنْهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَمَعَ رِضَاهُ عنهم فقد أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ فِي الدَّارِ الآخرة. وقرأ ابن كثير: تجري من تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ بِزِيَادَةِ مِنْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا وَالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ جَرْيِ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِ الْجَنَّاتِ، وَتَفْسِيرُ الْخُلُودِ وَالْفَوْزِ. قَوْلُهُ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ هَذَا عَوْدٌ إِلَى شَرْحِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ مَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، وَمِمَّنْ حولكم: خبر مقدّم، ومن الْأَعْرَابِ: بَيَانٌ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَمُنَافِقُونَ هُوَ الْمُبْتَدَأُ قِيلَ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ هُمْ جُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ وَأَشْجَعُ وَغِفَارُ، وَجُمْلَةُ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى عطف جملة على جملة. وقيل: إن من أَهْلِ الْمَدِينَةِ: عَطْفٌ عَلَى الْخَبَرِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَعَلَى الْأَوَّلِ: يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ مُقَدَّرًا، أَيْ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَوْمٌ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُنَافِقُونَ مَرَدُوا، وَلِكَوْنِ جُمْلَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا، وَأَصْلُ مَرَدَ وَتَمَرَّدَ: اللِّينُ وَالْمَلَاسَةُ وَالتَّجَرُّدُ، فَكَأَنَّهُمْ تَجَرَّدُوا لِلنِّفَاقِ، وَمِنْهُ غُصْنٌ أَمَرَدُ: لَا وَرَقَ عَلَيْهِ، وَفَرَسٌ أَمَرَدُ: لَا شَعْرَ فِيهِ، وَغُلَامٌ أَمَرَدُ: لَا شَعْرَ بِوَجْهِهِ، وَأَرْضٌ مَرْدَاءُ: لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَصَرْحٌ مُمَرَّدٌ: مُجَرَّدٌ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَقَامُوا عَلَى النِّفَاقِ وَثَبَتُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْثَنُوا عَنْهُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ لَجُّوا فيه وأبوا غَيْرَهُ، وَجُمْلَةُ لَا تَعْلَمُهُمْ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، أَيْ: ثَبَتُوا عَلَيْهِ ثُبُوتًا شَدِيدًا، وَمَهَرُوا فِيهِ، حَتَّى خَفِيَ أَمْرُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَالْمُرَادُ عَدَمُ عِلْمِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِأَعْيَانِهِمْ لَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ للنفاق دَلَائِلَ لَا تَخْفَى

عليه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَجُمْلَةُ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى مَهَارَتِهِمْ فِي النِّفَاقِ وَرُسُوخِهِمْ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَخْفَى عَلَى الْبَشَرِ، وَلَا يَظْهَرُ لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِلْمِهِ بِمَا يَخْفَى وَمَا تُجِنُّهُ الضَّمَائِرُ وَتَنْطَوِي عَلَيْهِ السَّرَائِرُ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَرَّتَيْنِ: عَذَابُ الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْفَضِيحَةُ بِانْكِشَافِ نِفَاقِهِمْ، وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ: الْمَصَائِبُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَعَذَابُ الْقَبْرِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ بِعَيْنِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ الْمُكَرَّرَ هُوَ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَذَابِ، وَأَنَّهُمْ يُعَذِّبُونَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يُرَدُّونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْعَذَابَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ بَعْدَ عَذَابِهِمْ فِي النَّارِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ إِلَى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْهَا أَوْ أَنَّهُمْ يُعَذِّبُونَ فِي النَّارِ عَذَابًا خَاصًّا بِهِمْ دُونَ سَائِرِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ يَرُدُّونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْعَذَابِ الشَّامِلِ لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْكُفَّارِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْمُخَلِّطُونَ فِي دِينِهِمْ فَقَالَ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مُنَافِقُونَ أَيْ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَوْمٌ آخَرُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آخَرُونَ: مبتدأ، واعترفوا بذنوبهم: صفته، وخلطوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا: خَبَرَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ لِغَيْرِ عُذْرٍ مُسَوِّغٍ لِلتَّخَلُّفِ، ثُمَّ نَدِمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْتَذِرُوا بِالْأَعْذَارِ الْكَاذِبَةِ كَمَا اعْتَذَرَ الْمُنَافِقُونَ، بَلْ تَابُوا وَاعْتَرَفُوا بِالذَّنْبِ، وَرَجَوْا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِسْلَامِهِمْ وَقِيَامِهِمْ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَخُرُوجِهِمْ إِلَى الْجِهَادِ فِي سَائِرِ الْمَوَاطِنِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ السَّيِّئِ: هُوَ تَخَلُّفُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَقَدْ أَتْبَعُوا هَذَا الْعَمَلَ السَّيِّئَ عَمَلًا صَالِحًا، وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِهِ وَالتَّوْبَةُ عَنْهُ. وَأَصْلُ الِاعْتِرَافِ الْإِقْرَارُ بِالشَّيْءِ، وَمُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ لَا يَكُونُ تَوْبَةً إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ النَّدَمُ عَلَى الْمَاضِي، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا يُفِيدُ هَذَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمَعْنَى الْخَلْطِ: أَنَّهُمْ خَلَطُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، كَقَوْلِكَ: خَلَطْتُ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ وَاللَّبَنَ بِالْمَاءِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى الْبَاءِ كَقَوْلِكَ بِعْتُ الشَّاةَ شَاةً وَدِرْهَمًا: أَيْ بِدِرْهَمٍ، وَفِي قَوْلِهِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَعَ الِاعْتِرَافِ مَا يُفِيدُ التَّوْبَةَ، أَوْ أَنَّ مُقَدِّمَةَ التَّوْبَةِ وَهِيَ الِاعْتِرَافُ قَامَتْ مَقَامَ التَّوْبَةِ، وَحَرْفُ التَّرَجِّي وَهُوَ عَسَى هُوَ فِي كَلَامِ اللَّهِ سبحانه يفيد تحقق الْوُقُوعِ، لِأَنَّ الْإِطْمَاعَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِيجَابٌ لِكَوْنِهِ أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيَتَفَضَّلُ عَلَى عِبَادِهِ. قَوْلُهُ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَقِيلَ: هِيَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ، وَقِيلَ: هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُعْتَرِفَةِ بِذُنُوبِهَا، لِأَنَّهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ عَرَضُوا أَمْوَالَهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت هذه الآية، ومِنْ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ، وَالْآيَةُ مُطْلَقَةٌ مُبِيَّنَةٌ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَالصَّدَقَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الصِّدْقِ، إِذْ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ مُخْرِجِهَا فِي إِيمَانِهِ. قَوْلُهُ: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها الضَّمِيرُ فِي الْفِعْلَيْنِ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، أي: تطهركم وَتُزَكِّيهِمْ يَا مُحَمَّدُ بِمَا تَأْخُذُهُ مِنَ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي تُطَهِّرُهُمْ: لِلصَّدَقَةِ أَيْ: تُطَهِّرُهُمْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْهُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي تزكيهم: للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي:

تُزَكِّيهِمْ يَا مُحَمَّدُ بِالصَّدَقَةِ الْمَأْخُوذَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا فِي الثَّانِي مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الضَّمِيرَيْنِ فِي الْفِعْلَيْنِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ وَعَلَى الْأَوَّلِ: فَالْفِعْلَانِ مُنْتَصِبَانِ عَلَى الْحَالِ، وَعَلَى الثَّانِي فَالْفِعْلُ الْأَوَّلُ صِفَةٌ لصدقة، والثاني حال منه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى التَّطْهِيرِ: إِذْهَابُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ أَثَرِ الذُّنُوبِ، وَمَعْنَى التَّزْكِيَةِ: الْمُبَالَغَةُ فِي التَّطْهِيرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَاطَبَةُ للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي: فإنك يا محمد تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، عَلَى الْقَطْعِ وَالِاسْتِئْنَافِ، وَيَجُوزُ الْجَزْمُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَالْمَعْنَى: أَنْ تَأْخُذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ. وَقَدْ قَرَأَ الْحَسَنُ بِجَزْمِ تُطَهِّرُهُمْ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَيَكُونُ وَتُزَكِّيهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ أَيْ: وَأَنْتَ تُزَكِّيهِمْ بِهَا. قَوْلُهُ: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ: أَيِ: ادْعُ لَهُمْ بَعْدَ أَخْذِكَ لِتِلْكَ الصَّدَقَةِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ جَمِيعًا فِيمَا عَلِمْنَاهُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الدُّعَاءُ، ثُمَّ عَلَّلَ سبحانه أمره لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالصّلاة على من يأخذ من الصَّدَقَةَ فَقَالَ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ قَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةٌ وَالْكِسَائِيُّ «صَلَاتَكَ» بِالتَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ، وَالسَّكَنُ مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَتَطْمَئِنُّ بِهِ. قَوْلُهُ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ لَمَّا تَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ سَابِقًا. قَالَ اللَّهُ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَيْ غَيْرُ التَّائِبِينَ، أَوِ التَّائِبُونَ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيَقْبَلَ صَدَقَاتِهِمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ طَاعَةِ الْمُطِيعِينَ، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِمَعْصِيَةِ الْعَاصِينَ. وَقُرِئَ: أَلَمْ تَعْلَمُوا بِالْفَوْقِيَّةِ، وَهُوَ إِمَّا خِطَابٌ لِلتَّائِبِينَ، أَوْ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعْنَى وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ: أَيْ: يَتَقَبَّلُهَا مِنْهُمْ، وَفِي إِسْنَادِ الْأَخْذِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَمْرِهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخْذِهَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِهَذِهِ الطَّاعَةِ وَلِمَنْ فَعَلَهَا. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ مَعَ تَضَمُّنِهِ لِتَأْكِيدِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ، أَيْ: أَنَّ هَذَا شَأْنُهُ سُبْحَانَهُ. وَفِي صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَّابِ وَفِي الرَّحِيمِ مَعَ تَوْسِيطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ. وَالتَّأْكِيدِ مِنَ التَّبْشِيرِ لِعِبَادِهِ، وَالتَّرْغِيبِ لَهُمْ، مَا لَا يَخْفَى. قَوْلُهُ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ فِيهِ تَخْوِيفٌ وَتَهْدِيدٌ أَيْ: إِنَّ عَمَلَكُمْ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ وَلَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَسَارِعُوا إِلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَأَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِيهِ أَيْضًا تَرْغِيبٌ وَتَنْشِيطٌ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَخْفَى سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا رَغِبَ إِلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَتَجَنَّبَ أَعْمَالَ الشَّرِّ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ زُهَيْرٍ: وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وَإِنَّ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمُ وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ هُنَا الْعِلْمُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ جَاءَ سُبْحَانَهُ بِوَعِيدٍ شَدِيدٍ فَقَالَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيْ: وَسَتَرُدُّونَ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّذِي يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَهُ، وَمَا تُعْلِنُونَهُ، وَمَا تُخْفُونَهُ وَمَا تُبْدُونَهُ، وَفِي تَقْدِيمِ الْغَيْبِ عَلَى الشَّهَادَةِ إِشْعَارٌ بِسِعَةِ عِلْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَيَسْتَوِي عِنْدَهُ كُلُّ مَعْلُومٍ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا سَيَكُونُ عَقِبَ رَدِّهِمْ إِلَيْهِ فَقَالَ فَيُنَبِّئُكُمْ أَيْ: يُخْبِرُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا، فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. قَوْلُهُ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ: الْأَوَّلُ: الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، وَالثَّانِي: التَّائِبُونَ الْمُعْتَرِفُونَ بِذُنُوبِهِمْ، الثَّالِثُ: الَّذِينَ بَقِيَ أَمْرُهُمْ مَوْقُوفًا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَهُمُ

الْمُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ، مِنْ أَرْجَيْتُهُ وَأَرْجَأْتُهُ: إِذَا أَخَّرْتُهُ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَنَافِعٌ وَحَفَصٌ: مُرْجَوْنَ بِالْوَاوِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْهَمْزَةِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَ الْجِيمِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مُؤَخَّرُونَ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَا يُقْطَعُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَلَا بِعَدَمِهَا، بَلْ هُمْ عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي شَأْنِهِمْ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ إِنْ بَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتُوبُوا وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ تَابُوا تَوْبَةً صَحِيحَةً، وَأَخْلَصُوا إِخْلَاصًا تَامًّا، وَالْجُمْلَةُ: فِيُ مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ حَالَ كَوْنِهِمْ: إِمَّا مُعَذَّبِينَ، وَإِمَّا مَتُوبًا عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ حَكِيمٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ بِهِمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ فَقَالَ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوُا الْقِبْلَتَيْنِ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مِثْلَهُ أَيْضًا وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَسَلْمَانُ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: هُمْ مَنْ أَدْرَكَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ قَالَ: التَّابِعُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: هُمْ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي صَخْرٍ حُمَيْدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا أُرِيدُ الْفِتَنَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِجَمِيعِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْجَبَ لَهُمُ الْجَنَّةَ فِي كِتَابِهِ مُحْسِنِهِمْ وَمُسِيئِهِمْ، قُلْتُ لَهُ: وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ فِي كِتَابِهِ؟ قَالَ: أَلَا تقرؤون قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الآية أوجب لجميع أصحاب النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْجَنَّةَ وَالرِّضْوَانَ، وَشَرَطَ عَلَى التَّابِعِينَ شَرْطًا لَمْ يَشْرُطْهُ فِيهِمْ قُلْتُ: وَمَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ. يَقُولُ: يَقْتَدُونَ بِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ، وَلَا يَقْتَدُونَ بِهِمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو صَخْرٍ: فو الله لِكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَا عَرَفْتُ تَفْسِيرَهَا حَتَّى قَرَأَهَا عَلَيَّ ابْنُ كَعْبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَالْقَاسِمُ وَمَكْحُولٌ وَعَبَدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ وَحَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَرَضُوا عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا لِأُمَّتِي كُلِّهِمْ، وَلَيْسَ بَعْدَ الرِّضَا سُخْطٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ الْآيَةَ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ جُمْعَةٍ خَطِيبًا، فَقَالَ: «قُمْ يَا فُلَانُ فَاخْرُجْ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ، اخْرُجْ يَا فُلَانُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ، فَأَخْرَجَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَفَضَحَهُمْ» ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَشْهَدُ تِلْكَ الْجُمْعَةَ لِحَاجَةٍ كَانَتْ لَهُ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ وَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاخْتَبَأَ مِنْهُمُ اسْتِحْيَاءً أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدِ الْجُمْعَةَ، وَظَنَّ النَّاسَ قَدِ انْصَرَفُوا، وَاخْتَبَئُوا هُمْ مِنْ عُمَرَ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِأَمْرِهِمْ، فَدَخَلَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ لَمْ يَنْصَرِفُوا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَبْشِرْ يَا عُمَرُ فَقَدْ فَضَحَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ، فَهُوَ الْعَذَابُ الْأَوَّلُ، وَالْعَذَابُ الثَّانِي: عَذَابُ الْقَبْرِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ قَالَ: جُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ وَأَشْجَعُ وَأَسْلَمُ وَغِفَارُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ قَالَ: أَقَامُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَتُوبُوا كَمَا تَابَ آخَرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَاتُوا عَلَيْهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَأَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وَالْجَدُّ ابن قَيْسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ قَالَ: بِالْجُوعِ وَالْقَتْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن أبي مَالِكٍ قَالَ: بِالْجُوعِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: عَذَابٌ فِي الْقَبْرِ، وَعَذَابٌ فِي النَّارِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ نَحْوُ هَذَا فِي تَعْيِينِ الْعَذَابَيْنِ، وَالظَّاهِرُ مَا قَدَّمْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً قَالَ: كَانُوا عَشْرَةَ رَهْطٍ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا حَضَرَ رُجُوعُ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَوْثَقَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ، وكان ممرّ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِذَا رَجَعَ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْمُوثِقُونَ أَنْفُسَهُمْ؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو لَبَابَةَ وَأَصْحَابٌ لَهُ تَخَلَّفُوا عَنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى تُطْلِقَهُمْ وَتَعْذِرَهُمْ، قَالَ: وَأَنَا أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا أُطْلِقُهُمْ وَلَا أَعْذِرُهُمْ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا عَنِّي وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا: وَنَحْنُ لَا نُطْلِقُ أَنْفُسَنَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنَا، فَنَزَلَتْ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَعَسَى مِنَ اللَّهِ: وَاجِبٌ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَأَطْلَقَهُمْ وَعَذَرَهُمْ، فَجَاءُوا بِأَمْوَالِهِمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ أَمْوَالُنَا، فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا، وَاسْتَغْفِرْ لَنَا، قَالَ: مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ أَمْوَالَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ يَقُولُ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يَقُولُ: رَحْمَةٌ لَهُمْ، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الصَّدَقَةَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ لَمْ يُوثِقُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي فَأُرْجِئُوا سَنَةً لَا يَدْرُونَ أَيُعَذَّبُونَ أَوْ يُتَابُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يَعْنِي: إِنِ اسْتَقَامُوا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ سَوَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قَالَ: هُوَ أَبُو لُبَابَةَ إِذْ قَالَ لِقُرَيْظَةَ مَا قَالَ، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا يَذْبَحُكُمْ إِنْ نَزَلْتُمْ عَلَى حُكْمِهِ، وَالْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً قَالَ: غَزْوُهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآخَرَ سَيِّئاً قَالَ: تَخَلُّفُهُمْ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ قَالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي كَانُوا أَصَابُوهَا إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ قَالَ: رَحْمَةٌ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِصَدَقَةٍ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ، فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ قَالَ: هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ

[سورة التوبة (9) : الآيات 107 إلى 110]

فِي الشُّعَبِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ، لَأَخْرَجَ اللَّهُ عَمَلَهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ قَالَ: هُمُ الثَّلَاثَةُ الذي خُلِّفُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السدي فِي قَوْلِهِ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ يَقُولُ: يُمِيتُهُمْ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ فَأَرْجَأَ أَمْرَهُمْ، ثُمَّ نسخها فقال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. [سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ أَصْنَافَ الْمُنَافِقِينَ وَبَيَّنَ طَرَائِقَهُمُ الْمُخْتَلِفَةَ عَطَفَ عَلَى مَا سَبَقَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا عَلَى أَنَّ الَّذِينَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ منهم محذوف، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الذَّمِّ. وَقَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، فَتَكُونُ قِصَّةً مُسْتَقِلَّةً، الْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ لَا تَقُمْ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: إِنَّ الْخَبَرَ هُوَ لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يُعَذَّبُونَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هؤلاء البانين لمسجد الضرار، وضِراراً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ عَلَى الْعِلِّيَّةِ وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً مَعْطُوفَةٌ عَلَى ضِراراً. فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّ الْبَاعِثَ لَهُمْ عَلَى بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: الضِّرَارُ لِغَيْرِهِمْ، وَهُوَ الْمُضَارَرَةُ. الثَّانِي: الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَالْمُبَاهَاةُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِبِنَائِهِ تَقْوِيَةَ أَهْلِ النِّفَاقِ. الثَّالِثُ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ لَا يَحْضُرُوا مَسْجِدَ قُبَاءٍ، فَتَقِلُّ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَبُطْلَانِ الْأُلْفَةِ مَا لَا يَخْفَى. الرَّابِعُ: الْإِرْصَادُ لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أَيِ: الْإِعْدَادُ لِأَجْلِ مَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِرْصَادُ: الِانْتِظَارُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْإِرْصَادُ الِانْتِظَارُ مَعَ الْعَدَاوَةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ الْإِعْدَادُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ يُقَالُ: أَرْصَدْتُ لِكَذَا: إِذَا أَعْدَدْتُهُ مُرْتَقِبًا لَهُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ: رَصَدَتْهُ وَأَرْصَدْتُهُ فِي الْخَيْرِ، وَأَرْصَدْتُ لَهُ فِي الشَّرِّ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَا يُقَالُ إِلَّا أَرْصَدْتُ، وَمَعْنَاهُ: ارْتَقَبْتُ، وَالْمُرَادُ بِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: الْمُنَافِقُونَ، وَمِنْهُمْ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، أَيْ: أَعَدُّوهُ لِهَؤُلَاءِ، وَارْتَقَبُوا بِهِ وُصُولَهُمْ، وَانْتَظَرُوهُمْ لِيُصَلُّوا فِيهِ، حَتَّى يُبَاهُوا بِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ مُتَعَلِّقٌ باتخذوا، أَيِ: اتَّخَذُوا مَسْجِدًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَافِقَ هؤلاء ويبنوا مسجد

الضرار، أو متعلق بحارب، أَيْ: لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْحَرْبُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِنْ قَبْلِ بِنَاءِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ. قَوْلُهُ: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أَيْ: مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَصْلَةَ الْحُسْنَى، وَهِيَ الرِّفْقُ بِالْمُسْلِمِينَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فِيمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَقَالَ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أَيْ: فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْقِيَامِ فِيهِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَقُومُ اللَّيْلَ، أَيْ: يُصَلِّي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِلَّةَ النَّهْيِ عَنِ الْقِيَامِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ وَاللَّامُ فِي: لَمَسْجِدٌ لَامُ الْقَسَمِ، وَقِيلَ: لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَتَأْسِيسُ الْبِنَاءِ: تَثْبِيتُهُ وَرَفْعُهُ. وَمَعْنَى تَأْسِيسِهِ عَلَى التَّقْوَى: تَأْسِيسُهُ عَلَى الْخِصَالِ الَّتِي تَتَّقِي بِهَا الْعُقُوبَةَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شاء الله، ومِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ متعلق بأسس، أَيْ: أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ تَأْسِيسِهِ، قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: إِنَّ مِنْ هُنَا بِمَعْنَى مُنْذُ، أَيْ: مُنْذُ أَوَّلِ يَوْمٍ ابْتُدِئَ بِبِنَائِهِ، وَقَوْلُهُ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ الْقِيَامُ فِي غَيْرِهِ جَائِزًا لَكَانَ هَذَا أَوْلَى بِقِيَامِكَ فِيهِ لِلصَّلَاةِ وَلِذِكْرِ اللَّهِ، لِكَوْنِهِ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، وَلِكَوْنِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ أحقية قيامه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِيهِ، أَيْ: كَمَا أَنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْمَحَلِّ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْحَالِ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، ويجوز أن تكون صفة أخرى لمسجد. وَمَعْنَى مَحَبَّتِهِمْ لِلتَّطَهُّرِ: أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَهُ وَيَحْرِصُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ عُرُوضِ مُوجِبِهِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: يُحِبُّونَ التَّطَهُّرَ مِنَ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بِالْحُمَّى الْمُطَهِّرَةِ مِنَ الذُّنُوبِ فَحُمُّوا جَمِيعًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَمَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمُ: الرِّضَا عَنْهُمْ، وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُحِبُّ بِمَحْبُوبِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بَوْنًا بَعِيدًا، فَقَالَ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ التَّقْرِيرِيِّ، وَالْبُنْيَانُ: مَصْدَرٌ كَالْعُمْرَانِ، وَأُرِيدَ بِهِ: الْمَبْنِيُّ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَسَّسَ بِنَاءَ دِينِهِ عَلَى قَاعِدَةٍ قَوِيَّةٍ مُحْكَمَةٍ، وَهِيَ تَقْوَى اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ خَيْرٌ مِمَّنْ أَسَّسَ دِينَهُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالنِّفَاقُ، وَالْمَوْصُولُ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: خَيْرٌ، وَقُرِئَ: أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ، وَنَصْبِ بُنْيَانَهُ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقُرِئَ: عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقُرِئَ: أَسَاسُ بُنْيَانِهِ بِإِضَافَةِ أَسَاسُ إِلَى بُنْيَانِهِ وَقُرِئَ: أُسُّ بُنْيَانِهِ وَالْمُرَادُ: أُصُولُ الْبِنَاءِ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةً أُخْرَى، وَهِيَ آسَاسُ بُنْيَانِهِ عَلَى الْجَمْعِ، وَمِنْهُ: أَصْبَحَ الْمُلْكُ ثَابِتَ الْآسَاسِ ... بِالْبَهَالِيلِ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ وَالشَّفَا: الشَّفِيرُ، وَالْجُرُفُ: مَا يَتَجَرَّفُ بِالسُّيُولِ، وَهِيَ الْجَوَانِبُ الَّتِي تَنْجَرِفُ بِالْمَاءِ، وَالِاجْتِرَافُ:

اقْتِلَاعُ الشَّيْءِ مِنْ أَصْلِهِ، وَقُرِئَ: بِضَمِّ الرَّاءِ مِنْ جَرَفَ، وَبِإِسْكَانِهَا. وَالْهَارُ: السَّاقِطُ، يُقَالُ هَارِ الْبِنَاءِ: إِذَا سَقَطَ، وَأَصْلُهُ هَائِرٌ، كَمَا قَالُوا: شَاكِ السِّلَاحِ وَشَائِكُ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّ أَصْلَهُ هَاوِرٌ. قَالَ فِي شَمْسِ الْعُلُومِ: الْجُرُفُ مَا جَرَفَ السَّيْلُ أَصْلَهُ، وَأَشْرَفَ أَعْلَاهُ، فَإِنِ انْصَدَعَ أَعْلَاهُ فَهُوَ الْهَارُ اه. جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا مَثَلًا لِمَا بَنَوْا عَلَيْهِ دِينَهُمُ الْبَاطِلَ الْمُضْمَحِلَّ بِسُرْعَةٍ، ثُمَّ قَالَ: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَفَاعِلُ فَانْهَارَ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الْجُرُفِ، أَيْ: فَانْهَارَ الْجُرُفُ بِالْبُنْيَانِ فِي النَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ إِلَى مَنْ، وَهُوَ الْبَانِي. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ طَاحَ الْبَاطِلُ بِالْبَنَّاءِ، أَوِ الْبَانِي فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَجَاءَ بِالِانْهِيَارِ الَّذِي هُوَ لِلْجُرُفِ تَرْشِيحًا لِلْمَجَازِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَبْلَغَ هَذَا الْكَلَامَ، وَأَقْوَى تَرَاكِيبَهُ، وَأَوْقَعَ مَعْنَاهُ، وَأَفْصَحَ مَبْنَاهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ بُنْيَانَهُمْ هَذَا مُوجِبٌ لِمَزِيدِ رَيْبِهِمْ، وَاسْتِمْرَارِ تَرَدُّدِهِمْ، وَشَكِّهِمْ، فَقَالَ: لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ: شَكًّا فِي قُلُوبِهِمْ وَنِفَاقًا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ وَقِيلَ معنى الريبة: الْحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ، لِأَنَّهُمْ نَدِمُوا عَلَى بُنْيَانِهِ. وَقَالَ المبرد: أي حزازة وَغَيْظًا. وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَنَوْا مَسْجِدَ الضِّرَارِ مُنَافِقِينَ شَاكِّينَ فِي دِينِهِمْ، وَلَكِنَّهُمُ ازْدَادُوا بهدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له نِفَاقًا وَتَصْمِيمًا عَلَى الْكُفْرِ، وَمَقْتًا لِلْإِسْلَامِ لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْغَيْظِ الشَّدِيدِ وَالْغَضَبِ الْعَظِيمِ بِهَدْمِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ هَذِهِ الرِّيبَةِ وَدَوَامِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أَيْ: لَا يَزَالُ هَذَا إِلَّا أَنْ تَتَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قِطَعًا، وَتَتَفَرَّقَ أَجْزَاءً، إِمَّا بِالْمَوْتِ أَوْ بِالسَّيْفِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الرِّيبَةَ دَائِمَةٌ لَهُمْ مَا دَامُوا أَحْيَاءً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ التَّقَطُّعِ تَصْوِيرًا لِحَالِ زَوَالِ الرِّيبَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً تَتَقَطَّعُ بِهَا قُلُوبُهُمْ نَدَمًا وَأَسَفًا عَلَى تَفْرِيطِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفَصٌ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّهَا. وَرُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ أَنَّهُ قَرَأَ تَقْطَعَ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْخِطَابُ للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَقْطَعَ يَا مُحَمَّدُ قُلُوبَهُمْ. وَقَرَأَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَلَوْ تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو حَاتِمٍ إِلَى أَنْ تُقْطَعَ عَلَى الْغَايَةَ. أَيْ: لَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يَمُوتُوا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً قَالَ: هُمْ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ابْتَنَوْا مَسْجِدًا، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ: ابْنُوا مَسْجِدَكُمْ، وَاسْتَمِدُّوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَسِلَاحٍ فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ مِلْكِ الرُّومِ، فَآتِي بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ، فَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْجِدِهِمْ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَقَالُوا: قَدْ فَرَغْنَا مِنْ بِنَاءِ مَسْجِدِنَا فَيَجِبُ أَنْ تَصِلِي فِيهِ وَتَدْعُوَ بِالْبَرَكَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا بنى رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَسْجِدَ قُبَاءٍ خَرَجَ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْهُمْ بَجْدَحٌ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْفٍ وَوَدِيعَةُ بْنُ حِزَامٍ وَمُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَبَنَوْا مَسْجِدَ النِّفَاقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَجْدَحٍ: وَيْلَكَ يَا بَجَدْحُ مَا أَرَدْتَ إِلَى مَا أَرَى؟!، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْحُسْنَى- وَهُوَ كَاذِبٌ- فصدّقه رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَنْ يَعْذِرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً

وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَعْنِي: رَجُلًا يُقَالُ لَهُ أَبُو عَامِرٍ كَانَ مُحَارِبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَكَانَ قَدِ انْطَلَقَ إِلَى هِرَقْلَ، وَكَانُوا يَرْصُدُونَ إِذَا قَدِمَ أَبُو عَامِرٍ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ، فَقَالَ مَالِكٌ لِعَاصِمٍ: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي، فَدَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ فَأَخَذَ سَعَفَاتٍ مِنْ نَارٍ ثُمَّ خَرَجُوا يَشْتَدُّونَ حَتَّى دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَفِيهِ أَهْلُهُ فَحَرَقُوهُ وَهَدَمُوهُ، وَخَرَجَ أَهْلُهُ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَلَعَلَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَذْفًا بَيْنَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَقَالَ مَالِكٌ لِعَاصِمٍ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي رُهْمٍ كُلْثُومِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْغِفَارِيِّ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَالَ: أقبل رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ: بَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَكَانَ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ قَدْ كَانُوا أَتَوْهُ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا بَنِينَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا فَتُصَلِّيَ لَنَا فِيهِ قَالَ: إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ أَتَاهُ خَبَرُ الْمَسْجِدِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ- أَخَا بَنِي سَالِمِ بن عوف- ومعن ابن عَدِيٍّ، وَأَخَاهُ عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ أَحَدَ بَنِي الْعَجْلَانِ، فَقَالَ: «انْطَلِقَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أهله فهدماه وَحَرِّقَاهُ، فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ حَتَّى أَتَيَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُمْ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمِ، فَقَالَ مَالِكٌ لِمَعْنٍ: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ، فَدَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ فَأَخَذَ سَعَفًا مِنَ النَّخْلِ فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ خَرَجَا يَشْتَدَّانِ، وَفِيهِ أَهْلُهُ فَحَرَّقَاهُ وَهَدَّمَاهُ وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ إِنَّ الَّذِينَ بَنَوْا مَسْجِدَ الضِّرَارِ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَذَكَرَا أَسْمَاءَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي خُدْرَةَ، وَفِي لَفْظٍ: تَمَارَيْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو ابن عَوْفٍ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ الْخُدْرِيُّ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْعُمَرِيُّ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، فَأَتَيَا رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «هُوَ هَذَا المسجد» لمسجد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «فِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ» يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ، وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى قَالَ: هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمِ مَسْجِدُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَالَ عُرْوَةُ: مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْهُ، إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي مَسْجِدِ

قُبَاءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى: مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ الْمَذْكُورَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِثْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشيخ عن الضحاك مثله. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَيَّنَ هَذَا الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَجَزَمَ بِأَنَّهُ مَسْجِدُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَلَا يُقَاوِمُ ذَلِكَ قَوْلُ فَرْدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ وَلَا غَيْرِهِمْ وَلَا يَصِحُّ لِإِيرَادِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَا قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فَائِدَةَ فِي إِيرَادِ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ فِي فضائل مسجده صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِمَّا وَرَدَ فِي فَضْلِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ بِلَا شَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ تَعُمُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا قَالَ: وَكَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَفِي إِسْنَادِهِ يُونُسُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ فَقَالَ: مَا هَذَا الطُّهُورُ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ؟ فَقَالُوا: يا رسول الله! ما خرج من رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ مِنَ الْغَائِطِ إِلَّا غَسَلَ فَرْجَهُ، أَوْ قَالَ: مَقْعَدَتَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «هُوَ هَذَا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ والطبراني والحاكم وابن مردويه عن عويم ابن سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطُّهُورِ فِي قِصَّةِ مَسْجِدِكُمْ، فَمَا هَذَا الطُّهُورُ الَّذِي تَتَطَهَّرُونَ بِهِ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ، فَغَسَلْنَا كَمَا غَسَلُوا» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ حسن ابن مُحَمَّدٍ. حَدَّثَنَا أَبُو أُوَيْسٍ حَدَّثَنَا شُرَحْبِيلُ عَنْ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ فَذَكَرَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْجَارُودِ فِي الْمُنْتَقَى، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ خَيْرًا فِي الطُّهُورِ، فَمَا طُهُورُكُمْ هَذَا؟ قَالُوا: نَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَنَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، قَالَ: فَهَلْ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُهُ؟ قَالُوا: لَا، غَيْرَ أَنَّ أَحَدَنَا إِذَا خَرَجَ إِلَى الْغَائِطِ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ، قَالَ: هُوَ ذَاكَ فَعَلَيْكُمُوهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَغَوَيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطُّهُورِ خَيْرًا أَفَلَا تُخْبِرُونِي؟ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا لِنَجِدُهُ مَكْتُوبًا عَلَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ، وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ الْيَوْمَ» . وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هَكَذَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ يَعْنِي ابْنِ مِغْوَلٍ سَمِعْتُ سَيَّارًا أَبَا الحكم عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ

[سورة التوبة (9) : الآيات 111 إلى 112]

جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ فِي ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ نَحْوُ هَذَا. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَأَهْلِهِ، وَبَعْضَهَا ضَعِيفٌ، وَبَعْضَهَا لَا تَصْرِيحَ فِيهِ بِأَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا تُقَاوِمُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ الْمُصَرِّحَةَ بِأَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى هُوَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي صِحَّتِهَا وَصَرَاحَتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ قَالَ: يَعْنِي قَوَاعِدَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، حَيْثُ انْهَارَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قَالَ: يَعْنِي: الشَّكَّ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ يَعْنِي: الموت. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ. فِي قَوْلِهِ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قَالَ: غَيْظًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قَالَ: إِلَى أَنْ يَمُوتُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ فِي قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قَالَ: إلا أن يتوبوا. [سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) لَمَّا شَرَحَ فَضَائِحَ الْمُنَافِقِينَ وَقَبَائِحَهُمْ بِسَبَبِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَكَرَ أَقْسَامَهُمْ، وَفَرَّعَ عَلَى كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا مَا هُوَ لَائِقٌ بِهِ عَادَ عَلَى بَيَانِ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَذِكْرُ الشِّرَاءِ تَمْثِيلٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «1» مَثَّلَ سُبْحَانَهُ إِثَابَةَ الْمُجَاهِدِينَ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَذْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالشِّرَاءِ، وَأَصْلُ الشِّرَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ: هُوَ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ عَنِ الْمِلْكِ بِشَيْءٍ آخَرَ، مِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ، أَوْ أَنْفَعَ مِنْهُ، فَهَؤُلَاءِ الْمُجَاهِدُونَ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِالْجَنَّةِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: بِأَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمِمَّنْ يَسْكُنُهَا، فَقَدْ جَادُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَهِيَ أَنْفَسُ الْأَعْلَاقِ «2» ، وَالْجُودُ بِهَا غَايَةُ الْجُودِ: يَجُودُ بِالنَّفْسِ إِنْ ضَنَّ الْجَبَانُ بِهَا ... وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ وَجَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْجَنَّةِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مَا يَطْلُبُهُ الْعِبَادُ، وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ وَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ هُنَا: أَنْفُسُ الْمُجَاهِدِينَ، وَبِالْأَمْوَالِ: مَا يُنْفِقُونَهُ فِي الْجِهَادِ. قَوْلُهُ: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَيَانٌ للبيع يقتضيه

_ (1) . البقرة: 16. (2) . قال في القاموس: العلق: النفيس من كل شيء، ج أعلاق، وعلوق.

الِاشْتِرَاءُ الْمَذْكُورُ، كَأَنَّهُ قِيلَ كَيْفَ يَبِيعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِالْجَنَّةِ؟ فَقِيلَ: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذِهِ الْمُقَاتَلَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى قَتْلِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ، وَيَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلُوا فَقَدِ اسْتَحَقُّوا الْجَنَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْقَتْلُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِبْلَاءِ فِي الْجِهَادِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْمَوْتِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْكُفَّارِ. قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ: بِتَقْدِيمِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ عَلَى الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَقْدِيمِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ عَلَى الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ. وَقَوْلُهُ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ إِخْبَارٌ من الله سبحانه: أن فريضة الجهاد استحقاق الْجَنَّةِ بِهَا قَدْ ثَبَتَ الْوَعْدُ بِهَا مِنَ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كَمَا وَقَعَ فِي القرآن، وانتصاب وعدا وحقا: على المصدرية، أو الثاني نعت للأوّل، وفي التَّوْرَاةِ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: وَعْدًا ثَابِتًا فِيهَا. قَوْلُهُ: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فِي هَذَا مِنْ تَأْكِيدِ التَّرْغِيبِ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي الْجِهَادِ، وَالتَّنْشِيطِ لَهُمْ عَلَى بَذْلِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ مَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ أَوَّلًا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، وَجَاءَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْفَخِيمَةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْجَنَّةِ قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ ثَانِيًا بِأَنَّهُ قَدْ وَعَدَ بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ بَعْدَ هَذَا الْوَعْدِ الصَّادِقِ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا أَحَدَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ صَادِقُ الْوَعْدِ، لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، ثُمَّ زَادَهُمْ سُرُورًا وَحُبُورًا، فَقَالَ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ أَيْ: أَظْهِرُوا السُّرُورَ بِذَلِكَ، وَالْبِشَارَةُ: هِيَ إِظْهَارُ السُّرُورِ، وَظُهُورُهُ يَكُونُ فِي بَشَرَةِ الْوَجْهِ، وَلِذَا يُقَالُ: أَسَارِيرُ الْوَجْهِ، أَيِ: الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا السُّرُورُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ هَذَا، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الِاسْتِبْشَارِ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَالْمَعْنَى: أَظْهِرُوا السُّرُورَ بِهَذَا الْبَيْعِ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ الله عزّ وجلّ فقد ربحتم فيها رِبْحًا لَمْ يَرْبَحْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، إِلَّا مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِكُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَى نَفْسِ الْبَيْعِ الَّذِي رَبِحُوا فِيهِ الْجَنَّةَ، وَوَصْفُ الْفَوْزِ وَهُوَ: الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ، بِالْعِظَمِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَوْزٌ لَا فَوْزَ مِثْلَهُ. قَوْلُهُ: التَّائِبُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ التَّائِبُونَ، يَعْنِي: الْمُؤْمِنُونَ، وَالتَّائِبُ: الرَّاجِعُ، أَيْ: هُمُ الرَّاجِعُونَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَنِ الْحَالَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلطَّاعَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مُضْمَرٌ، أَيِ: التَّائِبُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ لَهُمُ الْجَنَّةُ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُجَاهِدُوا. قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ، إِذْ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ أَوْصَافًا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ الْوَعْدُ خَاصًّا بِمُجَاهِدِينَ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ: مِنْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ، طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى. وَأَنَّهَا عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ، أَيْ: لَا يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ بِتِلْكَ الْمُبَايَعَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «التَّائِبِينَ الْعَابِدِينَ إِلَى آخِرِهَا» وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَوْصَافٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. الثَّانِي: أَنَّ النَّصْبَ عَلَى الْمَدْحِ. وَقِيلَ: إِنَّ ارْتِفَاعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ضَمِيرِ يُقَاتِلُونَ، وَجَوَّزَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: أَنْ يَكُونَ التَّائِبُونَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الْعَابِدُونَ، وَمَا بَعْدَهُ أَخْبَارٌ كَذَلِكَ، أَيِ: التَّائِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، الْجَامِعُونَ لِهَذِهِ الْخِصَالِ. وَفِيهِ مِنَ الْبُعْدِ مَا لَا يَخْفَى، وَالْعَابِدُونَ: الْقَائِمُونَ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ مع الإخلاص، والْحامِدُونَ: الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ،

والسَّائِحُونَ: قِيلَ: هُمُ الصَّائِمُونَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، ومنه قوله تعالى: عابِداتٍ سائِحاتٍ وَإِنَّمَا قِيلَ لِلصَّائِمِ: سَائِحٌ، لِأَنَّهُ يَتْرُكُ اللَّذَّاتِ كَمَا يَتْرُكُهَا السَّائِحُ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أبي طالب ابن عبد المطلب: وبالسّائحين لا يذوقون قطرة ... لربّهم والذاكرات العوامل وقال آخر: برّا يُصَلِّي لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ ... يَظَلُّ كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلَّهِ سَائِحَا قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَذْهَبُ الْحَسَنِ: أَنَّ السَّائِحِينَ هَاهُنَا هُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ الْفَرْضَ وَقِيلَ: إِنَّهُمُ الَّذِينَ يُدِيمُونَ الصِّيَامَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: السَّائِحُونَ: الْمُجَاهِدُونَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: السَّائِحُونَ الْمُهَاجِرُونَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ الَّذِينَ يُسَافِرُونَ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ. وَقِيلَ: هُمُ الْجَائِلُونَ بِأَفْكَارِهِمْ فِي تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ، وَمَلَكُوتِهِ، وَمَا خَلَقَ مِنَ الْعِبَرِ، وَالسِّيَاحَةُ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهَا: الذَّهَابُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا يَسِيحُ الْمَاءُ، وَهِيَ مِمَّا يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى الطَّاعَةِ لِانْقِطَاعِهِ عَنِ الْخَلْقِ، وَلِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِالتَّفَكُّرِ فِي مخلوقات الله سبحانه، والرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ معناه: المصلون، والْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ: الْقَائِمُونَ بِأَمْرِ النَّاسِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ: الْقَائِمُونَ بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ فَعَلَ مُنْكَرًا، أَيْ: شَيْئًا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ: الْقَائِمُونَ بِحِفْظِ شَرَائِعِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي كُتُبِهِ وَعَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْوَاوَ فِي الْوَصْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَهُمَا: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ إِلَخْ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْحَافِظُونَ بِالْوَاوِ لِقُرْبِهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْعَطْفَ فِي الصِّفَاتِ يَجِيءُ بِالْوَاوِ وَبِغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ «1» وَقِيلَ: إِنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ وَقِيلَ: هِيَ وَاوُ الثَّمَانِيَةِ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النُّحَاةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «2» ، وقوله: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «3» ، وقوله: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «4» ، وقد أنكر: والثمانية، أَبُو عَلِيِّ الْفَارِسِيُّ، وَنَاظَرَهُ فِي ذَلِكَ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِهِ قَالُوا: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رواحة لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، قَالَ: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ. قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فما لنا؟ قال: الجنة، قال: رَبِحَ الْبَيْعُ لَا نَقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَتْ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ فَكَبَّرَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَانِيًا طَرَفَيْ رِدَائِهِ عَلَى عَاتِقِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: بَيْعٌ رَبِيحٌ لَا نَقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ اشْتَرَطَ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ عَلَى مَنْ بايعه

_ (1) . غافر: 3. (2) . التحريم: 5. [.....] (3) . الزمر: 73. (4) . الكهف: 22.

[سورة التوبة (9) : الآيات 113 إلى 114]

مِنَ الْأَنْصَارِ: «أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَالسَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، وَلَا يُنَازِعُوا فِي الْأَمْرِ أَهْلَهُ، وَيَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، قَالُوا: نَعَمْ قَالَ قَائِلُ الْأَنْصَارِ: نَعَمْ، هَذَا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَا لَنَا؟ قال: الجنة» . وأخرج ابن سعد أيضا من وجه آخر ليس فِي قِصَّةِ الْعَقَبَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ التِّسْعِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشَّهِيدُ مَنْ كَانَ فِيهِ التِّسْعُ الْخِصَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: الْعَابِدُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّائِحِينَ فَقَالَ: «هُمُ الصَّائِمُونَ» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّجَّارِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ مِنَ الْمَرْفُوعِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَحَدِيثُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلٌ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِثْلُ هَذَا: مِنْهُمْ عَائِشَةُ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيِّ وَأَبِي الشَّيْخِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي السِّيَاحَةِ فَقَالَ «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبِيعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هَذِهِ أَعْمَالٌ قَالَ فِيهَا أَصْحَابُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَضَى عَلَى نَفْسِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ شَهِيدًا، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَيْهَا فَقَدْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الشَّهِيدُ مَنْ لَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ مَاتَ وَفِيهِ تِسْعٌ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ يَعْنِي بِالْجَنَّةِ، ثُمَّ قَالَ: التَّائِبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ يعني: القائمين عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَهُوَ شَرْطٌ اشْتَرَطَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْجِهَادِ، وَإِذَا وَفَّوْا لِلَّهِ بِشَرْطِهِ وفى لهم بشرطهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 114] مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

لما بيّن سُبْحَانَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَمَا بَعْدَهُ: أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاجِبَةٌ، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هُنَا مَا يَزِيدُ ذَلِكَ تَأْكِيدًا، وَصَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُتَحَتِّمٌ، وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، وَأَنَّ الْقَرَابَةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَنَّ مَا كانَ فِي الْقُرْآنِ، يَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: عَلَى النَّفْيِ نَحْوِ: مَا كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «1» . وَالْآخَرُ: عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، نَحْوِ: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «2» وما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِقَطْعِ الْمُوَالَاةِ لِلْكَفَّارِ، وَتَحْرِيمِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَالدُّعَاءِ بِمَا لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ كَافِرًا، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ كَسَرَ الْمُشْرِكُونَ رَبَاعِيَتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ تَحْرِيمُ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَلَغَهُ كَمَا يُفِيدُهُ سَبَبُ النُّزُولِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ يَوْمِ أُحُدٍ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَسَيَأْتِي. فَصُدُورُ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ لِقَوْمِهِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ذَكَرَ نَبِيًّا قَبْلَهُ شَجَّهُ قَوْمُهُ، فَجَعَلَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ التَّعْلِيلَ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا التَّبَيُّنَ مُوجِبٌ لِقَطْعِ الْمُوَالَاةِ لِمَنْ كَانَ هَكَذَا، وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «3» فَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ فِي حُكْمِ الْمُخَالَفَةِ لِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ. قَوْلُهُ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ الْآيَةَ: ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ السَّبَبَ فِي اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لِأَجْلِ وَعْدٍ تَقَدَّمَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أنه عدوّ لله، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلِاسْتِغْفَارِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا وَعَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَمِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى السُّؤَالِ الَّذِي يُورِدُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ كَيْفَ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ وَمَاتَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ إِلَّا بِإِخْبَارِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ بِأَنَّهُ عَدُوُّ اللَّهِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ تَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَعْلَمْ نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا حُكْمٌ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالسَّمْعِ لَا بِالْعَقْلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنِ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ: دُعَاؤُهُ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى جَنَائِزِ الْكُفَّارِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً «4» وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَفْسِيرِ الِاسْتِغْفَارِ بِالصَّلَاةِ وَلَا مُلْجِئَ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ خَتَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ بِالثَّنَاءِ الْعَظِيمِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ وَهُوَ كَثِيرُ التَّأَوُّهِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى الْأَوَّاهِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: إِنَّهُ الَّذِي يُكْثِرُ الدُّعَاءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهُ الرَّحِيمُ بِعِبَادِ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الْمُؤْمِنُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ الَّذِي يَذْكُرُ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ الْقَفْرِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقِيلَ: الَّذِي يُكْثِرُ الذِّكْرَ لِلَّهِ من غير تقييد، روي

_ (1) . آل عمران: 145. (2) . الأحزاب: 53. (3) . النساء: 48. (4) . التوبة: 84.

ذَلِكَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُكْثِرُ التِّلَاوَةَ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْفَقِيهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ، وَقِيلَ: الْمُتَضَرِّعُ الْخَاضِعُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي إِذَا ذَكَرَ خَطَايَاهُ اسْتَغْفَرَ لَهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. وَقِيلَ: هُوَ الشَّفِيقُ، قاله عبد العزيز بن يحيى. وقيل: إِنَّهُ الْمُعَلِّمُ لِلْخَيْرِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الرَّاجِعُ عَنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، قَالَهُ عَطَاءٌ. وَالْمُطَابِقُ لِمَعْنَى الْأَوَّاهِ لُغَةً، أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ مِنْ ذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ مَثَلًا: آهٍ مِنْ ذُنُوبِي، آهٍ مِمَّا أُعَاقَبُ بِهِ بِسَبَبِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَمَعْنَى التَّأَوُّهِ: هُوَ أَنْ يُسْمَعَ لِلصَّدْرِ صَوْتٌ مِنْ تَنَفُّسِ الصُّعَدَاءِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَقَدْ أَوَّهَ الرَّجُلُ تَأْوِيهًا، وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ أَوْهِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ: آهَةٌ بِالْمَدِّ، قَالَ: إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ ... تأوّه آهة الرّجل الحزين والحليم الْكَثِيرُ الْحِلْمِ كَمَا تُفِيدُهُ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ: الَّذِي يَصْفَحُ عَنِ الذُّنُوبِ، وَيَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى وَقِيلَ: الَّذِي لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا لله. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتِ الْوَفَاةُ أَبَا طَالِبٍ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وعنده أبو جهل وعبد بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْ عَمِّ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله أحاج بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ يُعَانِدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لأستغفر لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» ، فَنَزَلَتْ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» . وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ: تَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْكَ وَهُمَا مشركان؟ فقال: أو لم يَسْتَغْفِرْ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أخبرت النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، فَبَكَى، فَقَالَ: اذْهَبْ فَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَرَحِمَهُ، فَفَعَلْتُ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ أَيَّامًا، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ كَوْنُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ استغفار النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي الشَّيْخِ وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَمِنْهَا: عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا. وَمِنْهَا: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا. وَمِنْهَا: عن عمر ابن الْخَطَّابِ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ وَأَبِي الشَّيْخِ وَابْنِ عَسَاكِرَ. وَمِنْهَا: عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ زيارة النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَقَبْرِ أُمِّهِ، وَاسْتِغْفَارِهِ لَهَا، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمِ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ، وَعَنْ بريدة عند

_ (1) . القصص: 56.

[سورة التوبة (9) : الآيات 115 إلى 119]

ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ صَحِيحٌ. فَكَيْفَ وَهُوَ ضَعِيفٌ غَالِبُهُ؟ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إِلَى قَوْلِهِ: كَما رَبَّيانِي صَغِيراً «1» قَالَ: ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ قَالَ: تَبَيَّنَ لَهُ حِينَ مَاتَ وَعَلِمَ أَنَّ التَّوْبَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ فِي فَوَائِدِهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوُّ لله فَتَبَرَّأَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَنَّ هَذَا خَفَضَ صَوْتَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ فَإِنَّهُ أَوَّاهٌ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ذُو النِّجَادَيْنِ: «إِنَّهُ أَوَّاهٌ» ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَالدُّعَاءِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ لَهِيعَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الْأَوَّاهُ؟ قال: «الخاشع المتضرّع بالدّعاء» . وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْأَوَّاهِ، وَإِسْنَادُهُ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ هَكَذَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ، حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ قَالَ: كَانَ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَاهُ الرَّجُلُ من قومه قال له: هداك الله. [سورة التوبة (9) : الآيات 115 الى 119] وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ، خَافَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لهم الْعُقُوبَةِ مِنَ اللَّهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً إِلَخْ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُوقِعُ الضَّلَالَ عَلَى قَوْمٍ، وَلَا يُسَمِّيهِمْ ضُلَّالًا بَعْدَ أَنْ هَدَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْقِيَامِ بِشَرَائِعِهِ مَا لَمْ يُقْدِمُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بَعْدَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ وَلَا يُؤَاخَذُونَ بِهِ، وَمَعْنَى حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ اتِّقَاؤُهُ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مِمَّا يَحِلُّ لِعِبَادِهِ وَيَحْرُمُ عليهم، ومن سائر الأشياء التي خلقها، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ مُلْكَ السّموات

_ (1) . الإسراء: 24.

وَالْأَرْضِ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ مُشَارِكٌ، وَلَا يُنَازِعُهُ مُنَازِعٌ، يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ بِمَا شَاءَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ يُحْيِي مَنْ قَضَتْ مَشِيئَتُهُ بِإِحْيَائِهِ، وَيُمِيتُ مَنْ قَضَتْ مَشِيئَتُهُ بِإِمَاتَتِهِ، وَمَا لِعِبَادِهِ مَنْ دُونِهِ مَنْ وليّ يواليهم ونصير يَنْصُرُهُمْ، فَلَا يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا تُؤَثِّرُ أَثَرًا، بَلِ التَّصَرُّفُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لِلَّهِ وَحْدَهُ. قَوْلُهُ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِذْنِ فِي التَّخَلُّفِ، أَوْ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ. وَلَيْسَ مِنْ لَازِمِ التَّوْبَةِ أَنْ يَسْبِقَ الذَّنْبُ مِمَّنْ وَقَعَتْ منه أوله لِأَنَّ كُلَّ الْعِبَادِ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَقَدْ تَكُونُ التَّوْبَةُ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ مِنْ بَابِ أَنَّهُ تَرَكَ مَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَلْيَقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «1» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ النبي صلّى الله عليه وسلّم لأجل التّعريض لِلْمُذْنِبِينَ، بِأَنْ يَتَجَنَّبُوا الذُّنُوبَ وَيَتُوبُوا عَمَّا قَدْ لَابَسُوهُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ تَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِيمَا قَدِ اقْتَرَفُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَسَاعَةُ الْعُسْرَةِ هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي عُسْرَةٍ شَدِيدَةٍ، فَالْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ جَمِيعُ أَوْقَاتِ تِلْكَ الْغَزَاةِ، وَلَمْ يُرِدْ سَاعَةً بِعَيْنِهَا، وَالْعَسِرَةُ صُعُوبَةُ الْأَمْرِ. قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ في كاد ضمير الشأن، وقلوب مرفوع بتزيغ عند سيبويه وقيل: هي مرفوعة بكاد، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ تَزِيغُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ: يَزِيغُ بِالتَّحْتِيَّةِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْقُلُوبَ بِكَادَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالَّذِي لَمْ يُجِزْهُ جَائِزٌ عِنْدَ غَيْرِهِ عَلَى تَذْكِيرِ الْجَمْعِ، وَمَعْنَى: تَزِيغُ تَتْلَفُ بِالْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تَمِيلُ عَنِ الْحَقِّ وَتَتْرُكُ الْمُنَاصَرَةَ وَالْمُمَانَعَةَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تَهُمُّ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ الْعَظِيمَةِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مِنْ بَعْدِ مَا زَاغَتْ وَهُمُ الْمُتَخَلِّفُونَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَفِي تَكْرِيرِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا تَأْكِيدٌ ظَاهِرٌ، وَاعْتِنَاءٌ بِشَأْنِهَا، هَذَا إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ إِلَى الْفَرِيقِ فَلَا تَكْرَارَ. قَوْلُهُ: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا أَيْ: وَتَابَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، أَيْ: أُخِّرُوا، وَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ فِي الْحَالِ كَمَا قُبِلَتْ تَوْبَةُ أُولَئِكَ الْمُتَخَلِّفِينَ الْمُتَقَدِّمِ ذَكْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَى: خُلِّفُوا تُرِكُوا، يُقَالُ خَلَّفْتُ فُلَانًا فَارَقْتُهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ: خُلِفُوا بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: أَقَامُوا بَعْدَ نُهُوضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْغَزْوِ. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: خَالَفُوا وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ: هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ أَوِ ابْنُ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْبَتَهُمْ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: مَعْنَى خُلِّفُوا: فَسَدُوا، مَأْخُوذٌ مِنْ خُلُوفِ الْفَمِ. قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ أُخِّرُوا عَنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَهِيَ وَقْتُ أَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِرَحْبِهَا، لِإِعْرَاضِ النَّاسِ عَنْهُمْ، وَعَدَمِ مُكَالَمَتِهِمْ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، لِأَنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى الناس أن يكلموهم، وَالرَّحْبُ: الْوَاسِعُ، يُقَالُ: مَنْزِلٌ رَحْبٌ وَرَحِيبٌ وَرِحَابٌ. وفي هذه الآية دليل على جواز

_ (1) . التوبة: 43.

هِجْرَانِ أَهْلِ الْمَعَاصِي تَأْدِيبًا لَهُمْ لِيَنْزَجِرُوا عَنِ الْمَعَاصِي. وَمَعْنَى ضِيقِ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِمْ: أَنَّهَا ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْوَحْشَةِ، وَبِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْجَفْوَةِ، وَعَبَّرَ بِالظَّنِّ فِي قَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ عَنِ الْعِلْمِ، أَيْ: عَلِمُوا أَنْ لَا مَلْجَأَ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ قَطُّ إِلَّا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا أَيْ: رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِالْقَبُولِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ لِيَسْتَقِيمُوا أَوْ وَفَّقَهُمْ لِلتَّوْبَةِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ إِنْ فَرَطَتْ مِنْهُمْ خَطِيئَةٌ لِيَتُوبُوا عَنْهَا وَيَرْجِعُوا إِلَى اللَّهِ فِيهَا، وَيَنْدَمُوا عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ أَيِ: الْكَثِيرُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ، الرَّحِيمُ أَيِ: الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِمَنْ طَلَبَهَا مِنْ عِبَادِهِ. قَوْلُهُ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ هَذَا الْأَمْرُ بِالْكَوْنِ مَعَ الصَّادِقِينَ بَعْدَ قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ حَصَلَ لَهُمْ بِالصِّدْقِ مَا حَصَلَ مِنْ تَوْبَةِ اللَّهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ لِلْعِبَادِ عَلَى الْعُمُومِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ قَالَ: نَزَلَتْ حِينَ أَخَذُوا الْفِدَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْأُسَارَى. قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَلَكِنْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ قَوْمًا بِذَنْبٍ أَذْنَبُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ قَالَ: حَتَّى يَنْهَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: بَيَانُ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، وَفِي بَيَانِهِ طَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ عَامَّةً مَا فَعَلُوا أَوْ تَرَكُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قالت السماء فأهطلت ثم سكبت، فملؤوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ. وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الرُّوَاةِ أَنَّ سَاعَةَ الْعُسْرَةِ هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرِ ابن عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قَالَ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَافَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ مِنْهَا فِي النَّاسِ وَأَشْهَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ الطَّوِيلَةَ الْمَشْهُورَةَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قَالَ: يَعْنِي خُلِّفُوا عَنِ التَّوْبَةِ لَمْ يُتَبْ عَلَيْهِمْ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ

[سورة التوبة (9) : الآيات 120 إلى 121]

وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن نَافِعٍ فِي قَوْلِهِ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، قِيلَ لَهُمْ: كُونُوا مَعَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قَالَ: مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَصْحَابِهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: مَعَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خلّفوا. [سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121] مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) في قول: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَخْ، زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِوُجُوبِ الْغَزْوِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْرِيمِ التَّخَلُّفِ عَنْهُ، أَيْ: مَا صَحَّ وَمَا اسْتَقَامَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ كَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتُنْفِرُوا فَلَمْ يَنْفِرُوا، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُسْتَنْفَرُوا مَعَ كَوْنِ هَؤُلَاءِ لِقُرْبِهِمْ، وَجِوَارِهِمْ أَحَقُّ بِالنُّصْرَةِ وَالْمُتَابَعَةِ لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أَيْ: وَمَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ فَيَشِحُّونَ بِهَا وَيَصُونُونَهَا، وَلَا يَشِحُّونَ بِنَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ وَيَصُونُونَهَا كَمَا شَحُّوا بِأَنْفُسِهِمْ وَصَانُوهَا، يُقَالُ: رَغِبْتُ عَنْ كَذَا أَيْ: تَرَفَّعْتُ عَنْهُ، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يُكَابِدُوا مَعَهُ الْمَشَاقَّ، وَيُجَاهِدُوا بَيْنَ يَدَيْهِ أَهْلَ الشِّقَاقِ، وَيَبْذُلُوا أَنْفُسَهُمْ دُونَ نَفْسِهِ وَفِي هَذَا الْإِخْبَارِ مَعْنَى الْأَمْرِ لَهُمْ مَعَ مَا يُفِيدُهُ إِيرَادُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ، وَالتَّقْرِيعِ الشَّدِيدِ، وَالتَّهْيِيجِ لَهُمْ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهِمْ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ مِنْ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: ذَلِكَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ مُثَابُونَ عَلَى أَنْوَاعِ الْمَتَاعِبِ، وَأَصْنَافِ الشَّدَائِدِ. وَالظَّمَأُ: الْعَطَشُ، وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ، وَالْمَخْمَصَةُ: الْمَجَاعَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي يَظْهَرُ عِنْدَهَا ضُمُورُ الْبَطْنِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عمير ظَمَأٌ بِالْمَدِّ. وَقَرَأَ غَيْرُهُ بِالْقَصْرِ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ خطأ وخطاء، ولا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَمَعْنَى: فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ أَيْ: لَا يَدُوسُونَ مَكَانًا مِنْ أَمْكِنَةِ الْكُفَّارِ بِأَقْدَامِهِمْ، أَوْ بِحَوَافِرِ خُيُولِهِمْ، أَوْ بِأَخْفَافِ رَوَاحِلِهِمْ، فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْغَيْظُ لِلْكُفَّارِ. وَالْمَوْطِئُ: اسْمُ مَكَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أَيْ: يُصِيبُونَ مَنْ عَدُوِّهِمْ قَتْلًا، أَوْ أَسْرًا، أَوْ هَزِيمَةً، أَوْ غَنِيمَةً، وَأَصْلُهُ مِنْ نِلْتُ الشَّيْءَ أَنَالُ: أَيْ أُصِيبُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمْرٌ مَنِيلٌ مِنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ التَّنَاوُلِ، إِنَّمَا التَّنَاوُلُ

[سورة التوبة (9) : الآيات 122 إلى 123]

مِنْ نُلْتُهُ بِالْعَطِيَّةِ. قَالَ غَيْرُهُ: نُلْتُ أَنُولُ مِنَ الْعَطِيَّةِ، وَنِلْتُهُ أَنَالُهُ: أَدْرَكْتُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي (بِهِ) يَعُودُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ: الْحَسَنَةُ الْمَقْبُولَةُ، أَيْ: إِلَّا كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ حَسَنَةً مَقْبُولَةً يُجَازِيهِمْ بِهَا، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فِي حُكْمِ التَّعْلِيلِ لِمَا سَبَقَ مَعَ كَوْنِهِ يَشْمَلُ كُلَّ مُحْسِنٍ، وَيَصْدُقُ عَلَى الْمَذْكُورِينَ هُنَا صِدْقًا أَوَّلِيًّا. قَوْلُهُ: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَلَا يَقَعُ مِنْهُمُ الْإِنْفَاقُ فِي الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا صَغِيرًا يَسِيرًا وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مُنْفَرَجٍ بَيْنَ جِبَالٍ، وَآكَامٍ يَكُونُ مَنْفَذًا لِلسَّيْلِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: وَادٍ وَأَوْدِيَةٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يُعْرَفُ فِيمَا عَلِمْتُ فَاعِلٌ وَأَفْعِلَةٌ إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أَيْ: كُتِبَ لَهُمْ ذَلِكَ الَّذِي عَمِلُوهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَالسَّفَرِ فِي الْجِهَادِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بِهِ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: أَحْسَنَ جَزَاءِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى عَمَلٌ صَالِحٌ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهَا، وَهِيَ قوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّخَلُّفِ مِنَ الْبَعْضِ مَعَ الْقِيَامِ بِالْجِهَادِ مِنَ الْبَعْضِ، وَسَيَأْتِي. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ مَالِكٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْآيَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْلَا ضُعَفَاءُ النَّاسِ مَا كَانَتْ سَرِيَّةٌ إِلَّا كُنْتُ فِيهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ هَذَا حِينَ كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَثُرَ الْإِسْلَامُ، وَفَشَا قَالَ اللَّهُ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيِّ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ السَّبِيعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا قَالُوا: هَذِهِ الآية للمسلمين إلى أن تقوم الساعة. [سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 123] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَالَغَ فِي الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، وَالِانْتِدَابِ إِلَى الْغَزْوِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً مِنَ الْكُفَّارِ يَنْفِرُونَ جَمِيعًا، وَيَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ خَالِيَةً، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ أَيْ: مَا صَحَّ لَهُمْ، وَلَا اسْتَقَامَ أَنْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا، بَلْ يَنْفِرُ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ تِلْكَ الْفِرْقَةِ، وَيَبْقَى مَنْ عَدَا هَذِهِ الطَّائِفَةِ النَّافِرَةِ. قَالُوا: وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِيَتَفَقَّهُوا عَائِدًا إِلَى الْفِرْقَةِ الْبَاقِيَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الطَّائِفَةَ مِنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ تَخْرُجُ إِلَى الْغَزْوِ، وَمَنْ بَقِيَ مِنَ الْفِرْقَةِ يَقِفُونَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَيُعَلِّمُونَ الْغُزَاةَ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْغَزْوِ، أَوْ يَذْهَبُونَ فِي طَلَبِهِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَجِدُونَ فِيهِ مَنْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ الْفِقْهَ فِي الدين،

وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ وَقْتَ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِمْ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ، وَهِيَ: حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَّصِلًا بِمَا دَلَّ عَلَى إِيجَابِ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ، فَيَكُونُ السَّفَرُ نَوْعَيْنِ: الْأَوَّلُ: سَفَرُ الْجِهَادِ، وَالثَّانِي: السَّفَرُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ وُجُوبَ الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الطَّالِبُ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ. وَالْفِقْهُ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا مِنْ لُغَةٍ، وَنَحْوٍ، وَصَرْفٍ، وَبَيَانٍ، وَأُصُولٍ. وَمَعْنَى: فَلَوْلا نَفَرَ فَهَلَّا نَفَرَ، وَالطَّائِفَةُ فِي اللُّغَةِ: الْجَمَاعَةُ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا: هُوَ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ، وَإِنْذَارَ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَقْصِدَيْنِ الصَّالِحَيْنِ، وَالْمَطْلَبَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ، وَهُمَا تَعَلُّمُ الْعِلْمِ، وَتَعْلِيمُهُ، فَمَنْ كَانَ غَرَضُهُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ غَيْرَ هَذَيْنِ، فَهُوَ طَالِبٌ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، لَا لِغَرَضٍ دِينِيٍّ، فَهُوَ كَمَا قُلْتُ: وَطَالِبُ الدُّنْيَا بِعِلْمِ الدِّينِ أَيُّ بَائِسٍ ... كَمَنْ غَدَا لِنَعْلِهِ يَمْسَحُ بِالْقَلَانِسِ وَمَعْنَى: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ التَّرَجِّي لِوُقُوعِ الْحَذَرِ مِنْهُمْ عَنِ التَّفْرِيطِ فِيمَا يَجِبُ فِعْلُهُ: فَيُتْرَكُ، أَوْ فِيمَا يَجِبُ تَرْكُهُ: فَيُفْعَلُ، ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَجْتَهِدُوا فِي مُقَاتَلَةِ مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَنْ يَأْخُذُوا فِي حَرْبِهِمْ بِالْغِلْظَةِ. وَالشِّدَّةِ وَالْجِهَادُ وَاجِبٌ لِكُلِّ الْكُفَّارِ، وَإِنْ كَانَ الِابْتِدَاءُ بِمَنْ يَلِي الْمُجَاهِدِينَ مِنْهُمْ أَهَمَّ وَأَقْدَمَ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ بِمَا يُقَوِّي عَزَائِمَهُمْ، وَيُثَبِّتُ أَقْدَامَهُمْ، فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أَيْ: بِالنُّصْرَةِ له وَتَأْيِيدِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ لَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَسَخَ هَؤُلَاءِ الآيات انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «1» وإِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ «2» قَوْلُهُ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً يَقُولُ: لِتَنْفِرْ طَائِفَةٌ وَتَمْكُثْ طَائِفَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمَاكِثُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمُ الَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ، وَيُنْذِرُونَ إِخْوَانَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْغَزْوِ، وَلَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ مَا نَزَلْ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ وَحُدُودِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِسِيَاقٍ أَتَمَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْجِهَادِ، وَلَكِنْ لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُضَرَ بِالسِّنِينَ أَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ، فَكَانَتِ الْقَبِيلَةُ مِنْهُمْ تقبل بأسرها حتى يحلوا بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْجَهْدِ وَيَقْبَلُوا بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ كَاذِبُونَ، فَضَيَّقُوا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْهَدُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يُخْبِرُ رَسُولَهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، فَرَدَّهُمْ إِلَى عَشَائِرِهِمْ، وَحَذَّرَ قَوْمَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ قَالَ: الْأَدْنَى، فَالْأَدْنَى. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَزْوِ الدَّيْلَمِ فَقَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ قَالَ: «الرُّومُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً قال: شدّة.

_ (1) . التوبة: 41. (2) . التوبة: 39.

[سورة التوبة (9) : الآيات 124 إلى 129]

[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 129] وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) قَوْلُهُ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ حِكَايَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِبَقِيَّةِ فَضَائِحِ الْمُنَافِقِينَ، أَيْ: إِذَا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ سُورَةً مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ لِإِخْوَانِهِ مِنْهُمْ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السُّورَةُ النَّازِلَةُ إِيماناً يَقُولُونَ هَذَا اسْتِهْزَاءً بِالْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولُوهُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَاصِدِينَ بذلك صرفهم عن الإسلام وتزهيدهم فيه، وأيكم: مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ: زَادَتْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى السُّورَةِ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بِنُزُولِ الْوَحْيِ وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ فَزادَتْهُمْ السُّورَةُ الْمُنَزَّلَةُ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أَيْ: خُبْثًا إِلَى خُبْثِهِمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَفَسَادِ الِاعْتِقَادِ، وَإِظْهَارِ غَيْرِ مَا يُضْمِرُونَهُ وَثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتُوا كُفَّارًا مُنَافِقِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَرَضِ هُنَا: الشَّكُّ وَالنِّفَاقُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: زَادَتْهُمْ إِثْمًا إِلَى إِثْمِهِمْ. قَوْلُهُ: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَرَوْنَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ بِالْفَوْقِيَّةِ، خطابا للمؤمنين. وقرأ الأعمش «أو لم يَرَوْا» وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ/ أَوَلَا تَرَى خطابا لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَمَعْنَى: يُفْتَنُونَ: يُخْتَبَرُونَ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ أَوْ يَبْتَلِيهِمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقَحْطِ وَالشِّدَّةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ ابن عطية: بالأمراض والأوجاع. قال قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: بِالْغَزْوِ وَالْجِهَادِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَيَرَوْنَ مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ النَّصْرِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ وثم لِعَطْفِ مَا بَعْدَهَا عَلَى يَرَوْنَ، وَالْهَمْزَةُ فِي: أو لا يَرَوْنَ، لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: لَا يَنْظُرُونَ وَلَا يَرَوْنَ، وَهَذَا تَعْجِيبٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَصَلُّبِهِمْ فِي النِّفَاقِ، وَإِهْمَالِهِمْ لِلنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ، فَقَالَ وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أَيْ: نَظَرَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ إِلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ قَائِلِينَ: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِنَنْصَرِفَ عَنِ الْمَقَامِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ الْوَحْيُ، فَإِنَّهُ لَا صَبْرَ لَنَا عَلَى اسْتِمَاعِهِ، وَلِنَتَكَلَّمَ بِمَا نُرِيدُ مِنَ الطَّعْنِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالضَّحِكِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِذَا أَنْزَلَتْ سُورَةٌ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا فَضَائِحَ الْمُنَافِقِينَ وَمُخَازَيَهُمْ قَالَ بَعْضُ من يحضر مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لِلْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْهُمْ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ. وَحَكَى

ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ: نَظَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ قَالَ، أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ. قَوْلُهُ: ثُمَّ انْصَرَفُوا أَيْ: عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، أَوْ عَنْ مَا يَقْتَضِي الْهِدَايَةَ وَالْإِيمَانَ إِلَى مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ وَالنِّفَاقَ، ثُمَّ دَعَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أَيْ: صَرَفَهَا عَنِ الْخَيْرِ وَمَا فِيهِ الرُّشْدُ لَهُمْ وَالْهِدَايَةُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُصَرِّفُ الْقُلُوبِ وَمُقَلِّبُهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ خَذَلَهُمْ عَنْ قَبُولِ الْهِدَايَةِ وَقِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ لَا يُرَادُ بِهِ وُقُوعُ مَضْمُونِهِ كَقَوْلِهِمْ: قَاتَلَهُ اللَّهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ انْصَرَفُوا عن مواطن الْهِدَايَةِ، أَوِ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ اسْتَحَقُّوا الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ فَقَالَ: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ مَا يَسْمَعُونَهُ لِعَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ وَإِنْصَافِهِمْ، ثُمَّ خَتَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِمَا يُهَوِّنُ عِنْدَهُ بَعْضَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، فَقَالَ: لَقَدْ جاءَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ رَسُولٌ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْكُمْ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ: مِنْ جِنْسِكُمْ، فِي كَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَإِلَى كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ خِطَابًا لِلْعَرَبِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ. وَالْمَعْنَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ جِنْسِكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ مَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: شَاقٌّ عَلَيْهِ عَنَتُكُمْ، لِكَوْنِهِ مِنْ جِنْسِكُمْ وَمَبْعُوثًا لِهِدَايَتِكُمْ، وَالْعَنَتُ: التَّعَبُ لَهُمْ وَالْمَشَقَّةُ عَلَيْهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ، أَوْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ بِالنَّارِ، أَوْ بِمَجْمُوعِهِمَا حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أَيْ: شَحِيحٌ عَلَيْكُمْ بِأَنْ تَدْخُلُوا النَّارَ، أَوْ حَرِيصٌ عَلَى إِيمَانِكُمْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قال الفرّاء. والرؤوف والرحيم، قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُمَا أَيْ: هَذَا الرَّسُولُ بِالْمُؤْمِنِينَ منكم أيها العرب أو الناس رَؤُفٌ رَحِيمٌ ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ، وَمُسَلِّيًا لَهُ، وَمُرْشِدًا لَهُ إِلَى مَا يَقُولُهُ عِنْدَ أَنْ يُعْصَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْكَ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَلَا قَبِلُوهُ فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ: حَسْبِيَ اللَّهُ أَيْ: كَافِيَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أَيْ: فَوَّضْتُ جَمِيعَ أُمُورِي وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَصَفَهُ بِالْعِظَمِ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِعَرْشٍ. وَقَرَأَ ابْنُ محيصن بالرفع صفة لرب. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وقد أخرج ابن جرير وابن حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً قَالَ: كَانَ إِذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ آمَنُوا بِهَا فَزَادَهُمُ اللَّهُ إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَكَانُوا بِهَا يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ قَالَ: شَكًّا إِلَى شَكِّهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ قَالَ: يُقْتَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ وَقَالَ: بِالسَّنَةِ وَالْجُوعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بِالْعَدُوِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بِالْغَزْوِ فِي سَبِيلِ الله. وأخرج أبو الشيخ عن بكار ابن مَالِكٍ قَالَ: يَمْرَضُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَتْ لَهُمْ فِي كُلِّ عَامٍ كِذْبَةٌ أَوْ كِذْبَتَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ فِي كُلِّ عَامٍ كِذْبَةً أَوْ كِذْبَتَيْنِ، فَيَضِلُّ بِهَا فئة مِنَ النَّاسِ كَثِيرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي

حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَقُولُوا: انْصَرَفْنَا مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ قَوْمًا انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَلَكِنْ قُولُوا: قَضَيْنَا الصَّلَاةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَقُولُ: الِانْصِرَافُ يَكُونُ عَنِ الْخَيْرِ كَمَا يَكُونُ عَنِ الشَّرِّ، وَلَيْسَ فِي إِطْلَاقِهِ هُنَا عَلَى رُجُوعِ الْمُنَافِقِينَ عَنْ مَجْلِسِ الْخَيْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ يُسْتَعْمَلُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَدِّدَةِ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ فِي حِكَايَةِ مَا وَقَعَ مِنَ الْكُفَّارِ، لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حِكَايَةِ مَا وَقَعَ عَنْ أَهْلِ الْخَيْرِ، كَالرُّجُوعِ وَالذَّهَابِ، وَالدُّخُولِ، وَالْخُرُوجِ، وَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ. وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ، وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قَالَ: لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مُضَرِيُّهَا وَرَبِيعُهَا وَيَمَانِيُّهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قَالَ: قَدْ وَلَدْتُمُوهُ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قَالَ: لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِنْ وِلَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ» . وَهَذَا فِيهِ انْقِطَاعٌ، وَلَكِنَّهُ قَدْ وَصَلَهُ الْحَافِظُ الرَّامَهُرْمُزِيُّ فِي كِتَابِهِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الرَّاوِي وَالْوَاعِي، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ يُوسُفُ بْنُ هَارُونَ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي يُحَدِّثُنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أَنْ وَلَدَنِي أَبِي وَأُمِّي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَعْنَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟ قَالَ: «نَسَبًا وَصِهْرًا وَحَسَبًا، لَيْسَ فِيَّ وَلَا فِي آبَائِي مِنْ لَدُنْ آدَمَ سِفَاحٌ، كُلُّنَا نِكَاحٌ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَعْنِي مِنْ أَعْظَمِكُمْ قَدْرًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ نَحْوَ حَدِيثِ عَلِيٍّ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ بمعناه، ويؤيد مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ واثلة ابن الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هشام» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ جَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ، ثُمَّ حِينَ فَرَّقَهُمْ جَعَلَنِي فِي خَيْرِ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ حِينَ خَلَقَ الْقَبَائِلَ جعلني من خيرهم قَبِيلَةٍ، وَحِينَ خَلَقَ الْأَنْفُسَ جَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ حِينَ خَلَقَ الْبُيُوتَ جَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ بُيُوتِهِمْ، فَأَنَا خَيْرُهُمْ بَيْتًا وَخَيْرُهُمْ نَفْسًا» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وإسحاق ابن رَاهَوَيْهِ وَابْنُ مَنِيعٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، من طريق يوسف

ابن مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَفِي لَفْظٍ: آخِرُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ نَحْوُهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَابْنُ الضَّرِيسِ فِي فَضَائِلِهِ، وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَلْخِيصِ الْمُتَشَابِهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ جَاءَتْهُ جُهَيْنَةُ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّكَ قَدْ نَزَلْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَأَوْثِقْ لَنَا نَأْمَنْكَ وَتَأْمَنَّا قَالَ: وَلِمَ سَأَلْتُمْ هَذَا؟ قَالُوا: نَطْلُبُ الْأَمْنَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ يَعْنِي: الْكُفَّارَ تَوَلَّوْا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْعَرْشُ عَرْشًا لِارْتِفَاعِهِ، وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي صِفَةِ الْعَرْشِ وَمَاهِيَّتِهِ وَقَدْرِهِ. وَإِلَى هُنَا انْتَهَى الثُّلُثُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمُسَمَّى «فَتْحُ الْقَدِيرِ» الْجَامِعُ بَيْنَ فَنَّيِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ بِقَلَمِ مُؤَلِّفِهِ: مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيِّ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا. وَكَانَ تَمَامُ هَذَا الثُّلُثِ فِي نَهَارِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لَعَلَّهُ يَوْمُ عِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ سَنَةَ 1227 هـ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. الْحَمْدُ لَهُ: انْتَهَى سَمَاعًا عَلَى مُؤَلِّفِهِ. أَطَالَ اللَّهُ مدّته في جمادى الأولى من عام سنة 1235 هـ. يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا آمين

سورة يونس

سورة يونس هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ إلى آخرهنّ، وهكذا رَوَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحُكِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ، وهي قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ. وَحُكِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنَ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَجَابِرٍ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ يُونُسَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَتْ سُورَةُ يُونُسَ بَعْدَ السَّابِعَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي الرَّائِيَّاتِ إِلَى الطَّوَاسِينِ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ» «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ الْأَحْنَفِ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ غَدَاةً فَقَرَأَ يُونُسَ وَهُودَ وَغَيْرَهُمَا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) قَوْلُهُ: الر قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُسْتَوْفًى عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَا نُعِيدُهُ، فَفِيهِ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ. وَقَدْ قَرَأَ بِالْإِمَالَةِ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنْ غَيْرِ إِمَالَةٍ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى: الر أَنَا اللَّهُ أَرَى. قَالَ النَّحَّاسُ: وَرَأَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَمِيلُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ قَدْ حَكَى مِثْلَهُ عَنِ الْعَرَبِ، وَأَنْشَدَ: بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٌ وإن شرّا فا «2» ...

_ (1) . الرائيات: هي السور المبدوءة ب «الر» والطواسين: هي السور المبدوءة ب «طسم» أو «طس» . (2) . وعجزه: ولا أريد الشرّ إلا أن تا.

أَيْ: وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: الر قَسَمٌ، وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: الر اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَكَلُّفٌ لِعِلْمِ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ: عَلَى أَنَّ الر لَيْسَ بِآيَةٍ، وَعَلَى أَنَّ: طه، آيَةٌ، وَفِي مُقْنِعِ أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ: أَنَّ الْعَادِّينَ لِطه آيَةً، هُمُ الْكُوفِيُّونَ فَقَطْ، قِيلَ: وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ الر لَا يُشَاكِلُ مَقَاطِعَ الْآيِ الَّتِي بَعْدَهُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنَ الْآيَاتِ، وَالتَّبْعِيدُ لِلتَّعْظِيمِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَرَادَ التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، وَسَائِرَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ مُؤَنَّثٍ وَقِيلَ: تِلْكَ بِمَعْنَى هَذِهِ، أَيْ: هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِلْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ ذِكْرٌ، وَأَنَّ الْحَكِيمَ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ لَا مِنْ صِفَاتِ غَيْرِهِ، والْحَكِيمِ الْمُحْكَمُ بِالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَالْحُدُودِ، وَالْأَحْكَامِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: الْحَكِيمُ مَعْنَاهُ: الْحَاكِمُ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ «1» وَقِيلَ: الْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْمَحْكُومِ فِيهِ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ: حَكَمَ اللَّهُ فِيهِ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: الْحَكِيمُ: ذُو الْحِكْمَةِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً لِإِنْكَارِ الْعَجَبِ مَعَ مَا يُفِيدُهُ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَاسْمُ كَانَ أَنْ أَوْحَيْنا وَخَبَرُهَا عَجَباً أَيْ: أَكَانَ إِيحَاؤُنَا عَجَبًا لِلنَّاسِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَجَبٌ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كان «2» ، على أن كان تامة «3» ، وأَنْ أَوْحَيْنا بَدَلٌ مِنْ عَجَبٌ. وَقُرِئَ بِإِسْكَانِ الْجِيمِ مِنْ رَجُلٍ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَيْ: مِنْ جِنْسِهِمْ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْإِيحَاءِ إِلَى رَجُلٍ مِنْ جِنْسِهِمْ مَا يَقْتَضِي الْعَجَبَ فَإِنَّهُ لَا يُلَابِسُ الْجِنْسَ وَيُرْشِدُهُ وَيُخْبِرُهُ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمْ لَكَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنَ الْجِنِّ وَيَتَعَذَّرُ الْمَقْصُودُ حِينَئِذٍ مِنَ الْإِرْسَالِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَأْنَسُونَ إِلَيْهِ وَلَا يُشَاهِدُونَهُ، وَلَوْ فَرَضْنَا تَشَكُّلَهُ لَهُمْ وَظُهُورَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَظْهَرَ فِي غَيْرِ شَكْلِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَذَلِكَ أَوْحَشُ لِقُلُوبِهِمْ وَأَبْعَدُ مِنْ أُنْسِهِمْ، أَوْ فِي الشَّكْلِ الْإِنْسَانِيِّ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِنْكَارِهِمْ لِكَوْنِهِ فِي الْأَصْلِ غَيْرَ إِنْسَانٍ، هَذَا إِنْ كَانَ الْعَجَبُ مِنْهُمْ لِكَوْنِهِ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِكَوْنِهِ يَتِيمًا أَوْ فَقِيرًا، فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ جَامِعًا مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرَفِ مَا لَا يَجْمَعُهُ غَيْرُهُ، وَبَالِغًا فِي كَمَالِ الصِّفَاتِ إِلَى حَدٍّ يَقْصُرُ عَنْهُ مَنْ كَانَ غَنِيًّا، أَوْ كَانَ غَيْرَ يَتِيمٍ، وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَصْطَفِيَهُ اللَّهُ بِإِرْسَالِهِ مِنْ خِصَالِ الْكَمَالِ عِنْدَ قُرَيْشٍ مَا هُوَ أَشْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ وَأَظْهَرُ مِنَ النَّهَارِ، حَتَّى كَانُوا يُسَمُّونَهُ الْأَمِينَ. قَوْلُهُ: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: بِأَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَقِيلَ: هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِأَنَّ فِي الْإِيحَاءِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَقِيلَ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. قَوْلُهُ قَدَمَ صِدْقٍ أَيْ: مَنْزِلَ صِدْقٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:

_ (1) . البقرة: 213. [.....] (2) . أي: وخبرها: أَنْ أَوْحَيْنا. (3) . جاء في الكشاف [2/ 224] والأجود أن تكون كان تامة.

لَكُمْ قَدَمٌ لَا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا ... مَعَ الْحَسَبِ الْعَالِي طَمَتْ عَلَى الْبَحْرِ وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْقَدَمُ: الْمُتَقَدِّمُ فِي الشَّرَفِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: كُلُّ سَابِقٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ قَدَمٌ يُقَالُ: لِفُلَانٍ قَدَمٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَهُ عِنْدِي قَدَمُ صِدْقٍ، وَقَدَمُ خَيْرٍ، وَقَدَمُ شَرٍّ وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ: زلّ بنو العوّام عند آلِ الْحَكَمْ ... وَتَرَكُوا الْمُلْكَ لِمُلْكٍ ذِي قَدَمْ وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْقَدَمُ: كُلُّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ خَيْرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْقَدَمُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي لَا يَقَعُ فِيهِ تَأْخِيرٌ وَلَا إِبْطَاءٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: سَلَفُ صِدْقٍ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: ثَوَابُ صِدْقٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: قَدَمُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَعْمَالًا قدّموها، واختاره ابن جرير، ومنه قول ابن الوضّاح: صلّ لذي العرش واتّخذ قدما ... ينجك يَوْمَ الْخِصَامِ وَالزَّلَلِ وَقِيلَ: غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ، مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِإِيرَادِهِ. قَوْلُهُ: قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: لَساحِرٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: لَسِحْرٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْقُرْآنَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى السِّحْرِ فِي الْبَقَرَةِ، وَجُمْلَةُ قالَ الْكافِرُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا صَنَعُوا بَعْدَ التَّعَجُّبِ وَقَالَ الْقَفَّالُ: فِيهِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا أَنْذَرَهُمْ قَالَ الْكَافِرُونَ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَاءَ بِكَلَامٍ يُبْطِلُ بِهِ الْعَجَبَ الَّذِي حَصَلَ لِلْكُفَّارِ مِنَ الْإِيحَاءِ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «1» أَيْ: مَنْ كَانَ لَهُ هَذَا الِاقْتِدَارُ الْعَظِيمُ الَّذِي تَضِيقُ الْعُقُولُ عَنْ تَصَوُّرِهِ كَيْفَ يَكُونُ إِرْسَالُهُ لِرَسُولٍ إِلَى النَّاسِ مِنْ جِنْسِهِمْ مَحَلًّا لِلتَّعَجُّبِ مَعَ كَوْنِ الْكُفَّارِ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِصِحَّةِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ بِهَذَا الرَّسُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَعْرَافِ فِي قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فَلَا نُعِيدُهُ هُنَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ شَأْنِهِ فَقَالَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وَتَرَكَ الْعَاطِفَ، لِأَنَّ جُمْلَةَ يُدَبِّرُ كَالتَّفْسِيرِ وَالتَّفْصِيلِ لِمَا قَبْلَهَا وَقِيلَ: هِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ اسْتَوَى وَقِيلَ: مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَأَصْلُ التَّدْبِيرِ النَّظَرُ فِي أَدْبَارِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا لِتَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَقْبُولِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَقْضِيهِ وَيُقَدِّرُهُ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: يَبْعَثُ الْأَمْرَ، وَقِيلَ: يُنَزِّلُ الْأَمْرَ، وَقِيلَ: يَأْمُرُ بِهِ وَيُمْضِيهِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الدُّبُرِ، وَالْأَمْرُ: الشَّأْنُ، وَهُوَ أَحْوَالُ ملكوت السموات وَالْأَرْضِ وَالْعَرْشِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْفَعَ إِلَيْهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِهِ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ في البقرة، وفي هذه بَيَانٌ لِاسْتِبْدَادِهِ بِالْأُمُورِ فِي كُلِّ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمُ إِلَى فَاعِلِ هَذِهِ الأشياء من الخلق والتدبير، أي:

_ (1) . الأعراف: 54.

الَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْعَظِيمَةَ اللَّهُ رَبُّكُمْ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: الِاسْمُ الشَّرِيفُ، وَرَبُّكُمْ بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ بَيَانٌ لَهُ، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقِيقُ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ لِبَدِيعِ صُنْعِهِ وَعَظِيمِ اقْتِدَارِهِ، فَكَيْفَ يَعْبُدُونَ الْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا تَذَكَّرُونَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، لِأَنَّ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَذَكُّرٍ وَأَقَلُّ اعْتِبَارٍ يَعْلَمُ بِهَذَا وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَكُونُ آخِرَ أَمْرِهِمْ بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَقَالَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَفِي هَذَا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ مَا لَا يَخْفَى، وَانْتِصَابُ وَعْدَ اللَّهِ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً مَعْنَى الْوَعْدِ، أَوْ هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمَرْجِعِ: الرُّجُوعُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ إِمَّا بِالْمَوْتِ، أَوْ بِالْبَعْثِ، أو كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ الْوَعْدَ بِقَوْلِهِ: حَقًّا فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِتَأْكِيدٍ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ مِنَ الْوِكَادَةِ مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي ذَلِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ مَا تَقَدَّمَ بقوله: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أَيْ: إِنَّ هَذَا شَأْنُهُ يَبْتَدِئُ خَلْقَهُ مِنَ التُّرَابِ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَى التُّرَابِ، أَوْ مَعْنَى الْإِعَادَةِ: الْجَزَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُنْشِئُهُ ثُمَّ يُمِيتُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ لِلْبَعْثِ وَقِيلَ: يُنْشِئُهُ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ يُعِيدُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ: أَنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَا نُصِبَ بِهِ وَعْدَ اللَّهِ، أَيْ: وَعَدَكُمْ أَنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لِأَنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ أَنَّ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، فَتَكُونَ اسْمًا. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ثَعْلَبٍ: يَكُونُ التَّقْدِيرُ: حَقًّا إِبْدَاؤُهُ الْخَلْقَ، ثُمَّ ذَكَرَ غَايَةَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِعَادَةِ فَقَالَ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ أَيْ: بِالْعَدْلِ الَّذِي لَا جَوْرَ فِيهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ الْآخَرُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ، أَيْ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ هِيَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، أَيْ: وَعَذَابٌ أَلِيمٌ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ هَكَذَا: ويجزي الذين كفروا حال كون لَهُمْ هَذَا الشَّرَابُ وَهَذَا الْعَذَابُ، وَلَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الشَّرَابَ وَهَذَا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ هُمَا مِنَ الْجَزَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَوْصُولَ فِي وَالَّذِينَ كَفَرُوا مُبْتَدَأٌ وَمَا بعده خبره، فلا يكون معطوفا على الموصول الْأَوَّلِ، وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَكْفُرُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ، وَكُلُّ مُسَخَّنٍ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ حَمِيمٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الر قَالَ: فَوَاتِحُ أَسْمَاءٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ قَالَ: فِي قَوْلِهِ: الر أَنَا اللَّهُ أَرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ قَالَ: يَعْنِي هَذِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ قَالَ: الْكُتُبُ الَّتِي خَلَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا بَعَثَ

[سورة يونس (10) : الآيات 5 إلى 6]

الله محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ رَسُولًا أَنْكَرَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ، أَوْ مَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا مِثْلَ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ الآية وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ «1» الآية، فلما كرر الله سبحانه عليهم الحجج قَالُوا: وَإِذَا كَانَ بَشَرًا، فَغَيْرُ مُحَمَّدٍ كَانَ أحق بالرسالة، ف لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «2» يَقُولُ: أَشْرَفِ مِنْ مُحَمَّدٍ، يَعْنُونَ: الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَمَسْعُودَ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ مِنَ الطَّائِفِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «3» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ: مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَجْرًا حَسَنًا بِمَا قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْقَدَمُ هُوَ الْعَمَلُ الذي قدموا. قال الله سبحانه نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَالْآثَارُ مَمْشَاهُمْ. قَالَ: مَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ مِنْ مَسْجِدِهِمْ ثُمَّ قَالَ: هَذَا أَثَرٌ مَكْتُوبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: قَدَمَ صِدْقٍ قال: محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَلَفُ صدق. والروايات عن التابعين وغيرهم في هذه كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَكْثَرَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ قَالَ: يَقْضِيهِ وَحْدَهُ، وَفِي قَوْلِهِ إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قَالَ: يُحْيِيهِ ثُمَّ يُمِيتُهُ ثم يحييه. [سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 6] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) ذَكَرَ هَاهُنَا بَعْضَ نِعَمِهِ عَلَى المكلّفين، وهي ممّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُودِهِ، وَوَحْدَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَعِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ بِإِتْقَانِ صُنْعِهِ فِي هَذَيْنِ النَّيِّرَيْنِ الْمُتَعَاقِبَيْنِ على الدّوام بعد ما ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا إِبْدَاعَهُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَالضِّيَاءُ قِيلَ: جَمْعُ ضَوْءٍ كَالسِّيَاطِ وَالْحِيَاضِ. وَقَرَأَ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ ضِئَاءً بِجَعْلِ الْيَاءِ هَمْزَةً مَعَ الْهَمْزَةِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ يَاءَهُ كَانَتْ وَاوًا مَفْتُوحَةً، وَأَصْلُهُ ضِوَاءً فَقُلِبَتْ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ ضِئَاءً بِالْهَمْزَةِ فَهُوَ مَقْلُوبٌ، قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ الَّتِي بَعْدَ الْأَلِفِ، فَصَارَتْ قَبْلَ الْأَلِفِ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْيَاءُ هَمْزَةً، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ضِيَاءً مَصْدَرًا لَا جَمْعًا، مِثْلَ قَامَ يَقُومُ قِيَامًا، وَصَامَ يَصُومُ صِيَامًا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: جَعَلَ الشَّمْسَ ذَاتَ ضِيَاءٍ وَالْقَمَرَ ذَا نُورٍ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَكَأَنَّهُمَا جُعِلَا نَفْسَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ. قِيلَ: الضِّيَاءُ أَقْوَى مِنَ النُّورِ، وَقِيلَ: الضِّيَاءُ هُوَ مَا كَانَ بِالذَّاتِ، وَالنُّورُ مَا كَانَ بِالْعَرَضِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ. قَوْلُهُ: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ أَيْ: قَدَّرَ مَسِيرَهُ فِي مَنَازِلَ، أَوْ قَدَّرَهُ ذَا مَنَازِلَ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَمَرِ، وَمَنَازِلُ الْقَمَرِ: هِيَ الْمَسَافَةُ الَّتِي

_ (1) . الأنبياء: 7. (2) . الزخرف: 31. (3) . الزخرف: 32.

يَقْطَعُهَا فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِحَرَكَتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ وَجُمْلَتُهَا ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، يَنْزِلُ الْقَمَرُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا مَنْزِلًا لَا يَتَخَطَّاهُ، فَيَبْدُو صَغِيرًا فِي أَوَّلِ مَنَازِلِهِ، ثُمَّ يَكْبُرُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَبْدُوَ كَامِلًا، وَإِذَا كَانَ في أواخر مَنَازِلِهِ رَقَّ وَاسْتَقْوَسَ، ثُمَّ يَسْتَتِرُ لَيْلَتَيْنِ إِذَا كَانَ الشَّهْرُ كَامِلًا، أَوْ لَيْلَةً إِذَا كَانَ نَاقِصًا، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَطُولُ وَقَدْ جَمَعْنَا فِيهِ رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ أَوْرَدَهُ عَلَيْنَا بَعْضُ الْأَعْلَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «1» ، وَفِي قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ هَذَا فِيمَا سَبَقَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَالْأَوْلَى: رُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى الْقَمَرِ وَحْدَهُ، كَمَا في قوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ «2» ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ الْمَنَافِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا التَّقْدِيرِ، فَقَالَ: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ فَإِنَّ فِي الْعِلْمِ بِعَدَدِ السِّنِينَ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا لَا يُحْصَى، وَفِي الْعِلْمِ بِحِسَابِ الْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعْلَمِ النَّاسُ بِذَلِكَ وَلَا عَرَفُوا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِمْ. وَالسَّنَةُ تَتَحَصَّلُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، وَالشَّهْرُ يَتَحَصَّلُ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا إِنْ كَانَ كَامِلًا، وَالْيَوْمُ يَتَحَصَّلُ مِنْ سَاعَاتٍ مَعْلُومَةٍ هِيَ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ سَاعَةً لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ قَدْ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً فِي أَيَّامِ الِاسْتِوَاءِ، وَيَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي أَيَّامِ الزِّيَادَةِ وَأَيَّامِ النُّقْصَانِ، وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَالْقَمَرِيَّةِ مَعْرُوفٌ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَا خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَاخْتِلَافَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ دُونَ الْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، وَمَعْنَى تَفْصِيلِ الْآيَاتِ تَبْيِينُهَا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: التَّكْوِينِيَّةُ أَوِ التَّنْزِيلِيَّةُ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، وَتَدْخُلُ هَذِهِ الْآيَاتُ التَّكْوِينِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا فِي ذَلِكَ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ يُفَصِّلُ بالتحتية. وقرأ ابن السّميقع تُفَصَّلُ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وَلَعَلَّ وَجْهَ هَذَا الِاخْتِيَارِ أَنَّ قَبْلَ هَذَا الْفِعْلِ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَبَعْدَهُ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْمَنَافِعَ الْحَاصِلَةَ مِنِ اختلاف الليل والنهار وما خلق في السموات وَالْأَرْضِ مِنْ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَقَالَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ أَيِ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيَجْتَنِبُونَ مَعَاصِيَهُ وَخَصَّهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُمْعِنُونَ النَّظَرَ وَالتَّفَكُّرَ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَذَرًا مِنْهُمْ عَنِ الْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُخَالِفُ مُرَادَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَنَظَرًا لِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ فِي مَعَادِهِمْ. قَالَ الْقَفَّالُ: مَنْ تَدَبَّرَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا مَخْلُوقَةٌ لِبَقَاءِ النَّاسِ فِيهَا، وَأَنَّ خَالِقَهَا وَخَالِقَهُمْ مَا أَهْمَلَهُمْ بَلْ جَعَلَهَا لَهُمْ دَارَ عَمَلٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً قَالَ: لَمْ يَجْعَلِ الشَّمْسَ كَهَيْئَةِ الْقَمَرِ لِكَيْ يُعْرَفَ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ «3» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: وُجُوهُهُمَا إِلَى السّموات، وأقفيتهما إلى الأرض.

_ (1) . الجمعة: 11. (2) . يس: 39. (3) . الإسراء: 12.

[سورة يونس (10) : الآيات 7 إلى 10]

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ خَلِيفَةَ الْعَبْدِيِّ قَالَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُعْبَدْ إِلَّا عَنْ رُؤْيَةٍ مَا عَبَدَهُ أَحَدٌ، وَلَكِنِ الْمُؤْمِنُونَ تَفَكَّرُوا فِي مَجِيءِ هَذَا الليل إذا جاء الليل جَاءَ فَمَلَأَ كُلَّ شَيْءٍ وَغَطَّى كُلَّ شَيْءٍ، وَفِي مَجِيءِ سُلْطَانِ النَّهَارِ إِذَا جَاءَ فَمَحَا سُلْطَانَ اللَّيْلِ، وَفِي السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض، وفي النجوم، وفي الشتاء والصيف، فو الله مَا زَالَ الْمُؤْمِنُونَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا خَلَقَ رَبُّهُمْ تبارك وتعالى حتى أيقنت قلوبهم بربهم. [سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 10] إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي شَرْحِ أَحْوَالِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ، وَمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَقَدَّمَ الطَّائِفَةَ الَّتِي لَمْ تُؤْمِنْ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْجَبُونَ مِمَّا لَا عَجَبَ فِيهِ، وَيُهْمِلُونَ النَّظَرَ وَالتَّفَكُّرَ فِيمَا لَا يَنْبَغِي إِهْمَالُهُ مِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ لكل حيّ طول حَيَاتِهِ، فَيَتَسَبَّبُ عَنْ إِهْمَالِ النَّظَرِ، وَالتَّفَكُّرِ الصَّادِقِ: عَدَمُ الْإِيمَانِ بِالْمَعَادِ. وَمَعْنَى الرَّجَاءِ هُنَا الْخَوْفُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَاسِلِ وَقِيلَ: يَرْجُونَ: يَطْمَعُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَتَرْجُو بني مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ... وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَا فَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: لَا يَخَافُونَ عِقَابًا، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَطْمَعُونَ فِي ثَوَابٍ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِاللِّقَاءِ حَقِيقَتَهُ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ حَقِيقَتَهُ كَانَ الْمَعْنَى: لَا يَخَافُونَ رُؤْيَتَنَا، أَوْ لَا يَطْمَعُونَ فِي رُؤْيَتِنَا وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالرَّجَاءِ هُنَا: التَّوَقُّعُ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْخَوْفُ وَالطَّمَعُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَا يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَنَا فَهُمْ لَا يَخَافُونَهُ وَلَا يَطْمَعُونَ فِيهِ وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: رَضُوا بِهَا عِوَضًا عَنِ الْآخِرَةِ، فَعَمِلُوا لَهَا وَاطْمَأَنُّوا بِها أَيْ سَكَنَتْ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهَا وَفَرِحُوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ لَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا أُولئِكَ مَأْواهُمُ أَيْ: مَثْوَاهُمْ وَمَكَانُ إِقَامَتِهِمُ النَّارُ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ عَدَمِ الرَّجَاءِ، وَحُصُولِ الرِّضَا، وَالِاطْمِئْنَانِ، وَالْغَفْلَةِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ: بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْمَعَادِ، فَهَذَا حَالُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْمَعَادِ، وَأَمَّا حَالُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ فَقَدْ بَيَّنَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: فَعَلُوا الْإِيمَانَ الَّذِي طَلَبَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْآيَاتِ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْإِيمَانُ، وَهِيَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أَيْ: يَرْزُقُهُمُ الْهِدَايَةَ بِسَبَبِ هَذَا الْإِيمَانِ الْمَضْمُومِ إِلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَيَصِلُونَ بِذَلِكَ

إِلَى الْجَنَّةِ، وَجُمْلَةُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَمَعْنَى مِنْ تَحْتِهِمْ: مِنْ تَحْتِ بَسَاتِينِهِمْ، أَوْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَلَى سُرُرٍ مَرْفُوعَةٍ. وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ متعلق بتجري أو بيهديهم أَوْ خَبَرٌ آخَرُ أَوْ حَالٌ مِنَ الْأَنْهَارُ. قَوْلُهُ: دَعْواهُمْ أَيْ: دُعَاؤُهُمْ وَنِدَاؤُهُمْ، وَقِيلَ: الدُّعَاءُ الْعِبَادَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» وَقِيلَ مَعْنَى دَعْوَاهُمْ هُنَا: الِادِّعَاءُ الْكَائِنُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدَّعُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَنْزِيهَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْمَعَايِبِ وَالْإِقْرَارَ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ. قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُهُ مِنَ الدُّعَاءِ، لِأَنَّ الْخَصْمَ يَدْعُو خَصْمَهُ إِلَى مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: طَرِيقَتُهُمْ وَسِيرَتُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُدَّعِي لِلشَّيْءِ مُوَاظِبٌ عَلَيْهِ فَيُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الدَّعْوَى كِنَايَةً عَنِ الْمُلَازَمَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ دَعْوَى وَلَا دُعَاءٌ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: تَمَنِّيهِمْ كَقَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ «2» وَكَأَنَّ تَمَنِّيَهُمْ فِي الْجَنَّةِ لَيْسَ إِلَّا تَسْبِيحُ اللَّهِ وَتَقْدِيسُهُ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ سُبْحَانَكَ اللهم، وفِيها أَيْ: فِي الْجَنَّةِ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ دُعَاءَهُمُ الَّذِي يَدْعُونَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ هُوَ تَسْبِيحُ اللَّهِ وَتَقْدِيسُهُ. وَالْمَعْنَى: نُسَبِّحُكَ يَا اللَّهُ تَسْبِيحًا، قَوْلُهُ: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أَيْ: تَحِيَّةُ بَعْضِهِمْ لِلْبَعْضِ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، أَوْ تَحِيَّةُ اللَّهِ، أَوِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ، فَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ. وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، قَوْلُهُ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ: وَخَاتِمَةُ دُعَائِهِمُ الَّذِي هُوَ التَّسْبِيحُ أَنْ يَقُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: مَذْهَبُ الْخَلِيلِ أَنَّ «أَنْ» هَذِهِ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: وَيَجُوزُ أَنْ تُعْمِلَهَا خَفِيفَةً عَمَلَهَا ثَقِيلَةً. وَالرَّفْعُ أَقْيَسُ، وَلَمْ يَحْكِ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَّا التَّخْفِيفَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِتَشْدِيدِ أَنَّ وَنَصْبِ الْحَمْدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا قَالَ: مِثْلَ قَوْلِهِ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها «3» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ قَالَ: يَكُونُ لَهُمْ نُورٌ يَمْشُونَ بِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ صُوِّرَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ وريح طيبة، فيقول له: ما أنت؟ فو الله إِنِّي لَأَرَاكَ عَيْنَ امْرِئِ صِدْقٍ، فَيَقُولُ لَهُ: أنا عملك، فيكون نُورًا وَقَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ صُوِّرَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ سَيِّئَةٍ وَرِيحٍ مُنْتِنَةٍ، فَيَقُولُ لَهُ: مَا أنت؟ فو الله إِنِّي لَأَرَاكَ عَيْنَ امْرِئِ سَوْءٍ، فَيَقُولُ لَهُ: أَنَا عَمَلُكَ، فَيَنْطَلِقُ بِهِ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عن ابن جرير نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَالُوا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أَتَاهُمْ مَا اشْتَهَوْا مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ رَبِّهِمْ» . وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي الْهُذَيْلِ قَالَ: الْحَمْدُ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَآخِرُ الْكَلَامِ، ثُمَّ تَلَا: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

_ (1) . مريم: 48. (2) . يس: 57. (3) . هود: 15.

[سورة يونس (10) : الآيات 11 إلى 16]

[سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 16] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْوَعِيدَ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْمَعَادِ، ذِكَرَ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. قَالَ الْقَفَّالُ: لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْغَفْلَةِ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ غَايَةِ غَفْلَتِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ مَتَى أَنْذَرَهُمُ اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي إِيصَالِ الشَّرِّ إِلَيْهِمْ، فَلَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَخْرُجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ، قِيلَ مَعْنَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَوْ عَجَّلَ اللَّهُ لِلنَّاسِ الْعُقُوبَةَ كَمَا يَتَعَجَّلُونَ بِالثَّوَابِ وَالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أَيْ: مَاتُوا وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ فَعَلَ اللَّهُ مَعَ النَّاسِ فِي إِجَابَتِهِ إِلَى الْمَكْرُوهِ مِثْلَ مَا يُرِيدُونَ فِعْلَهُ مَعَهُمْ فِي إِجَابَتِهِ إِلَى الْخَيْرِ لَأَهْلَكَهُمْ وَقِيلَ: الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وُضِعَ اسْتِعْجَالُهُمْ بِالْخَيْرِ مَوْضِعَ تَعْجِيلِهِ لَهُمُ الْخَيْرَ إِشْعَارًا بِسُرْعَةِ إِجَابَتِهِ وَإِسْعَافِهِ بِطِلْبَتِهِمْ حَتَّى كَأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ تَعْجِيلٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَوْلُهُ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «1» الْآيَةَ. قِيلَ: وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لَهُمُ الشَّرَّ عِنْدَ اسْتِعْجَالِهِمْ بِهِ تَعْجِيلًا مِثْلَ تَعْجِيلِهِ لَهُمُ الْخَيْرَ عِنْدَ اسْتِعْجَالِهِمْ بِهِ، فَحُذِفَ مَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْبَاقِي عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ تَعْجِيلًا مِثْلَ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ، ثُمَّ حَذَفَ تَعْجِيلًا وَأَقَامَ صِفَتَهُ مَقَامَهُ، ثُمَّ حَذَفَ صِفَتَهُ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ قَالَ: هَذَا مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ، قَالُوا: وَأَصْلُهُ كَاسْتِعْجَالِهِمْ، ثُمَّ حُذِفَ الْكَافُ وَنُصِبَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَمَا تَقُولُ ضَرَبْتُ زَيْدًا ضَرْبَكَ: أَيْ كَضَرْبِكَ، وَمَعْنَى: لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ لَأُهْلِكُوا، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الشَّرَّ فَأُمْهِلُوا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أُمِيتُوا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: لَقَضَى عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ لِمُنَاسَبَةِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ. قَوْلُهُ: فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ التَّعْجِيلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَكِنْ لَا يُعَجِّلُ لَهُمُ الشَّرَّ، وَلَا يَقْضِي إِلَيْهِمْ أَجْلَهُمْ، فَنَذَرُهُمْ إِلَخْ أَيْ: فَنَتْرُكُهُمْ وَنُمْهِلُهُمْ، وَالطُّغْيَانُ: التَّطَاوُلُ، وَهُوَ الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ، وَمَعْنَى يَعْمَهُونَ يَتَحَيَّرُونَ أَيْ: نَتْرُكُهُمْ يَتَحَيَّرُونَ فِي تَطَاوُلِهِمْ، وَتَكَبُّرِهِمْ، وَعَدَمِ قَبُولِهِمْ لِلْحَقِّ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَخُذْلَانًا ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي اسْتِعْجَالِ الشَّرِّ ولو أصابهم ما طلبوه

_ (1) . الأنفال: 32.

لَأَظْهَرُوا الْعَجْزَ وَالْجَزَعَ فَقَالَ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ أَيْ: هَذَا الْجِنْسُ الصَّادِقُ عَلَى كُلِّ مَا يَحْصُلُ التَّضَرُّرُ بِهِ دَعانا لِجَنْبِهِ اللَّامُ لِلْوَقْتِ كَقَوْلِهِ جِئْتُهُ لِشَهْرِ كَذَا، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِدَلَالَةِ عَطْفِ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا عَلَيْهِ، وَتَكُونُ اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: دَعَانَا مُضْطَجِعًا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً وَكَأَنَّهُ قَالَ: دَعَانَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا، وَخَصَّ الْمَذْكُورَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا الْغَالِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَمَا عَدَاهَا نَادِرٌ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ يَدْعُو اللَّهَ حَالَ كَوْنِهِ مُضْطَجِعًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْقُعُودِ، وَقَاعِدًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْقِيَامِ، وَقَائِمًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْمَشْيِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ تَعْدِيدَ أَحْوَالِ الدُّعَاءِ أَبْلَغُ مِنْ تَعْدِيدِ أَحْوَالِ الْمَضَرَّةِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ دَاعِيًا عَلَى الدَّوَامِ، ثُمَّ نَسِيَ فِي وَقْتِ الرَّخَاءِ كَانَ أَعْجَبَ. قَوْلُهُ: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ أَيْ: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ الَّذِي مَسَّهُ كَمَا تُفِيدُهُ الْفَاءُ مَضَى عَلَى طَرِيقَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهُ الضُّرُّ، وَنَسِيَ حَالَةَ الْجَهْدِ وَالْبَلَاءِ، أَوْ مَضَى عَنْ مَوْقِفِ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ بِهِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَدْعُنَا عِنْدَ أَنْ مَسَّهُ الضُّرُّ إِلَى كَشْفِ ذَلِكَ الضُّرِّ الَّذِي مَسَّهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى مَرَّ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَلَمْ يَشْكُرْ وَلَمْ يَتَّعِظْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: «أَنْ» فِي كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَالْمَعْنَى: كَأَنَّهُ. انْتَهَى. وَالْجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وهذه الحال الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلدَّاعِي لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْكُفْرِ، بَلْ تَتَّفِقُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تلين ألسنتهم بِالدُّعَاءِ، وَقُلُوبُهُمْ بِالْخُشُوعِ وَالتَّذَلُّلِ عِنْدَ نُزُولِ مَا يَكْرَهُونَ بِهِمْ. فَإِذَا كَشَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ غَفَلُوا عَنِ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَذَهَلُوا عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ مِنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِمْ، وَرَفْعِ مَا نَزَلْ بِهِمْ مِنَ الضُّرِّ، وَدَفْعِ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْمَكْرُوهِ. وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ الناس، ولفظ الإنسان، اللهم أوزعنا شكر نعمك، وذكرنا الْأَحْوَالَ الَّتِي مَنَنْتَ عَلَيْنَا فِيهَا بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، حَتَّى نَسْتَكْثِرَ مِنَ الشُّكْرِ الَّذِي لَا نُطِيقُ سِوَاهُ وَلَا نَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا أَغْنَاكَ عنه وأحوجنا إليه ولَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «1» وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ إلى مصدر الفعل المذكور بعد كَمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الْعَجِيبِ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ عَمَلُهُمْ. وَالْمُسْرِفُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي يُنْفِقُ الْمَالَ الْكَثِيرَ لِأَجْلِ الْغَرَضِ الْخَسِيسِ، وَمَحَلُّ كَذَلِكَ النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ. وَالتَّزْيِينُ هُوَ إِمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ التَّحْلِيَةِ وَعَدَمِ اللُّطْفِ بِهِمْ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ زَيَّنَ لَهُمُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الدُّعَاءِ، وَالْغَفْلَةَ عَنِ الشُّكْرِ، وَالِاشْتِغَالَ بِالشَّهَوَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ عَمَّا صَنَعَهُ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا يَعْنِي الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَيْ: أَهْلَكْنَاهُمْ مِنْ قَبْلِ زَمَانِكُمْ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ لِلْمُبَالَغَةِ في الزجر، ولَمَّا ظَرْفٌ لِأَهْلَكْنَا، أَيْ: أَهْلَكْنَاهُمْ حِينَ فَعَلُوا الظُّلْمَ بِالتَّكْذِيبِ، وَالتَّجَارِي «2» عَلَى الرُّسُلِ، وَالتَّطَاوُلِ فِي الْمَعَاصِي مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ لِإِهْلَاكِهِمْ كَمَا أَخَّرْنَا إِهْلَاكَكُمْ، والواو في

_ (1) . إبراهيم: 7. [.....] (2) . قال في القاموس: والجراية بالياء نادر: الشجاعة.

وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ لِلْحَالِ بِإِضْمَارِ قَدْ، أَيْ: وَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمُ الَّذِينَ أَرْسَلْنَاهُمْ إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ، أي: الآيات الْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَاتِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى ظَلَمُوا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالظُّلْمِ هُنَا هُوَ الشِّرْكُ، وَالْوَاوُ فِي وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لِلْعَطْفِ عَلَى ظَلَمُوا، أَوِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَاللَّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ وَمَا صَحَّ لَهُمْ وَمَا اسْتَقَامَ أَنْ يُؤْمِنُوا لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِذَلِكَ وَسَلْبِ الْأَلْطَافِ عَنْهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ الْكُلِّيُّ لِكُلِّ مُجْرِمٍ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ مِنَ الْكُفَّارِ. أَوْ لِكُفَّارِ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ، ثُمَّ خَاطَبَ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ أَيِ: اسْتَخْلَفْنَاكُمْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ تِلْكَ الْقُرُونِ الَّتِي تَسْمَعُونَ أَخْبَارَهَا، وَتَنْظُرُونَ آثَارَهَا، وَالْخَلَائِفُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَاللَّامُ فِي لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ لَامُ كَيْ، أَيْ: لِكَيْ نَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الخير أو الشرّ، وكَيْفَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، أَيْ: لِنَنْظُرَ أَيُّ عَمَلٍ تَعْمَلُونَهُ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِيَّةِ، أَيْ: عَلَى أَيِّ حَالَةٍ تَعْمَلُونَ الْأَعْمَالَ اللَّائِقَةَ بِالِاسْتِخْلَافِ، ثُمَّ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَوْعًا ثَالِثًا مِنْ تَعَنُّتِهِمْ وَتَلَاعُبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَقَالَ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: الْآيَاتُ الَّتِي فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، أَيْ: وَإِذَا تَلَا التَّالِي عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا الدَّالَّةَ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ حَالَ كَوْنِهَا بَيِّنَاتٍ، أَيْ: وَاضِحَاتِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا وَهُمُ الْمُنْكِرُونَ لِلْمَعَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ قَرِيبًا، أَيْ: قَالُوا لِمَنْ يَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ طَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعُوا مَا غَاظَهُمْ فِيمَا تَلَاهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِمَنْ عَبَدَهَا أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْإِتْيَانَ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ مَعَ بَقَاءِ هَذَا الْقُرْآنِ عَلَى حَالِهِ، وَإِمَّا تَبْدِيلَ هَذَا القرآن بنسخ آيَاتِهِ، أَوْ كُلِّهَا وَوَضْعِ أُخْرَى مَكَانَهَا مِمَّا يُطَابِقُ إِرَادَتَهُمْ، وَيُلَائِمُ غَرَضَهُمْ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ فِي جَوَابِهِمْ: مَا يَكُونُ لِي أَيْ: مَا يَنْبَغِي لِي، وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ، وَهُوَ التَّبْدِيلُ لِأَنَّهُ الَّذِي يُمْكِنُهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْآخَرِ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِقُرْآنٍ آخَرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَسْهَلَ الْقِسْمَيْنِ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ أَصْعَبِهِمَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَهَذَا منه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ بَابِ مُجَارَاةِ السُّفَهَاءِ، إِذْ لَا يَصْدُرُ مِثْلُ هَذَا الِاقْتِرَاحِ عَنِ الْعُقَلَاءِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ. وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، وَبِمَا يَدْفَعُ الْكُفَّارَ عَنْ هَذِهِ الطلبات الساقطة، والسؤالات الباردة، وتِلْقاءِ مَصْدَرٌ اسْتُعْمِلَ ظَرْفًا، مِنْ قِبَلِ نَفْسِي، قَالَ الزَّجَّاجُ: سَأَلُوهُ إِسْقَاطَ مَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَقِيلَ: سَأَلُوهُ أَنْ يُسْقِطَ مَا فِيهِ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ وَقِيلَ: سَأَلُوهُ أَنْ يُحَوِّلَ الْوَعْدَ وَعِيدًا، وَالْحَرَامَ حَلَالًا، وَالْحَلَالَ حَرَامًا، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُؤَكِّدَ مَا أَجَابَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنَّهُ مَا صَحَّ لَهُ وَلَا اسْتَقَامَ أَنْ يُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ أَيْ: مَا أَتَّبِعُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلٍ، وَلَا تَحْوِيلٍ، وَلَا تَحْرِيفٍ، وَلَا تَصْحِيفٍ، فَقَصَرَ حَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَلَى اتِّبَاعِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَانَ مَقْصِدُ الْكُفَّارِ بِهَذَا السُّؤَالِ التَّعْرِيضَ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم بأن

الْقُرْآنَ كَلَامُهُ، وَأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِ، والتبديل له، ثم أمره سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ تَكْمِيلًا لِلْجَوَابِ عَلَيْهِمْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ كَالتَّعْلِيلِ لِمَا قَدَّمَهُ مِنَ الْجَوَابِ قَبْلَهَا، وَالْيَوْمُ الْعَظِيمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بِفِعْلِ مَا تَطْلُبُونَ عَلَى تَقْدِيرِ إِمْكَانِهِ عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ كَوْنَ هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِنَّمَا يُبَلِّغُ إِلَيْهِمْ مِنْهُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ أَيْ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ عَلَيْكُمْ هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا أَتْلُوَهُ عَلَيْكُمْ، وَلَا أُبَلِّغَكُمْ إِيَّاهُ مَا تَلَوْتُهُ، فَالْأَمْرُ كُلُّهُ مَنُوطٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لَيْسَ لِي فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، قَوْلُهُ: وَلا أَدْراكُمْ بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَلَوْتُهُ، وَلَوْ شاء مَا أَدْرَاكُمْ بِالْقُرْآنِ: أَيْ مَا أَعْلَمَكُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِي يُقَالُ: دَرَيْتُ الشَّيْءَ وَأَدْرَانِي اللَّهُ بِهِ. هَكَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْأَلِفِ مِنْ أَدْرَاهُ يُدْرِيهِ: أَعْلَمَهُ يُعْلِمُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَلَأَدْرَاكُمْ بِهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَيْنِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ وَالْمَعْنَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْلَمَكُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَتْلُوَهُ عَلَيْكُمْ، فَتَكُونُ اللَّامُ لَامَ التَّأْكِيدِ دَخَلَتْ عَلَى أَلِفِ أَفْعَلَ. وَقَدْ قُرِئَ أَدْرَؤُكُمْ بِالْهَمْزَةِ فَقِيلَ هِيَ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْأَلِفِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ دَرَأْتُهُ: إِذَا دَفَعْتُهُ، وَأَدْرَأْتُهُ: إِذَا جَعَلْتُهُ دَارِيًا. والمعنى: لأجعلكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بِالْجِدَالِ وَتُكَذِّبُونَنِي. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَلَا أَدْرَاتُكُمْ بِهِ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَصْلُهُ وَلَا أَدْرَيْتُكُمْ بِهِ، فَأُبْدِلَ مِنَ الْيَاءِ أَلِفًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ. وَالرِّوَايَةُ عَنِ الْحَسَنِ وَلَا أَدْرَأْتُكُمْ بِالْهَمْزَةِ. قَوْلُهُ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا التَّبْلِيغُ أَيْ قَدْ أَقَمْتُ فِيمَا بَيْنَكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ، أَيْ: زَمَانًا طَوِيلًا، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ تَعْرِفُونَنِي بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، لَسْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ، وَلَا مِمَّنْ يَكْتُبُ أَفَلا تَعْقِلُونَ الْهَمْزَةُ: لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ أَيْ: أَفَلَا تَجْرُونَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ مِنْ عَدَمِ تَكْذِيبِي لِمَا عَرَفْتُمْ مِنَ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ إِلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَعَدَمِ قِرَاءَتِي لِلْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ، وَتَعَلُّمِي لِمَا عِنْدَ أَهْلِهَا مِنَ الْعِلْمِ، وَلَا طَلَبِي لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ وَلَا حِرْصِي عَلَيْهِ، ثُمَّ جِئْتُكُمْ بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْهُ، وَقَصَّرْتُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَأَنْتُمُ الْعَرَبُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِكَمَالِ الْفَصَاحَةِ الْمُعْتَرَفُ لَهُمْ بِأَنَّهُمُ الْبَالِغُونَ فِيهَا إِلَى مَبْلَغٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَيْرُكُمْ؟ وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ الْآيَةَ، قَالَ: هُوَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِمْ: اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكْ فِيهِ وَالْعَنْهُ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ قَالَ: لَأَهْلَكَ مَنْ دَعَا عَلَيْهِ وَأَمَاتَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشيخ عن سعيد ابن جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَوْلُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، اللَّهُمَّ اخْزِهِ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَمُقَاتِلٍ فِي الْآيَةِ قَالَا: هُوَ قَوْلُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً من السماء، فَلَوْ عَجَّلَ لَهُمْ هَذَا لَهَلَكُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: دَعانا لِجَنْبِهِ قَالَ: مُضْطَجِعًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ

[سورة يونس (10) : الآيات 17 إلى 19]

فِي قَوْلِهِ: دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً قَالَ: عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: ادْعُ اللَّهَ يَوْمَ سَرَّائِكَ يُسْتَجَابُ لَكَ يَوْمَ ضَرَّائِكَ. وَأَقُولُ أَنَا: أَكْثِرْ مِنْ شُكْرِ اللَّهِ عَلَى السَّرَّاءِ يَدْفَعْ عَنْكَ الضَّرَّاءَ، فَإِنَّ وَعْدَهُ لِلشَّاكِرِينَ بِزِيَادَةِ النِّعَمِ مُؤْذِنٌ بِدَفْعِهِ عَنْهُمُ النِّقَمَ، لِذَهَابِ حَلَاوَةِ النِّعْمَةِ عِنْدَ وُجُودِ مَرَارَةِ النِّقْمَةِ، اللَّهُمَّ اجْمَعْ لَنَا بَيْنَ جَلْبِ النِّعَمِ وَسَلْبِ النِّقَمِ، فَإِنَّا نَشْكُرُكَ عَدَدَ مَا شَكَرَكَ الشَّاكِرُونَ بِكُلِّ لِسَانٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَنَحْمَدُكَ عَدَدَ مَا حَمْدَكَ الْحَامِدُونَ بِكُلِّ لِسَانٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: صَدَقَ رَبُّنَا، مَا جَعَلَنَا خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا لِيَنْظُرَ إِلَى أَعْمَالِنَا، فَأَرُوا اللَّهَ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ لِأَمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قَالَ: هَذَا قَوْلُ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أَعْلَمَكُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: وَلا أَدْراكُمْ بِهِ وَلَا أَشْعَرَكُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ وَلَا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ قَالَ: لَمْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ وَلَمْ أَذْكُرْ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ قَالَ: لَبِثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَرَأَى الرُّؤْيَا سَنَتَيْنِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ عَشْرَ سِنِينَ بِمَكَّةَ، وَعَشْرًا بِالْمَدِينَةِ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. [سورة يونس (10) : الآيات 17 الى 19] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) قَوْلُهُ: فَمَنْ أَظْلَمُ اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَزِيَادَةُ كَذِباً مَعَ أَنَّ الِافْتِرَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذِبًا لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ هُوَ كَذِبٌ فِي نَفْسِهِ. فَرُبَّمَا يَكُونُ الِافْتِرَاءُ كَذِبًا فِي الْإِسْنَادِ فَقَطْ، كَمَا إِذَا أُسْنِدَ ذَنْبُ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا أَبُو السُّعُودِ فِي تَفْسِيرِهِ، قِيلَ: وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ رَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ، أَوْ يُبَدِّلَهُ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَلَا ظُلْمَ يُمَاثِلُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمُفْتَرِي عَلَى اللَّهِ

الْكَذِبَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَالْمُكَذِّبُ بِآيَاتِ اللَّهِ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ تَعْلِيلٌ لكونه لَا أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ، أَيْ: لَا يَظْفَرُونَ بِمَطْلُوبٍ، وَلَا يَفُوزُونَ بِخَيْرٍ، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ لِلشَّأْنِ: أَيْ: إِنَّ الشَّأْنَ هَذَا. ثُمَّ نَعَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا وَلَا تَضُرُّ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا فَقَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: مُتَجَاوِزِينَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ، لَا بِمَعْنَى تَرْكِ عِبَادَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ أَيْ: مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الضَّرَرُ وَلَا النَّفْعُ، وَمِنْ حَقِّ الْمَعْبُودِ أَنْ يَكُونَ مُثِيبًا لِمَنْ أَطَاعَهُ، مُعَاقِبًا لِمَنْ عَصَاهُ، وَالْوَاوُ لِعَطْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا وما فِي مَا لَا يَضُرُّهُمْ مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَالْوَاوُ فِي وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ لِلْعَطْفِ عَلَى وَيَعْبُدُونَ زَعَمُوا: أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَهَذَا غَايَةُ الْجَهَالَةِ مِنْهُمْ، حَيْثُ يَنْتَظِرُونَ الشَّفَاعَةَ فِي الْمَآلِ مِمَّنْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ فِي الْحَالِ وَقِيلَ: أَرَادُوا بِهَذِهِ الشَّفَاعَةِ إِصْلَاحَ أَحْوَالِ دُنْيَاهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ فَقَالَ: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ قَرَأَ أَبُو السَّمَالِ الْعَدَوِيُّ: تُنَبِّئُونَ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَنْبَأَ يُنْبِئُ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ نَبَّأَ يُنْبِئُ. وَالْمَعْنَى: أَتُخْبِرُونَ اللَّهَ أَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ فِي مُلَكِهِ يُعْبَدُونَ كَمَا يُعْبَدُ، أَوْ أَتُخْبِرُونَهُ أَنَّ لَكُمْ شُفَعَاءَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَعْلَمُ لِنَفْسِهِ شَرِيكًا وَلَا شَفِيعًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ مِنْ جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي سَمَاوَاتِهِ وَفِي أَرْضِهِ؟ وَهَذَا الْكَلَامُ حَاصِلُهُ: عَدَمُ وُجُودِ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ أَصْلًا، وَفِي هَذَا مِنَ التَّهَكُّمِ بِالْكُفَّارِ مَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ نَزَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ غَيْرِ دَاخِلٍ فِي الْكَلَامِ الَّذِي أَمَرَ الله سبحانه رسوله بأن يُجِيبَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ مَا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ جَوَابًا عَلَيْهِمْ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: عَمَّا يُشْرِكُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْفَوْقِيَّةِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ. قَوْلُهُ: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ النَّاسَ مَا كَانُوا جَمِيعًا إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً مُوَحِّدَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مُؤْمِنَةً بِهِ، فَصَارَ الْبَعْضُ كَافِرًا وَبَقِيَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مُؤْمِنًا، فَخَالَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُمُ الْعَرَبُ كَانُوا عَلَى الشِّرْكِ. وَقَالَ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَاخْتَلَفُوا عِنْدَ الْبُلُوغِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ: أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ أَحْدَثَتْ مِلَّةً مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ مُخَالَفَةً لِلْأُخْرَى، بَلِ الْمُرَادُ: كَفَرَ الْبَعْضُ وَبَقِيَ الْبَعْضُ عَلَى التَّوْحِيدِ كَمَا قَدَّمْنَا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَهِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْضِي بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا فِيما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ لَكِنَّهُ قَدِ امْتَنَعَ ذَلِكَ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي لَا تَتَخَلَّفُ، وَقِيلَ مَعْنَى: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِإِقَامَةِ السَّاعَةِ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: لَفُرِغَ مِنْ هَلَاكِهِمْ، وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ إِنَّ اللَّهَ أَمْهَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ فَلَا يُهْلِكُهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ: أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ أَحَدًا إِلَّا بِحُجَّةٍ، وَهِيَ إِرْسَالُ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ: قَوْلُهُ: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» . وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ لَقُضِيَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُ: بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ النَّضْرُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللَّاتُ والعزّى،

_ (1) . الإسراء: 15.

[سورة يونس (10) : الآيات 20 إلى 23]

فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانُوا عَلَى هُدًى. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَرَأَ هَكَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً قَالَ: آدَمَ وَحْدَهُ فَاخْتَلَفُوا قَالَ: حِينَ قَتْلَ أَحَدُ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ أَهْلَ دِينٍ وَاحِدٍ عَلَى دِينِ آدَمَ فَكَفَرُوا، فَلَوْلَا أَنَّ رَبَّكَ أَجَّلَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ. [سورة يونس (10) : الآيات 20 الى 23] وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا نَوْعًا رَابِعًا مِنْ مَخَازِيهِمْ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَعْبُدُونَ وَجَاءَ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ مَا قَالُوهُ. قِيلَ: وَالْقَائِلُونَ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَدُّوا بِمَا قَدْ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الَّتِي لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا إِلَّا الْقُرْآنُ لَكَفَى بِهِ دَلِيلًا بَيِّنًا، وَمُصَدِّقًا قَاطِعًا أَيْ: هَلَّا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَقْتَرِحُهَا عَلَيْهِ، وَنَطْلُبُهَا مِنْهُ كَإِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ، وَجَعْلِ الْجِبَالِ ذَهَبًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ فَقَالَ: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أَيْ: أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ غَيْبٌ، وَاللَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِعِلْمِهِ، الْمُسْتَأْثِرُ بِهِ، لَا عِلْمَ لِي، وَلَا لَكُمْ، وَلَا لِسَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ فَانْتَظِرُوا نُزُولَ مَا اقْتَرَحْتُمُوهُ مِنَ الْآيَاتِ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لِنُزُولِهَا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: انْتَظِرُوا قَضَاءَ اللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بِإِظْهَارِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ. قوله وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُمْ طَلَبُوا آيَةً عِنَادًا، وَمَكْرًا، وُلِجَاجًا، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أَذَاقَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ مِنْ بَعْدِ أَنْ مَسَّتْهُمُ الضَّرَّاءُ فَعَلُوا مُقَابِلَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْمَكْرَ مِنْهُمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَالْمُرَادُ بِإِذَاقَتِهِمْ رَحْمَتَهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَرْزَاقِ، وَأَدَرَّ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ بِالْمَطَرِ وَصَلَاحِ الثِّمَارِ بَعْدَ أَنْ مَسَّتْهُمُ الضَّرَّاءُ بِالْجَدْبِ وَضِيقِ الْمَعَايِشِ، فَمَا شَكَرُوا نِعْمَتَهُ، وَلَا قَدَرُوهَا حَقَّ قَدْرِهَا، بَلْ أَضَافُوهَا إِلَى أَصْنَامِهِمُ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَطَعَنُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَاحْتَالُوا فِي دَفْعِهَا بِكُلِّ حِيلَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَكْرِ فِيهَا. وَإِذَا الْأُولَى: شَرْطِيَّةٌ، وَجَوَابُهَا: إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ، وَهِيَ: فُجَائِيَّةٌ، ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ الْخَلِيلُ

وَسِيبَوَيْهِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ فَقَالَ قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أَيْ: أَعْجَلُ عُقُوبَةً، وَقَدْ دَلَّ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ عَلَى أَنَّ مَكْرَهُمْ كَانَ سَرِيعًا، وَلَكِنَّ مَكْرَ اللَّهِ أَسْرَعُ مِنْهُ. وَإِذَا الْفُجَائِيَّةُ: يُسْتَفَادُ مِنْهَا السرعة، لأن المعنى أنهم فاجؤوا الْمَكْرَ، أَيْ: أَوْقَعُوهُ عَلَى جِهَةِ الْفُجَاءَةِ وَالسُّرْعَةِ، وَتَسْمِيَةُ عُقُوبَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: مَكْرًا، مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا قُرِّرَ فِي مُوَاطِنَ مِنْ عِبَارَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ قَرَأَ يَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: يَمْكُرُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْفَوْقِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ رُسُلَ اللَّهِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَكْتُبُونَ مَكْرَ الْكُفَّارِ لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمُ الْحَفَظَةُ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَى الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ؟ وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ شَدِيدٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلِيَّةٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنَّ مَكْرَهُمْ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا لَا يَخْفَى، فَعُقُوبَةُ اللَّهِ كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ «1» وَفِي هَذِهِ زِيَادَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِعْرَاضِ، بَلْ يَطْلُبُونَ الْغَوَائِلَ لِآيَاتِ اللَّهِ بِمَا يُدَبِّرُونَهُ مِنَ الْمَكْرِ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ضَرَبَ سُبْحَانَهُ لِهَؤُلَاءِ مَثَلًا حَتَّى يَنْكَشِفَ الْمُرَادُ انْكِشَافًا تَامًّا، وَمَعْنَى تَسْيِيرِهِمْ فِي الْبَرِّ أَنَّهُمْ يَمْشُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمُ الَّتِي خَلَقَهَا لَهُمْ لِيَنْتَفِعُوا بِهَا وَيَرْكَبُونَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِرُكُوبِهِمْ مِنَ الدَّوَابِّ، وَمَعْنَى تَسْيِيرِهِمْ فِي الْبَحْرِ: أَنَّهُ أَلْهَمَهُمْ لِعَمَلِ السَّفَائِنِ الَّتِي يَرْكَبُونَ فِيهَا فِي لُجَجِ الْبَحْرِ، وَيَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَدَفَعَ عَنْهُمْ أَسْبَابَ الْهَلَاكِ. وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَهُوَ الَّذِي يَنْشُرُكُمْ فِي الْبَحْرِ بِالنُّونِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ النَّشْرِ كَمَا فِي قوله فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «2» أَيْ: يَنْشُرُهُمْ سُبْحَانَهُ فِي الْبَحْرِ فَيُنَجِّي مَنْ يَشَاءُ، وَيُغْرِقُ مَنْ يَشَاءُ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ الْفُلْكُ: يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ وَجَرَيْنَ أَيِ: السُّفُنَ بِهِمْ أَيْ: بِالرَّاكِبِينَ عَلَيْهَا، وحتى: لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَالْغَايَةُ: مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ بِكَمَالِهَا، فَالْقُيُودُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشَّرْطِ ثَلَاثَةٌ: أَوَّلُهَا: الْكَوْنُ فِي الْفُلْكِ، وَالثَّانِي: جَرْيُهَا بِهِمْ بِالرِّيحِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعَاصِفَةٍ، وَثَالِثُهَا: فَرَحُهُمْ. وَالْقُيُودُ الْمُعْتَبَرَةُ في الجزاء ثلاثة: الأوّل: جاءَتْها أي: جاءت الْفُلْكَ رِيحٌ عَاصِفٌ، أَوْ جَاءَتِ الرِّيحَ الطَّيِّبَةَ، أَيْ: تَلَقَّتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ، وَالْعُصُوفُ: شِدَّةُ هُبُوبِ الرِّيحِ وَالثَّانِي: وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أَيْ: مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ لِلْفُلْكِ، وَالْمُرَادُ: جَاءَ الرَّاكِبِينَ فِيهَا، وَالْمَوْجُ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْمَاءِ فَوْقَ الْبَحْرِ وَالثَّالِثُ: ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أَيْ: غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمُ الْهَلَاكُ، وَأَصْلُهُ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَدُوِّ بِقَوْمٍ أَوْ بِبَلَدٍ، فَجَعَلَ هَذِهِ الْإِحَاطَةَ مَثَلًا فِي الْهَلَاكِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْعَدُوِّ كَمَا هُنَا، وَجَوَابُ إِذَا فِي قَوْلِهِ إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ قَوْلُهُ جاءَتْها إِلَى آخِرِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: دَعَوُا اللَّهَ بَدَلًا مِنْ ظَنُّوا، لِكَوْنِ هَذَا الدُّعَاءِ الْوَاقِعِ مِنْهُمْ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَ ظَنِّ الْهَلَاكِ، وَهُوَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ، فَكَانَ بَدَلًا مِنْهُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ دَعَوُا: مُسْتَأْنَفَةً، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا صَنَعُوا؟ فَقِيلَ: دَعَوُا اللَّهَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، جَعَلَ الْفَائِدَةَ فِيهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الْمُبَالَغَةَ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: الِانْتِقَالُ مِنْ مَقَامِ الْخِطَابِ إِلَى مَقَامِ الْغَيْبَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ دَلِيلُ الْمَقْتِ، وَالتَّبْعِيدِ، كَمَا أَنَّ عَكْسَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «3» دَلِيلُ الرِّضَا وَالتَّقْرِيبِ، وَانْتِصَابُ مُخْلِصِينَ عَلَى الْحَالِ أَيْ: لَمْ يَشُوبُوا دُعَاءَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّوَائِبِ، كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْطِنِ أنهم يشركون

_ (1) . يونس: 12. (2) . الجمعة: 10. (3) . الفاتحة: 5.

أَصْنَامَهُمْ فِي الدُّعَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا لِأَجْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، بَلْ لِأَجْلِ أَنْ يُنْجِيَهُمْ مِمَّا شَارَفُوهُ مِنَ الْهَلَاكِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِمْ سِوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ جُبِلُوا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ فِي الشَّدَائِدِ، وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ يُجَابُ دُعَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَمَا يُشَابِهُهَا، فَيَا عَجَبًا! لِمَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ طَوَائِفَ يَعْتَقِدُونَ في الأموات؟ فإذا عَرَضَتْ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ مِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ دَعَوُا الْأَمْوَاتَ، وَلَمْ يُخْلِصُوا الدُّعَاءَ لِلَّهِ كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا تَوَاتَرَ ذَلِكَ إِلَيْنَا تَوَاتُرًا يَحْصُلُ بِهِ الْقَطْعُ، فَانْظُرْ هَدَاكَ اللَّهُ مَا فَعَلَتْ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتُ الشَّيْطَانِيَّةُ، وَأَيْنَ وَصَلَ بِهَا أَهْلُهَا، وَإِلَى أَيْنَ رَمَى بِهِمُ الشَّيْطَانُ، وَكَيْفَ اقْتَادَهُمْ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ؟ حَتَّى انْقَادُوا لَهُ انْقِيَادًا مَا كَانَ يَطْمَعُ فِي مِثْلِهِ وَلَا فِي بَعْضِهِ مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّامُ فِي: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ هِيَ اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، أَيْ: قَائِلِينَ ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ هذِهِ إِلَى مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ مُشَارَفَةِ الْهَلَاكِ فِي الْبَحْرِ، وَاللَّامُ فِي لَنَكُونَنَّ جَوَابُ الْقِسْمِ، أَيْ: لَنَكُونَنَّ فِي كُلِّ حَالٍ مِمَّنْ يَشْكُرُ نِعَمَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيْنَا، مِنْهَا هَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ سُؤَالِكَ أَنْ تُفَرِّجَهَا عَنَّا، وَتُنْجِيَنَا مِنْهَا وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَفْعُولُ دَعَوُا فَلَمَّا أَنْجاهُمْ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي وَقَعُوا فِيهَا، وأجاب دعاءهم لم يفعلوا بِمَا وَعَدُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ فَعَلُوا فِعْلَ الْجَاحِدِينَ لَا فِعْلَ الشَّاكِرِينَ، وَجَعَلُوا الْبَغْيَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ مَكَانَ الشُّكْرِ. وَإِذَا فِي: إِذا هُمْ يَبْغُونَ هي: الفجائية أي: فاجؤوا الْبَغْيَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْبَغْيُ: هُوَ الْفَسَادُ، مِنْ قَوْلِهِمْ بَغَى الْجُرْحُ: إِذَا تَرَامَى فِي الْفَسَادِ، وَزِيَادَةُ: فِي الْأَرْضِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ فَسَادَهُمْ هَذَا شَامِلٌ لِأَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَالْبَغْيُ وَإِنْ كَانَ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ، بَلْ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْبَاطِلِ، لَكِنْ زِيَادَةُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِغَيْرِ شُبْهَةِ عِنْدَهُمْ، بَلْ تَمَرُّدًا، وَعِنَادًا، لِأَنَّهُمْ قَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِشُبْهَةٍ يَعْتَقِدُونَهَا مَعَ كَوْنِهَا بَاطِلَةً. قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، ذَكَرَ عَاقِبَةَ الْبَغْيِ، وَسُوءَ مَغَبَّتِهِ. قَرَأَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَحَفْصٌ وَالْمُفَضَّلُ بِنَصْبِ مَتَاعَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ. فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ جَعَلَ مَا قَبْلَهُ جُمْلَةً تَامَّةً، أَيْ: بَغْيُكُمْ وَبَالٌ عَلَى أنفسكم، فيكون بغيكم: مبتدأ، وعلى أَنْفُسِكُمْ: خَبَرَهُ، وَيَكُونُ: مَتَاعَ، فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تَتَمَتَّعُونَ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مَعَ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ: اسْتِئْنَافًا وَقِيلَ: إِنَّ مَتَاعَ عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ: ظَرْفُ زَمَانٍ، نَحْوُ مَقْدَمِ الْحَاجِّ، أَيْ: زَمَنَ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: لِأَجْلِ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: كَمَتَاعِ وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ: مُمَتَّعِينَ، وَقَدْ نُوقِشَ غَالِبُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي تَوْجِيهِ النَّصْبِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: بِرَفْعِ مَتَاعُ، فَجَعَلَهُ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: بَغْيُكُمْ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَكُونُ: عَلَى أَنْفُسِكُمْ، مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَمْثَالِكُمْ، وَالَّذِينَ جِنْسُهُمْ جِنْسُكُمْ. مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْفَعَتُهَا الَّتِي لَا بَقَاءَ لَهَا، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بأنفسهم عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: أَبْنَاءُ جِنْسِهِمْ، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْأَنْفُسِ لِمَا يُدْرِكُهُ الْجِنْسُ عَلَى جِنْسِهِ مِنَ الشَّفَقَةِ، وَقِيلَ: ارْتِفَاعُ مَتَاعٍ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ مَتَاعٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ يَكُونُ بَغْيُكُمْ مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ،

وَخَبَرُهُ: مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَعَلَى أَنْفُسِكُمْ: مَفْعُولُ الْبَغْيِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ: عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَيُضْمَرُ مُبْتَدَأٌ، أَيْ: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَوْ هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. انْتَهَى. وَقَدْ نُوقِشَ أَيْضًا بَعْضُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَوْجِيهِ الرَّفْعِ بِمَا يَطُولُ بِهِ الْبَحْثُ فِي غَيْرِ طَائِلٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إِذَا جُعِلَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَالْمَعْنَى، أَنَّ مَا يَقَعُ مِنَ الْبَغْيِ عَلَى الْغَيْرِ هُوَ بَغْيٌ عَلَى نفس الباغي باعتبار ما يؤول إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُ مُجَازَاةً عَلَى بَغْيِهِ، وَإِنْ جُعِلَ الْخَبَرُ: مَتَاعُ، فَالْمُرَادُ أَنَّ بَغْيَ هَذَا الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ عَلَى بَعْضِهِ بَعْضًا هُوَ سَرِيعُ الزَّوَالِ قَرِيبُ الِاضْمِحْلَالِ، كَسَائِرِ أَمْتِعَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا ذَاهِبَةٌ عَنْ قُرْبٍ مُتَلَاشِيَةٌ بِسُرْعَةٍ لَيْسَ لِذَلِكَ كَثِيرُ فَائِدَةٍ وَلَا عَظِيمُ جَدْوَى. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَكُونُ عَلَى ذَلِكَ الْبَغْيِ مِنَ الْمُجَازَاةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ وَعِيدٍ شَدِيدٍ فَقَالَ: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَتَاعِهَا تُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ فيجازي المسيئ بِإِسَاءَتِهِ، وَالْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا، أَيْ: فَنُخْبِرُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ: الْمُجَازَاةُ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ أَسَاءَ: سَأُخْبِرُكَ بِمَا صَنَعْتَ، وَفِيهِ أَشَدُّ وَعِيدٍ، وَأَفْظَعُ تَهْدِيدٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ قَالَ: خَوَّفَهُمْ عَذَابَهُ وَعُقُوبَتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وابن أبي حاتم، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قَالَ: اسْتِهْزَاءٌ وَتَكْذِيبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ قَالَ: هَلَكُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَهْدَرَ يَوْمَ الْفَتْحِ دَمَ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، هَرَبَ مِنْ مَكَّةَ وَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَهُمْ عَاصِفٌ، فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَئِنْ لَمْ يُنْجِنِي فِي الْبَحْرِ الْإِخْلَاصُ مَا يُنْجِينِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَعَ يَدِيَ فِي يَدِهِ فَلَأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا، فَجَاءَ فَأَسْلَمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ هُنَّ رَوَاجِعُ عَلَى أَهْلِهَا: الْمَكْرُ، وَالنَّكْثُ، وَالْبَغْيُ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «1» فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ «2» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبْغِ وَلَا تَكُنْ بَاغِيًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ: الْمَكْرُ، وَالْبَغْيُ، وَالنَّكْثُ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. أَقُولُ أَنَا: وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ الَّتِي دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى فَاعِلِهَا: الْخَدْعُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ «3» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَدُكَّ الْبَاغِي مِنْهُمَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عمر مثله.

_ (1) . فاطر: 43. (2) . الفتح: 10. (3) . البقرة: 9.

[سورة يونس (10) : الآيات 24 إلى 30]

[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 30] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (30) لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا جَاءَ بِكَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ يَضْمَنُ بَيَانَ حَالِهَا وَسُرْعَةَ تَقَضِّيهَا، وَأَنَّهَا تَعُودُ بَعْدَ أَنْ تَمْلَأَ الْأَعْيُنَ بِرَوْنَقِهَا، وَتَجْتَلِبَ النُّفُوسَ بِبَهْجَتِهَا. وَتَحْمِلَ أَهْلَهَا عَلَى أَنْ يَسْفِكُوا دِمَاءَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَيَهْتِكُوا حُرَمَهَمْ حُبًّا لَهَا وَعِشْقًا لِجَمَالِهَا الظَّاهِرِيِّ، وَتَكَالُبًا عَلَى التَّمَتُّعِ بِهَا، وَتَهَافُتًا عَلَى نَيْلِ مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ مِنْهَا بِضَرْبٍ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ، فَقَالَ: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَثَلَهَا فِي سُرْعَةِ الذَّهَابِ وَالِاتِّصَافِ بِوَصْفٍ يُضَادُّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَيُبَايِنُهُ، مَثَلَ مَا على الأرض ما أَنْوَاعِ النَّبَاتِ فِي زَوَالِ رَوْنَقِهِ وَذَهَابِ بَهْجَتِهِ وَسُرْعَةِ تَقَضِّيهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ غَضًّا مُخْضَرًّا طَرِيًّا قَدْ تَعَانَقَتْ أَغْصَانُهُ الْمُتَمَايِلَةُ، وَزَهَتْ أَوْرَاقُهُ الْمُتَصَافِحَةُ، وَتَلَأْلَأَتْ أَنْوَارُ نُورِهِ، وَحَاكَتِ الزَّهْرُ أَنْوَاعَ زَهْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُشَبَّهُ بِهِ هُوَ مَا دَخَلَهُ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ بَلْ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ، وَالْبَاءُ فِي: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ فَاخْتَلَطَ بِسَبَبِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ، بِأَنِ اشْتَبَكَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ حَتَّى بَلَغَ إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: أَنَّ النَّبَاتَ كَانَ فِي أَوَّلِ بُرُوزِهِ وَمَبْدَأِ حُدُوثِهِ غَيْرَ مُهْتَزٍّ وَلَا مُتَرَعْرِعٍ، فَإِذَا نَزَلَ الْمَاءُ عَلَيْهِ اهْتَزَّ وَرَبَا حَتَّى اخْتَلَطَ بَعْضُ الْأَنْوَاعِ بِبَعْضٍ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْكَلَأِ وَالتِّبْنِ، وَأَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ، ثُمَّ يُشَبَّهُ بِهِ كُلُّ مُمَوَّهٍ مُزَوَّرٍ، انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَرْضَ أَخَذَتْ لَوْنَهَا الْحَسَنَ الْمُشَابِهَ بَعْضُهُ لِلَوْنِ الذَّهَبِ، وَبَعْضُهُ لِلَوْنِ الْفِضَّةِ، وَبَعْضُهُ لِلَوْنِ الْيَاقُوتِ، وَبَعْضُهُ لِلَوْنِ الزُّمُرُّدِ. وَأَصْلُ ازَّيَّنَتْ: تَزَيَّنَتْ: أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ وَجِيءَ بِأَلِفِ الْوَصْلِ لِأَنَّ الْحَرْفَ الْمُدْغَمَ مَقَامُ حَرْفَيْنِ أَوَّلُهُمَا سَاكِنٌ، وَالسَّاكِنُ لَا يُمْكِنُ الِابْتِدَاءُ بِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَتَزَيَّنَتْ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: وَأَزْيَنَتْ عَلَى وزن أفعلت أي: ازينت بالزينة الَّتِي عَلَيْهَا، شَبَّهَهَا بِالْعَرُوسِ الَّتِي تَلْبَسُ الثِّيَابَ الْجَيِّدَةَ الْمُتَلَوِّنَةَ أَلْوَانًا كَثِيرَةً. وَقَالَ عَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ: قَرَأَ أَشْيَاخُنَا وَازْيَانَّتْ عَلَى وَزْنِ اسْوَادَّتْ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُقَدَّمِيِّ: وَازَّايَنَتْ وَالْأَصْلُ فِيهِ تَزَايَنَتْ عَلَى وَزْنِ تَفَاعَلَتْ. وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ ازْيَنَّتْ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا هُوَ مَا ذكرنا.

وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَيْ: غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ أَوْ تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى حَصَادِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، وَالضَّمِيرُ فِي: عَلَيْهَا لِلْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ: النَّبَاتُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهَا أَتاها أَمْرُنا جَوَابُ إِذَا، أَيْ: جَاءَهَا أَمْرُنَا بِإِهْلَاكِهَا وَاسْتِئْصَالِهَا وَضَرْبِهَا بِبَعْضِ الْعَاهَاتِ فَجَعَلْناها حَصِيداً أَيْ: جَعَلْنَا زَرْعَهَا شَبِيهًا بِالْمَحْصُودِ فِي قَطْعِهِ مِنْ أُصُولِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْحَصِيدُ: الْمُسْتَأْصَلُ كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أَيْ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ زَرْعُهَا مَوْجُودًا فِيهَا بِالْأَمْسِ مُخَضَرًّا طَرِيًّا، مِنْ غَنِيَ بِالْمَكَانِ بِالْكَسْرِ يَغْنَى بِالْفَتْحِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْسِ: الْوَقْتُ الْقَرِيبُ، وَالْمَغَانِي فِي اللُّغَةِ: الْمَنَازِلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَأَنْ لَمْ تَنْعَمْ، قَالَ لبيد: وغنيت سَبْتًا قَبْلَ مَجْرَى دَاحِسٍ ... لَوْ كَانَ لِلنَّفْسِ اللَّجُوجِ خُلُودُ وَقَرَأَ قَتَادَةُ: كَأَنْ لَمْ يُغْنِ بِالتَّحْتِيَّةِ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى الزُّخْرُفِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُ: تَغْنَ بِالْفَوْقِيَّةِ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَرْضِ كَذلِكَ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ الْبَدِيعِ نُفَصِّلُ الْآياتِ الْقُرْآنِيَّةَ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا هَذِهِ الْآيَةُ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: الآيات التكوينية. قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ لَمَّا نَفَّرَ عِبَادَهُ عَنِ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا بِمَا ضَرَبَهُ لَهُمْ مِنَ الْمَثَلِ السَّابِقِ رَغَّبَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِإِخْبَارِهِمْ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: السَّلَامُ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَدَارُهُ: الْجَنَّةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامَةِ: وَمَعْنَى السَّلَامِ وَالسَّلَامَةِ: وَاحِدٌ كَالرَّضَاعِ وَالرَّضَاعَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تُحَيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمَّ بَكْرٍ ... وَهَلْ لَكِ بَعْدَ قَوْمِكِ مِنْ سَلَامِ وَقِيلَ: أَرَادَ دَارَ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ التَّحِيَّةُ، لِأَنَّ أَهْلَهَا يَنَالُونَ مِنَ اللَّهِ السَّلَامَ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَقِيلَ: السَّلَامُ اسْمٌ لِأَحَدِ الْجِنَانِ السَّبْعِ أَحَدُهَا: دَارُ السَّلَامِ، وَالثَّانِيَةُ: دَارُ الْجَلَالِ، وَالثَّالِثَةُ: جَنَّةُ عَدْنٍ، وَالرَّابِعَةُ: جَنَّةُ الْمَأْوَى، وَالْخَامِسَةُ: جَنَّةُ الْخُلْدِ، وَالسَّادِسَةُ: جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ، وَالسَّابِعَةُ: جَنَّةُ النَّعِيمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ دَارُ السَّلَامِ الْوَاقِعِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دَارَ السَّلَامِ هِيَ الْجَنَّةُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ التَّسْمِيَةِ بِدَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ جَعَلَ سُبْحَانَهُ الدَّعْوَةَ إِلَى دَارِ السَّلَامِ عَامَّةً، وَالْهِدَايَةَ خَاصَّةً بِمَنْ يَشَاءُ أَنْ يَهْدِيَهُ تَكْمِيلًا لِلْحُجَّةِ، وَإِظْهَارًا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ قَسَّمَ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الدَّعْوَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ، وَبَيَّنَ حَالَ كُلِّ طَائِفَةٍ فَقَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ أَيِ: الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْقِيَامِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْكَفِّ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَالْمُرَادُ بِالْحُسْنَى: الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْعَرَبُ تُوقِعُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَلَى الْخَصْلَةِ الْمَحْبُوبَةِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا، وَلِذَلِكَ تُرِكَ مَوْصُوفُهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا مَا يَزِيدُ عَلَى الْمَثُوبَةِ مِنَ التَّفَضُّلِ كَقَوْلِهِ: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «1» وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ هِيَ مُضَاعَفَةُ الْحَسَنَةِ إِلَى عَشْرِ أَمْثَالِهَا وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ غُرْفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَقِيلَ: هِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُعْطِيهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ فَضْلِهِ مَا لَا يُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ وقيل

_ (1) . فاطر: 30.

غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي آخِرِ الْبَحْثِ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ مَعْنَى يَرْهَقُ: يَلْحَقُ، وَمِنْهُ قِيلَ: غُلَامٌ مُرَاهِقٌ إِذَا لَحِقَ بِالرِّجَالِ، وَقِيلَ: يَعْلُو، وَقِيلَ: يُغْشَى، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ وَالْقَتَرُ: الْغُبَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ الْمُلْكِ يَتْبَعُهُ ... مَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرَّايَاتِ وَالْقَتَرَا وَقَرَأَ الْحَسَنُ: قَتْرٌ بِإِسْكَانِ الْمُثَنَّاةِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَهُ النَّحَّاسُ، وَوَاحِدُ الْقَتَرِ: قَتَرَةٌ، وَالذِّلَّةُ: مَا يَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ مِنَ الْخُضُوعِ، وَالِانْكِسَارِ وَالْهَوَانِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَعْلُو وُجُوهَهُمْ غَبَرَةٌ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهَا هَوَانٌ وَقِيلَ: الْقَتَرُ: الْكَآبَةُ، وَقِيلَ: سَوَادُ الْوُجُوهِ، وَقِيلَ: هُوَ دُخَانُ النَّارِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ، هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الْخَالِدُونَ فِيهَا، الْمُتَنَعِّمُونَ بِأَنْوَاعِ نَعِيمِهَا وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها هَذَا الْفَرِيقُ الثَّانِي مِنْ أَهْلِ الدَّعْوَةِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِلَّذِينِ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا، أَوْ يُقَدَّرُ: وَجَزَاءُ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا، أَيْ: يُجَازَى سَيِّئَةً وَاحِدَةً بِسَيِّئَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَةِ: إِمَّا الشِّرْكُ، أَوِ الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَتْ بِشِرْكٍ، وَهِيَ مَا يَتَلَبَّسُ بِهِ الْعُصَاةُ مِنَ الْمَعَاصِي، قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: جَزَاءُ سيئة مثلها وقيل: الباء مَا بَعْدَهَا الْخَبَرُ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ قَامَتْ مَقَامَهُ، وَالْمَعْنَى: جَزَاءُ سَيِّئَةٍ كَائِنٌ بِمِثْلِهَا، كَقَوْلِكَ: إنما أنا بك، ويجوز أن يتعلق بجزاء، والتقدير: جزاء بِمِثْلِهَا كَائِنٌ، فَحُذِفَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَزاءُ مَرْفُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ: فَلَهُمْ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أَيْ: فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ، وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: جَزَاءُ سَيِّئَةٍ ثَابِتٌ بِمِثْلِهَا، أَوْ تَكُونُ مُؤَكِّدَةً، أَوْ زَائِدَةً. قَوْلُهُ: تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أَيْ: يَغْشَاهُمْ هَوَانٌ، وَخِزْيٌ. وَقُرِئَ: يَرْهَقُهُمْ بِالتَّحْتِيَّةِ، مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أَيْ: لَا يَعْصِمُهُمْ أَحَدٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ، أَوْ مَا لَهُمْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ وَمِنْ عِنْدِهِ مَنْ يَعْصِمُهُمْ كَمَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِيَّةِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ. كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً قِطَعًا: جَمْعُ قِطْعَةٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُظْلِمًا: مُنْتَصِبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ: أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ فِي حَالَةِ ظُلْمَتِهِ. وَقَدْ قَرَأَ بِالْجَمْعِ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ قِطَعاً بِإِسْكَانِ الطَّاءِ، فَيَكُونُ مظلما على هذا صفة لقطعا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ اللَّيْلِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْقِطْعُ طَائِفَةٌ مِنَ اللَّيْلِ أُولئِكَ أَيِ: الْمَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَإِطْلَاقُ الْخُلُودِ هُنَا مُقَيَّدٌ بِمَا تَوَاتَرَ فِي السُّنَّةِ مِنْ خُرُوجِ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ. قَوْلُهُ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً الْحَشْرُ: الْجَمْعُ، وجميعا: منتصب على الحال وَيَوْمَ: مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ بَعْضِ أَحْوَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَحْشُرُ الْعَابِدَ وَالْمَعْبُودَ لِسُؤَالِهِمْ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا فِي حَالَةِ الْحَشْرِ، وَوَقْتِ الْجَمْعِ تَقْرِيعًا لَهُمْ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ، وَتَوْبِيخًا لهم مع حُضُورِ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي الْعِبَادَةِ، وَحُضُورِ مَعْبُودَاتِهِمْ

مَكانَكُمْ أَيِ: الْزَمُوا مَكَانَكُمْ، وَاثْبُتُوا فِيهِ، وَقِفُوا في موضعكم أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ هذا الضمير تأكيد للضمير الذي في مكانكم لسدّه مسدّ الزموا، وشركاؤكم: معطوف عليه. وقرئ بنصب شركاؤكم عَلَى أَنَّ الْوَاوَ وَاوُ مَعَ. قَوْلُهُ: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ: أَيْ فَرَّقْنَا وَقَطَّعْنَا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّوَاصُلِ فِي الدُّنْيَا. يُقَالُ زَيَّلْتُهُ فَتَزَيَّلَ: أَيْ: فَرَّقْتُهُ فَتَفَرَّقَ، وَالْمُزَايَلَةُ: الْمُفَارَقَةُ، يُقَالُ زَايَلَهُ مُزَايَلَةً وَزِيَالًا إِذَا فَارَقَهُ، وَالتَّزَايُلُ: التَّبَايُنُ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ فَزَايَلْنَا وَالْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ هُنَا: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: الشَّيَاطِينُ، وَقِيلَ: الْأَصْنَامُ، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُنْطِقُهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَقِيلَ: الْمَسِيحُ، وَعُزَيْرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كُلُّ مَعْبُودٍ لِلْمُشْرِكِينَ كَائِنًا مَا كَانَ، وَجُمْلَةُ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ قَدْ، وَالْمَعْنَى: وَقَدْ قَالَ شُرَكَاؤُهُمُ الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ وَجَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ: مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا عَبَدْتُمْ هَوَاكُمْ وَضَلَالَكُمْ وَشَيَاطِينَكُمُ الَّذِينَ أَغْوَوْكُمْ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، لِكَوْنِهِمْ جَعَلُوا لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَقِيلَ: لِكَوْنِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي هَذَا الْخِطَابِ، وَهَذَا الْجَحْدُ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا قَدْ وَقَعَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ، فَمَعْنَاهُ إِنْكَارُ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ عن أمرهم بِالْعِبَادَةِ فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا أَمَرْنَا بِعِبَادَتِنَا أَوْ رَضِينَا ذَلِكَ مِنْكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، وَالْقَائِلُ لِهَذَا الْكَلَامِ: هُمُ الْمَعْبُودُونَ. قَالُوا لِمَنْ عَبَدَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّا كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَنَا لَغَافِلِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْغَفْلَةِ هُنَا: عَدَمُ الرِّضَا بِمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعِبَادَةِ لَهُمْ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ المعبودين غير الشياطين لأنهم يَرْضَوْنَ بِمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَيُحْمَلُ هَذَا الْجَحْدُ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُجْبِرُوهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ، ولا أكرهوهم عليها. هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَفِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى اسْتِعَارَةِ اسْمِ الزَّمَانِ لِلْمَكَانِ، تَذُوقُ كُلُّ نَفْسٍ وَتُخْتَبَرُ جَزَاءَ مَا أَسْلَفَتْ مِنَ العمل، فمعنى تَبْلُوا تَذُوقُ وَتُخْتَبَرُ، وَقِيلَ: تَعْلَمُ، وَقِيلَ: تَتْبَعُ، وَهَذَا على قراءة من قرأ تَبْلُوا بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ نَبْلُو بِالنُّونِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي كُلَّ نَفْسٍ وَيَخْتَبِرُهَا، وَيَكُونُ مَا أَسْلَفَتْ بَدَلًا مِنْ كُلُّ نَفْسٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُعَامِلُهَا مُعَامَلَةَ مَنْ يَخْتَبِرُهَا، وَيَتَفَقَّدُ أَحْوَالَهَا. قَوْلُهُ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ معطوف على فَزَيَّلْنا، وَالضَّمِيرُ فِي رُدُّوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا، أَيْ: رُدُّوا إِلَى جَزَائِهِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ من عقابه، ومولاهم: ربهم، والحق صِفَةٌ لَهُ، أَيِ: الصَّادِقُ الرُّبُوبِيَّةِ دُونَ مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَقُرِئَ: الْحَقَّ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، كَقَوْلِهِمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَهْلَ الْحَمْدِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ: ضَاعَ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، مِنْ أَنَّ الْآلِهَةَ الَّتِي لَهُمْ حَقِيقَةٌ بِالْعِبَادَةِ لِتَشْفَعَ لَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَتُقَرِّبَهُمْ إِلَيْهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَرْجِعُونَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ إِلَى الْحَقِّ، وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ، وَيُقِرُّونَ بِبُطْلَانِ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ وَيَجْعَلُونَهُ إِلَهًا، وَلَكِنْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ قَالَ: اخْتَلَطَ فَنَبَتَ بِالْمَاءِ كُلُّ لَوْنٍ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ كَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَسَائِرِ حُبُوبِ الْأَرْضِ، والبقول، والثمار،

وَمَا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ، وَالْبَهَائِمُ مِنَ الْحَشِيشِ وَالْمَرَاعِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَازَّيَّنَتْ قَالَ: أَنْبَتَتْ وَحَسُنَتْ، وَفِي قَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ قَالَ: كَأَنْ لَمْ تَعِشْ، كَأَنْ لَمْ تَنْعَمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ ومروان ابن الْحَكَمِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَهَا إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: وَمَا أَهْلَكْنَاهَا إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: كان مكتوب فِي سُورَةِ يُونُسَ إِلَى حَيْثُ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها إِلَى يَتَفَكَّرُونَ، وَلَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَتَمَنَّى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يُشْبِعُ نَفْسَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ. فَمُحِيَتْ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَالدِّمْيَاطِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابن عباس في قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ يَقُولُ: يَدْعُو إِلَى عَمَلِ الْجَنَّةِ. وَاللَّهُ: السَّلَامُ، وَالْجَنَّةُ: دَارُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ قَالَ: يَهْدِيهِمْ لِلْمَخْرَجِ مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَالْفِتَنِ، وَالضَّلَالَاتِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ شَمْسُهُ إِلَّا وُكِّلَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فَمَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَلَا آبَتْ شَمْسُهُ إِلَّا وُكِّلَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خلفا، وأعط ممسكا تلفا [فأنزل الله في ذلك كله قرآنا، في قول الملكين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وأنزل في قولهما: اللهم أعط منفقا خلفا ... ] «1» وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى - وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى إِلَى قَوْلِهِ لِلْعُسْرى «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بن علي يتلو وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَقَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرٌ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي، وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي، يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اضْرِبْ لَهُ مَثَلًا، فَقَالَ: اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ، وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ، إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ مَثَلُ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا، ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ فَاللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولٌ، فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مِنْهَا» . وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ قال: ذكر لنا

_ (1) . ما بين حاصرتين استدرك من الدر المنثور [4/ 355] . (2) . الليل: 1- 10.

أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ هَلُمَّ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ اتَّقِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ قَالَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ صُهَيْبٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا، وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَيُزَحْزِحَنَا عَنِ النَّارِ قَالَ: فَيُكْشَفُ لَهُمُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فو الله مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَلَا أَقَرَّ لِأَعْيُنِهِمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الرُّؤْيَةِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنَادِيًا يُنَادِي بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةً» . فَالْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الرُّؤْيَةِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ قَالَ: «الزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ» . وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ قَالَ: «الَّذِينَ أَحْسَنُوا: أَهْلُ التَّوْحِيدِ، وَالْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ، وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْآيَةِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: الزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَاللَّالَكَائِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الزِّيَادَةُ: غُرْفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ، لَهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، غُرَفُهَا وَأَبْوَابُهَا مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَزِيادَةٌ قَالَ: هُوَ مِثْلُ قَوْلُهُ: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ «1» يَقُولُ: يَجْزِيهِمْ بِعَمَلِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وَقَالَ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «2» وَقَدْ رُوِيَ عَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ رِوَايَاتٌ فِي تَفْسِيرِ الزِّيَادَةِ غَالِبُهَا أَنَّهَا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ التَّفْسِيرُ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ لِقَائِلٍ مَقَالٌ، وَلَا الْتِفَاتٌ إِلَى الْمُجَادَلَاتِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْمُتَمَذْهِبَةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مِنَ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوا ذَلِكَ لَكَفُّوا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ هَذَيَانِهِمْ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قال: لا يغشاهم

_ (1) . ق: 35. (2) . الأنعام: 160.

[سورة يونس (10) : الآيات 31 إلى 41]

قَتَرٌ قَالَ: سَوَادُ الْوُجُوهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَطَاءٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْقَتَرُ: سَوَادُ الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: خِزْيٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ قَالَ: «بَعْدَ نَظَرِهِمْ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ قَالَ: الَّذِينَ عَمِلُوا الْكَبَائِرَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها قَالَ: النَّارُ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً الْقِطَعُ: السَّوَادُ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ فِي الْبَقَرَةِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ قَالَ: تَغْشَاهُمْ ذِلَّةٌ وَشِدَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يَقُولُ: مِنْ مَانَعٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ قَالَ: الْحَشْرُ الْمَوْتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ قَالَ: فَرَّقْنَا بَيْنَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: تُنْصَبُ الْآلِهَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مَنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كُنَّا نَعْبُدُ، فَتَقُولُ لَهُمُ الْآلِهَةُ: وَاللَّهِ مَا كُنَّا نَسْمَعُ وَلَا نُبْصِرُ وَلَا نَعْقِلُ وَلَا نَعْلَمُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَنَا، فَيَقُولُونَ: بَلَى وَاللَّهِ لَإِيَّاكُمْ كُنَّا نَعْبُدُ، فَتَقُولُ لَهُمُ الْآلِهَةُ: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُمَثَّلُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانُوا يعبدون من دون الله، فيتبعونهم حتى يؤدّوهم النَّارِ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عن السدّي: هُنالِكَ تَبْلُوا يَقُولُ: تَتْبَعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشيخ عن مجاهد قال: تَبْلُوا تُخْتَبَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زيد تَبْلُوا قَالَ: تُعَايِنُ كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ مَا عَمِلَتْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مَعَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ قَالَ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ: اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ «2» . [سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 41] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)

_ (1) . البقرة: 81. [.....] (2) . محمد: 11.

لَمَّا بَيَّنَ فَضَائِحَ الْمُشْرِكِينَ أَتْبَعَهَا بِإِيرَادِ الْحُجَجِ الدَّامِغَةِ مِنْ أَحْوَالِ الرِّزْقِ، وَالْحَوَاسِّ، وَالْمَوْتِ، وَالْحَيَاةِ، وَالِابْتِدَاءِ، وَالْإِعَادَةِ، وَالْإِرْشَادِ، وَالْهُدَى، وَبَنَى سُبْحَانَهُ الْحُجَجَ على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤولين لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي إِلْزَامِ الْحُجَّةِ، وَأَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ، فَقَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ احْتِجَاجًا لِحَقِّيَّةِ التَّوْحِيدِ، وَبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ بِالْمَطَرِ، وَمِنَ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ، فَإِنِ اعْتَرَفُوا حَصَلَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفُوا: فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمَا أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ أَمْ: هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَفِي هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ سُؤَالٍ إِلَى سُؤَالٍ، وَخُصِّ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ بِالذِّكْرِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الصَّنْعَةِ الْعَجِيبَةِ، وَالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ الْعَظِيمَةِ، أَيْ: مَنْ يَسْتَطِيعُ مَلْكَهُمَا وَتَسْوِيَتَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْعَجِيبَةِ، وَالْخِلْقَةِ الْغَرِيبَةِ حَتَّى يَنْتَفِعُوا بِهِمَا هَذَا الِانْتِفَاعَ الْعَظِيمَ، وَيْحَصِّلُونَ بِهِمَا مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرِ الْحَاصِرِينَ؟ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حُجَّةٍ ثَالِثَةٍ، فَقَالَ: وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ؟ الْإِنْسَانَ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالطَّيْرَ مِنَ الْبَيْضَةِ، وَالنَّبَاتَ مِنَ الْحَبَّةِ، أَوِ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ؟ أَيِ: النُّطْفَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ، أَوِ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ: عَمَّنْ يُحْيِي وَيُمِيتُ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حُجَّةٍ رَابِعَةٍ، فَقَالَ: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ أَيْ: يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ، وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِأَنَّهُ قَدْ عَمَّ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرَهُ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ أَيْ: سَيَكُونُ قَوْلُهُمْ فِي جَوَابِ هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ: أَنَّ الْفَاعِلَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنْ أَنْصَفُوا وَعَمِلُوا عَلَى مَا يُوجِبُهُ الْفِكْرُ الصَّحِيحُ، وَالْعَقْلُ السَّلِيمُ، وَارْتِفَاعُ الِاسْمِ الشَّرِيفِ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيِ: اللَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ يُجِيبُوا بِهَذَا الْجَوَابِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: تَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَفَلَا تَتَّقُونَ وَتَفْعَلُونَ مَا يُوجِبُهُ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ؟ فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ أَيْ: فَذَلِكُمُ الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ هُوَ رَبُّكُمُ الْمُتَّصِفُ بِأَنَّهُ الْحَقُّ، لَا مَا جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ لَهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ إِنْ كَانَتْ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً، لَا إِنْ كَانَتْ نَافِيَةً كَمَا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ؟ فَإِنَّ ثُبُوتَ رُبُوبِيَّةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ حَقٌّ بِإِقْرَارِهِمْ فَكَانَ غَيْرُهُ بَاطِلًا، لِأَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أَيْ: كَيْفَ تَسْتَجِيزُونَ الْعُدُولَ عَنِ الْحَقِّ الظَّاهِرِ، وَتَقَعُونَ فِي الضَّلَالِ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا؟ فَمَنْ تَخَطَّى أَحَدَهُمَا وَقَعَ فِي الْآخَرِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالِاسْتِبْعَادِ، وَالتَّعَجُّبِ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ: كَمَا حَقَّ وَثَبَتَ أن الحقّ بعده الضَّلَالِ، أَوْ كَمَا حَقَّ أَنَّهُمْ مَصْرُوفُونَ عَنِ الْحَقِّ، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَيْ: حُكْمُهُ وقضاؤه على

الَّذِينَ فَسَقُوا، أَيْ: خَرَجُوا مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَتَمَرَّدُوا فِي كُفْرِهِمْ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً، وَجُمْلَةُ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة. قاله الزَّجَّاجُ أَيْ: حَقَّتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَهِيَ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلِيَّةً لِمَا قَبْلَهَا بِتَقْدِيرِ اللَّامِ، أَيْ: لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ يَجُوزُ إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَدْ قَرَأَ نَافِعٌ وابن عامر كلمات ربك بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ. قَوْلُهُ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أَوْرَدَ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا حُجَّةً خَامِسَةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهَا لَهُمْ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْتَرِفُونَ بِالْمَعَادِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْرًا ظَاهِرًا بَيِّنًا، وَقَدْ أَقَامَ الْأَدِلَّةَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى صُورَةٍ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا عِنْدَ مَنْ أَنْصَفَ، وَلَمْ يُكَابِرْ كَانَ كَالْمُسَلَّمِ عِنْدَهُمُ الَّذِي لَا جَحْدَ لَهُ وَلَا إِنْكَارَ فِيهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَيْ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ لَا غَيْرُهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ الذي قاله النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ هُوَ نِيَابَةٌ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَوَابِ، إِمَّا: عَلَى طَرِيقِ التَّلْقِينِ لَهُمْ، وَتَعْرِيفِهِمْ كَيْفَ يُجِيبُونَ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا يَقُولُونَ، وَإِمَّا: لِكَوْنِ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ بَلَغَ فِي الْوُضُوحِ إِلَى غَايَةٍ لَا يُحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى إِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَمَعْرِفَةِ مَا لَدَيْهِ، وَإِمَّا: لِكَوْنِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَنْطِقُونَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ فِي هَذَا الْجَوَابِ فِرَارًا مِنْهُمْ عَنْ أَنْ تَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةُ، أَوْ أَنْ يُسَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ إِنْ حَادُوا عَنِ الْحَقِّ، وَمَعْنَى: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَكَيْفَ تُؤْفَكُونَ؟ أَيْ: تُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ وَتَنْقَلِبُونَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً سَادِسَةً فَقَالَ: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَالِاسْتِفْهَامُ هَاهُنَا كَالِاسْتِفْهَامَاتِ السَّابِقَةِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْهِدَايَةِ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَلْقِ وَقَعَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ «1» وَقَوْلِهِ: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «2» وَقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى- وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى «3» وَفِعْلُ الْهِدَايَةِ يَجِيءُ مُتَعَدِّيًا بِاللَّامِ وَإِلَى، وَهُمَا: بِمَعْنًى وَاحِدٍ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الزَّجَّاجِ. وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يُرْشِدُ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ؟ فَإِذَا قَالُوا لَا، فَقُلْ لَهُمْ: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ دُونَ غَيْرِهِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ سُبْحَانَهُ بِهَذَا، وَهِدَايَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ إِلَى الْحَقِّ هِيَ: بِمَا نَصَبَهُ لَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِرْسَالِهِ لِلرُّسُلِ، وَإِنْزَالِهِ لِلْكُتُبِ، وَخَلْقِهِ لِمَا يَتَوَصَّلُ بِهِ الْعِبَادُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى لِلتَّقْرِيرِ، وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي لَا يَهِدِّي فَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَّا نَافِعًا يَهْدِّي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ فَجَمَعُوا فِي قِرَاءَتِهِمْ هَذِهِ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: لَا بُدَّ لِمَنْ رَامَ مِثْلَ هَذَا أَنْ يُحَرِّكَ حَرَكَةً خَفِيفَةً إِلَى الْكَسْرِ، وَسِيبَوَيْهَ يُسَمِّي هَذَا اخْتِلَاسًا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ فِي رِوَايَةٍ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْإِسْكَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَوَرْشٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بَيِّنَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا يَهْتَدِي، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ وَقُلِبَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْهَاءِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَيَعْقُوبُ وَالْأَعْمَشُ مِثْلَ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الْهَاءَ، قَالُوا: لِأَنَّ الْكَسْرَ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يِهِدِّي بِكَسْرِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ

_ (1) . الشعراء: 78. (2) . طه: 50. (3) . الأعلى: 2 و 3.

وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَذَلِكَ لِلْإِتْبَاعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ يَهْدِي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ مِنْ هَدَى يَهْدِي. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَهَا وَجْهَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكِسَائِيَّ وَالْفَرَّاءَ قَالَا: إِنَّ يَهْدِي بِمَعْنَى يَهْتَدِي. الثَّانِي: أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ قَالَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ أَمْ مَنْ لَا يَهْدِي غَيْرَهُ، ثُمَّ تَمَّ الْكَلَامُ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُهْدى أَيْ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُهْدَى، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَسْمَعُ غَيْرَهُ إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ، أَيْ: لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَسْمَعَ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ: أَفَمَنْ يَهْدِي النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ وَيُقْتَدَى بِهِ، أَمِ الْأَحَقُّ بِأَنْ يُتَّبَعَ وَيُقْتَدَى بِهِ مَنْ لَا يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ غَيْرُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَهْدِيَ غَيْرَهُ؟ وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ. قَوْلُهُ: فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ بِاسْتِفْهَامَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ: أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بِاتِّخَاذِ هَؤُلَاءِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ؟ وَكِلَا الِاسْتِفْهَامَيْنِ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَكَيْفَ في محل نصب بتحكمون، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَنَوْهُ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ اتَّبَعُوا هَذَا الدِّينَ الْبَاطِلَ، وَهُوَ الشِّرْكُ فَقَالَ: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْأَوَامِرِ السَّابِقَةِ. وَالْمَعْنَى: مَا يَتَّبِعُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ وَجَعْلِهِمْ لَهُ أَنْدَادًا إِلَّا مُجَرَّدَ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ وَالْحَدْسِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ بَصِيرَةٍ، بَلْ ظَنَّ مَنْ ظَنَّ مِنْ سَلَفِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ ظَنُّهُ هَذَا لِمُسْتَنَدٍ قَطُّ، بَلْ مُجَرَّدُ خَيَالٍ مُخْتَلٍّ، وَحَدْسٍ بَاطِلٍ، وَلَعَلَّ تَنْكِيرَ الظَّنِّ هُنَا لِلتَّحْقِيرِ أَيْ: إِلَّا ظَنًّا ضَعِيفًا لَا يَسْتَنِدُ إِلَى مَا تَسْتَنِدُ إِلَيْهِ سَائِرُ الظُّنُونِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ إِنَّهُ مَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْإِقْرَارِ بِهِ إِلَّا ظَنًّا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ أَخْبَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الظَّنِّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، لِأَنَّ أَمْرَ الدِّينِ إِنَّمَا يُبْنَى عَلَى الْعِلْمِ، وَبِهِ يَتَّضِحُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالظَّنُّ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ، وَلَا يُدْرَكُ بِهِ الْحَقُّ، وَلَا يُغْنِي عَنِ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَيَجُوزُ انْتِصَابُ شَيْئًا عَلَى المصدرية، أو على أنه مفعول به، ومن الْحَقِّ حَالٌ مِنْهُ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ شَأْنِ الظَّنِّ، وَبُطْلَانِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ الصَّادِرَةِ لَا عَنْ بُرْهَانٍ. قَوْلُهُ وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَحُجَجِهِ شَرَعَ فِي تَثْبِيتِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ أَيْ: وَمَا صَحَّ وَمَا اسْتَقَامَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقُرْآنُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْحُجَجِ الْبَيِّنَةِ، وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ يُفْتَرَى مِنَ الْخَلْقِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى، وَقَدْ عَجَزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْهُ الْقَوْمُ الَّذِينَ هُمْ أَفْصَحُ الْعَرَبِ لِسَانًا وَأَدَقُّهُمْ أَذْهَانًا وَلكِنْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنَ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَنَفْسُ هَذَا التَّصْدِيقِ مُعْجِزَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، لِأَنَّ أَقَاصِيصَهُ مُوَافِقَةٌ لِمَا فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَعَلَّمَهُ وَلَا سَأَلَ عَنْهُ وَلَا اتَّصَلَ بِمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ، وَانْتِصَابُ تَصْدِيقَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِكَانَ الْمُقَدَّرَةِ بَعْدَ لَكِنْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْعَلِيَّةِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: لَكِنْ أنزله الله تصديق الذين بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمَعْنَى الْآيَةِ، وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْقُرْآنِ أَنْ يُفْتَرَى كَقَوْلِهِ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «1» وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «2» . وَقِيلَ: إِنَّ «أَنْ» بِمَعْنَى اللَّامَ، أَيْ: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ لِيُفْتَرَى وَقِيلَ: بِمَعْنَى لَا، أي:

_ (1) . آل عمران: 161. (2) . التوبة: 122.

لَا يُفْتَرَى. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ التَّقْدِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ تَصْدِيقَ: وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا الرَّفْعُ، أَيْ: وَلَكِنْ هُوَ تَصْدِيقٌ وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَكِنِ الْقُرْآنُ تَصْدِيقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ، أَيْ: أَنَّهَا قَدْ بَشَّرَتْ بِهِ قَبْلَ نُزُولِهِ فَجَاءَ مُصَدِّقًا لَهَا وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَكِنْ تَصْدِيقُ النَّبِيِّ الَّذِي بَيْنَ يَدَيِ القرآن، وهو محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوهُ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ الْقُرْآنَ. قَوْلُهُ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فجيء فِيهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي تصديق، والتّفصيل: التَّبْيِينُ أَيْ: يُبَيِّنُ مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ المتقدّمة، والكتاب: للجنس وقيل: أراد مَا بُيِّنَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنَ. قَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الِاسْتِدْرَاكِ خَبَرٌ ثَالِثٌ، وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكِتَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةً لا محل لها، ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خَبَرٌ رَابِعٌ، أَيْ: كَائِنٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ: كَائِنًا مِنْ رَبِّ العالمين، ويجوز أن يكون متعلقا بتصديق وتفصيل، وَجُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيهِ مُعْتَرِضَةٌ. قَوْلُهُ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ مَعَ تَقْرِيرَ ثُبُوتَ الْحُجَّةِ، وَأَمْ: هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةُ، أَيْ: بَلْ أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: وَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ وَقِيلَ: الْمِيمُ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ عَجْزُهُمْ وَيَتَبَيَّنَ ضَعْفُهُمْ فَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أَيْ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهُ، فَأْتُوا أَنْتُمْ عَلَى جِهَةِ الِافْتِرَاءِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَجَوْدَةِ الصِّنَاعَةِ، فَأَنْتُمْ مِثْلُهُ فِي مَعْرِفَةِ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَفَصَاحَةِ الْأَلْسُنِ، وَبَلَاغَةِ الْكَلَامِ وَادْعُوا بِمُظَاهِرِيكُمْ وَمُعَاوِنِيكُمْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دُعَاءَهُ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَمِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَجْعَلُونَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِادْعُوا، أَيِ: ادْعُوَا مَنِ سِوَى اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُفْتَرًى. وَسُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ مَا أَقْوَى هَذِهِ الْحُجَّةَ وَأَوْضَحَهَا وَأَظْهَرَهَا لِلْعُقُولِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَسَبُوا الِافْتِرَاءَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، قَالَ لَهُمْ: هَذَا الَّذِي نَسَبْتُمُوهُ إِلَيَّ وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتُوا وَأَنْتُمُ الْجَمْعُ الْجَمُّ بِسُورَةٍ مُمَاثِلَةٍ لِسُورَةٍ مَنْ سُوَرِهِ، وَاسْتَعِينُوا بِمَنْ شِئْتُمْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَتَبَايُنِ مَسَاكِنِهِمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي آدَمَ، أَوْ مِنَ الْجِنِّ، أَوْ مِنَ الْأَصْنَامِ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ هَذَا بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي فَأَنْتُمْ صَادِقُونَ فِيمَا نَسَبْتُمُوهُ إِلَيَّ وَأَلْصَقْتُمُوهُ بِي. فَلَمْ يَأْتُوا عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ وَالتَّنَزُّلِ الْبَالِغِ بِكَلِمَةٍ، وَلَا نَطَقُوا بِبِنْتِ شَفَةٍ، بَلْ كَاعُوا عَنِ الْجَوَابِ، وَتَشَبَّثُوا بِأَذْيَالِ الْعِنَادِ الْبَارِدِ، وَالْمُكَابَرَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْحُجَّةِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْجِزُ عَنْهُ مُبْطِلٌ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ عَقِبَ هَذَا التَّحَدِّي الْبَالِغِ: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ فَأَضْرَبَ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَانْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ أَنَّهُمْ سَارَعُوا إِلَى تَكْذِيبِ الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ يَتَدَبَّرُوهُ وَيَفْهَمُوا مَعَانِيَهُ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا صَنَعَ مَنْ تَصَلَّبَ في التقليد ولم يبال لما جَاءَ بِهِ مَنْ دَعَا إِلَى الْحَقِّ وَتَمَسَّكَ بِذُيُولِ الْإِنْصَافِ، بَلْ يَرُدُّهُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ لَمْ يُوَافِقْ هَوَاهُ، وَلَا جَاءَ عَلَى طَبَقِ دَعْوَاهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَاهُ، وَيَعْلَمَ مَبْنَاهُ،

كَمَا تَرَاهُ عَيَانًا، وَتَعْلَمُهُ وُجْدَانًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِالْحُجَّةِ النَّيِّرَةِ وَالْبُرْهَانِ الْوَاضِحِ قَبْلَ أَنْ يُحِيطَ بِعِلْمِهِ، فَهُوَ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِشَيْءٍ فِي هَذَا التَّكْذِيبِ إِلَّا مُجَرَّدَ كَوْنِهِ جَاهِلًا لِمَا كَذَّبَ بِهِ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ، فَكَانَ بِهَذَا التَّكْذِيبِ مُنَادِيًا عَلَى نَفْسِهِ بِالْجَهْلِ بِأَعْلَى صَوْتٍ، وَمُسَجِّلًا بِقُصُورِهِ عَنْ تَعَقُّلِ الْحُجَجِ بِأَبْلَغِ تَسْجِيلٍ، وَلَيْسَ عَلَى الْحُجَّةِ وَلَا عَلَى مَنْ جَاءَ بِهَا مِنْ تَكْذِيبِهِ شَيْءٌ: مَا يَبْلُغُ الْأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ ... مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ قَوْلُهُ: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى: لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ أَيْ: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَبِمَا لَمْ يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، أَوْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَذَّبُوا بِهِ حَالَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَفْهَمُوا تَأْوِيلَ مَا كَذَّبُوا بِهِ، وَلَا بَلَغَتْهُ عُقُولُهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ التَّكْذِيبَ مِنْهُمْ وَقَعَ قَبْلَ الإحاطة بعلمه، وقبل أن يعرفوا ما يؤول إِلَيْهِ مِنْ صِدْقِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ حِكَايَةِ مَا سَلَفَ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْأُمَمِ السَّابِقِينَ، وَمِنْ حِكَايَاتِ مَا سَيَحْدُثُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا قَبْلَ كَوْنِهَا، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَفْهَمُوهُ حَقَّ الْفَهْمِ وَتَتَعَقَّلَهُ عُقُولُهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَوْ تَدَبَّرُوهُ كُلِّيَّةَ التَّدَبُّرِ لَفَهِمُوهُ كَمَا يَنْبَغِي، وَعَرَفُوا مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الدَّالَّةِ أَبْلَغَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ الله وعلى هذا: فمعنى: تأويله، ما يؤول إِلَيْهِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ مِنَ الْمَعَانِي الرَّشِيقَةِ وَاللَّطَائِفِ الْأَنِيقَةِ، وَكَلِمَةُ التَّوَقُّعِ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ عِنْدَ أَنْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِحُجَجِ اللَّهِ وَبَرَاهِينِهِ، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَقَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ تَأْوِيلُهُ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ بِالْخَسْفِ، وَالْمَسْخِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي حَلَّتْ بِهِمْ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ عَنْهُمْ، وَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ كُتُبُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أَيْ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ فِي نَفْسِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ صِدْقٌ وَحَقٌّ، وَلَكِنَّهُ كَذَّبَ بِهِ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَذَّبَ بِهِ فِي الْحَالِ، وَالْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَلَا يُصَدِّقُهُ فِي نَفْسِهِ، بَلْ كَذَّبَ بِهِ جَهْلًا كَمَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ، أَوْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى جُحُودِهِ وَإِصْرَارِهِ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ خَاصٌّ بِأَهْلِ مَكَّةَ، وَقِيلَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ: الْمُصِرُّونَ الْمُعَانِدُونَ، أَوْ بِكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَالَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِهِ جَهْلًا، أَوِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَيْ: لِي جَزَاءُ عَمَلِي، وَلَكُمْ جَزَاءُ عَمَلِكُمْ فَقَدْ أَبْلَغْتُ إِلَيْكُمْ مَا أُمِرْتُ بِإِبْلَاغِهِ، وَلَيْسَ عَلَيَّ غَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ أَيْ: لَا تُؤَاخَذُونَ بِعَمَلِي، وَلَا أُؤَاخَذُ بِعَمَلِكُمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.

[سورة يونس (10) : الآيات 42 إلى 49]

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ يَقُولُ: سَبَقَتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: صَدَقَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى قَالَ: الْأَوْثَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي الْآيَةَ، قَالَ: أَمَرَهُ بِهَذَا، ثُمَّ نَسَخَهُ، فَأَمَرَهُ بجهادهم. [سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 49] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَخْ، بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا أَنَّ فِي أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مَنْ بَلَغَتْ حَالُهُ فِي النُّفْرَةِ وَالْعَدَاوَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَهِيَ: أَنَّهُمْ يستمعون إلى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَ الشَّرَائِعَ فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ فِي الْحَقِيقَةِ لِعَدَمِ حُصُولِ أَثَرِ السَّمَاعِ، وَهُوَ: حُصُولُ الْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِمَا يَسْمَعُونَهُ وَلِهَذَا قَالَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ يَعْنِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ وَإِنِ اسْتَمَعُوا فِي الظَّاهِرِ فَهُمْ صُمٌّ، وَالصَّمَمُ مَانِعٌ مِنْ سَمَاعِهِمْ، فَكَيْفَ تَطْمَعُ مِنْهُمْ بِذَلِكَ مَعَ حُصُولِ الْمَانِعِ؟ وَهُوَ الصَّمَمُ، فَكَيْفَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ؟ فَإِنَّ مَنْ كَانَ أَصَمَّ غَيْرَ عَاقِلٍ لَا يَفْهَمُ شَيْئًا وَلَا يَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَهُ. وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي يَسْتَمِعُونَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَأَفْرَدَهُ فِي: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ حَمْلًا عَلَى لَفْظِهِ. قِيلَ: وَالنُّكْتَةُ: كَثْرَةُ الْمُسْتَمِعِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاظِرِينَ، لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ النَّظَرُ مِنَ المقابلة، وَانْتِفَاءِ الْحَائِلِ، وَانْفِصَالِ الشُّعَاعِ، وَالنُّورِ الْمُوَافِقِ لِنُورِ الْبَصَرِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ: وَمِنْهُمْ نَاسٌ يَسْتَمِعُونَ، وَمِنْهُمْ بَعْضٌ يَنْظُرُ، وَالْهَمْزَتَانِ فِي أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ أَفَأَنْتَ تَهْدِي: لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ فَأَنْتَ تُسْمِعُهُمْ؟ أَيَنْظُرُونَ إِلَيْكَ فَأَنْتَ تَهْدِيهِمْ؟ وَالْكَلَامُ فِي: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ كَالْكَلَامِ فِي: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَخْ. لِأَنَّ الْعَمَى مَانِعٌ فَكَيْفَ يُطْمَعُ مِنْ صَاحِبِهِ فِي النَّظَرِ؟ وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى فَقْدِ الْبَصَرِ فَقَدُ الْبَصِيرَةِ، لِأَنَّ الْأَعْمَى الَّذِي لَهُ فِي قَلْبِهِ بَصِيرَةٌ قَدْ يَكُونُ لَهُ مِنَ الْحَدْسِ الصَّحِيحِ مَا يَفْهَمُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَهْمًا يَقُومُ مَقَامَ النَّظَرِ، وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ الْعَاقِلُ قَدْ يَتَحَدَّسُ تَحَدُّسًا يُفِيدُهُ بَعْضَ فَائِدَةٍ، بِخِلَافِ مَنْ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ عَمَى الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِدْرَاكُ. وَكَذَا مَنْ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ الصَّمَمِ وَذَهَابِ الْعَقْلِ فَقَدِ انْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الْهُدَى، وَجَوَابُ لَوْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِمَا مَا قَبْلَهُمَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ: تَسْلِيَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

فَإِنَّ الطَّبِيبَ إِذَا رَأَى مَرِيضًا لَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ أَصْلًا أَعْرَضَ عَنْهُ وَاسْتَرَاحَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهِ. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ذِكْرُ هَذَا عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ نَقْصٍ فِيمَا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَالْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ، بَلْ لِأَجْلِ مَا صَارَ فِي طَبَائِعِهِمْ مِنَ التَّعَصُّبِ وَالْمُكَابَرَةِ لِلْحَقِّ، وَالْمُجَادَلَةِ بِالْبَاطِلِ، وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَظْلِمْهُمُ اللَّهُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ خَلَقَهُمْ، وَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْمَشَاعِرِ مَا يُدْرِكُونَ بِهِ أَكْمَلَ إِدْرَاكٍ، وَرَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْحَوَاسِّ مَا يَصِلُونَ بِهِ إِلَى مَا يُرِيدُونَ، وَوَفَّرَ مَصَالِحَهُمُ الدُّنْيَوِيَّةَ عَلَيْهِمْ، وَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ، فَعَلَى نَفْسِهَا بِرَاقِشُ تَجْنِي. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَلكِنَّ النَّاسَ بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَرَفْعِ النَّاسِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِتَشْدِيدِهَا وَنَصْبِ النَّاسِ. قَالَ النَّحَّاسُ: زَعَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ: أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا قَالَتْ: وَلكِنَّ بِالْوَاوِ شَدَّدُوا النُّونَ، وَإِذَا حَذَفُوا الْوَاوَ خَفَّفُوهَا. قِيلَ: وَالنُّكْتَةُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ: زِيَادَةُ التَّعْيِينِ وَالتَّقْرِيرِ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ: لِإِفَادَةِ القصر، أو بمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة. قوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا أَيْ: كَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُشْبِهِينَ مَنْ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ أَيْ: شَيْئًا قَلِيلًا مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِاللُّبْثِ هُوَ اللُّبْثُ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: فِي الْقُبُورِ، اسْتَقَلُّوا الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إِمَّا: لِأَنَّهُمْ ضَيَّعُوا أَعْمَارَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَجَعَلُوا وَجُودَهَا كَالْعَدَمِ، أَوِ اسْتَقْصَرُوهَا لِلدَّهَشِ وَالْحَيْرَةِ، أَوْ: لِطُولِ وُقُوفِهِمْ فِي الْمَحْشَرِ، أَوْ: لِشِدَّةَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ نَسُوا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُمْ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «1» وَجُمْلَةُ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْمَعْنَى: يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَارَقُوا إِلَّا قَلِيلًا، وَذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ التَّعَارِيفُ بَيْنَهُمْ لِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الْمُدْهِشَةِ لِلْعُقُولِ الْمُذْهِلَةِ لِلْأَفْهَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّعَارُفَ هُوَ تَعَارُفُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنْتَ أَضْلَلْتَنِي وَأَغْوَيْتَنِي، لَا تَعَارُفَ شَفَقَةٍ وَرَأْفَةٍ كَمَا قال تعالى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً «2» وَقَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ «3» فَيُجْمَعُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعَارُفِ: هُوَ تَعَارُفُ التَّوْبِيخِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ «4» ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مِثْلِ هَذَا وَغَيْرِهِ: بِأَنَّ الْمَوَاقِفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخْتَلِفَةٌ فَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِفِ مَا لَا يَكُونُ فِي الْآخَرِ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ هَذَا تَسْجِيلٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِالْخُسْرَانِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالْمُرَادُ بِلِقَاءِ اللَّهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ: عِنْدَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَنَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ جِنْسِ الْمُهْتَدِينَ لِجَهْلِهِمْ وَعَدَمِ طَلَبِهِمْ لِمَا يُنْجِيهِمْ وَيَنْفَعُهُمْ. قَوْلُهُ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَصْلُهُ: إِنْ نُرِكَ، وَمَا مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَزِيدَتْ نُونُ التَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ حَصَلَتْ مِنَّا الْإِرَاءَةُ لَكَ بَعْضَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ: مِنْ إِظْهَارِ دِينِكَ فِي حَيَاتِكَ بِقَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَتَرَاهُ، أَوْ فَذَاكَ، وَجُمْلَةُ: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى: أَوْ لَا نُرِيَنَّكَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِكَ، بَلْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ

_ (1) . الكهف: 19. (2) . المعارج: 10. (3) . المؤمنون: 101. (4) . سبأ: 31.

فَعِنْدَ ذَلِكَ نُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَنُرِيكَ عَذَابَهُمْ فِيهَا، وَجَوَابُ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ: مَحْذُوفٌ أَيْضًا، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ الْإِرَاءَةِ فَنَحْنُ نُرِيكَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ: إِنَّ جَوَابَ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ إِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ تَعْذِيبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْعُدُولُ إِلَى صِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ، وَالْأَصْلُ: أَرَيْنَاكَ أَوْ تَوَفَّيْنَاكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ إِرَاءَتَهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِبَعْضِ مَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ تَكُنْ قَدْ وَقَعَتْ كَالْوَفَاةِ. وَحَاصِلُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: إِنْ لَمْ نَنْتَقِمْ مِنْهُمْ عَاجِلًا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ آجِلًا. وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَتْلَهُمْ، وَأَسْرَهُمْ، وَذُلَّهُمْ، وَذَهَابَ عِزِّهِمْ، وَانْكِسَارَ سَوْرَةِ كِبْرِهِمْ بِمَا أَصَابَهُمْ بِهِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمُوَاطِنِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قَوْلُهُ: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ جَاءَ بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّبْعِيدِ مَعَ كَوْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ شَهِيدًا عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الدَّارَيْنِ: لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ، أَوْ مَا يَحْصُلُ مِنْ إِنْطَاقِ الْجَوَارِحِ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا ذَكَرَهُ النَّيْسَابُورِيُّ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ رَسُولٌ يُرْسِلُهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ إِلَيْهِمْ، وَبَلَّغَهُمْ مَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ، فَكَذَّبُوهُ جَمِيعًا قُضِيَ بَيْنَهُمْ أَيْ: بَيْنِ الْأُمَّةِ وَرَسُولِهَا بِالْقِسْطِ أَيِ: الْعَدْلِ، فَنَجَا الرَّسُولُ، وَهَلَكَ الْمُكَذِّبُونَ لَهُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالضَّمِيرِ فِي: بَيْنَهُمْ، الْأُمَّةُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ كَذَّبَهُ بَعْضُهُمْ وَصَدَّقَهُ الْبَعْضُ الْآخَرُ، فَيَهْلَكُ الْمُكَذِّبُونَ، وَيَنْجُو الْمُصَدِّقُونَ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فِي ذَلِكَ الْقَضَاءِ، فَلَا يُعَذَّبُونَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَلَا يُؤَاخَذُونَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ «1» وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «2» وَالْمُرَادُ: الْمُبَالَغَةُ فِي إِظْهَارِ الْعَدْلِ وَالنَّصَفَةُ بَيْنَ الْعِبَادِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شُبْهَةً أُخْرَى مِنْ شُبَهِ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كُلَّمَا هَدَّدَهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ كَانُوا يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ وَالِاسْتِفْهَامُ مِنْهُمْ لِلْإِنْكَارِ، وَالِاسْتِبْعَادِ، وَلِلْقَدْحِ فِي النُّبُوَّةِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ خطابا منهم للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَائِلِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ: جَمِيعُ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا لِرُسُلِهِمُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَحْسِمُ مَادَّةَ الشُّبْهَةِ، وَيَقْطَعُ اللَّجَاجَ، فَقَالَ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً أَيْ: لَا أَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ لَهَا وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهَا، فَكَيْفَ أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَمْلِكَ ذَلِكَ لِغَيْرِي، وَقَدَّمَ الضُّرَّ، لِأَنَّ السِّيَاقَ: لِإِظْهَارِ الْعَجْزِ عَنْ حُضُورِ الْوَعْدِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ وَاسْتَبْعَدُوهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ مُنْقَطِعٌ، كَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ، أَيْ: وَلَكِنْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ كَانَ، فَكَيْفَ أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَمْلِكَ لِنَفْسِي ضَرًّا أَوْ نَفْعًا. وَفِي هَذِهِ أَعْظَمُ وَاعِظٍ، وَأَبْلَغُ زَاجِرٍ لِمَنْ صَارَ دَيْدَنُهُ وَهِجِّيرَاهُ الْمُنَادَاةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِغَاثَةَ بِهِ عِنْدَ نُزُولِ النَّوَازِلِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ صَارَ يَطْلُبُ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ. فَإِنَّ هَذَا مَقَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَ الْأَنْبِيَاءَ، وَالصَّالِحِينَ، وَجَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ، وَرَزَقَهُمْ، وَأَحْيَاهُمْ، وَيُمِيتُهُمْ، فَكَيْفَ يَطْلُبُ مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ صَالِحٍ مِنَ الصَّالِحِينَ مَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ، غَيْرُ قادر عليه،

_ (1) . الزمر: 69. (2) . النساء: 41.

[سورة يونس (10) : الآيات 50 إلى 58]

وَيَتْرُكُ الطَّلَبَ لِرَبِّ الْأَرْبَابِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شيء، الخالق، الرزاق، الْمُعْطِي، الْمَانِعِ؟ وَحَسْبُكَ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْعِظَةً، فَإِنَّ هَذَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَخَاتَمُ الرُّسُلِ، يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِأَنْ يَقُولَ لِعِبَادِهِ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ لغيره، وكيف يملكه غيره- من رُتْبَتُهُ دُونَ رُتْبَتِهِ وَمَنْزِلَتُهُ لَا تَبْلُغُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ- لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَهُ لِغَيْرِهِ، فَيَا عَجَبًا لِقَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى قُبُورِ الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ قَدْ صَارُوا تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مِنَ الْحَوَائِجِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ كَيْفَ لَا يَتَيَقَّظُونَ لِمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَلَا يَتَنَبَّهُونَ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِمَعْنَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَدْلُولِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا اطِّلَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، بَلْ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا، فَإِنَّ أُولَئِكَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ، الرَّازِقُ، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الضَّارُّ، النَّافِعُ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُونَ أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَمُقَرِّبِينَ لَهُمْ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ لَهُمْ قُدْرَةً عَلَى الضَّرِّ وَالنَّفْعِ، وَيُنَادُونَهُمْ تَارَةً عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَتَارَةً مَعَ ذِي الْجَلَالِ. وَكَفَاكَ مِنْ شَرِّ سَمَاعِهِ، وَاللَّهُ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُطَهِّرٌ شَرِيعَتَهُ مِنْ أَوَضَارِ الشرك وأدناس الكفر، ولقد توسّل الشَّيْطَانُ، أَخْزَاهُ اللَّهُ، بِهَذِهِ الذَّرِيعَةِ إِلَى مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ وَيَنْثَلِجُ بِهِ صَدْرُهُ مِنْ كُفْرِ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُبَارَكَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «1» إنا لله وإنا إليه راجعون- ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ: أَنْ لِكُلِّ طَائِفَةٍ حَدًّا مَحْدُودًا لَا يَتَجَاوَزُونَهُ فَلَا وَجْهَ لِاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ فَقَالَ: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَجَازَى كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِمَّنْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِهِمْ، أَوْ بَيْنَ بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ، أَجَلًا مُعَيَّنًا وَوَقْتًا خَاصًّا يَحِلُّ بِهِمْ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ عِنْدَ حُلُولِهِ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أَيْ: ذَلِكَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ عَنْ ذَلِكَ الْأَجَلِ الْمُعَيَّنِ ساعَةً أَيْ: شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الزَّمَانِ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عَلَيْهِ، وَجُمْلَةُ لَا يَسْتَقْدِمُونَ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَا يَسْتَأْخِرُونَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ «2» وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِ الْأَعْرَافِ فَلَا نُعِيدُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَالَ: يَعْرِفُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ إِلَى جَنْبِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ الْآيَةَ، قَالَ: سُوءَ الْعَذَابِ فِي حَيَاتِكَ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلُ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ وَفِي قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قال: يوم القيامة. [سورة يونس (10) : الآيات 50 الى 58] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)

_ (1) . الكهف: 104. (2) . الحجر: 5. [.....]

قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ هَذَا مِنْهُ سُبْحَانَهُ تَزْيِيفٌ لِرَأْيِ الْكُفَّارِ فِي اسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ بَعْدَ التَّزْيِيفِ الْأَوَّلِ، أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَياتاً أَيْ: وَقْتَ بَيَاتٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْوَقْتُ الَّذِي يَبِيتُونَ فِيهِ، وَيَنَامُونَ وَيَغْفُلُونَ عَنِ التَّحَرُّزِ، وَالْبَيَاتُ: بِمَعْنَى التَّبْيِيتِ اسْمُ مصدر كالسلام بمعنى التسليم، وهو منصب عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ: نَهَارًا، أَيْ: وَقْتَ الِاشْتِغَالِ بِطَلَبِ الْمَعَاشِ وَالْكَسْبِ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، رَاجِعٌ إِلَى الْعَذَابِ وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ لِلْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِلنَّهْيِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ «1» وَوَجْهُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِعْجَالِهِمْ: أَنَّ الْعَذَابَ مَكْرُوهٌ تَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ، وَتَأْبَاهُ الطَّبَائِعُ، فَمَا الْمُقْتَضَى لِاسْتِعْجَالِهِمْ لَهُ؟ وَالْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِالِاسْتِفْهَامِ جَوَابُ الشَّرْطِ، بِحَذْفِ الْفَاءِ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: تَنْدَمُوا عَلَى الِاسْتِعْجَالِ، أَوْ تَعْرِفُوا الْخَطَأَ مِنْكُمْ فِيهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ قَوْلُهُ: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ وَتَكُونُ جُمْلَةُ: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ اعْتِرَاضًا، وَالْمَعْنَى: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ آمَنْتُمْ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ حِينَ لَا يَنْفَعُكُمُ الْإِيمَانُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَإِنَّمَا قَالَ: يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ، وَلَمْ يَقُلْ يَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُوجِبُ تَرْكَ الِاسْتِعْجَالِ، وَهُوَ الْإِجْرَامُ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُجْرِمِ أَنْ يَخَافَ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِ إِجْرَامِهِ، فَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُهُ؟ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يستوهم أَمْرًا إِذَا طَلَبَهُ: مَاذَا تَجْنِي عَلَى نَفْسِكَ؟ وَحَكَى النَّحَّاسُ عَنِ الزَّجَّاجُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُ إِنْ عَادَ إِلَى الْعَذَابِ كَانَ لَكَ فِي مَاذَا تَقْدِيرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَذَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ خَبَرُ مَا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَاذَا اسْمًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ: مَا بَعْدَهُ، وَإِنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مَاذَا شَيْئًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بيستعجل، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ، أَيْ: مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَدُخُولُ الْهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ فِي أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ عَلَى ثُمَّ كَدُخُولِهَا عَلَى الْوَاوِ وَالْفَاءِ، وَهِيَ لِإِنْكَارِ إِيمَانِهِمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ وَذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّهْوِيلِ عَلَيْهِمْ، وَتَفْظِيعِ مَا فَعَلُوهُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، مَعَ تَرْكِهِمْ لَهُ فِي وَقْتِهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ وَالدَّفْعُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَجِيءَ بِكَلِمَةِ ثُمَّ الَّتِي لِلتَّرَاخِي: دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِبْعَادِ، وَجِيءَ بِإِذَا مَعَ زِيَادَةِ مَا لِلتَّأْكِيدِ: دَلَالَةً عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةَ اسْتِجْهَالٍ لَهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَبَعْدَ مَا وَقَعَ عَذَابُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَحَلَّ بِكُمْ سَخَطُهُ وَانْتِقَامُهُ، آمَنْتُمْ حِينَ لَا يَنْفَعُكُمْ هَذَا الْإِيمَانُ شَيْئًا؟ وَلَا يَدْفَعُ عَنْكُمْ ضَرًّا وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَأَنَّهَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: اسْتِهْزَاءً بِهِمْ، وَإِزْرَاءً عَلَيْهِمْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: إِنَّ ثَمَّ هَاهُنَا هِيَ بِفَتْحِ الثَّاءِ فَتَكُونُ ظَرْفِيَّةً بِمَعْنَى هُنَاكَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَوْلُهُ: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ قِيلَ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، أَيْ: قِيلَ لَهُمْ عِنْدَ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ وُقُوعِ الْعَذَابِ: آلْآنَ آمَنْتُمْ بِهِ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟ أَيْ: بِالْعَذَابِ، تَكْذِيبًا مِنْكُمْ وَاسْتِهْزَاءً، لِأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ كَانَ عَلَى جهة التّكذيب

_ (1) . النحل: 1.

وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ: التَّوْبِيخُ لَهُمْ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ وَالْإِزْرَاءُ عَلَيْهِمْ، وَجُمْلَةُ: وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقُرِئَ آلَانَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ الَّتِي بَعْدَ اللَّامِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، قِيلَ: آلْآنَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ لَهُمْ أَيْ: قِيلَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَطْلُبُونَهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ، عَارٍ عَنِ النَّفْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْعَاقِلُ لَا يَطْلُبُ ذَلِكَ، وَيُقَالُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ، أَيِ: الْعَذَابَ الدَّائِمَ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، وَالْقَائِلُ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالَّتِي قَبْلَهَا قِيلَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى الْخُصُوصِ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْعُمُومِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فِي الْحَيَاةِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَالِاسْتِفْهَامُ: لِلتَّقْرِيرِ، وَكَأَنَّهُ يُقَالُ لهم هذا القول عند اسْتِغَاثَتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَحُلُولِ النِّقْمَةِ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ الْبَالِغَةِ، وَالْجَوَابَاتِ عَنْ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ. أَنَّهُمُ اسْتَفْهَمُوا تَارَةً أُخْرَى عَنْ تَحَقُّقِ الْعَذَابِ، فَقَالَ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ أي: يستخبرونك على جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ مِنْهُمْ وَالْإِنْكَارِ: أَحَقٌّ مَا تَعِدُنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَهَذَا السُّؤَالُ مِنْهُمْ جَهْلٌ مَحْضٌ. وَظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ مَعَ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، فَصَنِيعُهُمْ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ صَنِيعُ مَنْ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ وَلَا مَا يُقَالُ لَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الِاسْتِخْبَارِ مِنْهُمْ: هُوَ عَنْ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ، وَارْتِفَاعُ حَقٌّ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالْمُبْتَدَأُ: هُوَ الضَّمِيرُ الَّذِي بَعْدَهُ، وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلِاهْتِمَامِ، أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالضَّمِيرُ مُرْتَفِعٌ بِهِ سَادٌّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ فِي موضع نصب بيستنبؤنك، وَقُرِئَ الْحَقِّ هُوَ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَهْوَ الْحَقُّ لَا الْبَاطِلُ؟ قَوْلُهُ: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ جَوَابًا عَنِ اسْتِفْهَامِهِمُ الْخَارِجِ مُخْرَجَ الِاسْتِهْزَاءِ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى مَا هُوَ مَقْصُودُهُمْ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ: إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أَيْ نَعَمْ وَرَبِّي إِنَّ مَا أَعِدُكُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ لَحَقٌّ ثَابِتٌ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ تَأْكِيدٌ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: الْقَسَمُ مَعَ دُخُولِ الْحِرَفِ الْخَاصِّ بِالْقَسَمِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ نَعَمْ الثَّانِي: دُخُولُ إِنَّ الْمُؤَكِّدَةِ الثَّالِثُ: اللَّامُ فِي لَحَقٌّ الرَّابِعُ: اسْمِيَّةُ الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ: عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّمَرُّدِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا غَايَةٌ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِأَشَدِّ تَوَعُّدٍ، وَرَهَّبَهُمْ بِأَعْظَمِ تَرْهِيبٍ، فَقَالَ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ: فَائِتِينَ الْعَذَابَ بِالْهَرَبِ وَالتَّحَيُّلِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ، وَالْمُكَابَرَةِ الَّتِي لَا تَدْفَعُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ شَيْئًا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ: إِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ، أَوْ: مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ عَدَمِ خُلُوصِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ثُمَّ زَادَ فِي التَّأْكِيدِ، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ أَيْ: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْأَنْفُسِ الْمُتَّصِفَةِ بِأَنَّهَا ظَلَمَتْ نَفْسَهَا بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ وَالذَّخَائِرِ الْفَائِقَةِ لَافْتَدَتْ بِهِ، أَيْ: جَعَلَتْهُ فِدْيَةً لَهَا مِنَ الْعَذَابِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ «1» وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ الضمير راجع إلى الكفار الذين سياق الكلام معهم، وقيل: راجع إلى الأنفس المدلول

_ (1) . آل عمران: 91.

عَلَيْهَا بِكُلِّ نَفْسٍ. وَمَعْنَى أَسَرُّوا: أَخْفَوْا، أَيْ: لَمْ يُظْهِرُوا النَّدَامَةَ بَلْ أَخْفَوْهَا لِمَا قَدْ شَاهَدُوهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ مِمَّا سَلَبَ عُقُولَهُمْ، وَذَهَبَ بِتَجَلُّدِهِمْ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ بَقِيَ فِيهِمْ- وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ- عِرْقٌ يَنْزِعُهُمْ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، فَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لِئَلَّا يَشْمَتَ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَقِيلَ أَسَرَّهَا الرُّؤَسَاءُ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ أَتْبَاعِهِمْ: خَوْفًا مِنْ تَوْبِيخِهِمْ لَهُمْ، لِكَوْنِهِمْ هُمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ، وَوُقُوعُ هَذَا مِنْهُمْ كَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ، وَأَمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ فَهُمُ الذين قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا «1» وَقِيلَ: مَعْنَى أَسَرُّوا: أَظْهَرُوا، وَقِيلَ: وَجَدُوا أَلَمَ الْحَسْرَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ النَّدَامَةَ لَا يُمْكِنُ إِظْهَارُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ كُثَيْرٍ: فَأَسْرَرْتُ النَّدَامَةَ يَوْمَ نَادَى ... بِرَدِّ جِمَالِ غَاضِرَةَ الْمُنَادِي وَذَكَرَ الْمُبَرِّدُ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا بَدَتْ فِي وُجُوهِهِمْ أَسِرَّةُ النَّدَامَةِ، وَهِيَ الِانْكِسَارُ، وَاحِدُهَا سِرَارٌ، وَجَمْعُهَا أَسَارِيرُ، وَالثَّانِي: مَا تَقَدَّمَ وَقِيلَ: مَعْنَى: أَسَرُّوا النَّدامَةَ أخلصوها، لأن إخفاءها إخلاصها، ولَمَّا فِي قَوْلِهِ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ظَرْفٌ بِمَعْنَى: حين، منصوب بأسرّوا أَوْ حَرْفُ شَرْطٍ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أَيْ: قَضَى اللَّهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ، أَوْ بَيْنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَتْبَاعِ، أَوْ بَيْنَ الظَّالِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمَظْلُومِينَ وَقِيلَ: مَعْنَى: الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ: إِنْزَالُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا يظلمهم الله فيما فعله بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ مَا كَسَبُوا، وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ كَمَالِ قدرته، لأنّ من ملك ما في السموات وَالْأَرْضِ تَصَرَّفَ بِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَغَلَّبَ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ لِكَوْنِهِمْ أَكْثَرَ الْمَخْلُوقَاتِ، قِيلَ: لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ افْتِدَاءَ الْكُفَّارِ بِمَا فِي الْأَرْضِ لَوْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِافْتِدَاءِ بِهِ وَقِيلَ: لَمَّا أَقْسَمَ عَلَى حَقِّيَةِ مَا جاء به النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَصْحَبَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْبُرْهَانِ الْبَيِّنِ: بِأَنَّ مَا فِي الْعَالَمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ مَلِكُهُ، يَتَصَرَّفُ بِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَفِي تَصْدِيرِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ: تَنْبِيهٌ لِلْغَافِلِينَ، وَإِيقَاظٌ لِلذَّاهِلِينَ، ثُمَّ أَكَّدَ مَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ: كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَا اسْتَعْجَلُوهُ مِنَ الْعَذَابِ انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا، وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِحِرَفِ التَّنْبِيهِ: كَمَا قُلْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا مَعَ الدلالة على تحقق مضمون الجملتين وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أَيِ: الْكُفَّارَ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ فَيَعْمَلُونَ بِهِ، وَمَا فِيهِ فَسَادُهُمْ فَيَجْتَنِبُونَهُ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ يَهَبُ الْحَيَاةَ وَيَسْلُبُهَا وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يَعْنِي: الْقُرْآنَ فِيهِ مَا يَتَّعِظُ بِهِ مَنْ قَرَأَهُ وَعَرَفَ مَعْنَاهُ، وَالْوَعْظُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ التَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، سَوَاءٌ كَانَ بِالتَّرْغِيبِ أَوِ التَّرْهِيبِ، وَالْوَاعِظُ هُوَ كَالطَّبِيبِ يَنْهَى الْمَرِيضَ عَمَّا يضرّه، ومن فِي مِنْ رَبِّكُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ جَاءَتْكُمْ، فَتَكُونُ ابْتِدَائِيَّةً، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، فَتَكُونُ تَبْعِيضِيَّةً وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ مِنَ الشُّكُوكِ الَّتِي تَعْتَرِي بَعْضَ الْمُرْتَابِينَ لِوُجُودِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى تَزْيِيفِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ، وَالْهُدَى: الْإِرْشَادُ لِمَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ، وَتَفَكَّرَ فِيهِ، وَتَدَبَّرَ مَعَانِيَهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالرَّحْمَةُ: هِيَ مَا يُوجَدُ فِي الكتاب العزيز من الأمور

_ (1) . المؤمنون: 106.

الَّتِي يَرْحَمُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَيَطْلُبُهَا مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ حَتَّى يَنَالَهَا، فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ الْخِطَابَ مَعَهُ بَعْدَ خِطَابِهِ لِلنَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ، فَقَالَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا الْمُرَادُ بِالْفَضْلِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: هُوَ تَفَضُّلُهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْآجِلِ وَالْعَاجِلِ بِمَا لَا يُحِيطُ بِهِ الْحَصْرُ، وَالرَّحْمَةُ: رَحْمَتُهُ لَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَضْلُ اللَّهِ: الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ: الْإِسْلَامُ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ: الْإِيمَانُ، وَرَحْمَتَهُ: الْقُرْآنُ. وَالْأَوْلَى: حَمْلُ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهُمَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَأَصْلُ الْكَلَامِ: قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَلْيَفْرَحُوا، ثُمَّ حُذِفَ هَذَا الْفِعْلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا عَلَيْهِ، قِيلَ: وَالْفَاءُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ دَاخِلَةٌ فِي جَوَابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَلْيَخُصُّوا فَضْلَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ بِالْفَرَحِ. وَتَكْرِيرُ الْبَاءِ فِي: بِرَحْمَتِهِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْفَرَحِ، وَالْفَرَحُ: هُوَ اللَّذَّةُ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ إِدْرَاكِ الْمَطْلُوبِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْفَرَحَ فِي مُوَاطِنَ، كَقَوْلِهِ: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» وَجَوَّزَهُ فِي قَوْلِهِ: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «2» وَكَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ فِي بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ: بِقَوْلِهِ: جاءَتْكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ، أَيْ: فَبِمَجِيئِهَا فَلْيَفْرَحُوا، وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَيَعْقُوبُ: فَلْتَفْرَحُوا بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالضَّمِيرُ فِي هُوَ خَيْرٌ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، أَوْ: إِلَى الْمَجِيءِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، أَوْ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ فَبِذلِكَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَجْمَعُونَهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا. وَقَدْ قُرِئَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ فِي يَجْمَعُونَ مُطَابَقَةً لِلْقِرَاءَةِ بِهَا فِي فَلْتَفْرَحُوا. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ لَامَ الْأَمْرِ تُحْذَفُ مَعَ الْخِطَابِ إِلَّا فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ جَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ فِي يَجْمَعُونَ، كَمَا قَرَءُوا فِي: فَلْيَفْرَحُوا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَرَأَ: بالفوقية في: يجمعون، والتحتية: في: فلتفرحوا. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَوَصَفَ لَهُ الْخَمْرَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي رِجْسٍ شِفَاءً، إِنَّمَا الشِّفَاءُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ، فَهُمَا شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَشِفَاءٌ لِلنَّاسِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْقُرْآنَ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ شِفَاءً لِأَمْرَاضِكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَكِي صَدْرِي، فَقَالَ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ، يَقُولُ اللَّهُ: شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَجَعَ حَلْقِهِ قَالَ: «عَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ، فَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَالْعَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّاءِ، يَعْنِي: الْفَوْقِيَّةَ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ قَالَ: بِفَضْلِ الله: القرآن، وبرحمته: أن

_ (1) . القصص: 76. (2) . آل عمران: 170.

[سورة يونس (10) : الآيات 59 إلى 64]

جَعَلَكُمْ مِنْ أَهْلِهِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ الْبَرَاءِ مِثْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِالْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: فَضْلُهُ: الْإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ: الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وابن أبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: بِفَضْلِ اللَّهِ: الْقُرْآنُ، وَبِرَحْمَتِهِ: حِينَ جَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ نَحْوُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الأموال والحرث والأنعام. [سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 64] قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) أَشَارَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَخْ، إِلَى طَرِيقٍ أُخْرَى غير ما تقدّم من إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّكُمْ تَحْكُمُونَ بِتَحْلِيلِ الْبَعْضِ وَتَحْرِيمِ الْبَعْضِ، فَإِنْ كَانَ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْهَوَى: فَهُوَ مَهْجُورٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِاعْتِقَادِكُمْ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فِيكُمْ وَفِيمَا رَزَقَكُمْ: فَلَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِطَرِيقٍ مُوَصِّلَةٍ إِلَى اللَّهِ، وَلَا طَرِيقَ يَتَبَيَّنُ بِهَا الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ، ومعنى أرأيتم: أخبروني، وما في محل نصب بأرأيتم الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى أَخْبِرُونِي وَقِيلَ: إِنَّ مَا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهَا: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ وقُلْ فِي قَوْلِهِ: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ، وَمَجْمُوعُ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ فِي محل نصب بأرأيتم، وَالْمَعْنَى: أَخْبِرُونِي الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ مِنْ رِزْقٍ، فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا، آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ؟ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟ وعلى الوجهين: فمن فِي: مِنْهُ حَرَامًا، لِلتَّبْعِيضِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَعَلْتُمْ بَعْضَهُ حَرَامًا وَجَعَلْتُمْ بَعْضَهُ حَلَالًا، وَذَلِكَ كَمَا كَانُوا يفعلونه في الأنعام حسبما سبق ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَمَعْنَى إِنْزَالِ الرِّزْقِ: كَوْنُ الْمَطَرِ يَنْزِلُ مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَكَذَلِكَ يُقْضَى الْأَمْرُ فِي أَرْزَاقِ الْعِبَادِ فِي السَّمَاءِ عَلَى مَا قَدْ ثَبَتَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنْ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ مَا فِي موضع نصب بأنزل، وَأَنْزَلَ بِمَعْنَى: خَلَقَ، كَمَا قَالَ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «1» وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ «2»

_ (1) . الزمر: 6. (2) . الحديد: 25.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ؟ مُسْتَأْنَفًا، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ فِي: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ للإنكار، وأم مُنْقَطِعَةً بِمَعْنَى: بَلْ أَتَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ، وَإِظْهَارُ الِاسْمِ الشَّرِيفِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْفِعْلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الِافْتِرَاءِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ مَا يَصُكُّ مَسَامِعَ الْمُتَصَدِّرِينَ لِلْإِفْتَاءِ لِعِبَادِ اللَّهِ فِي شَرِيعَتِهِ، بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْجَوَازِ وَعَدَمِهِ، مَعَ كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ حُجَجَ اللَّهِ، وَلَا يُفْهَمُونَهَا، وَلَا يَدْرُونَ مَا هِيَ، وَمَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ الْحِكَايَةُ لِقَوْلِ قَائِلٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ قَلَّدُوهُ فِي دِينِهِمْ، وَجَعَلُوهُ شَارِعًا مُسْتَقِلًّا، مَا عَمِلَ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَهُمْ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ بَلَغَهُ وَلَمْ يَفْهَمْهُ حَقَّ فَهْمِهِ أَوْ فَهِمَهُ وَأَخْطَأَ الصَّوَابَ فِي اجْتِهَادِهِ وَتَرْجِيحِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْسُوخِ عِنْدَهُمُ الْمَرْفُوعِ حُكْمُهُ عَنِ الْعِبَادِ، مَعَ كَوْنِ مَنْ قَلَّدُوهُ مُتَعَبَّدًا بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ كَمَا هُمْ مُتَعَبَّدُونَ بِهَا وَمَحْكُومًا عَلَيْهِ بِأَحْكَامِهَا كَمَا هُوَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِمْ بِهَا، وَقَدِ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ وَأَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَفَازَ بِأَجْرَيْنِ مَعَ الْإِصَابَةِ وَأَجْرٍ مَعَ الْخَطَأِ إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي جَعْلِهِمْ لِرَأْيِهِ الَّذِي أَخْطَأَ فِيهِ شَرِيعَةً مُسْتَقِلَّةً، وَدَلِيلًا مَعْمُولًا بِهِ، وَقَدْ أَخْطَئُوا فِي هَذَا خَطَأً بَيِّنًا، وَغَلَطُوا غَلَطًا فَاحِشًا، فَإِنَّ التَّرْخِيصَ لِلْمُجْتَهِدِ فِي اجْتِهَادِ رَأْيِهِ يَخُصُّهُ وَحْدَهُ، وَلَا قَائِلَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَدِّ بِأَقْوَالِهِمْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ تَقْلِيدًا لَهُ وَاقْتِدَاءً بِهِ. وَمَا جَاءَ بِهِ الْمُقَلِّدَةُ في تقوّل هَذَا الْبَاطِلِ، فَهُوَ مِنَ الْجَهْلِ الْعَاطِلِ، اللَّهُمَّ كما رزقتنا من العلم ما تميز بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَارْزُقْنَا مِنَ الْإِنْصَافِ مَا نَظْفَرُ عِنْدَهُ بِمَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَكَ يَا وَاهِبَ الْخَيْرِ. ثُمَّ قَالَ: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ ظَنُّهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ؟ وَمَا يُصْنَعُ بِهِمْ فِيهِ؟ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِتَعْظِيمِ الْوَعِيدِ لَهُمْ غَيْرُ دَاخِلَةٍ تَحْتَ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، بَلْ مُبْتَدَأَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ويَوْمَ الْقِيامَةِ: مَنْصُوبٌ بِالظَّنِّ، وَذِكْرُ الْكَذِبِ بَعْدَ الِافْتِرَاءِ، مَعَ أَنَّ الِافْتِرَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذِبًا لزيادة التأكيد. وقرأ عيسى ابن عُمَرَ: وَما ظَنُّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِمْ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَطَرْفَةٍ مِنَ الطَّرَفَاتِ. قَوْلُهُ: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا نَافِيَةٌ، وَالشَّأْنُ: الْأَمْرُ، بِمَعْنَى: الْقَصْدِ، وأصله الهمز، وجمعه شؤون. قَالَ الْأَخْفَشُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: مَا شَأَنْتُ شَأْنَهُ: أي ما عملت عمله وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ يَعُودُ عَلَى الشَّأْنِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: تِلَاوَةً كَائِنَةً مِنْهُ، إذ التلاوة للقرآن من أعظم شؤونه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتْلُو- مِنْ أَجْلِ الشَّأْنِ الَّذِي حَدَثَ- الْقُرْآنُ فَيَعْلَمُ كَيْفَ حُكْمُهُ، أَوْ يتلو القرآن الذي فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ فِي مِنْهُ إِلَى الْكِتَابِ،: أَيْ: مَا يَكُونُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ قُرْآنٍ، وأعاده تفخيما له كقوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ «1» ، وَالْخِطَابُ فِي: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ لِرَسُولِ اللَّهِ وَلِلْأُمَّةِ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ لِلْمُخَاطَبِينَ، أَيْ: شُهُودًا عَلَيْكُمْ بِعَمَلِهِ مِنْكُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، مِنْ قَوْلِهِ: تُفِيضُونَ فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْعَمَلِ، يُقَالُ: أَفَاضَ فُلَانٌ فِي الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ: إِذَا انْدَفَعَ فِيهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْمَعْنَى: إذ تشيعون

_ (1) . طه: 14.

فِي الْقُرْآنِ الْكَذِبَ. قَوْلُهُ: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: يَعْزِبُ بِكَسْرِ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالضَّمِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَمَعْنَى يَعْزُبُ: يَغِيبُ، وَقِيلَ: يَبْعُدُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: يذهب، وهذه المعاني متقاربة، ومن: فِي مِنْ مِثْقالِ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ: وَمَا يَغِيبُ عَنْ رَبِّكَ وَزْنُ ذَرَّةٍ، أَيْ: نَمْلَةٍ حَمْرَاءَ، وَعَبَّرَ بِالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ لَا فِيهِمَا وَلَا فِيمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُمَا، لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُشَاهِدُونَ سِوَاهُمَا وَسِوَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدَّمَ الْأَرْضَ عَلَى السَّمَاءِ: لِأَنَّهَا مَحَلُّ اسْتِقْرَارِ الْعَالَمِ فَهُمْ يُشَاهِدُونَ مَا فِيهَا مِنْ قُرْبٍ، وَالْوَاوُ فِي وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ لِلْعَطْفِ عَلَى لَفْظِ مِثْقَالِ، وَانْتَصَبَا لِكَوْنِهِمَا مُمْتَنِعَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى ذَرَّةٍ، وَقِيلَ: انْتِصَابُهُمَا بِلَا الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَالْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَلَيْسَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ وَمَا يَعْزُبُ، وَخَبَرُ لَا: إِلَّا فِي كِتابٍ وَالْمَعْنَى: وَلَا أَصْغَرَ مِنْ مِثْقَالِ الذَّرَّةِ وَلَا أَكْبَرَ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ فَكَيْفَ يَغِيبُ عَنْهُ؟ وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَحَمْزَةُ: بِرَفْعِ أَصْغَرَ وَأَكْبَرَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ مِنْ مِثْقَالِ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ، وَقَدْ أُورِدَ عَلَى تَوْجِيهِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى لَفْظِ مِثْقَالٍ وَمَحَلِّهِ أَوْ عَلَى لَفْظِ ذَرَّةٍ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إِلَّا فِي كِتَابٍ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي فِي الْكِتَابِ خَارِجًا عَنْ عِلْمِ اللَّهِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ: بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَخْلُوقَةَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ أَوْجَدَهُ اللَّهُ ابتداء من غير واسطة، كخلق الملائكة والسموات وَالْأَرْضِ وَقِسْمٌ آخَرُ أَوْجَدَهُ بِوَاسِطَةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ حَوَادِثِ عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الثَّانِيَ مُتَبَاعِدٌ فِي سِلْسِلَةِ الْعِلِّيَّةِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْأَوَّلِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ عَنْ مَرْتَبَةِ وُجُودِهِ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إِلَّا وَهُوَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ أَثْبَتَ فِيهِ صُورَةَ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْغَرَضُ: الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِالْجُزْئِيَّاتِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ الاستثناء منقطع، أي: ولكن هُوَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُرْجَانِيُّ: أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلا أَكْبَرَ ثُمَّ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أَيْ: وَهُوَ أَيْضًا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. وَالْعَرَبُ قَدْ تَضَعُ إِلَّا مَوْضِعَ الْوَاوِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ- إِلَّا مَنْ ظَلَمَ «1» يَعْنِي: وَمَنْ ظَلَمَ، وَقَوْلُهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا «2» أَيْ: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا، وَقُدِّرَ هُوَ بَعْدَ الْوَاوِ الَّتِي جَاءَتْ إِلَّا بِمَعْنَاهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقُولُوا حِطَّةٌ «3» أَيْ: هِيَ حِطَّةٌ، وَمِثْلُهُ: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ «4» وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «5» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الرَّفْعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ، وَخَبَرُهُ: إِلَّا فِي كِتابٍ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَاخْتَارَ فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ الَّتِي قَرَأَ بِهَا الْجُمْهُورُ: أَنَّهُمَا مَنْصُوبَانِ بِلَا الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَاسْتَشْكَلَ الْعَطْفَ بِنَحْوِ مَا قَدَّمْنَا. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ إِحَاطَتَهُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِ الْمُطِيعِينَ، وَكَسْرٌ لِقُلُوبِ الْعَاصِينَ، ذَكَرَ حَالَ الْمُطِيعِينَ، فَقَالَ: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الْوَلِيُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَرِيبُ. وَالْمُرَادُ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ: خُلَّصُ الْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّهُمْ قُرِّبُوا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ. وَقَدْ فَسَّرَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ أي:

_ (1) . النحل: 10 و 11. (2) . البقرة: 150. (3) . البقرة: 58. (4) . النساء: 171. (5) . الأنعام: 59.

يُؤْمِنُونَ بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَيَتَّقُونَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ اتِّقَاؤُهُ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ: أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ أَبَدًا كَمَا يَخَافُ غَيْرُهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ قَامُوا بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَوْا عَنِ الْمَعَاصِي الَّتِي نَهَاهُمْ عَنْهَا، فَهُمْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَحُسْنِ ظَنٍّ بِرَبِّهِمْ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْزَنُونَ عَلَى فَوْتِ مَطْلَبٍ مِنَ الْمَطَالِبِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فَيُسَلِّمُونَ لِلْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَيُرِيحُونَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْهَمِّ وَالْكَدَرِ، فَصُدُورُهُمْ مُنْشَرِحَةٌ، وَجَوَارِحُهُمْ نَشِطَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ مَسْرُورَةٌ وَمَحَلُّ الْمَوْصُولِ: النَّصْبُ، عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَوْلِيَاءَ، أَوِ الرَّفْعُ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ: وَخَبَرُهُ: لَهُمُ الْبُشْرَى، فَيَكُونُ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِمَا قَبْلَهُ، أَوِ النَّصْبُ أَيْضًا عَلَى المدح أو على أنه وصف لأولياء. قوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، أَيْ: لَهُمُ الْبُشْرَى مِنَ اللَّهِ مَا دَامُوا فِي الْحَيَاةِ بِمَا يُوحِيهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ، وَيُنْزِلُهُ فِي كُتُبِهِ، مِنْ كَوْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَهُ هُوَ إِدْخَالُهُمُ الْجَنَّةَ وَرِضْوَانُهُ عَنْهُمْ، كَمَا وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْبِشَارَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، وَمَا يَتَفَضَّلُ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِمْ، وَمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ التَّبْشِيرِ لَهُمْ عِنْدَ حُضُورِ آجَالِهِمْ بِتَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ قَائِلِينَ لَهُمْ: لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ وَأَمَّا الْبُشْرَى فِي الْآخِرَةِ: فَتَلَقِّي الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ مُبَشِّرِينَ بِالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ. وَالْبُشْرَى: مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَشَّرُ بِهِ، وَالظَّرْفَانِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَحَالَ كَوْنِهِمْ في الآخرة، ومعنى: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لَا تَغْيِيرَ لِأَقْوَالِهِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا مَا وَعَدَ بِهِ عِبَادَهُ الصالحين دخولا أوّليا، والإشارة بقوله: لِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِهِمْ مُبَشَّرِينَ بِالْبِشَارَتَيْنِ في الدارين وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُقَادَرُ قَدَرُهُ وَلَا يُمَاثِلُهُ غيره، والجملتان: أعني: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ولِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ، وَفَائِدَتُهُمَا: تَحْقِيقُ الْمُبَشَّرِ بِهِ وَتَعْظِيمُ شَأْنِهِ، أَوِ الْأُولَى: اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ: تَذْيِيلِيَّةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ كَانُوا يُحِلُّونَ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ما شاؤوا، ويحرّمون ما شاؤوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عنه فِي قَوْلِهِ: إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ قَالَ: إِذْ تَفْعَلُونَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ قَالَ: لَا يَغِيبُ عَنْهُ وَزْنُ ذَرَّةٍ. وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ قَالَ: هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَبِّ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هُمُ الذين إذا رأوا ذُكِرَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مرفوعا وموقوفا قال: هم الذين إذا رأوا يُذْكَرُ اللَّهُ لِرُؤْيَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَرْفُوعًا، وَهُوَ مرسل. وروي

نَحْوُهُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْجُمُوحِ أنه سمع النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَحِقُّ الْعَبْدُ حَقَّ صَرِيحِ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلَّهِ وَيُبْغِضَ لِلَّهِ، فَإِذَا أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْوَلَاءَ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْ عِبَادِي وَأَحِبَّائِي مِنْ خَلْقِي الَّذِينَ يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي وَأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خيار عباد الله الذين إذا رأوا ذُكِرَ اللَّهُ، وَشَرَارُ عِبَادِهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ الترمذي عن عبد الله ابن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خِيَارُكُمْ مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَرَغَّبَكُمْ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُهُ» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرْبِهِمْ وَمَجْلِسِهِمْ مِنْهُ، فَجَثَا أَعْرَابِيٌّ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يا رسول الله! صفهم لنا، وحلهم لَنَا؟ قَالَ: قَوْمٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ مِنْ نُزَّاعِ الْقَبَائِلِ، تَصَافَوْا فِي اللَّهِ وَتَحَابُّوا فِي اللَّهِ، يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ، يَخَافُ النَّاسُ وَلَا يَخَافُونَ، هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الْآيَةَ فَقَالَ: الَّذِينَ يَتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ أَحَادِيثُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ بِالْآيَةِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وأحمد والترمذي وحسنه والحكيم فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ عَنْ معنى قوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَقَالَ: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ غَيْرُكَ منذ أنزلت عَلَيَّ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، فَهِيَ: بُشْرَاهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. وَبُشْرَاهُ فِي الْآخِرَةِ: الْجَنَّةُ» . وَفِي إِسْنَادِهِ هَذَا الرَّجُلُ الْمَجْهُولُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَالدَّارِمَيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم في قوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قَالَ: هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يُبَشَّرُ بِهَا الْمُؤْمِنُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، فَمَنْ رَأَى ذَلِكَ فَلْيُخْبِرْ بِهَا» . الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: «هِيَ فِي الدُّنْيَا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى له،

[سورة يونس (10) : الآيات 65 إلى 70]

وَفِي الْآخِرَةِ: الْجَنَّةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالرُّؤْيَا الْحَبِيبَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْمَوْتِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ وَلِمَنْ حَمَلَكَ إِلَى قَبْرِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا مِثْلَ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا الشَّطْرَ الْأَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ بِأَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ، وَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تُقَيَّدْ بتفسير هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُشْرَى فِي الْآيَةِ هِيَ قَوْلُهُ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً «1» أَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ مِقْسَمٍ: أَنَّهَا قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: خَطَبَ الْحَجَّاجُ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَدَّلَ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ أَنْتَ وَلَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، لَا تبديل لكلمات الله. [سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 70] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قَوْلُهُ: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ نَهْيٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الْحُزْنِ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ الْمُتَضَمِّنِ لِلطَّعْنِ عَلَيْهِ، وَتَكْذِيبِهِ، وَالْقَدْحِ فِي دِينِهِ، وَالْمَقْصُودِ: التَّسْلِيَةُ لَهُ وَالتَّبْشِيرُ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ سُبْحَانَهُ الْكَلَامَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلِّلًا لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ النَّهْيِ لِرَسُولِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أَيِ: الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ لَهُ فِي مَمْلَكَتِهِ وَسُلْطَانِهِ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُ فَكَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَيْكَ حَتَّى تَحْزَنَ لِأَقْوَالِهِمُ الْكَاذِبَةِ وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِنَ الْغَلَبَةِ شَيْئًا؟ وَقُرِئَ: يُحْزِنْكَ مِنْ أَحْزَنَهُ، وَقُرِئَ: إِنَّ الْعِزَّةَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى مَعْنَى: لِأَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ، وَلَا يُنَافِي مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جَعْلِ الْعِزَّةِ جَمِيعِهَا لِلَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «3» لِأَنَّ كُلَّ عِزَّةٍ بِاللَّهِ فَهِيَ كُلُّهَا لِلَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «4» إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا «5» . أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَنْ جُمْلَتِهِمْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُعَاصِرُونَ للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَإِذَا كَانُوا فِي مُلْكِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ، فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَا يَأْذَنُ اللَّهُ بِهِ؟ وَغَلَّبَ الْعُقَلَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ لِكَوْنِهِمْ أَشْرَفَ. وَفِي الْآيَةِ نعي على عبّاد البشر والملائكة والجمادات،

_ (1) . الأحزاب: 47. [.....] (2) . فصلت: 30. (3) . المنافقون: 8. (4) . المجادلة: 21. (5) . غافر: 51.

لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا الْمَمْلُوكَ وَتَرَكُوا الْمَالِكَ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا يُوجِبُهُ الْعَقْلُ، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَإِنْ سَمَّوْا مَعْبُودَاتِهِمْ: شُرَكَاءَ لِلَّهِ، فليست شركاء له على الحقية، لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» وما: في: وما يتبع: نافية، وشركاء: مَفْعُولُ يَتَّبِعُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَفْعُولُ يَدْعُونَ مَحْذُوفًا، وَالْأَصْلُ: وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دون الله شُرَكَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا، فَحُذِفَ أَحَدُهُمَا لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ مَفْعُولَ يَدْعُونَ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَتَّبِعُ لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً بِمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ؟ وَيَكُونُ عَلَى هذا الوجه شركاء: منصوبا بيدعون، وَالْكَلَامُ خَارِجٌ مَخْرَجَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا: مَوْصُولَةً مَعْطُوفَةً عَلَى من في السّموات أي لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ مَالِكٌ لِمَعْبُودَاتِهِمْ لِكَوْنِهَا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ فِي السّموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ زَادَ سُبْحَانَهُ فِي تَأْكِيدِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَالدَّفْعِ لِأَقْوَالِهِمْ فَقَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أَيْ: مَا يَتَّبِعُونَ يَقِينًا إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ ظَنًّا، وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَيْ: يُقَدِّرُونَ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ تَقْدِيرًا بَاطِلًا وَكَذِبًا بَحْتًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْعَامِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ طَرَفًا مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ مَعَ الامتنان على عباده ببعض نعمه فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أَيْ: جَعَلَ لِعِبَادِهِ الزَّمَانَ مُنْقَسِمًا إِلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا مُظْلِمٌ، وَهُوَ اللَّيْلُ، لِأَجْلِ يَسْكُنُ الْعِبَادُ فِيهِ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالتَّعَبِ، وَيُرِيحُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْكَدِّ وَالْكَسْبِ وَالْآخَرُ مُبْصِرٌ، لِأَجْلِ يَسْعَوْنَ فِيهِ بِمَا يَعُودُ عَلَى نَفْعِهِمْ وَتَوْفِيرِ مَعَايِشِهِمْ، وَيُحَصِّلُونَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي وَقْتٍ مُضِيءٍ مُنِيرٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ فِيهِ كَبِيرٌ وَلَا حَقِيرٌ، وَجَعْلُهُ سُبْحَانَهُ لِلنَّهَارِ مُبْصِرًا: مَجَازٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُبْصِرٌ صَاحِبُهُ، كَقَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِمٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ إِلَى الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ لَآياتٍ عَجِيبَةً كَثِيرَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أَيْ: يَسْمَعُونَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ التِّنْزِيلِيَّةِ المنبّهة على الآيات التكوينية مما ذكره سُبْحَانَهُ هَاهُنَا مِنْهَا وَمِنْ غَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ، فَعِنْدَ السَّمَاعِ مِنْهُمْ لِذَلِكَ يَتَفَكَّرُونَ وَيَعْتَبِرُونَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَبَاطِيلِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهَا، وَهُوَ زَعْمُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اتَّخَذَ وَلَدًا، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ فنزّه جل وعلا نفسه عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْبَاطِلِ الْبَيِّنِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يُطْلَبُ لِلْحَاجَةِ، وَالْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ لَا حَاجَةَ لَهُ حَتَّى يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ يَقْضِيهَا، وَإِذَا انْتَفَتِ الْحَاجَةُ انْتَفَى الْوَلَدُ، وَأَيْضًا إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الْوَلَدِ مَنْ يَكُونُ بِصَدَدِ الِانْقِرَاضِ لِيَقُومَ الْوَلَدُ مَقَامَهُ، وَالْأَزَلِيُّ الْقَدِيمُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ فِي الْبَقَرَةِ. ثُمَّ بَالَغَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ كَالْبُرْهَانِ، فَقَالَ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ لَهُ وَفِي مُلْكِهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا فِيهِمَا وَلَدًا لَهُ لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْمُلْكِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ. ثُمَّ زَيَّفَ دَعْوَاهُمُ الْبَاطِلَةَ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا بِلَا دَلِيلٍ، فَقَالَ: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي ما عندكم من حجة وبرهان بهذا القول الذي تقولونه، ومِنْ فِي: مِنْ سُلْطانٍ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي بِهذا مُتَعَلِّقٌ إِمَّا بِسُلْطَانٍ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الحجة

_ (1) . الأنبياء: 22.

[سورة يونس (10) : الآيات 71 إلى 74]

والبرهان، أو متعلق ب: ما عِنْدَكُمْ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ. ثُمَّ وَبَّخَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعَاطِلِ عَنِ الدَّلِيلِ الْبَاطِلِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، فَقَالَ: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ مِنَ الْعِلْمِ فِي شَيْءٍ، بَلْ مِنَ الْجَهْلِ الْمَحْضِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ قَوْلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا قَالُوهُ كَذِبٌ، وَأَنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ لَا يُفْلِحُ، فَقَالَ: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ أَيْ: كُلُّ مُفْتَرٍ هَذَا شَأْنُهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ هَؤُلَاءِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَذِكْرُ الْكَذِبِ مَعَ الِافْتِرَاءِ لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ عَلَى ربهم لا يفوزون بمطلب من المطالب. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا الِافْتِرَاءَ وَإِنْ فَازَ صَاحِبُهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَطَالِبِ الْعَاجِلَةِ فَهُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَتَعَقَّبُهُ الْمَوْتُ وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ، فَيُعَذِّبُ الْمُفْتَرِي عَذَابًا مُؤَبَّدًا. فَيَكُونُ مَتَاعٌ: خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ، لِبَيَانِ أَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْمُفْتَرِي بِافْتِرَائِهِ لَيْسَ بِفَائِدَةٍ يُعْتَدُّ بِهَا، بَلْ هُوَ مَتَاعٌ يَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا يَتَعَقَّبُهُ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ الْحَاصِلِ بِأَسْبَابٍ مِنْ جُمْلَتِهَا: الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ التَّقْدِيرَ: لَهُمْ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ عَلَى هَذَا هُوَ الْخَبَرُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: التَّقْدِيرُ: ذَلِكَ مَتَاعٌ، أَوْ هُوَ مَتَاعٌ، فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ عَلَى هَذَا: هُوَ الْمُبْتَدَأَ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحْزُنْكَ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ: وَأَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ مِنَ اللَّهِ فِيمَا يُعَاتِبُهُ: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَيَعْلَمُهُ، فَلَوْ شَاءَ بِعِزَّتِهِ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّهارَ مُبْصِراً قَالَ: مُنِيرًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا يقول: ما عندكم سلطان بهذا. [سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 74] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) لَمَّا بَالَغَ سُبْحَانَهُ فِي تَقْرِيرِ الْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ وَدَفْعِ الشُّبْهَةِ الْمُنْهَارَةِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّسْلِيَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أَيْ: عَلَى الْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ لَكَ الْمُعَارِضِينَ لِمَا جِئْتَ بِهِ بِأَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ نَبَأَ نُوحٍ أَيْ: خَبَرَهُ، وَالنَّبَأُ: هُوَ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ خَطَرٌ وَشَأْنٌ، وَالْمُرَادُ: مَا جَرَى لَهُ مَعَ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ كَمَا فَعَلَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَأَمْثَالُهُمْ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَيْ: وَقْتَ قَالَ لِقَوْمِهِ، والظرف: منصوب بنبإ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، وَاللَّامُ فِي: لِقَوْمِهِ لام التبليغ يَا قَوْمِ إِنْ كانَ

كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي أَيْ: عَظُمَ وَثَقُلَ، وَالْمَقَامُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ، وَبِالضَّمِّ: الْإِقَامَةُ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى الْفَتْحِ، وَكَنَّى بالمقام عن نَفْسِهِ كَمَا يُقَالُ: فَعَلْتُهُ لِمَكَانِ فُلَانٍ، أَيْ: لأجله، ومنه: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ «1» أَيْ: خَافَ رَبَّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَقَامِ الْمُكْثُ، أَيْ: شَقَّ عَلَيْكُمْ مُكْثِي بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَقَامِ: الْقِيَامُ لِأَنَّ الْوَاعِظَ يَقُومُ حَالَ وَعْظِهِ وَالْمَعْنَى: إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ قِيَامِي بِالْوَعْظِ فِي مَوَاطِنِ اجْتِمَاعِكُمْ، وَكَبُرَ عَلَيْكُمْ تَذْكِيرِي لَكُمْ بِآياتِ اللَّهِ التَّكْوِينِيَّةِ وَالتَّنْزِيلِيَّةِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: إِنِّي لَا أُقَابِلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَأْبِي الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ إِحْدَاثَ مَرْتَبَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَنْ مَرَاتِبِ التَّوَكُّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ فَأَجْمِعُوا وَجُمْلَةُ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ اعتراض، كَقَوْلِكَ: إِنْ كُنْتَ أَنْكَرْتَ عَلِيَّ شَيْئًا فَاللَّهُ حَسْبِي. وَمَعْنَى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ اعْتَزِمُوا عَلَيْهِ، مِنْ أَجْمَعَ الْأَمْرَ: إِذَا نَوَاهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَرُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: أَجْمَعَ الشَّيْءَ: أَعَدَّهُ. وَقَالَ مُؤَرَّجٌ السَّدُوسِيُّ: أَجْمَعَ الْأَمْرَ: أَفْصَحُ مِنْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ، وَأَنْشَدَ: يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لَا تَنْفَعُ ... هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَعُ وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: أَجْمَعَ أَمْرَهُ: جعله جميعا بعد ما كَانَ مُتَفَرِّقًا، وَتَفَرُّقُهُ أَنْ تَقُولَ مَرَّةً: أَفْعَلُ كَذَا، وَمَرَّةً: أَفْعَلُ كَذَا، فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ فَقَدْ جَمَعَهُ، أَيْ: جَعَلَهُ جَمِيعًا، فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ صَارَ بِمَعْنَى الْعَزْمِ. وَقَدِ اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَى نَصْبِ شُرَكاءَكُمْ وَقَطْعِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَجْمَعُوا. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ فِي أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ جَمَعَ يَجْمَعُ جَمْعًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ: وَشُرَكَاؤُكُمْ بِالرَّفْعِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَفِي نَصْبِ الشُّرَكَاءِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ بِمَعْنَى وَادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، أَيِ: ادْعُوهُمْ لِنُصْرَتِكُمْ، فَهُوَ عَلَى هَذَا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَعْنَى كما قَالَ الشَّاعِرُ: يَا لَيْتَ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا وَالرُّمْحُ لَا يُتَقَلَّدُ بِهِ، لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ كَالسَّيْفِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى مَعَ شُرَكَائِكُمْ، فَالْوَاوُ عَلَى هَذَا، وَاوُ مَعَ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ اجْمَعُوا بِهَمْزَةِ وَصْلٍ فَالْعَطْفُ ظَاهِرٌ أَيِ: اجْمَعُوا أَمْرَكُمْ وَاجْمَعُوا شُرَكَاءَكُمْ. وَأَمَّا تَوْجِيهُ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، فَعَلَى عَطْفِ الشُّرَكَاءِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي أَجْمِعُوا، وَحَسُنَ هَذَا الْعَطْفُ مَعَ عَدَمِ التَّأْكِيدِ بِمُنْفَصِلٍ كَمَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ طَالَ. قَالَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ بَعِيدَةٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شُرَكَاءَكُمْ مَرْفُوعًا لَرُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ، وَلَيْسَ ذلك موجودا فيه. قال الْمَهْدَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ الشُّرَكَاءُ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَشُرَكَاؤُكُمْ لِيَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى الشُّرَكَاءِ مَعَ كَوْنِ الْأَصْنَامِ لَا تَعْقِلُ: لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ، وَالتَّقْرِيعِ لِمَنْ عَبْدَهَا. وَرُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ: وَادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ بِإِظْهَارِ الْفِعْلِ. قوله ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً الْغُمَّةُ: التَّغْطِيَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ، غُمَّ الْهِلَالُ: إِذَا اسْتَتَرَ أَيْ: لِيَكُنْ أَمْرُكُمْ ظَاهِرًا مُنْكَشِفًا. قَالَ طرفه:

_ (1) . الرحمن: 46.

لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ... نَهَارِي وَلَا لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ هَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ: مَعْنَاهُ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ مُبْهَمًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْغُمَّةَ: ضِيقُ الْأَمْرِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَالْمَعْنَى: لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ بِمُصَاحَبَتِي وَالْمُجَامَلَةِ لِي ضِيقًا شَدِيدًا، بَلِ ادْفَعُوا هَذَا الضِّيقَ وَالشِّدَّةَ بِمَا شِئْتُمْ وَقَدَرْتُمْ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الثَّانِي هُوَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ، وَعَلَى الثَّالِثِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرَهُ. قَوْلُهُ: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِي تُرِيدُونَهُ بِي. وَأَصْلُ اقْضُوا مِنَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ الْإِحْكَامُ. وَالْمَعْنَى: أَحْكِمُوا ذَلِكَ الْأَمْرَ. قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ: هو مثل وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ «1» أَيْ: أَنْهَيْنَاهُ إِلَيْهِ وَأَبْلَغْنَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ: أَيْ لَا تُمْهِلُونِ، بَلْ عَجِّلُوا أَمْرَكُمْ وَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: ثُمَّ امْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُؤَخِّرُونَ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَضَى الْمَيِّتُ: مَضَى. وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَ ثُمَّ أَفْضُوا بِالْفَاءِ وَقَطْعِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: تَوَجَّهُوا، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُثُوقِهِ بِنَصْرِ رَبِّهِ، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِمَا يَتَوَعَّدُهُ بِهِ قَوْمُهُ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ كُلَّ مَا أَتَى بِهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ وَتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ عَنِ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ لِطَمَعٍ دُنْيَوِيٍّ، وَلَا لِغَرَضٍ خَسِيسٍ، فَقَالَ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أَيْ: إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِنُصْحِي لَكُمْ وَتَذْكِيرِي إِيَّاكُمْ، فَمَا سَأَلْتُكُمْ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ تُؤَدُّونَهُ إِلَيَّ حَتَّى تَتَّهِمُونِي فِيمَا جِئْتُ بِهِ، وَالْفَاءُ فِي فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْفَاءُ فِي فَما سَأَلْتُكُمْ جَزَائِيَّةٌ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أَيْ: مَا ثَوَابِي فِي النُّصْحِ وَالتَّذْكِيرِ إِلَّا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ يُثِيبُنِي آمَنْتُمْ أَوْ تَوَلَّيْتُمْ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عُمَرَ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ بِتَحْرِيكِ الْيَاءِ مِنْ أَجْرِيَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالسُّكُونِ. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْقَادِينَ لِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَعْمَالَهُمْ خَالِصَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَأْخُذُونَ عَلَيْهَا أَجْرًا فِي عَاجِلٍ. قَوْلُهُ: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ أَيِ: اسْتَمَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا تَكْذِيبَهُ بعد أن لم يكن، والمراد مَعَهُ مَنْ قَدْ أَجَابَهُ وَصَارَ عَلَى دِينِهِ، وَالْخَلَائِفُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ يَسْكُنُونَ الْأَرْضَ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُهْلَكِينَ بِالْغَرَقِ، وَيَخْلُفُونَهُمْ فِيهَا وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا مِنَ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ لِنُوحٍ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ بِالطُّوفَانِ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَتَهْوِيلٌ عَلَيْهِمْ ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ: بِالْمُعْجِزَاتِ وَبِمَا أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِقَوْمِ كُلِّ نَبِيٍّ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أَيْ: فَمَا أَحْدَثُوا الْإِيمَانَ بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَأَصَرُّوا عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَا صَحَّ وَلَا اسْتَقَامَ لِقَوْمٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ أَنْ يُؤْمِنُوا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ تَكْذِيبِهِمُ الْوَاقِعِ مِنْهُمْ عِنْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ قَوْمٍ مِنَ الْعَالَمِ لَمْ يُؤْمِنُوا عِنْدَ أَنْ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ بِمَا كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِهِ مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بَلْ مُكَذِّبِينَ بِالدِّينِ، وَلَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا وَفِي بِما كَذَّبُوا رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْمِ المذكورين في

_ (1) . الحجر: 66.

[سورة يونس (10) : الآيات 75 إلى 87]

قَوْلِهِ: إِلى قَوْمِهِمْ وَقِيلَ: ضَمِيرُ كَذَّبُوا رَاجِعٌ إِلَى قَوْمِ نُوحٍ، أَيْ: فَمَا كَانَ قَوْمُ الرُّسُلِ لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبَ بِهِ قَوْمُ نُوحٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ فِي بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا عِنْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِسَبَبِ مَا اعْتَادُوهُ مِنْ تَكْذِيبِ الْحَقِّ مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهِمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ: أَيْ فِي عَالَمِ الذَّرِّ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ كَذَّبَ بِقَلْبِهِ، وَإِنْ آمَنُوا ظَاهِرًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ: إِنَّهُ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الطَّبْعِ الْعَظِيمِ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُتَجَاوِزِينَ لِلْحَدِّ الْمَعْهُودِ فِي الْكُفْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْرَجِ فِي قَوْلِهِ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ يَقُولُ: فَأَحْكِمُوا أَمْرَكُمْ وَادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ. أَيْ: فَلْيَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ مَعَكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً قَالَ: لَا يَكْبُرُ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ ثُمَّ اقْضُوا مَا أَنْتُمْ قَاضُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اقْضُوا قَالَ: انْهَضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ يقول: ولا تؤخرون. [سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 87] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) قَوْلُهُ: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْ بَعْدِهِمْ، رَاجِعٌ إِلَى الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ، وَخَصَّ مُوسَى وَهَارُونَ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهِمَا تَحْتَ الرُّسُلِ: لِمَزِيدٍ شَرَفِهِمَا وَخَطَرِ شَأْنِ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَلَأِ: الْأَشْرَافُ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: الْمُعْجِزَاتُ، وَهِيَ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَاسْتَكْبَرُوا عَنْ قَبُولِهَا، وَلَمْ يَتَوَاضَعُوا لَهَا، وَيُذْعِنُوا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَصْدِيقِ مَا جَاءَ بِهَا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ أَيْ: كَانُوا ذَوِي إِجْرَامٍ عِظَامٍ وآثام

كَبِيرَةٍ، فَبِسَبَبٍ ذَلِكَ اجْتَرَءُوا عَلَى رَدِّهَا، لِأَنَّ الذُّنُوبَ تَحُولُ بَيْنَ صَاحِبِهَا وَبَيْنَ إِدْرَاكِ الْحَقِّ وَإِبْصَارِ الصَّوَابِ، قِيلَ: وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا. قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ: فَلَمَّا جَاءَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْمُعْجِزَاتُ، لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، بَلْ حَمَلُوهَا عَلَى السِّحْرِ مُكَابَرَةً مِنْهُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ مُوسَى قَائِلًا: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا قِيلَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ: سِحْرٌ، فَلَا تَقُولُوا ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ إِنْكَارًا آخَرَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ فَقَالَ: أَسِحْرٌ هَذَا فَحَذَفَ قَوْلَهُمُ الْأَوَّلَ اكْتِفَاءً بِالثَّانِي، وَالْمُلْجِئُ إِلَى هَذَا أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفْهِمُوهُ عَنِ السِّحْرِ حَتَّى يَحْكِيَ مَا قَالُوهُ بِقَوْلِهِ: أَسِحْرٌ هَذَا بَلْ هُمْ قَاطِعُونَ بِأَنَّهُ سِحْرٌ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ: أَسِحْرٌ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا قَدَّمْنَا وَقِيلَ: مَعْنَى: أَتَقُولُونَ أَتَعِيبُونَ الْحَقَّ وَتَطْعَنُونَ فِيهِ وَكَانَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُذْعِنُوا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَسِحْرٌ هَذَا؟ مُنْكِرًا لِمَا قَالُوهُ وَقِيلَ: إِنَّ مَفْعُولَ أَتَقُولُونَ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَتَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ، يَعْنِي: قَوْلَهُمْ: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ، ثُمَّ قِيلَ: أَسِحْرٌ هَذَا؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالتَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ أَسِحْرٌ هَذَا مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ جِهَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ بَعْدَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى الْمُسْتَأْنَفَةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابَ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالَ لَهُمْ مُوسَى لَمَّا قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ؟ فَقِيلَ: قَالَ أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ؟ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَالْمَعْنَى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ؟ وَهُوَ أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ السِّحْرِ. ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَقَرَّعَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ فَقَالَ: أَسِحْرٌ هَذَا فَجَاءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنْكَارٍ بَعْدَ إِنْكَارٍ، وَتَوْبِيخٍ بَعْدَ توبيخ، وتجهيل بعد تجهيل، وجملة لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ إِنَّهُ سِحْرٌ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ، فَلَا يَظْفَرُونَ بِمَطْلُوبٍ وَلَا يَفُوزُونَ بِخَيْرٍ، وَلَا يَنْجُونَ مِنْ مَكْرُوهٍ، فَكَيْفَ يَقَعُ فِي هَذَا مَنْ هُوَ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقَدْ أَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ؟ وَجُمْلَةُ قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا مُسْتَأْنَفَةٌ، جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالُوا بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُمْ مُوسَى مَا قَالَ؟ وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ انْقَطَعُوا عَنِ الدَّلِيلِ وَعَجَزُوا عَنْ إِبْرَازِ الحجّة، ولم يجدوا مَا يُجِيبُونَ بِهِ عَمَّا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِمْ، بَلْ لَجَئُوا إِلَى مَا يَلْجَأُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْجَهْلِ والبلادة، وهو الاحتجاج بما كان عليه آبَاؤُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ مَا هُوَ غَرَضُهُمْ، وَغَايَةُ مَطْلَبِهِمْ، وَسَبَبُ مُكَابَرَتِهِمْ لِلْحَقِّ، وَجُحُودِهِمْ لِلْآيَاتِ الْبَيِّنَةِ، وَهُوَ الرِّيَاسَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ الَّتِي خَافُوا عَلَيْهَا وَظَنُّوا أَنَّهَا سَتَذْهَبُ عَنْهُمْ إِنْ آمَنُوا، وَكَمْ بَقِيَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ بِهَذِهِ الذَّرِيعَةِ مِنْ طَوَائِفِ هَذَا العالم في سابق الدهر ولا حقه، فَمِنْهُمْ مَنْ حَبَسَهُ ذَلِكَ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْكُفْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَبَسَهُ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى السُّنَّةِ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَإِلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الرَّأْيِ الْبَحْتِ. يُقَالُ: لَفَتَهُ لَفْتًا: إِذَا صَرَفَهُ عن الشيء ولواه عنه، ومنه قول الشاعر: تلفّت نحو الحيّ حتّى رأيتني ... وَجِعْتُ مِنَ الْإِصْغَاءِ لِيتًا وَأَخْدَعَا أَيْ: تُرِيدُ أَنْ تَصْرِفَنَا عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِبْرِيَاءِ:

الْمُلْكُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: سُمِّيَ الْمُلْكُ: كِبْرِيَاءً، لِأَنَّهُ أَكْبَرُ مَا يُطْلَبُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ: لِأَنَّ الْمَلِكَ يَتَكَبَّرُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُمْ عَلَّلُوا عَدَمَ قَبُولِهِمْ دَعْوَةَ مُوسَى بِأَمْرَيْنِ: التَّمَسُّكِ بِالتَّقْلِيدِ لِلْآبَاءِ، وَالْحِرْصِ عَلَى الرِّيَاسَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَجَابُوا النَّبِيَّ وَصَدَّقُوهُ صَارَتْ مَقَالِيدُ أَمْرِ أُمَّتِهِ إِلَيْهِ وَلَمْ يَبْقَ لِلْمَلِكِ رِئَاسَةٌ تَامَّةٌ، لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لِلنَّاسِ بِالدِّينِ يَرْفَعُ تَدْبِيرَ الْمُلُوكُ لَهُمْ بِالسِّيَاسَاتِ وَالْعَادَاتِ، ثُمَّ قَالُوا: وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ تَصْرِيحًا مِنْهُمْ بِالتَّكْذِيبِ، وَقَطْعًا لِلطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِمْ، وَقَدْ أُفْرِدَ الْخِطَابُ لِمُوسَى فِي قَوْلِهِمْ: أَجِئْتِنَا لِتَلْفِتَنَا، ثُمَّ جَمَعُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَارُونَ فِي الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِمْ: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ أَسْنَدُوا الْمَجِيءَ وَالصَّرْفَ عَنْ طَرِيقِ آبَائِهِمْ إِلَى مُوسَى، لِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ بِالرِّسَالَةِ الْمُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ، وَجَمَعُوا بَيْنَهُمَا فِي الضَّمِيرَيْنِ الْآخَرَيْنِ، لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ شَامِلٌ لَهُمَا فِي زَعْمِهِمْ، وَلِكَوْنِ تَرْكِ الْإِيمَانِ بِمُوسَى يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْإِيمَانِ بِهَارُونَ، وَقَدْ مَرَّتِ الْقِصَّةُ فِي الْأَعْرَافِ. قَوْلُهُ: وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ قَالَ هَكَذَا لَمَّا رَأَى الْيَدَ الْبَيْضَاءَ وَالْعَصَا، لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُمَا مِنَ السِّحْرِ، فَأَمَرَ قَوْمَهُ بِأَنْ يَأْتُوهُ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ، هَكَذَا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: سَحَّارٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: ساحِرٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي الْأَعْرَافِ. وَالسَّحَّارُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ أَيْ: كَثِيرُ السِّحْرِ، كَثِيرُ الْعِلْمِ بِعَمَلِهِ وَأَنْوَاعِهِ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ هَكَذَا: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَأَتَوْا بِهِمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى الْمُقَدَّرِ الْمَحْذُوفِ. قَوْلُهُ: قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ أَيْ: قَالَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعْدَ أَنْ قَالُوا لَهُ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الملقون، أَيِ: اطْرَحُوا عَلَى الْأَرْضِ مَا مَعَكُمْ مِنْ حِبَالِكُمْ وَعِصِيِّكُمْ فَلَمَّا أَلْقَوْا مَا أَلْقَوْهُ مِنْ ذَلِكَ قالَ لَهُمْ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أَيِ: الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ، عَلَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ: السِّحْرُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سِحْرٌ، لَا أَنَّهُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الله. وأجاز الفرّاء نصب السحر بجئتم، وَتَكُونُ مَا شَرْطِيَّةً، وَالشَّرْطُ جِئْتُمْ، وَالْجَزَاءُ: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ على تقدير الفاء فَإِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ وَقِيلَ: إِنَّ السِّحْرَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْرًا، ثُمَّ دَخَلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَلَا يَحْتَاجُ عَلَى هَذَا إِلَى حَذْفِ الْفَاءِ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ: حَذْفُ الْفَاءِ فِي الْمُجَازَاةِ لَا يُجِيزُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ: آلسِّحْرُ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَهْوَ السِّحْرُ؟ فَتَكُونُ مَا على هذه القراء اسْتِفْهَامِيَّةً. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أَيْ: سَيَمْحَقُهُ، فَيَصِيرُ بَاطِلًا بِمَا يُظْهِرُهُ عَلَى يَدَيَّ مِنَ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أَيْ: عَمَلَ هَذَا الْجِنْسِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُفْسِدٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ السِّحْرُ وَالسَّحَرَةُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَالْوَاوُ فِي: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ لِلْعَطْفِ عَلَى سَيُبْطِلُهُ، أَيْ: يُبَيِّنُهُ وَيُوَضِّحُهُ بِكَلِماتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي كُتُبِهِ عَلَى. أَنْبِيَائِهِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، أَوِ الْمُجْرِمُونَ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَالْإِجْرَامُ: الْآثَامُ. قَوْلُهُ فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى مُوسَى، أَيْ: مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ ذَرَارِيِّ

بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ طَائِفَةٌ مِنْ ذَرَارِيِّ فِرْعَوْنَ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى فِرْعَوْنَ، قِيلَ: وَمِنْهُمْ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتُهُ وَمَاشِطَةُ ابْنَتِهِ وَامْرَأَةُ خَازِنِهِ وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ آبَاؤُهُمْ مِنَ الْقِبْطِ وَأُمَّهَاتُهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، رُوِيَ هَذَا عن الفراء. عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الضَّمِيرُ لِفِرْعَوْنَ، وَجُمِعَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَبَّارًا جَمَعُوا ضَمِيرَهُ تَعْظِيمًا لَهُ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ سُمُّوا: بِفِرْعَوْنَ، مِثْلَ ثَمُودَ، فَرَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَى خَوْفٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْفَرَّاءِ. وَمَنْعَ ذَلِكَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا: قَامَتْ هِنْدٌ، وَأَنْتَ تُرِيدُ غُلَامَهَا، وَرُوِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَقَوَّاهُ النَّحَّاسُ: أَنْ يَفْتِنَهُمْ أَيْ: يَصْرِفَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ بِالْعَذَابِ الَّذِي كَانَ يُنْزِلُهُ بِهِمْ، وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَصْدَرِ. وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أَيْ: عَاتٍ مُتَكَبِّرٍ مُتَغَلِّبٍ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ الْمُجَاوَزِينَ لِلْحَدِّ فِي الْكُفْرِ وَمَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَتَنْوِيعِ الْعُقُوبَاتِ. قَوْلُهُ: وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ لِلشَّرْطِ، فَشَرَطَ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ الْإِيمَانَ بِهِ، وَالْإِسْلَامَ: أَيِ الِاسْتِسْلَامَ لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِشَرْطَيْنِ، بَلِ الْمُعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ هُوَ وُجُوبُ التَّوَكُّلِ، وَالْمَشْرُوطُ بِالْإِسْلَامِ وَجُودُهُ وَالْمَعْنَى: أَنْ يُسْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ، أَيْ: يَجْعَلُوهَا لَهُ سَالِمَةً خَالِصَةً لَا حَظَّ لِلشَّيْطَانِ فِيهَا، لِأَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَكُونُ مَعَ التَّخْلِيطِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَنَظِيرُهُ فِي الْكَلَامِ: إِنْ ضَرَبَكَ زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ إِنْ كَانَتْ لَكَ بِهِ قُوَّةٌ فَقالُوا أَيْ: قَوْمُ مُوسَى مُجِيبِينَ لَهُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا ثُمَّ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ فَقَالُوا: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً أَيْ: مَوْضِعَ فِتْنَةٍ لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَالْمَعْنَى: لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيُعَذِّبُونَا حَتَّى يَفْتِنُونَا عَنْ دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لَهُمْ يَفْتِنُونَ بِنَا غَيْرَنَا، فَيَقُولُونَ لَهُمْ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى حَقٍّ لَمَا سُلِّطْنَا عَلَيْهِمْ وَعَذَّبْنَاهُمْ، وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ تَكُونُ الْفِتْنَةُ بِمَعْنَى الْمَفْتُونِ. وَلَمَّا قَدَّمُوا التَّضَرُّعَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَنْ يَصُونَ دِينَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ أَتْبَعُوهُ بِسُؤَالِ عِصْمَةِ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُمُ اهْتِمَامٌ بِأَمْرِ الدِّينِ فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِسَلَامَةِ أَنْفُسِهِمْ. قوله: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً أن هي المفسرة، في الإيحاء معنى: القول: أَنْ تَبَوَّآ: أَيِ اتَّخِذَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا يُقَالُ: بَوَّأْتُ زَيْدًا مَكَانًا، وَبَوَّأْتُ لِزَيْدٍ مَكَانًا، وَالْمُبَوَّأُ: الْمَنْزِلُ الْمَلْزُومُ، وَمِنْهُ: بَوَّأَهُ اللَّهُ مَنْزِلًا: أَيْ أَلْزَمَهُ إِيَّاهُ وَأَسْكَنَهُ فِيهِ، وَمِنْهُ: الْحَدِيثُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: نَحْنُ بَنُو عَدْنَانَ لَيْسَ شَكٌّ ... تَبَوَّأَ الْمَجْدُ بِنَا وَالْمُلْكُ قِيلَ: وَمِصْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ، وَقِيلَ: هِيَ مِصْرُ الْمَعْرُوفَةُ لَا الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أَيْ: مُتَوَجِّهَةً إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالْبُيُوتِ هُنَا الْمَسَاجِدُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبُيُوتِ الَّتِي يَسْكُنُونَ فيها، أمروا بأن يجعلوها متقابلة، وَالْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هِيَ جِهَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ قِبْلَةُ الْيَهُودِ إِلَى الْيَوْمِ وَقِيلَ: جِهَةُ الْكَعْبَةِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ قِبْلَةَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ بُيُوتَهُمْ مُسْتَقْبِلَةً لِلْقِبْلَةِ لِيُصَلُّوا فِيهَا سِرًّا لِئَلَّا يُصِيبَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ مَعَرَّةٌ بِسَبَبِ الصَّلَاةِ، وَمِمَّا

يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أَيِ: الَّتِي أمركم الله بِإِقَامَتِهَا فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ: قِبْلَةُ الصَّلَاةِ إِمَّا فِي الْمَسَاجِدِ، أَوْ فِي الْبُيُوتِ لَا جَعْلَ الْبُيُوتِ مُتَقَابِلَةً، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْخِطَابَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ، ثُمَّ جَعَلَهُ لَهُمَا وَلِقَوْمِهِمَا فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ثُمَّ أَفْرَدَ مُوسَى بِالْخِطَابِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْمَكَانِ مُفَوَّضٌ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ جُعِلَ عَامًّا فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ جُعِلَ خَاصًّا بِمُوسَى لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الرِّسَالَةِ وَهَارُونُ تَابِعٌ لَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِلْبِشَارَةِ وَلِلْمُبَشَّرِ بِهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ لنبينا محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ وَالِاعْتِرَاضِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لِتَلْفِتَنا قَالَ: لِتَلْوِيَنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ قَالَ: لِتَصُدَّنَا عَنْ آلِهَتِنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ قَالَ: الْعَظْمَةُ وَالْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ قَالَ: الذَّرِّيَّةُ: الْقَلِيلُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمْ أَوْلَادُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى، مِنْ طُولِ الزَّمَانِ وَمَاتَ آبَاؤُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الذُّرِّيَّةُ الَّتِي آمَنَتْ لِمُوسَى مِنْ أُنَاسٍ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مِنْهُمُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ وَخَازِنُ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَةُ خَازِنِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي الْفِتَنِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ: لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ: لَوْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ مَا عُذِّبُوا وَلَا سُلِّطْنَا عَلَيْهِمْ فَيُفْتَنُونَ بِنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يُظْهِرَ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْعَدْلِ فَيُفْتَنُونَ بِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ الْآيَةَ، قَالَ ذَلِكَ حِينَ مَنَعَهَمْ فِرْعَوْنُ الصَّلَاةَ، فَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا مَسَاجِدَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَنْ يُوَجَّهُوهَا نَحْوَ الْقِبْلَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ قَالَ: مِصْرُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إِلَّا فِي الْبِيَعِ حَتَّى خَافُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَأُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أُمِرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا فِي بُيُوتِهِمْ مَسَاجِدَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ: الْقِبْلَةُ الْكَعْبَةُ، وَذُكِرَ أَنَّ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ قِبَلَ الْكَعْبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: يقابل بعضها بعضا.

[سورة يونس (10) : الآيات 88 إلى 92]

[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 92] وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) لَمَّا بَالَغَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ البينات، ولم يكن لذلك تأثير في من أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ دَعَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ سَبَبَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَمَسُّكِهِمْ بِالْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، فَقَالَ مُبَيِّنًا لِلسَّبَبِ أَوَّلًا: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَلَأَ هُمُ الْأَشْرَافُ، وَالزِّينَةُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ: مِنْ مَلْبُوسٍ وَمَرْكُوبٍ وَحَلْيَةٍ وَفِرَاشٍ وَسِلَاحٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ كَرَّرَ النِّدَاءَ لِلتَّأْكِيدِ فَقَالَ: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ اللَّامِ الدَّاخِلَةِ على الفعل، فقال الخليل وسيبويه: إنه لَامُ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمُ الضَّلَالَ صَارَ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ لِيُضِلُّوا، فَتَكُونُ اللَّامُ عَلَى هَذَا مُتَعَلِّقَةً بِآتَيْتَ وَقِيلَ: إِنَّهَا لَامُ كَيْ أَيْ: أَعْطَيْتَهُمْ لِكَيْ يُضِلُّوا. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْمَعْنَى أَعْطَيْتَهُمْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَضِلُّوا، فَحُذِفَتْ لَا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «1» . قَالَ النَّحَّاسُ: ظَاهِرُ هَذَا الْجَوَابِ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَحْذِفُ لَا إِلَّا مَعَ أَنْ، فَمَوَّهَ صَاحِبُ هَذَا التَّأْوِيلِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: ابْتَلِهِمْ بِالْهَلَاكِ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذَا: اطْمِسْ وَاشْدُدْ. وَقَدْ أَطَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَوْلَى. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ لِيُضِلُّوا بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ أَيْ: يُوقِعُوا الْإِضْلَالَ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، أَيْ: يَضِلُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: طَمْسُ الشَّيْءِ: إِذْهَابُهُ عَنْ صُورَتِهِ وَالْمَعْنَى: الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَمْحَقَ اللَّهُ أَمْوَالَهُمْ وَيُهْلِكَهَا، وَقُرِئَ: بِضَمِّ الْمِيمِ مِنِ اطْمُسْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أَيِ: اجْعَلْهَا قَاسِيَةً مَطْبُوعَةً لَا تَقْبَلُ الْحَقَّ، وَلَا تَنْشَرِحُ لِلْإِيمَانِ، قَوْلُهُ فَلا يُؤْمِنُوا قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى لِيُضِلُّوا، وَالْمَعْنَى: آتَيْتَهُمُ النِّعَمَ لِيُضِلُّوا وَلَا يُؤْمِنُوا، وَيَكُونُ ما بين المعطوف عَلَيْهِ اعْتِرَاضًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ دُعَاءٌ بِلَفْظِ النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: اللَّهُمَّ فَلَا يُؤْمِنُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: فَلَا يَنْبَسِطْ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ مَا انْزَوَى ... وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، أَيِ: اطْمِسْ وَاشْدُدْ فَلَا يُؤْمِنُوا، فَيَكُونُ مَنْصُوبًا. وروي هذا عن الفرّاء أيضا، ومنه:

_ (1) . النساء: 176.

يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا ... إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أَيْ: لَا يَحْصُلُ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ إِلَّا مَعَ الْمُعَايَنَةِ لِمَا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ إِيمَانُهُمْ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الدُّعَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَقَالَ: إِنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا تَطْلُبُ هِدَايَةَ قَوْمِهِمْ وَإِيمَانَهُمْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِنَبِيٍّ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى قَوْمِهِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا يَأْذَنُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ، وَلِهَذَا لَمَّا أَعْلَمَ اللَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» . قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما جَعَلَ الدَّعْوَةَ هَاهُنَا مُضَافَةً إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ أَضَافَهَا إِلَى مُوسَى وَحْدَهُ، فَقِيلَ: إِنَّ هَارُونَ كَانَ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَاءِ مُوسَى، فَسُمِّيَ هَاهُنَا دَاعِيًا، وَإِنْ كَانَ الدَّاعِي مُوسَى وَحْدَهُ، فَفِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَضَافَ الدُّعَاءَ إِلَى مُوسَى لِكَوْنِهِ الدَّاعِيَ، وَهَاهُنَا أَضَافَهُ إِلَيْهِمَا تَنْزِيلًا لِلْمُؤَمِّنِ مَنْزِلَةَ الدَّاعِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا دَاعِيَيْنِ، وَلَكِنْ أَضَافَ الدُّعَاءَ إِلَى مُوسَى فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ لِأَصَالَتِهِ فِي الرِّسَالَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَهُمَا قَوْلُ مُوسَى رَبَّنَا وَلَمْ يَقُلْ رَبِّ. وقرأ عليّ والسّلمي دعواتكما وقرأ ابن السميقع: دَعْوَاكُمَا وَالِاسْتِقَامَةُ: الثَّبَاتُ عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: أُمِرَا بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى أَمْرِهِمَا، وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، عَلَى دُعَاءِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِلَى الْإِيمَانِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمَا تَأْوِيلُ الْإِجَابَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ أُهْلِكُوا وَقِيلَ مَعْنَى الِاسْتِقَامَةِ: تَرْكُ الِاسْتِعْجَالِ وَلُزُومُ السَّكِينَةِ وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ لِمَا يَقْضِي بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ لِلتَّأْكِيدِ، وَحُرِّكَتْ بِالْكَسْرِ لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ، وَلِكَوْنِهَا أَشْبَهَتْ نُونَ التَّثْنِيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ بِتَخْفِيفِ النُّونِ عَلَى النَّفْيِ لَا عَلَى النَّهْيِ. وَقُرِئَ بِتَخْفِيفِ الْفَوْقِيَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ تَتَّبِعَانِّ. وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ لَهُمَا عَنْ سُلُوكِ طَرِيقَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِعَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي إِجْرَاءِ الْأُمُورِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصَالِحُ تَعْجِيلًا وَتَأْجِيلًا. قَوْلُهُ: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ هُوَ مِنْ جَاوَزَ الْمَكَانَ: إِذَا خَلَّفَهُ وَتَخَطَّاهُ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: جَعَلْنَاهُمْ مُجَاوَزِينَ الْبَحْرَ حَتَّى بَلَغُوا الشَّطَّ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْبَحْرَ يَبَسًا فَمَرُّوا فِيهِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْهُ إِلَى الْبَرِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ سبحانه: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ «2» وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَجَوَّزْنَا وَهُمَا لُغَتَانِ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ يُقَالُ: تَبِعَ وَأَتْبَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ: إِذَا لَحِقَهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ أَتْبَعَهُ بِقَطْعِ الْأَلِفِ: إِذَا لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ، وَاتَّبَعَهُ بِوَصْلِ الْأَلِفِ: إِذَا اتَّبَعَ أَثَرَهُ أَدْرَكَهُ، أَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ. وَكَذَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِنَّ اتَّبَعَهُ بِالْوَصْلِ: اقْتَدَى بِهِ، وَانْتِصَابُ بَغْيًا وَعَدْوًا عَلَى الْحَالِ، وَالْبَغْيُ: الظُّلْمُ، وَالْعَدْوُ: الِاعْتِدَاءُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُمَا عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: لِلْبَغِيِّ وَالْعَدْوِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعُدُوًّا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِثْلَ: عَلَا يَعْلُو عُلُوًّا وَقِيلَ: إِنَّ الْبَغْيَ: طَلَبُ الِاسْتِعْلَاءِ فِي الْقَوْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْعَدْوُ فِي الْفِعْلِ حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ أَيْ: نَالَهُ وَوَصَلَهُ وَأَلْجَمَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى خَرَجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ بِذَلِكَ لَحِقَهُمْ بِجُنُودِهِ، فَفَرَقَ اللَّهُ الْبَحْرَ لِمُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، فمشوا فيها حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَتَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَالْبَحْرُ بَاقٍ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ مُضِيِّ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا تَكَامَلَ دخول جنود فرعون وكادوا أن يخرجوا

_ (1) . نوح: 26. (2) . البقرة: 50.

مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ انْطَبَقَ عَلَيْهِمْ فَغَرِقُوا كَمَا حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ أَيْ: صَدَّقْتُ أَنَّهُ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ بِأَنَّهُ، فَحُذِفَتِ الْبَاءُ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ. وَقُرِئَ بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ الْقَوْلَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: آمَنْتُ، فَقُلْتُ إنه ولم ينفعه هذا الإيمان لأنه وَقَعَ مِنْهُ بَعْدَ إِدْرَاكِ الْغَرَقِ، كُلِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّسَاءِ، وَلَمْ يَقُلِ اللَّعِينُ: آمَنْتُ بِاللَّهِ أَوْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، بَلْ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّهُ بَقِيَ فِيهِ عِرْقٌ مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ. قَوْلُهُ: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيِ: الْمُسْتَسْلِمِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ، الْمُنْقَادِينَ لَهُ الَّذِينَ يُوَحِّدُونَهُ، وَيَنْفُونَ مَا سِوَاهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِمَّا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى آمَنْتُ. قَوْلُهُ: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ هُوَ مَقُولُ قَوْلٍ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى قَالَ آمَنْتُ، أَيْ: فَقِيلَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ الْآنَ؟ وَقَدِ اخْتُلِفَ مَنِ الْقَائِلُ لِفِرْعَوْنَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ؟ فَقِيلَ: هِيَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ جِبْرِيلَ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ مِيكَائِيلَ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ، قَالَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ. وَجُمْلَةُ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ أَتُؤْمِنُ الْآنَ وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ الْإِيمَانِ مِنْهُ عِنْدَ أَنْ أَلْجَمَهُ الْغَرَقُ، وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ عَصَى اللَّهَ مِنْ قَبْلُ، وَالْمَقْصُودُ: التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ لَهُ. وَجُمْلَةُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى عَصَيْتَ دَاخِلَةٌ فِي الْحَالِ، أَيْ: كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ بِضَلَالِكَ عَنِ الْحَقِّ، وَإِضْلَالِكَ لِغَيْرِكَ. قَوْلُهُ: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ قُرِئَ نُنَجِّيكَ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى التَّثْقِيلِ. وَقَرَأَ الْيَزِيدِيُّ: نُنَحِّيكَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ التَّنْحِيَةِ، وَحَكَاهَا عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَعْنَى نُنَجِّيكَ بِالْجِيمِ: نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يُصَدِّقُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ غَرِقَ، وَقَالُوا: هُوَ أَعْظَمُ شَأْنًا مِنْ ذَاكَ، فَأَلْقَاهُ اللَّهُ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى شَاهَدُوهُ وَقِيلَ الْمَعْنَى: نُخْرِجُكَ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ قَوْمُكَ مِنَ الرُّسُوبِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ، وَنَجْعَلُكَ طَافِيًا لِيُشَاهِدُوكَ مَيِّتًا بِالْغَرَقِ، وَمَعْنَى نُنَحِّيكَ بِالْمُهْمَلَةِ: نَطْرَحُكَ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: بِأَبْدَانِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى بِبَدَنِكَ، فَقِيلَ مَعْنَاهُ: بِجَسَدِكَ بَعْدَ سَلْبِ الرُّوحِ مِنْهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: بِدِرْعِكَ، وَالدِّرْعُ يُسَمَّى بَدَنًا، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: تَرَى الْأَبْدَانَ فِيهَا مُسْبَغَاتٍ ... عَلَى الْأَبْطَالِ وَالْيَلَبَ الْحَصِينَا «1» أَرَادَ بِالْأَبْدَانِ الدُّرُوعَ، وَقَالَ عَمْرُو بن معدي كرب: وَمَضَى نِسَاؤُهُمُ بِكُلِّ مَفَاضَةٍ ... جَدْلَاءَ سَابِغَةٍ وَبِالْأَبْدَانِ أَيْ: بِدُرُوعٍ سَابِغَةٍ وَدُرُوعٍ قَصِيرَةٍ وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: أَبْدَانُ، كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: بِدِرْعِكَ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَرَجَّحَ أَنَّ الْبَدَنَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْجَسَدُ. قَوْلُهُ: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً

_ (1) . اليلب: الدروع اليمانية.

هذا تعليل لتنجيته ببدنه، وفي ذلك دليل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ جَسَدَهُ دُونَ قَوْمِهِ إِلَّا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَا سِوَى، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ: الْعَلَامَةُ، أَيْ: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ مِنَ النَّاسِ عَلَامَةً يَعْرِفُونَ بِهَا هَلَاكَكَ، وَأَنَّكَ لَسْتَ كَمَا تَدَّعِي، وَيَنْدَفِعَ عَنْهُمُ الشَّكُّ: فِي كَوْنِكَ قَدْ صِرْتَ مَيِّتًا بِالْغَرَقِ وَقِيلَ الْمُرَادُ لِيَكُونَ طَرْحُكَ عَلَى السَّاحِلِ وَحْدَكَ دُونَ الْمُغْرَقِينَ مَنْ قَوْمِكَ آيَةً مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يَعْتَبِرُ بِهَا النَّاسُ، أَوْ يَعْتَبِرُ بِهَا مَنْ سَيَأْتِي مِنَ الْأُمَمِ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ حَتَّى يَحْذَرُوا مِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ هَذَا الذي بلغ إلى مَا بَلَغَ إِلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ دَهْرًا طَوِيلًا كَانَتْ لَهُ هَذِهِ الْعَاقِبَةُ الْقَبِيحَةُ. وَقُرِئَ: لِمَنْ خَلْفَكَ عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، أَيْ: لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنَ الْقُرُونِ، أَوْ مَنْ خَلَفَكَ فِي الرِّيَاسَةِ، أَوْ فِي السُّكُونِ فِي الْمَسْكَنِ الَّذِي كُنْتَ تَسْكُنُهُ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا الَّتِي تُوجِبُ الِاعْتِبَارَ وَالتَّفَكُّرَ وَتُوقِظُ مِنْ سَنَةِ الْغَفْلَةِ لَغافِلُونَ عَمَّا تُوجِبُهُ الْآيَاتُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلِيَّةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ يَقُولُ: دَمِّرْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِكْهَا وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ قَالَ: اطْبَعْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وَهُوَ الْغَرَقُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: سَأَلَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ قَوْلِهِ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ اللَّهَ طَمَسَ عَلَى أَمْوَالِ فِرْعَوْنَ وَآلِ فِرْعَوْنَ حَتَّى صَارَتْ حِجَارَةً، فَقَالَ عُمَرُ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى آتِيَكَ، فَدَعَا بِكِيسٍ مَخْتُومٍ فَفَكَّهُ، فَإِذَا فِيهِ الْفِضَّةُ مَقْطُوعَةً كَأَنَّهَا الْحِجَارَةُ، وَالدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ حِجَارَةٌ كُلُّهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ تَحَوَّلَتْ حِجَارَةً مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا، قَالَ: فَاسْتَجَابَ لَهُ وَحَالَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ مُوسَى إِذَا دَعَا أَمَّنَ هَارُونُ عَلَى دُعَائِهِ يَقُولُ: آمِينَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَزْعُمُونَ أَنَّ فِرْعَوْنَ مَكَثَ بَعْدَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَاسْتَقِيمَا: فَامْضِيَا لِأَمْرِي، وَهِيَ الِاسْتِقَامَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْعَدْوُ وَالْعُتُوُّ وَالْعُلُوُّ فِي كِتَابِ اللَّهِ: التَّجَبُّرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ آخِرُ أَصْحَابِ مُوسَى وَدَخَلَ آخِرُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ أَنِ انْطَبِقْ عليهم، فخرجت أُصْبُعُ فِرْعَوْنَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، قَالَ جِبْرِيلُ: فَعَرَفْتُ أَنَّ الرَّبَّ رَحِيمٌ وَخِفْتُ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ، فَرَمَسْتُهُ بِجَنَاحِي وَقُلْتُ: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ؟ فَلَمَّا خَرَجَ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ قَالَ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: مَا غَرِقَ فِرْعَوْنُ وَلَا أَصْحَابُهُ، وَلَكِنَّهُمْ فِي جَزَائِرِ الْبَحْرِ يَتَصَيَّدُونَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ أَنِ الْفِظْ فِرْعَوْنَ عُرْيَانًا، فَلَفَظَهُ عُرْيَانًا أَصْلَعَ أُخَيْنِسَ قَصِيرًا فَهُوَ قَوْلُهُ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً لِمَنْ قال: إن فرعون لم

يغرق، وكانت نجاة عبرة لَمْ تَكُنْ نَجَاةَ عَافِيَةٍ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ أَنِ الْفِظْ مَا فِيكَ، فَلَفَظَهُمْ عَلَى السَّاحِلِ، وَكَانَ الْبَحْرُ لَا يَلْفِظُ غَرِيقًا فِي بَطْنِهِ حَتَّى يَأْكُلَهُ السَّمَكُ، فَلَيْسَ يَقْبَلُ الْبَحْرُ غَرِيقًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ فَقَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ! لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ «1» الْبَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ» وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ لِي جِبْرِيلُ: مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا آمَنَ جَعَلْتُ أَحْشُو فَاهُ حَمَأَةً وَأَنَا أَغُطُّهُ خَشْيَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا، وَفِي إِسْنَادِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَبَاقِي رِجَالِهِ ثِقَاتٌ. وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِفَنِّ الرِّوَايَةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَا يَكَادُ يُمَيِّزُ بَيْنَ أَصَحِّ الصَّحِيحِ مِنَ الْحَدِيثِ وَأَكْذَبِ الْكَذِبِ مِنْهُ، كَيْفَ يَتَجَارَى عَلَى الْكَلَامِ فِي أَحَادِيثِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم والحكم بِبُطْلَانِ مَا صَحَّ مِنْهَا، وَيُرْسِلُ لِسَانَهُ وَقَلَمَهُ بِالْجَهْلِ الْبَحْتِ، وَالْقُصُورِ الْفَاضِحِ الَّذِي يَضْحَكُ مِنْهُ كُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُمَارَسَةٍ لِفَنِّ الْحَدِيثِ، فيا مسكين مالك وَلِهَذَا الشَّأْنِ الَّذِي لَسْتَ مِنْهُ فِي شَيْءٍ؟ أَلَا تَسْتُرُ نَفْسَكَ وَتَرْبَعُ عَلَى ضِلَعِكَ، وَتَعْرِفُ بِأَنَّكَ بِهَذَا الْعِلْمِ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ، وَتَشْتَغِلُ بِمَا هُوَ عِلْمُكَ الَّذِي لَا تُجَاوِزُهُ، وَحَاصِلُكَ الَّذِي لَيْسَ لَكَ غَيْرُهُ، وَهُوَ عِلْمُ اللُّغَةِ وَتَوَابِعُهُ مِنَ الْعُلُومِ الْآلِيَّةِ، وَلَقَدْ صَارَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِسَبَبِ مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مِنْهُ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ سُخْرَةً لِلسَّاخِرِينَ وَعِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، فَتَارَةً يَرْوِي فِي كِتَابِهِ الْمَوْضُوعَاتِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهَا مَوْضُوعَاتٌ، وَتَارَةً يَتَعَرَّضُ لِرَدِّ مَا صَحَّ، وَيَجْزِمُ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَالْبُهْتِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَلْتَحِقُ بِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَسَانِيدَ كُلُّهَا أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ أَثْبَاتٌ حُجَجٌ، وَأَدْنَى نَصِيبٍ مِنْ عَقْلٍ يَحْجُرُ صَاحِبَهُ عَنِ التَّكَلُّمِ فِي عِلْمٍ لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَدْرِي بِهِ أَقَلَّ دِرَايَةٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ مِنْ عُلُومِ الِاصْطِلَاحِ الَّتِي يَتَوَاضَعُ عَلَيْهَا طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَيَصْطَلِحُونَ عَلَى أُمُورٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَمَا بَالُكَ بِعِلْمِ السُّنَّةِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَائِلُهُ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَرَاوِيهِ عَنْهُ خَيْرُ الْقُرُونِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ وَكَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِهِ يَثْبُتُ بِهَا شَرْعٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ قَالَ: أَنْجَى اللَّهُ فِرْعَوْنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ من البحر فنظروا إليه بعد ما غَرِقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: بِجَسَدِكَ، قَالَ: كَذَّبَ بَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَوْتِ فِرْعَوْنَ، فَأُلْقِيَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَّى يَرَاهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَحْمَرَ قَصِيرًا كَأَنَّهُ ثَوْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ

_ (1) . قال في القاموس: الحال: الطين الأسود.

[سورة يونس (10) : الآيات 93 إلى 100]

قَالَ: بِدِرْعِكَ، وَكَانَ دِرْعُهُ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ يُلَاقِي فيها الحروب. [سورة يونس (10) : الآيات 93 الى 100] وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قَوْلُهُ: وَلَقَدْ بَوَّأْنا هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا عَدَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَعْنَى بَوَّأْنَا: أَسْكَنَّا، يُقَالُ بَوَّأْتُ زَيْدًا مَنْزِلًا: أَسْكَنْتُهُ فِيهِ، وَالْمُبَوَّأُ: اسْمُ مَكَانٍ أَوْ مَصْدَرٌ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الصِّدْقِ عَلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ قَاعِدَةُ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا مَدَحُوا شَيْئًا أَضَافُوهُ إِلَى الصِّدْقِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْمَنْزِلُ الْمَحْمُودُ الْمُخْتَارُ، قِيلَ: هُوَ أَرْضُ مِصْرَ، وَقِيلَ: الْأُرْدُنُّ وَفِلَسْطِينُ، وَقِيلَ: الشَّامُ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَيِ: الْمُسْتَلَذَّاتِ مِنَ الرِّزْقِ فَمَا اخْتَلَفُوا فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَتَشَعَّبُوا فِيهِ شُعَبًا بعد ما كَانُوا عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُخْتَلِفَةٍ حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أَيْ: لَمْ يَقَعْ مِنْهُمُ الِاخْتِلَافُ في الدين إلا بعد ما جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بِقِرَاءَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَعِلْمِهِمْ بِأَحْكَامِهَا، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ- وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، وَهُوَ: الْقُرْآنُ النَّازِلُ عَلَى نَبِيِّنَا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَاخْتَلَفُوا فِي نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ، وَآمَنَ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَكَفَرَ بِهِ مَنْ كَفَرَ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُخْتَلِفِينَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: هُمُ الْيَهُودُ بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ وَعَلِمُوا بِهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: هُمُ الْيَهُودُ الْمُعَاصِرِينَ لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، وَالْمُحِقَّ بِعَمَلِهِ بِالْحَقِّ، وَالْمُبْطِلَ بِعَمَلِهِ بِالْبَاطِلِ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الشَّكُّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: ضَمُّ الشَّيْءِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ شَكُّ الْجَوْهَرِ فِي الْعُقْدِ، وَالشَّاكُّ كَأَنَّهُ يَضُمُّ إِلَى مَا يَتَوَهَّمُهُ شَيْئًا آخَرَ خِلَافَهُ فَيَتَرَدَّدُ وَيَتَحَيَّرُ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الزَّاهِدُ: سَمِعْتُ الْإِمَامَيْنِ ثَعْلَبًا وَالْمُبَرِّدَ يَقُولَانِ: مَعْنَى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَافِرِ: فَإِنْ كُنْتَ في شك: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ يَعْنِي: مُسْلِمِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِ، وَقَدْ كَانَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ يَعْتَرِفُونَ لِلْيَهُودِ بِالْعِلْمِ وَيُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُرْشِدَ الشَّاكِّينَ فِيمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِنَّهُمْ سَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ حَقًّا، وَأَنَّ هَذَا رَسُولُهُ،

وَأَنَّ التَّوْرَاةَ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ نَاطِقَةٌ بِهِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ مَعَ حُسْنِهِ مُخَالَفَةٌ لِلظَّاهِرِ. وَقَالَ القتبيّ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ غَيْرَ قَاطِعٍ بِتَكْذِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِتَصْدِيقِهِ، بَلْ كَانَ فِي شَكٍّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا غَيْرُهُ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يَلْحَقُهُ الشَّكُّ فِيمَا أَخْبَرْنَاكَ بِهِ فَسَأَلْتَ أَهْلَ الْكِتَابِ لَأَزَالُوا عَنْكَ الشَّكَّ. وَقِيلَ: الشَّكُّ هُوَ ضِيقُ الصَّدْرِ، أَيْ: إِنْ ضَاقَ صَدْرُكَ بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ فَاصْبِرْ وَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ يُخْبِرُوكَ بِصَبْرِ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: فَإِنْ وَقَعَ لَكَ شَكٌّ مَثَلًا، وَخَيَّلَ لَكَ الشَّيْطَانُ خَيَالًا مِنْهُ تَقْدِيرًا، فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ، فَإِنَّهُمْ سَيُخْبِرُونَكَ عَنْ نُبُوَّتِكَ وَمَا نَزَلَ عَلَيْكَ، وَيَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، وَقَدْ زَالَ فِيمَنْ أسلم منهم ما كان مقتضيا للكتم عِنْدَهُمْ. قَوْلُهُ: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ فِي هَذَا بَيَانُ مَا يَقْلَعُ الشَّكَّ مِنْ أَصْلِهِ، وَيَذْهَبُ بِهِ بِجُمْلَتِهِ، وَهُوَ شَهَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ الشَّكُّ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ التَّفَاسِيرِ فِي الشَّاكِّ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ بَاطِلٌ، وَلَا تَشُوبُهُ شُبْهَةٌ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الِامْتِرَاءِ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، بَلْ يَسْتَمِرُّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْيَقِينِ وَانْتِفَاءِ الشَّكِّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّهْيُ لَهُ تَعْرِيضًا لِغَيْرِهِ كَمَا فِي مَوَاطِنَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي نَهْيِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ التَّعْرِيضُ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ وَفِي هَذَا التَّعْرِيضِ مِنَ الزَّجْرِ لِلْمُمْتَرِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ مَا هُوَ أَبْلَغُ وَأَوْقَعُ مِنَ النَّهْيِ لَهُمْ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُنْهَى عَنْهُ مَنْ لَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُمْكِنُ مِنْهُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ قَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ: بِأَنَّهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَيَمُوتُونَ عَلَيْهِ، لَا يَقَعُ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْإِيمَانِ، كَمَنْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةِ وَالتَّنْزِيلِيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَحَقَّ مِنْهُ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَيَقَعُ مِنْهُمْ مَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ بِإِيمَانٍ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِ. قَوْلُهُ: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها لَوْلَا هَذِهِ: هِيَ التَّحْضِيضِيَّةُ الَّتِي بِمَعْنَى هَلَّا، كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذلك ما فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَهَلَّا قَرْيَةٌ وَالْمَعْنَى: فَهَلَّا قَرْيَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا آمَنَتْ إِيمَانًا مُعْتَدًّا بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ قَبْلَ مُعَايَنَةِ عَذَابِهِ، ولم يؤخره كَمَا أَخَّرَهُ فِرْعَوْنُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْقُرَى لِأَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا: وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا إِيمَانًا مُعْتَدًّا بِهِ قَبْلَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ أَوْ عِنْدَ أَوَّلِ الْمُعَايَنَةِ قَبْلَ حُلُولِهِ بِهِمْ كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ وَقَدْ قَالَ بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا آمَنَتْ قَرْيَةٌ مِنَ الْقُرَى الْهَالِكَةِ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَوْجِيهِ الرَّفْعِ: يَكُونُ الْمَعْنَى غَيْرَ قَوْمِ يُونُسَ. وَلَكِنْ حُمِلَتْ «إِلَّا» عَلَيْهَا وَتَعَذَّرَ جَعْلُ الْإِعْرَابِ عَلَيْهَا، فأعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير،

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: خُصَّ قَوْمُ يُونُسَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ بِأَنْ تِيبَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْعَذَابُ، وَإِنَّمَا رَأَوُا الْعَلَامَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْعَذَابِ، وَلَوْ رَأَوْا عَيْنَ الْعَذَابِ لَمَا نَفَعَهُمُ الْإِيمَانُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ. وَالْمُرَادُ بِعَذَابِ الْخِزْيِ: الَّذِي كَشَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي كَانَ قَدْ وَعَدَهُمْ يُونُسُ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَرَوْهُ، أَوِ الَّذِي قَدْ رَأَوْا عَلَامَاتِهِ دُونَ عَيْنِهِ وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أَيْ: بَعْدَ كَشْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ مَتَّعَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى حِينٍ مَعْلُومٍ قَدَّرَهُ لَهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ: أَنَّ الْإِيمَانَ وَضِدَّهُ كِلَاهُمَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، فَقَالَ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ أَحَدٌ جَمِيعاً مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْإِيمَانِ لَا يَتَفَرَّقُونَ فِيهِ وَيَخْتَلِفُونَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَانْتِصَابُ «جَمِيعاً» عَلَى الْحَالِ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: جَاءَ بِقَوْلِهِ: جَمِيعًا، بَعْدَ كُلُّهُمْ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ «1» ولما كان النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ جَمِيعِ النَّاسِ أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ، لِأَنَّ مَشِيئَتَهُ الْجَارِيَةَ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِكَ يا محمد! ولا داخل تَحْتَ قُدْرَتِكَ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَدَفْعٌ لِمَا يَضِيقُ بِهِ صَدْرُهُ مِنْ طَلَبِ صَلَاحِ الْكُلِّ، الَّذِي لَوْ كَانَ، لَمْ يَكُنْ صَلَاحًا مُحَقَّقًا بَلْ يَكُونُ إِلَى الْفَسَادِ أَقْرَبَ، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: مَا صَحَّ وَمَا اسْتَقَامَ لِنَفْسٍ مِنَ الْأَنْفُسِ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَيْ: بِتَسْهِيلِهِ وَتَيْسِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ لِذَلِكَ، فَلَا يَقَعُ غَيْرُ مَا يَشَاؤُهُ كَائِنًا مَا كَانَ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ أَيِ: الْعَذَابَ، أَوِ الْكُفْرَ، أَوِ الْخِذْلَانَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَنَجْعَلُ بِالنُّونِ. وَفِي الرِّجْسِ لُغَتَانِ: ضَمُّ الرَّاءِ، وَكَسْرُهَا، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ لَا يَعْقِلُونَ: هم الكفار الذي لَا يَتَعَقَّلُونَ حُجَجَ اللَّهِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي آيَاتِهِ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ فِيمَا نَصَبَهُ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ قَالَ: بَوَّأَهُمُ اللَّهُ الشَّامَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن الضَّحَّاكِ قَالَ: مَنَازِلَ صِدْقٍ: مِصْرَ وَالشَّامَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ قَالَ: الْعِلْمُ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَأَمْرُهُ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَأَنَّ النَّصَارَى اخْتَلَفُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَهُوَ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَطُولُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ الْآيَةَ، قَالَ: لَمْ يَشُكَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْأَلْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ. وَهُوَ مرسل. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عباس في قوله: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ قَالَ: التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، الَّذِينَ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَآمَنُوا بِهِ، يَقُولُ: سَلْهُمْ إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ بِأَنَّكَ مكتوب عندهم. وأخرج عبد

_ (1) . النحل: 51.

[سورة يونس (10) : الآيات 101 إلى 109]

الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ: حَقَّ عَلَيْهِمْ سَخَطُ اللَّهِ بِمَا عَصَوْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ يَقُولُ: فَمَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْأُمَمِ قَبْلَ قَوْمِ يُونُسَ لَمْ يَنْفَعْ قَرْيَةً كَفَرَتْ ثُمَّ آمَنَتْ حِينَ عَايَنَتِ الْعَذَابَ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، فَاسْتَثْنَى اللَّهُ قَوْمَ يُونُسَ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ كَانُوا بِنِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ فَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَأَخْرَجُوا الْمَوَاشِيَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ بَهِيمَةٍ وَوَلَدِهَا، فَعَجُّوا إِلَى اللَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَلَمَّا عَرَفَ اللَّهُ الصِّدْقَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَالتَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ عَلَى مَا مَضَى مِنْهُمْ كشف عنهم العذاب بعد ما تَدَلَّى عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَذَابِ إِلَّا مِيلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ يُونُسَ دَعَا قَوْمَهُ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يُجِيبُوهُ وَعَدَهُمُ الْعَذَابَ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَأْتِيكُمْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُمْ، وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا وَعَدَتْ قَوْمَهَا الْعَذَابَ خَرَجَتْ، فَلَمَّا أَظَلَّهُمُ الْعَذَابُ خَرَجُوا فَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَوَلَدِهَا، وَبَيْنَ السَّخْلَةِ وَوَلَدِهَا «1» ، وَخَرَجُوا يَعُجُّونَ إِلَى اللَّهِ، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمُ الصِّدْقَ فَتَابَ عَلَيْهِمْ وَصَرَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَقَعَدَ يُونُسُ فِي الطَّرِيقِ يَسْأَلُ عَنِ الْخَبَرِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا فَعَلَ قَوْمُ يُونُسَ؟ فَحَدَّثَهُ بِمَا صَنَعُوا، فَقَالَ: لَا أَرْجِعُ إِلَى قَوْمٍ قَدْ كُذِّبْتُهُمْ، وَانْطَلَقَ مُغَاضِبًا: يَعْنِي مُرَاغِمًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: غَشِيَ قَوْمَ يُونُسَ الْعَذَابُ كَمَا يُغْشَى الْقَبْرُ بِالثَّوْبِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ صَاحِبُهُ. وَمَطَرَتِ السَّمَاءُ دَمًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْعَذَابَ كَانَ هَبَطَ عَلَى قَوْمِ يُونُسَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ إِلَّا قَدْرُ ثُلُثَيْ مِيلٍ، فَلَمَّا دَعَوْا كَشَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْجَلْدِ قَالَ: لَمَّا غَشِيَ قَوْمَ يُونُسَ الْعَذَابُ مَشَوْا إِلَى شَيْخٍ مِنْ بَقِيَّةِ عُلَمَائِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: مَا تَرَى؟ قَالَ: قُولُوا يَا حَيُّ حِينَ لَا حَيَّ، وَيَا حَيُّ مُحْيِيَ الْمَوْتَى، وَيَا حَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَقَالُوا فَكُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ قَالَ: السُّخْطَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الرِّجْسُ: الشَّيْطَانُ، وَالرِّجْسُ: الْعَذَابُ. [سورة يونس (10) : الآيات 101 الى 109] قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)

_ (1) . هكذا وردت العبارة. والأولى أن يقول: بين السخلة ووالدتها. [.....]

قَوْلُهُ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، أَمَرَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّظَرِ: التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ تَفَكَّرُوا وَاعْتَبِرُوا بِمَا في السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّانِعِ، وَوَحْدَتِهِ، وكمال قدرته. وماذا مبتدأ، وخبره في السّموات وَالْأَرْضِ. أَوِ: الْمُبْتَدَأُ مَا، وَذَا: بِمَعْنَى الَّذِي، وفي السموات وَالْأَرْضِ: صِلَتُهُ، وَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ: خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: أيّ شيء الذي في السموات وَالْأَرْضِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ التَّفَكُّرَ وَالتَّدَبُّرَ فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ لَا يَنْفَعُ فِي حَقِّ مَنِ اسْتَحْكَمَتْ شَقَاوَتُهُ فَقَالَ: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ أَيْ: مَا تَنْفَعُ، عَلَى أَنَّ مَا نَافِيَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَنْفَعُ؟ وَالْآيَاتُ هِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالنُّذُرُ جَمْعُ نَذِيرٍ، وَهُمُ الرُّسُلُ أَوْ جَمْعُ إِنْذَارٍ وَهُوَ الْمَصْدَرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ هَكَذَا لَا يُجْدِي فِيهِ شَيْءٌ، وَلَا يَدْفَعُهُ عَنِ الْكُفْرِ دَافِعٌ، قَوْلُهُ: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: فَهَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُعَاصِرُونَ لِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَّا مِثْلَ وَقَائِعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ؟ فَقَدْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ يَتَوَعَّدُونَ كُفَّارَ زَمَانِهِمْ بِأَيَّامٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ وَيُصَمِّمُونَ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى يُنْزِلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَذَابَهُ وَيُحِلَّ بِهِمُ انْتِقَامَهُ، ثُمَّ قَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ لَكَ فَانْتَظِرُوا أَيْ: تَرَبَّصُوا لِوَعْدِ رَبِّكُمْ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ لِوَعْدِ رَبِّي، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ بَالِغٌ بِأَنَّهُ سَيَنْزِلُ بِهَؤُلَاءِ مَا نَزَلَ بِأُولَئِكَ مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَهْلَكْنَا الْأُمَمَ ثُمَّ نَجَّيْنَا رُسُلَنَا الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ ثُمَّ نُنَجِّي مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ كَذَلِكَ أَيْضًا فِي: حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ. وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، أَنْجَى، يُنْجِي، إِنْجَاءً، وَنَجَّى، يُنَجِّي، تَنْجِيَةً بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعْطُوفٌ عَلَى رُسُلِنَا، أَيْ: نَجَّيْنَاهُمْ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ تَهْوِيلًا لِأَمْرِهَا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا، أَوْ إِنْجَاءً مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءِ حَقًّا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَذَابِنَا لِلْكُفَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ: الْجِنْسُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ، أَوْ يَكُونُ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، لِأَنَّ الرُّسُلَ دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ بِالْأَوْلَى. قَوْلُهُ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُظْهِرَ التَّبَايُنَ بَيْنَ طَرِيقَتِهِ وَطَرِيقَةِ الْمُشْرِكِينَ مُخَاطِبًا لِجَمِيعِ النَّاسِ، أَوْ لِلْكُفَّارِ مِنْهُمْ، أَوْ لِأَهْلِ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينَيِ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَمْ تَعْلَمُوا بِحَقِيقَتِهِ وَلَا عَرَفْتُمْ صِحَّتَهُ، وَأَنَّهُ الدِّينُ

الْحَقُّ الَّذِي لَا دِينَ غَيْرُهُ، فَاعْلَمُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ أَدْيَانِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أي: خصّه بِالْعِبَادَةِ لَا أَعْبُدُ غَيْرَهُ مِنْ مَعْبُودَاتِكُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا، وَخَصَّ صِفَةَ الْمُتَوَفِّي مِنْ بَيْنِ الصِّفَاتِ: لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّهْدِيدِ لَهُمْ أَيْ: أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ فَيَفْعَلُ بِكُمْ مَا يَفْعَلُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَلِكَوْنِهِ يَدُلُّ عَلَى الْخَلْقِ: أَوَّلًا، وَعَلَى الْإِعَادَةِ: ثَانِيًا، وَلِكَوْنِهِ أَشَدَّ الْأَحْوَالِ مَهَابَةً فِي الْقُلُوبِ، وَلِكَوْنِهِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِهْلَاكِ وَالْوَقَائِعِ النَّازِلَةِ بِالْكُفَّارِ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي وَعَدَنِي بِإِهْلَاكِكُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِيمَانِ فَقَالَ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: بِأَنْ أَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَأَخْلَصَ لَهُ الدِّينَ، وَجُمْلَةُ: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْمَعْطُوفِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِنْ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْخَبَرِيَّةِ وَالْإِنْشَائِيَّةِ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْإِنْشَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ: كُنْ مُؤْمِنًا ثُمَّ أَقِمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي الدِّينِ وَالثَّبَاتِ فِيهِ، وَعَدَمِ التَّزَلْزُلِ عَنْهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَخَصَّ الْوَجْهَ: لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، أَوْ أَمَرَهُ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَدَمِ التَّحَوُّلِ عَنْهَا. وَحَنِيفًا: حَالٌ مِنَ الدِّينِ، أَوْ مِنَ الْوَجْهِ، أَيْ: مَائِلًا عَنْ كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ أُكِّدَ الْأَمْرُ الْمُتَقَدِّمُ لِلنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ فَقَالَ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَقِمْ، وَهُوَ مِنْ باب التعريض لغيره صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ مَعْطُوفٌ عَلَى قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الْأَمْرِ، وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى: وَلا تَكُونَنَّ أَيْ: لَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ بِشَيْءٍ مِنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ إِنْ دَعَوْتَهُ، وَدُعَاءُ مَنْ كَانَ هَكَذَا لَا يَجْلِبُ نَفْعًا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ضُرٍّ، ضَائِعٍ لَا يَفْعَلُهُ عَاقِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ غَيْرُهُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا؟ فَإِنَّ الْعُدُولَ عَنْ دُعَاءِ الْقَادِرِ إِلَى دُعَاءِ غَيْرِ الْقَادِرِ أَقْبَحُ وَأَقْبَحُ فَإِنْ فَعَلْتَ أَيْ: فَإِنْ دَعَوْتَ، وَلَكِنَّهُ كَنَّى عَنِ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ هَذَا جَزَاءُ الشَّرْطِ أَيْ: فَإِنْ دَعَوْتَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنَّكَ فِي عِدَادِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ التَّعْرِيضُ بِغَيْرِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَجُمْلَةُ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ إِلَى آخِرِهَا مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ، فَإِنْ أَنْزَلَ بِعَبْدِهِ ضَرًّا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَكْشِفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ، بَلْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِكَشْفِهِ كَمَا اخْتَصَّ بِإِنْزَالِهِ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ أَيِّ خَيْرٍ كَانَ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَدْفَعَهُ عنك، ويحول بينك وبنيه كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَعَبَّرَ بِالْفَضْلِ مَكَانَ الْخَيْرِ لِلْإِرْشَادِ إِلَى أَنَّهُ يَتَفَضَّلُ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا لا يستحقون بِأَعْمَالِهِمْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ هُوَ مِنَ الْقَلْبِ، وَأَصْلُهُ وَإِنْ يُرِدْ بِكَ الْخَيْرَ، وَلَكِنْ لَمَّا تَعَلَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ جَازَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: وَفِي تَخْصِيصِ الْإِرَادَةِ بِجَانِبِ الْخَيْرِ، وَالْمَسِّ بِجَانِبِ الشَّرِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ يَصْدُرُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ بِالذَّاتِ، وَالشَّرَّ بِالْعَرَضِ. قُلْتُ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ فَإِنَّ الْمَسَّ هُوَ أَمْرٌ وَرَاءَ الْإِرَادَةِ فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لَهَا، وَالضَّمِيرُ فِي يُصِيبُ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى فَضْلِهِ، أَيْ: يُصِيبُ بِفَضْلِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَجُمْلَةُ: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَذْيِيلِيَّةٌ. ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ

بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَقَالَ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أَيِ: الْقُرْآنُ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أَيْ: مَنْفَعَةُ اهْتِدَائِهِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَضَرَرُ كُفْرِهِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا غَرَضٌ يَعُودُ إِلَيْهِ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أَيْ: بِحَفِيظٍ يَحْفَظُ أُمُورَكُمْ وَتُوكَلُ إِلَيْهِ، إِنَّمَا أَنَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَّبِعَ ما أوحاه إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي يُشَرِّعُهَا اللَّهُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ، وَمَا يُلَاقِيهِ مِنْ مَشَاقِّ التَّبْلِيغِ، وَمَا يُعَانِيهِ مِنْ تَلَوُّنِ أَخْلَاقِ الْمُشْرِكِينَ وَتَعَجْرُفِهِمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ الصَّبْرَ مُمْتَدًّا إِلَى غَايَةٍ هِيَ قَوْلُهُ: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ أَيْ: يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ بِعَذَابِهِمْ بِالنَّارِ وَهُمْ يشاهدونه صلّى الله عليه وسلّم، هو وأمته، والمتبعون له، المؤمنون به، والعاملون بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، الْمُنْتَهُونَ عَمَّا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، يَتَقَلَّبُونَ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّذِي لَا يَنْفَدُ، وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ، وَلَا يُوقَفُ عَلَى أَدْنَى مَزَايَاهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ يَقُولُ: عِنْدَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ نَسَخَتْ قوله: حكمة بالغة فما تغني النّذر «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قَالَ: وَقَائِعُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبِيعِ فِي الْآيَةِ قَالَ: خَوَّفَهُمْ عَذَابَهُ وَنِقْمَتَهُ وَعُقُوبَتَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ نَجَّى اللَّهُ رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، فَقَالَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يَقُولُ: بِعَافِيَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَامِرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ اكْتَفَيْتُ بِهِنَّ عَنْ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ: أَوَّلُهُنَّ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ، وَالثَّانِيَةُ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ «2» ، وَالثَّالِثَةُ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «3» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ قَالَ: هُوَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ قَالَ: هَذَا مَنْسُوخٌ، أمره بجهادهم والغلظة عليهم.

_ (1) . القمر: 5. (2) . فاطر: 2. (3) . هود: 6.

سورة هود

سُورَةُ هُودٍ هِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَجَابِرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا آيَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ هُودٍ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَءُوا هُودَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ، فَقَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» . وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَجِلَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ، قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْحَاقَّةُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ عَجِلَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ، فَقَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا مِنَ الْمُفَصَّلِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ شِبْتَ، قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ، قَالَ: أَجَلْ شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» . قَالَ عَطَاءُ: وَأَخَوَاتُهَا: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ، قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا: الْوَاقِعَةُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا: الْوَاقِعَةُ، وَالْحَاقَّةُ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» . وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا شَيَّبَكَ؟ قَالَ: هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ» . وَفِي إِسْنَادِهِ عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ شِبْتَ، قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَأَخَوَاتُهَا» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَرَاكَ قَدْ شِبْتَ، قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: قَدْ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ، قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا مِنَ الْمُفَصَّلِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

[سورة هود (11) : الآيات 1 إلى 8]

«شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا وَمَا فُعِلَ بِالْأُمَمِ قَبْلُ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) قَوْلُهُ: الر إِنْ كَانَ مَسْرُودًا عَلَى سَبِيلِ التَّعْدِيدِ كَمَا فِي سَائِرِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ فَلَا مَحَلَّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلسُّورَةِ فَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَوْ خبر مبتدأ محذوف، وكِتابٌ يَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا كِتَابٌ: وَكَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الر لَا مَحَلَّ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الر فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ نَحْوَ: اذْكُرْ، أَوِ اقْرَأْ، فَيَكُونَ كِتَابٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْإِشَارَةُ فِي الْمُبْتَدَأِ الْمُقَدَّرِ إِمَّا إِلَى بَعْضِ الْقُرْآنِ أَوْ إِلَى مَجْمُوعِ الْقُرْآنِ، وَمَعْنَى: أُحْكِمَتْ آياتُهُ صَارَتْ مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً لَا نَقْصَ فِيهَا وَلَا نَقْضَ لَهَا كَالْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهَا لَمْ تُنْسَخْ بِخِلَافِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ لِلْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ، وَهُوَ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، ثُمَّ فُصِّلَتْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَقِيلَ: أَحْكَمَهَا اللَّهُ مِنَ الْبَاطِلِ ثُمَّ فَصَّلَهَا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَقِيلَ: أُحْكِمَتْ جُمْلَتُهُ، ثُمَّ فَصِّلَتْ آيَاتُهُ وَقِيلَ: جُمِعَتْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ فُصِّلَتْ بِالْوَحْيِ وَقِيلَ: أُيِّدَتْ بِالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقِيلَ: مَعْنَى إِحْكَامِهَا: أَنْ لَا فَسَادَ فِيهَا، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ أَحْكَمْتُ الدَّابَّةَ: إِذَا وَضَعْتَ عليها الحكمة لتمنعها من الجماح، وثُمَّ فُصِّلَتْ مَعْطُوفٌ عَلَى أُحْكِمَتْ، وَمَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّرَاخِي الْمُسْتَفَادُ مِنْ ثُمَّ إِمَّا زَمَانِيٌّ إِنْ فُسِّرَ التَّفْصِيلُ بِالتَّنْجِيمِ عَلَى حَسَبِ الْمَصَالِحِ، وَإِمَّا رُتْبِيٌّ إِنْ فُسِّرَ بِغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَالْجُمَلُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِكِتَابٍ، أو خبر لِلْمُبْتَدَأِ، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ لَفٌّ وَنَشْرٌ، لِأَنَّ المعنى: أحكمها حكيم وفصلها خبر عالم بمواقع الأمور. قوله: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مَفْعُولٌ لَهُ حُذِفَ مِنْهُ اللَّامُ، كَذَا: فِي الْكَشَّافِ، وَفِيهِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ لِفَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ، وَقِيلَ: أَنْ، هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِمَا فِي التَّفْصِيلِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ وَقِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، مَحْكِيًّا عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ أُحْكِمَتْ بِأَنْ

لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُحْكِمَتْ ثُمَّ فُصِّلَتْ لِئَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، ثُمَّ أخبرهم رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ فَقَالَ: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أَيْ: يُنْذِرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ مِنْ عَذَابِهِ لِمَنْ عَصَاهُ، وَيُبَشِّرُهُمْ بِالْجَنَّةِ وَالرِّضْوَانِ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: إِنَّنِي لَكُمْ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَقَوْلِهِ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ. قَوْلُهُ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ معطوف على ألا تَعْبُدُوا، وَالْكَلَامُ فِي: أَنْ، هَذِهِ كَالْكَلَامِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْتَغْفِرُوا، وَقَدَّمَ الْإِرْشَادَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ عَلَى التَّوْبَةِ: لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَيْهَا وَقِيلَ: إِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ مُتَمِّمَاتِ الِاسْتِغْفَارِ وَقِيلَ: مَعْنَى اسْتَغْفِرُوا: تُوبُوا، وَمَعْنَى تُوبُوا: أَخْلِصُوا التَّوْبَةَ وَاسْتَقِيمُوا عَلَيْهَا وَقِيلَ: اسْتَغْفِرُوا مِنْ سَالِفِ الذُّنُوبِ ثُمَّ تُوبُوا مِنْ لَاحِقِهَا وَقِيلَ: اسْتَغْفِرُوا مِنَ الشِّرْكِ ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: ثُمَّ: هَاهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: وَتُوبُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ هُوَ التَّوْبَةُ، وَالتَّوْبَةُ هِيَ الِاسْتِغْفَارُ وَقِيلَ: إِنَّمَا قُدِّمُ ذِكْرُ الِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ، وَالتَّوْبَةُ هِيَ السَّبَبُ إِلَيْهَا، وَمَا كَانَ آخِرًا فِي الْحُصُولِ كَانَ أَوَّلًا فِي الطَّلَبِ وَقِيلَ: اسْتَغْفِرُوا فِي الصَّغَائِرِ وَتُوبُوا إِلَيْهِ فِي الْكَبَائِرِ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً أَصْلُ الْإِمْتَاعِ: الْإِطَالَةُ، وَمِنْهُ أمتع الله بك فمعنى الآية: بطول نَفْعَكُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَنَافِعَ حَسَنَةٍ مَرْضِيَّةٍ مِنْ سَعَةِ الرِّزْقِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِلَى وَقْتٍ مُقَدَّرٍ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ الْمَوْتُ وَقِيلَ: الْقِيَامَةُ وَقِيلَ: دُخُولُ الْجَنَّةِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أَيْ: يُعْطِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فِي الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ فَضْلَهُ: أَيْ: جَزَاءَ فَضْلِهِ، إِمَّا فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَالضَّمِيرُ فِي فَضْلِهِ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ ذِي فَضْلٍ وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي كُلَّ مَنْ فُضِّلَتْ حَسَنَاتُهُ فَضْلَهُ الَّذِي يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ فَقَالَ: وَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: تَتَوَلَّوْا وَتُعْرِضُوا عَنِ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَوَصَفَهُ بِالْكِبَرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَقِيلَ: الْيَوْمُ الْكَبِيرُ: يَوْمُ بَدْرٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عَذَابَ الْيَوْمِ الْكَبِيرِ بِقَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ أَيْ: رُجُوعُكُمْ إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ الْبَعْثِ، ثُمَّ الْجَزَاءِ، لَا إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: عَذَابُكُمْ عَلَى عَدَمِ الِامْتِثَالِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ هَذَا الْإِنْذَارَ، وَالتَّحْذِيرَ، وَالتَّوَعُّدَ لَمْ يَنْجَعْ فِيهِمْ، وَلَا لَانَتْ لَهُ قُلُوبُهُمْ، بَلْ هُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْعِنَادِ، مُصَمِّمُونَ عَلَى الْكُفْرِ، فَقَالَ مُصَدِّرًا لِهَذَا الْإِخْبَارِ بِكَلِمَةِ التَّنْبِيهِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ الْعُقَلَاءُ وَيَفْهَمُوهُ: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يُقَالُ: ثَنَى صَدْرَهُ عَنِ الشَّيْءِ: إِذَا ازْوَرَّ عَنْهُ وَانْحَرَفَ مِنْهُ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ لِأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الشَّيْءِ ثَنَى عَنْهُ صَدْرَهُ وَطَوَى عَنْهُ كَشْحَهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَعْطِفُونَ صُدُورَهُمْ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِخْفَاءِ لِمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ كَمَا كَانَ دَأْبُ الْمُنَافِقِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَيْ: لِيَسْتَخْفُوا مِنَ اللَّهِ فَلَا يُطْلِعُ عَلَيْهِ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَوْ: لِيَسْتَخْفُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَرَّرَ كَلِمَةَ التَّنْبِيهِ مُبَيِّنًا لِلْوَقْتِ الَّذِي يَثْنُونَ فِيهِ صُدُورَهُمْ فَقَالَ: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ

أَيْ: يَسْتَخْفُونَ فِي وَقْتِ اسْتِغْشَاءِ الثِّيَابِ، وَهُوَ التَّغَطِّي بِهَا، وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا أَغْلَقْنَا أَبْوَابَنَا، وَاسْتَغْشَيْنَا ثِيَابَنَا وَثَنَيْنَا صُدُورَنَا عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ، فَمَنْ يَعْلَمُ بِنَا؟ وَقِيلَ مَعْنَى: حِينَ يَسْتَغْشُونَ: حِينَ يَأْوُونَ إِلَى فِرَاشِهِمْ وَيَتَدَثَّرُونَ بِثِيَابِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ كَانَ إِذَا مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَنَى صَدْرَهُ، وَوَلَّى ظَهْرَهُ، وَاسْتَغْشَى ثِيَابَهُ، لِئَلَّا يَسْمَعَ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجُمْلَةُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ، لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الِاسْتِخْفَاءِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ فِي ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَمَا يُظْهِرُونَهُ، فَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ، وَالسِّرُّ وَالْجَهْرُ سِيَّانِ، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا وَتَقْرِيرٌ لَهُ، وَذَاتُ الصُّدُورِ: هِيَ الضَّمَائِرُ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الصُّدُورُ وَقِيلَ: هِيَ الْقُلُوبُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ الضَّمَائِرِ، أَوْ عَلِيمٌ بِالْقُلُوبِ وَأَحْوَالِهَا فِي الْإِسْرَارِ وَالْإِظْهَارِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ أَكَّدَ كَوْنَهُ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ بِمَا فِيهِ غَايَةُ الِامْتِنَانِ، وَنِهَايَةُ الْإِحْسَانِ، فَقَالَ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها أَيْ: الرِّزْقُ الَّذِي تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْغِذَاءِ اللَّائِقِ بِالْحَيَوَانِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ كَمَا تُشْعِرُ بِهِ كَلِمَةُ عَلَى اعْتِبَارًا بِسَبْقِ الْوَعْدِ بِهِ مِنْهُ، وَ «مِنْ» زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَوَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ، أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ لَا يَغْفُلُ عَنْ كُلِّ حَيَوَانٍ بِاعْتِبَارِ مَا قَسَمَهُ لَهُ مِنَ الرِّزْقِ، فَكَيْفَ يَغْفُلُ عَنْ أَحْوَالِهِ، وَأَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ! وَالدَّابَّةُ: كُلُّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها أَيْ: مَحَلَّ اسْتِقْرَارِهَا فِي الْأَرْضِ أَوْ مَحَلَّ قَرَارِهَا فِي الْأَصْلَابِ وَمُسْتَوْدَعَها مَوْضِعَهَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا كَالْبَيْضَةِ وَنَحْوِهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُسْتَقَرُّهَا: حَيْثُ تَأْوِي إِلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَمُسْتَوْدَعُهَا مَوْضِعُهَا الَّذِي تَمُوتُ فِيهِ، وَقَدْ مَرَّ تَمَامُ الْأَقْوَالِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَوَجْهُ تَقَدُّمِ الْمُسْتَقَرِّ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الأوّل فلعل وَجَّهَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ أَنْسَبُ بِاعْتِبَارِ مَا هِيَ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهَا دَابَّةً. وَالْمَعْنَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا يَرْزُقُهَا اللَّهُ حَيْثُ كَانَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا بَعْدَ كَوْنِهَا دَابَّةً وَقَبْلَ كَوْنِهَا دَابَّةً، وَذَلِكَ حَيْثُ تَكُونُ فِي الرَّحِمِ وَنَحْوِهُ ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي: كل من ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الدَّوَابِّ، وَمُسْتَقَرِّهَا، وَمُسْتَوْدَعِهَا، وَرِزْقِهَا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، أَيْ: مُثْبَتٌ فِيهِ. ثُمَّ أَكَّدَ دَلَائِلَ قُدْرَتِهِ بِالتَّعَرُّضِ لذكر خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَكَيْفَ كَانَ الْحَالُ قَبْلَ خَلْقِهَا فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي الْأَعْرَافِ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ الْأَوْقَاتُ، أَيْ: فِي سِتَّةِ أَوْقَاتٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ «1» وَقِيلَ: مِقْدَارُ سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ هُنَا: الْأَيَّامَ الْمَعْرُوفَةَ، وَهِيَ الْمُقَابِلَةُ لِلَّيَالِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ لَا أَرْضٌ وَلَا سَمَاءٌ، وَلَيْسَ الْيَوْمُ إِلَّا عِبَارَةً عَنْ مُدَّةِ كَوْنِ الشَّمْسِ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَكَانَ خلق السموات فِي يَوْمَيْنِ، وَالْأَرَضِينَ فِي يَوْمَيْنِ، وَمَا عَلَيْهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْجَمَادِ فِي يَوْمَيْنِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي حم السَّجْدَةِ. قَوْلُهُ: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أَيْ: كَانَ قَبْلَ خَلْقِهِمَا عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَفِيهِ بَيَانُ تَقَدُّمِ خَلْقِ العرش والماء على السموات وَالْأَرَضِينَ. قَوْلُهُ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَقَ، أَيْ: خَلَقَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ لِيَبْتَلِيَ عِبَادَهُ بِالِاعْتِبَارِ، وَالتَّفَكُّرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وعلى البعث والجزاء، أيهم أحسن عملا فيما أمر به ونهي عنه، فيجازي

_ (1) . الأنفال: 16.

المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويوفر الجزاء لمن كان أَحْسَنُ عَمَلًا مِنْ غَيْرِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ الِاعْتِقَادُ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَحْسَنِ عَمَلًا: الْأَتَمُّ عَقْلًا، وَقِيلَ: الْأَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: الْأَكْثَرُ شُكْرًا، وَقِيلَ: الْأَتْقَى لِلَّهِ. قَوْلُهُ: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الِابْتِلَاءُ يَتَضَمَّنُ حَدِيثَ الْبَعْثِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِهِ، وَالْمَعْنَى: لَئِنْ قُلْتَ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَا تُوجِبُهُ قَضِيَّةُ الِابْتِلَاءِ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ فيجازى المحسن بإحسانه والمسيئ بِإِسَاءَتِهِ، لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّاسِ: إِنْ هَذَا الَّذِي تَقُولُهُ يَا مُحَمَّدُ: إِلَّا بَاطِلٌ كَبُطْلَانِ السِّحْرَ وَخُدَعٌ كَخُدَعِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِهَذَا: إِلَى الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْبَعْثِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: إِنْ هَذَا إِلَّا سَاحِرٌ يَعْنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُسِرَتْ إِنَّ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْقَوْلِ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: الْفَتْحَ، عَلَى تَضْمِينِ: قُلْتَ، مَعْنَى ذَكَرْتَ، أَوْ عَلَى أَنَّ بِمَعْنَى عَلَّ: أَيْ وَلَئِنْ قُلْتَ لَعَلَّكُمْ مَبْعُوثُونَ، عَلَى أَنَّ الرَّجَاءَ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ: تَوَقَّعُوا ذَلِكَ وَلَا تَبُتُّوا الْقَوْلَ بِإِنْكَارِهِ وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ أَيْ: الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وَقِيلَ: عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا بَعْدَهُ، وَقِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أَيْ: إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْأَيَّامِ قَلِيلَةٍ، لِأَنَّ مَا يَحْصُرُهُ الْعَدُّ قَلِيلٌ، وَالْأُمَّةُ اشْتِقَاقُهَا مِنَ الْأَمِّ: وَهُوَ الْقَصْدُ، وَأَرَادَ بِهَا الْوَقْتَ الْمَقْصُودَ لِإِيقَاعِ الْعَذَابِ وَقِيلَ: هِيَ فِي الْأَصْلِ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْحِينُ: بِاسْمِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ، كَقَوْلِكَ: كُنْتُ عِنْدَ فُلَانٍ صَلَاةَ الْعَصْرِ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْحِينِ، فَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا إِلَى حِينِ تَنْقَضِي أُمَّةٌ مَعْدُودَةٌ مِنَ النَّاسِ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُهُ مِنَ النُّزُولِ؟ اسْتِعْجَالًا لَهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ أَيْ: لَيْسَ مَحْبُوسًا عَنْهُمْ، بَلْ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا محالة، ويوم: منصوب بمصروفا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ: أَحَاطَ بِهِمُ الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَهُ استهزاء منهم، ووضع يستهزئون مَكَانَ يَسْتَعْجِلُونَ، لِأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ كَانَ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ، وَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ حَاقَ بِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زيد قَرَأَ: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ قَالَ: هِيَ كُلُّهَا مَحْكَمَةٌ يَعْنِي سُورَةَ هُودٍ ثُمَّ فُصِّلَتْ قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَكَمَ فِيهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ خَالَفَهُ، وَقَرَأَ: مِثْلَ الْفَرِيقَيْنِ الْآيَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْمَ نُوحٍ ثُمَّ هُودٍ، فَكَانَ هَذَا تَفْصِيلُ ذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلُهُ مُحْكَمًا قَالَ: وَكَانَ أَبِي يَقُولُ ذَلِكَ، يَعْنِي زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ قَالَ: أُحْكِمَتْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَفُصِّلَتْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ مُجَاهِدٍ فُصِّلَتْ قَالَ: فُسِّرَتْ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَحْكَمَهَا اللَّهُ مِنَ الْبَاطِلِ ثُمَّ فَصَّلَهَا بِعِلْمِهِ، فَبَيَّنَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَطَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ يَعْنِي مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ، وَفِي قَوْلِهِ: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً قَالَ: فَأَنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْمَتَاعِ فَخُذُوهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ حَقِّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ وَأَهْلُ الشُّكْرِ فِي مَزِيدٍ مِنَ اللَّهِ، وَذَلِكَ قَضَاؤُهُ الَّذِي قَضَاهُ وَفِي قَوْلِهِ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعْنِي الْمَوْتَ، وَفِي قَوْلِهِ: يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ. وأخرج هؤلاء

أيضا عن مجاهد في قوله: يؤت كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، أَيْ: فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فِي الْإِسْلَامِ فَضْلَ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ قَالَ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ، وَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، فَإِنْ عُوقِبَ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي عَمِلَهَا فِي الدُّنْيَا بَقِيَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ بِهَا فِي الدُّنْيَا أُخِذَ مِنَ الْحَسَنَاتِ الْعَشْرِ وَاحِدَةٌ وَبَقِيَتْ لَهُ تِسْعُ حَسَنَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: هَلَكَ مَنْ غَلَبَ آحَادُهُ أَعْشَارَهُ «1» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ الْآيَةَ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْتَغْشُونَ يغطون رؤوسهم. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، يَعْنِي بِهِ: الشَّكَّ فِي اللَّهِ وَعَمَلَ السَّيِّئَاتِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا أَيْ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ إِذَا قَالُوا شَيْئًا أَوْ عَمِلُوهُ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ، فَأَعْلَمَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ عِنْدَ مَنَامِهِمْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ مِنَ الْقَوْلِ وَما يُعْلِنُونَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ فِي قَوْلِهِ: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قَالَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ إِذَا مَرَّ أَحَدُهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ ثَنَى صَدْرَهُ وَتَغَشَّى ثَوْبَهُ لِكَيْلَا يَرَاهُ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ قَالَ: فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فِي أَجْوَافِ بُيُوتِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَسْتَغْشِي بِثَوْبِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قال: كانوا يحنون صُدُورَهُمْ لِكَيْلَا يَسْمَعُوا كِتَابَ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَذَلِكَ أَخْفَى مَا يَكُونُ ابْنُ آدَمَ إِذَا أَحَنَى ظَهْرَهُ وَاسْتَغْشَى بِثَوْبِهِ وَأَضْمَرَ هَمَّهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْآيَةِ: يَكْتُمُونَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا عَمِلُوا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ الْآيَةَ قَالَ: يَعْنِي كل دابة. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ الْآيَةَ قَالَ: يَعْنِي مَا جَاءَهَا مِنْ رِزْقٍ فَمِنَ اللَّهِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَرْزُقْهَا حَتَّى تَمُوتَ جُوعًا، وَلَكِنْ ما كان لها من رزق فَمِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها قَالَ: حَيْثُ تَأْوِي، وَمُسْتَوْدَعَها قَالَ: حَيْثُ تَمُوتُ. وَأَخْرَجَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها قَالَ: يَأْتِيهَا رِزْقُهَا حَيْثُ كَانَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مُسْتَقَرَّهَا فِي الْأَرْحَامِ وَمُسْتَوْدَعَهَا حَيْثُ تَمُوتُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ما أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر

_ (1) . الصواب: عشراته.

[سورة هود (11) : الآيات 9 إلى 17]

الْأُصُولِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ أَجَلُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ أُتِيحَتْ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةٌ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَقْصَى أَثَرِهِ مِنْهَا فَيُقْبَضُ، فَتَقُولُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَنِي» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ؟ قَالَ: عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ في صفة العرش وفي كيفية خلق السموات وَالْأَرْضِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فقال: مَا مَعْنَى ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَقْلًا، ثُمَّ قَالَ: وَأَحْسَنُكُمْ عَقْلًا أَوْرَعُكُمْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَأَعْمَلُكُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَيُّكُمْ أَتَمُّ عَقْلًا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: أَزْهَدُكُمْ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لما نزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ قَالَ نَاسٌ: إِنِ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ فَتَنَاهَوْا، فَتَنَاهَى الْقَوْمُ قَلِيلًا ثُمَّ عَادُوا إِلَى أَعْمَالِهِمْ أَعْمَالِ السُّوءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ «1» فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ: هَذَا أَمْرُ اللَّهِ قَدْ أَتَى، فَتَنَاهَى الْقَوْمُ ثُمَّ عَادُوا إِلَى مَكْرِهِمْ مَكْرِ السَّوْءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ قَالَ: إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ يَعْنِي: أَهْلَ النِّفَاقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَقُولُ: وَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ الَّذِي اسْتَهْزَءُوا بِهِ. [سورة هود (11) : الآيات 9 الى 17] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)

_ (1) . النحل: 1.

اللَّامُ فِي وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ هِيَ الْمُوطِئَةُ لِلْقَسَمِ، وَالْإِنْسَانُ الْجِنْسُ، فَيَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَقِيلَ: الْمُرَادُ جِنْسُ الْكُفَّارِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْيَأْسَ وَالْكُفْرَانَ وَالْفَرَحَ وَالْفَخْرَ هِيَ أَوْصَافُ أَهْلِ الْكُفْرِ لَا أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْغَالِبِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا: النِّعْمَةُ مِنْ تَوْفِيرِ الرِّزْقِ وَالصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْمِحَنِ ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ أَنْ سَلَبْنَاهُ إِيَّاهَا إِنَّهُ لَيَؤُسٌ أَيْ: آيِسٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، شَدِيدُ الْقُنُوطِ مِنْ عَوْدِهَا وَأَمْثَالِهَا، وَالْكَفُورُ: عَظِيمُ الْكُفْرَانِ، وَهُوَ الْجُحُودُ بِهَا، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَفِي إِيرَادِ صِيغَتَيِ المبالغة في لَيَؤُسٌ كَفُورٌ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرُ الْيَأْسِ، وَكَثِيرُ الْجَحْدِ عِنْدَ أَنْ يَسْلُبَهُ اللَّهُ بَعْضَ نِعَمِهِ فَلَا يَرْجُو عَوْدَهَا، وَلَا يَشْكُرُ مَا قَدْ سَلَفَ لَهُ مِنْهَا. وَفِي التَّعْبِيرِ بِالذَّوْقِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ ذَلِكَ عِنْدَ سَلْبِ أَدْنَى نِعْمَةٍ يُنْعِمُ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْإِذَاقَةَ وَالذَّوْقَ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ بِهِ الطَّعْمُ، وَالنَّعْمَاءُ: إِنْعَامٌ يَظْهَرُ أَثَرُهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالضَّرَّاءُ: ظُهُورُ أَثَرِ الْإِضْرَارِ عَلَى مَنْ أُصِيبَ بِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ أَذَاقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَبْدَ نَعْمَاءَهُ مِنَ الصِّحَّةِ، وَالسَّلَامَةِ، وَالْغِنَى، بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي ضُرٍّ مِنْ فَقْرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ، لَمْ يُقَابِلْ ذَلِكَ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الشُّكْرِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ يَقُولُ: ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ، أَيْ: الْمَصَائِبُ الَّتِي سَاءَتْهُ مِنَ الضُّرِّ وَالْفَقْرِ وَالْخَوْفِ وَالْمَرَضِ عَنْهُ، وَزَالَ أَثَرُهَا غَيْرَ شَاكِرٍ لِلَّهِ، وَلَا مُثْنٍ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ أَيْ: كَثِيرُ الْفَرَحِ بَطَرًا وَأَشَرًا، كَثِيرُ الْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ وَالتَّطَاوُلِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَتَفَضَّلُ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ، وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْ مُلَابَسَةِ الضرّ له: مُنَاسَبَةٌ لِلتَّعْبِيرِ فِي جَانِبِ النَّعْمَاءِ بِالْإِذَاقَةِ، فَإِنَّ كِلَاهُمَا لِأَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُلَاقَاةِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا فَإِنَّ عَادَتَهُمْ الصَّبْرُ عِنْدَ نُزُولِ الْمِحَنِ، وَالشُّكْرُ عِنْدَ حُصُولِ الْمِنَنِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ: وَلَكِنِ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي حَالَتَيِ النِّعْمَةِ وَالْمِحْنَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ، أَيْ: مِنَ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بِمَعْنَى النَّاسِ، وَالنَّاسُ يَشْمَلُ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ، بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهِ بِالصَّبْرِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِمْ وَأَجْرٌ يُؤْجَرُونَ بِهِ لِأَعْمَالِهِمُ الحسنة كَبِيرٌ متناه في الكبر. ثم سلا اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ أَيْ: فَلَعَلَّكَ لِعِظَمِ مَا تَرَاهُ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ والتكذيب، واقتراح الآيات التي يقترحونها عَلَى حَسَبِ هَوَاهُمْ وَتَعَنُّتِهِمْ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ وَأَمَرَكَ بِتَبْلِيغِهِ، مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ سَمَاعُهُ أَوْ يَسْتَشِقُّونَ الْعَمَلَ بِهِ، كَسَبِّ آلِهَتِهِمْ، وَأَمْرِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. قِيلَ: وَهَذَا الْكَلَامُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ: هَلْ أَنْتَ تَارِكٌ؟ وَقِيلَ: هُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ مَعَ الِاسْتِبْعَادِ أَيْ: لَا يَكُونُ مِنْكَ ذَلِكَ، بَلْ تُبَلِّغُهُمْ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَ الله عليك، أحبوا ذلك أم كرهوه، شاؤوا أَمْ أَبَوْا وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَارِكٌ، وَالضَّمِيرُ فِي: بِهِ، رَاجِعٌ إِلَى: مَا، أَوْ: إِلَى بَعْضَ، وَعَبَّرَ بِضَائِقٍ دُونَ ضَيِّقٍ: لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ فِيهِ مَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْعُرُوضِ، وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ فِيهَا مَعْنَى اللُّزُومِ أَنْ يَقُولُوا أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا، أَوْ مَخَافَةَ أَنْ يَقُولُوا، أَوْ لِئَلَّا يَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَيْ: هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَيْ: مَالٌ مَكْنُوزٌ مَخْزُونٌ يَنْتَفِعُ بِهِ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يُصَدِّقُهُ وَيُبَيِّنُ لَنَا صِحَّةَ رِسَالَتِهِ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ: أَنَّ حَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم مقصور

عَلَى النِّذَارَةِ، فَقَالَ: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْإِنْذَارُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْكَ، وَلَيْسَ عليك حصول مطلوبهم، وإيجاد مُقْتَرَحَاتِهِمْ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يَحْفَظُ مَا يَقُولُونَ وَهُوَ فَاعِلٌ بِهِمْ مَا يَجِبُ أَنْ يُفْعَلَ. قَوْلُهُ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أَمْ: هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةُ، وَأَضْرَبَ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ تَهَاوُنِهِمْ بِالْوَحْيِ، وَعَدَمِ قُنُوعِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَشَرَعَ فِي ذِكْرِ ارْتِكَابِهِمْ لِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ افْتِرَاؤُهُمْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ افْتَرَاهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي افْتَرَاهُ: لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْبَارِزُ: إِلَى مَا يُوحَى. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِمَا يُقْطِعَهُمْ، وَيُبَيِّنُ كَذِبَهُمْ، وَيُظْهِرُ بِهِ عَجْزَهُمْ، فَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ أَيْ: مُمَاثَلَةٍ لَهُ فِي الْبَلَاغَةِ، وَحُسْنِ النَّظْمِ، وَجَزَالَةِ اللَّفْظِ، وَفَخَامَةِ الْمَعَانِي، وَوَصْفِ السُّوَرِ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْمُفْرَدُ، فقال: مثله، وَلَمْ يَقُلْ: أَمْثَالَهُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مُمَاثَلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السُّوَرِ، أَوْ لِقَصْدِ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ الشَّبَهِ، وَمَدَارُهُ الْمُمَاثَلَةُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْبَلَاغَةُ الْبَالِغَةُ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُطَابَقَةَ فِي الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْإِفْرَادِ شَرْطٌ، ثُمَّ وَصَفَ السُّوَرَ بِصِفَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا لِلِاسْتِظْهَارِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بِالْعَشْرِ السُّوَرِ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دُعَاءَهُ وَقَدَرْتُمْ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَمِمَّنْ تَعْبُدُونَهُ وَتَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِادْعُوا أَيِ: ادْعُوَا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مُتَجَاوِزِينَ اللَّهَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تزعمون من افترائي له فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا طَلَبْتَهُ مِنْهُمْ وَتَحَدَّيْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ، وَلَا اسْتَجَابُوا إِلَى الْمُعَارَضَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُمْ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي لَكُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، وَجَمَعَ تَعْظِيمًا وَتَفْخِيمًا فَاعْلَمُوا أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لِلرَّسُولِ وَحْدَهُ، عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي سَلَفَ قَرِيبًا. وَمَعْنَى أَمْرِهِمْ بِالْعِلْمِ: أَمْرُهُمْ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ مِنْ قَبْلِ عَجْزِ الْكُفَّارِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالْعِلْمِ: الْأَمْرُ بِالِازْدِيَادِ مِنْهُ إِلَى حَدٍّ لَا يَشُوبُهُ شَكٌّ، وَلَا تُخَالِطُهُ شُبْهَةٌ، وَهُوَ عِلْمُ الْيَقِينِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَعْنَى أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ أُنْزِلَ مُتَلَبِّسًا بِعِلْمِ اللَّهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، الَّذِي لَا تَطَّلِعُ عَلَى كُنْهِهِ الْعُقُولُ، وَلَا تَسْتَوْضِحُ مَعْنَاهُ الْأَفْهَامُ، لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْجَازِ الْخَارِجِ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيْ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ: ثَابِتُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، مخلصون له، مزادون مِنَ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَكُمْ بِعَجْزِ الْكُفَّارِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ عَشْرِ سُوَرٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ طُمَأْنِينَةٌ فَوْقَ مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ وَبَصِيرَةٌ زَائِدَةٌ، وَإِنَّ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ هَذَا، فَإِنَّ الثُّبُوتَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةَ الْبَصِيرَةِ فِيهِ وَالطُّمَأْنِينَةَ بِهِ مَطْلُوبٌ مِنْكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلْمَوْصُولِ فِي مَنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَضَمِيرُ لَكُمْ: لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ تَحَدَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ: فَاعْلَمُوا، وَالْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لَكُمْ مَنْ دَعَوْتُمُوهُمْ لِلْمُعَاضَدَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ وَمَنْ يَعْبُدُونَهُمْ، وَيَزْعُمُونَ: أَنَّهُمْ يَضُرُّونَ وَيَنْفَعُونَ، فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا الرَّسُولِ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْجَازِ الَّذِي تَتَقَاصَرُ دُونَهُ قُوَّةُ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَنَّهُ أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا تُحِيطُ بِهِ الْعُقُولُ وَلَا

تَبْلُغُهُ الْأَفْهَامُ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَهَلْ أَنْتُمْ بَعْدَ هَذَا مُسْلِمُونَ؟ أَيْ دَاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ، مُتَّبِعُونَ لِأَحْكَامِهِ، مُقْتَدُونَ بِشَرَائِعِهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْوَى مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةٍ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ مِنْ جِهَةٍ، فَأَمَّا جهة قوّته: فلا تساق الضَّمَائِرِ وَتَنَاسُبِهَا وَعَدَمِ احْتِيَاجِ بَعْضِهَا إِلَى تَأْوِيلٍ، وَأَمَّا ضَعْفُهُ: فَلِمَا فِي تَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ مِمَّنْ دَعَوْهُمْ وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ مِنَ الْخَفَاءِ وَاحْتِيَاجِهِ إِلَى تَكَلُّفٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عَدَمَ اسْتِجَابَةِ مَنْ دَعَوْهُمْ وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْآلِهَةِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى نَصْرِهِمْ وَمُعَاضِدَتِهِمْ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ يُفِيدُ حُصُولَ الْعِلْمِ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْإِلَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ دُخُولَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ التَّحَدِّي لِلْكُفَّارِ بِمُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، فَتَارَةً وَقَعَ بِمَجْمُوعِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَبِعَشْرِ سُوَرٍ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ أَوَّلُ عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ، وَبِسُورَةٍ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّورَةَ أَقَلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَوَعَّدَ مَنْ كَانَ مَقْصُورَ الْهِمَّةِ عَلَى الدُّنْيَا، لَا يَطْلُبُ غَيْرَهَا، وَلَا يُرِيدُ سِوَاهَا، فَقَالَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها «1» قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ: كَانَ هَذِهِ، زَائِدَةٌ، وَلِهَذَا جُزِمَ الْجَوَابُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ كانَ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالشَّرْطِ، وَجَوَابُهُ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَيْ مَنْ يَكُنْ يُرِيدُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ بِدَلِيلِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَقِيلَ: الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ كَافِرِهِمْ وَمُسْلِمِهِمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ حَظَّ الدُّنْيَا يُكَافَأُ بِذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِزِينَتِهَا: مَا يُزَيِّنُهَا وَيُحَسِّنُهَا مِنَ الصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَالسِّعَةِ فِي الرِّزْقِ وَارْتِفَاعِ الْحَظِّ وَنَفَاذِ الْقَوْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِدْخَالُ كانَ فِي الْآيَةِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى إِرَادَةِ الدُّنْيَا بِأَعْمَالِهِمْ لَا يَكَادُونَ يُرِيدُونَ الْآخِرَةَ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ مَعَ إِعْطَائِهِمْ حُظُوظَ الدُّنْيَا يُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ جَرَّدُوا قَصْدَهُمْ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَمْ يَعْمَلُوا لِلْآخِرَةِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا حَصَلَ لَهُ الْجَزَاءُ الدُّنْيَوِيُّ وَلَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّ الْوَاقِعَ فِي الْخَارِجِ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ كُلُّ مُتَمَنٍّ يَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا أُمْنِيَّتَهُ، وَإِنْ عَمِلَ لَهَا وَأَرَادَهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي في الشورى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها «2» ، وكذلك وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها «3» قَيَّدَتْهَا وَفَسَّرَتْهَا الَّتِي فِي سُبْحَانَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ «4» قَوْلُهُ: وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ أَيْ: وَهَؤُلَاءِ الْمُرِيدُونَ بِأَعْمَالِهِمُ الدُّنْيَا هُمْ فِيهَا: أَيْ فِي الدُّنْيَا لَا يُبْخَسُونَ أَيْ: لَا يُنْقَصُونَ مِنْ جَزَائِهِمْ فِيهَا بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ لَهَا، وَذَلِكَ فِي الْغَالِبِ وَلَيْسَ بِمُطَّرِدٍ، بَلْ إِنْ قَضَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ سُبْحَانَهُ، وَرَجَّحَتْهُ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ وَافِيَةً كَامِلَةً، مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَا يَنَالُونَ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْكَفَافِ وَسَائِرِ اللَّذَّاتِ وَالْمَنَافِعِ، فَخَصَّ الْجَزَاءَ بِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ حَاصِلٌ لِكُلِّ عَامِلٍ لِلدُّنْيَا وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا يَسِيرًا. قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ

_ (1) . الإسراء: 88. (2) . الشورى: 20. (3) . آل عمران: 145. (4) . الإسراء: 18.

الْإِشَارَةُ إِلَى الْمُرِيدِينَ الْمَذْكُورِينَ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ هَذَا بِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا الْآخِرَةَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُعْتَدِّ بِهَا الْمُوجِبَةِ لِلْجَزَاءِ الْحَسَنِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَوْ تَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً بِالْكُفَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا أَيْ: ظَهَرَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ حُبُوطُ مَا صَنَعُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَتْ صُورَتُهَا صُورَةَ الطَّاعَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ، لَوْلَا أَنَّهُمْ أَفْسَدُوهَا بِفَسَادِ مَقَاصِدِهِمْ، وَعَدَمِ الْخُلُوصِ، وَإِرَادَةِ مَا عِنْدَ اللَّهِ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، بَلْ قَصَرُوا ذَلِكَ عَلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ثُمَّ حَكَمَ سُبْحَانَهُ بِبُطْلَانِ عَمَلِهِمْ فَقَالَ: وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: أَنَّهُ كَانَ عَمَلُهُمْ فِي نَفْسِهِ بَاطِلًا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْمَلْ لِوَجْهٍ صَحِيحٍ يُوجِبُ الْجَزَاءَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّحِيحِ. قَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ بَيْنَ مَنْ كَانَ طَالِبًا لِلدُّنْيَا فَقَطْ، وَمَنْ كَانَ طَالِبًا لِلْآخِرَةِ، تفاوتا عظيما، وتباينا بعيدا المعنى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِي اتباع النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ كَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: أَفَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ وَمُعْجِزَةٌ كَالْقُرْآنِ وَمَعَهُ شَاهِدٌ كَجِبْرِيلَ، وَقَدْ بَشَّرَتْ بِهِ الْكُتُبُ السَّالِفَةُ، كَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. وَمَعْنَى الْبَيِّنَةِ: الْبُرْهَانُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ رَاجِعٌ إِلَى الْبَيِّنَةِ بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِهَا بِالْبُرْهَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ: رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أَوْ رَاجَعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى: وَيَتْلُو الْبُرْهَانَ الَّذِي هُوَ الْبَيِّنَةُ شَاهِدٌ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالشَّاهِدُ: هُوَ الْإِعْجَازُ الْكَائِنُ فِي الْقُرْآنِ، أَوِ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ التَّابِعَةِ لِلْقُرْآنِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ: الْإِنْجِيلُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَهُوَ يَتْلُو الْقُرْآنَ فِي التَّصْدِيقِ، وَالْهَاءُ فِي مِنْهُ: لِلَّهِ عَزَّ وجلّ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ ربه: هم مؤمنوا أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَضْرَابِهِ. قَوْلُهُ: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى مَعْطُوفٌ عَلَى شَاهِدٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَتْلُو الشَّاهِدَ شَاهِدٌ آخَرُ مِنْ قَبْلِهِ هُوَ كِتَابُ مُوسَى، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي النُّزُولِ فَهُوَ يَتْلُو الشَّاهِدَ فِي الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الشَّاهِدَ عَلَى كِتَابِ مُوسَى مَعَ كَوْنِهِ مُتَأَخِّرًا فِي الْوُجُودِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا لَازِمًا غَيْرَ مُفَارِقٍ، فَكَانَ أَغْرَقَ فِي الْوَصْفِيَّةِ من كتاب موسى. ومعنى شهادة مُوسَى، وَهُوَ التَّوْرَاةُ أَنَّهُ بَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى وَيَتْلُوهُ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى لأن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَوْصُوفٌ فِي كِتَابِ مُوسَى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَ: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى بِالنَّصْبِ. وَحَكَاهُ الَمَهَدَوِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْهَاءِ فِي يَتْلُوهُ. وَالْمَعْنَى: وَيَتْلُو كِتَابَ مُوسَى جِبْرِيلُ، وَانْتِصَابُ إِمَامًا وَرَحْمَةً عَلَى الْحَالِ. وَالْإِمَامُ: هُوَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ فِي الدِّينِ وَيُقْتَدَى بِهِ، وَالرَّحْمَةُ: النِّعْمَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى مَنْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أُولئِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْفَاضِلَةِ، وَهُوَ الْكَوْنُ عَلَى الْبَيِّنَةِ مِنَ اللَّهِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ يُؤْمِنُونَ بِهِ أَيْ: يُصَدِّقُونَ بالنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَوْ بِالْقُرْآنِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ أَيْ: بِالنَّبِيِّ أَوْ بِالْقُرْآنِ. وَالْأَحْزَابُ: الْمُتَحَزِّبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، أَوِ: الْمُتَحَزِّبُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أَيْ: هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَا

مَحَالَةَ، وَفِي جَعْلِ النَّارِ مَوْعِدًا إِشْعَارٌ بِأَنَّ فِيهَا مَا لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ مِنْ أَفَانِينِ الْعَذَابِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ حَسَّانَ: أَوْرَدْتُمُوهَا حِيَاضَ الْمَوْتِ ضَاحِيَةً ... فَالنَّارُ مَوْعِدُهَا وَالْمَوْتُ لَاقِيهَا فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أَيْ: لَا تَكُ فِي شَكٍّ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغَيْرِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنِ الشَّكِّ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ مِنَ الْمَوْعِدِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا مَدْخَلَ لِلشَّكِّ فِيهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ مَعَ وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَظُهُورِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِكَوْنِهِ حَقًّا، أَوْ قَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يَفْهَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ أَصْلًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ قَالَ: لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: أَخْبِرْنَا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا إِلَى قَوْلِهِ: وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ: وَيْحَكَ، ذَاكَ مِنْ كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا لَا يُرِيدُ الْآخِرَةَ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ: ثَوَابَهَا وَزِينَتَها مَالَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ نُوَفِّرْ لَهُمْ بِالصِّحَّةِ وَالسُّرُورِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ لَا يُنْقَصُونَ، ثُمَّ نَسَخَهَا: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا الْتِمَاسَ الدُّنْيَا: صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوْ تَهَجُّدًا بِاللَّيْلِ لَا يَعْمَلُهُ إِلَّا الْتِمَاسَ الدُّنْيَا، يَقُولُ اللَّهُ: أُوَ فِّيهِ الَّذِي الْتَمَسَ فِي الدُّنْيَا وَحَبِطَ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ قَالَ: طَيِّبَاتِهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها قَالَ: حَبِطَ مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْرٍ، وَبَطَلَ فِي الْآخِرَةِ لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا جَزَاءٌ. وَأَخْرُجُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الرِّيَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، عَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا نَزَلَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا نَزَلْ فِيكَ؟ قَالَ: أَمَّا تَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّهِ وَأَنَا شَاهِدٌ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَنَا، وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ «عَلِيٌّ» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ قَالَ: ذَاكَ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أَنَّكَ أَنْتَ التَّالِي، قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَكِنَّهُ لسان محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الشَّاهِدَ جِبْرِيلُ وَوَافَقَهُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي

_ (1) . الإسراء: 18.

[سورة هود (11) : الآيات 18 إلى 24]

حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جِبْرِيلُ، فَهُوَ شَاهِدٌ مِنَ اللَّهِ بِالَّذِي يَتْلُوهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى قَالَ: وَمِنْ قَبْلِهِ التَّوْرَاةُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى كَمَا تَلَا الْقُرْآنَ على لسان مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قَالَ: مُحَمَّدٌ هُوَ الشَّاهِدُ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى قَالَ: وَمِنْ قَبْلِهِ جَاءَ الْكِتَابُ إِلَى مُوسَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ قَالَ: الْكُفَّارُ أَحْزَابٌ كُلُّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ قال: من اليهود والنّصارى. [سورة هود (11) : الآيات 18 الى 24] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا بِقَوْلِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَوْلِهِمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأَضَافُوا كَلَامَهُ سُبْحَانَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْتَضِي إِلَّا نَفْيَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَظْلَمُ مِنْهُمْ كَمَا يُفِيدُهُ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ، فَالْمَقَامُ يُفِيدُ نَفْيَ الْمُسَاوِي لَهُمْ فِي الظُّلْمِ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: لَا أَحَدَ مِثْلَهُمْ فِي الظُّلْمِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجَدَ مَنْ هُوَ أَظْلَمُ مِنْهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ، إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِالظُّلْمِ الْمُتَبَالِغِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ فَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِعَرْضِهِمْ: عَرْضُ أَعْمَالِهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ الْأَشْهَادُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ، وَقِيلَ: الْمُرْسَلُونَ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ وَالْمُرْسَلُونَ وَالْعُلَمَاءُ الذي بَلَّغُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِإِبْلَاغِهِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْخَلَائِقِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْأَشْهَادُ عِنْدَ الْعَرْضِ: هَؤُلَاءِ الْمُعْرَضُونَ أَوِ الْمَعْرُوضَةُ أَعْمَالِهِمُ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ بِمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِمَا كَذَبُوا بِهِ كَأَنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ. قَوْلُهُ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْأَشْهَادِ، أَيْ: يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، وَيَقُولُونَ: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالِافْتِرَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قاله بعد ما قَالَ الْأَشْهَادُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ. وَالْأَشْهَادُ: جَمْعُ شَهِيدٍ، وَرَجَّحَهُ أَبُو عَلِيٍّ بِكَثْرَةِ وُرُودِ شَهِيدٍ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «1» . فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً وقيل: هو جمع شاهد، كأصحاب وصاحب،

_ (1) . البقرة: 143.

وَالْفَائِدَةُ فِي قَوْلِ الْأَشْهَادِ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ: الْمُبَالِغَةُ في فضيحة الكفار، والتّقريع لهم على رؤوس الْأَشْهَادِ، ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ لُعِنُوا: بأنهم الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: يَمْنَعُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَى مَنْعِهِ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَالدُّخُولِ فِيهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أَيْ: يَصِفُونَهَا بِالِاعْوِجَاجِ تَنْفِيرًا لِلنَّاسِ عَنْهَا، أَوْ يَبْغُونَ أَهْلَهَا أَنْ يَكُونُوا مُعْوَجِّينَ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا إِلَى الْكُفْرِ، يُقَالُ: بَغَيْتُكَ شَرًا أَيْ طَلَبْتُهُ لَكَ وَالحال أن هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أَيْ: يَصِفُونَهَا بِالْعِوَجِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ بِالْآخِرَةِ غَيْرُ مُصَدِّقِينَ فَكَيْفَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ الْبَحْتِ؟ وَتَكْرِيرِ الضَّمِيرِ: لِتَأْكِيدِ كُفْرِهِمْ وَاخْتِصَاصِهِمْ بِهِ، حَتَّى كَأَنَّ كُفْرَ غَيْرِهِمْ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظِيمِ كُفْرِهِمْ أُولئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أَيْ: مَا كَانُوا يُعْجِزُونَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا إِنْ أَرَادَ عُقُوبَتَهُمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يَدْفَعُونَ عَنْهُمْ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عُقُوبَتِهِمْ وَإِنْزَالِ بَأْسِهِ بِهِمْ، وَجُمْلَةُ: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مُسْتَأْنَفَةٌ، لِبَيَانِ أَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ وَالتَّرَاخِي عَنْ تَعْجِيلِهِ لَهُمْ لِيَكُونَ عَذَابًا مُضَاعَفًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَزِيدُ، وَيَعْقُوبُ يُضَعَّفُ مُشَدَّدًا مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أَيْ أَفْرَطُوا فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَبُغْضِهِمْ لَهُ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى السَّمْعِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْإِبْصَارِ لِفَرْطِ تَعَامِيهِمْ عَنِ الصَّوَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا آلِهَتَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، فَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ، فَكَيْفَ يَنْفَعُونَهُمْ فَيَجْلِبُونَ لَهُمْ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُونَ عَنْهُمْ ضَرَرًا؟ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا هِيَ الْمَدِّيَّةُ «1» . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مُدَّةَ اسْتِطَاعَتِهِمُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ لِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لبغضهم النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَدَاوَتِهِمْ لَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ وَلَا يَفْهَمُوا عَنْهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، يُقَالُ فُلَانٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى فُلَانٍ: إِذَا كَانَ ثَقِيلًا عَلَيْهِ أُولئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: اشْتَرَوْا عِبَادَةَ الْآلِهَةِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ فَكَانَ خُسْرَانُهُمْ فِي تِجَارَتِهِمْ أَعْظَمَ خُسْرَانٍ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ: ذَهَبَ وَضَاعَ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ مِنَ الْآلِهَةِ الَّتِي يَدَّعُونَ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَّا الْخُسْرَانُ، قَوْلُهُ: لَا جَرَمَ قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: لَا جَرَمَ بِمَعْنَى: حَقٍّ، فَهِيَ عِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ. وَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ وَالْفَرَّاءِ: أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ حَقًّا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ جَرَمَ بِمَعْنَى: كَسَبَ، أَيْ: كَسَبَ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَهُمُ الْخُسْرَانَ، وَفَاعِلُ كَسَبَ مُضْمَرٌ، وَأَنَّ مَنْصُوبَةٌ بِجَرَمَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا نُقِلَ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَى لَا جَرَمَ: لَا صَدَّ، وَلَا مَنْعَ عَنْ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ مَعْنَى لَا جرم لا قطعه قَاطِعٌ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ قَالُوا: وَالْجَرْمُ، الْقَطْعُ، وَقَدْ جَرَمَ النَّخْلَ وَاجْتَرَمَهُ: أَيْ: قطعه، وفي هذه الآية بيان أنهم

_ (1) . أي: ما: المصدرية الظرفية.

فِي الْخُسْرَانِ قَدْ بَلَغُوا إِلَى حَدٍّ يَتَقَاصَرُ عَنْهُ غَيْرُهُمْ وَلَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، وَبَيْنَ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: صَدَّقُوا بِكُلِّ مَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهِ، مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أَيْ: أَنَابُوا إِلَيْهِ، وَقِيلَ: خَشَعُوا، وَقِيلَ: خَضَعُوا، قِيلَ: وَأَصْلُ الْإِخْبَاتِ الِاسْتِوَاءُ فِي الْخَبْتِ: وَهُوَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْوَاسِعَةُ، فَيُنَاسِبُ مَعْنَى الْخُشُوعِ وَالِاطْمِئْنَانِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِلَى رَبِّهِمْ، وَلِرَبِّهِمْ وَاحِدٌ أُولئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الصَّالِحَةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. قَوْلُهُ: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ضَرَبَ لِلْفَرِيقَيْنِ مَثَلًا، وَهُوَ تَشْبِيهُ فَرِيقِ الْكَافِرِينَ بِالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ، وَتَشْبِيهُ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، عَلَى أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ شُبِّهَ بِشَيْئَيْنِ، أَوْ شُبِّهَ بِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، فَالْكَافِرُ شُبِّهَ بِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعَمَى وَالصَّمَمِ، وَالْمُؤْمِنُ شُبِّهَ بِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الواو في وَالْأَصَمِّ وفي وَالسَّمِيعِ بعطف الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرِمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ هَلْ يَسْتَوِيانِ لِلْإِنْكَارِ: يَعْنِي الْفَرِيقَيْنِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَانْتِصَابُ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ مِنْ فَاعِلِ يَسْتَوِيَانِ، أَيْ: هَلْ يَسْتَوِيَانِ حَالًا وَصِفَةً أَفَلا تَذَكَّرُونَ فِي عَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا وَفِيمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ الظَّاهِرِ الَّذِي لا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ تَذَكُّرٌ، وَعِنْدَهُ تَفَكُّرٌ وَتَأَمُّلٌ، وَالْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ عَدَمِ التَّذَكُّرِ وَاسْتِبْعَادِ صُدُورِهِ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَظْلَمُ قَالَ: الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ فَيَسْأَلُهُمْ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ الَّذِينَ كَانُوا يَحْفَظُونَ أَعْمَالَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ شَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِمْ يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قَالَ: الْأَشْهَادُ: الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ حَتَّى يضع عليه كَنَفَهُ وَيَسْتُرَهُ مِنَ النَّاسِ وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ: فَإِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: هُوَ مُحَمَّدٌ، يَعْنِي: سَبِيلَ اللَّهِ، صَدَّتْ قُرَيْشٌ عَنْهُ النَّاسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَبْغُونَها عِوَجاً يَعْنِي يَرْجُونَ بِمَكَّةَ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ حَالَ بَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَبَيْنَ طَاعَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ قَالَ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ قَالَ:

[سورة هود (11) : الآيات 25 إلى 34]

فَلا يَسْتَطِيعُونَ- خاشِعَةً «1» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ قَالَ: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا خَيْرًا فَيَنْتَفِعُوا بِهِ، وَلَا يُبْصِرُوا خَيْرًا فَيَأْخُذُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ أَخْبَتُوا قَالَ: خَافُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: الْإِخْبَاتُ: الْإِنَابَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ قَالَ: الْإِخْبَاتُ: الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ. وَأَخْرُجُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: اطْمَأَنُّوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ قَالَ: الْكَافِرُ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ قَالَ: المؤمن. [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 34] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) لِمَا أَوْرَدَ سُبْحَانَهُ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ الَّتِي هِيَ أَوْضَحُ مِنَ الشَّمْسِ، أَكَدَّ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْقَصَصِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّفَنُّنِ فِي الْكَلَامِ، وَنَقْلِهِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ لِتَكُونَ الْمَوْعِظَةُ أَظْهَرَ وَالْحُجَّةُ أَبْيَنَ، وَالْقَبُولُ أَتَمَّ، فَقَالَ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ: أَرْسَلْنَاهُ بِأَنِّي أَيْ: أَرْسَلْنَاهُ مُتَلَبِّسًا بِذَلِكَ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ: أَيْ قَائِلًا إِنِّي لَكُمْ، وَالْوَاوُ فِي وَلَقَدْ: لِلِابْتِدَاءِ، وَاللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى النِّذَارَةِ دُونَ الْبِشَارَةِ، لِأَنَّ دَعْوَتَهُ كَانَتْ لِمُجَرَّدِ الْإِنْذَارِ، أَوْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا بَشَّرَهُمْ بِهِ، وَجُمْلَةُ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بَدَلٌ مِنْ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَيْ: أَرْسَلْنَاهُ بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، أَوْ تَكُونُ أَنْ مُفَسِّرَةً مُتَعَلِّقَةً بِأَرْسَلْنَا، أَوْ بِنَذِيرٍ، أَوْ بِمُبِينٍ، وَجُمْلَةُ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ تَعْلِيلِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: نَهَيْتُكُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ لِأَنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ، وَفِيهَا تَحْقِيقٌ لِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَالْيَوْمُ الْأَلِيمُ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَوْ يَوْمُ الطُّوفَانِ وَوَصْفُهُ بِالْأَلِيمِ مِنْ بَابِ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ مُبَالَغَةً. ثُمَّ ذكر ما أجاب

_ (1) . سورة القلم [الآية 42- 43] . [.....]

بِهِ قَوْمُهُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْجَوَابُ يَتَضَمَّنُ الطَّعْنَ منهم في نبوّته من ثلاث جهات فقال: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وَالْمَلَأُ: الْأَشْرَافُ، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ، وَوَصْفُهُمْ بِالْكُفْرِ: ذَمًّا لَهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَشْرَافِ قَوْمِهِ لَمْ يَكُونُوا كَفَرَةً مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا هَذِهِ الْجِهَةُ الْأُولَى مِنْ جِهَاتِ طَعْنِهِمْ فِي نُبُوَّتِهِ، أَيْ: نَحْنُ وَأَنْتَ مُشْتَرِكُونَ فِي الْبَشَرِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيْنَا مَزِيَّةٌ تَسْتَحِقُّ بِهَا النُّبُوَّةَ دُونَنَا، وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا وَلَمْ يَتَّبِعْكَ أَحَدٌ مِنَ الْأَشْرَافِ، فَلَيْسَ لَكَ مَزِيَّةٌ عَلَيْنَا بِاتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ الْأَرَاذِلِ لَكَ، وَالْأَرَاذِلُ: جَمْعُ أَرْذَلَ، وَأَرْذَلُ: جَمْعُ رَذْلٍ، مِثْلُ: أَكَالِبَ وَأَكْلُبٍ وَكَلْبٍ وَقِيلَ: الْأَرَاذِلُ جَمْعُ الْأَرْذَلِ كَالْأَسَاوِدِ جَمْعُ أَسْوَدٍ، وَهُمُ السَّفَلَةُ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْأَرَاذِلُ: الْفُقَرَاءُ وَالَّذِينَ لَا حَسَبَ لَهُمْ، وَالْحَسَبُ الصِّنَاعَاتُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: نَسَبُوهُمْ إِلَى الْحِيَاكَةِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الصِّنَاعَاتِ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الدِّيَانَةِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: السَّفَلَةُ هُوَ الَّذِي يُصْلِحُ الدُّنْيَا بِدِينِهِ، قِيلَ لَهُ: فَمَنْ سَفَلَةُ السَّفَلَةِ؟ قَالَ: الَّذِي يُصْلِحُ دُنْيَا غَيْرِهِ بِفَسَادِ دِينِهِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ السَّفَلَةَ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْحِرَفِ الدَّنِيَّةِ. وَالرُّؤْيَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِنْ كَانَتِ الْقَلْبِيَّةَ، فبشرا فِي الْأَوَّلِ: وَاتَّبَعَكَ فِي الثَّانِي هُمَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَتِ الْبَصَرِيَّةَ: فَهُمَا مُنْتَصِبَانِ عَلَى الْحَالِ، وَانْتِصَابُ بَادِيَ الرَّأْيِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَالْعَامِلُ فِيهِ اتَّبَعَكَ. وَالْمَعْنَى: فِي ظَاهِرِ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّقٍ، يُقَالُ بَدَا يَبْدُو: إِذَا ظَهَرَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ فِيمَا يَبْدُو لَنَا مِنَ الرَّأْيِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنْ جِهَاتِ قَدْحِهِمْ فِي نُبُوَّتِهِ: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ خَاطَبُوهُ فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مُنْفَرِدًا وَفِي هَذَا الْوَجْهِ خَاطَبُوهُ مَعَ مُتَّبِعِيهِ، أَيْ: مَا نَرَى لك ولمن اتبعك من الأرذال علينا من فضل تتميزون به وتستحقون ما تدّعونه، ثم أضربوا على الثَّلَاثَةِ الْمَطَاعِنِ، وَانْتَقَلُوا إِلَى ظَنِّهِمُ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْبُرْهَانِ الَّذِي لَا مُسْتَنَدَ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الْعَصَبِيَّةِ وَالْحَسَدِ، وَاسْتِبْقَاءِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الرِّيَاسَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَقَالُوا: بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فِيمَا تَدَّعُونَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لِلْأَرَاذِلِ وَحْدَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ نُوحٍ لَا مَعَهُمْ إِلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَجَابَ بِهِ نُوحٌ عَلَيْهِمْ، فقال: قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ كُنْتُ عَلَى بُرْهَانٍ مِنْ رَبِّي فِي النُّبُوَّةِ يَدُلُّ على صحتها يوجب عَلَيْكُمْ قَبُولَهَا مَعَ كَوْنِ مَا جَعَلْتُمُوهُ قَادِحًا لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي صِفَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا تَمْنَعُ الْمُفَارَقَةَ فِي صِفَةِ النُّبُوَّةِ، وَاتِّبَاعُ الْأَرَاذِلِ كَمَا تَزْعُمُونَ لَيْسَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُمْ مِثْلُكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، فَاتِّبَاعُهُمْ لِي حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْبَيِّنَةِ: الْمُعْجِزَةَ وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ هِيَ: النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ: الْمُعْجِزَةُ، وَالْبَيِّنَةُ: النُّبُوَّةُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرَّحْمَةُ هِيَ الْبَيِّنَةُ نَفْسُهَا، وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الرَّحْمَةِ بِغَيْرِ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَالْإِفْرَادُ فِي فَعُمِّيَتْ عَلَى إِرَادَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، أَوْ عَلَى إِرَادَةِ الْبَيِّنَةِ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَظْهَرُ لِمَنْ تَفَكَّرَ وَتَخْفَى عَلَى مَنْ لَمْ يَتَفَكَّرْ، وَمَعْنَى عَمِيَتْ: خَفِيَتْ وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ: هِيَ عَلَى الْخَلْقِ، وَقِيلَ: هِيَ الْهِدَايَةُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْبُرْهَانِ، وَقِيلَ: الْإِيمَانُ، يُقَالُ عَمِيتُ عَنْ كَذَا، وَعَمِيَ عَلَيَّ كَذَا: إِذَا لَمْ أَفْهَمْهُ. قِيلَ: وَهُوَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَوِ الرَّحْمَةَ لَا تَعْمَى، وَإِنَّمَا يُعْمَى عَنْهَا فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: أَدْخَلَتْ الْقَلَنْسُوَةُ رَأْسِي. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ فَعُمِّيَتْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: فَعَمَّاهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَفِي

قِرَاءَةِ أُبِيٍّ، فَعَمَّاهَا عَلَيْكُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي: أَنُلْزِمُكُمُوها لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَضْطَرَّكُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَالْمَعْنَى: أَخْبِرُونِي إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ ظَاهِرَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِي إِلَّا أَنَّهَا خَافِيَةٌ عَلَيْكُمْ، أَيُمْكِنُنَا أَنْ نَضْطَرَّكُمْ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا؟ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ لَهَا كَارِهُونَ غَيْرُ مُتَدَبِّرِينَ فِيهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ إِسْكَانَ الْمِيمِ الْأُولَى فِي أَنُلْزِمُكُمُوهَا تَخْفِيفًا كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ «1» فَإِنَّ إِسْكَانَ الْبَاءِ فِي أَشْرَبْ للتخفيف. وقد قرأ عمرو كذلك. قوله: وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ مَالًا حَتَّى يَكُونَ بِذَلِكَ مَحَلًّا لِلتُّهْمَةِ، وَيَكُونَ لِقَوْلِ الْكَافِرِينَ مَجَالٌ بِأَنَّهُ إِنَّمَا ادَّعَى مَا ادَّعَى طَلَبًا لِلدُّنْيَا، وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا قَالَهُ لَهُمْ فِيمَا قَبْلَ هَذَا. وَقَوْلُهُ: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا كَالْجَوَابِ عَمَّا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا مِنَ التَّلْمِيحِ مِنْهُمْ إِلَى إِبْعَادِ الْأَرَاذِلِ عَنْهُ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ سَأَلُوهُ طَرْدَهُمْ تَصْرِيحًا لَا تلميحا، ثم علل ذلك بقوله: إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أَيْ: لَا أَطْرُدُهُمْ، فَإِنَّهُمْ مُلَاقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَبَّهُمْ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا بِإِيمَانِهِمْ مَا عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْإِعْظَامِ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَهُ خَوْفًا مِنْ مُخَاصَمَتِهِمْ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِمْ بِسَبَبِ طَرْدِهِ لَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ الَّتِي طَلَبُوهَا مِنْهُ، وَالْعِلَلِ الَّتِي اعْتَلُّوا بِهَا عَنْ إِجَابَتِهِ فَقَالَ: وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ كُلَّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ، وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِرْذَالُهُمْ لِلَّذَيْنِ اتَّبَعُوهُ وَسُؤَالُهُمْ لَهُ أَنْ يَطْرُدَهُمْ. ثُمَّ أَكَّدَ عَدَمَ جَوَازِ طَرْدِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أي: من يَمْنَعُنِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَانْتِقَامِهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ؟ فَإِنَّ طَرْدَهُمْ بِسَبَبِ سَبْقِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَالْإِجَابَةِ إِلَى الدَّعْوَةِ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ رَسُولَهُ لِأَجْلِهَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ، لَا يَقَعُ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْعِصْمَةِ، وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا لَكَانَ فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ مَا لَا يَكُونُ لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ. وَقَوْلُهُ: أَفَلا تَذَكَّرُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَتَسْتَمِرُّونَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ بِمَا ذُكِرَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مَا يَنْبَغِي تَذَكُّرُهُ وَتَتَفَكَّرُونَ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَأِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الصَّوَابِ؟ قَوْلُهُ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ كَمَا لَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كَذَلِكَ لَا يَدَّعِي أَنَّ عِنْدَهُ خَزَائِنَ اللَّهِ حَتَّى يَسْتَدِلُّوا بِعَدَمِهَا عَلَى كَذِبِهِ، كَمَا قَالُوا: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وَالْمُرَادُ بِخَزَائِنِ اللَّهِ: خَزَائِنُ رِزْقِهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أَيْ: وَلَا أَدَّعِي أَنِّي أَعْلَمُ بِغَيْبِ اللَّهِ، بَلْ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِلَّا أَنِّي نَذِيرٌ مُبِينٌ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ حَتَّى تَقُولُوا مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَدِلَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَيْسَ لِطَالِبِ الْحَقِّ إِلَى تَحْقِيقِهَا حَاجَةٌ، فَلَيْسَتْ مِمَّا كَلَّفَنَا اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ

_ (1) . احتقب الإثم: ارتكبه. والبيت لامرئ القيس.

أَيْ: تَحْتَقِرُ، وَالِازْدِرَاءُ مَأْخُوذٌ مَنْ أَزْرَى عَلَيْهِ: إِذَا عَابَهُ، وَزَرَى عَلَيْهِ: إِذَا احْتَقَرَهُ، وَأَنْشَدَ الفرّاء: يباعده الصّديق وتزدريه ... حليلته وَيَنْهَرُهُ الصَّغِيرُ وَالْمَعْنَى: إِنِّي لَا أَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَّبِعِينَ لِي، الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، الَّذِينَ تَعِيبُونَهُمْ وَتَحْتَقِرُونَهُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً بَلْ قَدْ آتَاهُمُ الْخَيْرَ الْعَظِيمَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ، فَهُوَ مجازيهم بالجزاء الْعَظِيمَ فِي الْآخِرَةِ، وَرَافِعُهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَعْلَى مَحَلٍّ، وَلَا يَضُرُّهُمُ احْتِقَارُكُمْ لَهُمْ شَيْئًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، فَمُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، لَيْسَ لِي وَلَا لَكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ لَهُمْ إِنْ فَعَلْتُ مَا تُرِيدُونَهُ بِهِمْ، أَوْ مِنَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِهِمْ، ثُمَّ جَاوَبُوهُ بِغَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِمْ وَكَلَامِهِ عَجْزًا عَنِ الْقِيَامِ بِالْحُجَّةِ، وَقُصُورًا عَنْ رُتْبَةِ الْمُنَاظَرَةِ، وَانْقِطَاعًا عَنِ المباراة، بقولهم: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا أَيْ: خَاصَمْتَنَا بِأَنْوَاعِ الخصام، ودفعتنا بكل حجّة لَهَا مَدْخَلٌ فِي الْمَقَامِ، وَلَمْ يَبْقَ لَنَا فِي هَذَا الْبَابِ مَجَالٌ، فَقَدْ ضَاقَتْ عَلَيْنَا الْمَسَالِكُ، وَانْسَدَّتْ أَبْوَابُ الْحِيَلِ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي تُخَوِّفُنَا مِنْهُ وَتَخَافُهُ عَلَيْنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا تَقُولُهُ لَنَا، فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ بمشيئة الله وإرادته، وقالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ فَإِنْ قَضَتْ مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ بِتَعْجِيلِهِ عَجَّلَهُ لَكُمْ، وَإِنْ قَضَتْ مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ بِتَأْخِيرِهِ أَخَّرَهُ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بِفَائِتِينَ عَمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ بِكُمْ بِهَرَبٍ أَوْ مُدَافَعَةٍ وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الَّذِي أَبْذُلُهُ لَكُمْ، وَأَسْتَكْثِرُ مِنْهُ قِيَامًا مِنِّي بِحَقِّ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ بِإِبْلَاغِ رِسَالَتِهِ، وَلَكُمْ بِإِيضَاحِ الْحَقِّ وَبَيَانِ بُطْلَانِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ وَجَوَابُ هَذَا الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ أَيْ: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ إِغْوَاءَكُمْ فَلَا يَنْفَعُكُمُ النُّصْحُ مِنِّي، فَكَانَ جَوَابُ هَذَا الشَّرْطِ مَحْذُوفًا كَالْأَوَّلِ، وَتَقْدِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ تَقَدُّمِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُهُ، فَجَزَاءُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، وَجَزَاءُ الشرط الثاني الجملة الظرفية الْأُولَى وَجَزَاؤُهَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَى يُغْوِيَكُمْ: يُهْلِكَكُمْ بِعَذَابِهِ، وَظَاهِرُ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّ الْإِغْوَاءَ: الْإِضْلَالُ فَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّكُمْ عَنْ سَبِيلِ الرَّشَادِ وَيَخْذُلَكُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ. وَحُكِيَ عَنْ طَيٍّ: أَصْبَحَ فُلَانٌ غَاوِيًا: أَيْ مَرِيضًا، وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ وَرَدَ الْإِغْوَاءُ بِمَعْنَى: الْإِهْلَاكِ، وَمِنْهُ: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا «1» وَهُوَ غَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ رَبُّكُمْ فَإِلَيْهِ الْإِغْوَاءُ وَإِلَيْهِ الْهِدَايَةُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فَيُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ قَالَ: فِيمَا ظَهَرَ لَنَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي قَالَ: قَدْ عَرَفْتُهَا وَعَرَفْتُ بِهَا أَمْرَهُ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوّة. وأخرج ابن جرير،

_ (1) . مريم: 59.

[سورة هود (11) : الآيات 35 إلى 44]

وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَنُلْزِمُكُمُوها قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوِ اسْتَطَاعَ نَبِيُّ اللَّهِ لَأَلْزَمَهَا قَوْمَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: «أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: «أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ «أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ قُلُوبِنَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا، قَالَ: قَالُوا لَهُ: يَا نُوحُ إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ نَتَّبِعَكَ فَاطْرُدْهُمْ، إلا فَلَنْ نَرْضَى أَنْ نَكُونَ نَحْنُ وَهُمْ فِي الأرض سواء، وفي قوله: إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ عَنْ أَعْمَالِهِمْ. وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ الَّتِي لَا يُفْنِيهَا شيء، فأكون إنما دعوتكم لتتبعوني عليها، لأعطيكم منها بملك لِي عَلَيْهَا وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَا أَقُولُ: اتَّبَعُونِي عَلَى عِلْمِي بِالْغَيْبِ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ بِرِسَالَةٍ، مَا أَنَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ. قَالَ: حَقَّرْتُمُوهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً قَالَ: يَعْنِي إِيمَانًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا قَالَ: تَكْذِيبًا بِالْعَذَابِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ. [سورة هود (11) : الآيات 35 الى 44] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) قَوْلُهُ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: إِنَّ مَا أُوحِيَ إِلَى نُوحٍ مُفْتَرًى، فَقَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُجِيبَ بِكَلَامٍ مُنْصِفٍ، فَقَالَ: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، مَصْدَرُ أَجْرَمَ، أَيْ: فِعْلُ مَا يُوجِبُ الْإِثْمَ، وَجَرَمَ وَأَجْرَمَ بِمَعْنًى، قَالَهُ النَّحَّاسُ، وَالْمَعْنَى: فَعَلَيَّ إِثْمِي أَوْ جَزَاءُ كَسْبِي. وَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الهمزة، قال: هو جمع جرم ذكره النحاس أيضا وَأَنَا بَرِيءٌ

مِمَّا تُجْرِمُونَ أَيْ: مِنْ إِجْرَامِكُمْ بِسَبَبِ مَا تَنْسُبُونَهُ إِلَيَّ مِنَ الِافْتِرَاءِ، قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنْ مَا افْتَرَيْتُهُ، فَالْإِجْرَامُ وَعِقَابُهُ لَيْسَ إِلَّا عَلَيْكُمْ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقِيلَ: إِنَّهَا حِكَايَةٌ عَنْ نُوحٍ وَمَا قَالَهُ لِقَوْمِهِ، وَقِيلَ: هِيَ حِكَايَةٌ عَنِ الْمُحَاوَرَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ نَبِيِّنَا محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَكُفَّارِ مَكَّةَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَوْلُهُ: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ الْبَاءِ، أَيْ: بِأَنَّهُ، وَفِي الْكَلَامِ تَأْيِيسٌ لَهُ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، مُصَمِّمُونَ عَلَيْهِ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قَدْ سَبَقَ إِيمَانُهُ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ الْبُؤْسُ: الْحُزْنُ، أَيْ: فَلَا تَحْزَنْ، وَالْبَائِسُ: الْمُسْتَكِينُ، فَنَهَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أَنْ يَحْزَنَ حُزْنَ مُسْتَكِينٍ لِأَنَّ الِابْتِئَاسَ حُزْنٌ فِي اسْتِكَانَةٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَكَمْ مِنْ خَلِيلٍ أَوْ حَمِيمٍ رُزِئْتُهُ ... فَلَمْ أَبْتَئِسْ وَالرُّزْءُ فِيهِ جَلِيلُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَلْبَتَّةَ عَرَّفَهُ وَجْهَ إِهْلَاكِهِمْ، وَأَلْهَمَهُ الْأَمْرَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ خَلَاصُهُ وَخَلَاصُ مَنْ آمَنَ مَعَهُ، فَقَالَ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا أَيِ: اعْمَلِ السَّفِينَةَ مُتَلَبِّسًا بِأَعْيُنِنَا أَيْ: بِمَرْأًى مِنَّا، وَالْمُرَادُ: بِحِرَاسَتِنَا لَكَ، وَحِفْظِنَا لَكَ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَعْيُنِ لِأَنَّهَا آلَةُ الرُّؤْيَةِ، وَالرُّؤْيَةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْحِرَاسَةُ وَالْحِفْظُ فِي الْغَالِبِ، وَجَمَعَ الْأَعْيُنَ لِلتَّعْظِيمِ لَا لِلتَّكْثِيرِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: بِأَعْيُنِنا أَيْ: بِأَعْيُنِ مَلَائِكَتِنَا الَّذِينَ جَعَلْنَاهُمْ عُيُونًا عَلَى حِفْظِكَ وَقِيلَ: بِأَعْيُنِنا بِعِلْمِنَا وَقِيلَ: بِأَمْرِنَا. وَمَعْنَى بِوَحْيِنَا: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ كَيْفِيَّةِ صَنْعَتِهَا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيْ: لَا تَطْلُبُ إِمْهَالَهُمْ، فَقَدْ حَانَ وَقْتُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: لَا تَطْلُبُ مِنَّا إِمْهَالَهُمْ، فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ مِنَّا عَلَيْهِمْ بِالْغَرَقِ وَقَدْ مَضَى بِهِ الْقَضَاءُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ وَلَا تَأْخِيرِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي تَعْجِيلِ عِقَابِهِمْ فَإِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فِي الْوَقْتِ الْمَضْرُوبِ لِذَلِكَ، لَا يَتَأَخَّرُ إِغْرَاقُهُمْ عَنْهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا: امْرَأَتُهُ وَابْنُهُ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أَيْ: وَطَفِقَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ، أَوْ وَأَخَذَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ، وَجُمْلَةُ: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْ: اسْتَهْزَءُوا بِهِ لِعَمَلِهِ السَّفِينَةَ. قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ: يُقَالُ سَخِرَتْ بِهِ وَمِنْهُ. وَفِي وَجْهِ سُخْرِيَتِهِمْ مِنْهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ يَعْمَلُ السَّفِينَةَ، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ! صِرْتَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ نَجَّارًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوهُ يَعْمَلُ السَّفِينَةَ، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، قَالُوا: يا نوح ما تصنع بها؟ قَالَ: أَمْشِي بِهَا عَلَى الْمَاءِ فَعَجِبُوا مِنْ قَوْلِهِ، وَسَخِرُوا بِهِ. ثُمَّ أَجَابَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ وَهَذَا الْكَلَامُ مُسْتَأْنَفٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ لَهُمْ؟ وَالْمَعْنَى: إِنْ تسخروا منا بسبب عملنا للسفينة اليوم نَسْخَرُ مِنْكُمْ غَدًا عِنْدَ الْغَرَقِ. وَمَعْنَى السُّخْرِيَةِ هُنَا: الِاسْتِجْهَالُ، أَيْ: إِنْ تَسْتَجْهِلُونَا فَإِنَّا نَسْتَجْهِلُكُمْ كَمَا تَسْتَجْهِلُونَ، وَاسْتِجْهَالُهُ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ إِظْهَارِهِ لَهُمْ وَمُشَافَهَتِهِمْ، وَإِلَّا فَهُمْ عِنْدَهُ جُهَّالٌ قَبْلَ هَذَا وَبَعْدَهُ، وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ كَما تَسْخَرُونَ لِمُجَرَّدِ التَّحَقُّقِ وَالْوُقُوعِ، أَوِ التَّجَدُّدِ وَالتَّكَرُّرِ،

وَالْمَعْنَى: إِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ سُخْرِيَةً مُتَحَقِّقَةً وَاقِعَةً، كَمَا تَسْخَرُونَ مِنَّا كَذَلِكَ، أَوْ مُتَجَدِّدَةً مُتَكَرِّرَةً كَمَا تَسْخَرُونَ مِنَّا كَذَلِكَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: نَسْخَرُ مِنْكُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ سُخْرِيَةً مِثْلَ سُخْرِيَتِكُمْ إِذَا وَقَعَ عَلَيْكُمُ الْغَرَقُ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ حَالَهُمْ إِذْ ذَاكَ لَا تُنَاسِبُهُ السُّخْرِيَةُ إِذْ هُمْ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ عَنْهَا، ثُمَّ هَدَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَهُوَ عَذَابُ الْغَرَقِ فِي الدُّنْيَا وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ الدَّائِمُ، وَمَعْنَى يَحِلُّ: يَجْعَلُ الْمُؤَجَّلَ حَالًّا، مَأْخُوذٌ مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَمَنْ مَوْصُولَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، أَيْ: أَيُّنَا يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ رفع بالابتداء، ويأتيه الخبر، ويخزيه صِفَةٌ لِعَذَابٌ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ يَقُولُونَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ قَالَ: وَمَنْ قَالَ سَتَعْلَمُونَ أَسْقَطَ الْوَاوَ وَالْفَاءَ جَمِيعًا، وَجَوَّزَ الْكُوفِيُّونَ «سَوْفَ تَعْلَمُونَ» وَمَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَالْمُرَادُ بِعَذَابِ الْخِزْيِ: الْعَذَابُ الَّذِي يُخْزِي صَاحِبَهُ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ الْعَارُ. قَوْلُهُ حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ حَتَّى هِيَ الِابْتِدَائِيَّةُ دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ وَجُعِلَتْ غَايَةً لِقَوْلِهِ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا. والتنور اختلف في تفسيرها على أقوال: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا وَجْهُ الْأَرْضِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي وَجْهَ الْأَرْضِ تَنُّورًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَنُّورُ الخبز الذي يخبزون فِيهِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطِيَّةُ وَالْحَسَنُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِمَاعِ الْمَاءِ فِي السَّفِينَةِ، رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ تَنُّورُ الْفَجْرِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَسْجِدُ الْكُوفَةِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا وَمُجَاهِدٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ نَاحِيَةُ التَّنُّورِ بِالْكُوفَةِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ أَعَالِي الْأَرْضِ وَالْمَوَاضِعُ الْمُرْتَفِعَةُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. السَّابِعُ: أَنَّهُ الْعَيْنُ الَّتِي بِالْجَزِيرَةِ الْمُسَمَّاةِ عَيْنَ الْوَرْدَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ. الثَّامِنُ أَنَّهُ مَوْضِعٌ بِالْهِنْدِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ تَنَّوُرُ آدَمَ بِالْهِنْدِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَتْ بِمُتَنَاقِضَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ جَاءَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، قَالَ: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ- وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً «1» فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَجْتَمِعُ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَامَةً، هَكَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْقَوْلَ الرَّابِعَ يُنَافِي هَذَا الْجَمْعَ، وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ التَّفْسِيرُ بِنَبْعِ الْمَاءِ. إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْعَلَامَةِ كَمَا ذَكَرَهُ آخِرًا. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْفَوْرَ: الْغَلَيَانُ، وَالتَّنُّورَ: اسْمٌ عجمي عرّبته العرب وقيل معنى فار التَّنُّورُ: التَّمْثِيلُ بِحُضُورِ الْعَذَابِ، كَقَوْلِهِمْ: حَمِيَ الْوَطِيسُ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرْبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَرَكْتُمْ قِدْرَكُمْ لَا شَيْءَ فِيهَا ... وَقِدْرُ الْقَوْمِ حَامِيَةٌ تَفُورُ يُرِيدُ الْحَرْبَ. قَوْلُهُ: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أَيْ: قُلْنَا يَا نُوحُ احْمِلْ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ مِمَّا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَقَرَأَ حَفْصٌ: مِنْ كُلٍّ بِتَنْوِينِ كُلٍّ أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ زَوْجَيْنِ وَالزَّوْجَانِ: لِلِاثْنَيْنِ الذين لَا يَسْتَغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: زَوْجٌ وَلِلْمَرْأَةِ زَوْجٌ، وَيُطْلَقُ الزَّوْجُ عَلَى الِاثْنَيْنِ إِذَا اسْتُعْمِلَ مُقَابِلًا لِلْفَرْدِ، وَيُطْلَقُ الزَّوْجُ عَلَى الضرب والصنف،

_ (1) . القمر: 11- 12.

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ «1» وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَكُلُّ ضَرْبٍ مِنَ الدِّيبَاجِ يلبسه ... أبو قدامة محبوّ بِذَاكَ مَعَا أَرَادَ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الدِّيبَاجِ وَأَهْلَكَ عَطْفٌ عَلَى زَوْجَيْنِ، أَوْ عَلَى اثْنَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ حَفْصٍ، وَعَلَى مَحَلِّ كُلٍّ زَوْجَيْنِ، فَإِنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِاحْمِلْ، أَوْ عَلَى اثْنَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَالْمُرَادُ: امْرَأَتُهُ وَبَنُوهُ وَنِسَاؤُهُمْ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أَيْ مَنْ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُغْرَقِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ عَلَى الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ فِيهِمْ، فَمَنْ جَعَلَهُمْ جَمِيعَ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ كَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ جُمْلَةِ احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِمْ: وَلَدُهُ كَنْعَانُ وَامْرَأَتُهُ وَاعِلَةُ أُمُّ كَنْعَانَ، جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ أَهْلَكَ، وَيَكُونُ مُتَّصِلًا إِنْ أُرِيدَ بِالْأَهْلِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ مِنْهُمْ، وَمُنْقَطِعًا إِنْ أُرِيدَ بِالْأَهْلِ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ فَقَطْ. قَوْلُهُ: وَمَنْ آمَنَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَهْلَكَ، أَيْ: وَاحْمِلْ فِي السَّفِينَةِ مَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِكَ، وَأَفْرَدَ الْأَهْلَ مِنْهُمْ لِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ بِهِمْ، أَوْ لِلِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. ثُمَّ وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قِلَّةَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ نُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ فَقَالَ: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قِيلَ: هُمْ ثمانون إنسانا منهم: ثلاثة من بنيه، وهم سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ، وَزَوْجَاتُهُمْ، وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ بَنَوْا قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا: قَرْيَةُ الثَّمَانِينَ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِنَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ وَقِيلَ: كَانُوا عَشَرَةً، وَقِيلَ: سَبْعَةً، وَقِيلَ: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها الْقَائِلُ نُوحٌ، وَقِيلَ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَالرُّكُوبُ: الْعُلُوُّ عَلَى ظَهْرِ الشَّيْءِ حَقِيقَةً، نَحْوَ رَكِبَ الدَّابَّةَ، أَوْ مَجَازًا، نَحْوَ رَكِبَهُ الدَّيْنُ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيِ: ارْكَبُوا الْمَاءَ فِي السَّفِينَةِ فَلَا يَرِدُ: أَنَّ رَكِبَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْفَائِدَةَ فِي زِيَادَةِ فِي أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا فِي جَوْفِ السَّفِينَةِ لَا عَلَى ظَهْرِهَا وَقِيلَ: إِنَّهَا زِيدَتْ لِرِعَايَةِ جَانِبِ الْمَحَلِّيَّةِ فِي السَّفِينَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ «2» ، وقوله: حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ «3» قِيلَ: وَلَعَلَّ نُوحًا قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعْدَ إِدْخَالِ مَا أُمِرَ بِحَمْلِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَحَمَلَ الْأَزْوَاجَ وَأَدْخَلَهَا فِي الْفُلْكِ وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَمَرَ بِالرُّكُوبِ كُلَّ مَنْ أُمِرَ بِحَمْلِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْأَهْلِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْهَمَ خِطَابَهُ مَنْ لَا يَعْقِلُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ يَكُونَ هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ. قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ باركبوا، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِهِ، أَيْ: مُسَمِّينَ اللَّهَ، أَوْ قَائِلِينَ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها قَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: بِضَمِّ الْمِيمِ فِيهِمَا إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُمَا اسْمَا زَمَانٍ، وَهُمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: وَقْتَ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ، أَيْ: وَقْتَ إِجْرَائِهَا وَإِرْسَائِهَا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: مَجْراها بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَمُرْسَاهَا بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: بِفَتْحِهَا فِيهِمَا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا عَلَى أَنَّهُمَا وَصْفَانِ لِلَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا فِي مَوْضِعِ رفع بإضمار مبتدأ: أي هو مجراها وَمُرْسِيهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ لِلذُّنُوبِ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ إِنْجَاءُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ تَفَضُّلًا مِنْهُ لِبَقَاءِ هَذَا الْجِنْسِ الْحَيَوَانِيِّ، وَعَدَمِ اسْتِئْصَالِهِ بِالْغَرَقِ. قَوْلُهُ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ

_ (1) . الحجر: 5. (2) . العنكبوت: 65. (3) . الكهف: 71.

هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا الْأَمْرُ بِالرُّكُوبِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَرَكِبُوا مُسَمِّينَ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ، وَالْمَوْجُ: جَمْعُ مَوْجَةٍ، وَهِيَ: مَا ارْتَفَعَ عَنْ جُمْلَةِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الرِّيحِ، وَشَبَّهَهَا بِالْجِبَالِ الْمُرْتَفِعَةِ عَلَى الْأَرْضِ. قَوْلُهُ: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ هُوَ كَنْعَانُ، قِيلَ: وَكَانَ كَافِرًا، وَاسْتُبْعِدَ كَوْنُ نُوحٍ يُنَادِي مَنْ كَانَ كَافِرًا مَعَ قَوْلِهِ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا فَظَنَّ نُوحٌ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَقِيلَ: حَمَلَتْهُ شَفَقَةُ الْأُبُوَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ ابْنُ امْرَأَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ بِابْنِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَرَأَ: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهَا وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لِغَيْرِ رَشْدَةٍ، وَوُلِدَ عَلَى فِرَاشِ نُوحٍ. وَرُدَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ، وَقَوْلَهُ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي يَدْفَعُ ذَلِكَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ صِيَانَةِ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ أَيْ: فِي مَكَانٍ عَزَلَ فِيهِ نَفْسَهُ عَنْ قَوْمِهِ وَقَرَابَتِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُ قَوْلُ نُوحٍ: ارْكَبُوا فِيها، وَقِيلَ: فِي مَعْزِلٍ مِنْ دِينِ أَبِيهِ، وَقِيلَ: مِنَ السَّفِينَةِ، قِيلَ: وَكَانَ هَذَا النِّدَاءُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَيْقِنَ النَّاسُ الْغَرَقَ، بَلْ كَانَ فِي أَوَّلِ فَوْرِ التَّنُّورِ. قَوْلُهُ: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا قَرَأَ عَاصِمٌ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، فَأَمَّا الْكَسْرُ: فَلِجَعْلِهِ بَدَلًا مِنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ يَا بُنَيَّ، وَأَمَّا الْفَتْحُ: فَلِقَلْبِ يَاءِ الْإِضَافَةِ أَلِفًا لِخِفَّةِ الْأَلِفِ، ثُمَّ حذف وَبَقِيَتِ الْفَتْحَةُ لِتَدُلَّ عَلَيْهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ مُشْكِلَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَصْلُهُ يَا بُنَيَّاهُ ثُمَّ تُحْذَفُ، وَقَدْ جَعَلَ الزَّجَّاجُ لِلْفَتْحِ وَجْهَيْنِ، وَلِلْكَسْرِ وَجْهَيْنِ. أَمَّا الْفَتْحُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ: مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تُحْذَفَ الْأَلِفُ لالتقاء الساكنين. وأما الكسر فالوجه الأوّل: ما ذَكَرْنَاهُ، وَالثَّانِي: أَنْ تُحْذَفَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، كَذَا حَكَى عَنْهُ النَّحَّاسُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: ارْكَبْ مَعَنا بِإِدْغَامِ الْبَاءِ فِي الْمِيمِ لتقاربهما في المخرج. وقرأ الباقون بعد الْإِدْغَامِ وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ نَهَاهُ عَنِ الْكَوْنِ مَعَ الْكَافِرِينَ، أَيْ: خَارِجَ السَّفِينَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَوْنِ مَعَهُمُ: الْكَوْنُ عَلَى دِينِهِمْ، ثُمَّ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ نُوحٍ عَلَى أَبِيهِ فَقَالَ: قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ أَيْ: يَمْنَعُنِي بِارْتِفَاعِهِ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَيَّ، فَأَجَابَ عَنْهُ نُوحٌ بِقَوْلِهِ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أَيْ: لَا مَانِعَ فَإِنَّهُ يَوْمٌ قَدْ حَقَّ فِيهِ الْعَذَابُ وَجَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فِيهِ، نَفَى جِنْسَ الْعَاصِمِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْعَاصِمُ مِنَ الْغَرَقِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا، وَعَبَّرَ عَنِ الْمَاءِ أَوْ عَنِ الْغَرَقِ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَهْوِيلًا لِأَمْرِهِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ يَعْصِمُهُ، فَيَكُونُ مَنْ رَحِمَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ عَاصِمَ بِمَعْنَى مَعْصُومٍ، أَيْ: لَا مَعْصُومَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِثْلَ ماءٍ دافِقٍ «2» - وعِيشَةٍ راضِيَةٍ «3» وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَنْهَضْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي أَيْ: الْمُطْعَمُ الْمَكْسُوُّ، وَاخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقِيلَ: الْعَاصِمُ بِمَعْنَى ذِي الْعِصْمَةِ، كَلَابِنٍ وَتَامِرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا عَاصِمَ قَطُّ إِلَّا مَكَانَ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ، وَهُوَ: السَّفِينَةُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُرَدُّ مَا يُقَالُ: إِنَّ مَعْنَى مَنْ رَحِمَ، مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مَعْصُومٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ عَنِ الْعَاصِمِ؟ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ دَفْعًا لِلْإِشْكَالِ. وَقُرِئَ: إِلَّا مَنْ رُحِمَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ

_ (1) . نوح: 26. (2) . الطارق: 6. (3) . الحاقة: 21.

أَيْ: حَالَ بَيْنَ نُوحٍ وَابْنِهِ فَتَعَذَّرَ خَلَاصُهُ مِنَ الْغَرَقِ وَقِيلَ: بَيْنَ ابْنِ نُوحٍ، وَبَيْنَ الْجَبَلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ تَفَرُّعَ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ لَا عَلَى الثَّانِي، لِأَنَّ الْجَبَلَ لَيْسَ بِعَاصِمٍ. قَوْلُهُ: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ يُقَالُ: بَلَعَ الْمَاءُ يَبْلَعُهُ مِثْلَ مَنَعَ يَمْنَعُ، وَبَلِعَ يَبْلَعُ مِثْلَ حَمِدَ يَحْمَدُ لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: وَالْبَلْعُ: الشُّرْبُ، وَمِنْهُ الْبَالُوعَةُ، وَهِيَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَشْرَبُ الْمَاءَ، وَالِازْدِرَادُ، يُقَالُ: بَلَعَ مَا فِي فَمِهِ مِنَ الطَّعَامِ إِذَا ازْدَرَدَهُ، وَاسْتُعِيرَ الْبَلْعُ الَّذِي هُوَ مِنْ فِعْلِ الْحَيَوَانِ لِلنَّشَفِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ كَالنَّشَفِ الْمُعْتَادِ الْكَائِنِ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي الْإِقْلَاعُ: الْإِمْسَاكُ، يُقَالُ: أَقْلَعَ الْمَطَرُ، إِذَا انْقَطَعَ. وَالْمَعْنَى: أَمَرَ السَّمَاءَ بِإِمْسَاكِ الْمَاءِ عَنِ الْإِرْسَالِ، وَقَدَّمَ نِدَاءَ الْأَرْضِ عَلَى السَّمَاءِ لِكَوْنِ ابْتِدَاءِ الطُّوفَانِ مِنْهَا وَغِيضَ الْماءُ: أَيْ نَقَصَ، يُقَالُ غَاضَ الْمَاءُ وَغُضْتُهُ أَنَا وَقُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ: أُحْكِمَ وَفُرِغَ مِنْهُ، يَعْنِي: أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ عَلَى تَمَامٍ وَإِحْكَامٍ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ أَيِ: اسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِالْجُودِيِّ، وَهُوَ جَبَلٌ بِقُرْبِ الْمَوْصِلِ وَقِيلَ: إِنَّ الْجُودِيَّ اسْمٌ لِكُلِّ جَبَلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: سبحانه ثم سبحانا يعود له ... وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ وَيُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ فَلِذَا اسْتَوَتْ عَلَيْهِ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الْقَائِلُ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُنَاسِبَ صَدْرَ الْآيَةِ وَقِيلَ: هُوَ نُوحٌ وَأَصْحَابُهُ. وَالْمَعْنَى: وَقِيلَ هَلَاكًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَهُوَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِدُعَاءِ السُّوءِ، وَوَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ: لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ عِلَّةُ الْهَلَاكِ، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقَدْ أَطْبَقَ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ بَالِغَةٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ إِلَى مَحَلٍّ يَتَقَاصَرُ عَنْهُ الْوَصْفُ، وَتَضْعُفُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يُقَارِبُهُ قُدْرَةُ الْقَادِرِينَ عَلَى فُنُونِ الْبَلَاغَةِ، الثَّابِتِينَ الْأَقْدَامَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ، الرَّاسِخِينَ فِي عِلْمِ اللُّغَةِ، الْمُطَّلِعِينَ عَلَى مَا هُوَ مُدَوَّنٌ مِنْ خُطَبِ مَصَاقِعِ خُطَبَاءِ الْعَرَبِ، وَأَشْعَارِ بَوَاقِعِ شُعَرَائِهِمْ، الْمُرْتَاضِينَ بِدَقَائِقِ عُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسْرَارِهَا. وَقَدْ تَعَرَّضَ لِبَيَانِ بَعْضِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَأَطَالُوا وَأَطَابُوا، رَحِمْنَا اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَعَلَيَّ إِجْرامِي قَالَ: عَمَلِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أَيْ: مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ وَذَلِكَ حِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ نُوحٌ قَالَ: لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّ نُوحًا لَمْ يَدْعُ عَلَى قَوْمِهِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ هَذِهِ، فَانْقَطَعَ عِنْدَ ذَلِكَ رَجَاؤُهُ مِنْهُمْ فَدَعَا عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَبْتَئِسْ قَالَ: فَلَا تَحْزَنْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا قَالَ: بِعَيْنِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَمْ يَعْلَمْ نُوحٌ كَيْفَ يصنع الفلك، فأوحى إِلَيْهِ أَنْ يَصْنَعَهَا مِثْلَ جُؤْجُؤِ الطَّائِرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ نُوحٌ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ، حَتَّى كَانَ آخِرَ زَمَانِهِ غَرَسَ شَجَرَةً فَعَظُمَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ قَطَعَهَا ثُمَّ جَعَلَ يَعْمَلُهَا سَفِينَةً يمرّون فيسألونه فيقول

_ (1) . نوح: 26.

أَعْمَلُهَا سَفِينَةً فَيَسْخَرُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ يَعْمَلُ سَفِينَةً فِي الْبَرِّ، وَكَيْفَ تَجْرِي؟ قَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا وَفَارَ التَّنُّورُ وَكَثُرَ الْمَاءُ فِي السِّكَكِ خَشِيَتْهُ أُمُّ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَخَرَجَتْ إِلَى الْجَبَلِ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلُثَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ خَرَجَتْ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَقَبَتَهُ رَفَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهَا حَتَّى ذَهَبَ بِهَا الْمَاءُ، فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لَرَحِمَ أُمَّ الصَّبِيِّ» . وَقَدْ ضَعَّفَهُ الذَّهَبِيُّ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَلَى مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي صِفَةِ السَّفِينَةِ وَقَدْرِهَا أَحَادِيثُ وَآثَارٌ لَيْسَ فِي ذِكْرِهَا هَنَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ قَالَ: هُوَ الْغَرَقُ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ قَالَ: هُوَ الْخُلُودُ فِي النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ بَيْنَ دَعْوَةِ نُوحٍ وَبَيْنَ هَلَاكِ قَوْمِهِ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ فَارَ التَّنُّورُ بِالْهِنْدِ وَطَافَتْ سَفِينَةُ نُوحٍ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: التَّنُّورُ: الْعَيْنُ الَّتِي بِالْجَزِيرَةِ عَيْنُ الْوَرْدَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فَارَ التَّنُّورُ مِنْ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ كِنْدَةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ نَحْوُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: التَّنُّورُ: وَجْهُ الْأَرْضِ، قِيلَ لَهُ: إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَارْكَبْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي وَجْهَ الْأَرْضِ تَنُّورَ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ وَفارَ التَّنُّورُ قَالَ: طَلَعَ الْفَجْرُ قِيلَ لَهُ: إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَارْكَبْ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ التَّنُّورِ غَيْرُ هَذَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَى ذَلِكَ. وَرُوِيَ فِي صِفَةِ الْقِصَّةِ وَمَا حَمَلَهُ نُوحٌ فِي السَّفِينَةِ، وَكَيْفَ كَانَ الْغَرَقُ، وَكَمْ بَقِيَتِ السَّفِينَةُ عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها قَالَ: حِينَ يَرْكَبُونَ وَيَجْرُونَ وَيُرْسُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ تَرْسِيَ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَأَرْسَتْ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ تَجْرِيَ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَجَرَتْ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَانٌ لِأُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إِذَا رَكِبُوا الْفُلْكَ أَنْ يَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ الْمَلِكِ الرَّحْمَنِ. بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ اسْمُ ابْنِ نُوحٍ الَّذِي غَرِقَ كَنْعَانَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ ابْنُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَالَفَهُ فِي النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ قَالَ: لَا نَاجٍ إِلَّا أَهْلُ السَّفِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَرَّةَ فِي قَوْلِهِ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ قَالَ: بَيْنَ ابْنِ نُوحٍ وَالْجَبَلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ يا أَرْضُ ابْلَعِي قَالَ: هُوَ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي ابْلَعِي قَالَ بِالْحَبَشِيَّةِ: أَيِ ازْدَرِدِيهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَعْنَاهُ: اشْرَبِي، بِلُغَةِ الْهِنْدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ

[سورة هود (11) : الآيات 45 إلى 49]

وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. أَقُولُ: وَثُبُوتُ لَفْظِ الْبَلْعِ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ، فما لنا وللحبشة والهند؟!. [سورة هود (11) : الآيات 45 الى 49] وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) ومعنى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ دَعَاهُ، وَالْمُرَادُ: أَرَادَ دُعَاءَهُ، بِدَلِيلِ الْفَاءِ فِي: فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ سَائِغٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أَنَّهُ مِنَ الْأَهْلِ الَّذِينَ وَعَدْتَنِي بِتَنْجِيَتِهِمْ بِقَوْلِكَ: وَأَهْلَكَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ طَلَبَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْجَازَ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَأَهْلَكَ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَتَرَكَ مَا يُفِيدُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ؟ فَيُجَابُ: بِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ إِذْ ذَاكَ أَنَّهُ مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَظُنُّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ الَّذِي لَا خُلْفَ فِيهِ، وَهَذَا مِنْهُ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أَيْ: أَتْقَنُ الْمُتْقِنِينَ لِمَا يَكُونُ بِهِ الْحُكْمُ، فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَى حُكْمِكَ نَقْضٌ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، أَعْلَمَهُمْ وَأَعْدَلَهُمْ، أَيْ: أَنْتَ أَكْثَرُ عِلْمًا وَعَدْلًا مِنْ ذَوِي الْحُكْمِ وَقِيلَ: إِنَّ الْحَاكِمَ بِمَعْنَى: ذِي الْحِكْمَةِ كَدَارِعٍ، ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ نُوحٍ بِبَيَانِ أَنَّ ابْنَهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عُمُومِ الْأَهْلِ، وَأَنَّهُ خَارِجٌ بِقَيْدِ الِاسْتِثْنَاءِ فِ قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكَ وَتَابَعُوكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِكَ بِاعْتِبَارِ الْقَرَابَةِ ثُمَّ صَرَّحَ بِالْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِخُرُوجِهِ مِنْ عُمُومِ الْأَهْلِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرَابَةِ: قَرَابَةُ الدِّينِ لَا قَرَابَةُ النَّسَبِ وَحْدَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَمَلٌ، عَلَى لَفْظِ الْمَصْدَرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ: عَمِلَ، عَلَى لَفْظِ الْفِعْلِ وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى الْمُبَالَغَةُ فِي ذَمِّهِ كَأَنَّهُ جُعِلَ نَفْسَ الْعَمَلِ، وَأَصْلُهُ ذُو عَمَلٍ غَيْرِ صَالِحٍ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ وَجُعِلَ نَفْسَ الْعَمَلِ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ ظَاهِرٌ، أَيْ: إِنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا غَيْرَ صَالِحٍ، وَهُوَ كُفْرُهُ وَتَرْكُهُ لِمُتَابَعَةِ أَبِيهِ، ثُمَّ نَهَاهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ، فَقَالَ: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ لَمَّا بَيَّنَ لَهُ بُطْلَانَ مَا اعْتَقَدَهُ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِهِ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ السُّؤَالِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ نَهْيًا عَامَّا بِحَيْثُ يَشْمَلُ كُلَّ سُؤَالٍ لَا يَعْلَمُ صَاحِبُهُ أَنَّ حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِنْهُ صَوَابٌ، فَهُوَ يَدْخُلُ تَحْتَهُ سُؤَالُهُ هَذَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَفِيهِ عَدَمُ جَوَازِ الدُّعَاءِ بِمَا لَا يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ مُطَابَقَتَهُ لِلشَّرْعِ، وَسُمِّيَ دُعَاءُهُ سُؤَالًا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى السُّؤَالِ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أَيْ: أُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، كَقَوْلِهِ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً «1» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَرْفَعُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذِهِ زِيَادَةٌ مِنَ اللَّهِ

_ (1) . النور: 17.

وَمَوْعِظَةٌ يَرْفَعُ بِهَا نُوحًا عَنْ مَقَامِ الْجَاهِلِينَ، وَيُعْلِيهِ بِهَا إِلَى مَقَامِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ. ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ نُوحٌ بِأَنَّ سُؤَالَهُ لَمْ يُطَابِقِ الْوَاقِعَ، وَأَنَّ دُعَاءَهُ نَاشِئٌ عَنْ وَهْمٍ كَانَ يَتَوَهَّمُهُ بَادَرَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْخَطَأِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَ قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أَيْ: أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَطْلُبَ مِنْكَ مَا لَا عِلْمَ لِي بِصِحَّتِهِ وَجَوَازِهِ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ذَنْبَ مَا دَعَوْتُ بِهِ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ مِنِّي وَتَرْحَمْنِي بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَتَقْبَلْ تَوْبَتِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ فِي أَعْمَالِي فَلَا أَرْبَحُ فِيهَا. الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ، أَوِ الْمَلَائِكَةُ: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ أَيِ: انْزِلْ مِنَ السَّفِينَةِ إِلَى الْأَرْضِ، أَوْ مِنَ الْجَبَلِ إِلَى الْمُنْخَفَضِ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَدْ بَلَعَتِ الْأَرْضُ مَاءَهَا وَجَفَّتْ بِسَلامٍ مِنَّا أَيْ: بِسَلَامَةٍ وَأَمْنٍ، وَقِيلَ: بِتَحِيَّةٍ وَبَرَكاتٍ أَيْ: نِعَمٍ ثَابِتَةٍ، مُشْتَقٌّ مِنْ بُرُوكِ الْجَمَلِ، وَهُوَ ثُبُوتُهُ، وَمِنْهُ الْبَرَكَةُ لِثُبُوتِ الْمَاءِ فِيهَا، وَفِي هَذَا الْخِطَابِ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ وَمَغْفِرَةِ زَلَّتِهِ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أَيْ: نَاشِئَةٍ مِمَّنْ مَعَكَ، وَهُمُ الْمُتَشَعِّبُونَ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ وَقِيلَ: أَرَادَ مَنْ فِي السَّفِينَةِ، فَإِنَّهُمْ أُمَمٌ مُخْتَلِفَةٌ وَأَنْوَاعٌ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُتَبَايِنَةٌ. قِيلَ: أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مَنْ صَارَ مُؤْمِنًا مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ مَنْ صَارَ كَافِرًا مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَارْتِفَاعُ أُمَمٌ فِي قَوْلِهِ: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ: وَمِنْهُمْ أُمَمٌ وَقِيلَ: عَلَى تَقْدِيرِ: وَيَكُونُ أُمَمٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ كَمَا تَقُولُ: كَلَّمْتُ زَيْدًا وَعَمْرٌو جَالِسٌ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ فِي غَيْرِ الْقِرَاءَةِ: وَأُمَمًا سَنُمَتِّعُهُمْ: أَيْ وَنُمَتِّعُ أُمَمًا وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَتَاعِ، وَنُعْطِيهِمْ مِنْهَا مَا يَعِيشُونَ بِهِ، ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَقِيلَ: يَمَسُّهُمْ إِمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إِلَى قِصَّةِ نُوحٍ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمَلُ بَعْدَهُ أَخْبَارٌ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ مِنْ جِنْسِ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَالْأَنْبَاءُ: جَمْعُ نَبَأٍ وَهُوَ الْخَبَرُ، أَيْ: مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي مَرَّتْ بِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي: نُوحِيها إِلَيْكَ رَاجِعٌ إِلَى الْقِصَّةِ، وَالْمَجِيءُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ مَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا يَعْلَمُهَا قَوْمُكَ بَلْ هِيَ مَجْهُولَةٌ عِنْدَكُمْ مِنْ قَبْلِ الْوَحْيِ، أَوْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْوَقْتِ فَاصْبِرْ عَلَى مَا تُلَاقِيهِ مِنْ كُفَّارِ زَمَانِكَ، وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا إِنَّ الْعاقِبَةَ الْمَحْمُودَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلْمُتَّقِينَ لِلَّهِ، الْمُؤْمِنِينَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْشِيرٌ لَهُ بِأَنَّ الظَّفَرَ لِلْمُتَّقِينَ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَبَادِيهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: نَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَإِنَّكَ قَدْ وَعَدْتِنِي أَنْ تُنْجِيَ لِي أَهْلِي، وَإِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ» ، وَقَوْلُهُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الَّذِينَ وَعَدْتُكَ أَنْ أُنْجِيَهُمْ مَعَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ نِسَاءَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَزْنِينَ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ يَقُولُ: مَسْأَلَتُكَ إِيَّايَ يَا نُوحُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ لَا أَرْضَاهُ لَكَ. وَأَخْرُجُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ في قوله: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قَالَ: بَيَّنَ اللَّهُ لِنُوحٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِابْنِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشيخ عن ابن زيد في قوله: يا نُوحُ اهْبِطْ

[سورة هود (11) : الآيات 50 إلى 60]

بِسَلامٍ مِنَّا قَالَ: أُهْبِطُوا وَاللَّهُ عَنْهُمْ رَاضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: دَخَلَ فِي ذَلِكَ السَّلَامِ وَالْبَرَكَاتِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ كُلُّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ الضَّحَّاكِ: وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ يَعْنِي مِمَّنْ لَمْ يُولَدُ، أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُمُ الْبَرَكَاتُ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ يَعْنِي: مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ يعني العرب مِنْ قَبْلِ هذا القرآن. [سورة هود (11) : الآيات 50 الى 60] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) قَوْلُهُ: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً مَعْطُوفٌ عَلَى وَأَرْسَلْنَا نُوحًا أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عاد أخاهم أي: واحدا منهم، وهودا عَطْفُ بَيَانٍ، وَقَوْمُ عَادٍ كَانُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلَ هَذَا فِي الْأَعْرَافِ. وَقِيلَ: هُمْ عَادٌ الْأُولَى وَعَادٌ الْأُخْرَى، فَهَؤُلَاءِ هُمْ عَادٌ الْأُولَى، وَعَادٌ الْأُخْرَى: هُمْ شَدَّادُ وَلُقْمَانُ وَقَوْمُهُمَا الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ «1» ، وَأَصْلُ عَادٍ: اسْمُ رَجُلٍ ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ كَتَمِيمٍ وَبَكْرٍ وَنَحْوِهِمَا: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قُرِئَ غَيْرُهُ بِالْجَرِّ عَلَى اللَّفْظِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى مَحَلِّ مِنْ إِلَهٍ، وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ أَيْ: مَا أَنْتُمْ بِاتِّخَاذِ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ إِلَّا كَاذِبُونَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ فقال: يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أَيْ: لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ أَجْرًا عَلَى مَا أُبَلِّغُهُ إِلَيْكُمْ، وَأَنْصَحُكُمْ بِهِ مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ لَكُمْ سِوَاهُ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَضْمُونِ هَذَا الْكَلَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَيْ: مَا أَجْرِيَ الَّذِي أَطْلُبُ إِلَّا مِنَ الَّذِي فَطَرَنِي، أَيْ: خَلَقَنِي فَهُوَ الَّذِي يُثِيبُنِي عَلَى ذَلِكَ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَنَّ أَجْرَ النَّاصِحِينَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قِيلَ: إنما

_ (1) . الفجر: 7.

قال فيما تقدّم في قصة نوح: مالا، وَهُنَا قَالَ: أَجْرًا: لِذِكْرِ الْخَزَائِنِ بَعْدَهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَلَفْظُ الْمَالِ بِهَا أَلْيَقُ، ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ. وَالْمَعْنَى: اطْلُبُوا مَغْفِرَتَهُ لِمَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، ثُمَّ تَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمِثْلِ هَذَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ، ثُمَّ رَغَّبَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِالْخَيْرِ الْعَاجِلِ، فَقَالَ يُرْسِلِ السَّماءَ أَيِ: الْمَطَرَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أَيْ: كَثِيرَ الدُّرُورِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، دَرَّتِ السَّمَاءُ تُدِرُّ وَتَدُرُّ فَهِيَ مِدْرَارٌ، وَكَانَ قَوْمُ هُودٍ أَهْلَ بَسَاتِينَ وَزَرْعٍ وَعِمَارَةٍ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمُ الرِّمَالَ الَّتِي بَيْنَ الشَّامِ وَالْيَمَنِ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى يُرْسِلِ، أَيْ: شِدَّةً مُضَافَةً إِلَى شِدَّتِكُمْ، أَوْ: خِصْبًا إِلَى خِصْبِكُمْ، أَوْ: عِزًّا إِلَى عِزِّكُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى يَزِدْكُمْ قُوَّةً فِي النِّعَمِ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ أَيْ: لَا تُعْرِضُوا عَمَّا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَتُقِيمُوا عَلَى الْكُفْرِ مُصِرِّينَ عَلَيْهِ، وَالْإِجْرَامُ: الْآثَامُ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ أَجَابَهُ قَوْمُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى فَرْطِ جَهَالَتِهِمْ، وَعَظِيمِ غَبَاوَتِهِمْ، ف قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أَيْ: بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ نَعْمَلُ عَلَيْهَا، وَنُؤْمِنُ لَكَ بِهَا غير معترفين بما جاءهم به مِنْ حُجَجِ اللَّهِ وَبَرَاهِينِهِ عِنَادًا وَبُعْدًا عَنِ الْحَقِّ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا الَّتِي نَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَمَعْنَى عَنْ قَوْلِكَ صَادِرِينَ عَنْ قَوْلِكَ، فَالظَّرْفُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أَيْ: بِمُصَدِّقِينَ فِي شَيْءٍ مِمَّا جِئْتَ بِهِ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ أَيْ: مَا نَقُولُ إِلَّا أَنَّهُ أَصَابَكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا الَّتِي تَعِيبُهَا وَتُسَفِّهُ رَأْيَنَا فِي عِبَادَتِهَا بِسُوءٍ: بِجُنُونٍ، حَتَّى نَشَأَ عَنْ جُنُونِكَ مَا تَقُولُهُ لَنَا وَتَكَرِّرُهُ عَلَيْنَا مِنَ التَّنْفِيرِ عَنْهَا، يُقَالُ عَرَاهُ الْأَمْرُ وَاعْتَرَاهُ: إِذَا أَلَمَّ بِهِ، فَأَجَابَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِهِمْ وَعَلَى وُثُوقِهِ بِرَبِّهِ وَتَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شيء مما يرده الْكُفَّارُ بِهِ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ فَ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنْتُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ بِهِ مِنْ دُونِهِ أَيْ: مِنْ إِشْرَاكِكِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَزِّلَ بِهِ سُلْطَانًا فَكِيدُونِي جَمِيعاً أَنْتُمْ وَآلِهَتُكُمْ إِنْ كَانَتْ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِضْرَارِ بِي وَأَنَّهَا اعترتني بسوء ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ أَيْ: لَا تُمْهِلُونِي، بَلْ عَاجِلُونِي وَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَفِي هَذَا مِنْ إِظْهَارِ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِمْ وَبِأَصْنَامِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مَا يَصُكُّ مَسَامِعَهُمْ، وَيُوَضِّحُ عَجْزَهُمْ وَعَدَمَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى شَيْءٍ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ فَهُوَ يَعْصِمُنِي مِنْ كَيْدِكُمْ، وَإِنْ بَلَغْتُمْ فِي تَطَلُّبِ وُجُوهِ الْإِضْرَارِ بِي كُلَّ مَبْلَغٍ، فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ تَوَكُّلَهُ عَلَى اللَّهِ، وَثِقَتَهُ بِحِفْظِهِ وَكَلَاءَتِهِ وَصَفَهُ بِمَا يُوجِبُ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَالتَّفْوِيضَ إِلَيْهِ مِنِ اشْتِمَالِ رُبُوبِيَّتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْجَمِيعِ، وَأَنَّ نَاصِيَةَ كُلِّ دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الْأَرْضِ بِيَدِهِ، وَفِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِغَايَةِ التَّسْخِيرِ وَنِهَايَةِ التَّذْلِيلِ، وَكَانُوا إِذَا أَسَرُوا الْأَسِيرَ وَأَرَادُوا إِطْلَاقَهُ، وَالْمَنَّ عَلَيْهِ جَزُّوا نَاصِيَتَهُ فَجَعَلُوا ذَلِكَ عَلَامَةً لِقَهْرِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى آخذ بناصيتها: مالكها والقادر عليها، وقال القتبي: قَاهِرُهَا لِأَنَّ مَنْ أَخَذْتَ بِنَاصِيَتِهِ فَقَدْ قَهَرْتَهُ، وَالنَّاصِيَةُ قُصَاصُ الشَّعْرِ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، ثُمَّ عَلَّلَ مَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: هُوَ عَلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فَلَا يَكَادُ يُسَلِّطُكُمْ عَلَيَّ فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: تَتَوَلَّوْا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْمَعْنَى فَإِنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِجَابَةِ، وَالتَّصْمِيمِ عَلَى مَا أَنْتَمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ لَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا ذَلِكَ، وَقَدْ لَزِمَتْكُمُ الْحُجَّةُ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ الْوَعِيدِ بِالْهَلَاكِ، أَيْ:

يَسْتَخْلِفُ فِي دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ قَوْمًا آخَرِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ. وَرَوَى حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَيَسْتَخْلِفُ بِالْجَزْمِ حَمْلًا عَلَى مَوْضِعِ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً أَيْ: بِتَوَلِّيكُمْ، وَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الضَّرَرِ وَلَا حَقِيرٍ إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أَيْ: رَقِيبٌ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِ بحفظه مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، قِيلَ: وَعَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لِكُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ فَهُوَ يَحْفَظُنِي مِنْ أَنْ تَنَالُونِي بِسُوءٍ وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أَيْ: عَذَابُنَا الَّذِي هُوَ إِهْلَاكُ عَادٍ نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ بِرَحْمَةٍ مِنَّا أَيْ: بِرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ كَائِنَةٍ مِنَّا لِأَنَّهُ لَا يَنْجُو أَحَدٌ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَقِيلَ: هِيَ الْإِيمَانُ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أَيْ: شَدِيدٍ، قيل: وَهُوَ السَّمُومُ الَّتِي كَانَتْ تَدْخُلُ أُنُوفَهُمْ وَتِلْكَ عادٌ مبتدأ وخبر، وأنت الْإِشَارَةَ اعْتِبَارًا بِالْقَبِيلَةِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ مِنَ العرب من لا يصرف عاد وَيَجْعَلُهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أَيْ: كَفَرُوا بِهَا وَكَذَّبُوهَا وَأَنْكَرُوا الْمُعْجِزَاتِ وَعَصَوْا رُسُلَهُ أَيْ: هُودًا وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِ رَسُولٌ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ هُنَا لِأَنَّ مِنْ كَذَّبَ رَسُولًا فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ عَصَوْا هُودًا وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، أَوْ كَانُوا بِحَيْثُ لَوْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا مُتَعَدِّدِينَ لَكَذَّبُوهُمْ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، وَالْعَنِيدُ: الطَّاغِي الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ وَلَا يُذْعِنُ لَهُ. قال أبو عبيدة: العنيد والعنود وَالْعَانِدُ وَالْمُعَانِدُ، وَهُوَ الْمُعَارِضُ بِالْخِلَافِ مِنْهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعِرْقِ الَّذِي يَتَفَجَّرُ بِالدَّمِ عَانِدٌ. قَالَ الرَّاجِزُ: إِنِّي كَبِيرٌ لَا أُطِيقُ الْعُنَّدَا وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أَيْ: أُلْحِقُوهَا، وَهِيَ الْإِبْعَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالطَّرْدُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَازِمَةٌ لَهُمْ لَا تُفَارِقُهُمْ مَا دَامُوا في الدنيا وَأتبعوها يَوْمَ الْقِيامَةِ فَلُعِنُوا هُنَالِكَ كَمَا لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَيْ: بِرَبِّهِمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ، يُقَالُ: كَفَرْتُهُ، وَكَفَرَتُ بِهِ: مِثْلَ: شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ أَيْ: لَا زَالُوا مُبْعَدِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْبُعْدُ: الْهَلَاكُ، وَالْبُعْدُ: التَّبَاعُدُ مِنَ الْخَيْرِ، يُقَالُ: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْدًا: إِذَا تَأَخَّرَ وَتَبَاعَدَ، وَبَعُدَ يَبْعُدُ بُعْدًا: إِذَا هَلَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا يَبْعَدَنَّ قَوْمَيِ الَّذِينَ هُمْ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزُرِ وَقَالَ النَّابِغَةُ: فَلَا تَبْعُدَنَّ إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْهَلٌ ... وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا بِهِ الْحَالُ زَائِلُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مَا كَانَ يَنْفَعُنِي مَقَالُ نِسَائِهِمْ ... وَقُتِلْتُ دُونَ رِجَالِهِمْ لَا تَبْعَدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُهُ فِي الدُّعَاءِ بِالْهَلَاكِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ: إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي

[سورة هود (11) : الآيات 61 إلى 68]

أَيْ: خَلَقَنِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: أَمْسَكَ اللَّهُ عَنْ عَادٍ الْقَطْرَ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَقَالَ لَهُمْ هُودٌ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً فَأَبَوْا إِلَّا تَمَادِيًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ هَارُونَ التَّيْمِيِّ فِي قَوْلِهِ: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً قَالَ: الْمَطَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ قَالَ: شدّة إلى شدّتكم. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ قَالَ: وَلَدَ الْوَلَدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قَالَ: أَصَابَتْكَ بِالْجُنُونِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَخَافُ لِصًّا عَادِيًا، أَوْ سَبُعًا ضَارِيًا أَوْ شَيْطَانًا مَارِدًا فَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا صَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَخْرُجُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قَالَ: الْحَقِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: عَذابٍ غَلِيظٍ قَالَ: شَدِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ قَالَ: الْمُشْرِكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْعَنِيدُ: الْمُشَاقُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً قَالَ: لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ بَعْدَ عَادٍ إِلَّا لُعِنَتْ عَلَى لِسَانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: تَتَابَعَتْ عَلَيْهِمْ لَعْنَتَانِ مِنَ اللَّهِ: لَعْنَةٌ فِي الدنيا، ولعنة في الآخرة. [سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) قَوْلُهُ: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا، والكلام فيه وفي قوله: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ هُودٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: وَإِلَى ثَمُودٍ بِالتَّنْوِينِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ. وَاخْتَلَفَ سَائِرُ الْقُرَّاءِ فِيهِ فَصَرَفُوهُ فِي مَوْضِعٍ وَلَمْ يَصْرِفُوهُ فِي مَوْضِعٍ. فَالصَّرْفُ بِاعْتِبَارِ التَّأْوِيلِ بِالْحَيِّ، وَالْمَنْعُ بِاعْتِبَارِ التَّأْوِيلِ بِالْقَبِيلَةِ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَصِحُّ فِيهِ التَّأْوِيلَانِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي التَّأْنِيثِ بِاعْتِبَارِ التَّأْوِيلِ بالقبيلة: غلب المساميح الوليد سماحة ... وَكَفَى قُرَيْشَ الْمُعْضِلَاتِ وَسَادَهَا

هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أَيِ: ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، لِأَنَّ كُلَّ بَنِي آدَمَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها أَيْ: جَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا وَسُكَّانَهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَعْمَرَ فُلَانٌ فُلَانًا دَارَهُ فَهِيَ لَهُ عُمْرَى، فَيَكُونُ اسْتَفْعَلْ بِمَعْنَى أَفْعَلَ، مِثْلَ: اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ: أَطَالَ أَعْمَارَكُمْ، وَكَانَتْ أَعْمَارُهُمْ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى أَلْفٍ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَمَرَكُمْ بِعِمَارَتِهَا مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاكِنِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ فَاسْتَغْفِرُوهُ أَيْ: سَلُوهُ الْمَغْفِرَةَ لَكُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أَيِ: ارْجِعُوا إِلَى عِبَادَتِهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ أَيْ: قَرِيبُ الإجابة لمن دعا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ «1» قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَيْ: كُنَّا نَرْجُو أَنْ تَكُونَ فِينَا سَيِّدًا مُطَاعًا نَنْتَفِعُ بِرَأْيِكَ، وَنَسْعَدُ بِسِيَادَتِكَ قَبْلَ هَذَا الَّذِي أَظْهَرْتَهُ، مِنِ ادِّعَائِكَ النُّبُوَّةَ، وَدَعْوَتِكَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَقِيلَ: كَانَ صَالِحٌ يَعِيبُ آلِهَتَهُمْ وَكَانُوا يَرْجُونَ رُجُوعَهُ إِلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ قَالُوا: انْقَطَعَ رَجَاؤُنَا مِنْكَ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا لِلْإِنْكَارِ، أَنْكَرُوا عَلَيْهِ هَذَا النَّهْيَ، وَأَنْ نَعْبُدَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِحَذْفِ الْجَارِّ، أَيْ: بِأَنْ نَعْبُدَ، وَمَعْنَى: مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا: مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، فَهُوَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ مِنْ أَرَبْتُهُ فَأَنَا أُرِيبُهُ: إِذَا فَعَلْتُ بِهِ فِعْلًا يُوجِبُ لَهُ الرِّيبَةَ، وَهِيَ: قَلَقُ النَّفْسِ وَانْتِفَاءُ الطُّمَأْنِينَةِ، أَوْ مِنْ أَرَابَ الرَّجُلُ: إِذَا كَانَ ذَا رِيبَةٍ، وَالْمَعْنَى: إِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَتَرْكُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مُوقِعٌ في الريب قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ: حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَبُرْهَانٍ صَحِيحٍ وَآتانِي مِنْهُ أَيْ: مِنْ جِهَتِهِ رَحْمَةً أَيْ: نُبُوَّةً، وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَحَقِّقَةَ الْوُقُوعِ، لَكِنَّهَا صُدِّرَتْ بِكَلِمَةِ الشَّكِّ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا وَصَفُوهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَيْ: لَا نَاصِرَ لِي يَمْنَعُنِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَرَاقَبْتُكُمْ، وَفَتَرْتُ عَمَّا يَجِبُ عَلَيَّ مِنَ الْبَلَاغِ فَما تَزِيدُونَنِي بِتَثْبِيطِكُمْ إِيَّايَ غَيْرَ تَخْسِيرٍ بِأَنْ تَجْعَلُونِي خَاسِرًا بِإِبْطَالِ عَمَلِي، وَالتَّعَرُّضِ لِعُقُوبَةِ اللَّهِ لِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: تَضْلِيلٍ وَإِبْعَادٍ مِنَ الْخَيْرِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَمَا تَزِيدُونَنِي باحتجاجكم بِدِينِ آبَائِكُمْ غَيْرَ بَصِيرَةٍ بِخَسَارَتِكُمْ. قَوْلُهُ: وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَعْرَافِ، وَمَعْنَى لَكُمْ آيَةً: مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً، وَهِيَ مُنْتَصِبَةٌ عَلَى الحال، ولكم فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ آيَةٍ مُقَدَّمَةٍ عَلَيْهَا، وَلَوْ تَأَخَّرَتْ لَكَانَتْ صِفَةً لَهَا وَقِيلَ: إِنَّ نَاقَةَ: اللَّهِ بَدَلٌ مِنْ هَذِهِ، وَالْخَبَرُ لَكُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَإِنَّمَا قَالَ: ناقَةُ اللَّهِ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا لَهُمْ مِنْ جَبَلٍ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ وَقِيلَ: مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أَيْ: دَعُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ مِمَّا فِيهَا مِنَ الْمَرَاعِي الَّتِي تَأْكُلُهَا الْحَيَوَانَاتُ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ رَفْعُ تَأْكُلْ عَلَى الْحَالِ وَالِاسْتِئْنَافِ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي فِي الْأَصْلِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ لَا فِي الْآيَةِ، فَالْمُعْتَمَدُ الْقِرَاءَاتُ الْمَرْوِيَّةُ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ قَالَ الْفَرَّاءُ: بِعَقْرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ عَمَّا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ جَوَابُ النَّهْيِ، أَيْ: قَرِيبٌ مِنْ عَقْرِهَا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَعَقَرُوها أَيْ: فَلَمْ يَمْتَثِلُوا الْأَمْرَ مِنْ صَالِحٍ وَلَا النَّهْيَ، بَلْ خَالَفُوا كُلَّ ذَلِكَ فوقع منهم

_ (1) . البقرة: 186.

[سورة هود (11) : الآيات 69 إلى 76]

الْعَقْرُ لَهَا فَقالَ لَهُمْ صَالِحٌ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أَيْ: تَمَتَّعُوا بِالْعَيْشِ فِي مَنَازِلِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْعِقَابَ نَازِلٌ عَلَيْكُمْ بَعْدَهَا قِيلَ: إِنَّهُمْ عَقَرُوهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَأَقَامُوا الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالتَّمَتُّعِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أَيْ: غَيْرُ مَكْذُوبٍ فِيهِ، فَحَذَفَ الْجَارَّ اتِّسَاعًا، أَوْ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ كَأَنَّ الْوَعْدَ إِذَا وُفِّيَ بِهِ، صَدَقَ وَلَمْ يَكْذِبْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ: وَعْدٌ غَيْرُ كَذِبٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أَيْ: عَذَابُنَا، أَوْ أَمْرُنَا بِوُقُوعِ الْعَذَابِ نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي قِصَّةِ هُودٍ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أَيْ: وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ هَلَاكُهُمْ بِالصَّيْحَةِ، وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ وَالْمَهَانَةُ وَقِيلَ: مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ: بِفَتْحِ يَوْمَ، عَلَى أَنَّهُ اكْتَسَبَ الْبِنَاءَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْكَسْرِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ الْقَادِرُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أَيْ: فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ عَقْرِ النَّاقَةِ، صِيحَ بِهِمْ فَمَاتُوا، وَذُكِرَ الْفِعْلُ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ وَالصِّيَاحَ وَاحِدٌ مَعَ كَوْنِ التَّأْنِيثِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ قِيلَ: صَيْحَةُ جِبْرِيلَ، وَقِيلَ: صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَتَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ وَمَاتُوا، وَتَقَدَّمَ في الأعراف: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ «1» قِيلَ: وَلَعَلَّهَا وَقَعَتْ عَقِبَ الصَّيْحَةِ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ أَيْ: سَاقِطِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، مَوْتَى قَدْ لَصِقُوا بِالتُّرَابِ، كَالطَّيْرِ إِذَا جَثَمَتْ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَيْ: كَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِي بِلَادِهِمْ أَوْ دِيَارِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ فِيُ مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: مُمَاثِلِينَ لِمَنْ لَمْ يُوجَدْ وَلَمْ يَقُمْ فِي مَقَامٍ قَطُّ أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ، وَصَرَّحَ بِكُفْرِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا: تَعْلِيلًا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: بِالتَّنْوِينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الْأَعْرَافِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَى مُرَاجَعَتِهِ لِيَضُمَّ مَا فِي إِحْدَى الْقِصَّتَيْنِ مِنَ الْفَوَائِدِ إِلَى الْأُخْرَى. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ قَالَ: خَلَقَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها قَالَ: أَعْمَرَكُمْ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها قَالَ: اسْتَخْلَفَكُمْ فِيهَا. وَأَخْرُجُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ يَقُولُ: مَا تَزْدَادُونَ أَنْتُمْ إِلَّا خَسَارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ قَالَ: مَيِّتِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها قَالَ: كَأَنْ لَمْ يَعِيشُوا فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ، قَالَ: كَأَنْ لَمْ يَعْمُرُوا فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَأَنْ لَمْ يَنْعَمُوا فيها. [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 76] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)

_ (1) . الأعراف: 78. [.....]

هَذِهِ قِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمِهِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ قُرَى لُوطٍ بِنَوَاحِي الشَّامِ، وَإِبْرَاهِيمُ بِبِلَادِ فِلَسْطِينَ. فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِعَذَابِ قَوْمِ لُوطٍ مَرُّوا بِإِبْرَاهِيمَ وَنَزَلُوا عِنْدَهُ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ نَزَلَ عِنْدَهُ يُحْسِنُ قِرَاهُ، وَكَانَ مُرُورُهُمْ عَلَيْهِ لِتَبْشِيرِهِ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَظَنَّهُمْ أَضْيَافًا، وَهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ. وَقِيلَ: كَانُوا تِسْعَةً، وَقِيلَ: أَحَدَ عَشَرَ، وَالْبُشْرَى الَّتِي بَشَّرُوهُ بِهَا: هِيَ بِشَارَتُهُ بِالْوَلَدِ وَقِيلَ: بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، وَالْأُولَى أَوْلَى قالُوا سَلاماً مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: سَلَّمْنَا عَلَيْكَ سَلَامًا قالَ سَلامٌ ارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَمْرُكُمْ سَلَامٌ، أَوْ مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيْكُمْ سَلَامٌ فَما لَبِثَ أَيْ: إِبْرَاهِيمُ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قَالَ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ هُنَا بِمَعْنَى حَتَّى، أَيْ: فَمَا لَبِثَ حَتَّى جَاءَ وَقِيلَ: إِنَّهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِسُقُوطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالتَّقْدِيرُ فَمَا لَبِثَ عَنْ أَنْ جَاءَ، أَيْ: مَا أَبْطَأَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ مَجِيئِهِ بِعِجْلٍ، وَمَا: نَافِيَةٌ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ فَمَا لَبِثَ مَجِيئُهُ أَيْ: مَا أَبْطَأَ مَجِيئُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ مَا مَوْصُولَةٌ وَهِيَ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ: أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ وَالتَّقْدِيرُ: فَالَّذِي لَبِثَ إِبْرَاهِيمُ هُوَ مَجِيئُهُ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، وَالْحَنِيذُ: الْمَشْوِيُّ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: الْمَشْوِيُّ بِحَرِّ الْحِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، يُقَالُ: حَنَذَ الشَّاةَ يَحْنِذُهَا: جَعَلَهَا فَوْقَ حِجَارَةٍ مُحَمَّاةٍ لِتُنْضِجَهَا فَهِيَ حَنِيذٌ وَقِيلَ مَعْنَى حَنِيذٍ: سَمِينٌ وَقِيلَ: الْحَنِيذُ هُوَ السَّمِيطُ وَقِيلَ: النَّضِيجُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَإِنَّمَا جَاءَهُمْ بِعِجْلٍ، لِأَنَّ الْبَقَرَ كَانَتْ أَكْثَرَ أَمْوَالِهِ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَيْ: لَا يَمُدُّونَهَا إِلَى الْعِجْلِ كَمَا يَمُدُّ يَدَهُ مَنْ يُرِيدُ الْأَكْلَ نَكِرَهُمْ يُقَالُ: نَكِرْتَهُ وَأَنْكَرْتَهُ وَاسْتَنْكَرْتَهُ: إِذَا وَجَدْتَهُ عَلَى غَيْرِ مَا تَعْهَدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ ... مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبُ وَالصَّلَعَا فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، وَمِمَّا جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا أَنْكَرَتْنِي بَلْدَةٌ أَوْ نَكِرْتُهَا ... خَرَجْتُ مَعَ الْبَازِي عَلَيَّ سَوَادُ وَقِيلَ يُقَالُ: أَنْكَرْتُ لِمَا تَرَاهُ بِعَيْنِكَ، وَنَكِرْتُ لِمَا تَرَاهُ بِقَلْبِكَ، قِيلَ: وَإِنَّمَا اسْتَنْكَرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ عَادَتَهُمْ أَنَّ الضَّيْفَ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِمْ ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِشْرٍ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ أَيْ: أَحَسَّ فِي نَفْسِهِ مِنْهُمْ خِيفَةً أَيْ: خَوْفًا وَفَزَعًا وَقِيلَ مَعْنَى أَوْجَسَ: أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً، وَالْأَوَّلُ أَلْصَقُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: جَاءَ البريد بقرطاس يخبّ به ... فأوجس القلب من قرطاسه جزعا وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُمْ قَدْ نَزَلُوا بِهِ لِأَمْرٍ ينكره، لِتَعْذِيبِ قَوْمِهِ قالُوا لَا تَخَفْ قَالُوا لَهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مَعَ كَوْنِهِ

لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْخَوْفِ، بَلْ أَوْجَسَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَلَعَلَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى خَوْفِهِ بِأَمَارَاتٍ كَظُهُورِ أَثَرِهِ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ قالوه له بعد ما قَالَ- عَقِبَ مَا أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْخِيفَةِ-: قَوْلًا يَدُلُّ عَلَى الْخَوْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ «1» ، ولم يذكر ذلك هاهنا اكتفاء بما هناك، ثُمَّ عَلَّلُوا نَهْيَهُ عَنِ الْخَوْفِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ أَيْ: أُرْسِلْنَا إِلَيْهِمْ خَاصَّةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ قَالَ قَوْلًا يَكُونُ هَذَا جَوَابًا عَنْهُ، قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ- قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، وَجُمْلَةُ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، قِيلَ: كَانَتْ قَائِمَةً عِنْدَ تَحَاوُرِهِمْ وَرَاءَ السِّتْرِ، وَقِيلَ: كَانَتْ قَائِمَةً تَخْدِمُ الْمَلَائِكَةَ وَهُوَ جَالِسٌ، وَالضَّحِكُ هُنَا: هُوَ الضَّحِكُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَكُونُ لِلتَّعَجُّبِ أَوْ لِلسُّرُورِ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: إِنَّهُ الْحَيْضُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِنِّي لَآتِي الْعِرْسَ عِنْدَ طَهُورِهَا ... وَأَهْجُرُهَا يَوْمًا إِذَا تَكُ ضَاحِكَا وَقَالَ الْآخَرُ: وضحك الأرانب فوق الصّفا ... كمثل دم الجوف يوم اللقا والعرب تقول ضحكت الأرانب: إِذَا حَاضَتْ. وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ضَحِكَتْ بِمَعْنَى حَاضَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ظَاهِرُهُ أَنَّ التَّبْشِيرَ كَانَ بَعْدَ الضَّحِكِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَالْمَعْنَى: فَبَشَّرْنَاهَا فَضَحِكَتْ سُرُورًا بِالْوَلَدِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ قُرَّاءِ مَكَّةَ: فَضَحَكَتْ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَأَنْكَرَهُ الَمَهَدَوِيُّ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: بِنَصْبِ يَعْقُوبَ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ فَبَشَّرْنَاهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَوَهَبْنَا لَهَا مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو حَاتِمٍ أَنْ يَكُونَ يَعْقُوبُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَجُوزُ الْجَرُّ إِلَّا بِإِعَادَةِ حَرْفِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَوْ قُلْتَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ، وَأَمْسِ عُمَرُ، كَانَ قَبِيحًا خَبِيثًا، لِأَنَّكَ فَرَّقْتَ بَيْنَ الْمَجْرُورِ وَمَا يَشْرَكُهُ كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِ يَعْقُوبَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقِيلَ: الرَّفْعُ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَيَحْدُثُ لَهَا، أَوْ وَثَبَتَ لَهَا. وَقَدْ وَقَعَ التَّبْشِيرُ هُنَا لَهَا، وَوَقَعَ لِإِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ «2» - وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ «3» ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِلْبِشَارَةِ بِهِ لكونه منهما، وجملة قالَتْ يا وَيْلَتى مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَتْ؟ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُهَا يَا وَيْلَتِي، فَأُبْدِلَ مِنَ الْيَاءِ أَلِفٌ لِأَنَّهَا أَخَفُّ مِنَ الْيَاءِ وَالْكَسْرَةِ، وَهِيَ لَمْ تُرِدِ الدُّعَاءَ عَلَى نَفْسِهَا بِالْوَيْلِ، وَلَكِنَّهَا كَلِمَةٌ تَقَعُ كَثِيرًا عَلَى أَفْوَاهِ النِّسَاءِ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِنَّ مَا يَعْجَبْنَ مِنْهُ، وَأَصْلُ الْوَيْلِ: الْخِزْيُ، ثُمَّ شَاعَ فِي كُلِّ أَمْرٍ فَظِيعٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهَا: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ لِلتَّعَجُّبِ، أَيْ: كَيْفَ أَلِدُ وَأَنَا شَيْخَةٌ قَدْ طَعَنْتُ فِي السِّنِّ، يُقَالُ: عَجَزَتْ تَعْجَزُ مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا عَجْزًا وَتَعْجِيزًا، أَيْ: طَعَنَتْ فِي السِّنِّ، وَيُقَالُ عَجُوزٌ وَعَجُوزَةٌ، وَأَمَّا عَجِزَتْ بِكَسْرِ الْجِيمِ: فَمَعْنَاهُ عَظُمَتْ عَجِيزَتُهَا، قِيلَ: كَانَتْ بِنْتَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ: بِنْتَ تِسْعِينَ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً أَيْ: وَهَذَا زَوْجِي إِبْرَاهِيمُ شَيْخًا لَا تحبل من مثله النساء، وشيخا: منتصب

_ (1) . الحجر: 52. (2) . الصافات: 101. (3) . الذاريات: 28.

عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ شَيْخٌ: بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ بَعْلِي بَدَلًا مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ قِيلَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقِيلَ: ابْنَ مِائَةٍ، وَهَذِهِ الْمُبَشَّرَةُ هِيَ: سَارَةُ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ كَانَ وُلِدَ لِإِبْرَاهِيمَ مِنْ هَاجَرَ أَمَتِهِ إِسْمَاعِيلُ، فَتَمَنَّتْ سَارَةُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ابْنٌ وَأَيِسَتْ مِنْهُ لِكِبَرِ سِنِّهَا، فَبَشَّرَهَا اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ مَلَائِكَتِهِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ أَيْ: مَا ذَكَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ مِنَ التَّبْشِيرِ بِحُصُولِ الْوَلَدِ- مَعَ كَوْنِهَا فِي هَذِهِ السِّنِّ الْعَالِيَةِ الَّتِي لَا يُولَدُ لِمِثْلِهَا- شَيْءٌ يُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ، وَجُمْلَةُ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهَا لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: كَيْفَ تَعْجَبِينَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَهُوَ لَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهَا مَعَ كَوْنِ مَا تَعَجَّبَتْ مِنْهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَةِ لِأَنَّهَا مِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهَا أَنَّ هَذَا من مقدوراته سبحانه، ولهذا قالوا: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أَيْ: الرَّحْمَةُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَالْبَرَكَاتُ وَهِيَ النُّمُوُّ والزيادة وقيل الرَّحْمَةُ: النُّبُوَّةُ، وَالْبَرَكَاتُ: الْأَسْبَاطُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَانْتِصَابُ: أَهْلَ الْبَيْتِ، عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الِاخْتِصَاصِ، وَصَرْفُ الْخِطَابِ مِنْ صِيغَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى الْجَمْعِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ إِنَّهُ حَمِيدٌ أَيْ: يَفْعَلُ مُوجِبَاتِ حَمْدِهِ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى سَبِيلِ الْكَثْرَةِ مَجِيدٌ كَثِيرُ الْإِحْسَانِ إِلَى عِبَادِهِ بِمَا يَفِيضُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَالْجُمْلَةُ تعليل لقوله: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ. قَوْلُهُ: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ أَيْ: الْخِيفَةُ الَّتِي أَوْجَسَهَا فِي نَفْسِهِ، يُقَالُ ارْتَاعَ مِنْ كَذَا: إِذَا خَافَ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: فَارْتَاعَ مِنْ صَوْتِ كَلَّابٍ فَبَاتَ لَهُ ... طَوْعَ الشَّوَامِتِ مِنْ خوف ومن صرد وَجاءَتْهُ الْبُشْرى أَيْ: بِالْوَلَدِ، أَوْ بِقَوْلِهِمْ: لَا تَخَفْ. قَوْلُهُ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ. قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ: إِنَّ يُجَادِلُنَا فِي مَوْضِعِ جَادَلَنَا، فَيَكُونُ هُوَ جَوَابُ: لَمَّا، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ جَوَابَهَا يَكُونُ بِالْمَاضِي لَا بِالْمُسْتَقْبَلِ. قَالَ النَّحَّاسُ: جُعِلَ الْمُسْتَقْبَلُ مَكَانَهُ كَمَا يُجْعَلُ الْمَاضِي مَكَانَ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الشَّرْطِ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ، وَيُجَادِلُنَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَتَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى اجْتَرَأَ عَلَى خِطَابِنَا حَالَ كَوْنِهِ يُجَادِلُنَا، أَيْ: يُجَادِلُ رُسُلَنَا وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: أَخَذَ يُجَادِلُنَا، وَمُجَادَلَتُهُ لَهُمْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا سمع قولهم: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهِمْ خَمْسُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَتُهْلِكُونَهُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَأَرْبَعُونَ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَعِشْرُونَ؟ قَالُوا: لَا، ثُمَّ قَالَ: فَعَشَرَةٌ، فَخَمْسَةٌ؟ قَالُوا لَا. قَالَ: فَوَاحِدٌ؟ قَالُوا: لَا، قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ الْآيَةَ، فَهَذَا مَعْنَى مُجَادَلَتِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ: أَيْ: فِي شَأْنِهِمْ وَأَمْرِهِمْ. ثُمَّ أَثْنَوْا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، أَوْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَيْ لَيْسَ بِعَجُولٍ فِي الْأُمُورِ، وَلَا بِمُوقِعٍ لَهَا عَلَى غَيْرِ مَا يَنْبَغِي. وَالْأَوَّاهُ: كَثِيرُ التَّأَوُّهِ، وَالْمُنِيبُ: الرَّاجِعُ إِلَى اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَرَاءَةَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَوَّاهِ. قوله: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا هَذَا قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ، أَيْ: أَعْرَضْ عَنْ هَذَا الْجِدَالِ فِي أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَجَفَّ بِهِ الْقَلَمُ، وَحَقَّ بِهِ الْقَضَاءُ إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، وَمَعْنَى مَجِيءِ أَمْرِ اللَّهِ: مَجِيءُ عَذَابِهِ الَّذِي قَدَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَسَبَقَ بِهِ قَضَاؤُهُ وَإِنَّهُمْ

آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ أَيْ: لَا يَرُدُّهُ دُعَاءٌ وَلَا جِدَالٌ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، وَنَازِلٌ بِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَيْسَ بِمَصْرُوفٍ وَلَا مَدْفُوعٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مِحْصَنٍ فِي ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَةً: جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَرَافَائِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قَالَ: نَضِيجٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مَشْوِيٌّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: سَمِيطٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْحَنِيذُ الَّذِي أُنْضِجَ بِالْحِجَارَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن يزيد ابن أَبِي يَزِيدٍ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ قَالَ: لَمْ يَرَ لَهُمْ أَيْدِيًا فَنَكِرَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: نَكِرَهُمْ قَالَ: كَانُوا إِذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِمْ ظَنُّوا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِخَيْرٍ، وَأَنَّهُ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِشَرٍّ، ثُمَّ حَدَّثُوهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِمَا جَاءُوا فِيهِ، فَضَحِكَتِ امْرَأَتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ وَهُوَ جَالِسٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ قَالَ: فِي خِدْمَةِ أَضْيَافِ إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا أَوْجَسَ إِبْرَاهِيمُ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً حَدَّثُوهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِمَا جَاءُوا فِيهِ، فَضَحِكَتِ امْرَأَتُهُ تَعَجُّبًا مِمَّا فِيهِ قَوْمُ لُوطٍ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَمِمَّا أَتَاهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَضَحِكَتْ قَالَ: فَحَاضَتْ وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَضَحِكَتْ قَالَ: حَاضَتْ وَكَانَتِ ابْنَةُ بِضْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: حَاضَتْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قَالَ: هُوَ وَلَدُ الْوَلَدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ عَنْ حَسَّانَ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ قَالَ: مَاتَ وَتَرَكَ أَرْبَعَةً مِنَ الْوَلَدِ وَثَلَاثَةً مِنَ الْوَرَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قَالَ: وَلَدُ الْوَلَدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُزَادَ فِي جَوَابِ التَّحِيَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَيَتْلُو هَذِهِ الآية رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ قَالَ: الْفَرَقُ. يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ قَالَ: يُخَاصِمُنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِ الْمُجَادَلَةِ قَالَ: إِنَّهُ قَالَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهِمْ خَمْسُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالُوا: إِنْ كَانَ فِيهِمْ خَمْسُونَ لَمْ نُعَذِّبْهُمْ، قَالَ: أَرْبَعُونَ؟ قَالُوا: وَأَرْبَعُونَ، قَالَ: ثَلَاثُونَ؟ قَالُوا: وَثَلَاثُونَ، حَتَّى بَلَغُوا عَشَرَةً، قَالُوا: إِنْ كَانَ فِيهِمْ عَشَرَةٌ لَمْ نُعَذِّبْهُمْ، قَالَ: مَا قَوْمٌ لَا يَكُونُ فِيهِمْ عَشَرَةٌ فِيهِمْ خَيْرٌ؟ قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ كَانَ فِي قَرْيَةِ لُوطٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، أو ما

[سورة هود (11) : الآيات 77 إلى 83]

شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ قَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ: إِنْ كَانَ فِيهَا خَمْسَةٌ يُصَلُّونَ رُفِعَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: الْأَوَّاهُ: الرَّحِيمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُنِيبُ: الْمُقْبِلُ إِلَى طَاعَةَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قَتَادَةَ قال: المنيب: المخلص. [سورة هود (11) : الآيات 77 الى 83] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) لَمَّا خَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَقَرْيَةِ لُوطٍ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، جَاءُوا إِلَى لُوطٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ لُوطٌ، وَكَانُوا فِي صُورَةِ غِلْمَانٍ حِسَانٍ مُرْدٍ سِيءَ بِهِمْ أَيْ: سَاءَهُ مَجِيئُهُمْ، يُقَالُ: سَاءَهُ يسوءه، وأصل سيئ بِهِمْ: سُوِئَ بِهِمْ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى السِّينِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَلَمَّا خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ أُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْيَاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو بِإِشْمَامِ السِّينِ الضَّمَّ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الذَّرْعُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الطَّاقَةِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْبَعِيرَ يَذْرَعُ بِيَدِهِ فِي سَيْرِهِ عَلَى قَدْرِ سِعَةِ خَطْوِهِ: أَيْ: يَبْسُطُهَا، فَإِذَا حُمِلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ طَاقَتِهِ ضَاقَ ذَرْعُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَجُعِلَ ضِيقُ الذَّرْعِ كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ وَشِدَّةِ الْأَمْرِ وقيل: هو من: ذرعه القيء: إذا غلب وَضَاقَ عَنْ حَبْسِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ضَاقَ صَدْرُهُ لَمَّا رَأَى الْمَلَائِكَةَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ فِسْقِهِمْ وَارْتِكَابِهِمْ لِفَاحِشَةِ اللِّوَاطِ وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي: شديد. قال الشاعر: وإنّك إلّا تَرْضَ بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ ... يَكُنْ لَكَ يَوْمٌ بالعراق عصيب يقال: عصيب وعصبصب وَعَصَوْصَبٌ عَلَى التَّكْثِيرِ: أَيْ يَوْمٌ مَكْرُوهٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ الشَّرُّ، وَمِنْهُ قِيلَ عُصْبَةٌ وَعِصَابَةٌ: أَيْ مُجْتَمِعُو الْكَلِمَةِ، وَرَجُلٌ مَعْصُوبٌ: أَيْ مُجْتَمِعُ الْخَلْقِ وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أَيْ: جَاءُوا لُوطًا، الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَمَعْنَى يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ: يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: لَا يَكُونُ الْإِهْرَاعُ إلا إسراع مَعَ رِعْدَةٍ، يُقَالُ أَهْرَعَ الرَّجُلُ إِهْرَاعًا: أَيْ أَسْرَعَ فِي رِعْدَةٍ مِنْ بَرْدٍ أَوْ غَضَبٍ أو حمى، قال مهلهل: فجاؤوا يهرعون وهم أسارى ... نقودهم عَلَى رَغْمِ الْأُنُوفِ

وَقِيلَ يُهْرَعُونَ: يُهَرْوِلُونَ، وَقِيلَ: هُوَ مَشْيٌ بَيْنَ الْهَرْوَلَةِ وَالْعَدْوِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَجِيءُ الْمَلَائِكَةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَسْرَعُوا إِلَيْهِ، كَأَنَّمَا يُدْفَعُونَ دَفْعًا لِطَلَبِ الْفَاحِشَةِ مِنْ أَضْيَافِهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَيْ: وَمِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الرُّسُلِ فِي هَذَا الْوَقْتِ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَقِيلَ: وَمِنْ قَبْلِ لُوطٍ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ، أَيْ: كَانَتْ عَادَتُهُمْ إِتْيَانَ الرِّجَالِ، فَلَمَّا جَاءُوا إِلَى لُوطٍ، وَقَصَدُوا أَضْيَافَهُ لذلك العمل، قام إليهم لوط مدافعا وقالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أَيْ: تَزَوَّجُوهُنَّ، وَدَعُوا مَا تَطْلُبُونَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ بِأَضْيَافِي، وَقَدْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ، وَقِيلَ: اثْنَتَانِ، وَكَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يُزَوِّجَهُمْ بِهِنَّ فَيَمْتَنِعُ لِخُبْثِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ سَيِّدَانِ مُطَاعَانِ فَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهُمَا بِنْتَيْهِ وَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: هؤُلاءِ بَناتِي النِّسَاءَ جُمْلَةً، لِأَنَّ نَبِيَّ الْقَوْمِ أَبٌ لَهُمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُدَافَعَةِ وَلَمْ يُرِدِ الْحَقِيقَةَ. وَمَعْنَى: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أَيْ: أَحَلُّ وَأَنْزَهُ وَالتَّطَهُّرُ: التَّنَزُّهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ، وَلَيْسَ فِي صِيغَةِ أَطْهَرُ دَلَالَةً عَلَى التَّفْضِيلِ، بَلْ هِيَ مِثْلُ «اللَّهُ أَكْبَرُ» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِنَصْبِ أَطْهَرُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ بناتي، وهنّ ضمير فصل، وأطهر حَالٌ. وَقَدْ مَنَعَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ مِثْلَ هَذَا، لِأَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ الَّذِي يُسَمَّى عِمَادًا إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ كَلَامَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ إِلَّا بِمَا بَعْدَهَا، نَحْوَ كَانَ زَيْدٌ هو أخاك فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَيِ: اتَّقَوُا اللَّهَ بِتَرْكِ مَا تُرِيدُونَ مِنَ الْفَاحِشَةِ بِهِمْ، وَلَا تُذِلُّونِي وَتَجْلِبُوا عَلَيَّ الْعَارَ فِي ضَيْفِي، وَالضَّيْفُ: يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا تَعْدَمِي الدَّهْرَ شِفَارَ الْجَازِرِ ... لِلضَّيْفِ وَالضَّيْفُ أَحَقُّ زَائِرِ وَيَجُوزُ فِيهِ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. يُقَالُ: خَزِيَ الرَّجُلُ خَزَايَةً: أَيِ اسْتَحْيَا أَوْ ذَلَّ أَوْ هَانَ، وَخَزِيَ خِزْيًا: إِذَا افْتَضَحَ، وَمَعْنَى فِي ضَيْفِي: فِي حَقِّ ضَيْفِي، فَخِزْيُ الضَّيْفِ خِزْيٌ لِلْمُضِيفِ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ فَقَالَ: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يُرْشِدُكُمْ إِلَى تَرْكِ هَذَا الْعَمَلِ الْقَبِيحِ. وَيَمْنَعُكُمْ مِنْهُ، فَأَجَابُوا عَلَيْهِ مُعْرِضِينَ عَمَّا نَصَحَهُمْ بِهِ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أَيْ مَا لَنَا فِيهِمْ مِنْ شَهْوَةٍ وَلَا حَاجَةٍ، لِأَنَّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ فَكَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ فِيهِ نَوْعُ حَقٍّ. وَمَعْنَى مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْهُمُ الْمُكَالَبَةَ عَلَى إِتْيَانِ الذُّكُورِ وَشِدَّةِ الشَّهْوَةِ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ كَأَنَّهُمْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى النِّسَاءِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدُوا: أَنَّهُ لَا حَقَّ لَنَا فِي نِكَاحِهِنَّ، لِأَنَّهُ لَا يَنْكِحُهُنَّ وَيَتَزَوَّجُ بِهِنَّ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَنَحْنُ لَا نُؤْمِنُ أَبَدًا، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ خَطَبُوا بَنَاتَهُ مِنْ قَبْلُ فَرَدَّهُمْ، وَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِمْ أَنَّ مَنْ خَطَبَ فَرُدَّ فَلَا تَحِلُّ الْمَخْطُوبَةُ أَبَدًا وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ مِنْ إِتْيَانِ الذُّكُورِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ تَصْمِيمَهُمْ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ مَا قَدْ طَلَبُوهُ قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَدَافَعْتُكُمْ عَنْهُمْ وَمَنَعْتُكُمْ مِنْهُمْ، وَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى طَرِيقِ التَّمَنِّي: أَيْ: لَوْ وَجَدْتُ مُعِينًا وَنَاصِرًا، فَسَمَّى مَا يُتَقَوَّى بِهِ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ عَطْفٌ عَلَى مَا بَعْدَ لَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ قَوِيتُ عَلَى دَفْعِكُمْ أَوْ آوَيْتُ إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ. وَقُرِئَ أَوْ آوِي بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قُوَّةً كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ إِيوَاءً إِلَى رُكْنٍ شديد ومراده

بِالرُّكْنِ الشَّدِيدِ: الْعَشِيرَةُ، وَمَا يَمْتَنِعُ بِهِ عَنْهُمْ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقُوَّةِ الْوَلَدَ، وَبِالرُّكْنِ الشَّدِيدِ: مَنْ يَنْصُرُهُ مِنْ غَيْرِ وَلَدِهِ وَقِيلَ أَرَادَ بِالْقُوَّةِ: قَوَّتَهُ فِي نَفْسِهِ. وَلَمَّا سَمِعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَوَجَدُوا قَوْمَهُ قد غلبوه وعجز عن مدافعتهم قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ أَخْبَرُوهُ أَوَّلًا أَنَّهُمْ رُسُلُ رَبِّهِ ثم بشروه بقولهم: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ وهذه الجملة موضّحة لما قَبْلَهَا، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مُرْسَلِينَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَيْهِ لَمْ يَصِلْ عَدُوُّهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ثُمَّ أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُمْ فَقَالُوا لَهُ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْوَصْلِ، وَقَرَأَ غَيْرُهُمَا بِالْقَطْعِ، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ وقال سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى وَقَدْ جَمَعَ الشَّاعِرُ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فَقَالَ: حَيُّ النّضيرة ربّة الخدر ... أسرت إليك وَلَمْ تَكُنْ تَسْرِي وَقِيلَ: إِنَّ أَسْرَى لِلْمَسِيرِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَسَرَى لِلْمَسِيرِ مِنْ آخِرِهِ، وَالْقِطْعُ مِنَ اللَّيْلِ: الطَّائِفَةُ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ: بِسَاعَةٍ مِنْهُ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: بِجُنْحٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: بِظُلْمَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: بَعْدَ هُدُوٍّ مِنَ اللَّيْلِ. قِيلَ: إِنَّ السُّرَى لَا يَكُونُ إِلَّا فِي اللَّيْلِ، فَمَا وَجْهُ زِيَادَةِ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ؟ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَقُلْ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِهِ قَبْلَ اجْتِمَاعِ الظُّلْمَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُرَادٍ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَيْ: لَا يَنْظُرْ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، أَوْ يَشْتَغِلْ بِمَا خَلْفَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ. قِيلَ: وَجْهُ النَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ أَنْ لَا يَرَوْا عَذَابَ قَوْمِهِمْ، وَهَوْلَ مَا نَزَلَ بِهِمْ فَيَرْحَمُوهُمْ وَيَرِقُّوا لَهُمْ، أَوْ لِئَلَّا يَنْقَطِعُوا عَنِ السَّيْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُمْ بِمَا يَقَعُ مِنَ الِالْتِفَاتِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُلْتَفِتِ مِنْ فَتْرَةٍ فِي سَيْرِهِ إِلَّا امْرَأَتَكَ بِالنَّصْبِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى امْرَأَتُهُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ قَوْلِهِ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ أَيْ: أَسْرِ بِأَهْلِكَ جَمِيعًا إِلَّا امْرَأَتَكَ فَلَا تَسْرِ بِهَا، فَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ رَمْيُهُمْ بِالْحِجَارَةِ لِكَوْنِهَا كَانَتْ كَافِرَةً وَأَنْكَرَ قِرَاءَةَ الرَّفْعِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا بِرَفْعِ يَلْتَفِتْ وَيَكُونُ نَعْتًا، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ إِذَا أَبْدَلْتَ وَجَزَمْتَ أَنَّ الْمَرْأَةَ أُبِيحَ لَهَا الِالْتِفَاتُ وَلَيْسَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْعَمَلُ مِنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ أَبِي عَمْرٍو مَعَ جَلَالَتِهِ وَمَحَلِّهِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ، وَالرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ أَيْ: لَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتُكَ فَإِنَّهَا تَلْتَفِتُ وَتَهْلَكُ وَقِيلَ: إِنَّ الرَّفْعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَحَدٌ، وَيَكُونُ الِالْتِفَاتُ بِمَعْنَى التَّخَلُّفِ لَا بِمَعْنَى النَّظَرِ إِلَى الْخَلْفِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَتَخَلَّفْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتُكَ، فَإِنَّهَا تَتَخَلَّفُ، وَالْمُلْجِئُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ الْفِرَارُ مِنْ تُنَاقِضِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَالضَّمِيرُ فِي: إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ لِلشَّأْنِ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَقْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِسْرَاءِ وَالنَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَوْعِدَ عَذَابِهِمُ الصُّبْحُ الْمُسْفِرُ عَنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ لِلْإِنْكَارِ التَّقْرِيرِيِّ، وَالْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِلتَّعْلِيلِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَلَعَلَّ جَعْلَ الصُّبْحِ مِيقَاتًا لِهَلَاكِهِمْ لِكَوْنِ النُّفُوسِ فِيهِ أَسْكَنَ وَالنَّاسُ فِيهِ مُجْتَمِعُونَ لَمْ يَتَفَرَّقُوا إِلَى أَعْمَالِهِمْ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أَيْ: الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِوُقُوعِ الْعَذَابِ فِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ: نَفْسُ الْعَذَابِ جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها أَيْ: عَالِيَ قُرَى لوط سافلها،

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَلَبَهَا عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَهِيَ كَوْنُ عَالِيهَا صَارَ سَافِلَهَا وَسَافِلِهَا صَارَ عَالِيَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَدْخَلَ جَنَاحَهُ تَحْتَهَا فَرَفَعَهَا مِنْ تَخُومِ الْأَرْضِ حَتَّى أَدْنَاهَا مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ قِيلَ: إِنَّهُ يُقَالُ أَمْطَرْنَا فِي الْعَذَابِ وَمَطَرْنَا فِي الرَّحْمَةِ وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ مَطَرَتِ السَّمَاءُ وَأَمْطَرَتْ، حَكَى ذَلِكَ الْهَرَوِيُّ، وَالسِّجِّيلُ: الطِّينُ الْمُتَحَجِّرُ بِطَبْخٍ أَوْ غَيْرِهِ وَقِيلَ: هُوَ الشَّدِيدُ الصُّلْبُ مِنَ الْحِجَارَةِ وَقِيلَ: السِّجِّيلُ: الْكَثِيرُ وَقِيلَ: إِنَّ السِّجِّيلَ لَفْظَةٌ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ، أَصْلُهُ سِجْ وَجِيلْ، وَهَمَّا بِالْفَارِسِيَّةِ حَجَرٌ وَطِينٌ عَرَّبَتْهُمَا الْعَرَبُ فَجَعَلَتْهُمَا اسْمًا وَاحِدًا وَقِيلَ: هُوَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ. وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ: أَنَّ السِّجِّيلَ اسْمٌ لِسَمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ يَرُدُّهُ وَصْفُهُ بِمَنْضُودٍ وَقِيلَ هُوَ بَحْرٌ مُعَلَّقٌ فِي الْهَوَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقِيلَ هِيَ جِبَالٌ فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنَ التَّسْجِيلِ لَهُمْ: أَيْ مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فَهُوَ فِي مَعْنَى سِجِّينٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ- كِتابٌ مَرْقُومٌ «1» وَقِيلَ: هُوَ مَنْ أَسْجَلْتُهُ إِذَا أَعْطَيْتُهُ، فَكَأَنَّهُ عَذَابٌ أُعْطُوهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مَنْ يُسَاجِلْنِي يساجل ما جدا ... يَمْلَأُ الدَّلْوَ إِلَى عَقْدِ الْكَرَبْ وَمَعْنَى: مَنْضُودٍ أَنَّهُ نُضِّدَ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَقِيلَ: بَعْضُهُ فِي أَثَرِ بَعْضٍ، يُقَالُ: نَضَّدْتُ الْمَتَاعَ: إِذَا جَعَلْتُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَهُوَ مَنْضُودٌ وَنَضِيدٌ، وَالْمُسَوَّمَةُ: الْمُعَلَّمَةُ، أَيِ: الَّتِي لَهَا عَلَامَةٌ، قِيلَ: كَانَ عَلَيْهَا أَمْثَالُ الْخَوَاتِيمِ وَقِيلَ: مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَنْ رُمِيَ بِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ مُخَطَّطَةً بِحُمْرَةٍ وَسَوَادٍ فِي بَيَاضٍ. فَذَلِكَ تَسْوِيمُهَا وَمَعْنَى: عِنْدَ رَبِّكَ فِي خَزَائِنِهِ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ أَيْ: وَمَا هَذِهِ الْحِجَارَةُ الْمَوْصُوفَةُ مِنَ الظَّالِمِينَ وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ بِبَعِيدٍ، أَوْ مَا هِيَ مِنْ كُلِّ ظَالِمٍ مِنَ الظَّلَمَةِ وَمِنْهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ عَاضَدَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِبَعِيدٍ، فَهُمْ لِظُلْمِهِمْ مُسْتَحِقُّونَ لَهَا. وَقِيلَ: وَما هِيَ أَيْ: قُرَى مِنَ الظَّالِمِينَ مَنْ كفر بالنبيّ بِبَعِيدٍ فَإِنَّهَا بَيْنَ الشَّامِ وَالْمَدِينَةِ. وَفِي إِمْطَارِ الْحِجَارَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أُمْطِرَتْ عَلَى الْمُدُنِ حِينَ رَفَعَهَا جِبْرِيلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أُمْطِرَتْ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُدُنِ مِنْ أَهْلِهَا وَكَانَ خَارِجًا عَنْهَا. وَتَذْكِيرُ الْبَعِيدِ: عَلَى تَأْوِيلِ الْحِجَارَةِ بِالْحَجَرِ، أَوْ إِجْرَاءً لَهُ عَلَى مَوْصُوفٍ مُذَكَّرٍ، أَيْ: شَيْءٍ بَعِيدٍ، أَوْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، أَوْ لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا، كَالزَّفِيرِ وَالصَّهِيلِ، وَالْمَصَادِرُ يَسْتَوِي فِي الْوَصْفِ بِهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قَالَ: سَاءَ ظَنًّا بِقَوْمِهِ، وَضَاقَ ذَرْعًا بِأَضْيَافِهِ وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ يَقُولُ: شَدِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قَالَ: يُسْرِعُونَ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قَالَ: يَأْتُونَ الرِّجَالَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: هؤُلاءِ بَناتِي قَالَ: مَا عَرَضَ لُوطٌ بَنَاتَهُ عَلَى قَوْمِهِ لَا سِفَاحًا وَلَا نِكَاحًا، إِنَّمَا قَالَ هَؤُلَاءِ نِسَاؤُكُمْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ إِذَا كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ فَهُوَ أَبُوهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي القرآن: «وأزواجه أمّهاتهم وَهُوَ أَبُوهُمْ» فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جرير، وابن

_ (1) . المطففين: 8- 9.

أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمْ تَكُنْ بَنَاتُهُ وَلَكِنْ كُنَّ مِنْ أُمَّتِهِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ أَبُو أُمَّتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حذيفة ابن الْيَمَانِ قَالَ: عَرَضَ عَلَيْهِمْ بَنَاتَهُ تَزْوِيجًا، وَأَرَادَ أَنْ يَقِيَ أَضْيَافَهُ بِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي قَالَ: لَا تَفْضَحُونِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالَ: رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالَ: وَاحِدٌ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ: إِنَّمَا نُرِيدُ الرِّجَالَ قالَ لُوطٌ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ يَقُولُ: إِلَى جُنْدٍ شَدِيدٍ لِمُقَاتَلَتِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالَ: عَشِيرَةٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لِلُوطٍ إِنْ «1» كَانَ ليأوي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ» . وَهُوَ مَرْوِيٌّ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: جَوْفِ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ قَالَ: بِسَوَادِ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بِطَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَالَ: لَا يَتَخَلَّفُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَالَ: لَا يَنْظُرُ وَرَاءَهُ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عَبِيدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ هَارُونَ قَالَ: فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا امْرَأَتَكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها قَالَ: لَمَّا أَصْبَحُوا عَدَا جِبْرِيلُ عَلَى قَرْيَتِهِمْ فَقَلَعَهَا مِنْ أَرْكَانِهَا، ثُمَّ أَدْخَلَ جَنَاحَهُ، ثُمَّ حَمَلَهَا عَلَى خَوَافِي جَنَاحِهِ بِمَا فِيهَا ثُمَّ صَعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ نُبَاحَ كِلَابِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَهَا، فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَقَطَ مِنْهَا سُرَادِقُهَا، فَلَمْ يُصِبْ قَوْمًا مَا أَصَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ طَمَسَ عَلَى أَعْيُنِهِمْ، ثُمَّ قُلِبَتْ قَرْيَتُهُمْ، وَأُمْطِرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلٍ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ رِوَايَاتٍ وَقَصَصًا فِي كَيْفِيَّةِ هَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ طَوِيلَةً مُتَخَالِفَةً، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِهَا فَائِدَةٌ، لَا سِيَّمَا وَبَيْنَ مَنْ قَالَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَبَيْنَ هَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ دَهْرٌ طَوِيلٌ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي مِثْلِهِ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَغَالِبُ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَحَالُهُمْ فِي الرِّوَايَةِ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ أُمِرْنَا بِأَنَّا لَا نُصَدِّقُهُمْ وَلَا نُكَذِّبُهُمْ، فَاعْرِفْ هَذَا، فَهُوَ الْوَجْهُ فِي حَذْفِنَا لِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْكَائِنَةِ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَوْمِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ قال: يرهب بها قريش أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْقَوْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: مِنْ ظَلَمَةِ الْعَرَبِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَيُعَذَّبُوا بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مِنْ ظَالِمِي هذه الأمة.

_ (1) . إن: مخففة من الثقيلة والمعنى: إنه كان يأوي إلى ركن شديد وهو الله تعالى، كما ورد في آثار أخرى.

[سورة هود (11) : الآيات 84 إلى 95]

[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 95] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) أَيْ: وَأَرْسَلَنَا إِلَى مَدْيَنَ- وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ- أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ شُعَيْبًا، وَسُمُّوا مَدْيَنَ: بِاسْمِ أَبِيهِمْ، وَهُوَ مَدْيَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَقِيلَ: بِاسْمِ مَدِينَتِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يَنْصَرِفُ مَدِينُ لِأَنَّهُ اسْمُ مَدِينَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي الْأَعْرَافِ بِأَبْسَطِ مِمَّا هُنَا، وَقَدْ تقدّم تفسير: قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ لَمَّا أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ؟ وَقَدْ كَانَ شُعَيْبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُسَمَّى خَطِيبَ الْأَنْبِيَاءِ لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ لِقَوْمِهِ، أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِعِبَادَةِ الِلَّهِ سُبْحَانَهُ الَّذِي هُوَ الْإِلَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ كُفْرِهِمْ أَهْلَ تَطْفِيفٍ، كَانُوا إِذَا جَاءَهُمُ الْبَائِعُ بِالطَّعَامِ أَخَذُوا بِكَيْلٍ زَائِدٍ وَكَذَلِكَ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِمُ الْمَوْزُونُ أَخَذُوا بِوَزْنٍ زَائِدٍ، وَإِذَا بَاعُوا بَاعُوا بِكَيْلٍ نَاقِصٍ وَوَزْنٍ نَاقِصٍ وَجُمْلَةُ: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ: لَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ لِأَنِّي أَرَاكُمْ بخير، أي: بثروة واسعة فِي الرِّزْقِ فَلَا تُغَيِّرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِمَعْصِيَتِهِ وَالْإِضْرَارِ بِعِبَادِهِ، فَفِي هَذِهِ النِّعْمَةِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْعِلَّةِ عِلَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ فَهَذِهِ الْعِلَّةُ فِيهَا الْإِذْكَارُ لَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا أَنَّ الْعِلَّةَ الْأُولَى فِيهَا الْإِذْكَارُ لَهُمْ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا وَوَصَفَ الْيَوْمَ بِالْإِحَاطَةِ وَالْمُرَادُ: الْعَذَابُ، لِأَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ فِي الْيَوْمِ وَمَعْنَى إِحَاطَةِ عَذَابِ الْيَوْمِ بِهِمْ أَنَّهُ لَا يَشِذُّ مِنْهُمْ أَحَدٌ عَنْهُ وَلَا يَجِدُونَ مِنْهُ مَلْجَأً وَلَا مَهْرَبًا، وَالْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: هُوَ يوم

الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالصَّيْحَةِ ثُمَّ أَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ نَقْصِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ بِقَوْلِهِ: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَالْإِيفَاءُ: هُوَ الْإِتْمَامُ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَهُوَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَإِنْ كَانَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْإِيفَاءِ فَضْلٌ وَخَيْرٌ، وَلَكِنَّهَا فَوْقَ مَا يُفِيدُهُ اسْمُ الْعَدْلِ، وَالنَّهْيُ عَنِ النَّقْصِ وَإِنْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيفَاءَ فَفِي تَعَاضُدِ الدَّلَالَتَيْنِ مُبَالَغَةٌ بَلِيغَةٌ وَتَأْكِيدٌ حَسَنٌ، ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا فَقَالَ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْأَعْرَافِ، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْبَخْسِ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْأَشْيَاءُ أَعَمُّ مِمَّا يُكَالُ وَيُوزَنُ فَيَدْخُلُ الْبَخْسُ بِتَطْفِيفِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي هَذَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَقِيلَ: الْبَخْسُ الْمَكْسُ خَاصَّةً، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قَدْ مَرَّ أَيْضًا تَفْسِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ، وَالْعُثِيُّ فِي الْأَرْضِ: يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا فِي السِّيَاقِ مِنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَقَيَّدَهُ بِالْحَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مُفْسِدِينَ لِيُخْرِجَ مَا كَانَ صُورَتُهُ مِنَ الْعُثِيِّ فِي الْأَرْضِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْإِصْلَاحُ كَمَا وَقَعَ مِنَ الْخَضِرِ في السفينة بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: مَا يُبْقِيهِ لَكُمْ مِنَ الْحَلَالِ بَعْدَ إِيفَاءِ الْحُقُوقِ بِالْقِسْطِ أَكْثَرُ خَيْرًا وَبَرَكَةً مِمَّا تُبْقُونَهُ لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَقِيَّةُ اللَّهِ: طَاعَتُهُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: وَصِيَّتُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُرَاقَبَتُهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ لَا الْكَافِرُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا: الْمُصَدِّقُونَ لِشُعَيْبٍ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أَحْفَظُكُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ وَغَيْرِهِمَا، أَوْ أَحْفَظُ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَأُحَاسِبُكُمْ بِهَا وَأُجَازِيكُمْ عليها، وجملة: قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالُوا لِشُعَيْبٍ؟ وَقُرِئَ أَصَلاتُكَ من غير جمع، وأن نَتْرُكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَوْضِعُهَا خَفْضٌ عَلَى إِضْمَارِ الْبَاءِ، وَمُرَادُهُمْ بِمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنَ الْأَوْثَانِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، لِأَنَّ الصَّلَوَاتِ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي يُقَالُ لِفَاعِلِهِ عِنْدَ إِرَادَةِ تَلْيِينِ قَلْبِهِ وَتَذْلِيلِ صُعُوبَتِهِ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ إِذَا فَعَلَ مَا لَا يُنَاسِبُ الصَّوَابَ: أَصْدَقَتُكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هُنَا الْقِرَاءَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الدِّينُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَوَاتِ أَتْبَاعُهُ، وَمِنْهُ الْمُصَلِّي الَّذِي يَتْلُو السَّابِقَ وَهَذَا مِنْهُمْ جَوَابٌ لِشُعَيْبٍ عَنْ أَمْرِهِ لَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَقَوْلِهِمْ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا جَوَابٌ لَهُ عَنْ أَمْرِهِمْ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَنَهْيِهِمْ عَنْ نَقْصِهِمَا وَعَنْ بَخْسِ النَّاسِ وَعَنِ الْعُثِيِّ فِي الْأَرْضِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا فِي مَا يَعْبُدُ آباؤُنا. وَالْمَعْنَى: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَتَأْمُرُكَ أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والزيادة والنقص. وقرئ تفعل ما تشاء بِالْفَوْقِيَّةِ فِيهِمَا. قَالَ النَّحَّاسُ: فَتَكُونُ أَوْ: عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِلْعَطْفِ عَلَى: أَنِ، الْأُولَى، وَالتَّقْدِيرُ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ تَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا تَشَاءُ. وَقُرِئَ نَفْعَلَ بِالنُّونِ وَمَا تَشَاءُ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَفْعَلَ نَحْنُ فِي أَمْوَالِنَا مَا تَشَاؤُهُ أَنْتَ وَنَدَعُ مَا نَشَاؤُهُ نَحْنُ وَمَا يَجْرِي بِهِ التَّرَاضِي بَيْنَنَا ثُمَّ وَصَفُوهُ بِوَصْفَيْنِ عَظِيمَيْنِ فَقَالُوا: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِهِمَا، أَوْ يُرِيدُونَ إِنَّكَ لَأَنْتَ الحليم الرشيد عند نَفْسِكَ وَفِي اعْتِقَادِكَ، وَمَعْنَاهُمْ: أَنَّ هَذَا الَّذِي نَهَيْتَنَا عَنْهُ وَأَمَرْتَنَا بِهِ يُخَالِفُ مَا

تَعْتَقِدُهُ فِي نَفْسِكَ مِنَ الْحِلْمِ وَالرُّشْدِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْهُ لَهُمْ بِمَا يُخَالِفُ الْحِلْمَ وَالرُّشْدَ فِي اعْتِقَادِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحِلْمِ وَالرُّشْدِ، وجملة: قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالْمَعْنَى: أَخْبِرُونِي إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّي فِيمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ وَرَزَقَنِي مِنْهُ أَيْ: مِنْ فَضْلِهِ وَخَزَائِنِ مُلْكِهِ رِزْقاً حَسَناً أَيْ: كَثِيرًا وَاسِعًا حَلَالًا طَيِّبًا، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرَ الْمَالِ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالرِّزْقِ النُّبُوَّةَ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةَ، وَقِيلَ: الْعِلْمَ، وَقِيلَ: التَّوْفِيقَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، تَقْدِيرُهُ: أَتْرُكُ أَمْرَكُمْ وَنَهْيَكُمْ، أَوْ أَتَقُولُونَ فِي شَأْنِي: مَا تَقُولُونَ مِمَّا تُرِيدُونَ بِهِ السُّخْرِيَةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ أَيْ: وَمَا أُرِيدُ بِنَهْيِي لَكُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَأَفْعَلُهُ دُونَكُمْ، يُقَالُ: خَالَفَهُ إِلَى كَذَا: إِذَا قَصَدَهُ وَهُوَ مُوَلٍّ عَنْهُ، وَخَالَفْتُهُ عَنْ كَذَا: فِي عَكْسِ ذَلِكَ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ أَيْ: مَا أُرِيدُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَّا الْإِصْلَاحَ لَكُمْ وَدَفْعِ الْفَسَادِ فِي دِينِكُمْ وَمُعَامَلَاتِكُمْ مَا اسْتَطَعْتُ مَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ اسْتِطَاعَتِي، وَتَمَكَّنَتْ مِنْهُ طَاقَتِي وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ: مَا صِرْتُ مُوَفَّقًا هَادِيًا نَبِيًّا مُرْشِدًا إِلَّا بِتَأْيِيدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِقْدَارِي عَلَيْهِ وَمَنْحِي إِيَّاهُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فِي جَمِيعِ أُمُورِي الَّتِي مِنْهَا أَمْرُكُمْ وَنَهْيُكُمْ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أَيْ: أَرْجِعُ فِي كُلِّ مَا نَابَنِي مِنَ الْأُمُورِ وَأُفَوِّضُ جَمِيعَ أُمُورِي إِلَى مَا يَخْتَارُهُ لِي مِنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْإِنَابَةَ: الدُّعَاءُ، وَمَعْنَاهُ: وَلَهُ أَدْعُو. قَوْلُهُ: وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَا يُكْسِبَنَّكُمْ شِقَاقِي إِصَابَةَ الْعَذَابِ إِيَّاكُمْ كَمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ شِقَاقِي، وَالشِّقَاقُ: الْعَدَاوَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ: أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولًا ... فَكَيْفَ وَجَدْتُمُ طَعْمَ الشّقاق وأَنْ يُصِيبَكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَجْرِمَنَّكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ مِنَ الْغَرَقِ أَوْ قَوْمَ هُودٍ مِنَ الرِّيحِ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ مِنَ الصَّيْحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: يَجْرِمَنَّكُمْ، وَتَفْسِيرُ: الشِّقَاقِ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: لَيْسَ مَكَانُهُمْ بِبَعِيدٍ مِنْ مَكَانِكُمْ، أَوْ لَيْسَ زَمَانُهُمْ بِبَعِيدٍ مِنْ زَمَانِكُمْ، أَوْ لَيْسُوا بِبَعِيدٍ مِنْكُمْ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِعُقُوبَتِهِمْ، وَهُوَ مُطْلَقُ الْكُفْرِ، وَأَفْرَدَ لَفْظَ بَعِيدٍ لِمِثْلِ مَا سَبَقَ فِي وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ثُمَّ بَعْدَ تَرْهِيبِهِمْ بِالْعَذَابِ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فَقَالَ: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: الِاسْتِغْفَارِ مَعَ تَرْتِيبِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: الرَّحِيمِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُ عَظِيمُ الرَّحْمَةِ لِلتَّائِبِينَ. وَالْوَدُودُ: الْمُحِبُّ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَدِدْتُ الرَّجُلَ أَوَدُّهُ وُدًّا: إِذَا أَحْبَبْتُهُ، وَالْوَدُودُ: الْمُحِبُّ، وَالْوِدُّ وَالْوُدُّ وَالْوَدُّ: الْمَحَبَّةُ وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهُ يَفْعَلُ بِعِبَادِهِ مَا يَفْعَلُهُ مَنْ هُوَ بَلِيغُ الْمَوَدَّةِ بِمَنْ يَوَدُّهُ مِنَ اللُّطْفِ بِهِ، وَسَوْقِ الْخَيْرِ إِلَيْهِ، وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُ. وَفِي هَذَا تَعْلِيلٌ لِمَا قبله من الأمر بالاستغفار والتوبة. وجملة: قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْجُمَلِ السَّابِقَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَأْتِينَا بِمَا لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ: مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ كَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَلَا نَفْقَهُ ذَلِكَ: أَيْ: نَفْهَمُهُ كَمَا نَفْهَمُ الْأُمُورَ الْحَاضِرَةَ الْمُشَاهَدَةَ. فَيَكُونُ نَفْيُ الْفِقْهِ عَلَى هَذَا حَقِيقَةً لَا مجازا

وَقِيلَ: قَالُوا ذَلِكَ إِعْرَاضًا عَنْ سَمَاعِهِ وَاحْتِقَارَ الْكَلَامِ مَعَ كَوْنِهِ مَفْهُومًا لَدَيْهِمْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، فَلَا يَكُونُ نَفْيُ الْفِقْهِ حَقِيقَةً، بَلْ مَجَازًا. يُقَالُ فَقِهَ يَفْقَهُ: إِذَا فَهِمَ، فِقْهًا وَفَقَهًا، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ فُقْهَانًا، وَيُقَالُ فَقُهَ فِقْهًا: إِذَا صَارَ فَقِيهًا وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً أَيْ: لَا قُوَّةَ لَكَ تَقْدِرُ بِهَا عَلَى أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَكَ مِنَّا، وَتَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ مُخَالَفَتِنَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي بَدَنِهِ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مُصَابًا بِبَصَرِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ حِمْيَرَ تَقُولُ لِلْأَعْمَى: ضَعِيفٌ، أَيْ: قَدْ ضَعُفَ بِذَهَابِ بَصَرِهِ، كَمَا يُقَالُ لَهُ: ضَرِيرٌ، أَيْ: قَدْ ضُرَّ بِذَهَابِ بَصَرِهِ وَقِيلَ: الضَّعِيفُ: الْمَهِينُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ رَهْطُ الرَّجُلِ: عَشِيرَتُهُ الَّذِينَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِمْ وَيَتَقَوَّى بِهِمْ، وَمِنْهُ: الرَّاهِطُ: لِجُحْرِ الْيَرْبُوعِ، لِأَنَّهُ يَتَوَثَّقُ بِهِ وَيُخَبَّأُ فِيهِ وَلَدُهُ، وَالرَّهْطُ يَقَعُ عَلَى الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا رَهْطَهُ مَانِعًا مِنْ إِنْزَالِ الضَّرَرِ بِهِ، مَعَ كَوْنِهِمْ فِي قِلَّةٍ، وَالْكُفَّارُ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينِهِمْ، فَتَرَكُوهُ احْتِرَامًا لَهُمْ لَا خَوْفًا مِنْهُمْ، ثُمَّ أَكَّدُوا مَا وَصَفُوهُ بِهِ مِنَ الضعف بقولهم: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ حَتَّى نَكُفَّ عَنْكَ لِأَجْلِ عِزَّتِكَ عِنْدَنَا، بَلْ تَرَكْنَا رَجْمَكَ لِعِزَّةِ رَهْطِكَ عَلَيْنَا، وَمَعْنَى لَرَجَمْنَاكَ: لَقَتَلْنَاكَ بِالرَّجْمِ وَكَانُوا إِذَا قَتَلُوا إِنْسَانًا رَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَى لَرَجَمْنَاكَ: لَشَتَمْنَاكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْجَعْدِيِّ: تَرَاجَمْنَا بِمُرِّ الْقَوْلِ حَتَّى ... نَصِيرَ كَأَنَّنَا فَرَسَا رِهَانِ وَيُطْلَقُ الرَّجْمُ عَلَى اللَّعْنِ، وَمِنْهُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، وَجُمْلَةُ: قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنِّي، لِأَنَّ نفي العزّة وَإِثْبَاتَهَا لِقَوْمِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِيلَاءُ الضَّمِيرِ حَرْفَ النَّفْيِ، اسْتِهَانَةٌ بِهِ، وَالِاسْتِهَانَةُ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ اسْتِهَانَةٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُمْ أَنَّ رَهْطَهُ أَعَزُّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ، فَاسْتَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَتَعَجَّبَ مِنْهُ، وَأَلْزَمَهُمْ مَا لَا مَخْلَصَ لَهُمْ عَنْهُ، وَلَا مَخْرَجَ لَهُمْ مِنْهُ بِصُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِي هَذَا مِنْ قُوَّةِ الْمُحَاجَّةِ وَوُضُوحِ الْمُجَادَلَةِ وَإِلْقَامِ الْخَصْمِ الْحَجَرَ مَا لَا يَخْفَى، وَلِأَمْرٍ مَا سُمِّيَ شُعَيْبٌ: خَطِيبَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَاتَّخَذْتُمُوهُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالْمَعْنَى: وَاتَّخَذْتُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِسَبَبِ عَدَمِ اعْتِدَادِكُمْ بِنَبِيِّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا أَيْ: مَنْبُوذًا وَرَاءَ الظَّهْرِ لَا تُبَالُونَ بِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَاتَّخَذْتُمْ أَمْرَ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَنِي بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْكُمْ، وَهُوَ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ، يُقَالُ: جَعَلْتُ أَمْرَهُ بِظَهْرٍ: إِذَا قَصَّرْتُ فيه، وظهريا، مَنْسُوبٌ إِلَى الظَّهْرِ، وَالْكَسْرُ لِتَغْيِيرِ النَّسَبِ إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ لَمَّا رَأَى إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَتَصْمِيمَهُمْ عَلَى دِينِ آبَائِهِمْ، وَعَدَمِ تَأْثِيرِ الْمَوْعِظَةِ فِيهِمْ تَوَعَّدَهُمْ بِأَنْ يَعْمَلُوا عَلَى غَايَةِ تَمَكُّنِهِمْ وَنِهَايَةِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، يُقَالُ: مَكُنَ مَكَانَةً: إِذَا تَمَكَّنَ أَبْلَغَ تَمَكُّنٍ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ عَامِلٌ عَلَى حَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ وَيُقَدِّرُ اللَّهُ لَهُ ثُمَّ بَالَغَ فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيْ: عَاقِبَةَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَالْإِضْرَارِ بِعِبَادِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْأَنْعَامِ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ من: في محل نصب بتعلمون، أَيْ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ الْعَذَابُ الْمُخْزِي الَّذِي يَتَأَثَّرُ عَنْهُ الذُّلُّ وَالْفَضِيحَةُ وَالْعَارُ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ مَعْطُوفٌ عَلَى: مَنْ يَأْتِيهِ وَالْمَعْنَى: سَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ الْمُعَذَّبُ وَمَنْ

هُوَ الْكَاذِبُ؟ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِكَذِبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ وَقِيلَ: إِنَّ: مَنْ، مُبْتَدَأٌ، وَمَا بَعْدَهَا صِلَتُهَا، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ هُوَ كَاذِبٌ فَسَيَعْلَمُ كَذِبَهُ وَيَذُوقُ وَبَالَ أَمْرِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا جَاءَ بِ: هُوَ فِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ مَنْ قَائِمٌ: إِنَّمَا يَقُولُونَ مَنْ قَامَ، وَمَنْ يَقُومُ، وَمَنِ الْقَائِمُ، فَزَادُوا هُوَ لِيَكُونَ جُمْلَةً تَقُومُ مَقَامَ فَعَلَ وَيَفْعَلُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: من رسولي إلى الثريّا بأنّي ... ضِقْتُ ذَرْعًا بِهَجْرِهَا وَالْكِتَابِ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أَيِ: انْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مُنْتَظِرٌ لِمَا يَقْضِي بِهِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أَيْ: لَمَّا جَاءَ عَذَابُنَا، أَوْ أَمَرُنَا بِعَذَابِهِمْ نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَأَتْبَاعَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ بِرَحْمَةٍ مِنَّا لَهُمْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، أَوْ بِرَحْمَةٍ مِنَّا لَهُمْ، وَهِيَ: هِدَايَتُهُمْ لِلْإِيمَانِ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا غَيْرَهُمْ بِمَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ وَجْهٍ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّصْمِيمِ عَلَى الْكُفْرِ الصَّيْحَةُ الَّتِي صَاحَ بِهِمْ جِبْرَائِيلُ حَتَّى خَرَجَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، وَفِي الأعراف: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَكَذَا فِي الْعَنْكَبُوتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرَّجْفَةَ: الزَّلْزَلَةُ، وَأَنَّهَا تَكُونُ تَابِعَةً لِلصَّيْحَةِ لِتَمَوُّجِ الْهَوَاءِ الْمُفْضِي إِلَيْهَا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ أَيْ: مَيِّتِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَتَفْسِيرُ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها قَرِيبًا، وَكَذَا تَفْسِيرُ: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ قَرَأَ: كَمَا بَعُدَتْ ثَمُودُ بِضَمِّ الْعَيْنِ. قَالَ الَمَهَدَوِيُّ: مَنْ ضَمَّ الْعَيْنَ مِنْ بَعُدَتْ فَهِيَ لُغَةٌ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَبَعِدَتْ بِالْكَسْرِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ خَاصَّةً، وَهِيَ هُنَا بِمَعْنَى اللَّعْنَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ قَالَ: رُخْصُ السِّعْرِ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ قَالَ: غَلَاءُ السِّعْرِ. وَأَخْرَجَ ابن جرير عنه بَقِيَّتُ اللَّهِ قَالَ: رِزْقُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عن قتادة: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ يَقُولُ: حَظُّكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: طَاعَةُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الْأَعْمَشِ فِي قَوْلِهِ: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ قَالَ: أَقِرَاءَتُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْأَحْنَفِ: أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَاةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا قَالَ: نَهَاهُمْ عَنْ قَطْعِ هَذِهِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَقَالُوا: إِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُنَا نَفْعَلُ فِيهَا مَا نَشَاءُ، إِنْ شِئْنَا قَطَعْنَاهَا، وَإِنْ شِئْنَا أَحْرَقْنَاهَا، وَإِنْ شِئْنَا طَرَحْنَاهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ. وأخرجنا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَهُ أيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قَالَ: يَقُولُونَ إِنَّكَ لَسْتَ بِحَلِيمٍ وَلَا رَشِيدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اسْتِهْزَاءٌ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً قَالَ: الحلال.

[سورة هود (11) : الآيات 96 إلى 108]

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ قَالَ: يَقُولُ لَمْ أَكُنْ لِأَنْهَاكُمْ عَنْ أَمْرٍ وَأَرْكَبَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشيخ عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ أُنِيبُ قَالَ: إِلَيْهِ أَرْجِعُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: قُلِ اللَّهُ رَبِّي ثُمَّ اسْتَقِمْ، قُلْتُ: رَبِّيَ اللَّهُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلَتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، قَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْحَسَنِ، لَقَدْ شَرِبْتَ الْعِلْمَ شُرْبًا وَنَهِلْتَهُ نَهَلًا، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْكُدَيْمِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي لَا يَحْمِلَنَّكُمْ فِرَاقِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: شِقَاقِي عَدَاوَتِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ قَالَ: لَا تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَتِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ قَرِيبٍ بَعْدَ نُوحٍ وَثَمُودَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً قَالَ: كَانَ أَعْمَى، وَإِنَّمَا عَمِيَ مِنْ بُكَائِهِ مِنْ حُبِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَكَى شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حُبِّ اللَّهِ حَتَّى عَمِيَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْخَطِيبُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً قَالَ: كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سُفْيَانَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً قَالَ: كَانَ أَعْمَى، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: مَعْنَاهُ إِنَّمَا أَنْتَ وَاحِدٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُ خَطَبَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي شُعَيْبٍ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً قَالَ: كَانَ مَكْفُوفًا، فَنَسَبُوهُ إِلَى الضَّعْفِ وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ قال عليّ: فو الله الذي لا إله غَيْرُهُ مَا هَابُوا جَلَالَ رَبِّهِمْ مَا هَابُوا إِلَّا الْعَشِيرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا قَالَ: نَبَذْتُمْ أَمْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِي الْآيَةِ: لَا تَخَافُونَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضحاك قال: تهاونتم به. [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 108] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: التَّوْرَاةُ، وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: الْمُعْجِزَاتُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: هِيَ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: الْعَصَا، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ التِّسْعِ لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَبْهَرَهَا أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: مَا يُفِيدُ الظَّنَّ، وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: مَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَقِيلَ: هُمَا جَمِيعًا عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، أَيْ: أَرْسَلْنَاهُ بِمَا يَجْمَعُ وَصْفَ كَوْنِهِ آيَةً وَكَوْنِهِ سُلْطَانًا مُبِينًا وَقِيلَ: إِنَّ السُّلْطَانَ الْمُبِينَ: مَا أَوْرَدَهُ مُوسَى عَلَى فرعون في المحاورة بينهما إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أَيْ: أَرْسَلْنَاهُ بِذَلِكَ إِلَى هَؤُلَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَلَأَ أَشْرَافُ الْقَوْمِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ الْقَوْمِ، لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ فِي الْإِصْدَارِ وَالْإِيرَادِ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَأَ دُونَ فِرْعَوْنَ بقوله: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي: أمره لَهُمْ بِالْكُفْرِ، لِأَنَّ حَالَ فِرْعَوْنَ فِي الْكُفْرِ أَمْرٌ وَاضِحٌ، إِذْ كُفْرُ قَوْمِهِ مِنَ الْأَشْرَافِ وَغَيْرِهِمْ إِنَّمَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى كُفْرِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِأَمْرِ فِرْعَوْنَ: شَأْنُهُ وَطَرِيقَتُهُ، فَيَعُمَّ الْكُفْرَ وَغَيْرَهُ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أَيْ: لَيْسَ فِيهِ رُشْدٌ قَطُّ، بَلْ هُوَ غَيٌّ وَضَلَالٌ، وَالرَّشِيدُ بِمَعْنَى: الْمُرْشِدِ، وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ، أَوْ بِمَعْنَى ذِي رُشْدٍ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الرُّشْدَ فِي أَمْرِ مُوسَى يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنْ قَدِمَهُ بِمَعْنَى تَقَدَّمَهُ، أَيْ: يَصِيرُ مُتَقَدِّمًا لهم يوم القيامة سابقا لهم إِلَى عَذَابِ النَّارِ كَمَا كَانَ يَتَقَدَّمُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أَيْ: إِنَّهُ لَا يَزَالُ مُتَقَدِّمًا لَهُمْ وَهُمْ يَتْبَعُونَهُ حَتَّى يُورِدَهُمُ النَّارَ وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي: تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، ثُمَّ ذَمَّ الْوِرْدَ الَّذِي أَوْرَدَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ لِأَنَّ الْوَارِدَ إِلَى الْمَاءِ الَّذِي يقال له: الورد، إنما يرده ليطفىء حَرَّ الْعَطَشِ، وَيُذْهِبَ ظَمَأَهُ، وَالنَّارُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَمَّهُمْ بَعْدَ ذَمِّ الْمَكَانِ الَّذِي يَرِدُونَهُ، فَقَالَ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً أَيْ: أُتْبِعَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مُطْلَقًا، أَوِ الْمَلَأُ خَاصَّةً، أَوْ هُمْ وَفِرْعَوْنُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً عَظِيمَةً، أَيْ: طَرْدًا وَإِبْعَادًا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ: وَأُتْبِعُوا لَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَلْعَنُهُمْ أَهْلُ الْمَحْشَرِ جَمِيعًا، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ اللَّعْنَةَ رِفْدًا لَهُمْ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ، فَقَالَ: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: رَفَدْتُهُ، أَرْفِدُهُ، رِفْدًا: أَمَّنْتُهُ وَأَعْطَيْتُهُ، وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ: الرِّفْدُ، أَيْ: بِئْسَ الْعَطَاءُ وَالْإِعَانَةُ مَا أَعْطَوْهُمْ إِيَّاهُ، وَأَعَانُوهُمْ بِهِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: رِفْدُهُمْ، وَهُوَ اللَّعْنَةُ الَّتِي أُتْبِعُوهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَأَنَّهَا لَعْنَةٌ بَعْدَ لَعْنَةٍ تَمُدُّ الْأُخْرَى الْأُولَى وَتُؤَبِّدُهَا. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ حِكَايَةً عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الرَّفْدَ بِالْفَتْحِ: الْقَدَحُ، وَبِالْكَسْرِ: مَا فِيهِ مِنَ الشَّرَابِ فَكَأَنَّهُ ذَمَّ مَا يَسْتَقُونَهُ فِي النَّارِ، وَهَذَا أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ، وَقِيلَ: إِنَّ الرِّفْدَ: الزِّيَادَةُ، أَيْ: بِئْسَ مَا يُرْفَدُونَ بِهِ بَعْدَ الْغَرَقِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ أَيْ: مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَمَا فَعَلُوهُ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، أَيْ: هُوَ مقصوص عليك خبر بَعْدَ خَبَرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقَصَصِ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهَا، عَائِدٌ إِلَى الْقُرَى، أَيْ: مِنَ الْقُرَى قَائِمٌ، وَمِنْهَا حَصِيدٌ، وَالْقَائِمُ: مَا كَانَ قَائِمًا عَلَى عُرُوشِهِ، وَالْحَصِيدُ: مَا لَا أَثَرَ لَهُ وَقِيلَ: الْقَائِمُ: الْعَامِرُ، وَالْحَصِيدُ: الْخَرَابُ وقيل: القائم: القرى الخاوية على عُرُوشِهَا، وَالْحَصِيدُ: الْمُسْتَأْصَلُ بِمَعْنَى مَحْصُودٍ، شَبَّهَ الْقُرَى بِالزَّرْعِ الْقَائِمِ عَلَى سَاقِهِ وَالْمَقْطُوعِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَالنَّاسُ فِي قِسْمِ الْمَنِيَّةِ بَيْنَهُمْ ... كَالزَّرْعِ مِنْهُ قَائِمٌ وَحَصِيدُ وَما ظَلَمْناهُمْ بِمَا فَعَلْنَا بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ أَيْ: فَمَا دَفَعَتْ عَنْهُمْ أَصْنَامُهُمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أَيْ: لَمَّا جَاءَ عَذَابُهُ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ: الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ، أَيُّ: مَا زَادَتْهُمُ الْأَصْنَامُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا إِلَّا هَلَاكًا وَخُسْرَانًا، وَقَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تُعِينُهُمْ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ قَرَأَ الْجَحْدَرَيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ أَخَذَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ وَقَرَأَ غَيْرُهُمَا أَخْذُ عَلَى الْمَصْدَرِ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ أَيْ: أَهْلَهَا وَهُمْ ظَالِمُونَ إِنَّ أَخْذَهُ أَيْ: عُقُوبَتَهُ لِلْكَافِرِينَ أَلِيمٌ شَدِيدٌ أَيْ: مُوجِعٌ غَلِيظٌ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أَيْ: فِي أَخْذِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِأَهْلِ الْقُرَى، أَوْ فِي الْقَصَصِ الَّذِي قَصَّهُ عَلَى رَسُولِهِ لَعِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِالْعِبَرِ، وَيَتَّعِظُونَ بِالْمَوَاعِظِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بذكر الآخرة، أي: يَجْمَعَ فِيهِ النَّاسَ لِلْمُحَاسَبَةِ وَالْمُجَازَاةِ وَذلِكَ أَيْ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أَيْ: يَشْهَدُهُ أَهْلُ الْمَحْشَرِ، أَوْ مَشْهُودٌ فِيهِ الْخَلَائِقُ، فَاتَّسَعَ فِي الظَّرْفِ بِإِجْرَائِهِ مُجْرَى الْمَفْعُولِ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أَيْ: وَمَا نُؤَخِّرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَّا لِانْتِهَاءِ أَجَلٍ مَعْدُودٍ مَعْلُومٍ بِالْعَدَدِ، قَدْ عَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ بَعْدَهُ يَوْمَ يَأْتِ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الدَّرَجِ، وَحَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ بِإِثْبَاتِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِحَذْفِهَا فِيهِمَا، وَوَجْهُ حَذْفِ الْيَاءِ مَعَ الْوَقْفِ مَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ أَنَّ الْفِعْلَ السَّالِمَ يُوقَفُ عَلَيْهِ كَالْمَجْزُومِ، فَحُذِفَتِ الْيَاءُ كَمَا تُحْذَفُ الضَّمَّةُ. وَوَجْهُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِحَذْفِ الْيَاءِ مَعَ الْوَصْلِ أَنَّهُمْ رَأَوْا رَسْمَ الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ. وَحَكَى الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لَا أَدْرِ، فَتَحْذِفُ الْيَاءَ وَتَجْتَزِئُ بِالْكَسْرِ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ فِي حَذْفِ الْيَاءِ: كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمًا ... جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْأَجْوَدُ فِي النَّحْوِ إِثْبَاتُ الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى: حِينَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ أَيْ: لَا تَتَكَلَّمُ، حُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا، أَيْ: لَا تَتَكَلَّمُ فِيهِ نَفْسٌ إِلَّا بِمَا أُذِنَ لَهَا مِنَ الْكَلَامِ وَقِيلَ: لَا تَكَلَّمُ بِحُجَّةٍ وَلَا شَفَاعَةٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ- سُبْحَانَهُ- لَهَا فِي التَّكَلُّمِ بِذَلِكَ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ- وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «1» بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ مِثْلُ هَذَا الْجَمْعِ فِي مَوَاضِعَ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ أَيْ: مِنَ الْأَنْفُسِ شَقِيٌّ، وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ فَالشَّقِيُّ مَنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ، وَالسَّعِيدُ مَنْ كُتِبَتْ لَهُ السَّعَادَةُ، وَتَقْدِيمُ الشَّقِيِّ عَلَى السَّعِيدِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَحْذِيرٍ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ أَيْ: فأما الذين سَبَقَتْ لَهُمُ الشَّقَاوَةُ فَمُسْتَقِرُّونَ فِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الزَّفِيرُ مِنْ شِدَّةِ الْأَنِينِ، وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ جِدًّا، قَالَ: وَزَعَمَ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ أَنَّ الزَّفِيرَ: بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ صَوْتِ الْحَمِيرِ. وَالشَّهِيقَ: بِمَنْزِلَةِ آخِرِهِ وَقِيلَ الزَّفِيرُ: الصَّوْتُ الشَّدِيدُ، وَالشَّهِيقُ: الصَّوْتُ الضَّعِيفُ وَقِيلَ: الزَّفِيرُ: إِخْرَاجُ النَّفَسِ، وَالشَّهِيقُ: رَدُّ النَّفَسِ وقيل: الزفير من

_ (1) . المرسلات: 35- 36.

الصَّدْرِ، وَالشَّهِيقُ مِنَ الْحَلْقِ، وَقِيلَ: الزَّفِيرُ: تَرْدِيدُ النَّفَسِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَالشَّهِيقُ: النَّفَسُ الطَّوِيلُ الْمُمْتَدُّ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا حَالُهُمْ فِيهَا؟ أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أَيْ: مُدَّةَ دَوَامِهِمَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بَيَانِ مَعْنَى هَذَا التَّوْقِيتِ، لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بالأدلة القطعية تأييد عَذَابِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، وَعَدَمِ انْقِطَاعِهِ عَنْهُمْ، وثبت أيضا أن السموات وَالْأَرْضَ تَذْهَبُ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ الدُّنْيَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ جَارٍ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْتَادُهُ إِذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي دوام الشيء، قالوا: هو دائم ما دامت السموات والأرض، ومنه قولهم: لَا آتِيكَ مَا جَنَّ لَيْلٌ، وَمَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَمَا نَاحَ الْحَمَّامُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا لَا انْقِطَاعَ لِذَلِكَ وَلَا انْتِهَاءَ لَهُ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ سَمَوَاتُ الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا، فَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْآخِرَةِ سَمَوَاتٍ وَأَرْضًا غَيْرَ هَذِهِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ دَائِمَةٌ بِدَوَامِ دَارِ الْآخِرَةِ، وَأَيْضًا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَوْضِعٍ يُقِلُّهُمْ، وَآخَرَ يُظِلُّهُمْ، وَهُمَا أَرْضٌ وَسَمَاءٌ. قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَفِي النَّارِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ تَأْخِيرِ قَوْمٍ عَنْ ذَلِكَ. رَوَى هَذَا أَبُو نَضْرَةٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. الثَّانِي: في الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِلْعُصَاةِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ النَّارِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا عَامًّا فِي الْكَفَرَةِ وَالْعُصَاةِ، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ خَالِدِينَ، وَتَكُونُ مَا بِمَعْنَى مَنْ، وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو سِنَانٍ وَغَيْرُهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ تَوَاتُرًا يُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَهْلُ التَّوْحِيدِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُخَصِّصًا لِكُلِّ عُمُومٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ، أَيْ: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ غَيْرِ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. الرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ: أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ لَا يَمُوتُونَ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ النَّارَ فَتَأْكُلُهُمْ حَتَّى يَفْنَوْا، ثُمَّ يُجَدِّدُ اللَّهُ خَلْقَهُمْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى سِوَى. وَالْمَعْنَى ما دامت السموات وَالْأَرْضُ سِوَى مَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ مِنَ الْخُلُودِ، كَأَنَّهُ ذَكَرَ فِي خُلُودِهِمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَطْوَلُ مِنْهُ، ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ الدَّوَامَ الَّذِي لَا آخِرَ لَهُ حَكَاهُ الزَّجَّاجُ. السَّادِسُ: مَا رُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنِ قُتَيْبَةَ مِنْ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي عَدَمَ الْمَشِيئَةِ كَقَوْلِكَ: وَاللَّهِ لِأَضْرِبَنَّهُ إِلَّا أَنَّ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، وَنُوقِشَ هَذَا بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْحُكْمُ بِخُلُودِهِمْ إِلَّا الْمُدَّةَ الَّتِي شَاءَ اللَّهُ، فَالْمَشِيئَةُ قَدْ حَصَلَتْ جَزْمًا، وَقَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا. السَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْنَى خَالِدِينَ فيها ما دامت السموات وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ مِقْدَارِ مَوْقِفِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ وَلِلْحِسَابِ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ أَيْضًا. الثَّامِنُ: أَنَّ الْمَعْنَى: خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ زِيَادَةِ النَّعِيمِ لِأَهْلِ النَّعِيمِ، وَزِيَادَةِ الْعَذَابِ لِأَهْلِ الْجَحِيمِ حَكَاهُ أَيْضًا الزَّجَّاجُ، وَاخْتَارَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ. التَّاسِعُ أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَالْمَعْنَى وَمَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الزِّيَادَةِ، قَالَ مَكِّيٌّ: وَهَذَا الْقَوْلُ بَعِيدٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ تَكُونَ إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى الْكَافِ. وَالتَّقْدِيرُ: كَمَا شَاءَ رَبُّكَ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ «1» أَيْ كَمَا قَدْ سَلَفَ، الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ

_ (1) . النساء: 22.

الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ فِي كُلِّ كَلَامٍ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «1» رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ جُمْلَةُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ نُوقِشَ بَعْضُهَا بِمُنَاقَشَاتٍ، وَدُفِعَتْ بِدُفُوعَاتٍ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ جَمَعْتُهَا فِي جَوَابِ سُؤَالٍ وَرَدَ مِنْ بَعْضِ الْأَعْلَامِ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سُعِدُوا بِضَمِّ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يُقَالُ سَعِدَ فُلَانٌ كَمَا لَا يُقَالُ شَقِيَ فُلَانٌ لِكَوْنِهِ مِمَّا لَا يَتَعَدَّى قَالَ النَّحَّاسُ: وَرَأَيْتُ عَلِيَّ ابن سُلَيْمَانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ بِضَمِّ السِّينِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَهَذَا لَحْنٌ لَا يَجُوزُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا. قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ قَدْ عُرِفَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَصْلُحُ لِحَمْلِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أَيْ يُعْطِيهِمُ اللَّهُ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، وَالْمَجْذُوذُ: الْمَقْطُوعُ، مِنْ جَذَّهُ يَجُذُّهُ إِذَا قَطَعَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُمْتَدٌّ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَقُولُ: أَضَلَّهُمْ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: فِرْعَوْنُ يَمْضِي بَيْنَ أَيْدِي قَوْمِهِ حَتَّى يَهْجُمَ بِهِمْ عَلَى النَّارِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ قَالَ: الْوُرُودُ: الدُّخُولُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ قَالَ: لَعْنَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ: مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ يَعْنِي قُرًى عَامِرَةٌ، وَقُرًى خَامِدَةٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ: مِنْهَا قَائِمٌ يُرَى مَكَانَهُ، وَحَصِيدٌ لَا يُرَى لَهُ أَثَرٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: مِنْهَا قَائِمٌ خَاوٍ عَلَى عُرُوشِهِ، وَحَصِيدٌ مُلْصَقٌ بِالْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ قَالَ: مَا نَفَعَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ أَيْ: هَلَكَةٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: تَخْسِيرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ مَعْنَاهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ يَقُولُ: إِنَّا سَوْفَ نَفِي لَهُمْ بِمَا وَعَدْنَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا وَفَّيْنَا لِلْأَنْبِيَاءِ أَنَّا نَنْصُرُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ قَالَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرُجُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِ قَالَ: ذَلِكَ اليوم. وأخرجه التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَعَلَامَ نَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، أَوْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ قَالَ: بَلْ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وجرت

_ (1) . الفتح: 27.

بِهِ الْأَقْلَامُ يَا عُمَرُ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: هاتان من المخبئات قول الله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ويَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا أَمَّا قَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقِبْلَةِ، يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ بِالنَّارِ مَا شَاءَ بِذُنُوبِهِمْ، ثُمَّ يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ لَهُمْ، فَيَشْفَعُ لَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَيُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، فَسَمَّاهُمْ: أَشْقِيَاءَ حِينَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ- خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ حِينَ أَذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ لَهُمْ وَأَخْرَجَهُمْ مِنَ النَّارِ وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ وَهُمْ هُمْ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا يَعْنِي: بَعْدَ الشَّقَاءِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ يَعْنِي: الَّذِينَ كَانُوا فِي النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ، وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَ أَهْلُ حَرُورَاءَ: إِنَّ مَنْ دَخَلَهَا بَقِيَ فِيهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُخْرِجَ أُنَاسًا مِنَ الَّذِينَ شَقُوا مِنَ النَّارِ فَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ فَعَلَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ قَالَ: إِنَّهَا فِي التَّوْحِيدِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَوْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ، يَقُولُ: حَيْثُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ خَالِدِينَ فِيهَا: تَأْتِي عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: يَنْتَهِي الْقُرْآنُ كُلُّهُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ قَالَ: لِكُلِّ جَنَّةٍ سَمَاءٌ وَأَرْضٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الْحَسَنِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ قَالَ: فَقَدْ شَاءَ رَبُّكَ أَنْ يَخْلُدَ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ، وَأَنْ يَخْلُدَ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ قَالَ: اسْتَثْنَى اللَّهُ مِنَ النَّارِ أَنْ تَأْكُلَهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ مَا نَسَخَهَا، فَأُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَذَهَبَ الرَّجَاءُ لِأَهْلِ النَّارِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا، وَأَوْجَبَ لَهُمْ خُلُودَ الْأَبَدِ. وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا الْآيَةَ: قَالَ: فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ مَا نَسَخَهَا، فَأُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ إلى قوله: ظِلًّا ظَلِيلًا «1» فَأَوْجَبَ لَهُمْ خُلُودَ الْأَبَدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَوْ لَبِثَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ كَقَدْرِ رَمْلٍ عَالِجٍ، لَكَانَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَوْمٌ يَخْرُجُونَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَيَأْتِي عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ لَا يَبْقَى فيها أحد، وقرأ

_ (1) . النساء: 57.

[سورة هود (11) : الآيات 109 إلى 115]

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا الْآيَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ إبراهيم: «مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَرْجَى لِأَهْلِ النَّارِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ» قَالَ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ «لِيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا زَمَانٌ تَخْفُقُ أَبْوَابُهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعها خَرَابًا» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِتَثْنِيَتِهِ عَلَى مَا وَقَعَتْ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ عُمَرُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وعن أبي مجلز، وعبد الرحمن ابن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ التَّابِعِينَ. وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ عن أبي أمامة صدي ابن عَجْلَانَ الْبَاهِلِيِّ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَلَقَدْ تَكَلَّمَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا كَانَ لَهُ فِي تَرْكِهِ سِعَةٌ، وَفِي السُّكُوتِ عَنْهُ غِنًى، فَقَالَ: وَلَا يَخْدَعَنَّكَ قَوْلُ الْمُجَبِّرَةِ إِنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ خُرُوجُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ يُنَادِي عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَيُسَجِّلُ بِافْتِرَائِهِمْ، وَمَا ظَنُّكَ بِقَوْمٍ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ لَمَّا رُوِيَ لَهُمْ بَعْضُ الثَّوَابِتِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو: لِيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تُصَفَّقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: وَأَقُولُ: مَا كَانَ لِابْنِ عَمْرٍو فِي سَيْفَيْهِ وَمُقَاتَلَتِهِ بِهِمَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ تَسْيِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ. انْتَهَى. وَأَقُولُ: أَمَّا الطَّعْنُ عَلَى مَنْ قَالَ بِخُرُوجِ أَهِلِ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ، فَالْقَائِلُ بِذَلِكَ- يَا مسكين- رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صَحَّ عَنْهُ فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ دَفَاتِرُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَكَمَا صَحَّ عَنْهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصحابة يبلغون عدد التواتر فمالك وَالطَّعْنَ عَلَى قَوْمٍ عَرَفُوا مَا جَهِلْتَهُ وَعَمِلُوا بِمَا أَنْتَ عَنْهُ فِي مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ وَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ حَمْلِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ كَمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ وَقَالَ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَأَمَّا مَا ظَنَنْتَهُ مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ يُنَادِي عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَيُسَجِّلُ بِافْتِرَائِهِمْ فَلَا مُنَادَاةَ وَلَا مُخَالَفَةَ، وَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ حَمْلِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْعُصَاةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَالِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ يُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ خُرُوجِ الْعُصَاةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ النَّارِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي يُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ عَدَمِ خُلُودِهِمْ فِي الْجَنَّةِ كَمَا يَخْلُدُ غَيْرُهُمْ، وَذَلِكَ لِتَأَخُّرِ خُلُودِهِمْ إِلَيْهَا مِقْدَارَ الْمُدَّةِ الَّتِي لَبِثُوا فِيهَا فِي النَّارِ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَبْرُ الْأُمَّةِ. وَأَمَّا الطَّعْنُ عَلَى صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ وَحَافِظِ سُنَّتِهِ وَعَابِدِ الصَّحَابَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِلَى أَيْنَ يَا مَحْمُودُ، أَتَدْرِي مَا صَنَعْتَ، وَفِي أَيِّ وَادٍ وَقَعْتَ، وَعَلَى أَيِّ جَنْبٍ سَقَطْتَ؟ وَمَنْ أَنْتَ حَتَّى تَصْعَدَ إلى هذا المكان وتتناول نجوم السماء بيدك الْقَصِيرَةِ وَرِجْلِكَ الْعَرْجَاءِ، أَمَا كَانَ لَكَ فِي مُكَسَّرِي طَلَبَتِكَ مِنْ أَهْلِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ مَا يَرُدُّكَ عَنِ الدُّخُولِ فِيمَا لَا تَعْرِفُ وَالتَّكَلُّمِ بِمَا لَا تَدْرِي، فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبَ مَا يَفْعَلُ الْقُصُورُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ وَالْبُعْدُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا إِلَى أَبْعَدِ مَكَانٍ مِنَ الْفَضِيحَةِ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ نَفْسِهِ وَلَا أَوْقَفَهَا حَيْثُ أوقفها الله سبحانه. [سورة هود (11) : الآيات 109 الى 115] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)

لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ أَقَاصِيصِ الْكَفَرَةِ وَبَيَانِ حَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، سَلَّى رَسُولَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْكَفَرَةِ مِنْ قَوْمِهِ فِي ضِمْنِ النَّهْيِ لَهُ عَنِ الِامْتِرَاءِ فِي أَنَّ مَا يَعْبُدُونَهُ غَيْرُ نَافِعٍ وَلَا ضَارٍّ وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي شَيْءٍ. وَحَذَفَ النُّونَ فِي فَلا تَكُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَالْمِرْيَةُ: الشَّكُّ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إلى كفار عصره صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا تَكُ فِي شَكٍّ مِنْ بُطْلَانِ مَا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ وَقِيلَ: لَا تَكُ فِي شَكٍّ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِمْ. وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وهذا النهي له صلّى الله عليه وَسَلَّمَ هُوَ تَعْرِيضٌ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يُدَاخِلُهُ شَيْءٌ من الشك، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ أَبَدًا. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَعْبُودَاتِ هَؤُلَاءِ كَمَعْبُودَاتِ آبَائِهِمْ، أَوْ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ كَعِبَادَةِ آبَائِهِمْ مِنْ قَبْلُ، وَفِي هَذَا اسْتِثْنَاءُ تَعْلِيلٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الشَّكِّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ، فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِمَّا تَرَاهُ مِنْ قَوْمِكَ، فَهُمْ كَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ طَوَائِفِ الشِّرْكِ، وَجَاءَ بِالْمُضَارِعِ فِي: كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ، لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ فَقَالَ: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا وَفَّيْنَا آبَاءَهُمْ لَا يَنْقُصُ من ذلك شيء. وانتصاب غير: على الْحَالِ، وَالتَّوْفِيَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ النَّقْصِ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُوَفَّى وَهُوَ نَاقِصٌ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُوَفَّى وَهُوَ كَامِلٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَصِيبَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ، وَقِيلَ: مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أَيِ: التَّوْرَاةَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْ: فِي شَأْنِهِ وَتَفَاصِيلِ أَحْكَامِهِ، فَآمَنَ بِهِ قَوْمٌ وَكَفَرَ بِهِ آخَرُونَ، وَعَمِلَ بِأَحْكَامِهِ قَوْمٌ، وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِبَعْضِهَا آخَرُونَ، فَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ يَا مُحَمَّدُ بِمَا وَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الْقُرْآنِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أَيْ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ حَكَمَ بِتَأْخِيرِ عَذَابِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِمَا عَلِمَ فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّلَاحِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ: أَيْ بَيْنَ قَوْمِكَ، أَوْ بَيْنَ قَوْمِ مُوسَى فِيمَا كَانُوا فِيهِ مُخْتَلِفِينَ، فأثيب المحقّ وعذب الْمُبْطِلَ، أَوِ الْكَلِمَةُ هِيَ أَنَّ رَحْمَتَهُ سُبْحَانَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ فَأَمْهَلَهُمْ وَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ لِذَلِكَ وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ التَّسْلِيَةِ لَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْكِتَابِ فَقَالَ: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أَيْ: مِنَ الْقُرْآنِ إِنْ حُمِلَ عَلَى قَوْمِ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَوْ مِنَ التَّوْرَاةِ إِنْ حُمِلَ عَلَى قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمُرِيبُ: الْمُوقِعُ فِي الرِّيبَةِ. ثُمَّ جَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي حُكْمِ تَوْفِيَةِ الْعَذَابِ لَهُمْ، أَوْ هُوَ وَالثَّوَابُ فَقَالَ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَإِنْ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّهَا إِنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَعَمِلَتْ فِي «كُلًّا» ، النَّصْبَ، وَقَدْ جَوَّزَ عَمَلَهَا الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ، وَقَدْ جَوَّزَ الْبَصْرِيُّونَ تَخْفِيفَ إِنَّ مَعَ إِعْمَالِهَا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَقَالَ: مَا أَدْرِي عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُرِئَ وَإِنَّ كُلًّا؟ وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ انْتِصَابَ كُلًّا بِقَوْلِهِ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ وَإِنْ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ كُلًّا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ جَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ إِنَّ وَنَصَبُوا بِهَا كُلًّا. وَعَلَى كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ: فَالتَّنْوِينُ فِي كُلًّا عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: وَإِنَّ كُلَّ الْمُخْتَلِفِينَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، وَخَفَّفَهَا الْبَاقُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَامُ لَمَّا لَامُ إِنَّ، وَمَا: زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ،

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَا بِمَعْنَى: مَنْ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ «1» أَيْ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَنْ لَيُوَفِّينَّهُمْ وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ بَلْ هِيَ اسْمٌ دَخَلَتْ عَلَيْهَا لَامُ التَّوْكِيدِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَنْ خَلَقَ. قِيلَ: وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ، وَأَصْلُهَا: لَمَنْ مَا، فَقُلِبَتِ النُّونُ مِيمًا وَاجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ مِيمَاتٍ فَحُذِفَتِ الْوُسْطَى، حَكَى ذَلِكَ النَّحَّاسُ عَنِ النَّحْوِيِّينَ. وَزَيَّفَ الزَّجَّاجُ هَذَا وَقَالَ: مَنِ اسْمٌ عَلَى حَرْفَيْنِ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ النُّونِ. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ لَمَّا هَذِهِ بِمَعْنَى إِلَّا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ «2» وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: الْأَصْلُ لَمَا الْمُخَفَّفَةُ ثُمَّ ثُقِّلَتْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا خَطَأٌ، إِنَّمَا يُخَفَّفُ الْمُثَقَّلُ وَلَا يُثَقَّلُ الْمُخَفَّفُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّشْدِيدُ مِنْ قَوْلِهِمْ لَمَمْتُ الشَّيْءَ أَلُمُّهُ: إِذَا جَمَعْتَهُ، ثُمَّ بَنَى مِنْهُ فَعْلَى كَمَا قُرِئَ ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا «3» وَأَحْسَنُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا بِمَعْنَى إِلَّا الِاسْتِثْنَائِيَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَجَمِيعِ الْبَصْرِيِّينَ وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَرْفِ أُبَيٍّ وَإِنَّ كُلًّا إِلَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ كَمَا حَكَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنْهُ. وَقُرِئَ بِالتَّنْوِينِ: أَيْ جَمِيعًا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا بِتَخْفِيفِ إِنْ وَرَفْعِ كُلٌّ وَتَشْدِيدِ لَمَّا، وَتَكُونُ: إِنْ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ نَافِيَةً إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ أَيُّهَا الْمُخْتَلِفُونَ خَبِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ لِأَنْوَاعِ الطَّاعَةِ لَهُ سُبْحَانَهُ فَقَالَ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أَيْ: كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَجَمِيعُ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَهُ بِتَجَنُّبِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، كَمَا أَمَرَهُ بِفِعْلِ مَا تَعَبَّدَهُ بِفِعْلِهِ، وَأُمَّتُهُ أُسْوَتُهُ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: وَمَنْ تابَ مَعَكَ أَيْ: رَجَعَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَشَارَكَكَ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي فَاسْتَقِمْ، لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ يَقُومُ مَقَامَ التَّأْكِيدِ، أَيْ: وَلْيَسْتَقِمْ مَنْ تَابَ مَعَكَ وَمَا أَعْظَمَ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَشَدَّ أَمْرَهَا، فَإِنَّ الِاسْتِقَامَةَ- كَمَا أَمَرَ اللَّهُ- لَا تَقُومُ بِهَا إِلَّا الْأَنْفُسُ الْمُطَهَّرَةُ وَالذَّوَاتُ الْمُقَدَّسَةُ، وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «شَيَّبَتْنِي هُودٌ» كَمَا تَقَدَّمَ وَلا تَطْغَوْا الطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ الْمَذْكُورَةِ بَيَّنَ أَنَّ الْغُلُوَّ فِي الْعِبَادَةِ وَالْإِفْرَاطَ فِي الطَّاعَةِ عَلَى وَجْهٍ تَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ وَالْمِقْدَارِ الَّذِي قَدَّرَهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَذَلِكَ كَمَنْ يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ وَلَا يَنَامُ، وَيَتْرُكُ الْحَلَالَ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ بِهِ، وَرَغَّبَ فِيهِ، وَلِهَذَا يَقُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ «أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» ، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ تَغْلِيبًا لِحَالِهِمْ عَلَى حَالِهِ، أَوِ النَّهْيُ عَنِ الطُّغْيَانِ خَاصٌّ بِالْأُمَّةِ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَبِ مَا تَسْتَحِقُّونَ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَوْلُهُ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا تَرْكَنُوا بِضَمِّ الْكَافِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ، قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ هِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، قَالَ: وَلُغَةُ تَمِيمٍ بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ، وَهُمْ يَكْسِرُونَ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ عَلِمَ يَعْلَمُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَرْكَنَهُ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: رَكَنَ إِلَيْهِ يَرْكُنُ بِالضَّمِّ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ رَكِنَ إِلَيْهِ بِالْكَسْرِ يَرْكِنُ رُكُونًا فِيهِمَا، أَيْ: مَالَ إِلَيْهِ وَسَكَنَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَمَّا مَا حَكَى أَبُو زَيْدٍ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع

_ (1) . النساء: 72. (2) . الطارق: 4. (3) . المؤمنون: 44.

بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي شَمْسِ الْعُلُومِ: الرُّكُونُ السُّكُونُ يُقَالُ رَكَنَ إِلَيْهِ رُكُونًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: رَكَنَ إِلَيْهِ كَنَصَرَ وَعَلِمَ وَمَنَعَ رُكُونًا: مَالَ وَسَكَنَ انْتَهَى، فَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ مِنْ رُوَاةِ اللُّغَةِ فَسَّرُوا الرُّكُونَ بِمُطْلَقِ الْمَيْلِ وَالسُّكُونِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنَّ الرُّكُونَ هُوَ الْمَيْلُ الْيَسِيرُ، وَهَكَذَا فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِمُطْلَقِ الْمَيْلِ وَالسُّكُونِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُتَقَيِّدِينَ بِمَا يَنْقُلُهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ ذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ الرُّكُونِ قُيُودًا لَمْ يَذْكُرْهَا أَئِمَّةُ اللُّغَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الرُّكُونُ حَقِيقَتُهُ الِاسْتِنَادُ وَالِاعْتِمَادُ وَالسُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ وَالرِّضَا بِهِ. وَمِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ مَنْ فَسَّرَ الرُّكُونَ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. فَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا تَوَدُّوهُمْ وَلَا تُطِيعُوهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: الرُّكُونُ هُنَا الْإِدْهَانُ، وَذَلِكَ أَنْ لَا يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَعْنَاهُ لَا تَرْضَوْا أَعْمَالَهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَيْضًا الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُشْرِكِينَ أَوْ عَامَّةٌ؟ فَقِيلَ خَاصَّةٌ، وَإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فِي الظَّلَمَةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ: وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ لَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. فَإِنْ قُلْتَ: وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْبَالِغَةُ عَدَدَ التَّوَاتُرِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُبُوتًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمَسُّكٍ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ بِوُجُوبِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ حَتَّى وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ: «أَطِيعُوا السُّلْطَانَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًا رَأْسُهُ كَالزَّبِيبَةِ» . وَوَرَدَ وُجُوبُ طَاعَتِهِمْ مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمُ الْكُفْرُ الْبَوَاحُ، وَمَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَإِنْ بَلَغُوا فِي الظُّلْمِ إِلَى أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَفَعَلُوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِهِ مِمَّا لَمْ يَخْرُجُوا بِهِ إِلَى الْكُفْرِ الْبَوَاحِ، فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ وَاجِبَةٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَا أَمَرُوا بِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ تَوَلِّي الْأَعْمَالِ لَهُمْ، وَالدُّخُولِ فِي الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ الدُّخُولُ فِيهَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ الْجِهَادُ، وَأَخْذُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنَ الرَّعَايَا، وَإِقَامَةُ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ مِنْهُمْ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَطَاعَتُهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ صَارَ تَحْتَ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا بُدَّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْمُخَالَطَةِ لَهُمْ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا مَحِيصَ عَنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، مِنْ وُجُوبِ طَاعَتِهِمْ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ، لتواتر الأدلة الواردة به، بَلْ قَدْ وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «1» بَلْ وَرَدَ: أَنَّهُمْ يُعْطُونَ الَّذِي لَهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ، وَإِنْ مَنَعُوا مَا هُوَ عَلَيْهِمْ لِلرَّعَايَا، كَمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ «أَعْطُوهُمُ الَّذِي لَهُمْ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ» بَلْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ: «وَإِنْ أَخَذَ مَالَكَ وَضَرَبَ ظَهْرَكَ» . فَإِنِ اعْتَبَرْنَا مُطْلَقَ الْمَيْلِ وَالسُّكُونِ فَمُجَرَّدُ هَذِهِ الطَّاعَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَعَ مَا تَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ، هِيَ مَيْلٌ وَسُكُونٌ وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْمَيْلَ وَالسُّكُونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ مَالَ إِلَيْهِمْ فِي الظَّاهِرِ لِأَمْرٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ شَرْعًا كَالطَّاعَةِ، أَوْ لِلتَّقِيَّةِ وَمَخَافَةَ الضَّرَرِ مِنْهُمْ، أَوْ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَامَّةٍ أو خاصة،

_ (1) . النساء: 59.

إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَيْلٌ إِلَيْهِمْ فِي الْبَاطِنِ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا رِضًا بِأَفْعَالِهِمْ. قُلْتُ: أَمَّا الطَّاعَةُ عَلَى عُمُومِهَا بِجَمِيعِ أَقْسَامِهَا حَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَهِيَ عَلَى فَرْضِ صِدْقِ مُسَمَّى الرُّكُونِ عَلَيْهَا مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْهُ بِأَدِلَّتِهَا الَّتِي قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا، وَلَا شَكَّ فِي هَذَا وَلَا رَيْبَ، فَكُلُّ مَنْ أَمَّرُوهُ ابْتِدَاءً أَنْ يَدْخُلَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَمْرُهَا إِلَيْهِمْ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَالْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَنَحْوِهَا، إِذَا وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْقِيَامِ بِمَا وُكِلَ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: جَائِزٌ لَهُ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِمَارَةِ: فَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْأَمْرِ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، أَوْ مَعَ ضَعْفِ الْمَأْمُورِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، كَمَا وَرَدَ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِمَارَةِ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَأَمَّا مُخَالَطَتُهُمْ وَالدُّخُولُ عَلَيْهِمْ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ مَعَ كَرَاهَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ وَعَدَمِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهِمْ وَمَحَبَّتِهَا لَهُمْ، وَكَرَاهَةِ الْمُوَاصَلَةِ لَهُمْ لَوْلَا جَلْبُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ دَفْعُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ فَعَلَى فَرْضِ صِدْقِ مُسَمَّى الرُّكُونِ عَلَى هَذَا، فَهُوَ مُخَصَّصٌ بِالْأَدِلَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَلَا تَخْفَى عَلَى اللَّهِ خَافِيَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنِ ابْتُلِيَ بِمُخَالَطَةِ مَنْ فِيهِ ظُلْمٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَزِنَ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ وَمَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، فَإِنْ زَاغَ عَنْ ذَلِكَ «فَعَلَى نَفْسِهَا بَرَاقِشُ تَجْنِي» وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْفِرَارِ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ مِنْ جِهَتِهِمْ بِأَمْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ فَهُوَ الْأَوْلَى لَهُ وَالْأَلْيَقُ بِهِ. يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ، النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ فِيكَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَقَوِّنَا عَلَى ذَلِكَ وَيَسِّرْهُ لَنَا، وَأَعِنَّا عَلَيْهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَصُحْبَةُ الظَّالِمِ عَلَى التَّقِيَّةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ النَّهْيِ بِحَالِ الِاضْطِرَارِ. انْتَهَى. وَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الرُّكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الرِّضَا بِمَا عَلَيْهِ الظَّلَمَةُ، أَوْ تَحْسِينُ الطَّرِيقَةِ وَتَزْيِينِهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَمُشَارَكَتِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، فَأَمَّا مُدَاخَلَتُهُمْ لِرَفْعِ ضَرَرٍ وَاجْتِلَابِ مَنْفَعَةٍ عَاجِلَةٍ، فَغَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الرُّكُونِ. قَالَ: وَأَقُولُ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعَاشِ وَالرُّخْصَةِ، وَمُقْتَضَى التَّقْوَى هُوَ الِاجْتِنَابُ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ «1» انْتَهَى. قَوْلُهُ: فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بِسَبَبِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الظَّلَمَةَ أَهْلُ النَّارِ، أَوْ كَالنَّارِ، وَمُصَاحَبَةُ النَّارِ تُوجِبُ لَا مَحَالَةَ مَسَّ النَّارِ، وَجُمْلَةُ: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَمَسَّكُمُ النَّارُ حَالَ عَدَمِ وُجُودِ مَنْ يَنْصُرُكُمْ وَيُنْقِذُكُمْ مِنْهَا ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، إِذْ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يُعَذِّبُكُمْ بِسَبَبِ الرُّكُونِ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ فَلَمْ تَنْتَهُوا عِنَادًا وَتَمَرُّدًا. قَوْلُهُ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الِاسْتِقَامَةَ خَصَّ مِنْ أَنْوَاعِهَا إِقَامَةَ الصَّلَاةِ لِكَوْنِهَا رَأْسَ الْإِيمَانِ، وَانْتِصَابُ: طَرَفَيِ النَّهَارِ، عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْمُرَادُ: صَلَاةُ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، وَهُمَا: الْفَجْرُ وَالْعَصْرُ، وَقِيلَ: الظُّهْرُ مَوْضِعُ الْعَصْرِ، وَقِيلَ: الطَّرَفَانِ الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ، وَقِيلَ: هُمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ. وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُمَا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ الصُّبْحُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّرَفَ الْآخَرَ الْمَغْرِبُ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أَيْ: فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَالزُّلَفُ: الساعات القريبة

_ (1) . الزمر: 36. [.....]

بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَةَ: لِأَنَّهَا مَنْزِلٌ بَعْدَ عَرَفَةَ بِقُرْبِ مَكَّةَ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا: زُلَفاً بِضَمِّ اللَّامِ: جَمْعُ زَلِيفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهُ زُلْفَةً. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِإِسْكَانِ اللَّامِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: زُلْفَى مِثْلَ فُعْلَى. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: زُلَفاً بِفَتْحِ اللَّامِ كَغُرْفَةً وَغُرَفٍ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الزُّلَفُ: السَّاعَاتُ، وَاحِدَتُهَا زُلْفَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: الزُّلْفَةُ أَوَّلُ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَى زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ: صَلَاةُ اللَّيْلِ. إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ أَيْ: إِنَّ الْحَسَنَاتِ عَلَى الْعُمُومِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا بَلْ عِمَادُهَا الصَّلَاةُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ عَلَى الْعُمُومِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّيِّئَاتِ: الصغائر، ومعنى يذهبن السيئات: يكفرونها حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ إِلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ وَمَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: إِلَى الْقُرْآنِ. ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ: أَيْ: مَوْعِظَةً لِلْمُتَّعِظِينَ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَعَدَمِ الطُّغْيَانِ وَالرُّكُونِ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ الصَّبْرُ: عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ دُونَ مَا نُهِيَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي اجْتِنَابِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمَشَقَّةَ فِي اجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَائِنَةٌ، وَعَلَى فَرْضِ كَوْنِهَا دُونَ مَشَقَّةِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ مُطْلَقِ الْمَشَقَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أَيْ: يُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ، وَلَا يُضِيعُ مِنْهَا شَيْئًا، فَلَا يُهْمِلُهُ، وَلَا يَبْخَسُهُ بِنَقْصٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ قَالَ: مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مِنَ الْعَذَابِ. وَأَخْرَجَا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ. قَالَ: مِنَ الرِّزْقِ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْتَقِيمَ عَلَى أَمْرِهِ، وَلَا يَطْغَى فِي نِعْمَتِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سُفْيَانَ فِي الْآيَةِ قَالَ: اسْتَقِمْ عَلَى الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ قَالَ: شَمِّرُوا، شَمِّرُوا، فَمَا رُؤِيَ ضَاحِكًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَنْ تابَ مَعَكَ قَالَ: آمَنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الْعَلَاءِ بن عبد الله ابن بَدْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَطْغَوْا قَالَ: لَمْ يرد أصحاب النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِنَّمَا عَنَى: الَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا تَطْغَوْا يَقُولُ: لَا تَظْلِمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: الطُّغْيَانُ: خِلَافُ أَمْرِهِ، وَارْتِكَابُ مَعْصِيَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قَالَ: يَعْنِي الرُّكُونَ إِلَى الشِّرْكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَلا تَرْكَنُوا قَالَ: لَا تَمِيلُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: وَلا تَرْكَنُوا لَا تُدْهِنُوا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَنْ تُطِيعُوهُمْ أَوْ تَوَدُّوهُمْ أَوْ تَصْطَنِعُوهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ قَالَ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْغَدَاةِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: صَلَاةَ الْعَتَمَةِ. وَأَخْرَجَا عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: هُمَا زُلْفَتَانِ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هُمَا زُلْفَتَا اللَّيْلِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الطَّرَفَيْنِ قَالَ: صَلَاةَ الْفَجْرِ، وصلاتي العشيّ:

[سورة هود (11) : الآيات 116 إلى 123]

يَعْنِي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ، يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ، وَيَقْرَأُ: زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ قَالَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ومحمد ابن نَصْرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ قَالَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنْ رَجَلًا أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ كَأَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ كَفَّارَتِهَا، فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِي هَذِهِ؟ قَالَ: «هِيَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ فِيَّ حَدَّ اللَّهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: أَنَا ذَا، قَالَ: أَتْمَمْتَ الْوُضُوءَ وَصَلَّيْتَ مَعَنَا آنِفًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ خَطِيئَتِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ فَلَا تَعُدْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ حِينَئِذٍ عَلَى رَسُولِهِ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ» . وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ أَيْضًا «إِنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالْعَافِيَةِ وَالْبَلَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: لَمَّا نَزَعَ الَّذِي قَبَّلَ الْمَرْأَةَ تَذَّكَّرَ فَذَلِكَ قوله ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. [سورة هود (11) : الآيات 116 الى 123] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) هَذَا عَوْدٌ إِلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ لِبَيَانِ أَنَّ سَبَبَ حُلُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ بِهِمْ: أَنَّهُ مَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ وَيَأْمُرُ بالرشاد، فقال: فَلَوْلا أَيْ: فَهَلَّا كانَ مِنَ الْقُرُونِ الْكَائِنَةِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ مِنَ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ يَنْهَوْنَ قَوْمَهُمْ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ مِمَّنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ جَوْدَةِ الْعَقْلِ، وَقُوَّةِ الدِّينِ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّوْبِيخِ لِلْكُفَّارِ مَا لَا يَخْفَى، وَالْبَقِيَّةُ فِي الْأَصْلِ

لِمَا يَسْتَبْقِيهِ الرَّجُلُ مِمَّا يُخْرِجُهُ، وَهُوَ لَا يَسْتَبْقِي إِلَّا أَجْوَدَهُ وَأَفْضَلَهُ، فَصَارَ لَفْظُ الْبَقِيَّةِ مَثَلًا فِي الْجَوْدَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي: إِلَّا قَلِيلًا مُنْقَطِعٌ أَيْ: لَكِنْ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ، لِأَنَّ فِي حَرْفِ التَّحْضِيضِ مَعْنَى النَّفْيِ، فكأنه قال: ما كان في القرون أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ، وَمَنْ فِي مِمَّنْ أَنْجَيْنَا، بَيَانِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُنَجَّ إِلَّا النَّاهُونَ قِيلَ: هَؤُلَاءِ الْقَلِيلُ هُمْ قَوْمُ يُونُسَ لقوله فيما مر: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ وَقِيلَ: هُمْ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلُ الْحَقِّ مِنَ الْأُمَمِ عَلَى الْعُمُومِ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ معطوف على مقدّر الْكَلَامُ، تَقْدِيرُهُ: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ نَهَوْا عَنِ الْفَسَادِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا- بِسَبَبِ مُبَاشَرَتِهِمُ الْفَسَادَ وَتَرْكِهِمْ لِلنَّهْيِ عَنْهُ- مَا أُتْرِفُوا فِيهِ. وَالْمُتْرَفُ: الَّذِي أَبْطَرَتْهُ النِّعْمَةُ، يُقَالُ صَبِيٌّ مُتْرَفٌ: مُنَعَّمُ الْبَدَنِ، أَيْ: صَارُوا تَابِعِينَ لِلنِّعَمِ الَّتِي صَارُوا بِهَا مُتْرَفِينَ مِنْ خِصْبِ الْعَيْشِ وَرَفَاهِيَةِ الْحَالِ وَسِعَةِ الرِّزْقِ، وَآثَرُوا ذَلِكَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَعْمَالِ الْآخِرَةِ وَاسْتَغْرَقُوا أَعْمَارَهُمْ فِي الشَّهَوَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا تَارِكُو النَّهْيِ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ خُرُوجَ مُبَاشِرِي الْفَسَادِ عَنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَهُمْ أَشَدُّ ظُلْمًا مِمَّنْ لَمْ يُبَاشِرْ، وَكَانَ ذَنْبُهُ تَرْكَ النَّهْيِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَمَعْنَاهُ: أُتْبِعُوا جَزَاءَ مَا أُتْرِفُوا فِيهِ، وَجُمْلَةُ: وَكانُوا مُجْرِمِينَ مُتَضَمِّنَةٌ لِبَيَانِ سَبَبِ إِهْلَاكِهِمْ، وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى أُتْرِفُوا، أَيْ: وَكَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُتْبِعُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ مُجْرِمِينَ، وَالْإِجْرَامُ: الْأَثَامُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ أهل إجرام بسبب اتباعهم الشهوات بِهَا عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي يَحِقُّ الِاشْتِغَالُ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَكانُوا مُجْرِمِينَ مَعْطُوفَةً عَلَى وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيِ: اتَّبَعُوا شَهَوَاتِهِمْ وَكَانُوا بِذَلِكَ الِاتِّبَاعِ مُجْرِمِينَ وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ أَيْ: مَا صَحَّ وَلَا اسْتَقَامَ أَنْ يُهْلِكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْقُرَى بِظُلْمٍ يَتَلَبَّسُونَ بِهِ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَالْحَالُ أَنَّ أَهْلَهَا مُصْلِحُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي تَعَاطِي الْحُقُوقِ لَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ شَيْئًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ بِمُجَرَّدِ الشِّرْكِ وَحْدَهُ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِنَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَبَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَأَهْلَكَ قَوْمَ لُوطٍ بِسَبَبِ ارْتِكَابِهِمْ لِلْفَاحِشَةِ الشَّنْعَاءِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: بِظُلْمٍ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَ الْقُرَى ظَالِمًا لَهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُصْلِحِينَ غَيْرَ مُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ تَنْزِيهَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ صُدُورِ ذَلِكَ مِنْهُ بِلَا سَبَبٍ يُوجِبُهُ عَلَى تَصْوِيرِ ذَلِكَ بِصُورَةِ مَا يَسْتَحِيلُ مِنْهُ، وَإِلَّا فَكَلُّ أَفْعَالِهِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ لَا ظُلْمَ فِيهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ أَحَدًا وَهُوَ يَظْلِمُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى نِهَايَةِ الصَّلَاحِ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي مُلْكِهِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً «1» وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ لِيُهْلِكَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَهُمْ مُصْلِحُونَ: أَيْ مُخْلِصُونَ فِي الْإِيمَانِ، فَالظُّلْمُ الْمَعَاصِي عَلَى هَذَا. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ: أَهْلَ دِينٍ وَاحِدٍ، إِمَّا أَهْلَ ضَلَالَةٍ، أَوْ أَهْلَ هُدًى وَقِيلَ مَعْنَاهُ: جَعَلَهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْحَقِّ غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ فِيهِ، أَوْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ دُونَ سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا قَالَ وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ فِي ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى، أَوْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقِّ أَوْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: مُخْتَلِفِينَ فِي الرِّزْقِ: فَهَذَا غَنِيٌّ، وَهَذَا فَقِيرٌ.

_ (1) . يونس: 44.

إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا، أَوْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقِّ أَوْ دِينِ الْإِسْلَامِ، بِهِدَايَتِهِ إِلَى الصَّوَابِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ اللَّهِ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا حَقَّ غَيْرُهُ، أَوْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بِالْقَنَاعَةِ. وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ: لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، بِالْمُجْتَمِعَةِ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَاضِحًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى تَكَلُّفٍ وَلِذلِكَ أَيْ: لِمَا ذُكِرَ مِنَ الاختلاف خَلَقَهُمْ أو لرحمته خَلَقَهُمْ، وَصَحَّ تَذْكِيرُ الْإِشَارَةِ إِلَى الرَّحْمَةِ لِكَوْنِ تَأْنِيثِهَا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، وَالضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى النَّاسِ، أَوْ إِلَى: مَنْ فِي: مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَجْمُوعِ الِاخْتِلَافِ وَالرَّحْمَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْإِشَارَةِ بِهَا إِلَى شَيْئَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «1» وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا «2» فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا «3» . قَوْلُهُ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ مَعْنَى تَمَّتْ ثَبَتَتْ كَمَا قَدَّرَهُ فِي أَزَلِهِ، وَإِذَا تَمَّتِ امْتَنَعَتْ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ وَقِيلَ الْكَلِمَةُ: هِيَ قَوْلُهُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أَيْ: مِمَّنْ يَسْتَحِقُّهَا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَالتَّنْوِينُ فِي وَكُلًّا للتعويض عن المضاف إليه، وهو منصوب بنقص. وَالْمَعْنَى: وَكُلُّ نَبَأٍ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ نَقُصُّ عَلَيْكَ: أَيْ نُخْبِرُكَ بِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ كُلًّا حَالٌ مُقَدَّمَةٌ كَقَوْلِكَ: كُلًّا ضَرَبْتُ الْقَوْمَ، وَالْأَنْبَاءُ: الْأَخْبَارُ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أَيْ: مَا نَجْعَلُ بِهِ فُؤَادَكَ مُثَبَّتًا بِزِيَادَةِ يَقِينِهِ بِمَا قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ وَوُفُورِ طُمَأْنِينَتِهِ، لِأَنَّ تَكَاثُرَ الْأَدِلَّةِ أَثْبَتُ لِلْقَلْبِ وَأَرْسَخُ فِي النَّفْسِ وَأَقْوَى لِلْعِلْمِ، وَجُمْلَةُ مَا نُثَبِّتُ بَدَلٌ من أنباء الرسل، وهو بيان لكلا، ويجوز أن يكون ما نُثَبِّتُ مفعولا لنقصّ، وَيَكُونَ كُلًّا مَفْعُولًا مُطْلَقًا، وَالتَّقْدِيرُ: كُلُّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِ الِاقْتِصَاصِ نَقُصُّ عَلَيْكَ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ أَيْ: جَاءَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ فِي هَذِهِ الْأَنْبَاءِ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِحَّةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَمَوْعِظَةٌ يَتَّعِظُ بِهَا الْوَاقِفُ عَلَيْهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَذِكْرى يَتَذَكَّرُ بِهَا مَنْ تَفَكَّرَ فِيهَا مِنْهُمْ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِكَوْنِهِمُ الْمُتَأَهِّلِينَ لِلِاتِّعَاظِ وَالتَّذَكُّرِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا الْحَقُّ، وَهُوَ النُّبُوَّةُ وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ تَخْصِيصُ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَجِيءِ الْحَقِّ فِيهَا مَعَ كَوْنِهِ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّورِ لِقَصْدِ بَيَانِ اشْتِمَالِهَا عَلَى ذَلِكَ، لَا بَيَانِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَذَا الْحَقِّ وَلَا يَتَّعِظُونَ وَلَا يَتَذَكَّرُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ عَلَى تَمَكُّنِكُمْ وَحَالِكُمْ وَجِهَتِكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ إِنَّا عامِلُونَ عَلَى مَكَانَتِنَا وَحَالِنَا وَجِهَتِنَا مِنَ الْإِيمَانِ بِالْحَقِّ وَالِاتِّعَاظِ وَالتَّذَكُّرِ، وَفِي هَذَا تَشْدِيدٌ لِلْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ مَا لَا يَخْفَى. وَالْمَعْنَى: انْتَظِرُوا عَاقِبَةَ أَمْرِنَا فَإِنَّا مُنْتَظِرُونَ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ وَمَا يَحُلُّ بِكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ عِلْمُ جَمِيعِ مَا هُوَ غَائِبٌ عَنِ الْعِبَادِ فِيهِمَا وَخَصَّ الْغَيْبَ مِنْ كَوْنِهِ يَعْلَمُ بِمَا هُوَ مَشْهُودٌ، كَمَا يَعْلَمُ بِمَا هُوَ مَغِيبٌ، لِكَوْنِهِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ غَيْبَ السموات وَالْأَرْضِ: نُزُولُ الْعَذَابِ مِنَ السَّمَاءِ، وَطُلُوعُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَضَافَ الْغَيْبَ إِلَى الْمَفْعُولِ تَوَسُّعًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفَصٌ يُرْجَعُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ كَافِيكَ كُلَّ ما تكره، ومعطيك كل ما تحبّ،

_ (1) . البقرة: 68. (2) . الإسراء: 110. (3) . يونس: 58.

وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَى كَوْنِ مَرْجِعِ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بَلْ عَالَمٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَمُجَازٍ عَلَيْهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًا فَشَرٌّ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالشَّامِ وَحَفْصٌ تَعْمَلُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مالك في قوله فَلَوْ قَالَ: فَهَلَّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أولو بَقِيَّةٍ وَأَحْلَامٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ يَسْتَقِلُّهُمْ اللَّهُ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ قَالَ: فِي مُلْكِهِمْ وَتَجَبُّرِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُتْرِفُوا فِيهِ أُبْطِرُوا فِيهِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وابن مردويه والديلمي عن جرير قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَهْلُهَا يُنْصِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْخَرَائِطِيُّ فِي مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ مَوْقُوفًا عَلَى جَرِيرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً قَالَ: أَهْلَ دِينٍ وَاحِدٍ، أَهْلَ ضَلَالَةٍ، أَوْ أَهْلَ هُدًى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ قَالَ: أَهْلُ الْحَقِّ وَأَهْلُ الْبَاطِلِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ قَالَ: أَهْلَ الْحَقِّ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قَالَ: لِلرَّحْمَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ قَالَ: إِلَّا أَهْلَ رَحْمَتِهِ فإنهم لا يختلفون. وأخرج ابن أبي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فِي الْأَهْوَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ أَيِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ وَالْحَنِيفِيَّةُ، وَهُمُ الَّذِينَ رَحِمَ رَبُّكَ الْحَنِيفِيَّةُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: النَّاسُ مُخْتَلِفُونَ عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، فَمَنْ رَحِمَ رَبُّكَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قَالَ: لِلِاخْتِلَافِ. وَأَخْرُجُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ قَالَ: أَهْلُ الْبَاطِلِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ قَالَ: أَهْلَ الْحَقِّ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قَالَ: لِلرَّحْمَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَا عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فِي الرِّزْقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ قَالَ: خَلَقَهُمْ فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا يُرْحَمُ فَلَا يَخْتَلِفُ، وَفَرِيقًا لَا يُرْحَمُ يَخْتَلِفُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. وأخرج جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ لِتَعْلَمَ يَا مُحَمَّدُ مَا لَقِيَتِ الرُّسُلُ قَبْلَكَ مِنْ أممهم. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ قَالَ: فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ

عَنْ قَتَادَةَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أَيْ: مَنَازِلِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جريج وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ قَالَ: يَقُولُ انْتَظِرُوا مَوَاعِيدَ الشَّيْطَانِ إِيَّاكُمْ عَلَى مَا يُزَيِّنُ لَكُمْ، وَفِي قَوْلِهِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ قَالَ: فَيَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْعَدْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَابْنُ الضُّرَيْسِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: فَاتِحَةُ التَّوْرَاةِ فَاتِحَةُ الْأَنْعَامِ، وَخَاتِمَةُ التَّوْرَاةِ خَاتِمَةُ هُودٍ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. بحمد الله تعالى تمّ طبع الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث وأوّله: تفسير سورة يوسف عليه السلام

الجزء الثالث (بسم الله الرّحمن الرّحيم) تنبيه: جرى المفسّر- رحمه الله- في ضبط ألفاظ القرآن الكريم في تفسيره هذا على رواية نافع مع تعرّضه للقراءات السّبع، وأثبتنا القرآن الكريم طبق رسم المصحف العثماني.

الجزء الثالث

(بسم الله الرحمن الرحيم) سورة يوسف وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا، وَقِيلَ: نَزَلَتْ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَقْتَ الْهِجْرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَقَتَادَةُ: إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ يُوسُفَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ: أَنَّهُ خَرَجَ هُوَ وَابْنُ خَالَتِهِ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ حَتَّى قَدِمَا مَكَّةَ، وَذَكَرَ قِصَّةً، وَفِي آخِرِهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علّمهما سورة يوسف، واقرأ باسم ربك، ثم رجعا. وأخرج البيهقي في الدلائل عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ حَبْرًا مِنَ الْيَهُودِ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَوَافَقَهُ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ عَلَّمَكَهَا؟ قَالَ: اللَّهُ عَلَّمَنِيهَا، فَعَجِبَ الْحَبْرُ لِمَا سَمِعَ مِنْهُ، فَرَجَعَ إِلَى الْيَهُودِ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ، فَانْطَلَقَ بِنَفَرٍ مِنْهُمْ حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ، وَنَظَرُوا إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَجَعَلُوا سَمْعَهُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِ لِسُورَةِ يُوسُفَ فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ، وَأَسْلَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ» . وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «وعلّموا أَقَارِبَكُمْ سُورَةَ يُوسُفَ، فَإِنَّهُ أَيُّمَا مُسْلِمٌ تَلَاهَا، أَوْ عَلَّمَهَا أَهْلَهُ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَكَرَاتَ الْمَوْتِ، وَأَعْطَاهُ الْقُوَّةَ أَنْ لَا يَحْسُدَ مُسْلِمًا» . وَفِي إِسْنَادِهِ سَلَامُ بْنُ سَالِمٍ، وَيُقَالُ ابْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَائِنِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ كَثِيرٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَجْهُولٌ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مُتَابِعًا مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ كَثِيرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ شَبَابَةَ عَنْ مجلز ابن عبد الواحد، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَهُوَ مُنْكَرٌ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ زَمَانًا، فَقَالُوا: لَوْ حَدَّثْتَنَا، فَنَزَلَ قوله تعالى- اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ «1» «2» - قَالَ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَذَكَرَ اللَّهُ أَقَاصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَرَّرَهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَبَايِنَةٍ عَلَى دَرَجَاتِ الْبَلَاغَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّةَ يُوسُفَ وَلَمْ يُكَرِّرْهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ مُخَالِفٌ عَلَى مُعَارَضَةِ مَا تَكَرَّرَ، وَلَا عَلَى معارضة غير المتكرّر.

_ (1) . تنبيه: جرى المفسر رحمه الله في ضبط ألفاظ القرآن على رواية نافع، مع تعرّضه للقراءات السبع، وأثبتنا القرآن طبق رسم المصحف العثماني. (2) . الزمر: 23.

[سورة يوسف (12) : الآيات 1 إلى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) قَوْلُهُ: الر قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ يُونُسَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إِلَى آيَاتِ السُّورَةِ، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، السُّورَةُ، أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، آيَاتُ السُّورَةِ الظَّاهِرِ أَمْرُهَا فِي إِعْجَازِ الْعَرَبِ وَتَبْكِيتِهِمْ، وَالْمُبِينِ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ أَيِ الظَّاهِرِ أَمْرُهُ فِي كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَفِي إِعْجَازِهِ، أَوِ الْمُبِينِ بِمَعْنَى الْوَاضِحِ الْمَعْنَى بِحَيْثُ لَا يَلْتَبِسُ عَلَى قَارِئِهِ وَسَامِعِهِ، أَوِ الْمُبَيِّنِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ أَيِ الْكِتَابَ الْمُبِينَ حَالَ كَوْنِهِ قُرْآناً عَرَبِيًّا، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْكِتَابَ السُّورَةُ تَكُونُ تَسْمِيَتُهَا قُرْآنًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقُرْآنَ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الْكُلِّ وَعَلَى الْبَعْضِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ كُلُّ الْقُرْآنِ، فَتَكُونُ تَسْمِيَتُهُ قُرْآنًا وَاضِحَةً وَعَرَبِيًا صِفَةٌ لَقُرْآنًا أَيْ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ: لِكَيْ تَعْلَمُوا مَعَانِيَهُ وَتَفْهَمُوا مَا فِيهِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ الْقَصَصُ: تَتَبُّعُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ «1» أَيْ تَتَبَّعِي أَثَرَهُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ قَصَصًا أَحْسَنَ الْقَصَصِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الاقصاص، أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيِ الْمَقْصُوصِ: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَيْ بِإِيحَائِنَا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَانْتِصَابُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَأَجَازَ الزجّاج الرفع على تقدير المبتدأ، وأجار الْفَرَّاءُ الْجَرَّ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنْ يُقَدَّرَ حَرْفُ الْجَرِّ فِي بِما أَوْحَيْنا دَاخِلًا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ بِدَلِيلِ اللَّامِ الْفَارِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ قَبِلَهِ عَائِدٌ عَلَى الْإِيحَاءِ الْمَفْهُومِ مَنْ أَوْحَيْنَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ قَبْلَ إِيحَائِنَا إِلَيْكَ مِنَ الْغَافِلِينَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ كَوْنِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْقَصَصِ يَتَضَمَّنُ مِنَ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِهَا وَقِيلَ: لِمَا فِيهَا مِنْ حُسْنِ الْمُحَاوَرَةِ، وَمَا كَانَ من يوسف من الصبر على أذى إخوته وَعَفْوِهِ عَنْهُمْ وَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ وسير الملوك والمماليك والتجّار والعلماء والجهّال والرجال والنّساء وحيلهنّ ومكرهنّ

_ (1) . القصص: 11.

وَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرُ الْحَبِيبِ وَالْمَحْبُوبِ وَمَا دَارَ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ: إِنَّ أَحْسَنَ هُنَا بِمَعْنَى أَعْجَبَ وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ مَنْ ذُكِرَ فِيهَا كَانَ مَآلُهُ السَّعَادَةَ. قَوْلُهُ: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ إِذْ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيِ اذْكُرْ وَقْتَ قَالَ يُوسُفُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُوسُفُ» بِضَمِّ السِّينِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِكَسْرِهَا مَعَ الْهَمْزِ مَكَانَ الْوَاوِ، وَحَكَى ابْنُ زَيْدٍ الْهَمْزَ وَفَتْحَ السِّينِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ وَقِيلَ: هُوَ عَرَبِيٌّ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِدَلِيلِ عَدَمِ صَرْفِهِ. لِأَبِيهِ أَيْ يَعْقُوبَ بْنِ إسحاق بن إبراهيم يا أَبَتِ بِكَسْرِ التَّاءِ فِي قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَهِيَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ، وَلَحِقَتْ فِي لَفْظِ أَبٍ فِي النِّدَاءِ خَاصَّةً بَدَلًا مِنَ الْيَاءِ، وَأَصْلُهُ يَا أَبِي، وَكَسْرُهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ حَرْفٍ يُنَاسِبُ الْكَسْرَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ يَا أَبَتَا، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، فَيُقَالُ يَا أَبَتِي، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ يَا أَبَتُ بِضَمِّ التَّاءِ إِنِّي رَأَيْتُ مِنَ الرُّؤْيَا النَّوْمِيَّةِ لَا مِنَ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ. قَوْلُهُ: أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً قُرِئَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ تَخْفِيفًا لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا عَلَى الْأَصْلِ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ إِنَّمَا أَخَّرَهُمَا عَنِ الْكَوَاكِبِ لِإِظْهَارِ مَزِيَّتِهِمَا وَشَرَفِهِمَا كَمَا فِي عَطْفِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى مَعَ، وَجُمْلَةُ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ الْحَالَةِ الَّتِي رَآهُمْ عَلَيْهَا، وَأُجْرَيَتْ مُجْرَى الْعُقَلَاءِ فِي الضَّمِيرِ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ لِوَصْفِهَا بِوَصْفِ الْعُقَلَاءِ، وَهُوَ كَوْنُهَا سَاجِدَةً، كَذَا قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ، وَالْعَرَبُ تَجْمَعُ مَا لَا يَعْقِلُ جَمْعَ من يعقل إذا أنزلوه منزلته قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ الرُّؤْيَا مَصْدَرُ رَأَى فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا عَلَى وَزْنِ فُعْلَى كَالسُّقْيَا وَالْبُشْرَى، وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُصْرَفْ، نَهَى يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنَهُ يُوسُفَ عَنْ أَنْ يَقُصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى إِخْوَتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ تَأْوِيلَهَا، وَخَافَ أَنْ يَقُصَّهَا عَلَى إِخْوَتِهِ فَيَفْهَمُونَ تَأْوِيلَهَا وَيَحْصُلُ مِنْهُمُ الْحَسَدُ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً وَهَذَا جَوَابُ النَّهْيِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنَّ أَيْ: فَيَفْعَلُوا لَكَ أَيْ لِأَجْلِكَ كَيْدًا مُثْبَتًا رَاسِخًا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْخُلُوصِ مِنْهُ، أَوْ كَيْدًا خَفِيًا عَنْ فَهْمِكَ وَهَذَا الْمَعْنَى الْحَاصِلُ بِزِيَادَةِ اللَّامِ آكَدُ مِنْ أَنْ يُقَالَ فَيَكِيدُوا كَيْدًا وَقِيلَ: إِنَّمَا جِيءَ بِاللَّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الِاحْتِيَالِ الْمُتَعَدِّي بِاللَّامِ، فَيُفِيدُ هَذَا التَّضْمِينُ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا الْكَيْدَ وَالِاحْتِيَالَ، كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ فِي التَّضْمِينِ أَنْ يُقَدَّرَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا وَالْآخَرُ حَالًا، وَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، كَأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: كَيْفَ يَقَعُ مِنْهُمْ، فَنَبَّهَهُ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلْإِنْسَانِ مُظْهِرٌ لِلْعَدَاوَةِ مُجَاهِرٌ بِهَا. قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الِاجْتِبَاءِ الْبَدِيعِ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّوْمِ مِنْ سُجُودِ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ، وَيُحَقِّقُ فِيكَ تَأْوِيلَ تِلْكَ الرُّؤْيَا، فَيَجْعَلُكَ نَبِيًّا، وَيَصْطَفِيكَ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادِ، وَيُسَخِّرُهُمْ لَكَ كَمَا تَسَخَّرَتْ لَكَ تِلْكَ الْأَجْرَامُ الَّتِي رَأَيْتَهَا فِي مَنَامِكَ فَصَارَتْ سَاجِدَةً لَكَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالِاجْتِبَاءُ أَصْلُهُ مَنْ جَبَيْتُ الشَّيْءَ حَصَّلْتُهُ، وَمِنْهُ جَبَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ: جَمَعْتُهُ، وَمَعْنَى الِاجْتِبَاءِ: الِاصْطِفَاءُ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الثَّنَاءَ عَلَى يُوسُفَ وَتَعْدِيدَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أَيْ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعُوا أَنَّ ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِتَأْوِيلِهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ: ويعلّمك من

تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الْأُمَمِ وَالْكُتُبِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ إِحْوَاجُ إِخْوَتِهِ إِلَيْهِ وَقِيلَ: إِنْجَاؤُهُ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَقِيلَ: إِنْجَاؤُهُ مِنَ الْقَتْلِ خَاصَّةً وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ فَيَجْمَعُ لَكَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَاكَ اللَّهُ، أَوْ يَجْمَعُ لَكَ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ وَهُمْ قَرَابَتُهُ مِنْ إِخْوَتِهِ وَأَوْلَادِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُمُ النُّبُوَّةَ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مَا حَصَلَ لَهُمْ بَعْدَ دُخُولِهِمْ مِصْرَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا كَوْنُ الْمُلْكِ فِيهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ أَنْبِيَاءَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ أَيْ إِتْمَامًا مِثْلَ إِتْمَامِهَا عَلَى أَبَوَيْكَ وَهِيَ نِعْمَةُ النُّبُوَّةِ عَلَيْهِمَا، مَعَ كَوْنِ إِبْرَاهِيمَ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا، وَمَعَ كَوْنِ إِسْحَاقَ نَجَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الذَّبْحِ وَصَارَ لَهُمَا الذُّرِّيَّةُ الطَّيِّبَةُ وَهُمْ يَعْقُوبُ، وَيُوسُفُ، وَسَائِرُ الْأَسْبَاطِ. وَمَعْنَى مِنْ قَبْلُ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ، أَوْ مِنْ قَبْلِكَ، وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ عَطْفُ بَيَانٍ لِأَبَوَيْكَ، وَعَبَّرَ عَنْهُمَا بِالْأَبَوَيْنِ مَعَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا جَدًّا وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ لِأَنَّ الْجَدَّ أَبٌ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ حَكِيمٌ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا تَعْلِيلًا لَهُ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَكَانَ هَذَا كَلَامٌ مِنْ يَعْقُوبَ مَعَ وَلَدِهِ يُوسُفَ تَعْبِيرًا لِرُؤْيَاهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ، أَوْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، أَوْ عَرَفَهُ بِطَرِيقِ الْفِرَاسَةِ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْمَخَايِلُ الْيُوسُفِيَّةُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ قَالَ: بَيَّنَ اللَّهُ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: بَيَّنَ اللَّهُ الْحُرُوفَ الَّتِي سَقَطَتْ عَنْ أَلْسُنِ الْأَعَاجِمِ، وَهِيَ سِتَّةُ أَحْرُفٍ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قُرْآنًا عَرَبِيًّا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُلْهِمَ إِسْمَاعِيلُ هَذَا اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ إِلْهَامًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ كَلَامُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا، فَنَزَلَتْ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ قَالَ: مِنَ الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ وَأُمُورِ اللَّهِ السَّالِفَةِ فِي الْأُمَمِ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَمِنَ الْغافِلِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ قال: الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً قَالَ: رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْعُقَيْلِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَاءَ بُسْتَانِيٌّ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبَرَنِي عَنِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ سَاجِدَةً لَهُ، مَا أَسْمَاؤُهَا؟ فسكت النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ بِأَسْمَائِهَا، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْبُسْتَانِيِّ الْيَهُودِيِّ فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ إِنْ أَخْبَرْتُكَ بِأَسْمَائِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: جريان، والطارق، والذيال، وذو الكتفين، وَقَابِسُ، وَوَثَّابُ، وَعَمُودَانُ، وَالْفَيْلَقُ، وَالْمُصْبِحُ، وَالضَّرُوحُ، وَذُو القرع، وَالضِّيَاءُ، وَالنُّورُ، رَآهَا فِي أُفُقِ السَّمَاءِ سَاجِدَةً لَهُ، فَلَمَّا قَصَّ يُوسُفُ

[سورة يوسف (12) : الآيات 7 إلى 10]

عَلَى يَعْقُوبَ قَالَ: هَذَا أَمْرٌ مُشَتَّتٌ يَجْمَعُهُ اللَّهُ مِنْ بَعْدُ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِي وَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَسْمَاؤُهَا» هَكَذَا سَاقَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الدَّرِّ الْمَنْثُورِ، وَأَمَّا ابْنُ كَثِيرٍ فَجَعَلَ قَوْلَهُ: «فَلَمَّا قَصَّ إِلَخْ» رِوَايَةً مُنْفَرِدَةً وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهَا الحكم ابن ظهير الْفَزَارِيُّ، وَقَدْ ضَعَّفُوهُ وَتَرَكَهُ الْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ الْجَوْزَجَانِيُّ: سَاقِطٌ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هُوَ مَوْضُوعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً قَالَ: إِخْوَتُهُ، وَالشَّمْسُ قَالَ: أُمُّهُ، وَالْقَمَرُ قَالَ: أَبَوْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السدّي نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ قَالَ: يَصْطَفِيكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ قَالَ: عِبَارَةُ الرُّؤْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ قَالَ: تَأْوِيلُ الْعِلْمِ وَالْحُلْمِ، وَكَانَ يُوسُفُ مِنْ أَعْبَرِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ قَالَ: فَنِعْمَتُهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: أَنْ نَجَّاهُ مِنَ النَّارِ، وَعَلَى إِسْحَاقَ: أَنْ نَجَّاهُ من الذّبح. [سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 10] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) أَيْ لَقَدْ كانَ فِي قِصَّتِهِمْ عَلَامَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ لِلسَّائِلِينَ مِنَ النَّاسِ عَنْهَا. وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ «آيَةٌ» عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَلَى الْجَمْعِ، وَاخْتَارَ قِرَاءَةَ الْجَمْعِ أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَآيَةٌ هاهنا قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّائِلِينَ لَهُ مِنَ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: أَخْبِرْنَا عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ بِالشَّامِ أَخْرَجَ ابْنَهُ إِلَى مِصْرَ فَبَكَى عَلَيْهِ حَتَّى عَمِيَ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا مَنْ يَعْرِفُ خَبَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا وَجَّهُوا إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ يُوسُفَ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا فِي التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى آياتٌ لِلسَّائِلِينَ عَجَبٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: بَصِيرَةٌ، وَقِيلَ: عِبْرَةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَسْمَاؤُهُمْ يَعْنِي إِخْوَةَ يُوسُفَ: روبيل، وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وزيالون، وَيَشْجُرُ، وَأُمُّهُمْ لِيَا بِنْتُ لِيَانَ، وَهِيَ بِنْتُ خَالِ يَعْقُوبَ، وَوُلِدَ لَهُ مِنْ سَرِيَّتَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَهُمْ: دَانُ، وَنِفْتَالِي، وَجَادُ، وَآشِرُ، ثُمَّ مَاتَتْ لِيَا فَتَزَوَّجَ يَعْقُوبُ أُخْتَهَا رَاحِيلَ، فَوَلَدَتْ لَهُ يُوسُفَ، وَبِنْيَامِينَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: إِنَّ أُمَّ يُوسُفَ اسمها رفقا، وراحيل ماتت في نِفَاسِ بِنْيَامِينَ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ يُوسُفَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَيْ وَقْتَ قَالُوا، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بَكَانَ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا. وَالْمُرَادُ بَقَوْلِهِ: وَأَخُوهُ هُوَ بِنْيَامِينُ، وَخَصُّوهُ بِكَوْنِهِ أَخَاهُ مَعَ أَنَّهُمْ جَمِيعًا إِخْوَتُهُ لِأَنَّهُ أَخُوهُ لِأَبَوَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَحَّدَ الْخَبَرَ فَقَالَ: أَحَبُّ مَعَ تعدّد المبتدأ

لِأَنَّ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَمَا فَوْقَهُ إِذَا لَمْ يُعَرَّفْ، وَاللَّامُ فِي لَيُوسُفُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذِهِ لِأَنَّهُ بَلَغَهُمْ خَبَرُ الرُّؤْيَا فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى كَيْدِهِ، وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ فِي مَحَلِّ نَصَبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْعُصْبَةُ: الْجَمَاعَةُ، قِيلَ: وَهِيَ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ: إِلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَلَا وَاحِدَ لَهَا مَنْ لَفْظِهَا بَلْ هِيَ كَالنَّفَرِ وَالرَّهْطِ، وَقَدْ كَانُوا عَشَرَةً إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: لَفِي ذَهَابٍ عَنْ وَجْهِ التَّدْبِيرِ وبالترجيح لَهُمَا عَلَيْنَا وَإِيثَارِهِمَا دُونَنَا مَعَ اسْتِوَائِنَا فِي الِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ فِي دِينِهِ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً أَيْ: قَالُوا: افْعَلُوا بِهِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا الْقَتْلَ، أَوِ الطَّرْحَ في أرض، أو المشير بالقتل بعضهم وَالْمُشِيرُ بِالطَّرْحِ الْبَعْضُ الْآخَرُ أَوْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَوَافَقَهُ الْبَاقُونَ، فَكَانُوا كَالْقَائِلِ فِي نِسْبَةِ هَذَا الْمَقُولِ إِلَيْهِمْ، وَانْتِصَابُ أَرْضًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالتَّنْكِيرُ لِلْإِبْهَامِ أَيْ أَرْضًا مَجْهُولَةً، وَجَوَابُ الْأَمْرِ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أَيْ يَصْفُ وَيَخْلُصُ فَيُقْبِلُ عَلَيْكُمْ وَيُحِبُّكُمْ حُبًّا كَامِلًا. وَتَكُونُوا مَعْطُوفٌ عَلَى يَخْلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ. مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ يُوسُفَ، وَالْمُرَادُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قَتْلِهِ أَوْ طَرْحِهِ وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ الذَّنْبِ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ فِي يُوسُفَ قَوْماً صالِحِينَ فِي أُمُورِ دِينِكُمْ وَطَاعَةِ أَبِيكُمْ، أَوْ صَالِحِينَ فِي أُمُورِ دُنْيَاكُمْ لِذَهَابِ مَا كَانَ يَشْغَلُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَسَدُ لِيُوسُفَ وَتَكَدُّرُ خَوَاطِرِكُمْ بِتَأْثِيرِهِ عَلَيْكُمْ هُوَ وَأَخُوهُ أَوِ الْمُرَادُ بِالصَّالِحِينَ: التَّائِبُونَ مِنَ الذَّنْبِ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أَيْ مِنَ الْإِخْوَةِ، قِيلَ: هُوَ يَهُوذَا، وَقِيلَ: رُوبِيلُ، وَقِيلَ: شَمْعُونُ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ قِيلَ: وَوَجْهُ الْإِظْهَارِ فِي لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ اسْتِجْلَابُ شَفَقَتِهِمْ عَلَيْهِ، قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الشَّامِ «فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ» بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ «فِي غَيَابَاتِ» بِالْجَمْعِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْإِفْرَادَ وَأَنْكَرَ الْجَمْعَ، لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَلْقُوهُ فِيهِ وَاحِدٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا تَضْيِيقٌ فِي اللُّغَةِ، وَغَيَابَاتٌ عَلَى الْجَمْعِ تَجُوزُ، وَالْغَيَابَةُ: كُلُّ شَيْءٍ غَيَّبَ عَنْكَ شَيْئًا وَقِيلَ لِلْقَبْرِ غَيَابَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا غَوْرُ الْبِئْرِ الَّذِي لَا يَقَعُ الْبَصَرُ عَلَيْهِ، أَوْ طَاقَةٌ فِيهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا فالبثا شهرين أو نصف ثالث ... أنا ذاكما كما قَدْ غَيَّبَتْنِي غِيَابِيَا وَالْجُبُّ: الْبِئْرُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ، وَيُقَالُ لَهَا قَبْلَ الطَّيِّ: رَكِيَّةٌ، فَإِذَا طُوِيَتْ قِيلَ لَهَا بِئْرٌ، سُمِّيَتْ جُبًّا لِأَنَّهَا قطعت في الأرض قطعا، وجمع الجبّ جببة وَجِبَابٌ وَأَجْبَابٌ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْغَيَابَةِ وَالْجُبِّ مُبَالَغَةً فِي أَنْ يُلْقُوهُ فِي مَكَانٍ مِنَ الْجُبِّ شَدِيدِ الظُّلْمَةِ حَتَّى لَا يُدْرِكَهُ نَظَرُ النَّاظِرِينَ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْبِئْرُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ: بِالْأُرْدُنِّ، وَجَوَابُ الْأَمْرِ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ قَرَأَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ «تَلْتَقِطْهُ» بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ بَعْضَ السَّيَّارَةِ سَيَّارَةٌ. وَحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: سَقَطَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ «1» مِنَ الْهِلَالِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «يَلْتَقِطْهُ» بِالتَّحْتِيَّةِ، والسيارة: الجمع الذين يَسِيرُونَ فِي الطَّرِيقِ، وَالِالْتِقَاطُ: هُوَ أَخْذُ شَيْءٍ

_ (1) . السرار: سرار الشهر: آخر ليلة منه.

[سورة يوسف (12) : الآيات 11 إلى 18]

مُشْرِفٍ عَلَى الضَّيَاعِ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ بَعْضَ السَّيَّارَةِ إِذَا الْتَقَطَهُ حَمَلَهُ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ بِحَيْثُ يَخْفَى عَنْ أَبِيهِ وَمَنْ يَعْرِفْهُ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْحَرَكَةِ بِأَنْفُسِهِمْ إِلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، فَرُبَّمَا أَنَّ وَالِدَهُمْ لَا يَأْذَنُ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ إِنْ كُنْتُمْ عَامِلِينَ بِمَا أَشَرْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ فِي أَمْرِهِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالْأَمْرِ، بَلْ وَكَلَهُ إِلَى مَا يُجْمِعُونَ عَلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُشِيرُ مَعَ مَنِ اسْتَشَارَهُ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ مَا كَانُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْقَتْلِ لِمُسْلِمٍ ظُلْمًا وَبَغْيًا وَقِيلَ: كَانُوا أَنْبِيَاءَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ زَلَّةُ قَدَمٍ، وَأَوْقَعَهُمْ فِيهَا الْتِهَابُ نَارِ الْحَسَدِ فِي صُدُورِهِمْ وَاضْطِرَامُ جَمَرَاتِ الْغَيْظِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ المعصية الكبيرة الْمُتَبَالِغَةِ فِي الْكِبَرِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ قَطْعِ الرَّحِمِ وَعُقُوقِ الْوَالِدِ وَافْتِرَاءِ الْكَذِبِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْبِيَاءَ، بَلْ صَارُوا أَنْبِيَاءَ مِنْ بَعْدُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: آياتٌ لِلسَّائِلِينَ قَالَ: عِبْرَةٌ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ يَقُولُ: مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ هَكَذَا مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَأَنْبَأَكُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: إِنَّمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَبَرَ يُوسُفَ وَبَغْيَ إِخْوَتِهِ عَلَيْهِ وَحَسَدِهِمْ إِيَّاهُ حِينَ ذَكَرَ رُؤْيَاهُ، لِمَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَغْيِ قَوْمِهِ عَلَيْهِ وَحَسَدِهِمْ إِيَّاهُ حين أكرمه الله بنبوّته ليأتسي بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ يَعْنِي بِنْيَامِينَ هُوَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ قَالَ: الْعُصْبَةُ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: الْعُصْبَةُ: الْجَمَاعَةُ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالَ: لَفِي خَطَأٍ مِنْ رَأْيِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي قَوْلِهِ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ قَالَ: قَالَهُ كَبِيرُهُمُ الَّذِي تَخَلَّفَ، قَالَ: وَالْجُبُّ بِئْرٌ بِالشَّامِ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ قَالَ: الْتَقَطَهُ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَعْنِي الرَّكِيَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْجُبُّ الْبِئْرُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ قَالَ: هِيَ بِئْرٌ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَقُولُ: فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قال: الجبّ حذاء طبرية، بينه وبينها أميال. [سورة يوسف (12) : الآيات 11 الى 18] قالُوا يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (18)

لَمَّا أَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يُلْقُوهُ فِي غَيَابَاتِ الْجُبِّ، جَاءُوا إِلَى أَبِيهِمْ وَخَاطَبُوهُ بِلَفْظِ الْأُبُوَّةِ اسْتِعْطَافًا لَهُ، وَتَحْرِيكًا لِلْحُنُوِّ الَّذِي جُبِلَتْ عَلَيْهِ طَبَائِعُ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ، وَتَوَسُّلًا بِذَلِكَ إِلَى تَمَامِ مَا يُرِيدُونَهُ مِنَ الْكَيْدِ الَّذِي دَبَّرُوهُ، وَاسْتَفْهَمُوهُ اسْتِفْهَامَ الْمُنْكِرِ لِأَمْرٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الواقع على خلافه، ف قالُوا يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَا تَجْعَلُنَا أُمَنَاءَ عَلَيْهِ؟ وَكَأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا سَأَلُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ يُخْرِجَ مَعَهُمْ يُوسُفَ فَأَبَى. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَالزُّهْرِيُّ «لَا تَأْمَنَّا» بِالِادِّغَامِ بِغَيْرِ إِشْمَامٍ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ «لَا تَأْمَنُنَا» بِنُونَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو رَزِينٍ وَالْأَعْمَشُ «لَا تَيْمَنَّا» وَهُوَ لُغَةُ تَمِيمٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ سَائِرُ الْقُرَّاءِ بِالْإِدْغَامِ وَالْإِشْمَامِ لِيَدُلَّ عَلَى حَالِ الْحَرْفِ قَبْلَ إِدْغَامِهِ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ فِي حِفْظِهِ وَحِيطَتِهِ حَتَّى نَرُدَّهُ إِلَيْكَ أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً أَيْ إِلَى الصَّحْرَاءِ الَّتِي أَرَادُوا الْخُرُوجَ إِلَيْهَا، وَغَدًا ظَرْفٌ، وَالْأَصْلُ عند سيبويه غدو. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، يُقَالُ لَهُ غُدْوَةٌ، وَكَذَا يُقَالُ له بكرة. يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ هَذَا جَوَابُ الْأَمْرِ. قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الشَّامِ بِالنُّونِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ كَمَا رواه البعض عنهم. وقرءوا أَيْضًا بِالِاخْتِلَاسِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ رَتَعَ الْإِنْسَانُ أَوِ الْبَعِيرُ إِذَا أَكَلَ كَيْفَ شَاءَ، أَوِ الْمَعْنَى: نَتَّسِعُ فِي الْخِصْبِ، وَكُلُّ مُخْصِبٍ رَاتِعٌ قَالَ الشَّاعِرُ: فَارْعَى فَزَارَةَ لَا هُنَاكَ الْمَرْتَعُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ «2» حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ ... فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ: رَعْيِ الْغَنَمِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ بِالتَّحْتِيَّةِ فِيهِمَا، وَرَفَعَ يلعب على الاستئناف، والضمير ليوسف. وقال القتبي: مَعْنَى نَرْتَعْ نَتَحَارَسُ وَنَتَحَافَظُ وَيَرْعَى بَعْضُنَا بَعْضًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: رَعَاكَ اللَّهُ أَيْ حَفِظَكَ، وَنَلْعَبْ مِنَ اللَّعِبِ. قِيلَ لِأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: كَيْفَ قَالُوا وَنَلْعَبْ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَوْمَئِذٍ أَنْبِيَاءَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ اللَّعِبُ الْمُبَاحُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ مُجَرَّدُ الِانْبِسَاطِ وَقِيلَ: هُوَ اللَّعِبُ الَّذِي يَتَعَلَّمُونَ بِهِ الْحَرْبَ وَيَتَقَوَّوُّنَ بِهِ عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ لَا اللَّعِبُ الْمَحْظُورُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ يَعْقُوبُ عَلَيْهِمْ لَمَّا قَالُوا: وَنَلْعَبْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَابِرٍ: «فَهَلَّا بِكْرًا تَلَاعِبُهَا وَتَلَاعِبُكَ» ، فَأَجَابَهُمْ يَعْقُوبُ بِقَوْلِهِ: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أَيْ ذَهَابُكُمْ بِهِ، وَاللَّامُ فِي لَيَحْزُنُنِي لَامُ الِابْتِدَاءِ لِلتَّأْكِيدِ وَلِتَخْصِيصِ الْمُضَارِعِ بِالْحَالِ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَحْزَنُ لِغَيْبَةِ يُوسُفَ عَنْهُ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهُ وَخَوْفِهِ عَلَيْهِ. وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ أَيْ: وَمَعَ ذَلِكَ أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ. قَالَ يَعْقُوبُ هَذَا تَخَوُّفًا عَلَيْهِ مِنْهُمْ، فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِالذِّئْبِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ خَافَ أَنْ يَأْكُلَهُ الذئب حقيقة، لأن ذلك المكان

_ (1) . البيت للخنساء، من قصيدة ترثي بها أخاها صخرا. (2) . في تفسير القرطبي (9/ 139) : ما غفلت.

كَانَ كَثِيرَ الذِّئَابِ، وَلَوْ خَافَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلُوهُ لَأَرْسَلَ مَعَهُمْ مَنْ يَحْفَظُهُ. قَالَ ثَعْلَبٌ: وَالذِّئْبُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَذَأَّبَتِ الرِّيحُ إِذَا هَاجَتْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. قَالَ: وَالذِّئْبُ مَهْمُوزٌ لِأَنَّهُ يَجِيءُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالْهَمْزِ عَلَى الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لِاشْتِغَالِكُمْ بِالرَّتْعِ وَاللَّعِبِ، أَوْ لِكَوْنِهِمْ غَيْرَ مُهْتَمِّينَ بِحِفْظِهِ قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ. وَالْمَعْنَى: وَاللَّهِ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَالْحَالُ إِنْ نَحْنُ عُصْبَةٌ أَيْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، عَشَرَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ أَيْ: إِنَّمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ أَكْلُ الذِّئْبِ لَهُ لَخَاسِرُونَ هَالِكُونَ ضَعْفًا وَعَجْزًا، أَوْ مُسْتَحِقُّونَ لِلْهَلَاكِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِنَا، وَانْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَيْسَرِ شَيْءٍ وَأَقَلِّهِ، أَوْ مُسْتَحِقُّونَ لِأَنَّ يُدْعَى عَلَيْنَا بِالْخَسَارِ وَالدَّمَارِ وَقِيلَ: لَخاسِرُونَ لَجَاهِلُونَ حَقَّهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغَيَابَةِ وَالْجُبِّ قَرِيبًا، وَجَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ وَدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَعَلُوا بِهِ مَا فَعَلُوا وَقِيلَ: جَوَابُهُ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وقيل: والجواب الْمُقَدَّرُ جَعَلُوهُ فِيهَا، وَقِيلَ: الْجَوَابُ أَوْحَيْنَا وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ- وَنادَيْناهُ «1» أَيْ: نَادَيْنَاهُ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى يُوسُفَ تَيْسِيرًا لَهُ، وَتَأْنِيسًا لِوَحْشَتِهِ مَعَ كَوْنِهِ صَغِيرًا اجْتَمَعَ عَلَى إِنْزَالِ الضَّرَرِ بِهِ عَشَرَةُ رِجَالٍ مِنْ إِخْوَتِهِ، بِقُلُوبٍ غَلِيظَةٍ فَقَدْ نُزِعَتْ عَنْهَا الرَّحْمَةُ، وَسُلِبَتْ مِنْهَا الرَّأْفَةُ، فَإِنَّ الطَّبْعَ الْبَشَرِيَّ يأبى ذلك. وإن كان قد وقع منه خطأ فدع عنك الدين يتجاوز عن ذنب الصغير ويغفره لِضَعْفِهِ عَنِ الدَّفْعِ وَعَجْزِهِ عَنْ أَيْسَرِ شَيْءٍ يُرَادُ مِنْهُ، فَكَيْفَ بِصَغِيرٍ لَا ذَنْبَ لَهُ، بل كيف بصغير هو أخ لهم وله أَبٌ مِثْلَ يَعْقُوبَ، فَلَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَمَا هَكَذَا عَمَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا فِعْلُ الصَّالِحِينَ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَى مَنْ كَانَ صَغِيرًا وَيُعْطِيَهُ النُّبُوَّةَ حِينَئِذٍ، كَمَا وَقَعَ فِي عِيسَى وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الوقت قد بلغ مبالغ الرِّجَالِ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ مَبَالِغَ الرِّجَالِ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا أَيْ لَتُخْبِرَنَّ إِخْوَتَكَ بِأَمْرِهِمْ هَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ مَعَكَ بَعْدَ خُلُوصِكَ مِمَّا أَرَادُوهُ بِكَ مِنَ الْكَيْدِ، وَأَنْزَلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الضَّرَرِ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْ: لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّكَ أَخُوهُمْ يُوسُفَ لِاعْتِقَادِهِمْ هَلَاكَكَ بِإِلْقَائِهِمْ لَكَ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، وَلِبُعْدِ عَهْدِهِمْ بِكَ، وَلِكَوْنِكَ قَدْ صِرْتَ عِنْدَ ذَلِكَ فِي حَالٍ غَيْرِ مَا كُنْتَ عَلَيْهِ وَخِلَافَ مَا عَهِدُوهُ مِنْكَ، وَسَيَأْتِي مَا قَالَهُ لَهُمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَارَ إِلَيْهِ مُلْكُ مصر. قوله: وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ عِشَاءً مُنْتَصِبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وهو آخر النهار، وقيل: في الليل ويبكون فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: بَاكِينَ أَوْ مُتَبَاكِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْكُوا حَقِيقَةً، بَلْ فَعَلُوا فِعْلَ مَنْ يَبْكِي تَرْوِيجًا لِكَذِبِهِمْ وَتَنْفِيقًا لِمَكْرِهِمْ وَغَدْرِهِمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أَيْ: نَتَسَابَقُ فِي الْعَدْوِ أَوْ فِي الرَّمْيِ وَقِيلَ: نَنْتَضِلُ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ «نَنْتَضِلُ» قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ نَوْعٌ من المسابقة. وقال الأزهري: النضال في السهام،

_ (1) . الصافات: 103- 104.

وَالرِّهَانُ فِي الْخَيْلِ، وَالْمُسَابَقَةُ تَجْمَعُهُمَا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: نَسْتَبِقُ، أَيْ: فِي الرَّمْيِ أَوْ عَلَى الْفَرَسِ أَوْ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْمُسَابَقَةِ التَّدَرُّبُ بِذَلِكَ فِي الْقِتَالِ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أَيْ: عِنْدَ ثِيَابِنَا لِيَحْرُسَهَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ أَيْ: أَكَلَهُ عَقِبَ ذَلِكَ. وَقَدِ اعْتَذَرُوا عَلَيْهِ بِمَا خَافَهُ سَابِقًا عَلَيْهِ. وَرُبَّ كَلِمَةٍ تَقُولُ لِصَاحِبِهَا دَعْنِي وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا بِمُصَدِّقٍ لَنَا فِي هَذَا الْعُذْرِ الَّذِي أَبْدَيْنَا، وَالْكَلِمَةُ الَّتِي قُلْنَاهَا وَلَوْ كُنَّا عِنْدَكَ أَوْ فِي الْوَاقِعِ صادِقِينَ لِمَا قَدْ عَلِقَ بِقَلْبِكَ مِنَ التُّهْمَةِ لَنَا فِي ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ مَحَبَّتِكَ لَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى وَلَوْ كُنَّا عِنْدَكَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالصِّدْقِ مَا صَدَّقْتَنَا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِكَ لِيُوسُفَ. وَكَذَا ذكره ابن جرير وغيره وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ عَلَى قَمِيصِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: جَاءُوا فَوْقَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ، وَوَصَفَ الدَّمَ بِأَنَّهُ كَذِبٌ مُبَالَغَةً، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي وَصْفِ اسْمِ الْعَيْنِ بِاسْمِ الْمَعْنَى وَقِيلَ: الْمَعْنَى: بِدَمٍ ذِي كَذِبٍ أَوْ بِدَمٍ مَكْذُوبٍ فِيهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَائِشَةُ «بدم كذب» بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ بِدَمٍ طَرِيٍّ، يُقَالُ لِلدَّمِ الطريّ كذب. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ الْمُتَغَيِّرُ، وَالْكَذِبُ أَيْضًا الْبَيَاضُ الَّذِي يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِ الْأَحْدَاثِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَبَّهَ الدَّمَ فِي الْقَمِيصِ بِالْبَيَاضِ الَّذِي يَخْرُجُ فِي الظُّفُرِ مِنْ جِهَةِ اللَّوْنَيْنِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ يَعْقُوبُ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ، وَقَالَ لَهُمْ: مَتَى كَانَ هَذَا الذِّئْبُ حَكِيمًا يَأْكُلُ يُوسُفَ وَلَا يَخْرِقُ الْقَمِيصَ؟ ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا أَجَابَ بِهِ يَعْقُوبُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أَيْ زَيَّنَتْ وَسَهَّلَتْ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: التَّسْوِيلُ تَقْرِيرٌ فِي مَعْنَى النَّفْسِ مَعَ الطَّمَعِ فِي تَمَامِهِ، وَهُوَ تَفْعِيلٌ مِنَ السُّولِ وَهُوَ الْأَمْنِيَّةُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَأَصْلُهُ مَهْمُوزٌ غَيْرَ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَثْقَلُوا فِيهِ الْهَمْزَةَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ فَشَأْنِي، أَوِ الَّذِي أَعْتَقِدُهُ صَبْرٌ جَمِيلٌ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: أَيْ فَصَبْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ وَقِيلَ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أَوْلَى بِي. قِيلَ: وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا شَكْوَى مَعَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ فِيمَا زَعَمَ سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ «فَصَبْرًا جَمِيلًا» قَالَ: وَكَذَا فِي مُصْحَفِ أَنَسٍ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ بِالرَّفْعِ أَوْلَى مِنَ النَّصْبِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: قَالَ رَبِّ عِنْدِي صَبْرٌ جَمِيلٌ، وَإِنَّمَا النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: فَلْأَصْبِرَنَّ صَبْرًا جَمِيلًا. قَالَ الشَّاعِرُ: شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ... صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلَانَا مُبْتَلَى وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ أَيْ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعَوْنُ عَلى مَا تَصِفُونَ أَيْ عَلَى إِظْهَارِ حَالِ مَا تَصِفُونَ، أَوْ عَلَى احْتِمَالِ مَا تَصِفُونَ، وَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْشَاءٌ لَا إِخْبَارٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس في قوله: أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ قَالَ: نَسْعَى وَنَنْشَطُ وَنَلْهُو. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالسِّلْفِيُّ فِي الطُّيُورِيَّاتِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَا تُلَقِّنُوا النَّاسَ فَيَكْذِبُوا، فَإِنَّ بَنِي يَعْقُوبَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ النَّاسَ، فَلَمَّا لَقَّنَهُمْ أَبُوهُمْ كَذَبُوا، فَقَالُوا: أَكَلَهُ الذِّئْبُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ الْآيَةَ قَالَ: أُوحِيَ إِلَى يُوسُفَ وَهُوَ فِي الْجُبِّ لَتُنَبِّئَنَّ إِخْوَتَكَ بِمَا صَنَعُوا وهم لا

[سورة يوسف (12) : الآيات 19 إلى 22]

يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ الْوَحْيِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَحْيًا وَهُوَ فِي الْجُبِّ أَنْ سَيُنْبِئُهُمْ بِمَا صَنَعُوا، وَهُمْ- أَيْ إِخْوَتُهُ- لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ الْوَحْيِ، فَهَوَّنَ ذَلِكَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ مَا صُنِعَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ قَالَ: لَمْ يَعْلَمُوا بِوَحْيِ اللَّهِ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ إِخْوَةُ يُوسُفَ عَلَى يُوسُفَ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ جِيءَ بِالصُّوَاعِ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، ثُمَّ نَقَرَهُ فَطَنَّ، فَقَالَ: إِنَّهُ لِيُخْبِرُنِي هَذَا الْجَامُ أَنَّهُ كَانَ لَكُمْ أَخٌ مِنْ أَبِيكُمْ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ يُدْنِيهِ دُونَكُمْ، وَأَنَّكُمُ انْطَلَقْتُمْ بِهِ فَأَلْقَيْتُمُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ فَأَتَيْتُمْ أَبَاكُمْ فَقُلْتُمْ: إن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كَذِبٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الْجَامَ لِيُخْبِرُهُ بِخَبَرِكُمْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَا نَرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِلَّا فِي ذَلِكَ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ ابن عَيَّاشٍ قَالَ: كَانَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا قَالَ: بِمُصَدِّقٍ لَنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ: كَانَ دَمُ سَخْلَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ: لَمَّا أُتِيَ يَعْقُوبُ بِقَمِيصِ يُوسُفَ فَلَمْ يَرَ فِيهِ خَرْقًا قَالَ: كَذَبْتُمْ، لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُونَ أَكَلَهُ الذِّئْبُ لَخَرَقَ الْقَمِيصَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً قَالَ: أَمَرَتْكُمْ أَنْفُسُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً يَقُولُ: بَلْ زَيَّنَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ أَيْ عَلَى مَا تَكْذِبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الصَّبْرِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن حبّان بن أبي جبلة قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قَالَ: لَا شَكْوَى فِيهِ. مَنْ بَثَّ لَمْ يَصْبِرْ. وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حبّان بن أبي جبلة، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال: ليس فيه جزع. [سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 22] وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) هَذَا شُرُوعٌ فِي حكاية خلاص يوسف وما كان بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ خَبَرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ السَّيَّارَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا رُفْقَةٌ مَارَّةٌ تَسِيرُ من الشام إلى مصر، فأخطئوا الطَّرِيقَ وَهَامُوا حَتَّى نَزَلُوا قَرِيبًا مِنَ الْجُبِّ، وكان في

قَفْرَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُمْرَانِ. وَالْوَارِدُ: الَّذِي يَرِدُ الْمَاءَ لِيَسْتَقِيَ لِلْقَوْمِ، وَكَانَ اسْمُهُ فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ «مَالِكُ بْنُ ذُعْرٍ» مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ فَأَدْلى دَلْوَهُ أَيْ أَرْسَلَهُ، يُقَالُ: أَدْلَى دَلْوَهُ إِذَا أَرْسَلَهَا لِيَمْلَأَهَا، وَدَلَّاهَا: إِذَا أَخْرَجَهَا، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ. فَتَعَلَّقَ يُوسُفُ بِالْحَبْلِ، فَلَمَّا خَرَجَ الدَّلْوُ مِنَ الْبِئْرِ أَبْصَرَهُ الْوَارِدُ فَ قَالَ يا بشراي هَكَذَا قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ بِإِضَافَةِ الْبُشْرَى إِلَى الضَّمِيرِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ «يَا بُشْرى» غَيْرَ مُضَافٍ، وَمَعْنَى مُنَادَاتِهِ لِلْبُشْرَى أَنَّهُ أَرَادَ حُضُورَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا وَقْتُ مَجِيئِكَ وَأَوَانُ حُضُورِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ نَادَى رَجُلًا اسْمُهُ بشرى. والأوّل أولى. قال النحاس: والمعنى نِدَاءِ الْبُشْرَى التَّبْشِيرُ لِمَنْ حَضَرَ، وَهُوَ أَوْكَدُ مِنْ قَوْلِكَ بَشَّرْتُهُ، كَمَا تَقُولُ يَا عَجَبَا، أَيْ: يَا عَجَبُ هَذَا مِنْ أَيَّامِكَ فَاحْضُرْ. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَأَسَرُّوهُ أَيْ أَسَرَّ الْوَارِدُ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ يُوسُفَ فَلَمْ يَظْهِرُوهُ لَهُمْ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمْ يُخْفُوهُ، بَلْ أخفوا وجدانه لهم فِي الْجُبِّ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَاءِ لِيَبِيعُوهُ لَهُمْ بِمِصْرَ وَقِيلَ: ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي أَسَرُّوهُ لِإِخْوَةِ يُوسُفَ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ لِيُوسُفَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ أَخُوهُ يَهُوذَا كُلَّ يَوْمٍ بِطَعَامٍ، فَأَتَاهُ يَوْمَ خُرُوجِهِ مِنَ الْبِئْرِ فَأَخْبَرَ إِخْوَتَهُ فَأَتَوُا الرُّفْقَةَ وَقَالُوا: هَذَا غُلَامٌ أَبَقَ مِنَّا فَاشْتَرَوْهُ مِنْهُمْ، وَسَكَتَ يُوسُفُ مَخَافَةَ أَنْ يَأْخُذُوهُ فَيَقْتُلُوهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَانْتِصَابُ بِضَاعَةً عَلَى الْحَالِ، أَيْ: أَخْفَوْهُ حَالَ كَوْنِهِ بِضَاعَةً، أَيْ: مَتَاعًا لِلتِّجَارَةِ، وَالْبِضَاعَةُ: مَا يُبْضَعُ مِنَ الْمَالِ، أَيْ: يُقْطَعُ مِنْهُ لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يُتَّجَرُ بِهِ، قِيلَ: قَالَهُ لَهُمُ الْوَارِدُ وَأَصْحَابُهُ إِنَّهُ بِضَاعَةٌ اسْتَبْضَعْنَاهَا مِنَ الشَّامِ مَخَافَةَ أَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَانَ فِعْلُهُ سَبَبًا لِمَا وَقَعَ فِيهِ يُوسُفُ مِنَ المحن، وما صار فيه من الابتذال يجري الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِ، وَهُوَ الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ، يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي وَصْفِهِ بِذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ يُقَالُ: شَرَاهُ بِمَعْنَى اشْتَرَاهُ، وَشَرَاهُ بِمَعْنَى بَاعَهُ. قَالَ الشَّاعِرِ «1» : وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ أَيْ بِعْتُهُ. وَقَالَ آخَرُ «2» : فَلَمَّا شَرَاهَا فَاضَتِ الْعَيْنُ عَبْرَةً «3» أَيِ اشْتَرَاهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا: وَبَاعُوهُ، أَيْ: بَاعَهُ الْوَارِدُ وَأَصْحَابُهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ أَيْ نَاقِصٍ أَوْ زَائِفٍ. وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى إِخْوَةِ يُوسُفَ عَلَى الْقَوْلِ السَّابِقِ وَقِيلَ: عَائِدٌ إِلَى الرُّفْقَةِ، وَالْمَعْنَى: اشْتَرَوْهُ وَقِيلَ: بَخْسٍ: ظُلْمٍ، وَقِيلَ: حَرَامٍ. قيل: باعوه بعشرين درهما، وقيل: بأربعين، ودراهم بدل من ثمن أي دنانير،

_ (1) . هو يزيد بن مفرغ الحميري. و «برد» : اسم عبد كان له ندم على بيعه. (2) . هو الشمّاخ. (3) . وتمام البيت: وفي الصّدر حزّاز من اللّوم حامز. و «حامز» : عاصر. [.....]

ومعدودة وَصْفٌ لِدَرَاهِمَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا قَلِيلَةٌ تُعَدُّ وَلَا تُوزَنُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَزِنُونَ مَا دُونَ أُوقِيَّةٍ وَهِيَ أَرْبَعُونَ دَرْهَمًا. وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ يُقَالُ: زَهِدْتُ وَزَهَدْتُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيُّ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ زَهِدَ فِيهِ، أَيْ: رَغِبَ عَنْهُ، وَزَهِدَ عَنْهُ، أَيْ: رَغِبَ فِيهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا فِيهِ مِنَ الرَّاغِبِينَ عَنْهُ، الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ بِهِ، فَلِذَلِكَ بَاعُوهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ الْبَخْسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ الْتَقَطُوهُ، وَالْمُلْتَقِطُ لِلشَّيْءِ مُتَهَاوِنٌ بِهِ، وَالضَّمِيرُ مِنْ كَانُوا يَرْجِعُ إِلَى مَا قَبْلَهُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ فِيهِ وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ هُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي كَانَ عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ، وَكَانَ وَزِيرًا لِمَلِكِ مِصْرَ، وهو «الريان ابن الْوَلِيدِ» مِنَ الْعَمَالِقَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلِكَ هُوَ فِرْعَوْنُ مُوسَى، قِيلَ: اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، وَقِيلَ: تَزَايَدُوا فِي ثَمَنِهِ فَبَلَغَ أَضْعَافَ وَزْنِهِ مِسْكًا وَعَنْبَرًا وَحَرِيرًا وَوَرِقًا وَذَهَبًا وَلَآلِئَ وَجَوَاهِرَ، فَلَمَّا اشْتَرَاهُ الْعَزِيزُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِاشْتَرَاهُ أَكْرِمِي مَثْواهُ أَيْ مَنْزِلَهُ الَّذِي يَثْوِي فِيهِ بالطعام وَاللِّبَاسِ الْحَسَنِ، يُقَالُ: ثَوَى بِالْمَكَانِ، أَيْ: أَقَامَ بِهِ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَيْ: يَكْفِينَا بَعْضَ الْمُهِمَّاتِ مِمَّا نَحْتَاجُ إِلَى مِثْلِهِ فِيهِ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أَيْ: نَتَبَنَّاهُ فَنَجْعَلَهُ وَلَدًا لَنَا، قِيلَ: كَانَ الْعَزِيزُ حَصُورًا لَا يُولَدُ لَهُ، وَقِيلَ: كَانَ لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، وَقَدْ كَانَ تَفَرَّسَ فِيهِ أَنَّهُ يَنُوبُ عَنْهُ فِيمَا إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَمْلَكَةِ. قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ الْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِنْجَائِهِ مِنْ إِخْوَتِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنَ الْجُبِّ، وَعَطْفِ قَلْبِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ، أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّمْكِينِ الْبَدِيعِ مَكَّنَا لِيُوسُفَ حَتَّى صَارَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، يُقَالُ: مَكَّنَهُ فِيهِ، أَيْ: أَثْبَتَهُ فِيهِ، وَمَكَّنَ لَهُ فِيهِ، أَيْ: جَعَلَ لَهُ فِيهِ مَكَانًا، وَلِتَقَارُبِ الْمَعْنَيَيْنِ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ. قَوْلُهُ: وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ هُوَ عِلَّةٌ لِمُعَلَّلٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَعَلْنَا ذَلِكَ التَّمْكِينَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ أَوْ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَكَنَّا لِيُوسُفَ لِيَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَا يَتَرَتَّبُ مِمَّا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَمَعْنَى تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ: تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، فَإِنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي بَلَغَ بِهَا مَا بَلَغَ مِنَ التَّمَكُّنِ وَقِيلَ: مَعْنَى تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَهْمُ أَسْرَارِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَسُنَنِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْجَمِيعِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أَيْ: عَلَى أَمْرِ نَفْسِهِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يُغَالِبُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْعَامِّ كَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ إِضَافَةُ اسْمِ الْجِنْسِ إِلَى الضَّمِيرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي شَأْنِهِ وَقِيلَ مَعْنَى وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ مَنْ أَمْرِ يَعْقُوبَ أَنْ لَا يَقُصَّ رُؤْيَا يُوسُفَ عَلَى إِخْوَتِهِ، فَغَلَبَ أَمْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى قُصَّتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى وَقَعَ مِنْهُمْ مَا وَقَعَ، وَهَذَا بِعِيدٌ جِدًا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى غَيْبِ اللَّهِ وَمَا فِي طَيِّهِ مِنَ الْأَسْرَارِ الْعَظِيمَةِ وَالْحِكَمِ النَّافِعَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ: الْجَمِيعُ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ يُطْلِعُ بَعْضَ عَبِيدِهِ عَلَى بَعْضِ غَيْبِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً- إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «2» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ غالب

_ (1) . يس: 82. (2) . الجن: 26 و 27.

عَلَى أَمْرِهِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ. قَوْلُهُ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً الْأَشُدُّ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: جُمَعٌ، وَاحِدُهُ شِدَّةٌ. قال الْكِسَائِيُّ: وَاحِدُهُ شَدٌّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّهُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارِ كَأَنَّمَا ... خَضَبَ الْبَنَانَ وَرَأْسَهُ بِالْعَظْلِمِ «1» وَالْأَشَدُّ: هُوَ وَقْتُ اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُ النُّقْصَانُ. قِيلَ: هُوَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: بُلُوغُ الْحُلُمِ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِي النِّسَاءِ وَالْأَنْعَامِ. وَالْحُكْمُ: هُوَ مَا كَانَ يَقَعُ مِنْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي سُلْطَانِ مَلِكِ مِصْرَ، وَالْعِلْمُ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْحُكْمِ الَّذِي كَانَ يَحْكُمُهُ وَقِيلَ: العقل والفهم والنبوّة وقيل: الحكم هو النبوّة، والعلم: هو العلم بالدين وقيل: علم الرؤيا. ومن قال إنه أوتي النبوّة صَبِيًّا قَالَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ هُوَ الزِّيَادَةُ فِيهِمَا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أَيْ وَمِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الْعَجِيبِ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، فَكُلُّ مَنْ أَحْسَنَ فِي عَمَلِهِ أَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاءَهُ، وَجَعَلَ عَاقِبَةَ الْخَيْرِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَجْزِيهِ بِهِ، وَهَذَا عَامُّ يَدْخُلُ تَحْتَهُ جَزَاءُ يُوسُفَ عَلَى صَبْرِهِ الْحَسَنِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: هَذَا وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ ظَاهِرًا عَلَى كُلِّ مُحْسِنٍ فَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فَعَلَ هَذَا بيوسف ثُمَّ أَعْطَيْتُهُ مَا أَعْطَيْتُهُ كَذَلِكَ أُنْجِيكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ الَّذِينَ يَقْصِدُونَكَ بِالْعَدَاوَةِ وَأُمَكِّنُ لَكَ فِي الْأَرْضِ. وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَمْلِ الْعُمُومِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرَيُّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ قَالَ: جَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَنَزَلَتْ عَلَى الْجُبِّ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَاسْتَسْقَى الْمَاءَ فَاسْتَخْرَجَ يُوسُفَ، فَاسْتَبْشَرُوا بِأَنَّهُمْ أَصَابُوا غُلَامًا لَا يَعْلَمُونَ عِلْمَهُ وَلَا مَنْزِلَتَهُ مِنْ رَبِّهِ، فَزَهِدُوا فِيهِ فَبَاعُوهُ، وَكَانَ بَيْعُهُ حَرَامًا، وَبَاعُوهُ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن قَتَادَةَ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ يَقُولُ: فَأَرْسَلُوا رَسُولَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ فنشب الغلام بالدلو، فلما خرج قالَ يا بُشْرى هَذَا غُلامٌ تَبَاشَرُوا بِهِ حِينَ اسْتَخْرَجُوهُ، وَهِيَ بِئْرٌ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعْلُومٌ مَكَانَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن السدي في قوله: يا بشراي قَالَ: كَانَ اسْمُ صَاحِبِهِ بُشْرَى، كَمَا تَقُولُ يَا زَيْدُ، وَهَذَا عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْبُعْدِ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ «يَا بُشْرى» بِدُونِ إِضَافَةٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الشَّعْبِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً يَعْنِي إِخْوَةَ يُوسُفَ أَسَرُّوا شَأْنَهُ وَكَتَمُوا أَنْ يَكُونَ أَخَاهُمْ، وَكَتَمَ يُوسُفُ شَأْنَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِخْوَتُهُ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ فَبَاعَهُ إِخْوَتُهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ. وَأَخْرُجُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَسَرَّهُ التُّجَّارُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً قَالَ: صَاحِبُ الدَّلْوِ وَمَنْ مَعَهُ، قَالُوا لِأَصْحَابِهِمْ: إِنَّا اسْتَبْضَعْنَاهُ خِيفَةَ أَنْ يُشْرِكُوهُمْ فِيهِ إِنْ عَلِمُوا بِهِ، وَاتَّبَعَهُمْ إِخْوَتُهُ يَقُولُونَ للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا

_ (1) . شدّ النهار: أي: أشدّه، يعني أعلاه. «العظلم» : نبت يختضب به.

[سورة يوسف (12) : الآيات 23 إلى 29]

يَأْبَقُ حَتَّى وَقَفُوا بِمِصْرَ، فَقَالَ: مَنْ يَبْتَاعُنِي وَيُبَشَّرُ، فَابْتَاعَهُ الْمَلِكُ وَالْمَلِكُ مُسْلِمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَشَرَوْهُ قَالَ: إِخْوَةُ يُوسُفَ بَاعُوهُ حِينَ أَخْرَجَهُ الْمُدْلِي دَلْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِيعَ بَيْنَهُمْ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، قَالَ: حَرَامٌ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ بَيْعُهُ، وَلَا أَكْلُ ثَمَنِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ قَالَ: هُمُ السَّيَّارَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ ابن أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَضَى فِي اللَّقِيطِ أَنَّهُ حُرٌّ، وَقَرَأَ: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْبَخْسُ الْقَلِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّمَا اشْتُرِيَ يُوسُفُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَكَانَ أَهْلُهُ حِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بِمِصْرَ ثَلاَثَمِائَةٍ وَتِسْعِينَ إَنْسَانًا، رِجَالُهُمْ أَنْبِيَاءُ، وَنِسَاؤُهُمْ صِدِّيقَاتٌ، وَاللَّهِ مَا خَرَجُوا مَعَ مُوسَى حَتَّى بَلَغُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا. وَقَدْ رُوِيَ فِي مِقْدَارِ ثَمَنِ يُوسُفَ غَيْرُ هَذَا الْمِقْدَارِ مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ قَالَ: كَانَ اسْمُهُ قِطْفِيرَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ: أَنَّ اسْمَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ زُلَيْخَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: الَّذِي اشْتَرَاهُ أُطَيْفِيرُ بْنُ رَوْحَبَ، وَكَانَ اسْمُ امْرَأَتِهِ رَاعِيلَ بِنْتَ رَعَايِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْمُ الَّذِي بَاعَهُ مِنَ الْعَزِيزِ مَالِكُ بْنُ ذُعْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَكْرِمِي مَثْواهُ قَالَ: مَنْزِلَتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةً: الْعَزِيزُ حِينَ تَفَرَّسَ فِي يُوسُفَ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَالْمَرْأَةُ الَّتِي أتت موسى فقالت لأبيها يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ قَالَ: عِبَارَةُ الرُّؤْيَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ الْأَضْدَادِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قَالَ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ثَلَاثِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ عَنْ رَبِيعَةَ قَالَ: الْحُلُمُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: عِشْرِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً قَالَ: هُوَ الْفِقْهُ وَالْعِلْمُ وَالْعَقْلُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عباس وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال: المهتدين. [سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 29] وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)

الْمُرَاوَدَةُ الْإِرَادَةُ وَالطَّلَبُ بِرِفْقٍ وَلِينٍ، وَقِيلَ: هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الرَّوْدِ: أَيِ الرِّفْقِ وَالتَّأَنِّي، يُقَالُ: أَرْوِدْنِي: أَمْهِلْنِي وَقِيلَ الْمُرَاوَدَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ رَادَ يَرُودُ إِذَا جَاءَ وَذَهَبَ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهَا فَعَلَتْ فِي مُرَاوَدَتِهَا لَهُ فِعْلَ الْمُخَادِعِ، وَمِنْهُ الرَّائِدُ لِمَنْ يَطْلُبُ الْمَاءَ وَالْكَلَأَ، وَقَدْ يُخَصُّ بِمُحَاوَلَةِ الْوِقَاعِ، فَيُقَالُ: رَاوَدَ فُلَانٌ جَارِيَتَهُ عَنْ نَفْسِهَا وَرَاوَدَتْهُ هِيَ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا حَاوَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْوَطْءَ وَالْجِمَاعَ، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ، وَأَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَجُعِلَ السَّبَبُ هُنَا فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ قَائِمًا مَقَامَ الْمُسَبَّبِ، فَكَأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ مَا أُعْطِيَهُ مِنْ كَمَالِ الْخَلْقِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْحُسْنِ سَبَبًا لِمُرَاوَدَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لَهُ مُرَاوِدٌ. وَإِنَّمَا قَالَ: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها وَلَمْ يَقُلِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ، وَزُلَيْخَا، قَصْدًا إِلَى زِيَادَةِ التَّقْرِيرِ مَعَ اسْتِهْجَانِ التَّصْرِيحِ بِاسْمِ الْمَرْأَةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى السَّتْرِ عَلَيْهَا وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ قِيلَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ، فَيُقَالُ: غَلَّقَ الْأَبْوَابَ، وَلَا يُقَالُ: غَلَقَ الْبَابَ، بَلْ يُقَالُ: أَغْلَقَ الْبَابَ، وَقَدْ يُقَالُ: أَغْلَقَ الْأَبْوَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ فِي أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: مَا زِلْتُ أَغْلِقُ أَبْوَابًا وَأَفْتَحُهَا ... حَتَّى أَتَيْتَ أَبَا عَمْرِو بْنِ عَمَّارِ قِيلَ: وَكَانَتِ الْأَبْوَابُ سَبْعَةً. قَوْلُهُ: هَيْتَ لَكَ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ وَالْأَعْمَشُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ التَّاءِ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا تَنَطَّعُوا فِي الْقِرَاءَةِ، فَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ قَوْلِ أَحَدِكُمْ هَلُمَّ وَتَعَالَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ النَّحْوِيُّ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ هَيْتَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ: لَيْسَ قَوْمِي بِالْأَبْعَدِينَ إِذَا مَا ... قَالَ دَاعٍ مِنَ الْعَشِيرَةِ هَيْتَ وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ التَّاءِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَهِشَامٌ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ وَضَمِّ التَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهِلُ الشَّامِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَبِالْهَمْزَةِ وَفَتْحِ التَّاءِ. وَمَعْنَى هَيْتَ عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ مَعْنَى هَلُمَّ وَتَعَالَ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ إِلَّا فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الْهَاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَتَاءٌ مَضْمُومَةٌ، فَإِنَّهَا بِمَعْنَى: تَهَيَّأْتُ لَكَ. وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرٍو هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سُئِلَ أَبُو عَمْرٍو عَنْ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَالْهَمْزَةِ وَضَمِّ التَّاءِ فَقَالَ: بَاطِلٌ، جَعْلُهَا بِمَعْنَى تَهَيَّأْتُ، اذْهَبْ فَاسْتَعْرِضِ الْعَرَبَ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْيَمَنِ، هَلْ تَعْرِفُ أَحَدًا يَقُولُ هَكَذَا؟ وَأَنْكَرَهَا أَيْضًا الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هِيَ جَيِّدَةٌ عِنْدَ البصريين لأنه يقال: هاء الرجل يهاء ويهيئ هيئة، ورجّح الزَّجَّاجُ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وَأَنْشَدَ بَيْتَ طَرْفَةَ الْمَذْكُورَ هيت بِالْفَتْحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

أبلغ أمير المؤمني ... ن أَخَا الْعِرَاقِ إِذَا أَتَيْتَا إِنَّ الْعِرَاقَ وَأَهْلَهُ ... سَلَمٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا وَتَكُونُ اللَّامُ فِي لَكَ عَلَى الْقِرَاءَاتِ الْأَوْلَى الَّتِي هِيَ فِيهَا بِمَعْنَى اسْمِ الْفِعْلِ لِلْبَيَانِ، أَيْ: لَكَ. أَقُولُ هَذَا كَمَا فِي هَلُمَّ لَكَ. قَالَ النَّحْوِيُّونَ: هَيْتَ جَاءَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فَالْفَتْحُ لِلْخِفَّةِ، وَالْكَسْرُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَالضَّمُّ تَشْبِيهًا بِحَيْثُ، وَإِذَا بُيِّنَ بِاللَّامِ نَحْوَ هَيْتَ لَكَ فَهُوَ صَوْتٌ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَصْدَرِ كَأُفٍّ لَهُ، أَيْ: لَكَ أَقُولُ هَذَا. وَإِنْ لَمْ يُبَيَّنْ بِاللَّامِ فَهُوَ صَوْتٌ قَائِمٌ مَقَامَ مَصْدَرِ الْفِعْلِ فَيَكُونُ اسْمَ فِعْلٍ، إِمَّا خَبَرٌ: أَيْ تَهَيَّأْتُ، وَإِمَّا أَمْرٌ: أَيْ أَقْبِلْ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: يُقَالُ هُوِتَ بِهِ وَهِيتَ بِهِ إِذَا صَاحَ بِهِ وَدَعَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَحْدُو بِهَا كُلُّ فَتًى هَيَّاتِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهَا كَلِمَةٌ سُرْيَانِيَّةٌ مَعْنَاهَا أَنَّهَا تَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ الْكِسَائِيُّ يَقُولُ: هِيَ لُغَةٌ لِأَهْلِ حُورَانَ وَقَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْحِجَازِ، مَعْنَاهَا تَعَالَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَسَأَلَتُ شَيْخًا عَالِمًا مِنْ حُورَانَ فَذَكَرَ أَنَّهَا لُغَتُهُمْ قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَيْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مَعَاذًا مِمَّا دَعَوْتِنِي إِلَيْهِ، فَهُوَ مَصْدَرٌ مُنْتَصِبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُضَافٍ إِلَى اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ تَعْلِيلٌ لِلِامْتِنَاعِ الْكَائِنِ مِنْهُ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَى فَهْمِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، أَيْ: أَنَّ الشَّأْنَ رَبِّي، يَعْنِي الْعَزِيزَ: أَيْ سَيِّدِي الَّذِي رَبَّانِي وَأَحْسَنَ مَثْوَايَ حَيْثُ أَمَرَكِ بِقَوْلِهِ: أَكْرِمِي مَثْواهُ، فَكَيْفَ أَخُونُهُ فِي أَهْلِهِ وَأُجِيبُكِ إِلَى مَا تُرِيدِينَ مِنْ ذَلِكَ؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ رَبِّي تَوَلَّانِي بِلُطْفِهِ فَلَا أَرْكَبُ مَا حَرَّمَهُ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تَعْلِيلٌ آخَرُ لِلِامْتِنَاعِ مِنْهُ عَنْ إِجَابَتِهَا، وَالْفَلَاحُ: الظَّفَرُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَظْفَرُ الظَّالِمُونَ بِمَطَالِبِهِمْ، وَمِنْ جُمْلَةِ الظَّالِمِينَ الْوَاقِعُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي تَطْلُبُهَا امْرَأَةُ الْعَزِيزِ مِنْ يُوسُفَ. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها يُقَالُ: هَمَّ بِالْأَمْرِ إِذَا قَصَدَهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ هَمَّ بِمُخَالَطَتِهَا كَمَا هَمَّتْ بِمُخَالَطَتِهِ، وَمَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْجِبِلَّةِ الْخِلْقِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقَصْدُ إِلَى ذَلِكَ اخْتِيَارًا كَمَا يُفِيدُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اسْتِعَاذَتِهِ بِاللَّهِ، وَإِنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الظُّلْمِ. وَلَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومِينَ عَنِ الْهَمِّ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْقَصْدِ إِلَيْهَا شَطَحَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا فِيهِ نَوْعُ تَكَلُّفٍ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ قَالَ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ غَرِيبَ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا أَتَيْتُ عَلَى وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها قَالَ: هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بِرِهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ: أَيْ هَمَّتْ زُلَيْخَا بِالْمَعْصِيَةِ وَكَانَتْ مُصِرَّةً، وَهَمَّ يُوسُفُ وَلَمْ يُوقِعْ مَا هَمَّ بِهِ، فَبَيْنَ الْهَمَّيْنِ فَرْقٌ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : هَمَمْتُ بِهِمْ مِنْ ثَنِيَّةِ لُؤْلُؤٍ «2» ... شَفَيْتُ غَلِيلَاتِ الهوى من فؤاديا

_ (1) . هو جميل بثينة. (2) . في تفسير القرطبي (9/ 166) : بثينة لو بدا.

فَهَذَا إِنَّمَا هُوَ حَدِيثُ نَفْسٍ مِنْ غَيْرِ عزم، وقيل: همّ بها أي همّ بضر بها، وَقِيلَ: هَمَّ بِهَا بِمَعْنَى تَمَنَّى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ «1» ، وَقَوْلِهِ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «2» وَمُجَرَّدُ الْهَمِّ لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ، فَإِنَّهَا قَدْ وَقَعَتِ الْعِصْمَةُ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، وَجَوَابُ لَوْ فِي لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ مَحْذُوفٌ، أَيٌّ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بِرِهَانَ رَبِّهِ لَفَعَلَ مَا هَمَّ بِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْبُرْهَانِ الَّذِي رَآهُ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: إِنَّ زُلَيْخَا قَامَتْ عِنْدَ أَنْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا إِلَى صَنَمٍ لَهَا فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ فَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ، فَقَالَ: مَا تَصْنَعِينَ؟ قَالَتْ: أَسْتَحِي مِنْ إِلَهِي هَذَا أَنْ يَرَانِي عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَقَالَ يُوسُفُ: أَنَا أَوْلَى أَنْ أَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنَّهُ رَأَى فِي سَقْفِ الْبَيْتِ مَكْتُوبًا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً «3» الْآيَةَ وَقِيلَ رَأَى كَفًّا مَكْتُوبًا عَلَيْهَا: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ «4» وَقِيلَ: إِنَّ الْبُرْهَانَ هُوَ تَذَكُّرُهُ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ وَمَا أَخَذَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَقِيلَ: نُودِيَ: يَا يُوسُفُ أَنْتَ مَكْتُوبٌ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَتَعْمَلُ عَمَلَ السُّفَهَاءِ؟! وَقِيلَ: رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَلَى الْجِدَارِ عَاضًّا عَلَى أُنْمُلَتِهِ يَتَوَعَّدُهُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ رَأَى شَيْئًا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا هَمَّ بِهِ. قَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ الْكَافُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْإِرَاءَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أَوْ إِلَى التَّثْبِيتِ الْمَفْهُومِ مِنْ ذَلِكَ، أي: مثل تلك الإراءة أريناه، أو مِثْلَ ذَلِكَ التَّثْبِيتِ ثَبَّتْنَاهُ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ أَيْ كُلَّ مَا يَسُوؤُهُ، وَالْفَحْشَاءَ: كُلَّ أَمْرٍ مُفْرِطِ الْقُبْحِ وَقِيلَ: السُّوءُ: الْخِيَانَةُ لِلْعَزِيزِ فِي أهله، والفحشاء: الزنا، وقيل: السوء: الشهوة، والفحشاء: الْمُبَاشَرَةُ وَقِيلَ: السُّوءُ: الثَّنَاءُ الْقَبِيحُ. وَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ دُخُولًا أَوَّلِيًا، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو «الْمُخْلِصِينَ» بِكَسْرِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا. وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِمَّنْ أَخْلَصَ طَاعَتَهُ لِلَّهِ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنِ اسْتَخْلَصَهُ اللَّهُ لِلرِّسَالَةِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخْلِصًا مُسْتَخْلَصًا. وَاسْتَبَقَا الْبابَ أَيْ تَسَابَقَا إِلَيْهِ، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ وَأُوصِلَ الْفِعْلُ بِالْمَفْعُولِ، أَوْ ضُمِّنَ الْفِعْلُ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَابْتَدَرَا الْبَابَ، وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَوَجْهُ تَسَابُقِهِمَا أَنَّ يُوسُفَ يُرِيدُ الْفِرَارَ وَالْخُرُوجَ مِنَ الْبَابِ، وَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرِيدُ أَنْ تَسْبِقَهُ إِلَيْهِ لِتَمْنَعَهُ، وَوَحَّدَ الْبَابَ هُنَا وَجَمَعَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ تَسَابُقَهُمَا كَانَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي يَخْلُصُ مِنْهُ إِلَى خَارِجِ الدَّارِ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ أَيْ جَذَبَتْ قَمِيصَهُ مِنْ وَرَائِهِ فَانْشَقَّ إِلَى أَسْفَلِهِ، وَالْقَدُّ: الْقَطْعُ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَانَ طُولًا، وَالْقَطُّ بِالطَّاءِ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَانَ عَرْضًا، وَقَعَ مِنْهَا ذَلِكَ عِنْدَ أَنْ فَرَّ يُوسُفُ لَمَّا رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، فَأَرَادَتْ أَنْ تمنعه من الخروج بجلبها لِقَمِيصِهِ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ أَيْ وَجَدَا الْعَزِيزَ هُنَالِكَ، وَعَنَى بِالسَّيِّدِ الزَّوْجَ لِأَنَّ الْقِبْطَ يسمّون الزوج

_ (1) . يوسف: 52. (2) . يوسف: 53. (3) . الإسراء: 32. (4) . الانفطار: 10.

سَيِّدًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ سَيِّدَهُمَا، لِأَنَّ مِلْكَهُ لِيُوسُفَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَلَمْ يَكُنْ سَيِّدًا لَهُ، وَجُمْلَةُ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا كَانَ مِنْهُمَا عِنْدَ أَنْ أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِالسُّوءِ هُنَا الزِّنَا قَالَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ طَلَبًا مِنْهَا لِلْحِيلَةِ وَلِلسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهَا، فَنَسَبَتْ مَا كَانَ مِنْهَا إِلَى يُوسُفَ أَيَّ جَزَاءٍ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِ هَذَا، ثُمَّ أَجَابَتْ عَنِ اسْتِفْهَامِهَا بِقَوْلِهَا: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَيْ مَا جَزَاؤُهُ إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، أَيْ: لَيْسَ جَزَاؤُهُ إِلَّا السَّجْنَ أَوِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قِيلَ: وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ الضَّرْبُ بِالسِّيَاطِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي الْإِبْهَامِ لِلْعَذَابِ زِيَادَةُ تَهْوِيلٍ، وَجُمْلَةُ قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْمُرَاوَدَةِ، أَيْ: هِيَ الَّتِي طَلَبَتْ مِنِّي ذَلِكَ وَلَمْ أُرِدْ بِهَا سُوءًا وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها أَيْ مِنْ قَرَابَتِهَا، وَسُمِّيَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا شَهَادَةً لِمَا يَحْتَاجُ فِيهِ مِنَ التَّثَبُّتِ وَالتَّأَمُّلِ، قِيلَ: لَمَّا الْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَزِيزِ احْتَاجَ إِلَى حَاكِمٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ. قِيلَ: كَانَ ابْنُ عَمٍّ لَهَا وَاقِفًا مَعَ الْعَزِيزِ فِي الْبَابِ، وَقِيلَ: ابْنُ خَالٍ لَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ طِفْلٌ فِي الْمَهْدِ تَكَلَّمَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِكْرِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ، وَذَكَرَ مَنْ جُمْلَتِهِمْ شَاهِدَ يُوسُفَ وَقِيلَ: إِنَّهُ رَجُلٌ حَكِيمٌ كَانَ الْعَزِيزُ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ، وَكَانَ مِنْ قَرَابَةِ الْمَرْأَةِ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ أَيْ فَقَالَ الشَّاهِدُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مُسْتَدِلًّا عَلَى بَيَانِ صِدْقِ الصَّادِقِ مِنْهُمَا وَكَذِبِ الْكَاذِبِ بِأَنَّ قَمِيصَ يُوسُفَ إِنْ كَانَ مَقْطُوعًا مِنْ قُبُلٍ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْقُبُلِ فَصَدَقَتْ أَيْ فَقَدْ صَدَقَتْ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهَا سُوءًا وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي قَوْلِهِ إِنَّهَا رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «مِنْ قُبُلُ» بِضَمِّ اللَّامِ. وَكَذَا قَرَأَ: مِنْ دُبُرٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: جَعَلَاهُمَا غايتين كقبل وبعد، وكأنه قِيلَ مِنْ قُبُلِهِ وَمَنْ دُبُرِهِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُرَادٌ، صَارَ الْمُضَافُ غَايَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ هُوَ الْغَايَةُ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ أَيْ مِنْ وَرَائِهِ فَكَذَبَتْ فِي دَعْوَاهَا عَلَيْهِ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَاهُ عَلَيْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ الشَّرْطِيَّتَيْنِ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ مُقَدَّمَيْهِمَا وَتَالِيَيْهِمَا، لَا عَقْلًا وَلَا عَادَةً، وَلَيْسَ هاهنا إِلَّا مُجَرَّدُ أَمَارَةٍ غَيْرِ مُطَّرِدَةٍ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَجْذِبَهُ إِلَيْهَا وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهَا فَيَنْقَدَّ الْقَمِيصُ مِنْ دُبُرٍ، وَأَنْ تَجْذِبَهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ عَنْهَا فَيَنْقَدَّ الْقَمِيصُ مِنْ قُبُلٍ فَلَمَّا رَأى أَيِ الْعَزِيزُ قَمِيصَهُ أَيْ قَمِيصَ يُوسُفَ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ أَيْ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَكُمَا، أَوْ أَنَّ قَوْلَكِ: مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً مِنْ كَيْدِكُنَّ أَيْ مِنْ جِنْسِ كَيْدِكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وَالْكَيْدُ: المكر والحيلة، ثم خاطب العزيز يوسف عليه السلام بِقَوْلِهِ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا أَيْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي جَرَى وَاكْتُمْهُ وَلَا تَتَحَدَّثْ بِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهَا بِالْخِطَابِ فَقَالَ: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ الَّذِي وَقَعَ مِنْكِ إِنَّكِ كُنْتِ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْخاطِئِينَ أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْخَاطِئَاتِ تَغْلِيبًا لِلْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ كما في قوله: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ ومعنى من الخاطئين من المتعمدين، يقال: خطىء، إِذَا أَذْنَبَ مُتَعَمِّدًا وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ لِيُوسُفَ وَلِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ هُوَ الشَّاهِدُ الَّذِي حكم بينهما.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: هِيَ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: رَاوَدَتْهُ حِينَ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَيْتَ لَكَ قَالَ: هَلُمَّ لَكَ، تَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هَلُمَّ لَكَ بِالْقِبْطِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هِيَ كَلِمَةٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، أَيْ: عَلَيْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَعْنَاهَا تَعَالَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا لُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ تَدْعُوهُ بِهَا إلى نفسها. وأخرج أبو عبيد وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: «هِئْتُ لَكَ» مَكْسُورَةَ الْهَاءِ مَضْمُومَةَ التَّاءِ مَهْمُوزَةً قَالَ: تَهَيَّأْتُ لَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ رَبِّي قَالَ: سَيِّدِي، قَالَ: يَعْنِي زَوْجَ الْمَرْأَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وابن جرير وابن لمنذر وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا هَمَّتْ بِهِ تَزَيَّنَتْ ثُمَّ اسْتَلْقَتْ عَلَى فِرَاشِهَا، وَهَمَّ بِهَا جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا يَحُلُّ ثِيَابَهُ، فَنُودِيَ مِنَ السماء: يا ابن يَعْقُوبَ لَا تَكُنْ كَطَائِرٍ نُتِفَ رِيشُهُ فَبَقِيَ لَا رِيشَ لَهُ، فَلَمْ يَتَّعِظْ عَلَى النِّدَاءِ شَيْئًا حَتَّى رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى أُصْبُعِهِ. فَفَزِعَ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ، فَوَثَبَ إِلَى الْبَابِ فَوَجَدَهُ مُغْلَقًا، فَرَفَعَ يُوسُفُ رِجْلَهُ فَضَرَبَ بِهَا الْبَابَ الْأَدْنَى فَانْفَرَجَ لَهُ وَاتَّبَعَتْهُ فَأَدْرَكَتْهُ، فَوَضَعَتْ يَدَيْهَا فِي قَمِيصِهِ فَشَقَّتْهُ حَتَّى بَلَغَتْ عَضَلَةَ سَاقِهِ، فَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها قَالَ: طَمِعَتْ فِيهِ وَطَمِعَ فِيهَا، وَكَانَ فِيهِ مِنَ الطَّمَعِ أَنْ هَمَّ أَنْ يَحُلَّ التِّكَّةَ، فَقَامَتْ إِلَى صَنَمٍ لَهَا مُكَلَّلٍ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ فَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ أَبْيَضَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، فَقَالَ: أَيَّ شَيْءٍ تَصْنَعِينَ؟ فَقَالَتْ: أَسْتَحِي مِنْ إلهي أَنْ يَرَانِي عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَقَالَ يُوسُفُ: تَسْتَحِينَ مِنْ صَنَمٍ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَلَا أَسْتَحْيِ أَنَا مِنْ إِلَهَيِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ؟ ثُمَّ قَالَ: لَا تَنَالِيهَا مِنِّي أَبَدًا، وَهُوَ الْبُرْهَانُ الَّذِي رَأَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ قَالَ: مُثِّلَ لَهُ يَعْقُوبُ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ. وَقَدْ أَطَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ الْبُرْهَانِ الَّذِي رَآهُ، وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: السَّيِّدُ: الزَّوْجُ، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ قَالَ: الْقَيْدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قَالَ: صَبِيٌّ أَنْطَقَهُ اللَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ فِرْعَوْنَ، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن

[سورة يوسف (12) : الآيات 30 إلى 34]

مَرْيَمَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قَالَ: كَانَ رَجَلًا ذَا لِحْيَةٍ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: كَانَ مِنْ خَاصَّةِ الْمَلِكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ لَهُ فَهْمٌ وَعِلْمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: ابْنُ عَمٍّ لَهَا كَانَ حَكِيمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسِيٍّ وَلَا جِنِّيٍّ، هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِنْ أَهْلِها. [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 34] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) يُقَالُ نُسْوَةٌ بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَالْفَضْلِ وَسُلَيْمَانَ، وَيُقَالُ نِسْوَةٌ بِكَسْرِ النُّونِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ، وَالْمُرَادُ جَمَاعَةٌ مِنَ النِّسَاءِ وَيَجُوزُ التَّذْكِيرُ فِي الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِنَّ كَمَا يَجُوزُ التَّأْنِيثُ. قِيلَ: وَهُنَّ امْرَأَةُ سَاقِي الْعَزِيزِ وَامْرَأَةُ خَبَّازِهِ، وَامْرَأَةُ صَاحِبِ دَوَابِّهِ، وَامْرَأَةُ صَاحِبِ سِجْنِهِ، وَامْرَأَةُ حَاجِبِهِ. وَالْفَتَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الشَّابُّ، وَالْفَتَاةُ: الشَّابَّةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: غُلَامُهَا، يُقَالُ: فَتَايَ وَفَتَاتِي، أَيْ: غُلَامِي وَجَارِيَتِي، وَجُمْلَةُ قَدْ شَغَفَها حُبًّا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ ثَانٍ لِلْمُبْتَدَأِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَى شَغَفَهَا حُبًّا: غَلَبَهَا حُبُّهُ، وَقِيلَ: دَخَلَ حُبُّهُ فِي شِغَافِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَشَغَافُ الْقَلْبِ غِلَافُهُ، وَهُوَ جَلْدَةٌ عَلَيْهِ وَقِيلَ: هُوَ وَسَطَ الْقَلْبِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى: دَخَلَ حُبُّهُ إِلَى شَغَافِهَا فَغَلَبَ عَلَيْهِ، وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ قَوْلُ الرَّاجِزِ: يَتْبَعُهَا وَهِيَ لَهُ شَغَافٌ وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ والحسن وشعفها بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مَعْنَاهُ أَجْرَى حُبَّهُ عَلَيْهَا «1» وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ بِالْمُعْجَمَةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: شَعَفَهُ الْحُبُّ أَحْرَقَ قَلْبَهُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَمْرَضَهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: مَعْنَاهُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ: قَدْ ذَهَبَ بِهَا كُلَّ مَذْهَبٍ لِأَنَّ شِعَافَ الْجِبَالِ: أَعَالِيهَا، وَقَدْ شَغِفَ بِذَلِكَ شَغَفًا بإسكان الغين المعجمة. إذا أولع بِهِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ بَيْتَ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَتَقْتُلُنِي مَنْ قَدْ شَغَفْتُ فُؤَادَهَا ... كَمَا شَغَفَ المهنوءة «2» الرجل الطّالي

_ (1) . في تفسير القرطبي (9/ 176) : أحرق حبه قلبها. (2) . «المهنوءة» : المطلية بالقطران.

قَالَ: فَشُبِّهَتْ لَوْعَةُ الْحُبِّ بِذَلِكَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: «قَدْ شَغُفَهَا» بِضَمِّ الْغَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحُكِيَ قَدْ شَغِفَهَا بِكَسْرِ الْغَيْنِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا شَغَفَهَا بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَيُقَالُ: إِنَّ الشَّغَافَ: الْجِلْدَةُ اللَّاصِقَةُ بِالْكَبِدِ الَّتِي لَا تُرَى، وَهِيَ الْجِلْدَةُ الْبَيْضَاءُ، فَكَأَنَّهُ لَصِقَ حُبُّهُ بِقَلْبِهَا كَلُصُوقِ الْجِلْدَةِ بِالْكَبِدِ، وَجُمْلَةُ إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا. وَالْمَعْنَى: إِنَّا لَنَرَاهَا، أَيْ: نَعْلَمُهَا فِي فِعْلِهَا هَذَا، وَهُوَ الْمُرَاوَدَةُ لِفَتَاهَا فِي ضَلَالٍ عَنْ طَرِيقِ الرُّشْدِ وَالصَّوَابِ مُبِينٍ وَاضِحٍ لَا يَلْتَبِسُ عَلَى مَنْ نَظَرَ فِيهِ فَلَمَّا سَمِعَتْ امرأة العزيز بِمَكْرِهِنَّ أي غيبتهنّ إِيَّاهَا، سُمِّيَتِ الْغِيبَةُ مَكْرًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِخْفَاءِ وقيل: أردن أن يتوصّلن بِذَلِكَ إِلَى رُؤْيَةِ يُوسُفَ، فَلِهَذَا سُمِّيَ قَوْلُهُنَّ مَكْرًا وَقِيلَ: إِنَّهَا أَسَرَّتْ عَلَيْهِنَّ فَأَفْشَيْنَ سِرَّهَا، فسمّي ذلك مَكْرًا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ أَيْ تَدْعُوهُنَّ إِلَيْهَا لِيَنْظُرْنَ إِلَى يُوسُفَ حَتَّى يَقَعْنَ فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً أَيْ هَيَّأَتْ لَهُنَّ مُجَالِسَ يَتَّكِئْنَ عَلَيْهَا، وَأَعْتَدَتْ مِنَ الِاعْتِدَادِ، وَهُوَ كُلُّ مَا جَعَلْتَهُ عُدَّةً لِشَيْءٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «مُتْكًا» مُخَفَّفًا غَيْرَ مَهْمُوزٍ، وَالْمُتْكُ: هُوَ الْأُتْرُجُّ بِلُغَةِ الْقِبْطِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَشْرَبُ الْإِثْمَ بِالصُّوَاعِ جِهَارًا ... وَتَرَى الْمُتْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارَا وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ هُوَ لُغَةُ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَقِيلَ: حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَخْفَشِ. وَقَالَ الفراء: إنه الزّماورد «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «مُتَّكَأً» بِالْهَمْزِ وَالتَّشْدِيدِ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ الْمَجْلِسُ، وَقِيلَ: هُوَ الطَّعَامُ، وَقِيلَ: الْمُتَّكَأُ: كُلُّ مَا اتُّكِئَ عَلَيْهِ عِنْدَ طعام أو شراب أو حديث. وحكى القتبي أَنَّهُ يُقَالُ اتَّكَأْنَا عِنْدَ فُلَانٍ، أَيْ: أَكَلْنَا، ومنه قول الشاعر «2» : فظلنا بِنِعْمَةٍ وَاتَّكَأْنَا ... وَشَرِبْنَا الْحَلَالَ مِنْ قُلَلِهْ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِشَيْءٍ يَأْكُلْنَهُ بَعْدَ أَنْ يُقَطِّعْنَهُ، وَالسِّكِّينُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّذْكِيرُ، وَالْمُرَادُ مِنْ إِعْطَائِهَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سِكِّينًا أَنْ يُقَطِّعْنَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّقْطِيعِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَيُمْكِنُ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِذَلِكَ مَا سَيَقَعُ مِنْهُنَّ مِنْ تَقْطِيعِ أَيْدِيهِنَّ وَقالَتِ لِيُوسُفَ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي هُنَّ عَلَيْهَا مِنَ الِاتِّكَاءِ وَالْأَكْلِ وَتَقْطِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّقْطِيعِ من الطعام. قوله: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أَيْ: عَظَّمْنَهُ، وَقِيلَ: أَمْذَيْنَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا مَا رَأَيْنَ الْفَحْلَ مِنْ فَوْقِ قُلَّةٍ ... صَهَلْنَ وَأَكْبَرْنَ الْمَنِيَّ الْمُقَطَّرَا «3»

_ (1) . «الزماورد» الرقاق الملفوف باللحم. (2) . هو جميل بن معمر. (3) . في تفسير القرطبي: إذا ما رأين الفحل من فوق قاره ... صهلن وأكبرن المني المدفقا «القلة» : الجبيل الصغير. [.....]

وَقِيلَ: حِضْنَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ. أَكْبَرْنَ بِمَعْنَى حِضْنَ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ يُقَالُ: أَكْبَرَتِ الْمَرْأَةُ أَيْ: دَخَلَتْ فِي الْكِبَرِ بِالْحَيْضِ، وَقَعَ مِنْهُنَّ ذَلِكَ دَهَشًا وَفَزَعًا لِمَا شَاهَدْنَهُ مِنْ جَمَالِهِ الْفَائِقِ، وَحُسْنِهِ الرَّائِقِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلَا ... نَأْتِي النِّسَاءَ إِذَا أَكْبَرْنَ إِكْبَارًا وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: لَيْسَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ أَكْبَرْنَهُ وَلَا يُقَالُ حِضْنَهُ، فَلَيْسَ الْإِكْبَارُ بِمَعْنَى الْحَيْضِ. وَأَجَابَ الْأَزْهَرِيُّ فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَاءَ الْوَقْفِ لَا هَاءَ الْكِنَايَةِ. وَقَدْ زُيِّفَ هَذَا بِأَنَّ هَاءَ الْوَقْفِ تَسْقُطُ فِي الْوَصْلِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ الْهَاءَ كِنَايَةٌ عَنْ مَصْدَرِ الْفِعْلِ، أَيْ: أَكْبَرْنَ إِكْبَارًا بِمَعْنَى حِضْنَ حَيْضًا وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أَيْ: جَرَحْنَهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَطْعُ الَّذِي تَبِينُ مِنْهُ الْيَدُ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْخَدْشُ وَالْحَزُّ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ: قَطَعَ يَدَ صَاحِبِهِ إِذَا خَدَشَهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَيْدِيَهُنَّ هُنَا: أَنَامِلُهُنَّ، وَقِيلَ: أَكْمَامُهُنَّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ يُوسُفُ عَلَيْهِنَّ أَعْظَمْنَهُ وَدُهِشْنَ وَرَاعَهُنَّ حُسْنُهُ حَتَّى اضْطَرَبَتْ أَيْدِيهِنَّ، فَوَقَعَ الْقَطْعُ عَلَيْهَا وَهُنَّ فِي شُغْلٍ عَنْ ذَلِكَ بِمَا دَهَمَهُنَّ مِمَّا تَطِيشُ عِنْدَهُ الْأَحْلَامُ، وَتَضْطَرِبُ لَهُ الْأَبْدَانُ، وَتَزُولُ بِهِ الْعُقُولُ وَقُلْنَ حَاشَا لِلَّهِ كَذَا قَرَأَ أبو عمرو ابن الْعَلَاءِ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي حَاشَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «حَاشْ لِلَّهِ» بِإِسْكَانِ الشِّينِ. وروي عنه أنه قرأ «حاش الإله» ، وقرأ ابن مسعود وأبيّ «حاشا الله» . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْحَاشِيَةِ بِمَعْنَى النَّاحِيَةِ، تَقُولُ: كُنْتُ فِي حَاشِيَةِ فُلَانٍ، أَيْ: فِي نَاحِيَتِهِ، فَقَوْلُكَ: حَاشَا لِزَيْدٍ مِنْ هَذَا، أَيْ: تَبَاعَدَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ مِنَ الْمُحَاشَاةِ، وَقِيلَ: إِنَّ حَاشَ حَرْفٌ. وَحَاشَا فِعْلٌ، وَكَلَامُ أَهْلِ النَّحْوِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَعْرُوفٌ، وَمَعْنَاهَا هُنَا التَّنْزِيهُ، كَمَا تَقُولُ: أَسَى الْقَوْمُ حَاشَا زَيْدًا، فَمَعْنَى حَاشَا لِلَّهِ: بَرَاءَةٌ لِلَّهِ وَتَنْزِيهٌ لَهُ. قَوْلُهُ: مَا هَذَا بَشَراً إِعْمَالُ «مَا» عَمَلَ لَيْسَ هِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَقَوْلِهِ سبحانه: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، وَأَمَّا بَنُو تَمِيمٍ فَلَا يُعْمِلُونَهَا عَمَلَ لَيْسَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصْلُهُ مَا هَذَا بِبَشَرٍ، فَلَمَّا حُذِفَتِ الْبَاءُ انْتَصَبَ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثعلب: إذا قلت ما زيد بِمُنْطَلِقٍ، فَمَوْضِعُ الْبَاءِ مَوْضِعُ نَصْبٍ، وَهَكَذَا سَائِرُ حُرُوفِ الْخَفْضِ. وَأَمَّا الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ فَقَدْ أَعْمَلُوهَا عَمَلَ لَيْسَ، وَبِهِ قَالَ الْبَصْرِيُّونَ، وَالْبَحْثُ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ بِشَوَاهِدِهِ وَحُجَجِهِ، وَإِنَّمَا نَفَيْنَ عَنْهُ الْبَشَرِيَّةَ لِأَنَّهُ قَدْ بَرَزَ فِي صُورَةٍ قَدْ لَبِسَتْ مِنَ الْجَمَالِ الْبَدِيعِ مَا لَمْ يُعْهَدْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَا أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ مَا يُقَارِبُهُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ الْبَشَرِيَّةِ ثُمَّ لَمَّا نَفَيْنَ عَنْهُ الْبَشَرِيَّةَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَثْبَتْنَ لَهُ الْمَلَكِيَّةَ وَإِنْ كُنَّ لَا يَعْرِفْنَ الْمَلَائِكَةَ لَكِنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الطِّبَاعِ أَنَّهُمْ عَلَى شَكْلٍ فَوْقَ شَكْلِ الْبَشَرِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَأَنَّهُمْ فَائِقُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ عَلَى الْعَكْسِ من ذلك، ومن هذا قول الشاعر «1» :

_ (1) . قال ابن السيرافي: هو أبو وجزة يمدح عبد الله بن الزبير. وقال أبو عبيدة: هو لرجل من عبد القيس، جاهلي يمدح بعض الملوك (لسان العرب) .

فَلَسْتُ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لَمَلْأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السماء يصوب وقرأ الحسن «ما هذا بشرى» عَلَى أَنَّ الْبَاءَ حَرْفُ جَرٍّ، وَالشِّينَ مَكْسُورَةٌ، أَيْ: مَا هَذَا بِعَبْدٍ يُشْتَرَى، وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا تُنَاسِبُ مَا بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِ النِّسْوَةِ هَذَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ صُوَرُهُمْ أَحْسَنُ مِنْ صُوَرِ بَنِي آدَمَ، فَإِنَّهُنَّ لَمْ يَقُلْنَهُ لِدَلِيلٍ، بَلْ حَكَمْنَ عَلَى الْغَيْبِ بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ الْمُرْتَكِزِ فِي طِبَاعِهِنَّ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «1» . وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِثْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي حُسْنِ تَقْوِيمِهِ وَكَمَالِ صُورَتِهِ، فَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ تَعَصُّبَاتِهِ لِمَا رَسَخَ فِي عَقْلِهِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ- أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ- لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ، فَمَا أَغْنَى عِبَادَ اللَّهِ عَنْهَا وَأَحْوَجَهُمْ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ مَسَائِلِ التَّكْلِيفِ قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى يُوسُفَ، وَالْخِطَابُ لِلنِّسْوَةِ، أَيْ: عَيَّرْتُنَّنِي فِيهِ. قَالَتْ لَهُنَّ هَذَا لَمَّا رَأَتِ افْتِتَانَهُنَّ بِيُوسُفَ إِظْهَارًا لِعُذْرِ نَفْسِهَا وَمَعْنَى فِيهِ: أَيْ فِي حُبِّهِ وَقِيلَ بالإشارة إِلَى الْحَبِّ، وَالضَّمِيرُ لَهُ أَيْضًا وَالْمَعْنَى: فَذَلِكَ الْحُبُّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ هُوَ ذَلِكَ الْحُبُّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَأَصْلُ اللَّوْمِ: الْوَصْفُ بِالْقَبِيحِ. ثُمَّ لَمَّا أَظْهَرَتْ عُذْرَ نَفْسِهَا عِنْدَ النِّسْوَةِ بِمَا شَاهَدَتْهُ مِمَّا وَقَعْنَ فِيهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ لَهُنَّ ضَاقَ صَدْرُهَا عَنْ كَتْمِ مَا تَجِدُهُ فِي قَلْبِهَا مِنْ حُبِّهِ، فَأَقَرَّتْ بِذَلِكَ وَصَرَّحَتْ بِمَا وَقَعَ مِنْهَا مِنَ الْمُرَاوَدَةِ لَهُ، فَقَالَتْ: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أَيِ اسْتَعَفَّ وَامْتَنَعَ مِمَّا أُرِيدُهُ طَالِبًا لِعِصْمَةِ نَفْسِهِ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَوَعَّدَتْهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا تُرِيدُهُ كَاشِفَةً لِجِلْبَابِ الْحَيَاءِ هَاتِكَةً لِسِتْرِ الْعَفَافِ، فَقَالَتْ: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ أَيْ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا قَدْ أَمَرَتْهُ بِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ ما غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ لَيُسْجَنَنَّ أَيْ: يُعْتَقَلُ فِي السِّجْنِ وَلَيَكُونَنَّ مِنَ الصَّاغِرِينَ الْأَذِلَّاءِ لِمَا يَنَالُهُ مِنَ الْإِهَانَةِ، وَيُسْلَبُ عَنْهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْعِزَّةِ فِي زَعْمِهَا، قُرِئَ «لَيَكُونَنَّ» بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ، قِيلَ: وَالتَّخْفِيفُ أَوْلَى لِأَنَّ النُّونَ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ أَلِفًا عَلَى حُكْمِ الْوَقْفِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخَفِيفَةِ، وَأَمَّا لَيُسْجَنَنَّ فَبِالتَّثْقِيلِ لَا غَيْرَ فَلَمَّا سَمِعَ يُوسُفُ مَقَالَهَا هَذَا، وَعَرَفَ أَنَّهَا عَزْمَةٌ مِنْهَا مَعَ مَا قَدْ عَلِمَهُ مِنْ نَفَاذِ قَوْلِهَا عِنْدَ زَوْجِهَا الْعَزِيزِ قَالَ مُنَاجِيًا لِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ رَبِّ السِّجْنُ أَيْ: يَا رَبِّ السَّجْنُ الَّذِي أَوْعَدَتْنِي هَذِهِ بِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنْ إتيانها وَالْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَذْهَبُ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخَرِةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ دُخُولُ السِّجْنِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ «السَّجْنُ» بِفَتْحِ السِّينِ، وَقَرَأَ كَذَلِكَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وعبد الرحمن الأعرج وَيَعْقُوبُ، وَهُوَ مَصْدَرُ سَجَنَهُ سَجْنًا، وَإِسْنَادُ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِنَّ جَمِيعًا لِأَنَّ النِّسْوَةَ رَغَّبْنَهُ فِي مُطَاوَعَتِهَا وَخَوَّفْنَهُ مِنْ مُخَالَفَتِهَا، ثُمَّ جَرَى عَلَى هَذَا فِي نِسْبَةِ الْكَيْدِ إِلَيْهِنَّ جَمِيعًا، فَقَالَ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَمَّا الْكَيْدُ مِنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فَمَا قَدْ قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا كَيْدُ سَائِرِ النِّسْوَةِ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّرْغِيبِ لَهُ فِي الْمُطَاوَعَةِ وَالتَّخْوِيفِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَخْلُو بِهِ وَحْدَهَا، وَتَقُولُ لَهُ: يَا يُوسُفُ اقْضِ لِي حَاجَتِي فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ

_ (1) . التين: 4.

مِنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَقِيلَ: إِنَّهُ خَاطَبَ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ بِمَا يَصْلُحُ لِخِطَابِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ تَعْظِيمًا لها، أو عدولا عن التصريح إلى التعريض، وَالْكَيْدُ: الِاحْتِيَالُ، وَجَزْمُ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَيْ: أَمَلْ إِلَيْهِنَّ، مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ وَاشْتَاقَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِلَى هِنْدٍ صَبَا قَلْبِي ... وَهِنْدٌ حُبُّهَا يُصْبِي «1» وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَصْبُ، أَيْ: أَكُنْ مِمَّنْ يَجْهَلُ مَا يَحْرُمُ ارْتِكَابُهُ وَيُقْدِمُ عليه، أو ممن يعمل عمل الجهال. قوله: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ لَمَّا قَالَ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَرُّضًا لِلدُّعَاءِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ اصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ، فَالِاسْتِجَابَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ هِيَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّهُ إِذَا صَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِمَّا رُمْنَهُ مِنْهُ، وَوَجْهُ إِسْنَادِ الْكَيْدِ قَدْ تَقَدَّمَ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ صَرْفِ كَيْدِ النِّسْوَةِ عَنْهُ، أَيْ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِدَعَوَاتِ الدَّاعِينَ لَهُ: الْعَلِيمُ بِأَحْوَالِ الْمُلْتَجِئِينَ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَدْ شَغَفَها قَالَ: غَلَبَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَدْ شَغَفَها قَالَ: قَتَلَهَا حُبُّ يُوسُفَ، الشَّغَفُ: الْحُبُّ القاتل، والشعف: حَبٌّ دُونَ ذَلِكَ، وَالشَّغَافُ: حِجَابُ الْقَلْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَدْ شَغَفَها قَالَ: قَدْ عَلَّقَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ قَالَ: بِحَدِيثِهِنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ قَالَ: بِعَمَلِهِنَّ، وَكُلُّ مَكْرٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ عَمَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً قَالَ: هَيَّأَتْ لَهُنَّ مَجْلِسًا، وَكَانَ سُنَّتُهُمْ إِذَا وَضَعُوا الْمَائِدَةَ أَعْطَوْا كُلَّ إِنْسَانٍ سِكِّينًا يَأْكُلُ بِهَا فَلَمَّا رَأَيْنَهُ قَالَ: فلما خرج عليهن يوسف أَكْبَرْنَهُ قال: أعظمته وَنَظَرْنَ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلْنَ يُحَزِّزْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِالسَّكَاكِينِ وَهُنَّ يَحْسَبْنَ أَنَّهُنَّ يُقَطِّعْنَ الطَّعَامَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً قَالَ: أَعْطَتْهُنَّ أُتْرُنْجًا، وَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا، فَلَمَّا رَأَيْنَ يُوسُفَ أَكْبَرْنَهُ، وَجَعَلْنَ يُقَطِّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَهُنَّ يَحْسَبْنَ أَنَّهُنَّ يُقَطِّعْنَ الْأُتْرُنْجَ. وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ الْمُتَّكَأُ: الْأُتْرُنْجُ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا خَفِيفَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن مجاهد مُتَّكَأً قَالَ: طَعَامًا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: هُوَ الْأُتْرُنْجُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ يُقْطَعُ بِالسِّكِّينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ مِنْ طريق عبد العزيز ابن الْوَزِيرِ بْنِ الْكُمَيْتِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ قال: أمنين، وأنشد:

_ (1) . الشاعر هو زيد بن ضبّة. وفي لسان العرب:........ وهند مثلها يصبي.

[سورة يوسف (12) : الآيات 35 إلى 40]

وَلَمَّا رَأَتْهُ الْخَيْلُ مِنْ رَأْسٍ شَاهِقٍ ... صَهَلْنَ وَأَمْنَيْنَ الْمَنِيَّ الْمُدَفَّقَا وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِنَّ يُوسُفُ حِضْنَ مِنَ الْفَرَحِ وَذَكَرَ قَوْلَ الشَّاعِرِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ: نَأْتِي النِّسَاءَ لَدَى أَطْهَارِهِنَّ .......... الْبَيْتَ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أبي حاتم وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَكْبَرْنَهُ قَالَ: أَعْظَمْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ قَالَ: حَزًّا بِالسِّكِّينِ حتى ألقينها وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَ: قُلْنَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ حُسْنِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَاتَ مِنَ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ تِسْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً كَمَدًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ شِطْرَ الْحُسْنِ» ، وَقَدْ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ فِي وَصْفِ حُسْنِ يُوسُفَ وَالْمُبَالِغَةِ فِي ذَلِكَ، فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أُعْطِيَ نِصْفَ الْحُسْنِ، وَفِي بَعْضِهَا ثُلُثَهُ، وَفِي بَعْضِهَا ثُلُثَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاسْتَعْصَمَ قَالَ: امْتَنَعَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فَاسْتَعْصَمَ قَالَ: فَاسْتَعْصَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ قَالَ: إِنْ لَا تَكُنْ مِنْكَ أَنْتَ الْقُوَى وَالْمَنَعَةُ لَا تَكُنْ مِنِّي وَلَا عِنْدِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ قَالَ: أَتَّبِعْهُنَّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أطاوعهنّ. [سورة يوسف (12) : الآيات 35 الى 40] ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) مَعْنَى بَدا لَهُمْ ظَهَرَ لَهُمْ، وَالضَّمِيرُ لِلْعَزِيزِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُدَبِّرُونَ الْأَمْرَ مَعَهُ وَيُشِيرُونَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فَاعِلُ بَدا لَهُمْ فَقَالَ سِيبَوَيْهِ هُوَ لَيَسْجُنُنَّهُ، أَيْ: ظَهَرَ لَهُمْ أَنْ يَسْجُنُوهُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْفَاعِلَ

لَا يَكُونُ جُمْلَةً، وَلَكِنَّ الْفَاعِلَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ «بَدَا» وَهُوَ الْمَصْدَرُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَحَقَّ لِمَنْ أَبُو مُوسَى أَبُوهُ ... يُوَفِّقُهُ الَّذِي نَصَبَ الْجِبَالَا أَيْ: وَحَقَّ الْحَقُّ، فَحَذَفَ الْفَاعِلَ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ هُوَ رَأَى أَيْ: وَظَهَرَ لَهُمْ رَأْيٌ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ مِنْ قَبْلُ، وَهَذَا الْفَاعِلُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ لَيَسْجُنُنَّهُ عَلَيْهِ، وَاللَّامُ فِي لَيَسْجُنُنَّهُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ قَائِلِينَ: وَاللَّهِ لَيَسْجُنُنَّهُ. وَقُرِئَ «لَتَسْجُنُنَّهُ» بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، إِمَّا لِلْعَزِيزِ وَمَنْ مَعَهُ، أَوْ لَهُ وَحْدَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ، وَالْآيَاتِ قِيلَ: هِيَ الْقَمِيصُ وَشَهَادَةُ الشَّاهِدِ وَقَطْعُ الْأَيْدِي وَقِيلَ: هِيَ الْبَرَكَاتُ الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ وُصُولِ يُوسُفَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يُجْدِ ذَلِكَ فِيهِمْ، بَلْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ هِيَ الْغَالِبَةُ عَلَى رَأْيِهِ، الْفَاعِلَةُ لِمَا يُطَابِقُ هَوَاهَا فِي يُوسُفَ، وَإِنْفَاذُ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا مِنَ الْوَعِيدِ لَهُ بِقَوْلِهَا: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ. قِيلَ: وَسَبَبُ ظُهُورِ هَذَا الرَّأْيِ لَهُمْ فِي سَجْنِ يُوسُفَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا سَتْرَ الْقَالَةِ، وَكَتْمَ مَا شَاعَ فِي النَّاسِ مِنْ قِصَّةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ مَعَهُ وَقِيلَ: إِنَّ الْعَزِيزَ قَصَدَ بِسَجْنِهِ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، لَمَّا عَلِمَ أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِمَكَانٍ مِنْ حُبِّهِ لَا تُبَالِي مَعَهُ بِحَمْلِ نَفْسِهَا عَلَيْهِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: حَتَّى حِينٍ إِلَى مُدَّةٍ غير معلومة كما قاله أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقِيلَ: إِلَى انْقِطَاعِ مَا شَاعَ فِي الْمَدِينَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِلَى سَبْعِ سِنِينَ، وَقِيلَ: إِلَى خَمْسٍ، وَقِيلَ: إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الْحِينِ، وَحَتَّى بِمَعْنَى إِلَى. قَوْلُهُ: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ فَسَجَنُوهُ، وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ، وَمَعَ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَفَتَيَانِ تَثْنِيَةُ فَتًى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا عَبْدَانِ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَتَى اسْمًا لِلْخَادِمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَحَدَهُمَا خَبَّازُ الْمَلِكِ، وَالْآخَرَ سَاقِيهِ، وَقَدْ كَانَا وَضَعَا لِلْمَلِكِ سُمًّا لَمَّا ضَمِنَ لَهُمَا أَهْلُ مِصْرَ مَالًا فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ السَّاقِيَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لِلْمَلِكِ: لَا تَأْكُلِ الطَّعَامَ فَإِنَّهُ مَسْمُومٌ، وَقَالَ الْخَبَّازُ: لَا تَشْرَبْ فَإِنَّ الشَّرَابَ مَسْمُومٌ، فَقَالَ الْمَلِكُ لِلسَّاقِي: اشْرَبْ فَشَرِبَ فَلَمْ يَضُرَّهُ، وَقَالَ لِلْخَبَّازِ: كُلْ، فَأَبَى، فَجَرَّبَ الطَّعَامَ عَلَى حَيَوَانٍ فَهَلَكَ مَكَانَهُ فَحَبَسَهُمَا، وَكَانَ دُخُولُهُمَا السِّجْنَ مَعَ دُخُولِ يُوسُفَ، وَقِيلَ: قَبْلَهُ، وَقِيلَ: بَعْدَهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّهُمَا سَأَلَا يُوسُفَ عَنْ عِلْمِهِ فَقَالَ: إِنِّي أَعْبُرُ الرُّؤْيَا، فَسَأَلَاهُ عَنْ رُؤْيَاهُمَا كَمَا قَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً أَيْ رَأَيْتُنِي، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ. وَالْمَعْنَى: إِنِّي أراني أعصر عنبا، فسمّاه باسم ما يؤول إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعَصْرِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَعْصِرُ عِنَبًا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَخْبَرَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَقِيَ أَعْرَابِيًّا وَمَعَهُ عِنَبٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا مَعَكَ؟ فَقَالَ: خَمْرٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى أَعْصِرُ خَمْرًا أَيْ: عِنَبَ خَمْرٍ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَهَذَا الَّذِي رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا هُوَ السَّاقِي، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ، وَكَذَلِكَ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ: وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً ثُمَّ وَصَفَ الْخُبْزَ هَذَا بِقَوْلِهِ: تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ وَهَذَا الرَّائِي لِهَذِهِ الرُّؤْيَا هُوَ الْخَبَّازُ، ثُمَّ قَالَا لِيُوسُفَ جَمِيعًا بَعْدَ أَنْ قَصَّا رُؤْيَاهُمَا عَلَيْهِ: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أَيْ بِتَأْوِيلِ مَا قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ مِنْ مَجْمُوعِ الْمَرْئَيَيْنِ، أَوْ بتأويل

الْمَذْكُورِ لَكَ مِنْ كَلَامِنَا، وَقِيلَ: إِنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَقِبَ قَصِّ رُؤْيَاهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى مَا رَآهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي بِتَأْوِيلِهِ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالتَّقْدِيرُ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أَيْ مِنَ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ عِبَارَةَ الرُّؤْيَا، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ مَعْنَى مِنَ الْمُحْسِنِينَ مِنَ الْعَالِمِينَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الْعِلْمَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: مِنَ الْمُحْسِنِينَ إِلَيْنَا إِنْ فَسَّرْتَ ذَلِكَ أَوْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إِلَى أَهْلِ السِّجْنِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، وَجُمْلَةُ قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الْغَيْبِ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِيهِمَا إِلَى السِّجْنِ طَعَامٌ إِلَّا أَخْبَرَهُمَا بِمَاهِيَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمَا، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ جَوَابِ سُؤَالِهِمَا تَعْبِيرَ مَا قَصَّاهُ عَلَيْهِ، بَلْ جَعَلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُقَدِّمَةً قَبْلَ تَعْبِيرِهِ لِرُؤْيَاهُمَا بَيَانًا لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ فِي الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُعْبِرِينَ الَّذِينَ يَعْبُرُونَ الرُّؤْيَا عَنْ ظَنٍ وَتَخْمِينٍ، فَهُوَ كَقَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ «1» وَإِنَّمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمَا بِهَذَا ليحصل الانقياد منهما لَهُ فِيمَا يَدْعُوهُمَا إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْكُفْرِ وَمَعْنَى تُرْزَقَانِهِ: يَجْرِي عَلَيْهِمَا مِنْ جِهَةِ الْمَلِكِ أَوْ غَيْرِهِ، والجملة صفة الطعام، أَوْ يَرْزُقُكُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: لَا يَأْتِيَكُمَا طَعَامٌ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا حَالَ مَا نَبَّأْتُكُمَا، أَيْ: بَيَّنْتُ لَكُمَا مَاهِيَّتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا، وَسَمَّاهُ تَأْوِيلًا بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، أو المعنى: إلا نبأتكما بما يؤول إليه الكلام من مطابقة ما أخبر كما بِهِ لِلْوَاقِعِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُما إِلَى التَّأْوِيلِ، وَالْخِطَابُ لِلسَّائِلِينَ لَهُ عَنْ تَعْبِيرِ رُؤْيَاهُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بِمَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ وَأَلْهَمَنِي إِيَّاهُ لَا مِنْ قَبِيلِ الْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ فِيهِ الْخَطَأُ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمَا أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي نَالَهُ مِنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ الْعَلِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْجَمَّةِ هُوَ بِسَبَبِ تَرْكِ الْمِلَّةِ الَّتِي لَا يُؤْمِنُ أَهْلُهَا بِاللَّهِ وَلَا بِالْآخِرَةِ وَاتِّبَاعِهِ لِمِلَّةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ آبَائِهِ فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ يَتَضَمَّنُ التَّعْلِيلَ لِمَا قَبْلَهُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّرْكِ هُوَ عَدَمُ التَّلَبُّسِ بِذَلِكَ مِنَ الْأَصْلِ، لَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ تَلَبَّسَ بِهِ، ثُمَّ تَرَكَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَصَلُّبِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَتَهَالُكِهِمْ عَلَيْهِ. فَقَالَ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أَيْ: هُمْ مُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ لِإِفْرَاطِهِمْ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَاتَّبَعْتُ مَعْطُوفٌ عَلَى تركت، مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَسَمَّاهُمْ آبَاءً جَمِيعًا لِأَنَّ الْأَجْدَادَ آبَاءٌ، وَقَدَّمَ الْجَدَّ الْأَعْلَى، ثُمَّ الْجَدَّ الْأَقْرَبَ ثُمَّ الْأَبَ لِكَوْنِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ أَصْلُ هَذِهِ الْمِلَّةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَوْلَادُهُ، ثُمَّ تَلَقَّاهَا عَنْهُ إِسْحَاقُ ثُمَّ يَعْقُوبُ، وَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِتَرْغِيبِ صَاحِبَيْهِ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ أَيْ مَا صَحَّ لَنَا ذَلِكَ فَضْلًا عَنْ وُقُوعِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَنَا لَهُ وَلِلْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ مَا كَانَ لَنَا أن نشرك بالله، ومِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا خَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ: نَاشِئٌ مَنَّ تَفَضُّلَاتِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَلُطْفِهِ بِنَا بِمَا جَعَلَهُ لَنَا مِنَ النُّبُوَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْعِصْمَةِ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَمِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً بِبَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَيْهِمْ، وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ، وتبيين

_ (1) . آل عمران: 49.

طَرَائِقِ الْحَقِّ لَهُمْ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُوَحِّدُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِمَا شرعه لهم. قوله: يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ جَعَلَهُمَا مُصَاحِبَيْنِ لِلسِّجْنِ لِطُولِ مُقَامِهِمَا فِيهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: يَا صَاحِبَيَّ فِي السِّجْنِ لِأَنَّ السِّجْنَ لَيْسَ بِمَصْحُوبٍ بَلْ مَصْحُوبٍ فِيهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ: يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ النَّارِ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ مَعَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَمَعْنَى التَّفَرُّقِ هُنَا هُوَ التَّفَرُّقُ فِي الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْعَدَدِ، أَيْ: هَلِ الْأَرْبَابُ الْمُتَفَرِّقُونَ فِي ذَوَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفُونَ فِي صِفَاتِهِمُ الْمُتَنَافُونَ فِي عَدَدِهِمْ خَيْرٌ لَكُمَا يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ، أَمِ اللَّهُ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ الْمُتَفَرِّدُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الَّذِي لَا ضِدَّ لَهُ وَلَا نِدَّ وَلَا شَرِيكَ، الْقَهَّارُ الَّذِي لَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ وَلَا يُعَانِدُهُ مُعَانِدٌ؟ أَوْرَدَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صَاحِبَيِ السِّجْنِ هَذِهِ الْحُجَّةَ الْقَاهِرَةَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّهُمَا كَانَا مِمَّنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا أَصْنَامٌ يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ أَنْ خَاطَبَهُمَا بِهَذَا الْخِطَابِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمَا: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَيْ: إِلَّا أَسْمَاءً فَارِغَةً سَمَّيْتُمُوهَا وَلَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا، وَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ لَهَا مُسَمَّيَاتٍ، وَهِيَ الْآلِهَةُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا، لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ لَا تَسْتَحِقُّ التَّسْمِيَةَ بِذَلِكَ صَارَتِ الْأَسْمَاءُ كَأَنَّهَا لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا مُسَمَّيَاتِ أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ، وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الْإِلَهِيَّةِ شَيْءٌ إِلَّا مُجَرَّدُ الْأَسْمَاءِ لِكَوْنِهَا جَمَادَاتٍ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَإِنَّمَا قَالَ: مَا تَعْبُدُونَ عَلَى خِطَابِ الْجَمْعِ وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ لِأَنَّهُ قَصَدَ خِطَابَ صَاحِبَيِ السِّجْنِ وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ، وَمَفْعُولُ سَمَّيْتُمُوهَا الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ: سَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها أَيْ بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ مِنْ سُلْطانٍ مِنْ حُجَّةٍ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَيْ مَا الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا مَعْبُودَةً بِدُونِ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَجُمْلَةُ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِتَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا تَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَعْبُودٌ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ هِيَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا دِينَ غَيْرُهُ فَقَالَ: ذلِكَ أَيْ تَخْصِيصُهُ بِالْعِبَادَةِ الدِّينُ الْقَيِّمُ أَيِ: الْمُسْتَقِيمُ الثَّابِتُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ دِينُهُ القويم، وصراطه المستقيم، لجهلهم وبعدهم عَنِ الْحَقَائِقِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَأَلَتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ فَقَالَ: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ قَبْلَكَ، مِنَ الْآيَاتِ: قَدُّ الْقَمِيصِ، وَأَثَرُهَا فِي جَسَدِهِ، وَأَثَرُ السِّكِّينِ، وَقَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: إِنْ أَنْتَ لَمْ تَسْجُنْهُ لَيُصَدِّقَنَّهُ النَّاسُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: مِنَ الْآيَاتِ كَلَامُ الصَّبِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْآيَاتُ حَزُّهُنَّ أَيْدِيَهُنَّ، وَقَدُّ الْقَمِيصِ. وَأَقُولُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى بَرَاءَتِهِ فَلَا يَصِحُّ عَدُّ قَطْعِ أَيْدِي النِّسْوَةِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُنَّ ذَلِكَ لِمَا حَصَلَ لَهُنَّ مِنَ الدَّهْشَةِ عِنْدَ ظُهُورِهِ لَهُنَّ، مَعَ مَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْجَمَالِ الَّذِي تَنْقَطِعُ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ عُرَى الصَّبْرِ وَتَضْعُفُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ قُوَى التَّجَلُّدِ، وَإِنْ كَانَ المراد الآيات الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ

الْحُسْنِ مَا يَسْلُبُ عُقُولَ الْمُبْصِرِينَ، وَيَذْهَبُ بِإِدْرَاكِ النَّاظِرِينَ، فَنَعَمْ يَصِحُّ عَدُّ قَطْعِ الْأَيْدِي مِنْ جملة الآيات، ولكن ليست هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الْمُرَادَّةُ هُنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عُوقِبَ يُوسُفُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَمَّا أَوَّلُ مَرَّةٍ فَبِالْحَبْسِ لِمَا كَانَ مِنْ هَمِّهِ بِهَا، وَالثَّانِيَةُ لِقَوْلِهِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ «1» عُوقِبَ بِطُولِ الْحَبْسِ، وَالثَّالِثَةُ حَيْثُ قَالَ: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ «2» ، فَاسْتَقْبَلَ فِي وَجْهِهِ إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ «3» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما خَازِنُ الْمَلِكِ عَلَى طَعَامِهِ، وَالْآخَرُ سَاقِيهِ عَلَى شَرَابِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً قَالَ: عِنَبًا. وَأَخْرُجُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ قَالَ: عِبَارَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ: كَانَ إِحْسَانُهُ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ يعزّي حزينهم، ويداوي مريضهم، ورأوا مِنْهُ عِبَادَةً وَاجْتِهَادًا فَأَحَبُّوهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشعب، عن الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَ إِحْسَانُهُ أَنَّهُ إِذَا مَرِضَ إِنْسَانٌ فِي السِّجْنِ قَامَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ضَاقَ عَلَيْهِ الْمَكَانُ أَوْسَعَ لَهُ، وَإِذَا احْتَاجَ جَمَعَ لَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَا يُوسُفُ لِأَهْلِ السِّجْنِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُعَمِّ عَلَيْهِمُ الْأَخْبَارَ، وَهَوِّنْ عَلَيْهِمْ مَرَّ الْأَيَّامِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن جرير فِي قَوْلِهِ: لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ الْآيَةَ قَالَ: كَرِهَ الْعِبَارَةَ لَهُمَا فَأَجَابَهُمَا بِغَيْرِ جَوَابِهِمَا لِيُرِيَهُمَا أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا، وَكَانَ الْمَلِكُ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ إِنْسَانٍ صَنَعَ لَهُ طَعَامًا مَعْلُومًا فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ يُوسُفُ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَى قَوْلِهِ: يَشْكُرُونَ فَلَمْ يَدْعَهُ صَاحِبَا الرُّؤْيَا حَتَّى يَعْبُرَ لَهُمَا، فَكَرِهَ الْعِبَارَةَ فَقَالَ: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ: فَلَمْ يَدَعَاهُ فَعَبَرَ لَهُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَشْكُرُ مَا بِهِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَيَشْكُرُ مَا بِالنَّاسِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُولُ: يَا رُبَّ شَاكِرِ نِعْمَةٍ غَيْرِ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ لَا يَدْرِي، وَيَا رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ الْآيَةَ قَالَ: لَمَّا عَرَفَ يُوسُفُ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَقْتُولٌ دَعَاهُمَا إِلَى حَظِّهِمَا مِنْ رَبِّهِمَا وَإِلَى نَصِيبِهِمَا مِنْ آخِرَتِهِمَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ قال: العدل، فقال:

_ (1) . يوسف: 42. (2) . يوسف: 70. (3) . يوسف: 77.

[سورة يوسف (12) : الآيات 41 إلى 42]

[سورة يوسف (12) : الآيات 41 الى 42] يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) هَذَا هُوَ بَيَانُ مَا طَلَبَاهُ مِنْهُ مِنْ تَعْبِيرِ رُؤْيَاهُمَا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَمَّا أَحَدُكُما هُوَ السَّاقِي، وَإِنَّمَا أَبْهَمَهُ لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا، أَوْ لِكَرَاهَةِ التَّصْرِيحِ لِلْخَبَّازِ بِأَنَّهُ الَّذِي سَيُصْلَبُ فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً أَيْ مَالِكَهُ، وَهِيَ عُهْدَتُهُ الَّتِي كَانَ قَائِمًا بِهَا فِي خِدْمَةِ الْمَلِكِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا السَّاقِي فَسَتَعُودُ إِلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ وَيَدْعُو بِكَ الْمَلِكُ وَيُطْلِقُكَ مِنَ الْحَبْسِ وَأَمَّا الْآخَرُ وَهُوَ الْخَبَّازُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ تَعْبِيرًا لِمَا رَآهُ مِنْ أَنَّهُ يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ خُبْزًا فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ وَهُوَ مَا رَأَيَاهُ وَقَصَّاهُ عَلَيْهِ، يُقَالُ اسْتَفْتَاهُ: إِذَا طَلَبَ مِنْهُ بَيَانَ حُكْمِ شَيْءٍ سَأَلَهُ عَنْهُ مِمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ، وَهُمَا قَدْ سَأَلَاهُ تَعْبِيرَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمَا مِنَ الرُّؤْيَا وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا أَيْ قَالَ يُوسُفُ، وَالظَّانُّ هُوَ أَيْضًا يُوسُفُ، وَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ الْعِلْمُ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنَ الرُّؤْيَا نَجَاةَ الشَّرَّابِيِّ وَهَلَاكَ الْخَبَّازِ، هَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ عَلَى مَعْنَاهُ، لِأَنَّ عَابِرَ الرُّؤْيَا إِنَّمَا يَظُنُّ ظَنًّا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَنْسَبُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ قَدْ أَطْلَعَهُ الله على شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ «1» الْآيَةَ وَجُمْلَةُ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ هِيَ مَقُولُ الْقَوْلِ، أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ سَيِّدِهِ، وَيَصِفَهُ بِمَا شَاهَدَهُ مِنْهُ مِنْ جَوْدَةِ التَّعْبِيرِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَادِرَةً عَنْ ذُهُولٍ وَنِسْيَانٍ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِسَبَبِ الشَّيْطَانِ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي أَنْسَاهُ عَائِدًا إِلَى يُوسُفَ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِرَبِّهِ فِي قَوْلِهِ: ذِكْرَ رَبِّهِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، أَيْ: إِنْسَاءُ الشَّيْطَانِ يُوسُفَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَالِ وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا يَذْكُرُهُ عِنْدَ سَيِّدِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِانْتِبَاهِهِ عَلَى مَا أَوْقَعَهُ مِنَ الظُّلْمِ الْبَيِّنِ عَلَيْهِ بِسَجْنِهِ بَعْدَ أَنْ رَأَى مِنَ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَتِهِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ هُوَ الَّذِي نَجَا مِنَ الْغُلَامَيْنِ وَهُوَ الشَّرَّابِيُّ، وَالْمَعْنَى: إِنْسَاءُ الشَّيْطَانِ الشَّرَّابِيَّ ذِكْرَ سَيِّدِهِ أَيْ: ذِكْرَهُ لِسَيِّدِهِ فَلَمْ يُبَلِّغْ إِلَيْهِ ما أوصاه به يوسف من ذِكْرِهِ عِنْدَ سَيِّدِهِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ إِخْبَارِهِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ يُوسُفُ مَعَ خُلُوصِهِ مِنَ السِّجْنِ وَرُجُوعِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِسَقْيِ الْمَلِكِ، وَقَدْ رُجِّحَ هَذَا بِكَوْنِ الشَّيْطَانِ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ النِّسْيَانَ وَقَعَ مِنْ يُوسُفَ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَالْأَنْبِيَاءُ غَيْرُ مَعْصُومِينَ عَنِ النِّسْيَانِ إِلَّا فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» . وَرُجِّحَ أَيْضًا بِأَنَّ النِّسْيَانَ لَيْسَ بِذَنْبٍ، فَلَوْ كَانَ الَّذِي أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ هُوَ يُوسُفُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى ذَلِكَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ النِّسْيَانَ هُنَا بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَأَنَّهُ عُوقِبَ بِسَبَبِ اسْتِعَانَتِهِ بِغَيْرِ الله

_ (1) . يوسف: 37.

سُبْحَانَهُ، وَيُؤَيِّدُ رُجُوعَ الضَّمِيرِ إِلَى يُوسُفَ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَيُؤَيِّدُ رُجُوعَهُ إِلَى الَّذِي نَجَا مِنَ الْغُلَامَيْنِ قَوْلُهُ فِيمَا سَيَأْتِي وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ سَنَةٍ فَلَبِثَ أَيْ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ لِلَّذِي نَجَا مِنَ الْغُلَامَيْنِ، أَوْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِنْسَاءِ بِضْعَ سِنِينَ الْبِضْعُ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ كَمَا حَكَاهُ الْهَرَوِيُّ عَنِ الْعَرَبِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ الْبِضْعَ: مَا دُونَ نِصْفِ الْعِقْدِ، يَعْنِي مَا بَيْنَ وَاحِدٍ إِلَى أَرْبَعَةٍ وَقِيلَ: مَا بَيْنَ ثَلَاثٍ إِلَى سَبْعٍ، حَكَاهُ قُطْرُبٌ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى الْخَمْسِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ في تعيين قدر المدّة التي لبث فيها يُوسُفُ فِي السِّجْنِ فَقِيلَ: سَبْعُ سِنِينَ، وَقِيلَ: ثِنْتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسُ سِنِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: أَمَّا أَحَدُكُما قَالَ: أَتَاهُ فَقَالَ: رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنِّي غرست حبة مِنْ عِنَبٍ فَنَبَتَتْ، فَخَرَجَ فِيهِ عَنَاقِيدُ فَعَصَرْتُهُنَّ ثُمَّ سَقَيْتُهُنَّ الْمَلِكَ فَقَالَ: تَمْكُثُ فِي السِّجْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتَسْقِيهِ خَمْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا رَأَى صَاحِبَا يُوسُفَ شَيْئًا، إِنَّمَا تَحَالَمَا لِيُجَرِّبَا عِلْمَهُ، فَلَمَّا أَوَّلَ رُؤْيَاهُمَا قَالَا: إِنَّمَا كُنَّا نَلْعَبُ وَلَمْ نَرَ شَيْئًا، فَقَالَ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ يَقُولُ: وَقَعَتِ الْعِبَارَةُ فَصَارَ الْأَمْرُ عَلَى مَا عَبَّرَ يُوسُفُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُ اللَّذَيْنِ قَصَّا عَلَى يُوسُفَ الرُّؤْيَا كَاذِبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ سَابَاطَ وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ قَالَ: عِنْدَ مَلِكِ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْعُقُوبَاتِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ حَيْثُ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أبو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُوحِيَ إِلَى يُوسُفَ: مَنِ اسْتَنْقَذَكَ مِنَ الْقَتْلِ حِينَ هَمَّ إِخْوَتُكَ أَنْ يَقْتُلُوكَ؟ قَالَ: أَنْتَ يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَنِ اسْتَنْقَذَكَ مِنَ الْجُبِّ إِذْ أَلْقَوْكَ فِيهِ؟ قَالَ: أَنْتَ يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَنِ اسْتَنْقَذَكَ مِنَ الْمَرْأَةِ إِذْ هَمَّتْ بِكَ؟ قَالَ: أَنْتَ يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَا لَكَ نَسِيتَنِي وَذَكَرْتَ آدَمِيًّا؟ قَالَ: جَزَعًا وَكَلِمَةٌ تَكَلَّمَ بِهَا لِسَانِي، قَالَ: فَوَعِزَّتِي لِأُخَلِّدَنَّكَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، فَلَبِثَ فِيهِ سَبْعَ سِنِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَقْدِيرِ مُدَّةِ لُبْثِهِ فِي السِّجْنِ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، فَلَمْ نَشْتَغِلْ ها هنا بذكر من قال بذلك ومن خرّجه.

[سورة يوسف (12) : الآيات 43 إلى 49]

[سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) الْمُرَادُ بِالْمَلِكِ هُنَا: هُوَ الْمَلِكُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ الَّذِي كَانَ الْعَزِيزُ وَزِيرًا لَهُ، رَأَى فِي نَوْمِهِ لَمَّا دَنَا فَرَجُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ نَهْرٍ يَابِسٍ سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ جَمْعُ سَمِينٍ وَسَمِينَةٍ، فِي إِثْرِهِنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ، أَيْ: مَهَازِيلُ، وَقَدْ أَقْبَلَتِ الْعِجَافُ عَلَى السِّمَانِ فَأَكَلَتْهُنَّ. وَالْمَعْنَى: إِنِّي رَأَيْتُ، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَأْكُلُهُنَّ عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ لِلِاسْتِحْضَارِ، وَالْعِجَافُ جَمْعُ عَجْفَاءَ، وَقِيَاسُ جَمْعِهِ عُجُفٌ لِأَنَّ فَعْلَاءَ وَأَفْعَلَ لَا تُجْمَعُ عَلَى فِعَالٍ، وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْقِيَاسِ حَمْلًا عَلَى سِمَانٍ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ مَعْطُوفٌ عَلَى سَبْعَ بَقَراتٍ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: خُضْرٍ أَنَّهُ قَدِ انْعَقَدَ حبها، واليابسات التي قد بلغت حدّ الْحَصَادَ. وَالْمَعْنَى: وَأَرَى سَبْعًا أُخَرَ يَابِسَاتٍ، وَكَانَ قَدْ رَأَى أَنَّ السَّبْعَ السُّنْبُلَاتِ الْيَابِسَاتِ قَدْ أَدْرَكَتِ الْخُضْرَ وَالْتَوَتْ عَلَيْهَا حَتَّى غَلَبَتْهَا، وَلَعَلَّ عَدَمَ التَّعَرُّضِ لِذِكْرِ هَذَا فِي النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات يا أَيُّهَا الْمَلَأُ خِطَابٌ لِلْأَشْرَافِ مِنْ قَوْمِهِ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ أَيْ: أَخْبَرُونِي بِحُكْمِ هَذِهِ الرُّؤْيَا إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ أَيْ: تَعْلَمُونَ عِبَارَةَ الرُّؤْيَا، وَأَصْلُ الْعِبَارَةِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ عُبُورِ النَّهْرِ، فَمَعْنَى عَبَرْتُ النَّهْرَ: بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يخبر بما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّامُ فِي لِلرُّؤْيَا لِلتَّبْيِينِ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْبُرُونَ، ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ: «لِلرُّؤْيَا» ، وَقِيلَ: هُوَ لِلتَّقْوِيَةِ، وَتَأْخِيرُ الْفِعْلِ الْعَامِلِ فِيهِ لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ، وَجُمْلَةُ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالْأَضْغَاثُ: جَمْعُ ضِغْثٍ، وَهُوَ كُلُّ مُخْتَلِطٍ مِنْ بَقْلٍ أَوْ حشيش أو غيرهما والمعنى: أخاليط أحلام، والأحلام: جَمْعُ حُلْمٍ وَهِيَ الرُّؤْيَا الْكَاذِبَةُ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا كَمَا يَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ، وَالْإِضَافَةُ بِمَعْنَى مِنْ، وَجَمَعُوا الْأَحْلَامَ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلِكِ إِلَّا رُؤْيَا وَاحِدَةٌ مُبَالَغَةً مِنْهُمْ فِي وَصْفِهَا بِالْبُطْلَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأَى مَعَ هَذِهِ الرُّؤْيَا غَيْرَهَا مِمَّا لَمْ يَقُصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ الْمُخْتَلِطَةِ، نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ عِلْمَ مَا لَا تَأْوِيلَ لَهُ، لَا مُطْلَقَ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ وَقِيلَ: إنهم نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ عِلْمَ التَّعْبِيرِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَدَّعُوا أَنَّهُ لَا تَأْوِيلَ لِهَذِهِ الرُّؤْيَا وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَصَدُوا مَحْوَهَا مَنْ صَدْرِ الْمَلِكِ حَتَّى لَا يَشْتَغِلَ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرُوهُ مَنْ نَفْيِ الْعِلْمِ حَقِيقَةً وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما أَيْ: مِنَ الْغُلَامَيْنِ، وَهُوَ السَّاقِي الَّذِي قال له يوسف: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَهِيَ الْقِرَاءَةُ

الْفَصِيحَةُ، أَيْ: تَذَكَّرَ السَّاقِي يُوسُفَ وَمَا شَاهَدَهُ مِنْهُ مِنَ الْعِلْمِ بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا. وَقُرِئَ بِالْمُعْجَمَةِ وَمَعْنَى بَعْدَ أُمَّةٍ: بَعْدَ حِينٍ، وَمِنْهُ: إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ «1» أَيْ: إِلَى وَقْتٍ. قَالَ ابْنِ دَرَسْتُوَيْهِ: وَالْأُمَّةُ لَا تَكُونُ عَلَى الْحِينِ إِلَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَادَّكَرَ بَعْدَ حِينِ أُمَّةٍ أَوْ بَعْدَ زَمَنِ أُمَّةٍ، وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ فِي اللَّفْظِ وَاحِدٌ، وَفِي الْمَعْنَى جَمْعٌ، وَكُلُّ جِنْسٍ مِنَ الْحَيَوَانِ أُمَّةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ «بَعْدَ أَمَةٍ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ: أَيْ بَعْدَ نِسْيَانٍ، ومنه قول الشاعر: أممت «2» وكنت لا أنسى حَدِيثًا ... كَذَاكَ الدَّهْرُ يُودِي بِالْعُقُولِ وَيُقَالُ: أَمَهَ يَأْمَهُ أَمْهًا: إِذَا نَسِيَ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ «بَعْدَ إِمَّةٍ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ بَعْدَ نِعْمَةٍ وَهِيَ نِعْمَةُ النَّجَاةِ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أَيْ أُخْبِرُكُمْ بِهِ بِسُؤَالِي عَنْهُ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِتَأْوِيلِهِ، وَهُوَ يُوسُفُ فَأَرْسِلُونِ خَاطَبَ الْمَلِكَ بِلَفْظِ التَّعْظِيمِ، أَوْ خَاطَبَهُ وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَلَأِ، طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُرْسِلُوهُ إِلَى يُوسُفَ لِيَقُصَّ عَلَيْهِ رُؤْيَا الْمَلِكِ حَتَّى يُخْبِرَهُ بِتَأْوِيلِهَا فَيَعُودَ بِذَلِكَ إِلَى الْمَلِكِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا أَيْ: يَا يُوسُفُ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَرْسَلُوهُ إِلَى يُوسُفَ فَسَارَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ إِلَى آخَرِ الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى: أَخْبِرْنَا فِي رُؤْيَا مَنْ رَأَى سَبْعَ بقرات إلخ وترك ذكر ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِمَا هُوَ وَاثِقٌ بِهِ مِنْ فَهْمِ يُوسُفَ بِأَنَّ ذَلِكَ رُؤْيَا، وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ تَعْبِيرُهَا لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أَيْ: إِلَى الْمَلِكِ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمَلَأِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا تَأْتِي بِهِ مِنْ تَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا أَوْ يَعْلَمُونَ فَضْلَكَ وَمَعْرِفَتَكَ لِفَنِّ التَّعْبِيرِ، وَجُمْلَةُ قالَ تَزْرَعُونَ إِلَخ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَغَيْرِهَا مِمَّا يَرِدُ هَذَا الْمَوْرِدَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أَيْ مُتَوَالِيَةً مُتَتَابِعَةً، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وقيل: هو الحال، أَيْ: دَائِبِينَ، وَقِيلَ: صِفَةٌ لِسَبْعٍ، أَيْ: دَائِبَةً، وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ يَعْقُوبَ أَنَّهُ قَرَأَ دَأَباً بِتَحْرِيكِ الْهَمْزَةِ، وَكَذَا رَوَى حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: حُرِّكَ لِأَنَّ فِيهِ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ حَرْفٍ فُتِحَ أَوَّلُهُ وَسُكِّنَ ثَانِيهِ فَتَثْقِيلُهُ جَائِزٌ فِي كَلِمَاتٍ مَعْرُوفَةٍ. فَعَبَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ السَّبْعَ الْبَقَرَاتِ السِّمَانِ بِسَبْعِ سِنِينَ فِيهَا خِصْبٌ، وَالْعِجَافَ بِسَبْعِ سِنِينَ فِيهَا جَدْبٌ، وَهَكَذَا عَبَرَ السَّبْعَ السُّنْبُلَاتِ الْخُضْرَ وَالسَّبْعَ السُّنْبُلَاتِ الْيَابِسَاتِ، وَاسْتَدَلَّ بِالسَّبْعِ السُّنْبُلَاتِ الْخُضْرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي التَّعْبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ أَيْ مَا حَصَدْتُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الْمُخْصِبَةِ فَذَرُوا ذَلِكَ الْمَحْصُودَ فِي سُنْبُلِهِ وَلَا تَفْصِلُوهُ عَنْهَا لِئَلَّا يَأْكُلَهُ السُّوسُ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْمُخْصِبَةِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ فَصْلِهِ عَنْ سُنْبُلِهِ وَإِخْرَاجِهِ عَنْهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْمَأْكُولِ دُونَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْبِذْرِ الَّذِي يَبْذُرُونَهُ فِي أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَزْرَعُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ مِنْ بَعْدِ السَّبْعِ السِّنِينَ الْمُخْصِبَةِ سَبْعٌ شِدادٌ أَيْ سَبْعُ سِنِينَ مُجْدِبَةٌ يَصْعُبُ أَمْرُهَا عَلَى النَّاسِ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ مِنْ تِلْكَ الْحُبُوبِ الْمَتْرُوكَةِ فِي سَنَابِلِهَا، وَإِسْنَادُ الْأَكْلِ إِلَى السِّنِينَ مَجَازٌ، وَالْمَعْنَى: يَأْكُلُ النَّاسُ فيهنّ أو يأكل أهلهنّ ما

_ (1) . هود: 8. (2) . في تفسير القرطبي (9/ 201) : أمهت.

قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ، أَيْ: مَا ادَّخَرْتُمْ لِأَجْلِهِنَّ فَهُوَ مِنْ بَابِ: نَهَارُهُ صَائِمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازَمُ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أَيْ مِمَّا تَحْبِسُونَ مِنَ الْحَبِّ لِتَزْرَعُوا بِهِ لِأَنَّ فِي اسْتِبْقَاءِ الْبِذْرِ تَحْصِينَ الْأَقْوَاتِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى تُحْصِنُونَ: تُحْرِزُونَ، وَقِيلَ: تَدَّخِرُونَ، والمعنى واحد. قوله: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أَيْ مِنْ بَعْدِ السِّنِينَ الْمِجْدِبَاتِ، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا، وَالْعَامِ السَّنَةُ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ مِنَ الْإِغَاثَةِ أَوِ الْغَوْثِ، وَالْغَيْثُ الْمَطَرُ، وَقَدْ غَاثَ الْغَيْثُ الْأَرْضَ، أَيْ أَصَابَهَا، وغاث الله البلاد يغيثها غَوْثًا: أَمْطَرَهَا، فَمَعْنَى يُغَاثُ النَّاسُ: يُمْطَرُونَ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أَيْ يَعْصِرُونَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُعْصَرُ كَالْعِنَبِ وَالسِّمْسِمِ وَالزَّيْتُونِ، وَقِيلَ: أَرَادَ حَلْبَ الْأَلْبَانِ وَقِيلَ: مَعْنَى يَعْصِرُونَ: يَنْجُونَ. مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُصْرَةِ، وَهِيَ الْمَنْجَاةُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَالْعَصَرُ بِالتَّحْرِيكِ الْمَلْجَأُ وَالْمَنْجَاةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: صَادِيًا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ ... وَلَقَدْ كَانَ عُصْرَةَ الْمَنْجُودِ وَاعْتَصَرْتُ بِفُلَانٍ: التجأت به. وقرأ حمزة والكسائي (تعصرون) بناء الْخِطَابِ. وَقُرِئَ «يُعْصَرُونَ» بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ، وَمَعْنَاهُ يُمْطَرُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً «1» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ يُوسُفُ لِلسَّاقِي: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أَيْ: الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ وَمَظْلَمَتِي وَحَبْسِي فِي غَيْرِ شَيْءٍ، فَقَالَ: أَفْعَلُ فَلَمَّا خَرَجَ السَّاقِي رُدَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ عَنْهُ صَاحِبُهُ، وَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ الْمَلِكِ الَّذِي أَمَرَهُ يُوسُفُ أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ، فَلَبِثَ يُوسُفُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ رَيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ رَأَى رُؤْيَاهُ الَّتِي أُرِيَ فِيهَا، فَهَالَتْهُ، وَعَرَفَ أَنَّهَا رُؤْيَا وَاقِعَةٌ، وَلَمْ يَدْرِ مَا تَأْوِيلُهَا، فَقَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ: إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ فَلَمَّا سَمِعَ مِنَ الْمَلِكِ مَا سَمِعَ مِنْهُ وَمَسْأَلَتَهُ عَنْ تَأْوِيلِهَا ذَكَرَ يوسف ما كَانَ عَبَرَ لَهُ وَلِصَاحِبِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ ذلك على ما قاله فَقَالَ: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَضْغاثُ أَحْلامٍ يَقُولُ: مُشْتَبِهَةٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: مِنَ الْأَحْلَامِ الْكَاذِبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ قَالَ: بَعْدَ حِينٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ وَالسُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعْدَ سِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَعْدَ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ الْآيَةَ، قَالَ: أَمَّا السِّمَانُ فَسُنُونَ فِيهَا خِصْبٌ، وَأَمَا الْعِجَافُ فَسُنُونَ مُجْدِبَةٌ، وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ هِيَ السُّنُونَ الْمَخَاصِيبُ تُخْرِجُ الْأَرْضُ نَبَاتَهَا وَزَرْعَهَا وَثِمَارَهَا، وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ الْمَحُولُ الْجَدُوبُ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا.

_ (1) . النبأ: 14.

[سورة يوسف (12) : الآيات 50 إلى 57]

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَكَرَمِهِ وَصَبْرِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْبَقَرَاتِ الْعِجَافِ وَالسِّمَانِ، وَلَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ مَا أَخْبَرْتُهُمْ حَتَّى أَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُخْرِجُونِي، وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وَكَرَمِهِ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ أَتَاهُ الرَّسُولُ، وَلَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ لَبَادَرْتُهُمُ الْبَابَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْعُذْرُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ يَقُولُ: تُخَزِّنُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ يَقُولُ: الْأَعْنَابَ وَالدُّهْنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ يَقُولُ: يُصِيبُهُمْ فِيهِ غَيْثٌ يَعْصِرُونَ يَقُولُ: يَعْصِرُونَ فِيهِ الْعِنَبَ وَيَعْصِرُونَ فِيهِ الزَّبِيبَ وَيَعْصِرُونَ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قَالَ: يَحْتَلِبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ قَالَ: أَخْبَرَهُمْ بِشَيْءٍ لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ كَأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَهُ إِيَّاهُ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ بِالْمَطَرِ. وَفِيهِ يَعْصِرُونَ السِّمْسِمَ دُهْنًا، والعنب خمرا، والزيتون زيتا. [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 57] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) قَوْلُهُ: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ قَبْلَ هَذَا، وَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ يُوسُفُ مِنْ تَعْبِيرِ تِلْكَ الرُّؤْيَا، وَقَالَ الْمَلِكُ لِمَنْ بِحَضْرَتِهِ ائْتُونِي بِهِ، أَيْ: بِيُوسُفَ، رَغِبَ إِلَى رُؤْيَتِهِ وَمَعْرِفَةِ حَالِهِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ مِنْ فَضْلِهِ مَا عَلِمَهُ مِنْ وَصْفِ الرَّسُولِ لَهُ وَمِنْ تَعْبِيرِهِ لِرُؤْيَاهُ فَلَمَّا جاءَهُ أَيْ جَاءَ إِلَى يُوسُفَ الرَّسُولُ وَاسْتَدْعَاهُ إِلَى حَضْرَةِ الْمَلِكِ، وَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ قالَ يُوسُفُ لِلرَّسُولِ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ أي سيدك فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يَسْأَلَ الْمَلِكَ عَنْ ذَلِكَ وَتَوَقَّفَ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ، وَلَمْ يُسَارِعْ إِلَى إِجَابَةِ الْمَلِكِ، لِيُظْهِرَ لِلنَّاسِ بَرَاءَةَ سَاحَتِهِ وَنَزَاهَةَ جَانِبِهِ، وَأَنَّهُ ظُلِمَ بِكَيْدِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ ظُلْمًا بَيِّنًا، وَلَقَدْ أُعْطِيَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْحِلْمِ وَالصَّبْرِ وَالْأَنَاةِ مَا تَضِيقُ الْأَذْهَانُ عَنْ تَصَوُّرِهِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ» يَعْنِي الرَّسُولَ الَّذِي جَاءَ يدعوه إلى الملك. قال ابن عطية: كان هَذَا الْفِعْلُ مِنْ يُوسُفَ أَنَاةً وَصَبْرًا، وَطَلَبًا لِبَرَاءَةِ سَاحَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَخْرُجَ وَيَنَالَ مِنَ الْمَلِكِ مَرْتَبَةً، وَيَسْكُتَ عَنْ أَمْرِ ذَنْبِهِ، فَيَرَاهُ النَّاسُ

بِتِلْكَ الْعَيْنِ يَقُولُونَ هَذَا الَّذِي رَاوَدَ امْرَأَةَ العزيز، وإنما قال: فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ وَسَكَتَ عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ رِعَايَةً لِذِمَامِ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ، أَوْ خَوْفًا مِنْهُ مِنْ كَيْدِهَا وَعَظِيمِ شَرِّهَا، وَذَكَرَ السُّؤَالَ عَنْ تَقْطِيعِ الْأَيْدِي وَلَمْ يَذْكُرْ مُرَاوَدَتَهُنَّ لَهُ، تَنَزُّهًا مِنْهُ عَنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْسِبْ الْمُرَاوَدَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى امْرَأَةِ الْعَزِيزِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ رَمَتْهُ بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ. وَقَدِ اكْتَفَى هُنَا بِالْإِشَارَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ فَجَعَلَ عِلْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَيْدِ مِنْهُنَّ مُغْنِيًا عَنِ التَّصْرِيحِ، وَجُمْلَةُ قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ الْمَلِكُ بَعْدَ أَنْ أَبْلَغَهُ الرَّسُولُ مَا قَالَ يُوسُفُ؟ وَالْخَطْبُ: الشَّأْنُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُخَاطِبَ فِيهِ صَاحِبَهُ خَاصَّةً. وَالْمَعْنَى: مَا شَأْنُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْمُرَاوَدَةُ، وَإِنَّمَا نَسَبَ إِلَيْهِنَّ الْمُرَاوَدَةَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَقَعَ مِنْهَا ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ شَمَلَهُ خِطَابُ الْمَلِكِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ أَوْ أَرَادَ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ وُقُوعَهُ مِنْهُنَّ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا كَانَ مِنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ تَحَاشِيًا عَنِ التَّصْرِيحِ مِنْهُ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهَا لِكَوْنِهَا امْرَأَةَ وَزِيرِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ، فَأَجَبْنَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِنَّ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ أَيْ مَعَاذَ اللَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ أَيْ مِنْ أمر سيئ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ مُنَزِّهَةً لِجَانِبِهِ، مُقِرَّةً عَلَى نَفْسِهَا بِالْمُرَاوَدَةِ لَهُ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَيْ تَبَيَّنَ وَظَهَرَ. وَأَصْلُهُ حصص، فقيل حصحص كما قيل في كببوا كُبْكِبُوا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَأَصْلُ الْحَصِّ: اسْتِئْصَالُ الشَّيْءِ، يُقَالُ: حَصَّ شَعْرَهُ: إِذَا اسْتَأْصَلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ: قَدْ حَصَّتِ الْبَيْضَةُ رَأْسِي فَمَا ... أَطْعَمُ نَوْمًا غَيْرَ تَهْجَاعِ «1» وَالْمَعْنَى أَنَّهُ انْقَطَعَ الْحَقُّ عَنِ الْبَاطِلِ بِظُهُورِهِ وَبَيَانِهِ، وَمِنْهُ: فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي خِدَاشًا فَإِنَّهُ ... كَذُوبٌ إِذَا مَا حَصْحَصَ الْحَقُّ ظَالِمُ وَقِيلَ: هُوَ مشتق من الحصّة. والمعنى: بانت حصّة [الحق من حِصَّةُ] «2» الْبَاطِلِ. قَالَ الْخَلِيلُ: مَعْنَاهُ ظَهَرَ الْحَقُّ بَعْدَ خَفَائِهِ، ثُمَّ أَوْضَحَتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهَا: أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ تَقَعْ مِنْهُ الْمُرَاوَدَةُ لِي أَصْلًا وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا قَالَهُ مِنْ تَبْرِئَةِ نَفْسِهِ وَنِسْبَةِ الْمُرَاوَدَةِ إِلَيْهَا، وَأَرَادَتْ ب الْآنَ زمان تكلمها بهذا الكلام. قَوْلِهِ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا يَبْعُدُ وَصْلُ كَلَامِ إِنْسَانٍ بِكَلَامِ إِنْسَانٍ آخَرَ إِذَا دَلَّتِ الْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْحَادِثَةِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُ، وَهِيَ تَثَبُّتُهُ وَتَأَنِّيهِ أَيْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي أَهْلِهِ بِالْغَيْبِ وَالْمَعْنَى بِظَهْرِ الْغَيْبِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْ: وَهُوَ غَائِبٌ عَنِّي، أَوْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهُ. قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي السِّجْنِ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ الرَّسُولُ بِمَا قَالَتْهُ النِّسْوَةُ، وَمَا قَالَتْهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَقَدْ صَارَ عِنْدَ الْمَلِكِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَذَهَبَ الْأَقَلُّونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ

_ (1) . «البيضة» : الخوذة. «التهجاع» : النومة الخفيفة. (2) . ما بين معقوفتين من تفسير القرطبي (9/ 208) .

امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْقَوْلُ الَّذِي قُلْتُهُ فِي تَنْزِيهِهِ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى نَفْسِي بِالْمُرَاوَدَةِ لِيَعْلَمَ يُوسُفُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فَأَنْسِبَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنِّي، أَوْ وَأَنَا غَائِبَةٌ عَنْهُ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أَيْ لَا يُثَبِّتُهُ وَيُسَدِّدُهُ، أَوْ لَا يَهْدِيهِمْ فِي كَيْدِهِمْ حَتَّى يُوقِعُوهُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ يَثْبُتُ بِهِ وَيَدُومُ، وَإِذَا كَانَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ حَيْثُ وَقَعَ مِنْهَا الْكَيْدُ لَهُ وَالْخِيَانَةُ لِزَوْجِهَا، وَتَعْرِيضٌ بِالْعَزِيزِ حَيْثُ سَاعَدَهَا عَلَى حَبْسِهِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ بَرَاءَتَهُ وَنَزَاهَتَهُ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْهَضْمِ لِلنَّفْسِ، وَعَدَمِ التَّزْكِيَةِ بِهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ بَرِيءٌ، وَظَهَرَ ذَلِكَ ظُهُورَ الشَّمْسِ، وَأَقَرَّتْ بِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي ادَّعَتْ عَلَيْهِ الْبَاطِلَ، وَنَزَّهَتْهُ النِّسْوَةُ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهَا قَدْ أَقَرَّتْ بِالذَّنْبِ، وَاعْتَرَفَتْ بِالْمُرَاوَدَةِ وَبِالِافْتِرَاءِ عَلَى يُوسُفَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ بِعِيدٌ جِدًّا وَمَعْنَاهُ: وَمَا أَبَرِّئُ نَفْسِي مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِيُوسُفَ، وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى حَبْسِهِ بَعْدَ أَنْ عَلِمْتُ بِبَرَاءَتِهِ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أَيْ إِنَّ هَذَا الْجِنْسَ مِنَ الْأَنْفُسِ الْبَشَرِيَّةِ شَأْنُهُ الْأَمْرُ بِالسُّوءِ لِمَيْلِهِ إِلَى الشَّهَوَاتِ، وَتَأْثِيرِهَا بِالطَّبْعِ، وَصُعُوبَةِ قَهْرِهَا، وَكَفِّهَا عَنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي أَيْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ مِنَ النُّفُوسِ فَعَصَمَهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ، أَوْ إِلَّا وَقْتَ رَحْمَةِ رَبِّي وَعِصْمَتِهِ لَهَا، وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ رَحْمَةَ رَبِّي هِيَ الَّتِي تَكُفُّهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: إِنَّ مِنْ شَأْنِهِ كَثْرَةُ الْمَغْفِرَةِ لِعِبَادِهِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ. قَوْلُهُ: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي الْمَلِكُ هُوَ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ لَا الْعَزِيزُ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَعْنَى أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي: أَجْعَلُهُ خَالِصًا لِي دُونَ غَيْرِي، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِلْعَزِيزِ، وَالِاسْتِخْلَاصُ: طَلَبُ خُلُوصِ الشَّيْءِ مِنْ شَوَائِبِ الشَّرِكَةِ، قَالَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ يُوسُفُ نَفِيسًا، وَعَادَةُ الْمُلُوكِ أَنْ يَجْعَلُوا الْأَشْيَاءَ النَّفِيسَةَ خَالِصَةً لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَمَّا كَلَّمَهُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَتَقْدِيرُهُ فَأَتَوْهُ بِهِ فَلَمَّا كَلَّمَهُ، أَيْ: فَلَمَّا كَلَّمَ الْمَلِكُ يُوسُفَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَلَمَّا كَلَّمَ يُوسُفُ الْمَلِكَ. قِيلَ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ لَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا ابْتِدَاءً إِلَّا هُمْ دُونَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: الثَّانِي أَوْلَى لِقَوْلِ الْمَلِكِ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ فَإِنَّ هَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ يُوسُفُ فِي مَقَامِ الْمَلِكِ جَاءَ بِمَا حَبَّبَهُ إِلَى الْمَلِكِ، وَقَرَّبَهُ مِنْ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَمَعْنَى مَكِينٌ: ذُو مَكَانَةٍ وَأَمَانَةٍ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِمَّا يُرِيدُهُ مِنَ الْمَلِكِ وَيَأْمَنُهُ الْمَلِكُ عَلَى مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ، أَوْ عَلَى مَا يَكِلُهُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَلِكِ أَجْلَسَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ مِنْكَ تَعْبِيرَ رُؤْيَايَ، فَعَبَرَهَا لَهُ بِأَكْمَلِ بَيَانٍ وَأَتَمَّ عِبَارَةٍ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ مِنْهُ ذَلِكَ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ فَلَمَّا سَمِعَ يُوسُفُ مِنْهُ ذَلِكَ قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أَيْ وَلِّنِي أَمْرَ الْأَرْضِ الَّتِي أَمْرُهَا إِلَيْكَ وَهِيَ أَرْضُ مِصْرَ، أَوِ اجْعَلْنِي عَلَى حِفْظِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَهِيَ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي تُخَزَّنُ فِيهَا الْأَمْوَالُ، طَلَبَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُ ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى نشر العدل ورفع الظلم، ويتوصل بِهِ إِلَى دُعَاءِ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَتَرَكِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ إِذَا دَخَلَ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السُّلْطَانِ أَنْ يَرْفَعَ مَنَارَ الْحَقِّ وَيَهْدِمَ مَا أَمْكَنَهُ مِنَ الْبَاطِلِ، طَلَبُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي

لَهَا تَرْغِيبًا فِيمَا يَرُومُهُ، وَتَنْشِيطًا لِمَنْ يُخَاطِبُهُ مِنَ الْمُلُوكِ بِإِلْقَاءِ مَقَالِيدِ الْأُمُورِ إِلَيْهِ وَجَعْلِهَا مَنُوطَةً بِهِ، وَلَكِنَّهُ يُعَارِضُ هَذَا الْجَوَازَ مَا وَرَدَ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ طَلَبِ الْوِلَايَةِ وَالْمَنْعِ مِنْ تَوْلِيَةِ مِنْ طَلَبَهَا أَوْ حَرَصَ عَلَيْهَا. وَالْخَزَائِنُ: جَمْعُ خِزَانَةٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُخَزَّنُ فِيهِ الشَّيْءُ وَالْحَفِيظُ: الَّذِي يَحْفَظُ الشَّيْءَ، أَيْ: إِنِّي حَفِيظٌ لِمَا جَعَلْتَهُ إِلَيَّ مِنْ حِفْظِ الْأَمْوَالِ لَا أُخْرِجُهَا فِي غَيْرِ مَخَارِجِهَا، وَلَا أَصْرِفُهَا فِي غَيْرِ مَصَارِفِهَا عَلِيمٌ بِوُجُودِ جَمْعِهَا وَتَفْرِيقِهَا وَمَدْخَلِهَا وَمَخْرَجِهَا وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ أَيْ: وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّمْكِينِ الْعَجِيبِ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: جَعَلْنَا لَهُ مَكَانًا، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ حَتَّى صَارَ الْمَلِكُ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ، وَصَارَ النَّاسُ يَعْمَلُونَ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ أَيْ: يَنْزِلُ مِنْهَا حَيْثُ أَرَادَ وَيَتَّخِذُهُ مَبَاءَةً، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَمْرُهَا إِلَى سُلْطَانِ مِصْرَ كَمَا يَتَصَرَّفُ الرَّجُلُ فِي مَنْزِلِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالنُّونِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَوَلِّي الْأَعْمَالِ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ بَلِ الْكَافِرِ لِمَنْ وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْقِيَامِ بِالْحَقِّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى فِي قَوْلِهِ سبحانه: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا «1» . نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ مِنَ الْعِبَادِ فَنَرْحَمُهُ فِي الدُّنْيَا بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ وَإِنْجَائِهِ مِنَ النَّارِ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فِي أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ الَّتِي هِيَ مَطْلُوبُ اللَّهِ مِنْهُمْ، أَيْ: لَا نُضِيعُ ثَوَابَهُمْ فِيهَا، وَمُجَازَاتَهُمْ عَلَيْهَا وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَيْ أَجْرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأُضِيفَ الْأَجْرُ إِلَى الْآخِرَةِ للملابسة، وَأَجْرُهُمْ هُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي يُجَازِيهِمُ اللَّهُ بِهِ فِيهَا، وَهُوَ الْجَنَّةُ الَّتِي لَا يَنْفَدُ نَعِيمُهَا وَلَا تَنْقَضِي مُدَّتُهَا خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَكانُوا يَتَّقُونَ الْوُقُوعَ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُحْسِنُونَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ الْمُعْتَدَّ بِهِ هُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا بالُ النِّسْوَةِ قَالَ: أَرَادَ يُوسُفُ الْعُذْرَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ السِّجْنِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ قَالَ: لَمَّا قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: أَنَا رَاوَدْتُهُ، قَالَ يُوسُفُ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ فَغَمَزَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: وَلَا حِينَ هَمَمْتَ بِهَا؟ فَقَالَ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: حَصْحَصَ الْحَقُّ قَالَ: تَبَيَّنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: وَلَا حِينَ حَلَلْتَ السَّرَاوِيلَ؟ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي «فُتُوحِ مِصْرَ» مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي قَالَ: فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: أَلْقِ عَنْكَ ثِيَابَ السِّجْنِ، وَالْبَسْ ثِيَابًا جُدُدًا، وَقُمْ إِلَى الْمَلِكِ، فَدَعَا لَهُ أَهْلُ السِّجْنِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَلَمَّا أَتَاهُ رَأَى غُلَامًا حَدَثًا، فَقَالَ: أَيَعْلَمُ هَذَا رُؤْيَايَ وَلَا يَعْلَمُهَا السَّحَرَةُ وَالْكَهَنَةُ؟ وَأَقْعَدَهُ قُدَّامَهُ وَقَالَ: لَا تَخَفْ، وَأَلْبَسَهُ طَوْقًا مِنْ ذَهَبٍ وثياب حرير،

_ (1) . هود: 113. [.....]

[سورة يوسف (12) : الآيات 58 إلى 66]

وَأَعْطَاهُ دَابَّةً مَسْرُوجَةً مُزَيَّنَةً كَدَابَّةِ الْمَلِكِ، وَضُرِبَ الطَّبْلُ بِمِصْرَ: إِنَّ يُوسُفَ خَلِيفَةُ الْمَلِكِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْمَلِكُ لِيُوسُفَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُخَالِطَنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي أَهْلِي، وَأَنَا آنَفُ أَنْ تَأْكُلَ مَعِي، فَغَضِبَ يُوسُفُ وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ أَنْ آنَفَ، أَنَا ابْنُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ، وَأَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ، وَأَنَا ابْنُ يَعْقُوبَ نَبِيِّ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وأبو الشيخ عن شَيْبَةَ بْنِ نَعَامَةَ الضَّبِّيِّ فِي قَوْلِهِ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ يَقُولُ عَلَى جَمِيعِ الطَّعَامِ إِنِّي حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعْتَنِي عَلِيمٌ بِسِنِي الْمَجَاعَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ قَالَ: مَلَّكْنَاهُ فِيهَا يَكُونُ فِيهَا حَيْثُ يَشَاءُ مِنْ تِلْكَ الدُّنْيَا يَصْنَعُ فِيهَا مَا يَشَاءُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ يُوسُفَ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ فوجدها بكرا، وكان زوجها عنينا. [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 66] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) قَوْلُهُ: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ أَيْ جَاءُوا إِلَى مِصْرَ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ لِيَمْتَارُوا لَمَّا أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ فَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ فَعَرَفَهُمْ لِأَنَّهُ فَارَقَهُمْ رِجَالًا وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ لِأَنَّهُمْ فَارَقُوهُ صَبِيًّا يُبَاعُ بِالدَّرَاهِمِ فِي أَيْدِي السَّيَّارَةِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجُوهُ مِنَ الْجُبِّ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ الْآنَ وَهُوَ رَجُلٌ عَلَيْهِ أُبَّهَةُ الْمُلْكِ، وَرَوْنَقُ الرِّئَاسَةِ، وَعِنْدَهُ الْخَدَمُ وَالْحَشَمُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَلَى هَيْئَةِ مَلِكِ مِصْرَ، وَلَبِسَ تَاجَهُ وَتَطَوَّقَ بِطَوْقِهِ، وَقِيلَ: كَانُوا بَعِيدًا مِنْهُ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ المراد به هُنَا أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوهُ مِنَ الْمِيرَةِ وَمَا يُصْلِحُونَ بِهِ سَفَرَهُمْ مِنَ الْعُدَّةِ الَّتِي يَحْتَاجُهَا الْمُسَافِرُ، يُقَالُ: جَهَّزْتُ الْقَوْمَ تَجْهِيزًا إِذَا تَكَلَّفْتُ لَهُمْ جِهَازًا لِلسَّفَرِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ عَلَى فَتْحِ الْجِيمِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ جَيِّدَةٌ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ قِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ كَلَامٍ يَنْشَأُ عَنْهُ طَلَبُهُ لَهُمْ بِأَنْ يَأْتُوهُ بِأَخٍ لَهُمْ مِنْ أَبِيهِمْ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَآهُمْ وَكَلَّمُوهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ قَالَ لَهُمْ: مَا أَنْتُمْ؟ وَمَا شَأْنُكُمْ؟ فَإِنِّي أُنْكِرُكُمْ، فَقَالُوا: نَحْنُ قَوْمٌ مِنْ

أَهْلِ الشَّامِ، جِئْنَا نَمْتَارُ، وَلَنَا أَبٌ شَيْخٌ صِدِّيقٌ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ اسْمُهُ يَعْقُوبُ. قَالَ: كَمْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: عَشَرَةٌ، وَقَدْ كُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ، فَذَهَبَ أَخٌ لَنَا إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَهَلَكَ، وَكَانَ أَحَبَّنَا إِلَى أَبِينَا، وَقَدْ سَكَنَ بَعْدَهُ إِلَى أَخٍ لَهُ أَصْغَرَ مِنْهُ هُوَ بَاقٍ لَدَيْهِ يَتَسَلَّى بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَئِذٍ: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ يَعْنِي أَخَاهُ بِنْيَامِينَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَخُو يُوسُفَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَوَعَدُوهُ بِذَلِكَ، فَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا أَحَدَهُمْ رَهِينَةً عِنْدَهُ حَتَّى يَأْتُوهُ بِالْأَخِ الَّذِي طَلَبَهُ، فَاقْتَرَعُوا فَأَصَابَتِ الْقُرْعَةُ شَمْعُونَ فَخَلَّفُوهُ عِنْدَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أَيْ أُتَمِّمُهُ. وَجَاءَ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ مَعَ كَوْنِهِ قَالَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعْدَ تَجْهِيزِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَادَتُهُ الْمُسْتَمِرَّةُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِمَا يَزِيدُهُمْ وُثُوقًا بِهِ وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ، فَقَالَ: وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أَيْ: وَالْحَالُ أَنِّي خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ لِمَنْ نَزَلَ بِي كَمَا فَعَلْتُهُ بِكُمْ مِنْ حُسْنِ الضِّيَافَةِ وَحُسْنِ الْإِنْزَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ يُوسُفُ: وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ لِأَنَّهُ حِينَ أَنْزَلَهُمْ أَحْسَنَ ضِيَافَتَهُمْ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ إِذَا لَمْ يَأْتُوهُ بِهِ فَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ أَيْ فَلَا أَبِيعُكُمْ شَيْئًا فِيمَا بَعْدُ، وَأَمَّا فِي الْحَالِ فَقَدْ أَوْفَاهُمْ كَيْلَهُمْ، وَمَعْنَى لَا تَقْرَبُونِ: لَا تَدْخُلُونَ بِلَادِي فَضْلًا عَنْ أَنْ أُحْسِنَ إِلَيْكُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا أُنْزِلُكُمْ عِنْدِي كَمَا أَنْزَلْتُكُمْ هَذِهِ الْمَرَّةَ. وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ لَا يَقْرُبُونَ بِلَادَهُ، وَتَقْرُبُونِ مَجْزُومٌ إِمَّا عَلَى أَنَّ لَا نَاهِيَةٌ أَوْ عَلَى أَنَّهَا نَافِيَةٌ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ الْجَزَاءِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي تُحْرَمُوا وَلَا تُقَرَّبُوا، فَلَمَّا سَمِعُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَعَدُوهُ بِمَا طَلَبَهُ مِنْهُمْ فَ قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أَيْ سَنَطْلُبُهُ مِنْهُ، وَنَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ بِمَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْمُرَاوَدَةِ هُنَا: الْمُخَادَعَةُ مِنْهُمْ لِأَبِيهِمْ وَالِاحْتِيَالُ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْتَزِعُوهُ مِنْهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ هَذِهِ الْمُرَاوَدَةَ غَيْرَ مُقَصِّرِينَ فِيهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَإِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، لَا نَتَعَانَى بِهِ وَلَا نَتَعَاظَمُهُ وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ وَابْنِ عَامِرٍ «لِفِتْيَتِهِ» ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ وَغَيْرُهُمَا، وَقَرَأَ سَائِرُ الْكُوفِيِّينَ «لِفِتْيَانِهِ» ، وَاخْتَارَ هذه القراءة أبو عبيد، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَالْقِرَاءَةِ الْآخِرَةِ، قَالَ النَّحَّاسُ: لِفِتْيَانِهِ مُخَالِفٌ لِلسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، وَلَا يُتْرَكُ السَّوَادُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لِهَذَا الْإِسْنَادِ الْمُنْقَطِعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فَتِيَةً أَشْبَهُ مِنْ فِتْيَانٍ، لِأَنَّ فَتِيَّةً عِنْدَ الْعَرَبِ لِأَقَلِّ الْعَدَدِ، وَأَمْرُ الْقَلِيلِ بِأَنْ يَجْعَلُوا الْبِضَاعَةَ فِي الرِّحَالِ أَشْبَهُ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا قَالَ يُوسُفُ بَعْدَ وَعْدِهِمْ لَهُ بِذَلِكَ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَالَ لِفِتْيَتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْفِتْيَةُ وَالْفِتْيَانُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمَمَالِيكُ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ جَيِّدَتَانِ مِثْلَ الصِّبْيَانِ وَالصِّبْيَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْبِضَاعَةِ هُنَا هِيَ الَّتِي وَصَلُوا بِهَا مِنْ بِلَادِهِمْ لِيَشْتَرُوا بِهَا الطَّعَامَ، وَكَانَتْ نِعَالًا وَأُدْمًا، فَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ تَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ لِيَرْجِعُوا إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ الطَّعَامَ إِلَّا بِثَمَنٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَقِيلَ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ لِشِرَاءِ الطَّعَامِ وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتَقْبَحَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ ثَمَنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ عَلَّلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ جَعْلِ الْبِضَاعَةِ فِي رِحَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ فَجَعَلَ عِلَّةَ جَعْلِ الْبِضَاعَةِ فِي الرِّحَالِ هِيَ مَعْرِفَتُهُمْ لَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِرَدِّ الْبِضَاعَةِ إِلَيْهِمْ إِلَّا عِنْدَ تَفْرِيغِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي جَعَلُوا فِيهَا الطَّعَامَ، وَهُمْ لَا يُفَرِّغُونَهَا إِلَّا عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى أَهْلِهِمْ، ثُمَّ عَلَّلَ مَعْرِفَتَهُمْ لِلْبِضَاعَةِ الْمَرْدُودَةِ إِلَيْهِمُ الْمَجْعُولَةِ فِي رِحَالِهِمْ بِقَوْلِهِ:

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَإِنَّهُمْ إِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أَخَذُوا الطَّعَامَ بِلَا ثَمَنٍ، وَأَنَّ مَا دَفَعُوهُ عِوَضًا عَنْهُ قَدْ رَجَعَ إِلَيْهِمْ، وَتَفَضَّلَ بِهِ مَنْ وَصَلُوا إِلَيْهِ عَلَيْهِمْ نَشِطُوا إِلَى الْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَدْبِ الشَّدِيدِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ وَعَدَمِ وُجُودِهِ لَدَيْهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَرُدَّ الْبِضَاعَةَ إِلَيْهِمْ إِلَّا لِهَذَا الْمَقْصِدِ، وَهُوَ رُجُوعُهُمْ إِلَيْهِ فَلَا يَتِمُّ تَعْلِيلُ رَدِّهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَالرِّحَالُ: جَمْعُ رَحْلٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يَسْتَصْحِبُهُ الرَّجُلُ مَعَهُ مِنَ الْأَثَاثِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الرَّحْلُ: كُلُّ شَيْءٍ مُعَدٍّ لِلرَّحِيلِ مِنْ وِعَاءٍ لِلْمَتَاعِ وَمَرْكَبٍ لِلْبَعِيرِ وَمَجْلِسٍ وَرَسَنٍ انْتَهَى. وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوْعِيَةُ الَّتِي يَجْعَلُونَ فِيهَا مَا يَمْتَارُونَهْ مِنَ الطَّعَامِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُقَالُ لِلْوِعَاءِ رَحْلٌ، وَلِلْبَيْتِ رحل فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ أَرَادُوا بِهَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ لَهُمْ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي أَيْ: مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِامْتِيَارَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مَعْهُودٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَلَعَلَّهُمْ قَالُوا لَهُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَيَعْلَمُوا بَرَدِّ بِضَاعَتِهِمْ، كَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ: وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ ذَكَرُوا لَهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ يُوسُفُ، فَقَالُوا: فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا يعنون بنيامين ونَكْتَلْ جَوَابُ الْأَمْرِ، أَيْ: نَكْتَلْ بِسَبَبِ إِرْسَالِهِ مَعَنَا مَا نُرِيدُهُ مِنَ الطَّعَامِ. قَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ «نَكْتَلْ» بِالنُّونِ. وقرأ سائر الكوفيين بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وقال: ليكونوا كُلُّهُمْ دَاخِلِينَ فِيمَنْ يَكْتَالُ، وَزَعَمَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِالْيَاءِ كَانَ لِلْأَخِ وَحْدَهُ، أَيْ: يَكْتَالُ أَخُونَا بِنْيَامِينُ، وَاعْتَرَضَهُ النَّحَّاسُ مِمَّا حَاصِلُهُ أَنَّ إِسْنَادَ الْكَيْلِ إِلَى الْأَخِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ لِلْجَمِيعِ، وَالْمَعْنَى: يَكْتَالُ بِنْيَامِينُ لَنَا جَمِيعًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ إِنْ أَرْسَلْتَهُ اكْتَلْنَا وَإِلَّا مُنِعْنَا الْكَيْلَ وَإِنَّا لَهُ أَيْ لِأَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ لَحافِظُونَ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُ سُوءٌ أَوْ مَكْرُوهٌ، وَجُمْلَةُ قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَأْمَنُهُمْ عَلَى بِنْيَامِينَ إِلَّا كَمَا أَمِنَهُمْ عَلَى أَخِيهِ يُوسُفَ، وَقَدْ قَالُوا لَهُ فِي يُوسُفَ: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1» ، كَمَا قَالُوا هُنَا: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ثُمَّ خَانُوهُ فِي يُوسُفَ، فَهُوَ إِنْ أَمِنَهُمْ فِي بِنْيَامِينَ خَافَ أَنْ يَخُونُوهُ فِيهِ كَمَا خَانُوهُ فِي يُوسُفَ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لعل هنا إضمار، وَالتَّقْدِيرُ: فَتَوَكَّلَ يَعْقُوبُ عَلَى اللَّهِ وَدَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، وقال: فالله خير حافظا. وقرأ أَهْلُ الْمَدِينَةِ «حِفْظًا» وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ وَابْنِ عَامِرٍ. وَقَرَأَ سَائِرُ الْكُوفِيِّينَ «حَافِظًا» وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى الْبَيَانِ يَعْنِي التَّمْيِيزَ وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنْ حِفْظَ اللَّهِ إِيَّاهُ خَيْرٌ مِنْ حِفْظِهِمْ لَهُ، لَمَّا وَكَلَ يَعْقُوبُ حِفْظَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَفِظَهُ وَأَرْجَعَهُ إِلَيْهِ، وَلَمَّا قَالَ فِي يُوسُفَ: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ «2» وَقْعَ لَهُ مِنَ الِامْتِحَانِ مَا وَقَعَ. وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ أَيْ: أَوْعِيَةَ الطَّعَامِ، أَوْ مَا هو أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَتَاعِ سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي فِيهِ طَعَامًا أَوْ غَيْرَ طَعَامٍ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أَيِ: الْبِضَاعَةَ الَّتِي حَمَلُوهَا إِلَى مِصْرَ لَيَمْتَارُوا بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَجُمْلَةُ قالُوا يَا أَبانا مُسْتَأْنَفَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ مَا نَبْغِي مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَيَّ شَيْءٍ نَطْلُبُ مِنْ هَذَا الْمَلِكِ بَعْدَ أَنْ صَنَعَ مَعَنَا مَا صَنَعَ مِنَ الإحسان

_ (1) . يوسف: 12. (2) . يوسف: 13.

بِرَدِّ الْبِضَاعَةِ وَالْإِكْرَامِ عِنْدَ الْقُدُومِ إِلَيْهِ، وَتَوْفِيرِ مَا أَرَدْنَاهُ مِنَ الْمِيرَةِ؟ وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَجُمْلَةُ هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا مُقَرِّرَةٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ الْإِنْكَارِ لِطَلَبِ شَيْءٍ مَعَ كَوْنِهَا قَدْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ «مَا» فِي مَا نَبْغِي نَافِيَةٌ، أَيْ: مَا نَبْغِي فِي الْقَوْلِ وَمَا نَتَزَيَّدُ فِيمَا وَصَفْنَا لَكَ مِنْ إِحْسَانِ الْمَلِكِ إِلَيْنَا وَإِكْرَامِهِ لَنَا، ثُمَّ بَرْهَنُوا عَلَى مَا لَقُوهُ مِنَ التَّزَيُّدِ فِي وَصْفِ الْمَلِكِ بِقَوْلِهِمْ: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا فَإِنَّ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِرَدِّ ذَلِكَ حَقِيقٌ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، مُسْتَحِقٌّ لِمَا وَصَفُوهُ بِهِ، وَمَعْنَى وَنَمِيرُ أَهْلَنا نَجْلِبُ إِلَيْهِمُ الْمِيرَةَ وَهِيَ الطَّعَامُ، وَالْمَائِرُ: الَّذِي يَأْتِي بِالطَّعَامِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِضَمِّ النُّونِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَالتَّقْدِيرُ: هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا فَنَحْنُ نَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى الرُّجُوعِ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخانا بِنْيَامِينَ مِمَّا تَخَافُهُ عَلَيْهِ وَنَزْدادُ بِسَبَبِ إِرْسَالِهِ مَعَنَا كَيْلَ بَعِيرٍ أَيْ حِمْلَ بَعِيرٍ زَائِدٍ عَلَى مَا جِئْنَا بِهِ هَذِهِ الْمَرَّةَ لِأَنَّهُ كَانَ يُكَالُ لِكُلِّ رَجُلٍ وِقْرُ بَعِيرٍ، وَمَعْنَى ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أَنَّ زِيَادَةَ كَيْلِ بَعِيرٍ لِأَخِينَا يَسْهُلُ عَلَى الْمَلِكِ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْنَا مِنْ زِيَادَتِهِ لَهُ لِكَوْنِهِ يَسِيرًا لَا يَتَعَاظَمُهُ وَلَا يُضَايِقُنَا فِيهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: ذَلِكَ الْمَكِيلُ لِأَجْلِنَا قَلِيلٌ نُرِيدُ أَنْ يَنْضَافَ إِلَيْهِ حِمْلُ بَعِيرٍ لِأَخِينَا. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ الْأَوَّلَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ يَعْقُوبَ جَوَابًا عَلَى مَا قَالَهُ أَوْلَادُهُ: وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ يَعْنِي إِنَّ حِمْلَ بَعِيرٍ شَيْءٌ يَسِيرٌ لَا يُخَاطِرُ لِأَجْلِهِ بِالْوَلَدِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ جَوَابَ يَعْقُوبَ هُوَ قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أَيْ حَتَّى تُعْطُونِي مَا أَثِقُ بِهِ وَأَرْكَنُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الْحَلِفُ بِهِ، وَاللَّامُ فِي لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جَوَابُ الْقَسَمِ، لِأَنَّ مَعْنَى حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ: حَتَّى تحلفوا بالله لتأتني بِهِ، أَيْ: لَتَرُدُنَّ بِنْيَامِينَ إِلَيَّ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ هُوَ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، لِأَنَّ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مُثْبَتًا فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُمْنَعُونَ مِنْ إِتْيَانِي بِهِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِعِلَّةِ الْإِحَاطَةِ بِكُمْ، وَالْإِحَاطَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَدُوِّ، وَمَنْ أَحَاطَ بِهِ الْعَدُوُّ فَقَدْ غُلِبَ أَوْ هَلَكَ، فَأَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ بِأَنْ يَأْتُوهُ ببنيامين إلا أن يغلبوا عليه أو يهلكوا دُونَهُ، فَيَكُونَ ذَلِكَ عُذْرًا لَكُمْ عِنْدِي فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ أَيْ أَعْطَوْهُ مَا طَلَبَهُ مِنْهُمْ مِنَ الْيَمِينِ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ أَيْ: قَالَ يَعْقُوبُ: اللَّهُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ طَلَبِي الْمَوْثِقَ مِنْكُمْ وَإِعْطَائِكُمْ لِي مَا طَلَبْتُهُ مِنْكُمْ مُطَّلِعٌ رَقِيبٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ، فَهُوَ الْمُعَاقِبُ لِمَنْ خَاسَ فِي عَهْدِهِ وَفَجَرَ فِي الْحَلِفِ بِهِ، أَوْ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ الْقِيَامُ بِمَا شَهِدَ عَلَيْهِ مِنَّا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، جَاءَ بِصُوَاعِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ فِيهِ، فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَجَعَلَ يَنْقُرُهُ ويطنّ، وينقره وَيَطِنُّ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْجَامَ لِيُخْبِرُنِي عَنْكُمْ خَبَرًا، هَلْ كَانَ لَكُمْ أَخٌ مِنْ أَبِيكُمْ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ؟ وَكَانَ أَبُوهُ يُحِبُّهُ دُونَكُمْ، وَإِنَّكُمُ انْطَلَقْتُمْ بِهِ فَأَلْقَيْتُمُوهُ فِي الْجُبِّ وَأَخْبَرْتُمْ أَبَاكُمْ أَنَّ الذِّئْبَ أَكَلَهُ، وَجِئْتُمْ عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذَبٍ؟ قَالَ: فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ وَيَعْجَبُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ وُهَيْبٍ قَالَ: لَمَّا جَعَلَ يُوسُفُ يَنْقُرُ الصُّوَاعَ وَيُخْبِرُهُمْ قَامَ إِلَيْهِ بَعْضُ إِخْوَتِهِ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَنْ لَا تَكْشِفَ لَنَا عَوْرَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ قَالَ: يَعْنِي بِنْيَامِينَ، وَهُوَ أَخُو يُوسُفَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ

[سورة يوسف (12) : الآيات 67 إلى 76]

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ قَالَ: خَيْرُ مَنْ يُضِيفُ بِمِصْرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لِفِتْيانِهِ أَيْ لِغِلْمَانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ أَيْ أَوْرَاقَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا يَقُولُونَ: مَا نَبْغِي وَرَاءَ هَذَا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ أَيْ حِمْلَ بَعِيرٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن مُجَاهِدٍ وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ قَالَ: حِمْلَ حِمَارٍ، قَالَ: وَهِيَ لُغَةٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي مجاهدا أَنَّ الْحِمَارَ يُقَالُ لَهُ فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ بَعِيرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ قَالَ: تَهْلِكُوا جَمِيعًا، وَفِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ: عَهْدَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ قال: إلا أن تغلبوا حتّى لا تطيقوا ذلك. [سورة يوسف (12) : الآيات 67 الى 76] وَقالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) لَمَّا تَجَهَّزَ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ لِلْمَسِيرِ إِلَى مِصْرَ خَافَ عَلَيْهِمْ أَبُوهُمْ أَنْ تُصِيبَهُمُ الْعَيْنُ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا ذَوِي جَمَالٍ ظَاهِرٍ وَثِيَابٍ حَسَنَةٍ مَعَ كَوْنِهِمْ أَوْلَادَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. فَنَهَاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مُجْتَمِعِينَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَظِنَّةً لِإِصَابَةِ الْأَعْيُنِ لَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ عَنْ قَوْلِهِ: وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ لِأَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا مِنْ بابين مثلا كانوا قد امتثلوا النية عَنِ الدُّخُولِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الدُّخُولِ مِنْ بَابَيْنِ مَثَلًا نَوْعُ اجْتِمَاعٍ يُخْشَى مَعَهُ أَنْ تُصِيبَهُمُ الْعَيْنُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، قِيلَ: وَكَانَتْ أَبْوَابُ مِصْرَ أَرْبَعَةً. وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هَاشِمٍ وَالْبَلْخِيِّ أَنَّ لِلْعَيْنِ تَأْثِيرًا، وَقَالَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ إِذَا شَاهَدَ الشَّيْءَ وَأُعْجِبَ بِهِ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ لَهُ فِي تَكْلِيفِهِ أَنْ يُغَيِّرَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ حَتَّى لَا يَبْقَى قَلْبُ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ مُعَلَّقًا

بِهِ. وَلَيْسَ هَذَا بِمُسْتَنْكَرٍ مِنْ هَذَيْنِ وَأَتْبَاعِهِمَا، فَقَدْ صَارَ دَفْعُ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْعَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ دَأْبَهُمْ وَدَيْدَنَهُمْ، وَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ إِصَابَةِ الْعَيْنِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِذَلِكَ؟ وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، وَأُصِيبَ بِهَا جَمَاعَةٌ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ، وَمِنْهُمْ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَأَعْجَبُ مِنْ إِنْكَارِ هَؤُلَاءِ لِمَا وَرَدَتْ بِهِ نُصُوصُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنَ الْإِزْرَاءِ عَلَى مَنْ يَعْمَلُ بِالدَّلِيلِ الْمُخَالِفِ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْعَادِ الْعَقْلِيِّ وَالتَّنَطُّعِ فِي الْعِبَارَاتِ كَالزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ فَإِنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُوَاطِنِ لَا يَقِفُ عَلَى دَفْعِ دَلِيلِ الشَّرْعِ بِالِاسْتِبْعَادِ الَّذِي يَدَّعِيهِ عَلَى الْعَقْلِ حَتَّى يَضُمَّ إِلَى ذَلِكَ الْوَقَاحَةَ فِي الْعِبَارَةِ عَلَى وَجْهٍ يُوقِعُ الْمُقَصِّرِينَ فِي الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَذَاهِبِ الزَّائِفَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ مَدْفُوعٌ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَكَاثِرَةِ وَإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَبِمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْوُجُودِ، فَكَمْ مِنْ شَخْصٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ هَلَكَ بِهَذَا السَّبَبِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ عُرِفَ بِالْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ، فَقَالَ قَوْمٌ: يُمْنَعُ مِنَ الِاتِّصَالِ بِالنَّاسِ دَفْعًا لِضَرَرِهِ بِحَبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ لُزُومِ بَيْتِهِ، وَقِيلَ: ينفى وأبعد من قاله إِنَّهُ يُقْتَلُ إِلَّا إِذَا كَانَ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ وتتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينزجر عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِذَا قَتَلَ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْقَاتِلِ. ثُمَّ قَالَ يَعْقُوبُ لِأَوْلَادِهِ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ لَا أَدْفَعُ عَنْكُمْ ضَرَرًا وَلَا أَجْلِبُ إِلَيْكُمْ نَفْعًا بِتَدْبِيرِي هَذَا، بَلْ مَا قَضَاهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ وابن الأنباري: لو سبق فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ الْعَيْنَ تُهْلِكُهُمْ مَعَ الِاجْتِمَاعِ لَكَانَ تَفَرُّقُهُمْ كَاجْتِمَاعِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ يَعْقُوبُ شَيْئًا قَطُّ حَيْثُ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ مَعَ تَفَرُّقِهِمْ مِنْ إِضَافَةِ السَّرِقَةِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ صَرَّحَ يَعْقُوبُ بِأَنَّهُ لَا حكم إلا لله سُبْحَانَهُ فَقَالَ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ لَا لغيره لا يُشَارِكُهُ فِيهِ مُشَارِكٌ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فِي كُلِّ إِيرَادٍ وَإِصْدَارٍ لَا عَلَى غَيْرِهِ، أَيِ: اعْتَمَدْتُ وَوَثِقْتُ وَعَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُهُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أَيْ مِنَ الْأَبْوَابِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَلَمْ يَجْتَمِعُوا دَاخِلِينَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَجَوَابُ لَمَّا مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ ذَلِكَ الدُّخُولُ مِنَ اللَّهِ أَيْ مِنْ جِهَتِهِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْحَذَرَ لَا يَدْفَعُ الْقَدَرَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها مُنْقَطِعٌ وَالْمَعْنَى: وَلَكِنْ حَاجَةً كَانَتْ فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ. وَهِيَ شَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ وَمَحَبَّتُهُ لِسَلَامَتِهِمْ قَضَاهَا يَعْقُوبُ، أَيْ: أَظْهَرَهَا لَهُمْ وَوَصَّاهُمْ بِهَا غَيْرُ مُعْتَقِدٍ أَنَّ لِلتَّدْبِيرِ الَّذِي دَبَّرَهُ لَهُمْ تَأْثِيرًا فِي دَفْعِ مَا قَضَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خَطَرَ بِبَالِ يَعْقُوبَ أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا رَآهُمْ مُجْتَمِعِينَ مَعَ مَا يَظْهَرُ فِيهِمْ مِنْ كَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَسِيمَا الشَّجَاعَةِ أَوْقَعَ بِهِمْ حَسَدًا وَحِقْدًا أَوْ خَوْفًا مِنْهُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِالتَّفَرُّقِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا النحّاس وقال: لا معنى للعين ها هنا، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ هُوَ السَّبَبَ لَأَمَرَهُمْ بِالتَّفَرُّقِ وَلَمْ يَخُصَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ الاجتماع عِنْدَ الدُّخُولِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ هَذَا الْحَسَدَ أَوِ الْخَوْفَ يَحْصُلُ بِاجْتِمَاعِهِمْ دَاخِلَ الْمَدِينَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِاجْتِمَاعِهِمْ عِنْدَ الدُّخُولِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْفَاعِلَ فِي قَضَاهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الدُّخُولِ لَا إِلَى يَعْقُوبَ. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ الدُّخُولُ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ قَضَى ذَلِكَ الدُّخُولُ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ لِوُقُوعِهِ حَسَبَ إِرَادَتِهِ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ أَيْ وَإِنَّ يَعْقُوبَ لَصَاحِبُ عِلْمٍ لِأَجْلِ تَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِمَا أَوْحَاهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَدْفَعُ

الْقَدْرَ، وَأَنَّ مَا قَضَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ كَمَا يَنْبَغِي وَقِيلَ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحَذَرَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وَالسِّيَاقُ يَدْفَعُهُ وَقِيلَ: الْمُرَادَ بِأَكْثَرِ النَّاسِ الْمُشْرِكُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ أَيْ ضَمَّ إِلَيْهِ أَخَاهُ بِنْيَامِينَ، قِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَ بِإِنْزَالِ كُلِّ اثْنَيْنِ فِي مَنْزِلٍ فَبَقِيَ أَخُوهُ مُنْفَرِدًا فَضَمَّهُ إليه وقالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يُوسُفُ، قَالَ لَهُ ذَلِكَ سِرًّا، مِنْ دُونِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ إِخْوَتُهُ فَلا تَبْتَئِسْ أَيْ فَلَا تَحْزَنْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ إِخْوَتُكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي عَمِلُوهَا وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُ بِأَنَّهُ يُوسُفُ، بَلْ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَخُوكَ مَكَانَ أَخِيكِ يُوسُفَ فَلَا تَحْزَنْ بِمَا كُنْتَ تَلْقَاهُ مِنْهُمْ مِنَ الْجَفَاءِ حَسَدًا وَبَغْيًا وَقِيلَ: إِنَّهُ أَخْبَرَهُ بِمَا سَيُدَبِّرُهُ مَعَهُمْ مِنْ جَعْلِ السِّقَايَةِ فِي رَحْلِهِ، فَقَالَ: لَا أُبَالِي وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ يُوسُفُ أَخَاهُ بِنْيَامِينَ بِأَنَّهُ أَخُوهُ قَالَ: لَا تَرُدَّنِي إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ اغْتِمَامَ أَبِينَا يَعْقُوبَ، فَإِذَا حَبَسْتُكَ عِنْدِي ازْدَادَ غَمُّهُ، فأبى بِنْيَامِينَ، فَقَالَ لَهُ يُوسُفُ: لَا يُمْكِنُ حَبْسُكَ عِنْدِي إِلَّا بِأَنْ أَنْسُبُكَ إِلَى مَا لَا يَجْمُلُ بِكَ، فَقَالَ: لَا أُبَالِي، فَدَسَّ الصَّاعَ فِي رَحْلِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالسِّقَايَةِ، وَأَصْلُهَا الْمِشْرَبَةَ الَّتِي يُشْرَبُ بِهَا، جُعِلَتْ صَاعًا يُكَالُ بِهِ وَقِيلَ: كَانَتْ تُسْقَى بِهَا الدَّوَابُّ وَيُكَالُ بِهَا الْحَبُّ وَقِيلَ: كَانَتْ مِنْ فِضَّةٍ، وَقِيلَ: كَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجِهَازِ وَالرَّحْلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ السِّقَايَةِ الَّتِي هُوَ الصُّوَاعُ فِي رَحْلِ أَخِيهِ الَّذِي هُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي يَجْعَلُ فِيهِ مَا يَشْتَرِيهِ مِنَ الطَّعَامِ مِنْ مِصْرَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيْ نَادَى مُنَادٍ قَائِلًا أَيَّتُهَا الْعِيرُ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ يَا أَصْحَابَ الْعِيرِ، وَكُلُّ مَا امْتِيرَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ فَهُوَ عِيرٌ وَقِيلَ: هِيَ قَافِلَةُ الْحَمِيرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعِيرُ الْإِبِلُ الْمَرْحُولَةُ الْمَرْكُوبَةُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ نسبة السرقة إِلَيْهِمْ عَلَى حَقِيقَتِهَا لِأَنَّ الْمُنَادِيَ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا دَبَّرَهُ يُوسُفُ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: إِنَّ حَالَكُمْ حَالُ السَّارِقِينَ كَوْنُ الصُّوَاعِ صَارَ لَدَيْكُمْ مِنْ غَيْرِ رِضًا مِنَ الْمَلِكِ قالُوا أَيْ إِخْوَةُ يُوسُفَ وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى مَنْ نَادَى مِنْهُمُ الْمُنَادِي مِنْ أَصْحَابِ الْمَلِكِ مَاذَا تَفْقِدُونَ أَيْ: مَا الَّذِي فَقَدْتُمُوهُ يُقَالُ: فَقَدْتَ الشَّيْءَ إِذَا عَدِمْتَهُ بِضَيَاعٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَاذَا ضَاعَ عَلَيْكُمْ؟ وَصِيغَةُ الْمُسْتَقْبَلِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ قالُوا فِي جَوَابِهِمْ نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ قَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ «صُوَاغَ» بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ «صُوعَ» بضم الصاد المهملة وسكون الواو بعدها عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ. وَقَرَأَ أُبَيُّ «صُيَاعَ» . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: صَاعَ، وَبِهَا قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «صُواعَ» بِالصَّادِّ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الصُّوَاعُ هُوَ الصَّاعُ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَهُوَ السِّقَايَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَشْرَبُ الْخَمْرَ بِالصُّوَاعِ جِهَارًا «1» ............... ...... وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ أَيْ قَالُوا: وَلِمَنْ جَاءَ بِالصُّوَاعِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ. وَالْبَعِيرُ: الْجَمَلُ، وَفِي لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ الْحِمَارُ، وَالْمُرَادُ بِالْحِمْلِ هَاهُنَا مَا يَحْمِلُهُ الْبَعِيرُ مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَالَ الْمُنَادِي: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أَيْ بِحِمْلِ الْبَعِيرِ الَّذِي جُعِلَ لِمَنْ جَاءَ بِالصُّوَاعِ قَبْلَ التَّفْتِيشِ للأوعية، والزعيم: هو الكفيل، ولعل

_ (1) . وتتمة البيت: وترى المتك بيننا مستعارا. وقد تقدم في تفسير الآية (31) من سورة يوسف.

الْقَائِلَ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ هُوَ الْمُنَادِي، وَإِنَّمَا نُسِبَ الْقَوْلُ إِلَى الْجَمَاعَةِ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ، ثُمَّ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى نِسْبَةِ الْقَوْلِ إِلَى الْمُنَادِي وَحْدَهُ لِأَنَّهُ الْقَائِلُ بِالْحَقِيقَةِ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ التَّاءُ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْقَسَمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: مِنَ الْبَاءِ، وَقِيلَ: أَصْلٌ بِنَفْسِهَا، وَلَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى هَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ دُونَ سَائِرِ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ دَخَلَتْ نَادِرًا عَلَى الرَّبِّ، وَعَلَى الرَّحْمَنِ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ وَجَعَلُوا الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ هُوَ عِلْمُ يُوسُفَ وَأَصْحَابِهِ بِنَزَاهَةِ جَانِبِهِمْ وَطَهَارَةِ ذَيْلِهِمْ عَنِ التَّلَوُّثِ بِقَذَرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِهِ السَّرِقَةُ، لِأَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا مِنْهُمْ فِي قُدُومِهِمْ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ الْأَوْلَى، وَهَذِهِ الْمَرَّةَ مِنَ التَّعَفُّفِ وَالزُّهْدِ عَمَّا هُوَ دُونَ السَّرِقَةِ بِمَرَاحِلَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْعِلْمُ الْجَازِمُ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَنْ يَتَجَارَأُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ الْعَظِيمِ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا رَدُّهُمْ لِبِضَاعَتِهِمُ الَّتِي وَجَدُوهَا فِي رِحَالِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ هُنَا أَرْضُ مِصْرَ، ثُمَّ أَكَّدُوا هَذِهِ الْجُمْلَةَ الَّتِي أَقْسَمُوا بِاللَّهِ عليها بقوله: وَما كُنَّا سارِقِينَ لزيادة التبرّي ممّا قذفوهم بِهِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنْ هَذِهِ النَّقِيصَةِ الْخَسِيسَةِ وَالرَّذِيلَةِ الشَّنْعَاءِ قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي نَظَائِرِهَا، وَالْقَائِلُونَ هُمْ أَصْحَابُ يُوسُفَ، أَوِ الْمُنَادِي مِنْهُمْ وَحْدَهُ كَمَا مَرَّ، وَالضَّمِيرُ فِي جَزاؤُهُ لِلصُّوَاعِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَمَا جَزَاءُ سَرِقَةِ الصُّوَاعِ عِنْدَكُمْ، أَوِ الضَّمِيرُ لِلسَّارِقِ أَيْ: فَمَا جَزَاءُ سَارِقِ الصُّوَاعِ عِنْدَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ فِيمَا تَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْبَرَاءَةِ عَنِ السَّرِقَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوجَدَ الصُّوَاعُ مَعَكُمْ، فأجاب إخوة يوسف وقالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ أَيْ جَزَاءُ سَرِقَةِ الصُّوَاعِ أَوْ جَزَاءُ سَارِقِ الصّواع وجزاؤه مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ: وَهِيَ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى إِقَامَةِ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ فِيهَا، وَالْأَصْلُ جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ الثَّانِي عائد إِلَى الْمُبْتَدَأِ، وَالْأَوَّلُ إِلَى مَنْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: جَزَاءُ السَّرِقَةِ لِلصُّوَاعِ أَخْذُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَهُوَ جَزَاؤُهُ لِتَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَتَقْرِيرِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَوْلُهُ: فَهُوَ جَزاؤُهُ زِيَادَةٌ فِي الْبَيَانِ أَيْ جَزَاؤُهُ أَخْذُ السَّارِقِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ لَا غَيْرَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ حُكْمُ السَّارِقِ فِي آلِ يَعْقُوبَ أَنْ يُسْتَرَقَّ سَنَةً، فَلِذَلِكَ اسْتَفْتَوْهُمْ فِي جَزَائِهِ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الْكَامِلِ نَجْزِي الظَّالِمِينَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ بِسَرِقَةِ أَمْتِعَتِهِمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا إِذَا كَانَتْ مِنْ كَلَامِ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِ يُوسُفَ، أَيْ: كَذَلِكَ نَحْنُ نَجْزِي الظَّالِمِينَ بِالسَّرَقِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرُوا جَزَاءَ السَّارِقِ أَرَادُوا أَنْ يُفَتِّشُوا أَمْتِعَتَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ، فَأَقْبَلَ يُوسُفُ عَلَى ذَلِكَ فَبَدَأَ بِتَفْتِيشِ أَوْعِيَتِهِمْ أَيْ أَوْعِيَةِ الْإِخْوَةِ الْعَشَرَةِ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ أَيْ قَبْلَ تَفْتِيشِهِ لِوِعَاءِ أَخِيهِ بِنْيَامِينَ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ وَرَفْعًا لِمَا دَبَّرَهُ مِنَ الْحِيلَةِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أَيِ السِّقَايَةَ أَوِ الصُّوَاعَ، لِأَنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَيْدِ الْعَجِيبِ كِدْنَا لِيُوسُفَ يَعْنِي عَلَّمْنَاهُ إياه وأوحيناه إِلَيْهِ، وَالْكَيْدُ مَبْدَؤُهُ السَّعْيُ فِي الْحِيلَةِ وَالْخَدِيعَةِ، وَنِهَايَتُهُ إِلْقَاءُ الْمَخْدُوعِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ فِي أَمْرٍ مَكْرُوهٍ لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى النهاية لا على البداية. قال القتبيّ: مَعْنَى كِدْنَا دَبَّرْنَا. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَرَدْنَا. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّوَصُّلِ إِلَى الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ بِمَا

صُورَتُهُ صُورَةُ الْحِيلَةِ وَالْمَكِيدَةِ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ ذَلِكَ شَرْعًا ثَابِتًا مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أَيْ مَا كَانَ يُوسُفُ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ بِنْيَامِينَ فِي دِينِ الْمَلِكِ أَيْ مَلِكِ مِصْرَ، وَفِي شَرِيعَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، بَلْ كَانَ دِينُهُ وَقَضَاؤُهُ أَنْ يُضْرَبَ السَّارِقُ وَيُغَرَّمَ ضِعْفَ مَا سَرَقَهُ دُونَ الِاسْتِعْبَادِ سَنَةً كَمَا هُوَ دِينُ يَعْقُوبَ وَشَرِيعَتُهُ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ يُوسُفَ مَا كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِجْرَاءِ حُكْمِ يَعْقُوبَ عَلَى أَخِيهِ مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِدِينِ الْمَلِكِ وَشَرِيعَتِهِ لَوْلَا مَا كَادَ اللَّهُ لَهُ وَدَبَّرَهُ وَأَرَادَهُ حَتَّى وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا أَجْرَاهُ عَلَى أَلْسُنِ إِخْوَتِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ جَزَاءَ السَّارِقِ الِاسْتِرْقَاقُ، فَكَانَ قَوْلُهُمْ هَذَا هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أَيْ إِلَّا حَالَ مَشِيئَتِهِ وَإِذْنِهِ بِذَلِكَ وَإِرَادَتِهِ لَهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَعْنِي مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِمَا صَنَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْكَيْدِ لِيُوسُفَ أَوْ تَفْسِيرٌ لَهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بِضُرُوبِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَالْعَطَايَا وَالْكَرَامَاتِ كَمَا رَفَعْنَا دَرَجَةَ يُوسُفَ بِذَلِكَ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ مِمَّنْ رَفَعَهُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ عَلِيمٌ أَرْفَعُ رُتْبَةٍ مِنْهُمْ وَأَعْلَى دَرَجَةً لَا يَبْلُغُونَ مَدَاهُ وَلَا يَرْتَقُونَ شَأْوَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ فَوْقَ كُلِّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلِيمٌ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن عباس في قوله: وَقالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ قَالَ: رَهِبَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: خَشِيَ عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ النَّخَعِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ قَالَ: أَحَبَّ يَعْقُوبُ أَنْ يَلْقَى يُوسُفُ أَخَاهُ فِي خَلْوَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها قَالَ: خِيفَةُ الْعَيْنِ عَلَى بَنِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشيخ عن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ قَالَ: إِنَّهُ لَعَامِلٌ بِمَا عُلِّمَ، وَمَنْ لَا يَعْمَلُ لَا يَكُونُ عَالِمًا. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قَالَ: إنه إليه. في قَوْلِهِ: فَلا تَبْتَئِسْ قَالَ: لَا تَحْزَنْ وَلَا تيأس، في قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قَالَ: قَضَى حَاجَتَهُمْ وكال لهم طعامهم، في قَوْلِهِ: جَعَلَ السِّقايَةَ قَالَ: هُوَ إِنَاءُ الْمَلِكِ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ فِي رَحْلِ أَخِيهِ قَالَ: فِي مَتَاعِ أَخِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ السِّقايَةَ قَالَ: هُوَ الصُّوَاعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُشْرَبُ مِنْهُ فَهُوَ صُوَاعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَيَّتُهَا الْعِيرُ قَالَ: كَانَتِ الْعِيرُ حَمِيرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ قَالَ: حِمْلُ حِمَارٍ طَعَامٌ، وَهِيَ لُغَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ يَقُولُ: كَفِيلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ يَقُولُ: مَا جِئْنَا لِنَعْصِيَ فِي الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: فَما جَزاؤُهُ قَالَ: عَرَّفُوا الْحُكْمَ فِي حُكْمِهِمْ فَقَالُوا: مَنْ وُجِدَ

[سورة يوسف (12) : الآيات 77 إلى 82]

فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ، وَكَانَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ يَعْقُوبَ وَبَنِيهِ أَنْ يُؤْخَذَ السَّارِقُ بِسَرِقَتِهِ عَبْدًا يُسْتَرَقُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا فَتَحَ مَتَاعَ رَجُلٍ اسْتَغْفَرَ تَأَثُّمًا مِمَّا صَنَعَ حَتَّى بَقِيَ مَتَاعُ الْغُلَامِ، قَالَ: مَا أَظُنُّ أَنَّ هَذَا أَخَذَ شَيْئًا، قَالُوا: بَلَى، فَاسْتَبْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ قَالَ: كَذَلِكَ صَنَعْنَا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ يَقُولُ: فِي سُلْطَانِ الْمَلِكِ، قَالَ: كَانَ فِي دِينِ مَلِكِهِمْ أَنَّهُ مَنْ سَرَقَ أُخِذَتْ مِنْهُ السَّرِقَةُ وَمِثْلُهَا مَعَهَا مِنْ مَالِهِ فَيُعْطِيهِ الْمَسْرُوقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ يَقُولُ: فِي سُلْطَانِ الْمَلِكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قَالَ: إِلَّا بِعِلَّةٍ كَادَهَا اللَّهُ لِيُوسُفَ فَاعْتَلَّ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ قَالَ: يُوسُفُ وَإِخْوَتُهُ أُوتُوا عِلْمًا فَرَفَعْنَا يُوسُفَ فِي الْعِلْمِ فَوْقَهُمْ دَرَجَةً. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَحَدَّثَ بِحَدِيثٍ، فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، اللَّهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ عَالِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ فِيهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَيْسَ هَكَذَا وَلَكِنْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عَلِيٌّ: أَصَبْتَ وَأَخْطَأْتُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قَالَ: عِلْمُ الله فوق كلّ عالم. [سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 82] قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قَوْلُهُ: قالُوا إِنْ يَسْرِقْ أَيْ بِنْيَامِينُ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يَعْنُونَ يُوسُفَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ السَّرِقَةِ الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَى يُوسُفَ مَا هِيَ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لِيُوسُفَ عَمَّةٌ هِيَ

أَكْبَرُ مِنْ يَعْقُوبَ، وَكَانَتْ عِنْدَهَا مِنْطَقَةُ «1» إِسْحَاقَ لِكَوْنِهَا أَسَنَّ أَوْلَادِهِ وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَهَا فَيَأْخُذُهَا الْأَكْبَرُ سِنًّا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَكَانَتْ قَدْ حَضَنَتْ يُوسُفَ وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَ لَهَا يَعْقُوبُ: سَلِّمِي يُوسُفَ إِلَيَّ، فَأَشْفَقَتْ مِنْ فِرَاقِهِ، وَاحْتَالَتْ فِي بَقَائِهِ لَدَيْهَا، فَجَعَلَتِ الْمِنْطَقَةَ تَحْتَ ثِيَابِهِ وَحَزَّمَتْهُ بِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: قَدْ سُرِقَتْ مِنْطَقَةُ إِسْحَاقَ فَانْظُرُوا مَنْ سَرَقَهَا، فَبَحَثُوا عَنْهَا فَوَجَدُوهَا مَعَ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُ عِنْدَهَا كَمَا هُوَ شَرْعُ الْأَنْبِيَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ شَرِيعَتِهِمْ فِي السَّرِقَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ أَخَذَ صَنَمًا كَانَ لِجَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ فَكَسَرَهُ وَأَلْقَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ تَغْيِيرًا لِلْمُنْكَرِ. وَحُكِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ كَانَ صَنَمًا مِنْ ذَهَبٍ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، أَسَرَقَ أَخٌ لَهُ أَمْ لَا؟ وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: كَذَبُوا عَلَيْهِ فِيمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ. قُلْتُ: وَهَذَا أَوْلَى، فَمَا هَذِهِ الكذبة بأوّل كذباتهم، وقدّمنا مَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ عِنْدَ صُدُورِ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْهُمْ. قَوْلُهُ: فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الضَّمِيرُ فِي أَسَرَّهَا يَعُودُ إِلَى الْكَلِمَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ فَأَسَرَّ الْجُمْلَةَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَقَدْ رَدَّ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَذَا فَقَالَ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِضْمَارِ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْإِجَابَةِ، أَيْ: أَسَرَّ يُوسُفُ إِجَابَتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ وَقِيلَ: أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ قَوْلَهُمْ: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى، وَيَكُونُ مَعْنَى وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُبْدِ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ الَّتِي أَسَرَّهَا فِي نَفْسِهِ بِأَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ صِحَّتَهَا أَوْ بُطْلَانَهَا، وَجُمْلَةُ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً مُفَسِّرَةٌ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَمُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ يُوسُفُ لما قالوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ؟ أَيْ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا، أَيْ: مَوْضِعًا وَمَنْزِلًا مِمَّنْ نَسَبْتُمُوهُ إِلَى السَّرِقَةِ وَهُوَ بريء، فإنكم قد فعلتم ما فَعَلْتُمْ مِنْ إِلْقَاءِ يُوسُفَ إِلَى الْجُبِّ وَالْكَذِبِ عَلَى أَبِيكُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفَاعِيلِكُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ مِنَ الْبَاطِلِ بنسبة السرقة إِلَى يُوسُفَ، وَأَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ. ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَسْتَعْطِفُوهُ لِيُطْلِقَ لَهُمْ أَخَاهُمْ بِنْيَامِينَ يَكُونُ مَعَهُمْ يَرْجِعُونَ بِهِ إِلَى أَبِيهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَخْذِهِ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَرُدُّوهُ إليه، قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً أَيْ إِنَّ لِبِنْيَامِينَ هَذَا أَبًا متّصفا بهذه الصفة، وهو كَوْنُهُ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ فِرَاقَهُ وَلَا يَصْبِرُ عَنْهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ يَبْقَى لَدَيْكَ، فَإِنَّ لَهُ مَنْزِلَةً فِي قَلْبِ أَبِيهِ لَيْسَتْ لِوَاحِدٍ مِنَّا فَلَا يَتَضَرَّرُ بِفِرَاقِ أَحَدِنَا كَمَا يَتَضَرَّرُ بِفِرَاقِ بنيامين، ثم علّلوا ذلك بقولهم: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَإِلَيْنَا خَاصَّةً، فَتَمِّمْ إِحْسَانَكَ إِلَيْنَا بِإِجَابَتِنَا إِلَى هَذَا الْمَطْلَبِ، فَأَجَابَ يُوسُفُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ أَيْ نَعُوذُ بِاللَّهِ مَعَاذًا، فَهُوَ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمُسْتَعِيذُ بِاللَّهِ هُوَ الْمُعْتَصِمُ به، وأن نَأْخُذَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَالْأَصْلُ مِنْ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ، وَهُوَ بِنْيَامِينُ لِأَنَّهُ الَّذِي وُجِدَ الصُّوَاعُ فِي رَحْلِهِ فَقَدْ حَلَّ لَنَا اسْتِعْبَادُهُ بِفَتْوَاكُمُ الَّتِي أَفْتَيْتُمُونَا بِقَوْلِكُمْ: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ، إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ

_ (1) . المنطقة: المنطق، وهو ما يشدّ به الوسط.

أَيْ إِنَّا إِذَا أَخَذْنَا غَيْرَ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ لَظَالِمُونَ فِي دِينِكُمْ وَمَا تَقْتَضِيهِ فَتْوَاكُمْ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ أَيْ يَئِسُوا مِنْ يُوسُفَ وَإِسْعَافِهِمْ مِنْهُ إِلَى مَطْلَبِهِمُ الَّذِي طَلَبُوهُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ خَلَصُوا نَجِيًّا أَيِ انْفَرَدُوا حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَنَاجِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهُوَ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ انْفَرَدُوا وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَخُوهُمْ مُتَنَاجِينَ فِيمَا يَعْمَلُونَ بِهِ فِي ذَهَابِهِمْ إِلَى أبيهم من غير أخيهم. قالَ كَبِيرُهُمْ، وقيل: هُوَ رُوبِيلُ لِأَنَّهُ الْأَسْنُ، وَقِيلَ: يَهُوذَا لِأَنَّهُ الْأَوْفَرُ عَقْلًا، وَقِيلَ: شَمْعُونُ لِأَنَّهُ رَئِيسُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أَيْ عَهْدًا مِنَ اللَّهِ فِي حِفْظِ ابْنِهِ وَرَدِّهِ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ بِإِذْنِهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ [قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ موثقا من الله] «1» وَتَعْلَمُوا تَفْرِيطَكُمْ فِي يُوسُفَ ذَكَرَ هَذَا النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ، وَمِنْ قَبْلُ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَعْلَمُوا، أَيْ: وَتَعْلَمُوا تَفْرِيطَكُمْ فِي يُوسُفَ مِنْ قَبْلُ، عَلَى أَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً وَقِيلَ: مَا فَرَّطْتُمْ مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مِنْ قَبْلُ وَقِيلَ: إِنَّ مَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَكِلَاهُمَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ أَوِ الرَّفْعِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْأَوْلَى، وَمَعْنَى فَرَّطْتُمْ: قَصَّرْتُمْ فِي شَأْنِهِ، وَلَمْ تَحْفَظُوا عَهْدَ أَبِيكُمْ فِيهِ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ، يُقَالُ: بَرِحَ بَرَاحًا وَبُرُوحًا، أَيْ: زَالَ، فَإِذَا دَخَلَهُ النَّفْيُ صَارَ مُثْبَتًا، أَيْ: لَنْ أَبْرَحَ مِنَ الْأَرْضِ، بَلْ أَلْزَمُهَا وَلَا أَزَالُ مُقِيمًا فِيهَا حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي فِي مُفَارَقَتِهَا وَالْخُرُوجِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَسْتَحِي مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ وَلَدِهِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَوْثِقَ بِإِرْجَاعِهِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بِمُفَارَقَتِهَا وَالْخُرُوجِ مِنْهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بخلاص أخي من الأسر حتّى يعود إلى أبي وأعود معه وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بِالنَّصْرِ عَلَى مَنْ أَخَذَ أَخِي فَأُحَارِبُهُ وَآخُذُ أَخِي مِنْهُ، أَوْ أَعْجَزُ فَأَنْصَرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لِأَنَّ أَحْكَامُهُ لَا تَجْرِي إِلَّا عَلَى مَا يُوَافِقُ الْحَقَّ، وَيُطَابِقُ الصَّوَابَ، ثُمَّ قَالَ كَبِيرُهُمْ مُخَاطِبًا لَهُمُ ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «سَرَقَ» عَلَى البناء للفاعل، وذلك لِأَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا اسْتِخْرَاجَ الصُّوَاعِ مِنْ وِعَائِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو رَزِينٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَرَوَى ذَلِكَ النَّحَّاسُ عَنِ الْكِسَائِيِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ سَرَقَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا عُلِمَ مِنْهُ السَّرَقُ، وَالْآخَرُ اتُّهِمَ بِالسَّرَقِ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا مِنِ اسْتِخْرَاجِ الصُّوَاعُ مِنْ وِعَائِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَا شَهِدْنَا عِنْدَ يُوسُفَ بِأَنَّ السَّارِقَ يُسْتَرَقُّ إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا مِنْ شَرِيعَتِكَ وَشَرِيعَةِ آبَائِكَ وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَنَا هَلِ الْأَمْرُ عَلَى مَا شَاهَدْنَاهُ أَوْ عَلَى خِلَافِهِ؟ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: ما كنّا وقت أخذناه مِنْكَ لِيَخْرُجَ مَعَنَا إِلَى مِصْرَ لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ مِنْهُ السَّرَقُ الَّذِي افْتَضَحْنَا بِهِ وَقِيلَ: الْغَيْبُ هُوَ اللَّيْلُ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ سَرَقَ وَهُمْ نِيَامٌ وَقِيلَ: مُرَادُهُمْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وهو غائب عنهم، فخفي عليهم فعله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها هَذَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِ كَبِيرِهِمْ لَهُمْ، أَيْ: قُولُوا لِأَبِيكُمُ اسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا، أَيْ: مِصْرَ، وَالْمُرَادُ أهلها، أي: اسأل أهل القرية

_ (1) . من تفسير القرطبي (9/ 242) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 83 إلى 88]

وَقِيلَ: هِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى مِصْرَ نَزَلُوا فِيهَا وَامْتَارُوا مِنْهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ نَفْسَهَا وَإِنْ كَانَتْ جَمَادًا فَإِنَّكَ نَبِيُّ اللَّهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ سَيُنْطِقُهَا فَتُجِيبُكَ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يَجُوزُ: كَلِّمْ هِنْدًا وَأَنْتَ تُرِيدُ غُلَامَ هِنْدٍ وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها أَيْ: وَقُولُوا لِأَبِيكُمُ: اسْأَلِ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا، أَيْ: أَصْحَابَهَا وَكَانُوا قَوْمًا مَعْرُوفِينَ مِنْ جِيرَانِ يَعْقُوبَ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فِيمَا قُلْنَا، جَاءُوا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مُؤَكَّدَةً هَذَا التَّأْكِيدَ، لِأَنَّ مَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ مَعَ أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ يُوجِبُ كَمَالَ الرِّيبَةِ فِي خَبَرِهِمْ هَذَا عِنْدَ السَّامِعِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ قَالَ: يَعْنُونَ يُوسُفَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَرَقَ مُكْحُلَةً لِخَالَتِهِ، يَعْنِي يُوسُفَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَطِيَّةَ قَالَ: سَرَقَ فِي صِبَاهُ مِيلَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَرَقَ يُوسُفُ صَنَمًا لِجَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَكَسَرَهُ، وَأَلْقَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَعَيَّرَهُ بِذَلِكَ إِخْوَتُهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ غَيْرَ مَرْفُوعٍ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ قَالَ: أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ قَوْلَهُ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ قَالَ: أَيِسُوا مِنْهُ، وَرَأَوْا شِدَّتَهُ فِي أمره. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ: وَحْدَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قالَ كَبِيرُهُمْ قَالَ: شَمْعُونُ الَّذِي تَخَلَّفَ أَكْبَرُهُمْ عَقْلًا، وَأَكْبَرُ مِنْهُ فِي الْمِيلَادِ رُوبِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قالَ كَبِيرُهُمْ هُوَ رُوبِيلُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ نَهَاهُمْ عَنْ قَتْلِهِ وَكَانَ أَكْبَرَ الْقَوْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي قَالَ: أُقَاتِلُ بِسَيْفِي حَتَّى أُقْتَلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ قَالَ: مَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَكَ يَسْرِقُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عباس في قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ قَالَ: يَعْنُونَ مِصْرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ مثله. [سورة يوسف (12) : الآيات 83 الى 88] قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)

قَوْلُهُ: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أَيْ زَيَّنَتْ، وَالْأَمْرُ هُنَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ «1» وَمَا سَرَقَ فِي الْحَقِيقَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ إِخْرَاجُهُمْ بِنْيَامِينَ، وَالْمُضِيُّ بِهِ إِلَى مِصْرَ طَلَبًا لِلْمَنْفَعَةِ فَعَادَ ذَلِكَ بِالْمَضَرَّةِ وَقِيلَ: التَّسْوِيلُ: التَّخْيِيلُ، أَيْ: خَيَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا لَا أَصْلَ لَهُ وَقِيلَ: الْأَمْرُ الَّذِي سَوَّلَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ فُتَيَاهُمْ بِأَنَّ السَّارِقَ يُؤْخَذُ بِسَرِقَتِهِ، وَالْإِضْرَابُ هُنَا هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا أَثْبَتُوهُ مِنَ الْبَرَاءَةِ لِأَنْفُسِهِمْ، لَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَغَيْرِهَا، وَجُمْلَةُ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خبره محذوف أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جَمِيلٌ أَجْمَلُ بِي وَأَوْلَى لِي، وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا يَبُوحُ صَاحِبُهُ بِالشَّكْوَى، بَلْ يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَرْجِعُ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ «الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ الصَّدْمَةِ» . عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً أَيْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ، وَالْأَخِ الثَّالِثِ الْبَاقِي بِمِصْرَ، وَهُوَ كَبِيرُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا قَالَ هَكَذَا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَمُتْ، وَأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى الْحَيَاةِ وَإِنْ غَابَ عَنْهُ خَبَرُهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِحَالِي الْحَكِيمُ فِيمَا يَقْضِي بِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَقَطَعَ الكلام معهم وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَصْلُ يَا أَسَفِي، فَأُبْدِلَ مِنَ الْيَاءِ أَلِفًا لِخِفَّةِ الْفَتْحَةِ، وَالْأَسَفُ: شِدَّةُ الْجَزَعِ وَقِيلَ: شِدَّةُ الْحُزْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ كُثَيِّرٍ: فَيَا أَسَفَا لِلْقَلْبِ كَيْفَ انْصِرَافُهُ ... وَلِلنَّفْسِ لَمَّا سُلِّيَتْ فَتَسَلَّتِ قَالَ يَعْقُوبُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَمَّا بَلَغَ مِنْهُ الْحُزْنُ غَايَةً مُبَالَغَةً بِسَبَبِ فِرَاقِهِ لِيُوسُفَ، وَانْضِمَامِ فِرَاقِهِ لِأَخِيهِ بِنْيَامِينَ، وَبُلُوغِ مَا بَلَغَهُ مِنْ كَوْنِهِ أَسِيرًا عِنْدَ مَلِكِ مِصْرَ، فَتَضَاعَفَتْ أَحْزَانُهُ، وَهَاجَ عَلَيْهِ الْوَجْدُ الْقَدِيمُ بما أثاره من الخبر لأخيه. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ يَعْقُوبَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا ثَبَتَ فِي شَرِيعَتِنَا مِنَ الِاسْتِرْجَاعِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ ذَلِكَ لَمَا قَالَ: يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ. وَمَعْنَى الْمُنَادَاةِ لِلْأَسَفِ طَلَبُ حُضُورِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: تَعَالَ يَا أَسَفِي وَأَقْبِلْ إِلَيَّ، وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أَيِ انْقَلَبَ سَوَادُ عَيْنَيْهِ بَيَاضًا مِنْ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ. قِيلَ: إِنَّهُ زَالَ إِدْرَاكُهُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ بِالْمَرَّةِ، وَقِيلَ: كَانَ يُدْرِكُ إِدْرَاكًا ضَعِيفًا. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِ مَا وَقَعَ مِنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ هَذَا الْحُزْنِ الْعَظِيمِ الْمُفْضِي إِلَى ذَهَابِ بَصَرِهِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا بِأَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ يُوسُفَ حَيٌّ، فَخَافَ عَلَى دِينِهِ مَعَ كَوْنِهِ بِأَرْضِ مِصْرَ وَأَهْلُهَا حِينَئِذٍ كَفَّارٌ وَقِيلَ: إِنَّ مُجَرَّدَ الْحُزْنِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ مَا يُفْضِي مِنْهُ إِلَى الْوَلَهِ وَشَقِّ الثِّيَابِ وَالتَّكَلُّمِ بِمَا لَا يَنْبَغِي، وقد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِ وَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ، وإنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون» «2» . وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: فَهُوَ كَظِيمٌ أَيْ مَكْظُومٌ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَمْلُوءٌ مِنَ الْحُزْنِ مُمْسِكٌ له لا

_ (1) . يوسف: 81. (2) . حديث رواه البخاري من حديث أنس.

يَبُثُّهُ، وَمِنْهُ كَظْمُ الْغَيْظِ وَهُوَ إِخْفَاؤُهُ، فَالْمَكْظُومُ الْمَسْدُودُ عَلَيْهِ طَرِيقُ حُزْنِهِ، مِنْ كَظَمَ السِّقَاءَ إِذَا سَدَّهُ عَلَى مَا فِيهِ، وَالْكَظَمُ بِفَتْحِ الظَّاءِ: مَخْرَجُ النَّفَسِ، يُقَالُ: أَخَذَ بِأَكْظَامِهِ. وَقِيلَ: الْكَظِيمُ بِمَعْنَى الْكَاظِمِ، أَيِ: الْمُشْتَمِلِ عَلَى حُزْنِهِ الْمُمْسِكِ لَهُ، وَمِنْهُ: فَإِنْ أَكُ كَاظِمًا لِمُصَابِ نَاسٍ «1» ... فَإِنِّي الْيَوْمَ مُنْطَلِقٌ لِسَانِي وَمِنْهُ: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «2» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى كَظِيمٌ: مَحْزُونٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ مَغْمُومٌ مَكْرُوبٌ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْحُزْنُ بِالضَّمِّ وَالسُّكُونِ: البكاء، بفتحتين: ضِدُّ الْفَرَحِ. وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ: هُمَا لغتان بمعنى، قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ أي لا تفتأ، فَحُذِفَ حَرْفُ النَّفْيِ لِعَدَمِ اللَّبْسِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: فَتَأْتُ وَفَتِئْتُ أَفْعَلُ كَذَا، أَيْ: مَا زِلْتُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ لَا مُضْمَرَةٌ، أَيْ: لَا تَفْتَأُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالَّذِي قَالَ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ مِثْلُ قَوْلِ الْفَرَّاءِ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ مُحْتَجًّا عَلَى مَا قَالَهُ: فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي «3» وَيُقَالُ: فَتِئَ وَفَتَأَ لُغَتَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «4» : فَمَا فَتِئْتُ حَتَّى كَأَنَّ غُبَارَهَا ... سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِي رِيَاحٍ تُرْفَعُ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً الْحَرَضُ: مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ، حَرِضٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ كَدَنَفٍ وَدَنِفٍ، وَأَصْلُ الْحَرَضِ: الْفَسَادُ فِي الْجِسْمِ أَوِ الْعَقْلِ مِنَ الْحُزْنِ أَوِ الْعِشْقِ أَوِ الْهَرَمِ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِ، ومنه قول الشاعر: سرى همّي فأمرضني ... وقدما زَادَنِي مَرَضَا كَذَاكَ الْحُبُّ قَبْلَ الْيَوْ ... مِ مِمَّا يُورِثُ الْحَرَضَا وَقِيلَ: الْحَرَضُ: مَا دُونَ الموت، وقيل: الهرم، وقيل: الحارض: البالي الداثر. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَارِضُ: الْفَاسِدُ الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ، وَكَذَا الْحَرَضُ. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ: هُوَ الذَّائِبُ مِنَ الْهَمِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ «5» : إِنِّي امْرُؤٌ لَجَّ بِي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي ... حَتَّى بَلِيتُ وَحَتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ وَيُقَالُ رَجُلٌ مُحْرَضٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: طَلَبَتْهُ الْخَيْلُ يَوْمًا كَامِلًا ... وَلَوْ أَلْفَتْهُ لَأَضْحَى محرضا

_ (1) . في تفسير القرطبي (9/ 249) : شاس. (2) . آل عمران: 134. (3) . البيت لامرئ القيس. و «الأوصال» : جمع وصل: وهو المفصل. (4) . هو أوس بن حجر. (5) . هو العرجيّ.

قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ أَحْرَضَهُ الْهَمُّ إِذَا أَسْقَمَهُ، وَرَجُلٌ حَارِضٌ: أَيْ أَحْمَقٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْحَارِضُ الذَّاهِبُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هُوَ الْهَالِكُ. وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْحَرَضِ هُنَا بِغَيْرِ الْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ حَتَّى يَكُونَ لِقَوْلِهِ: أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ مَعْنًى غَيْرُ مَعْنَى الْحَرَضِ، فَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، وَمَعْنَى مِنَ الْهَالِكِينَ: مِنَ الْمَيِّتِينَ وَغَرَضُهُمْ مَنْعُ يَعْقُوبَ مِنَ الْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ شَفَقَةً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا هم سبب أحزانه ومنشأ همومه وغمومه الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا قَالَ يَعْقُوبُ لَمَّا قَالُوا لَهُ مَا قَالُوا؟ وَالْبَثُّ: مَا يَرِدُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَعْظُمُ حُزْنُ صَاحِبِهَا بِهَا حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى إِخْفَائِهَا، كَذَا قال أهل اللغة، وهو مأخوذ من بثثته: أي فرّقته، فَسُمِّيَتِ الْمُصِيبَةُ بَثًّا مَجَازًا. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وقفت على ربع لميّة ناقتي ... فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ «1» ... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلَاعِبُهْ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَدَرَ عَلَى كَتْمِ مَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْمَصَائِبِ كَانَ ذَلِكَ حُزْنًا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَتْمِهِ كَانَ ذَلِكَ بَثًّا، فَالْبَثُّ عَلَى هَذَا: أَعْظَمُ الْحُزْنِ وَأَصْعَبُهُ وَقِيلَ: الْبَثُّ: الْهَمُّ وَقِيلَ: هُوَ الْحَاجَةُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ عَطْفُ الْحُزْنِ عَلَى الْبَثِّ وَاضِحُ الْمَعْنَى. وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ الْبَثِّ بِالْحُزْنِ الْعَظِيمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَشْكُو حُزْنِي الْعَظِيمَ وَمَا دُونَهُ مِنَ الْحُزْنِ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ. وَقَدْ قرئ «حزني» بضم الحاء وسكون الزاي «وحزني» بفتحهما أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيْ أَعْلَمُ مِنْ لُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ وَثَوَابِهِ عَلَى الْمُصِيبَةِ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ وَقِيلَ: أَرَادَ عِلْمَهُ بِأَنَّ يُوسُفَ حَيٌّ وَقِيلَ: أَرَادَ عِلْمَهُ بِأَنَّ رُؤْيَاهُ صَادِقَةٌ وَقِيلَ: أَعْلَمُ مِنْ إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّينَ إِلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ التَّحَسُّسُ بِمُهْمَلَاتٍ: طَلَبُ الشَّيْءِ بِالْحَوَاسِّ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِسِّ، أَوْ مِنَ الْإِحْسَاسِ، أَيِ: اذْهَبُوا فَتَعَرَّفُوا خَبَرَ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وتطلبوه، وقرئ بِالْجِيمِ، وَهُوَ أَيْضًا التَّطَلُّبُ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أَيْ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ فَرَجِهِ وَتَنْفِيسِهِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الرَّوْحُ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَسِيمِ الْهَوَاءِ فَيَسْكُنُ إِلَيْهِ، وَالتَّرْكِيبُ يَدُلُّ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْهِزَّةِ، فَكُلُّ مَا يَهْتَزُّ الْإِنْسَانُ بِوُجُودِهِ وَيَلْتَذُّ بِهِ فَهُوَ رَوْحٌ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الرَّوْحُ الِاسْتِرَاحَةُ من غمّ القلب. وقال أبو عمرو: الروح: الفرج، وقيل: الرحمة إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ لِكَوْنِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَعَظِيمِ صُنْعِهِ، وَخَفِيِّ أَلْطَافِهِ. قَوْلُهُ: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أَيْ عَلَى يُوسُفَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبُوا كَمَا أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ إِلَى مِصْرَ لِيَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أَيِ الْمَلِكُ الْمُمْتَنِعُ الْقَادِرُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ أَيِ الْجُوعُ وَالْحَاجَةُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ الشَّكْوَى عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِذَا خَافَ مِنْ إِصَابَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا يَجُوزُ لِلْعَلِيلِ أَنْ يَشْكُوَ إِلَى الطَّبِيبِ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْعِلَّةِ، وَهَذِهِ الْمَرَّةُ الَّتِي دَخَلُوا فِيهَا مِصْرَ

_ (1) . أبثّه: بضم الهمزة وكسر الباء أفصح من أبثّه بفتح الهمزة وضم الباء (ديوان ذي الرمة 2/ 821) .

هِيَ الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ كَمَا يُفِيدُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سِيَاقِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ الْبِضَاعَةُ: هِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْمَالِ يُقْصَدُ بِهَا شِرَاءُ شَيْءٍ، يُقَالُ: أَبْضَعْتُ الشَّيْءَ وَاسْتَبْضَعْتُهُ إِذَا جَعَلْتَهُ بِضَاعَةً، وَفِي الْمَثَلِ «كَمُسْتَبْضِعِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ» «1» وَالْإِزْجَاءُ: السَّوْقُ بِدَفْعٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْإِزْجَاءُ فِي اللُّغَةِ السَّوْقُ وَالدَّفْعُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً «2» ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا بِضَاعَةٌ تُدْفَعُ وَلَا يَقْبَلُهَا التُّجَّارُ. قَالَ ثَعْلَبٌ: الْبِضَاعَةُ الْمُزْجَاةُ: النَّاقِصَةُ غَيْرُ التَّامَّةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا قِيلَ لِلدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ مُزْجَاةٌ لِأَنَّهَا مَرْدُودَةٌ مَدْفُوعَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْبِضَاعَةِ مَا هِيَ؟ فَقِيلَ: كَانَتْ قَدِيدًا وَحَيْسًا «3» ، وَقِيلَ: صُوفٌ وَسَمْنٌ، وَقِيلَ: الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ وَالصَّنَوْبَرُ، وَقِيلَ: دَرَاهِمُ رَدِيئَةٌ، وَقِيلَ: النِّعَالُ وَالْأُدْمُ. ثُمَّ طَلَبُوا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرُوهُ بِالْبِضَاعَةِ الَّتِي مَعَهُمْ أَنْ يُوَفِّيَ لَهُمُ الْكَيْلَ، أَيْ: يَجْعَلَهُ تَامًّا لَا نَقْصَ فِيهِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِمَّا بِزِيَادَةٍ يَزِيدُهَا لَهُمْ عَلَى مَا يُقَابِلُ بِضَاعَتَهُمْ، أَوْ بِالْإِغْمَاضِ عَنْ رَدَاءَةِ الْبِضَاعَةِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا، وَأَنْ يَجْعَلَهَا كَالْبِضَاعَةِ الْجَيِّدَةِ فِي إِيفَاءِ الْكَيْلِ لَهُمْ بِهَا، وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَقَدْ قِيلَ: كَيْفَ يَطْلُبُونَ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ وَالصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ وَأُجِيبَ بِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِنَبِيِّنَا محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ بِمَا يَجْعَلُهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الْأُخْرَوِيِّ، أَوِ التَّوْسِيعِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً قَالَ: يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَرُوبِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُوسُفَ وأخيه وكبيرهم الذي تخلف. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ قَالَ: يَا حُزْنًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجُوا عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَا جَزَعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ كَظِيمٌ قَالَ: حَزِينٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وأبو الشيخ عن قَتَادَةَ قَالَ: كَظَمَ عَلَى الْحُزْنِ فَلَمْ يَقُلْ إِلَّا خَيْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ الخراساني قَالَ: كَظِيمٌ مَكْرُوبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم وأبو الشيخ عن الضَّحَّاكِ قَالَ: الْكَظِيمُ الْكَمِدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ قَالَ: لَا تَزَالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً قَالَ: دَنِفًا مِنَ الْمَرَضِ أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ قَالَ: الْمَيِّتِينَ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ في قوله: تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ قَالَ: لَا تَزَالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً قَالَ: هَرِمًا، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ قال: أبو تَمُوتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً قَالَ: الْحَرَضُ: البالي،

_ (1) . هجر: مدينة بالبحرين. [.....] (2) . النور: 43. (3) . الحيس: طعام يتخذ من التمر والسمن واللبن المجفف.

[سورة يوسف (12) : الآيات 89 إلى 98]

أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ قَالَ: مِنَ الْمَيِّتِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَثَّ لَمْ يَصْبِرْ، ثُمَّ قرأنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ » . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الْمَعْرِفَةِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عبد الله بن عمرو مرفوعا مثله. وأخرج ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: نَّما أَشْكُوا بَثِّي قَالَ: هَمِّي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ في قوله: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ صَادِقَةٌ وَأَنِّي سَأَسْجُدُ لَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ قَالَ: مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زيد قال: من فرج الله أن يُفَرِّجُ عَنْكُمُ الْغَمَّ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ قَالَ: أَيِ الضُّرُّ فِي الْمَعِيشَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِبِضاعَةٍ قَالَ: دَرَاهِمُ مُزْجاةٍ قَالَ: كَاسِدَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: مُزْجَاةٍ: رَثَّةُ الْمَتَاعِ خَلِقَةُ الْحَبْلِ وَالْغِرَارَةِ وَالشَّيْءِ «1» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا مُزْجَاةٍ قَالَ: الْوَرِقُ الزُّيُوفُ الَّتِي لَا تُنْفَقُ حَتَّى يُوضَعَ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا قَالَ: اردد علينا أخانا. [سورة يوسف (12) : الآيات 89 الى 98] قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)

_ (1) . كذا في تفسير ابن جرير وابن كثير والمطبوع، ولعل الصواب (الشنّ) وهو القربة الخلق الصغيرة يكون الماء فيها أبرد من غيرها.

الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ عَلِمْتُمْ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، وَقَدْ كَانُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَعْظِيمُ الْوَاقِعَةِ لِكَوْنِهِ فِي قُوَّةِ مَا أَعْظَمَ الْأَمْرَ الَّذِي ارْتَكَبْتُمْ مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، وَمَا أَقْبَحَ مَا أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ؟ كَمَا يُقَالُ لِلْمُذْنِبِ: هَلْ تَدْرِي مَنْ عَصَيْتَ؟ وَالَّذِي فَعَلُوا بِيُوسُفَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا مَا فَعَلُوا بِأَخِيهِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ مَا أَدْخَلُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَمِّ بِفِرَاقِ أَخِيهِ يُوسُفَ، وَمَا كَانَ يَنَالُهُ مِنْهُمْ مِنَ الِاحْتِقَارِ وَالْإِهَانَةِ، وَلَمْ يَسْتَفْهِمْهُمْ عَمَّا فَعَلُوا بأبيهم يَعْقُوبَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ نَالَهُ مِنْهُمْ مَا قصّه فِيمَا سَبَقَ مِنْ صُنُوفِ الْأَذَى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَاهُ يَعْقُوبَ مَعَ عِظَمِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَمِّ بِفِرَاقِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَرَفْعًا مِنْ قَدْرِهِ، وَعِلْمًا بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَلَاءً لَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَزِيدَ فِي دَرَجَتِهِ عِنْدَهُ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ نَفَى عنهم العلم وأثبت لهم صفة الجهل لأنهم لم يعملوا بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَثْبَتَ لَهُمْ صِفَةَ الْجَهْلِ لِقَصْدِ الِاعْتِذَارِ عَنْهُمْ وَتَخْفِيفِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَقْدَمْتُمْ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ الْمُنْكَرِ وَقْتَ عَدَمِ عِلْمِكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ وَقُصُورِ مَعَارِفِكُمْ عَنْ عَاقِبَتِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ فِي أَوَانِ الصِّبَا وَزَمَانِ الصِّغَرِ، اعْتِذَارًا لَهُمْ وَدَفْعًا لِمَا يَدْهَمُهُمْ مِنَ الْخَجَلِ وَالْحَيْرَةِ مَعَ عِلْمِهِ وَعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي ذَلِكَ الوقت كبارا قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «إِنَّكَ» عَلَى الْخَبَرِ بِدُونِ اسْتِفْهَامٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ التقديري، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِغْرَابِ، قِيلَ: سَبَبُ مَعْرِفَتِهِمْ لَهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ لَهُمْ: مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ تَنَبَّهُوا وَفَهِمُوا أَنَّهُ لَا يُخَاطِبُهُمْ بِمِثْلِ هَذَا إِلَّا هُوَ وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ وَضَعَ التَّاجَ عَنْ رَأْسِهِ فَعَرَفُوهُ وَقِيلَ: أَنَّهُ تَبَسَّمَ فَعَرَفُوا ثَنَايَاهُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي أَجَابَهُمْ بِالِاعْتِرَافِ بِمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَظْهَرَ الِاسْمَ فَقَالَ أَنَا يُوسُفُ وَلَمْ يَقُلْ أَنَا هُوَ، تَعْظِيمًا لِمَا وَقَعَ بِهِ مِنْ ظُلْمِ إِخْوَتِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا الْمَظْلُومُ الْمُسْتَحَلُّ مِنْهُ الْمُحَرَّمُ الْمُرَادُ قَتْلُهُ. فَاكْتَفَى بِإِظْهَارِ الِاسْمِ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَقَالَ: وَهَذَا أَخِي مَعَ كَوْنِهِمْ يَعْرِفُونَهُ وَلَا يُنْكِرُونَهُ لِأَنَّ قَصْدَهُ وَهَذَا أَخِي الْمَظْلُومُ كَظُلْمِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بِالْخَلَاصِ عمّا ابْتُلِينَا بِهِ وَقِيلَ: مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِكُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقِيلَ: بِالْجَمْعِ بَيْنَنَا بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي يَتَّقِي. كَمَا فِي قول الشاعر: إ لم يَأْتِيكَ وَالْأَنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادٍ وَقِيلَ: إِنَّهُ جَعَلَ مَنْ مَوْصُولَةً لَا شَرْطِيَّةً، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ مَنْ يَفْعَلُ التَّقْوَى أَوْ يَفْعَلُ مَا يَقِيهِ عَنِ الذُّنُوبِ ويصير عَلَى الْمَصَائِبِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَجَاءَ بِالظَّاهِرِ، وَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، أَيْ: أَجْرَهُمْ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِالتَّقْوَى مَوْصُوفُونَ بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أَيْ لَقَدِ اخْتَارَكَ وَفَضَّلَكَ عَلَيْنَا بِمَا خَصَّكَ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَعَظِيمِ قَدْرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونُوا أنبياء، فإنّ

دَرَجَ الْأَنْبِيَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ «1» . وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ ذَلِكَ. قال أبو عبيدة: خطىء وَأَخْطَأَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمُخْطِئُ مَنْ أَرَادَ الصَّوَابَ فَصَارَ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: الْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَالْخَاطِئُ مَنْ تَعَمَّدَ مَا لَا يَنْبَغِي. قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلِاعْتِرَافِ بِالْخَطَأِ وَالذَّنْبِ اسْتِجْلَابًا لِعَفْوِهِ وَاسْتِجْذَابًا لِصَفْحِهِ قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ التَّثْرِيبُ: التَّعْيِيرُ وَالتَّوْبِيخُ أَيْ: لَا تَعْيِيرَ وَلَا تَوْبِيخَ، وَلَا لَوْمَ عَلَيْكُمْ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَرَّبْتُ عَلَيْهِ: قَبَّحْتُ عَلَيْهِ فِعْلَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَا إِفْسَادَ لِمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْحُرْمَةِ وَحَقِّ الْأُخُوَّةِ، وَلَكُمْ عِنْدِي الصُّلْحُ وَالْعَفْوُ، وَأَصْلُ التَّثْرِيبِ الْإِفْسَادُ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ قَدِ انْقَطَعَ عَنْكُمْ تَوْبِيخِي عِنْدَ اعْتِرَافِكُمْ بِالذَّنْبِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: ثَرَّبَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا عَدَّدَ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ، وَأَصْلُ التَّثْرِيبِ مِنَ الثَّرْبِ، وَهُوَ الشَّحْمُ الَّذِي هُوَ غَاشِيَةُ الْكَرِشِ، وَمَعْنَاهُ إِزَالَةُ التَّثْرِيبِ، كَمَا أَنَّ التَّجْلِيدَ وَالتَّقْرِيعَ إِزَالَةُ الْجِلْدِ وَالْقَرَعِ وَانْتِصَابُ الْيَوْمَ بِالتَّثْرِيبِ أَيْ: لَا أُثَرِّبُ عَلَيْكُمْ أَوْ مُنْتَصِبٌ بِالْعَامِلِ الْمُقَدَّرِ فِي عَلَيْكُمْ وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ أَوْ ثَابِتٌ أَوْ نَحْوُهُمَا، أَيْ: لَا تَثْرِيبَ مُسْتَقِرٌّ أَوْ ثَابِتٌ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ جَوَّزَ الْأَخْفَشُ الْوَقْفَ عَلَى عَلَيْكُمُ فَيَكُونُ الْيَوْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ هَذَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، ثُمَّ دَعَا لَهُمْ بِقَوْلِهِ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْوَقْفِ عَلَى الْيَوْمَ، أَوْ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى تَقْدِيرِ الْوَقْفِ عَلَى عَلَيْكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَرْحَمُ عِبَادَهُ رَحْمَةً لَا يَتَرَاحَمُونَ بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَيُجَازِي مُحْسِنَهُمْ وَيَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ. قَوْلُهُ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا قِيلَ: هَذَا الْقَمِيصُ هُوَ الْقَمِيصُ الَّذِي أَلْبَسَهُ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَكَسَاهُ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ، وَكَسَاهُ إِسْحَاقُ يَعْقُوبَ. وَكَانَ يَعْقُوبُ أَدْرَجَ هذا القميص في صبة «2» وَعَلَّقَهُ فِي عُنُقِ يُوسُفَ لَمَّا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَيْنِ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ يُوسُفَ أَنْ يُرْسِلَ بِهِ إِلَى يَعْقُوبَ لِيَعُودَ عَلَيْهِ بَصَرُهُ لِأَنَّ فِيهِ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَرِيحُ الْجَنَّةِ لَا يَقَعُ عَلَى سَقِيمٍ إِلَّا شُفِيَ وَلَا مُبْتَلًى إِلَّا عُوفِيَ فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً أي يصير بَصِيرًا، عَلَى أَنَّ «يَأْتِ» هِيَ الَّتِي مِنْ أَخَوَاتِ كَانَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يَرْجِعُ بَصِيرًا. وَقَالَ السدّي: يعود بَصِيرًا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَأْتِ إِلَيَّ إِلَى مِصْرَ وَهُوَ بَصِيرٌ قَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْعَمَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ جَمِيعِ مَنْ شَمَلَهُ لَفْظُ الْأَهْلِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، قِيلَ: كَانُوا نَحْوَ سَبْعِينَ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةً وَتِسْعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ أَيْ خَرَجَتْ مُنْطَلِقَةً مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ. يُقَالُ: فَصَلَ فُصُولًا، وَفَصَلْتُهُ فَصْلًا، لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، وَيُقَالُ: فَصَلَ مِنَ الْبَلَدِ فُصُولًا: إِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ وَجَاوَزَ حِيطَانَهُ قالَ أَبُوهُمْ أَيْ يَعْقُوبُ لِمَنْ عِنْدَهُ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ مِنْ أَهْلِهِ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ قِيلَ: إِنَّهَا هَاجَتْ رِيحٌ فَحَمَلَتْ رِيحَ الْقَمِيصَ إِلَى يَعْقُوبَ مَعَ طُولِ الْمَسَافَةِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا وَجَدَ. ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ لَوْلَا أَنْ تَنْسُبُونِي إِلَى الْفَنَدِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْعَقْلِ مِنَ الْهَرَمِ، يُقَالُ أَفْنَدَ الرَّجُلُ: إِذَا خَرِفَ وَتَغَيَّرَ عَقْلُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَوْلَا أَنْ تُسَفِّهُونِ، فَجَعَلَ الْفَنَدَ السَّفَهَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْلَا أَنْ تُجَهِّلُونِ، فَجَعَلَ الْفَنَدَ الْجَهْلَ، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قال إنه السفه قول النابغة:

_ (1) . البقرة: 253. (2) . في تفسير القرطبي (9/ 258) : قصبة من فضة.

إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْمَلِيكُ لَهُ ... قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ أَيِ امْنَعْهَا عن السّفه. وقال أبو عمرو الشَّيْبَانِيُّ: التَّفْنِيدُ: التَّقْبِيحُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا صاحبيّ دعا لومي وتفنيدي ... فَلَيْسَ مَا فَاتَ مِنْ أَمْرِي بِمَرْدُودِ وَقِيلَ: هُوَ الْكَذِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: هَلْ فِي افْتِخَارِ الْكَرِيمِ مِنْ أَوَدٍ «1» ... أَمْ هَلْ لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ مِنْ فَنَدِ وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ لَوْلَا أَنْ تُضَعِّفُوا رَأْيِي. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: التَّفْنِيدُ اللَّوْمُ وَضَعْفُ الرَّأْيِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي رَاجِعٌ إِلَى التَّعْجِيزِ وَتَضْعِيفِ الرَّأْيِ، يُقَالُ: فَنَّدَهُ تَفْنِيدًا: إذا أعجزه، وأفند: إذا تكلم بالخطإ، والفند: الخطأ في الْكَلَامِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ عَلَى اللَّوْمِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا عَاذِلَيَّ دَعَا الْمَلَامِ وَأَقْصِرَا ... طَالَ الْهَوَى وَأَطَلْتُمَا التَّفْنِيدَا أَخْبَرَهُمْ يَعْقُوبُ بِأَنَّ الصَّبَا قَدْ حَمَلَتْ إِلَيْهِ رِيحَ حَبِيبِهِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا مَا يَخْشَاهُ مِنَ التَّفْنِيدِ لَمَا شَكَّ فِي ذَلِكَ: فَإِنَّ الصَّبَا رِيحٌ إِذَا مَا تَنَفَّسَتْ ... عَلَى نَفْسِ مَهْمُومٍ تَجَلَّتْ هُمُومُهَا إِذَا قُلْتُ هَذَا حِينَ أَسْلُو يُهَيِّجُنِي ... نَسِيمُ الصَّبَا مِنْ حَيْثُ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَلَقَدْ تَهُبُّ لي الصّبا من أرضها ... فيلذّ مسّ هبوبها وَيُطِيبُ قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ أَيْ قَالَ الْحَاضِرُونَ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ: إِنَّكَ يَا يَعْقُوبُ لَفِي ذَهَابِكَ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ قَدِيمًا مِنْ إِفْرَاطِ حُبِّكَ لِيُوسُفَ لَا تَنْسَاهُ، وَلَا تَفْتُرُ عَنْهُ، وَلِسَانُ حَالِ يَعْقُوبَ يَقُولُ لَهُمْ: لَا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ ... وَلَا الصَّبَابَةَ إِلَّا مَنْ يُعَانِيهَا لَا تَعْذِلِ الْمُشْتَاقَ فِي أَشْوَاقِهِ ... حَتَّى تَكُونَ حَشَاكَ فِي أَحْشَائِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّكَ لَفِي جُنُونِكَ الْقَدِيمِ، وَقِيلَ: فِي مَحَبَّتِكَ الْقَدِيمَةِ. قَالُوا لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَهُمْ قُدُومُ الْبَشِيرِ فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْبَشِيرُ: هُوَ يَهُوذَا بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ لِإِخْوَتِهِ: أَنَا جِئْتُهُ بِالْقَمِيصِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ، فَأَعْطِنِي الْيَوْمَ قَمِيصَكَ لِأُخْبِرَهُ أَنَّكَ حَيٌّ، فَأُفْرِحَهُ كَمَا أَحْزَنْتُهُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ أَيْ أَلْقَى الْبَشِيرُ قَمِيصَ يُوسُفَ عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبَ، أَوْ أَلْقَاهُ يَعْقُوبُ عَلَى وَجْهِ نَفْسِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً الِارْتِدَادُ: انْقِلَابُ الشَّيْءِ إِلَى حَالٍ قَدْ كَانَ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى: عَادَ وَرَجَعَ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى مِنْ صِحَّةِ بَصَرِهِ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ أَيْ قَالَ يَعْقُوبُ لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يوسف، ألم أقل لكم هذا القول

_ (1) . «أود» : عوج.

فَقُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ كَلَامًا مُبْتَدَأً لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ مَقُولَ الْقَوْلِ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ إِخْبَارَهُمْ بِمَا قَالَهُ لهم سابقا: َّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ «1» . قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، وَاعْتَرَفُوا بِالذَّنْبِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ مِصْرَ وَوَصَلُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، فَوَعَدَهُمْ بِمَا طلبوه منه وقالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي قَالَ الزَّجَّاجُ: أَرَادَ يَعْقُوبُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فِي وَقْتِ السَّحَرِ لِأَنَّهُ أَخْلَقُ بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، لَا أَنَّهُ بَخِلَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَقِيلَ: أَخَّرَهُ إِلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: أَخَّرَهُ إِلَى أَنْ يَسْتَحِلَّ لَهُمْ مِنْ يُوسُفَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ عَفَا عَنْهُمْ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا تَثْرِيبَ قَالَ: لَا تَعْيِيرَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ الْتَفَتَ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ: مَاذَا تَقُولُونَ؟ وَمَاذَا تَظُنُّونَ؟ فَقَالُوا: ابْنُ عَمٍّ كَرِيمٌ، فَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الدَّلَائِلِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عطاء الخراساني قَالَ: طَلَبُ الْحَوَائِجِ إِلَى الشَّبَابِ أَسْهَلُ مِنْهَا عِنْدَ الشُّيُوخِ أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِ يُوسُفَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي. أَقُولُ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ نَظَرٌ فَإِنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ يُوسُفَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِمْ: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا فَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ صُدُورُ الْعَفْوِ مِنْهُ عَنْهُمْ، وَطَلَبُوا مِنْ أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لَهُمْ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِطَلَبِ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فَرْقٌ، فَلَمْ يَكُنْ وَعْدُ يَعْقُوبَ لَهُمْ بُخْلًا عَلَيْهِمْ بِسُؤَالِ اللَّهِ لَهُمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا صَحَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ أَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ الْإِجَابَةِ فَإِنَّهُ لَوْ طَلَبَهُ لَهُمْ فِي الْحَالِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِلْمٌ بِالْقَبُولِ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ إِخْوَةِ يُوسُفَ مَا كَانَ، كَتَبَ يَعْقُوبُ إِلَى يُوسُفَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُوسُفُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عَزِيزِ آلِ فِرْعَوْنَ، سَلَامٌ عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ مُولَعٌ بِنَا أَسْبَابُ الْبَلَاءِ، كَانَ جَدِّي إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَأَمَرَ اللَّهُ جَدِّي أَنْ يَذْبَحَ لَهُ أَبِي فَفَدَاهُ اللَّهُ بِمَا فَدَاهُ، وَكَانَ لِيَ ابْنٌ وَكَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ فَفَقَدْتُهُ، فَأَذْهَبَ حُزْنِي عَلَيْهِ نُورَ بَصَرِي، وَكَانَ لَهُ أَخٌ مِنْ أُمِّهِ كُنْتُ إِذَا ذَكَرْتُهُ ضَمَمْتُهُ إِلَى صَدْرِي فَأَذْهَبَ عَنِّي بَعْضَ وَجْدِي، وَهُوَ الْمَحْبُوسُ عِنْدَكَ فِي السَّرِقَةِ، وَإِنِّي أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَسْرِقْ، وَلَمْ أَلِدْ سَارِقًا فَلَمَّا قَرَأَ يُوسُفُ الْكِتَابَ بَكَى وَصَاحَ وَقَالَ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

_ (1) . يوسف: 86.

قَالَ فِي قَوْلِهِ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا: «أَنَّ نمروذ لَمَّا أَلْقَى إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ نَزَلَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ بِقَمِيصٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَطَنْفَسَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَلْبَسَهُ الْقَمِيصَ وَأَقْعَدَهُ عَلَى الطَّنْفَسَةِ، وَقَعَدَ مَعَهُ يتحدّث، فأوحى الله إلى النار في قوله: كُونِي بَرْداً وَسَلاماً. وَلَوْلَا أَنَّهُ قَالَ وَسَلَامًا لَأَذَاهُ الْبَرْدُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «أَنَّ اللَّهَ كَسَا إِبْرَاهِيمَ ثَوْبًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَكَسَاهُ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ، وَكَسَاهُ إِسْحَاقُ يَعْقُوبَ، فَأَخَذَهُ يَعْقُوبُ فَجَعَلَهُ فِي قَصَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ وَعَلَّقَهُ فِي عُنُقِ يُوسُفَ، وَلَوْ عَلِمَ إِخْوَتُهُ إِذْ أَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ لَأَخَذُوهُ فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرُدَّ يُوسُفَ عَلَى يَعْقُوبَ كَانَ بَيْنَ رُؤْيَاهُ وَتَعْبِيرِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً أَمَرَ الْبَشِيرَ أَنْ يُبَشِّرَهُ مِنْ ثَمَانِ مَرَاحِلَ، فَوَجَدَ يَعْقُوبُ رِيحَهُ فَقَالَ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ، فَلَمَّا أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ ارْتَدَّ بَصِيرًا، وَلَيْسَ يَقَعُ شَيْءٌ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى عَاهَةٍ مِنْ عَاهَاتِ الدُّنْيَا إِلَّا أَبْرَأَهَا بِإِذْنِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْعِيرُ هَاجَتِ الرِّيحُ، فَجَاءَتْ يَعْقُوبَ بِرِيحِ قَمِيصِ يُوسُفَ فَقَالَ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ تُسَفِّهُونِ، فَوَجَدَ رِيحَهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: وَجَدَ رِيحَهُ مِنْ مَسِيرَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ: وَجَدَهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالَ: تُجَهِّلُونِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: تُكَذِّبُونِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: تُهْرِمُونِ، يَقُولُونَ قَدْ ذَهَبَ عَقْلُكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الرَّبِيعِ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُحَمِّقُونِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ يَقُولُ: خَطَئِكَ الْقَدِيمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جُنُونِكَ الْقَدِيمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حُبِّكِ الْقَدِيمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْبَشِيرُ الْبَرِيدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: الْبَشِيرُ هُوَ يَهُوذَا بْنُ يَعْقُوبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى يَعْقُوبَ فَأَلْقَى عَلَيْهِ الْقَمِيصَ قَالَ: عَلَى أَيِّ دِينٍ خَلَّفْتَ يُوسُفَ؟ قَالَ: عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ: الْآنَ تَمَّتِ النِّعْمَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي قَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ أَخَّرَ بَنِيهِ إِلَى السَّحَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخَّرَهُمْ إِلَى السَّحَرِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالسَّحَرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: أَخَّرَهُمْ إِلَى السَّحَرِ لِأَنَّ دُعَاءَ السَّحَرِ مُسْتَجَابٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَصِّهِ: «هُوَ قَوْلُ أَخِي يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» يَقُولُ: حَتَّى تأتي ليلة الجمعة.

[سورة يوسف (12) : الآيات 99 إلى 101]

[سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 101] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) قَوْلُهُ: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ لَعَلَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا مُقَدَّرًا، وَهُوَ: فَرَحَلَ يَعْقُوبُ وَأَوْلَادُهُ وَأَهْلُهُ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، أَيْ: ضَمَّهُمَا وَأَنْزَلَهُمَا عِنْدَهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِالْأَبَوَيْنِ هُنَا يَعْقُوبُ وَزَوْجَتُهُ خَالَةُ يُوسُفَ لِأَنَّ أُمَّهُ قَدْ كَانَتْ مَاتَتْ فِي وِلَادَتِهَا لِأَخِيهِ بِنْيَامِينَ كَمَا تَقَدَّمَ وَقِيلَ: أَحْيَا اللَّهُ لَهُ أُمَّهُ تَحْقِيقًا لِلرُّؤْيَا حَتَّى سَجَدَتْ له، في قوله: وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مِمَّا تَكْرَهُونَ، وَقَدْ كَانُوا فِيمَا مَضَى يَخَافُونَ مُلُوكَ مِصْرَ، وَلَا يَدْخُلُونَهَا إِلَّا بِجَوَازٍ مِنْهُمْ. قِيلَ: وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ عَائِدٌ إِلَى الْأَمْنِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى الْجَمِيعِ لِأَنَّ دُخُولَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ آمِنِينَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمَشِيئَةِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي وَهُوَ بَعِيدٌ. وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ: أَنَّ يُوسُفَ قَالَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، أَيِ: ادْخُلُوا مِصْرَ قَبْلَ دُخُولِهِمْ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ أَنَّهُ تَلَقَّاهُمْ إِلَى خَارِجِ مِصْرَ، فَوَقَفَ مُنْتَظِرًا لَهُمْ فِي مَكَانٍ أَوْ خَيْمَةٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ فَلَمَّا دَخَلُوا مِصْرَ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ دُخُولًا آخَرَ في المكان الذي له بمصر رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ أَيْ أَجْلَسَهُمَا مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُلُوكِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً أَيِ الْأَبَوَانِ وَالْإِخْوَةُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ خَرُّوا لِيُوسُفَ سُجَّدًا، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ، مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ التَّحِيَّةِ وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سُجُودًا بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ إِيمَاءٍ، وَكَانَتْ تِلْكَ تَحِيَّتَهُمْ، وَهُوَ يُخَالِفُ مَعْنَى: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، فَإِنَّ الْخُرُورَ فِي اللُّغَةِ الْمُقَيَّدُ بِالسُّجُودِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَضْعِ الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَهُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا، وَهُوَ بَعِيدٌ جَدًّا وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ لِيُوسُفَ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: وَخَرُّوا لِأَجْلِهِ، وَفِيهِ أيضا بعد. وقال يوسف: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ يَعْنِي الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَذَا الْوَقْتِ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا بِوُقُوعِ تَأْوِيلِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ الْأَصْلُ أَنْ يَتَعَدَّى فِعْلُ الْإِحْسَانِ بِإِلَى، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، وَقِيلَ: إِنَّهُ ضَمَّنَ أَحْسَنَ مَعْنَى لَطُفَ، أَيْ: لَطُفَ بِي مُحْسِنًا، وَلَمْ يَذْكُرْ إِخْرَاجَهُ مِنَ الْجُبِّ لِأَنَّ فِي ذِكْرِهِ نَوْعَ تَثْرِيبٍ لِلْإِخْوَةِ، وَقَدْ قَالَ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ سَجْنِهِ وَمُدَّةُ بَقَائِهِ فِيهِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ وَجْهَ عَدَمِ ذِكْرِ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجُبِّ أَنَّ الْمِنَّةَ كَانَتْ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ السِّجْنِ أَكْبَرُ مِنَ الْمِنَّةِ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجُبِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أَيِ الْبَادِيَةِ، وَهِيَ أَرْضُ كَنْعَانَ بِالشَّامِ، وَكَانُوا أَهْلَ مَوَاشٍ وَبَرِّيَّةٍ وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا مِنَ الْبَادِيَةِ، وَإِنَّ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَعْقُوبُ يُقَالُ

لَهُ «بَدَا» ، وَإِيَّاهُ عَنَى جَمِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتِ التي «1» حبّبت شغبا إِلَى بَدَا «2» ... إِلَيَّ وَأَوْطَانِي بِلَادٌ سِوَاهُمَا وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أَيْ أَفْسَدَ بَيْنَنَا، وَحَمَّلَ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ، يُقَالُ نَزَغَهُ إِذَا نَخَسَهُ، فَأَصْلُهُ مَنْ نَخَسَ الدَّابَّةَ لِيَقْوَى مَشْيُهَا، وَأَحَالَ يُوسُفُ ذَنْبَ إِخْوَتِهِ عَلَى الشَّيْطَانِ تَكَرُّمًا مِنْهُ وَتَأَدُّبًا إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ اللَّطِيفُ: الرَّفِيقُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: اللَّطِيفُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْنَاهُ الرَّفِيقُ بِعِبَادِهِ، يُقَالُ: لَطُفَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ يَلْطُفُ إِذَا رَفَقَ بِهِ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو: اللَّطِيفُ الَّذِي يُوصِلُ إِلَيْكَ أَرْبَكَ فِي لُطْفٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اللَّطِيفُ هُوَ الْبَرُّ بِعِبَادِهِ الَّذِي يَلْطُفُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وَيُسَبِّبُ لَهُمْ مَصَالِحَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، وَقِيلَ: اللَّطِيفُ الْعَالِمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَمَعْنَى لِمَا يَشَاءُ: لِأَجْلِ مَا يَشَاءُ حَتَّى يَجِيءَ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أَيِ الْعَلِيمُ بِالْأُمُورِ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ، وَلَمَّا أَتَمَّ اللَّهُ نِعْمَتَهُ عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا خَلَّصَهُ مِنْهُ مِنَ الْمِحَنِ الْعَظِيمَةِ وَبِمَا خَوَّلَهُ مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمَهُ مِنَ الْعِلْمِ، تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى الْخَيْرِ الْأُخْرَوِيِّ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، فَقَالَ: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: بَعْضِ الْمُلْكِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ كُلَّ الْمُلْكِ، إِنَّمَا أُوتِيَ مُلْكًا خَاصًّا، وَهُوَ مُلْكُ مِصْرَ فِي زَمَنٍ خَاصٍّ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أَيْ بَعْضِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ جَمِيعَ عِلْمِ التَّأْوِيلِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، أَوْ مُجَرَّدُ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَقِيلَ: مِنْ لِلْجِنْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، أَيْ: آتَيْتَنِي الْمُلْكَ وَعَلَّمْتَنِي تَأْوِيلَ الْأَحَادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ صفة لربّ، لِكَوْنِهِ مُنَادًى مُضَافًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى بِحَرْفٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يَا فاطر، والفاطر: الخالق والمنشئ وَالْمُخْتَرِعُ وَالْمُبْدِعُ أَنْتَ وَلِيِّي أَيْ نَاصِرِي وَمُتَوَلِّي أُمُورِي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَتَوَلَّانِي فِيهِمَا تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أَيْ تَوَفَّنِي عَلَى الْإِسْلَامِ لا يفارقني حتى أموت، وألحقني بِالصَّالِحِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ آبَائِي وَغَيْرِهِمْ فَأَظْفَرُ بِثَوَابِهِمْ مِنْكَ وَدَرَجَاتِهِمْ عِنْدَكَ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قِيلَ: كَانَ عُمُرُهُ عِنْدَ أَنْ أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالسِّجْنِ وَالْمُلْكِ ثَمَانِينَ سَنَةً إِلَى قُدُومِ أَبِيهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ اجْتِمَاعِ شَمْلِهِمْ حَتَّى كَمُلَ عُمُرُهُ الْمِقْدَارَ الَّذِي سَيَأْتِي وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ. قِيلَ: لَمْ يَتَمَنَّ الْمَوْتَ أَحَدٌ غَيْرُ يُوسُفَ لَا نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَمَنَّ الْمَوْتَ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا دَعَا رَبَّهُ أَنْ يَتَوَفَّاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيُلْحِقَهُ بِالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ يَعْقُوبُ مِصْرَ فِي مُلْكَ يُوسُفَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَعَاشَ فِي مُلْكِهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمَاتَ يُوسُفُ وَهُوَ ابْنُ مائة وعشرين سنة. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ عُمُرُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ مِائَةً وَخَمْسَةً وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قتادة في قوله:

_ (1) . في المطبوع: الذي! والمثبت من الديوان ص (200) . (2) . شغب: موضع بين المدينة والشام. بدا: واد قرب أيلة من ساحل البحر.

[سورة يوسف (12) : الآيات 102 إلى 108]

آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ قَالَ: أَبُوهُ وَأُمُّهُ ضَمَّهُمَا. وأخرجا عن وهب قال أبوه وَخَالَتُهُ، وَكَانَتْ تُوُفِّيَتْ أُمُّ يُوسُفَ فِي نِفَاسِ أَخِيهِ بِنْيَامِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ نَحْوَهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ قَالَ: السَّرِيرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً قَالَ: كَانَتْ تَحِيَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَأَعْطَاكُمُ اللَّهُ السَّلَامَ مَكَانَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: ذَلِكَ سُجُودُ تَشْرِفَةٍ كَمَا سَجَدَتِ الْمَلَائِكَةُ تَشْرِفَةً لِأَدَمَ، وَلَيْسَ سُجُودَ عِبَادَةٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ قَالَ: لَطِيفٌ لِيُوسُفَ وَصَنَعَ لَهُ حِينَ أَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ، وَجَاءَ بِأَهْلِهِ مِنَ الْبَدْوِ، وَنَزَعَ مِنْ قَلْبِهِ نَزْغَ الشَّيْطَانِ وَتَحْرِيشَهُ عَلَى إِخْوَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا سَأَلَ نَبِيُّ الْوَفَاةَ غَيْرُ يُوسُفَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: اشْتَاقَ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ وَأَحَبَّ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ وَبِآبَائِهِ، فَدَعَا اللَّهَ أَنْ يَتَوَفَّاهُ، وَأَنْ يُلْحِقَهُ بِهِمْ وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ قَالَ: يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عكرمة قال: يعني أهل الجنة. [سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 108] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ، ونُوحِيهِ إِلَيْكَ خَبَرٌ ثَانٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون ذلك بمعنى الذي ونوحيه خَبَرُهُ، أَيِ الَّذِي مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ. وَالْمَعْنَى: الْإِخْبَارُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي قَصَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي كَانَتْ غَائِبَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَعْلَمَهُ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قَبْلَ الْوَحْيِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ لَهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِمَا جَاءَ بِهِ جُحُودًا وَعِنَادًا وَحَسَدًا مَعَ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْحَالِ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أَيْ لَدَى إِخْوَةِ يُوسُفَ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ إِجْمَاعُ الْأَمْرِ: الْعَزْمُ عَلَيْهِ، أَيْ: وَمَا كُنْتَ لَدَى إِخْوَةِ يُوسُفَ إِذْ عَزَمُوا جَمِيعًا عَلَى إِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ وَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَمْكُرُونَ بِهِ: أَيْ بِيُوسُفَ فِي هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلُوهُ بِهِ وَيَبْغُونَهُ الْغَوَائِلَ، وَقِيلَ: الضمير ليعقوب، أي: يمكرون بيعقوب حين جاءوه بِقَمِيصِ يُوسُفَ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ، وَقَالُوا: أَكَلَهُ الذِّئْبُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَدَيْهِمْ عِنْدَ أَنْ فَعَلُوا ذَلِكَ انْتَفَى عِلْمُهُ بِذَلِكَ مُشَاهَدَةً، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلَا خَالَطَهُمْ وَلَا خَالَطُوهُ، فَانْتَفَى عِلْمُهُ بِذَلِكَ بِطَرِيقِ الرِّوَايَةِ عَنِ الْغَيْرِ، فَلَمْ يَبْقَ لِعِلْمِهِ بِذَلِكَ طَرِيقٌ إِلَّا مُجَرَّدُ الْوَحْيِ مِنَ

اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ مَنْ عَاصَرَهُ مِنَ الْكُفَّارِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَاكِرًا لِهَذَا: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ أَيْ وَمَا أَكْثَرَ النَّاسَ الْمُعَاصِرِينَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ، أَوْ مَا أَكْثَرَ النَّاسَ عَلَى الْعُمُومِ وَلَوْ حَرَصَتْ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَبَالَغَتْ فِي ذَلِكَ، بِمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ لِتَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ دِينُ آبَائِهِمْ، يُقَالُ: حَرَصَ يَحْرِصُ مِثْلَ ضَرَبَ يَضْرِبُ، وَفِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ حَرِصَ يَحْرَصُ مِثْلُ حَمِدَ يَحْمَدُ، وَالْحِرْصُ: طَلَبُ الشَّيْءِ بِاجْتِهَادٍ «1» . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَاهُ: وَمَا أَكْثَرَ النَّاسَ بِمُؤْمِنِينَ وَلَوْ حَرَصْتَ عَلَى أَنْ تَهْدِيَهُمْ لِأَنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ قُرَيْشًا وَالْيَهُودَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ فَشَرَحَهُمَا شَرْحًا شَافِيًا، وَهُوَ يُؤَمِّلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، فَخَالَفُوا ظَنَّهُ، وَحَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لِذَلِكَ، فَعَزَّاهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ الآية وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أَيْ عَلَى الْقُرْآنِ وَمَا تَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، أَوْ عَلَى الْإِيمَانِ وَحِرْصِكَ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْهُمْ أَوْ عَلَى مَا تُحَدِّثُهُمْ بِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَجْرٍ مِنْ مَالٍ يُعْطُونَكَ إِيَّاهُ وَيَجْعَلُونَهُ لَكَ كَمَا يَفْعَلُهُ أَحْبَارُهُمْ إِنْ هُوَ أَيِ الْقُرْآنُ أَوِ الْحَدِيثُ الَّذِي حَدَّثْتَهُمْ بِهِ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أَيْ مَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ كَافَّةً لَا يَخْتَصُّ بِهِمْ وَحْدَهُمْ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّ كَأَيِّنْ أَصْلُهَا أَيٌّ دَخَلَ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ، لَكِنَّهُ انْمَحَى عَنِ الْحَرْفَيْنِ الْمَعْنَى الْإِفْرَادِيُّ، وَصَارَ الْمَجْمُوعُ كَاسْمٍ وَاحِدٍ بِمَعْنَى كَمِ الْخَبَرِيَّةِ، وَالْأَكْثَرُ إِدْخَالُ «مِنْ» فِي مُمَيِّزِهِ، وَهُوَ تَمْيِيزٌ عَنِ الْكَافِ لَا عَنْ أَيٍّ كَمَا فِي: مِثْلُكَ رَجُلًا. وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى فِي آلِ عِمْرَانَ. وَالْمَعْنَى: كَمْ مِنْ آيَةٍ تدلهم على توحيد الله كائنة في السموات مِنْ كَوْنِهَا مَنْصُوبَةً بِغَيْرِ عَمَدٍ، مُزَيَّنَةً بِالْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ السَّيَّارَةِ وَالثَّوَابِتِ، وَفِي الْأَرْضِ مِنْ جِبَالِهَا وَقَفَارِهَا وَبِحَارِهَا وَنَبَاتِهَا وَحَيَوَانَاتِهَا تَدُلُّهُمْ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ الْخَالِقُ لِذَلِكَ، الرَّزَّاقُ لَهُ الْمُحْيِي وَالْمُمِيتُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَمُرُّونَ عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ غَيْرُ مُتَأَمِّلِينَ لَهَا، وَلَا مُفَكِّرِينَ فِيهَا، وَلَا مُلْتَفِتِينَ إِلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ وُجُودِ خَالِقِهَا، وَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ مَعَ كَوْنِهِمْ مُشَاهِدِينَ لَهَا يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وَإِنْ نَظَرُوا إِلَيْهَا بِأَعْيَانِهِمْ فَقَدْ أَعْرَضُوا عَمَّا هُوَ الثَّمَرَةُ لِلنَّظَرِ بِالْحَدَقَةِ، وَهِيَ التَّفَكُّرُ والاعتبار والاستدلال. وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد بِرَفْعِ الْأَرْضِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرَهُ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ السُّدِّيُّ بِنَصْبِ الْأَرْضِ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «يَمْشُونَ عَلَيْهَا» وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ أَيْ وَمَا يُصَدِّقُ وَيُقِرُّ أَكْثَرُ النَّاسِ بِاللَّهِ مِنْ كَوْنِهِ الْخَالِقَ الرَّزَّاقَ الْمُحْيِيَ الْمُمِيتَ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ، فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبِأَنَّهُ الْخَالِقُ لَهُمْ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «2» ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «3» ، لكنهم كانوا يثبتون له شركاء فيعبدونهم ليقرّبوهم إِلَى اللَّهِ، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ «4» وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، الْمُعْتَقِدُونَ فِي الْأَمْوَاتِ بِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ عُبَّادِ الْقُبُورِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، فَالِاعْتِبَارُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لَا بِمَا يُفِيدُهُ السبب من

_ (1) . في تفسير القرطبي (9/ 271) : باختيار. (2) . الزخرف: 87. (3) . لقمان: 25. (4) . الزمر: 3.

الاختصاص بمن كَانَ سَبَبًا لِنُزُولِ الْحُكْمِ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْغَاشِيَةُ: مَا يَغْشَاهُمْ وَيَغْمُرُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «1» ، وَقِيلَ: هِيَ السَّاعَةُ، وَقِيلَ: الصَّوَاعِقُ وَالْقَوَارِعُ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً، وَانْتِصَابُ بَغْتَةً عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: جَاءَ عَنِ الْعَرَبِ حَالٌ بَعْدَ نَكِرَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ وَقَعَ أَمْرٌ بَغْتَةً، يُقَالُ: بَغَتَهُمُ الْأَمْرُ بَغْتًا وَبَغْتَةً إِذَا فَاجَأَهُمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِإِتْيَانِهِ، وَيَجُوزُ انْتِصَابُ بَغْتَةً عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الَّتِي أَدْعُو إِلَيْهَا وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي أَنَا عليها سبيلي: أي طريقتي وَسُنَّتِي، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ سَبِيلِي، وَفُسِّرَ ذلك بقوله: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَيْ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ، وَالْبَصِيرَةُ: الْمَعْرِفَةُ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أَيْ: وَيَدْعُو إِلَيْهَا مَنِ اتَّبَعَنِي وَاهْتَدَى بِهَدْيِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْمَعْنَى وَمَنِ اتَّبَعَنِي يَدْعُو إِلَى اللَّهِ كَمَا أَدْعُو. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُتَّبِعٍ لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حَقٌّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي الدعاء إلى الله، أي: الدعاء إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَيْ: وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَيَجُوزُ أن يتمّ الكلام عند قوله: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ قَالَ: هُمْ بَنُو يَعْقُوبَ إِذْ يَمْكُرُونَ بِيُوسُفَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ يَقُولُ: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ وَهُمْ يُلْقُونَهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَهُمْ يَمْكُرُونَ بِيُوسُفَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ قَالَ: كَمْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاءِ يَعْنِي شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَنُجُومَهَا وَسَحَابَهَا، وَفِي الْأَرْضِ مَا فِيهَا مِنَ الْخَلْقِ وَالْأَنْهَارِ وَالْجِبَالِ وَالْمَدَائِنِ وَالْقُصُورِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قَالَ: سلهم من خلقهم ومن خلق السموات وَالْأَرْضَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، فَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قَالَ: كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَهُوَ رَازِقُهُمْ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يُشْرِكُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ فِي تَلْبِيَتِهِمْ، يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَعْمَلُ بِالرِّيَاءِ وَهُوَ مُشْرِكٌ بِعَمَلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ قَالَ: وَقِيعَةٌ تَغْشَاهُمْ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هذِهِ سَبِيلِي قُلْ: هَذِهِ دَعْوَتِي. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قُلْ هذِهِ سَبِيلِي قَالَ: صَلَاتِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في

_ (1) . العنكبوت: 55. [.....]

[سورة يوسف (12) : الآيات 109 إلى 111]

الْآيَةِ قَالَ: أَمْرِي وَمَشِيئَتِي وَمِنْهَاجِي. وَأَخْرَجَا عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: عَلى بَصِيرَةٍ أَيْ: عَلَى هدى أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي. [سورة يوسف (12) : الآيات 109 الى 111] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) قَوْلُهُ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا هَذَا رَدٌّ عَلَى من قال: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أَيْ: لَمْ نَبْعَثْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى مَنْ قَبْلَهُمْ إِلَّا رِجَالًا لَا مَلَائِكَةً، فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ إِرْسَالَنَا إِيَّاكَ. وَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا مِنَ النِّسَاءِ وَلَا مِنَ الْجِنِّ، وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي النِّسَاءِ أَرْبَعَ نَبِيَّاتٍ: حَوَّاءَ، وَآسِيَةَ، وَأُمَّ مُوسَى، وَمَرْيَمَ. وَقَدْ كَانَ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ أَمْرًا مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ، حَتَّى قَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ فِي سَجَاحِ الْمُتَنَبِّئَةِ: أَضْحَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نَطِيفُ بِهَا ... وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ ذُكْرَانَا فَلَعْنَةُ اللَّهِ وَالْأَقْوَامُ كُلُّهُمُ ... عَلَى سَجَاحٍ وَمَنْ بِاللَّوْمِ أَغْرَانَا نُوحِي إِلَيْهِمْ كَمَا نُوحِي إِلَيْكَ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَيِ الْمَدَائِنِ دُونَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ لِغَلَبَةِ الْجَفَاءِ وَالْقَسْوَةِ عَلَى الْبَدْوِ، وَلِكَوْنِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَتَمَّ عَقْلًا وَأَكْمَلَ حِلْمًا وَأَجَلَّ فَضْلًا أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَيْ: أَفَلَمْ يَسِرِ الْمُشْرِكُونَ هَؤُلَاءِ فَيَنْظُرُوا إِلَى مَصَارِعِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَيَعْتَبِرُوا بِهِمْ حَتَّى يَنْزِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَيْ لَدَارُ السَّاعَةِ الآخرة، أو الحالة الْآخِرَةِ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الدَّارَ هِيَ الْآخِرَةُ، وَأُضِيفَ الشَّيْءُ إِلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ الْأُولَى وَمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْإِعْرَابِ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الدَّارِ: الْجَنَّةُ، أَيْ: هِيَ خَيْرٌ لِلْمُتَّقِينَ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا، وَقُرِئَ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ أَفَلا تَعْقِلُونَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ هَذِهِ الْغَايَةُ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا رِجَالًا، وَلَمْ نُعَاجِلْ أُمَمَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا جَاءُوا بِهِ بالعقوبة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنَ النَّصْرِ بِعُقُوبَةِ قَوْمِهِمْ، أَوْ حَتَّى إذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ لِانْهِمَاكِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا. قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وثّاب والأعمش وخلف «كُذِبُوا» بالتخفيف،

أي: ظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَلَمْ يَصْدُقُوا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: ظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوا فِيمَا ادَّعَوْا مِنْ نَصْرِهِمْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَظَنَّ الرُّسُلُ أَنَّهَا قَدْ كَذَبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ حِينَ حَدَّثَتْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ عَلَيْهِمْ، أَوْ كَذَبَهُمْ رَجَاؤُهُمْ لِلنَّصْرِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «كُذِّبُوا» بِالتَّشْدِيدِ، وَالْمَعْنَى عَلَيْهَا وَاضِحٌ، أَيْ: ظَنَّ الرُّسُلُ بِأَنَّ قَوْمَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ فِيمَا وَعَدُوهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَيَجُوزُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ ظَنَّ الْقَوْمَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوا فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ «قَدْ كَذَبُوا» بِفَتْحِ الْكَافِ وَالذَّالِ مُخَفَّفَتَيْنِ عَلَى مَعْنَى: وَظَنَّ قَوْمُ الرُّسُلِ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الظَّنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ لِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ تَيَقَّنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ ظَنِّ مِنْهُمْ. وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفَسِّرَ الظَّنَّ بِالْيَقِينِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصورة ويفسر بِمَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ فِيمَا يَحْصُلُ فِيهِ مُجَرَّدُ ظَنٍّ فَقَطْ مِنَ الصُّوَرِ السَّابِقَةِ جاءَهُمْ نَصْرُنا أَيْ: فَجَاءَ الرُّسُلَ نَصْرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَجْأَةً، أَوْ جَاءَ قَوْمَ الرُّسُلِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ نَصْرُ اللَّهِ لِرُسُلِهِ بِإِيقَاعِ الْعَذَابِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ قرأ عاصم «فَنُجِّيَ» بنون واحد. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «فَنُنْجِيَ» بِنُونَيْنِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى لِأَنَّهَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ كَذَلِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ «فَنَجَا» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، فَتَكُونُ «مَنْ» عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَتَكُونُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا فَاعِلٌ، وَالَّذِينَ نَجَّاهُمُ اللَّهُ هُمُ الرُّسُلُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ، وَهَلَكَ الْمُكَذِّبُونَ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ عِنْدَ نُزُولِهِ بِهِمْ، وَفِيهِ بَيَانُ مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ نَجَاتَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَهُمْ مَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أَيْ قَصَصِ الرُّسُلِ ومن بعثوا إليه مِنَ الْأُمَمِ، أَوْ فِي قَصَصِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وَأَبِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ وَالْعِبْرَةُ: الْفِكْرَةُ وَالْبَصِيرَةُ الْمُخَلِّصَةُ مِنَ الْجَهْلِ وَالْحَيْرَةِ. وَقِيلَ: هِيَ نَوْعٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ، وَهِيَ الْعُبُورُ مِنَ الطَّرَفِ الْمَعْلُومِ إِلَى الطَّرَفِ الْمَجْهُولِ، وَأُولُو الْأَلْبَابِ هُمْ ذَوُو العقول السليمة الذي يَعْتَبِرُونَ بِعُقُولِهِمْ فَيَدْرُونَ مَا فِيهِ مَصَالِحُ دِينِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْقَصَصُ عِبْرَةً لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْبَارَاتِ الْمُطَابِقَةِ لِلْوَاقِعِ مَعَ بُعْدِ المدّة بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ قُصَّ حَدِيثُهُمْ، وَمِنْهُمْ يُوسُفُ وَإِخْوَتُهُ وَأَبُوهُ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى أَخْبَارِهِمْ وَلَا اتَّصَلَ بِأَحْبَارِهِمْ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى أَيْ مَا كَانَ هَذَا الْمَقْصُوصُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْقَصَصِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ. وَقُرِئَ بِرَفْعِ «تَصْدِيقُ» عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ تَصْدِيقُ وَتَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُجْمَلَةِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى تَفْصِيلِهَا لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ وَقِيلَ: تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ مَعَ إِخْوَتِهِ وَأَبِيهِ. قِيلَ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْعُمُومِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْأُصُولُ والقوانين وما يؤول إِلَيْهَا وَهُدىً فِي الدُّنْيَا يَهْتَدِي بِهِ كُلُّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ وَرَحْمَةً فِي الْآخِرَةِ يَرْحَمُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ الْعَامِلِينَ بِمَا فِيهِ شَرْطُ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَلِهَذَا قَالَ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أَيْ يُصَدِّقُونَ بِهِ وَبِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَشَرَائِعِهِ وَقَدَرِهِ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَهْتَدِي بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى، فَلَا يَسْتَحِقُّ ما يستحقونه.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا قَالَ: أَيْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا قُلْتُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رَسُولًا قَطُّ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَحَلْمَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْمُورِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَالَ: كَيْفَ عَذَّبَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ وَقَوْمَ لُوطٍ وَقَوْمَ صَالِحٍ وَالْأُمَمَ الَّتِي عَذَّبَ اللَّهَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَأَلَ عائشة عن قول الله سبحانه حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قَالَ: قُلْتُ أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا؟ يَعْنِي عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ مُخَفَّفَةً أَمْ مُشَدَّدَةً، فَقَالَتْ: بَلْ كُذِّبُوا تَعْنِي بِالتَّشْدِيدِ، قُلْتُ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ، فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ، قَالَتْ: أَجَلْ لَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ، فَقُلْتُ: لَعَلَّهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا، مُخَفَّفَةٌ، قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ، لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ لِتَظُنَّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا، قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَتْ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمنوا وَصَدَّقُوهُمْ، وَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَاسْتَأْخَرَ عَلَيْهِمُ النَّصْرُ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا عَلَيْهِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مُخَفَّفَةً يَقُولُ: أُخْلِفُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا بَشَرًا، وَتَلَا: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا خَالَفَتْ ذَلِكَ وَأَبَتْهُ، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ ما وعد الله رسوله مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قد كذبوهم، وكانت تقرؤها مُثَقَّلَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عن عائشة أن النبي قَرَأَ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مُخَفَّفَةً. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ قَدْ كُذِبُوا مُخَفَّفَةً، قَالَ: يَئِسَ الرُّسُلُ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَظَنَّ قَوْمُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ جاءَهُمْ نَصْرُنا قَالَ: جَاءَ الرُّسُلَ نَصْرُنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ تَمِيمِ بْنِ حَذْلَمٍ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ الْقُرْآنَ فَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيَّ إلا حرفين: كلّ آتوه داخرين فَقَالَ: أَتَوْهُ مُخَفَّفَةٌ. وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فَقَالَ: كُذِبُوا مُخَفَّفَةً، قَالَ: اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ، وَظَنَّ قَوْمُهُمْ حِينَ أَبْطَأَ الْأَمْرُ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْهُ قَالَ: حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خَفِيفَةً. وَلِلسَّلَفِ فِي هَذَا كَلَامٌ يَرْجِعُ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ قَالَ: فَنُنْجِيَ الرُّسُلَ وَمَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ الرُّسُلَ يَدْعُونَ قَوْمَهُمْ، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ نَجَا وَمَنْ عَصَاهُ عُذِّبَ وَغَوَى. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: جاءَهُمْ نَصْرُنا الْعَذَابُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا قَالَ: عَذَابُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ

كانَ فِي قَصَصِهِمْ قَالَ: يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ قَالَ: مَعْرُوفَةٌ لِذَوِي الْعُقُولِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى قَالَ: الْفِرْيَةُ: الْكَذِبُ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: الْقُرْآنُ يُصَدِّقُ الْكُتُبَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ جَمِيعَهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ فَصَلَ اللَّهُ بَيْنَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَطَاعَتِهِ ومعصيته.

سورة الرعد

سورة الرّعد قد وقع الخلاف هل هي مكية أم مَدَنِيَّةٌ؟ فَرَوَى النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ ابْنُ الزُّبَيْرِ والكلبي ومقاتل. وقول ثابت: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا فَإِنَّهُمَا نَزَلَتَا بِمَكَّةَ، وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «1» [إلى آخرها] «2» . وقيل: [مدنية إلا] «3» قَوْلُهُ: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ «4» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْمَرْوَزِيُّ فِي الْجَنَائِزِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ يَسْتَحِبُّ إِذَا حَضَرَ الْمَيِّتَ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَهُ سُورَةَ الرَّعْدِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُخَفِّفُ عَنِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّهُ أَهْوَنُ لِقَبْضِهِ، وَأَيْسَرُ لِشَأْنِهِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) قَوْلُهُ: المر قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ بِمَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةُ اسْمُهَا هَذَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إِلَى آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ السُّورَةُ، أَيْ: تِلْكَ الْآيَاتُ آيَاتُ السُّورَةِ الْكَامِلَةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ مُرَادًا بِهِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ، أَيْ: هُوَ الْحَقُّ الْبَالِغُ فِي اتِّصَافِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، أَوْ تَكُونُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إِلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ جَمِيعِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ جَمِيعُ الْقُرْآنِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ جُمْلَةً مُبَيِّنَةً لِكَوْنِ هَذَا الْمُنَزَّلِ هُوَ الْحَقُّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالَّذِي رُفِعَ بِالِاسْتِئْنَافِ وَخَبَرُهُ الحق. قال: وإن شئت

_ (1) . الرعد: 31. (2) . ما بين حاصرتين من تفسير البحر. (3) . ما بين حاصرتين من الدر المنثور. (4) . الرعد: 31.

جَعَلْتَ الَّذِي خَفْضًا نَعْتًا لِلْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ الْوَاوُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرَمِ وَابْنِ الْهُمَامِ «1» ............... .... وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْجَرَّ عَلَى تَقْدِيرِ: وَآيَاتُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَيَكُونَ الْحَقُّ عَلَى هَذَا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَذَا الْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، قال الزّجّاج: ما ذَكَرَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ذَكَرَ الدَّلِيلَ الَّذِي يُوجِبُ التَّصْدِيقَ بِالْخَالِقِ فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ وَالْعَمَدُ: الْأَسَاطِينُ، جَمْعُ عِمَادٍ أَيْ قَائِمَاتٍ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَقِيلَ لَهَا عَمَدٌ وَلَكِنْ لَا نَرَاهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: العمد قدرته التي يمسك بها السموات، وَهِيَ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ لَنَا، وَقُرِئَ «عُمُدٍ» عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ عَمُودٍ يُعْمَدُ بِهِ أَيْ يُسْنَدُ إِلَيْهِ. قَالَ النَّابِغَةُ: وَخَبِّرِ الْجِنَّ أَنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تدمر بِالصُّفَاحِ «2» وَالْعُمُدْ وَجُمْلَةُ تَرَوْنَهَا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِشْهَادٌ عَلَى رؤيتهم لها كذلك، وقيل: هي صفة لعمد، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: رَفَعَ السموات تَرَوْنَهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَلَا مُلْجِئَ إِلَى مِثْلِ هَذَا التَّكَلُّفِ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أَيِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحِفْظِ وَالتَّدْبِيرِ، أَوِ اسْتَوَى أَمْرُهُ، أَوْ أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى، وَالِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ صِفَةٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِلَا كَيْفٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَيْ ذَلَّلَهُمَا لِمَا يُرَادُ مِنْهُمَا مِنْ مَنَافِعِ الْخَلْقِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ كُلٌّ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَجْرِي إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ فَنَاءُ الدُّنْيَا وَقِيَامُ السَّاعَةِ الَّتِي تُكَوَّرُ عِنْدَهَا الشَّمْسُ، وَيُخْسَفُ الْقَمَرُ، وَتَنْكَدِرُ النُّجُومُ وَتَنْتَثِرُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الْمُسَمَّى درجاتهما ومنازلهما التي تنتهيان إليها لا يجاوزانها، وَهِيَ سَنَةٌ لِلشَّمْسِ، وَشَهْرٌ لِلْقَمَرِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أَيْ يُصَرِّفُهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَهُوَ أَمْرُ مَلَكُوتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ يُفَصِّلُ الْآياتِ أَيْ: يُبَيِّنُهَا، وَهِيَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ رَفْعِ السَّمَاءِ بِغَيْرِ عَمَدٍ وَتَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَجَرْيِهِمَا لِأَجَلٍ مُسَمًّى، وَالْجُمْلَتَانِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ خَبَرُ إِنَّ لِقَوْلِهِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُولَ صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا تَنْبِيهُ الْعِبَادِ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ وَالْإِعَادَةِ، وَلِذَا قَالَ: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أَيْ لَعَلَّكُمْ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ تُوقِنُونَ بِذَلِكَ لَا تَشُكُّونَ فِيهِ، وَلَا تَمْتَرُونَ فِي صِدْقِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ السَّمَاوِيَّةَ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ قَالَ الْفَرَّاءُ: بَسَطَهَا طُولًا وَعَرْضًا. وَقَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّ الْمَدَّ هُوَ الْبَسْطُ إِلَى مَا لَا يُدْرَكُ مُنْتَهَاهُ، وَهَذَا المدّ الظاهر للبصر لا ينافي كرويتها فِي نَفْسِهَا لِتَبَاعُدِ أَطْرَافِهَا وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أَيْ جِبَالًا ثَوَابِتَ. وَاحِدُهَا رَاسِيَةٌ لِأَنَّ الْأَرْضَ ترسو بها، أي:

_ (1) . وتتمة البيت: وليث الكتيبة في المزدحم. «القرم» : السيد. «الكتيبة» : الجيش. «المزدحم» : محلّ الازدحام. (2) . «الصفاح» : حجارة عراض رقاق.

تثبت، والإرساء: الثبوت. قال عَنْتَرَةَ: فَصَبَرَتْ «1» عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ وَقَالَ جَمِيلٌ: أُحِبُّهَا وَالَّذِي أَرْسَى قَوَاعِدَهُ ... حَتَّى «2» إِذَا ظَهَرَتْ آيَاتُهُ بَطَنَا وَأَنْهاراً أَيْ مِيَاهًا جَارِيَةً فِي الْأَرْضِ فِيهَا مَنَافِعُ الْخَلْقِ، أَوِ الْمُرَادُ جَعَلَ فِيهَا مَجَارِيَ الْمَاءِ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، أَيْ: جَعَلَ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، الزَّوْجُ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ، وَعَلَى الْوَاحِدِ الْمُزَاوِجِ لِآخَرَ، وَالْمُرَادُ هُنَا بِالزَّوْجِ الْوَاحِدُ، وَلِهَذَا أَكَّدَ الزَّوْجَيْنِ بِالِاثْنَيْنِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالزَّوْجِ هُنَا الِاثْنَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا مُسْتَوْفًى، أَيْ جَعَلَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ ثَمَرَاتِ الدُّنْيَا صِنْفَيْنِ، إِمَّا فِي اللَّوْنِيَّةِ كَالْبَيَاضِ والسواد ونحوهما، أو في الطّعمية كالحلو والحامض وَنَحْوِهِمَا، أَوْ فِي الْقَدْرِ كَالصِّغَرِ وَالْكِبْرِ، أَوْ فِي الْكَيْفِيَّةِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي بِالزَّوْجَيْنِ هُنَا الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أَيْ يُلْبِسَهُ مَكَانَهُ، فَيَصِيرُ أَسْوَدَ مظلما بعد ما كَانَ أَبْيَضَ مُنِيرًا، شَبَّهَ إِزَالَةَ نُورِ الْهُدَى بِالظُّلْمَةِ بِتَغْطِيَةِ الْأَشْيَاءِ الْحِسِّيَّةِ بِالْأَغْطِيَةِ الَّتِي تَسْتُرُهَا، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ هَذِهِ فِي الْأَعْرَافِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أَيْ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ مَدِّ الْأَرْضِ وَإِثْبَاتِهَا بِالْجِبَالِ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الْمُتَزَاوِجَةِ، وَتَعَاقُبِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ آيَاتٌ بَيِّنَةٌ لِلنَّاظِرِينَ الْمُتَفَكِّرِينَ الْمُعْتَبِرِينَ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْآيَاتِ، قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ: قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، وَغَيْرُ مُتَجَاوِرَاتٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «3» أَيْ: وَتَقِيكُمُ الْبَرْدَ. قِيلَ: وَالْمُتَجَاوِرَاتُ: الْمُدُنُ وَمَا كَانَ عَامِرًا، وَغَيْرُ الْمُتَجَاوِرَاتِ: الصَّحَارَى وَمَا كَانَ غَيْرَ عَامِرٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مُتَجَاوِرَاتٌ مُتَدَانِيَاتٌ، تُرَابُهَا وَاحِدٌ وَمَاؤُهَا وَاحِدٌ، وَفِيهَا زَرْعٌ وَجَنَّاتٌ، ثُمَّ تَتَفَاوَتُ فِي الثِّمَارِ فَيَكُونُ الْبَعْضُ حُلْوًا وَالْبَعْضُ حَامِضًا، وَالْبَعْضُ طَيِّبًا وَالْبَعْضُ غَيْرَ طَيِّبٍ، وَالْبَعْضُ يَصْلُحُ فِيهِ نَوْعٌ وَالْبَعْضُ الْآخَرُ نَوْعٌ آخَرُ. وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ الجنات: البساتين، وقرأ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ جَنَّاتٌ عَلَى تَقْدِيرِ: وَفِي الْأَرْضِ جَنَّاتٌ، فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ: وَبَيْنَهَا جَنَّاتٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: وَجَعَلَ فِيهَا جَنَّاتٍ، وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الزَّرْعَ بَيْنَ الْأَعْنَابِ وَالنَّخِيلِ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْخَارِجِ كَثِيرًا كَذَلِكَ، وَمِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً «4» . صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ بِرَفْعِ هَذِهِ الْأَرْبَعِ عَطْفًا عَلَى جَنَّاتٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَعْنَابٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالسُّلَمِيُّ بِضَمِّ الصَّادِ مِنْ صُنْوَانٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ

_ (1) . في المطبوع: فصرت. والمثبت من الديوان ص (264) . «صبرت عارفة» : أي حبست نفسا صابرة أي تصبر للشدائد ولا تنكرها. «ترسو» : تثبت وتستقر. (2) . في تفسير القرطبي (9/ 280) : حبا. (3) . النحل: 81. (4) . الكهف: 32.

بالكسر، وهما لغتان. وقال أَبُو عُبَيْدَةَ: صِنْوَانُ: جَمْعُ صِنْوٍ، وَهُوَ أَنْ يكون الأصل واحد، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ فَيَصِيرُ نَخِيلًا، ثُمَّ يُحْمَلُ، وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الصِّنْوُ: الْمِثْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» ، فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: أَنَّ أَشْجَارَ النَّخِيلِ قَدْ تَكُونُ مُتَمَاثِلَةً وَقَدْ لَا تَكُونُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالصِّنْوَانُ: جَمْعُ صِنْوٍ، وَهِيَ النَّخْلَةُ لَهَا رَأْسَانِ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، وَقِيلَ: الصِّنْوَانُ: الْمُجْتَمِعُ. وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ: الْمُتَفَرِّقُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ لِلنَّخْلَةِ إِذَا كَانَتْ فِيهَا نَخْلَةٌ أُخْرَى أَوْ أَكْثَرُ: صِنْوَانٌ، وَالصِّنْوُ: الْمِثْلُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ إِلَّا بِكَسْرِ النُّونِ فِي الْمُثَنَّى، وَبِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِعْرَابُ فِي الْجَمْعِ: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ: يُسْقَى بِالتَّحْتِيَّةِ، أَيْ: يُسْقَى ذَلِكَ كُلُّهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى جَنَّاتٌ. وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو عَمْرٍو، قَالَ أَبُو عَمْرٍو: التَّأْنِيثُ أَحْسَنُ لِقَوْلِهِ: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ وَلَمْ يَقُلْ بَعْضَهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يُفَضَّلُ» بِالتَّحْتِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ عَلَى تَقْدِيرِ: وَنَحْنُ نُفَضِّلُ. وَفِي هَذَا مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِهِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ عَقْلٌ فَإِنَّ الْقِطَعَ الْمُتَجَاوِرَةَ وَالْجَنَّاتِ الْمُتَلَاصِقَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى أَنْوَاعِ النَّبَاتِ مَعَ كَوْنِهَا تُسْقَى بماء واحد، وتتفاضل الثَّمَرَاتِ فِي الْأُكُلِ، فَيَكُونُ طَعْمُ بَعْضِهَا حُلْوًا وَالْآخَرُ حَامِضًا، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَهَذَا فَائِقٌ فِي حُسْنِهِ، وَهَذَا غير فائق، ممّا يقنع مَنْ تَفَكَّرَ وَاعْتَبَرَ وَنَظَرَ نَظَرَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُقْتَضِيَ لِاخْتِلَافِهَا لَيْسَ إِلَّا قُدْرَةَ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ جَلَّ سُلْطَانُهُ وَتَعَالَى شَأْنُهُ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَيُحَصَّلُ مِنْ ثَمَرَاتِهَا لَا يَكُونُ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ إِلَّا لِسَبَبَيْنِ: إِمَّا اخْتِلَافِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ الْمَنْبَتُ، أَوِ اخْتِلَافِ الْمَاءِ الَّذِي تُسْقَى بِهِ، فَإِذَا كَانَ الْمَكَانُ مُتَجَاوِرًا وَقِطَعُ الْأَرْضِ مُتَلَاصِقَةً، وَالْمَاءُ الَّذِي تُسْقَى بِهِ وَاحِدًا، لَمْ يَبْقَ سَبَبٌ لِلِاخْتِلَافِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ إِلَّا تِلْكَ الْقُدْرَةُ الْبَاهِرَةُ وَالصُّنْعُ الْعَجِيبُ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أَيْ يَعْمَلُونَ عَلَى قَضِيَّةِ الْعَقْلِ وَمَا يُوجِبُهُ، غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَالِاعْتِبَارِ فِي الْعِبَرِ الْمَوْجُودَاتِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: المر قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَرَى. وَأَخْرُجُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ المر فَوَاتِحُ يَفْتَتِحُ بِهَا كَلَامَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ قَالَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ قَالَ: الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهَا بِعَمَدٍ لَا تَرَوْنَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ لَهَا عَمَدٌ وَلَكِنْ لَا تَرَوْنَهَا يَعْنِي الْأَعْمَادَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: السَّمَاءُ مُقَبَّبَةٌ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلَ الْقُبَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السَّمَاءُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْلَاكٍ، كُلُّ زَاوِيَةٍ مُوَكَّلٌ بِهَا مَلَكٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي قَوْلِهِ: لِأَجَلٍ مُسَمًّى قَالَ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ قَالَ: يَقْضِيهِ وَحْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: الدُّنْيَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ: أَرْبَعُمِائَةٍ خَرَابٌ، وَمِائَةٌ عُمْرَانٌ فِي أيدي المسلمين

[سورة الرعد (13) : الآيات 5 إلى 11]

مِنْ ذَلِكَ مَسِيرَةُ سَنَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرَاتٌ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا دَلِيلٌ يَصِحُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبً قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ قَمَصَتْ «1» وَقَالَتْ: أَيْ رَبِّ تَجْعَلُ عَلَيَّ بَنِي آدَمَ يَعْمَلُونَ عَلَيَّ الْخَطَايَا وَيَجْعَلُونَ عَلَيَّ الْخَبَثَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ مَا تَرَوْنَ وَمَا لَا تَرَوْنَ، فَكَانَ إِقْرَارُهَا كَاللَّحْمِ تَرَجْرَجَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قَالَ: ذَكَرًا وَأُنْثَى مِنْ كُلِّ صِنْفٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أَيْ يُلْبِسُ اللَّيْلَ النَّهَارَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ قَالَ: يُرِيدُ الْأَرْضَ الطَّيِّبَةَ الْعَذْبَةَ الَّتِي يَخْرُجُ نَبَاتُهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا تُجَاوِرُهَا السَّبَخَةُ الْقَبِيحَةُ الْمَالِحَةُ الَّتِي لَا تُخْرِجُ، وَهُمَا أَرْضٌ وَاحِدَةٌ، وَمَاؤُهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، مِلْحٌ أَوْ عَذْبٌ، فَفُضِّلَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: قُرِئَ «مُتَجاوِراتٌ» قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْأَرْضُ تُنْبِتُ حُلْوًا، وَالْأَرْضُ تُنْبِتُ حَامِضًا، وَهِيَ مُتَجَاوِرَاتٌ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلِهِ: صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ قَالَ: الصنوان ما كان أصله واحد وَهُوَ مُتَفَرِّقٌ، وَغَيْرُ صِنْوَانٍ الَّتِي تُنْبِتُ وَحْدَهَا، وَفِي لَفْظِ: صِنْوَانٌ النَّخْلَةُ فِي النَّخْلَةِ مُلْتَصِقَةٌ، وغير صنوان النخل المفرّق. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صِنْوانٌ قَالَ: مُجْتَمَعُ النَّخْلِ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ وَغَيْرُ صِنْوانٍ قَالَ: النَّخْلُ الْمُتَفَرِّقُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ قَالَ: «الدَّقَلُ «2» وَالْفَارِسِيُّ «3» وَالْحُلْوُ وَالْحَامِضُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا حَامِضٌ، وهذا حلو، وهذا دقل، وهذا فارسي. [سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 11] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)

_ (1) . «قمصت» : تحرّكت واضطربت. (2) . «الدقل» : رديء الثمر. (3) . «الفارسي» : نوع جيد من التمر، نسبة إلى فارس.

قَوْلُهُ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَيْ إِنْ تَعْجَبْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ لَكَ بَعْدَ مَا كُنْتَ عِنْدَهُمْ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَعْجَبُ مِنْهُ تَكْذِيبُهُمْ بِالْبَعْثِ. وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّعَجُّبُ، لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ النَّفْسِ بِشَيْءٍ تَخْفَى أَسْبَابُهُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِيَعْجَبَ مِنْهُ رَسُولُهُ وَأَتْبَاعُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ هَذَا مَوْضُوعٌ عَجَبٌ أَيْضًا أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مِنْ خلق السموات وَالْأَرْضِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَ أَسْهَلُ فِي الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي مُنْكِرِي الصَّانِعِ أَيْ: إِنْ تَعْجَبْ مِنْ إِنْكَارِهِمُ الصَّانِعَ مَعَ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ بِأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُغَيِّرٍ، فَهُوَ مَحَلُّ التَّعَجُّبِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لقوله: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَقُولُ الْقَوْلِ، وَالْعَجَبُ عَلَى الْأَوَّلِ كَلَامُهُمْ، وَعَلَى الثَّانِي تَكَلُّمُهُمْ بِذَلِكَ، وَالْعَامِلُ فِي «إِذَا» مَا يُفِيدُهُ قوله: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وَهُوَ نُبْعَثُ أَوْ نُعَادُ، وَالِاسْتِفْهَامُ مِنْهُمْ لِلْإِنْكَارِ الْمُفِيدِ لِكَمَالِ الِاسْتِبْعَادِ، وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: لَفِي خَلْقٍ لِتَأْكِيدِ الْإِنْكَارِ بالبعث، وكذلك تكرير الهمزة في قوله: أَإِنَّا ثُمَّ لَمَّا حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَيْ أُولَئِكَ الْمُنْكِرُونَ لِقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الْبَعْثِ هُمُ الْمُتَمَادُونَ فِي الْكُفْرِ الْكَامِلُونَ فِيهِ. وَالثَّانِي: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ الْأَغْلَالُ: جَمْعُ غُلٍّ، وَهُوَ طَوْقٌ تُشَدُّ بِهِ الْيَدُ إِلَى الْعُنُقِ، أَيْ: يُغَلُّونَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: الْأَغْلَالُ أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ الَّتِي هِيَ لَازِمَةٌ لَهُمْ لُزُومَ الْأَطْوَاقِ لِلْأَعْنَاقِ. وَالثَّالِثُ: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَفِي تَوْسِيطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ دِلَالَةٌ عَلَى تَخْصِيصِ الْخُلُودِ بِمُنْكِرِي الْبَعْثِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ السَّيِّئَةُ الْعُقُوبَةُ الْمُهْلِكَةُ، وَالْحَسَنَةُ: الْعَافِيَةُ وَالسَّلَامَةُ، قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِفَرْطِ إِنْكَارِهِمْ وَشِدَّةِ تَصْمِيمِهِمْ وَتَهَالُكِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا الْعُقُوبَةَ قَبْلَ الْحَسَنَةِ، وَهِيَ الْإِيمَانُ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «مَثُلَاتُ» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ مَثُلَةٍ كَسَمُرَةٍ، وَهِيَ الْعُقُوبَةُ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: المثلة العقوبة التي تبقي في المعاقب شيئا بِتَغْيِيرِ بَعْضِ خَلْقِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَثَّلَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ إِذَا شَانَ خَلْقَهُ بِقَطْعِ أَنْفِهِ وَسَمْلِ عَيْنَيْهِ وَبَقْرِ بَطْنَهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْمُثَلَّثَةِ تَخْفِيفًا لِثِقَلِ الضَّمَّةِ، وَفِي لُغَةٍ تَمِيمٍ: بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ جَمِيعًا، وَاحِدَتُهَا عَلَى لُغَتِهِمْ: مُثْلَةٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، مِثْلُ غُرْفَةٍ وَغُرُفَاتٍ. وَحُكِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ بِضَمِّهَا عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِإِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ بِهِمْ، وَقَدْ مَضَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ عُقُوبَاتُ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ، فَمَا لَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ بِهِمْ وَيَحْذَرُونَ مِنْ حُلُولِ مَا حَلَّ بِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا الِاسْتِعْجَالُ مِنْ هَؤُلَاءِ هُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ كَقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «1» لآية وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ أَيْ لَذُو تَجَاوُزٍ عَظِيمٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِاقْتِرَافِهِمُ الذُّنُوبَ وَوُقُوعِهِمْ فِي الْمَعَاصِي إِنْ تَابُوا عَنْ ذَلِكَ، ورجعوا إلى الله سبحانه، والجارّ وَالْمَجْرُورُ، أَيْ: عَلى ظُلْمِهِمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ، وَعَلَى بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ: مَعَ ظُلْمِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ وَرَجَاءٌ كَبِيرٌ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا

_ (1) . الأنفال: 32. [.....]

يَكُونُ تَائِبًا، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهَا فِي عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ خَاصَّةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَغْفِرَةِ هُنَا تَأْخِيرُ الْعِقَابِ إِلَى الْآخِرَةِ لِيُطَابِقَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ مِنَ اسْتِعْجَالِ الْكُفَّارِ لِلْعُقُوبَةِ، وَكَمَا تُفِيدُهُ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ يُعَاقِبُ الْعُصَاةَ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْكَافِرِينَ عِقَابًا شَدِيدًا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَيْ هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ غَيْرُ مَا قَدْ جَاءَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْقَائِلُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ هُمُ الْمُسْتَعْجِلُونَ لِلْعَذَابِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: طَلَبُوا غَيْرَ الْآيَاتِ الَّتِي أَتَى بِهَا فَالْتَمَسُوا مِثْلَ آيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ تُنْذِرُهُمْ بِالنَّارِ، وَلَيْسَ إِلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ شَيْءٌ انْتَهَى، وَهَذَا مُكَابَرَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَعِنَادٌ، وَإِلَّا فَقَدَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُغْنِي الْبَعْضُ مِنْهُ، وَجَاءَ فِي: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ لِبَيَانِ أَنَّهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ لِإِنْذَارِ الْعِبَادِ، وَبَيَانِ مَا يَحْذَرُونَ عَاقِبَتَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ فَعَلَ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَنْذَرَ أَبْلَغَ إِنْذَارٍ، وَلَمْ يَدْعُ شَيْئًا مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ إِلَّا أَتَى بِهِ وَأَوْضَحَهُ وَكَرَّرَهُ، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِهِ خَيْرًا وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أَيْ نَبِيٍّ يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا فِيهِ هِدَايَتُهُمْ وَرَشَادُهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْهِدَايَةُ لَهُمْ بِالْفِعْلِ وَلَمْ يَقْبَلُوهَا، وَآيَاتُ الرُّسُلِ مُخْتَلِفَةٌ، هَذَا يَأْتِي بِآيَةٍ أَوْ آيَاتٍ لَمْ يَأْتِ بِهَا الْآخَرُ بِحَسَبِ مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ مِنْهَا، وَمَنْ طَلَبَ مِنْ بَعْضِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ الْبَعْضُ الْآخَرُ فَقَدْ بَلَغَ فِي التَّعَنُّتِ إِلَى مَكَانٍ عَظِيمٍ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ إِلَّا الدِّلَالَةُ عَلَى النُّبُوَّةِ لِكَوْنِهَا مُعْجِزَةً خَارِجَةً عَنِ الْقُدْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِفَرْدٍ مِنْهَا وَلَا بِأَفْرَادٍ مُعَيَّنَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْإِنْذَارِ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ إِحَاطَتِهِ بِالْعِلْمِ سُبْحَانَهُ، وَعِلْمِهِ بِالْغَيْبِ الَّذِي هَذِهِ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ مِنْهُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الشَّرِيفُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ وَهُوَ اللَّهُ، وَجُمْلَةُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى تفسير لهاد على الوجه الأخير، وهذا بعيد جدّا، وما مَوْصُولَةٌ، أَيْ: يَعْلَمُ الَّذِي تَحْمِلُهُ كُلُّ أُنْثَى فِي بَطْنِهَا مِنْ عَلَقَةٍ، أَوْ مُضْغَةٍ، أَوْ ذَكَرٍ، أَوْ أُنْثَى، أَوْ صَبِيحٍ، أَوْ قَبِيحٍ، أَوْ سَعِيدٍ، أَوْ شَقِيٍّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً أَيْ يَعْلَمُ أَيَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهَا، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ هُوَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: يَعْلَمُ حَمْلَهَا وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ الْغَيْضُ النَّقْصُ: أَيْ يَعْلَمُ الَّذِي تَغِيضُهُ الْأَرْحَامُ: أَيْ تَنْقُصُهُ، وَيَعْلَمُ مَا تَزْدَادُهُ. فَقِيلَ: الْمُرَادُ نَقْصُ خِلْقَةِ الْحَمْلِ وَزِيَادَتُهُ كَنَقْصِ أُصْبُعٍ أَوْ زِيَادَتِهَا: وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ نَقْصُ مُدَّةِ الْحَمْلِ عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ زِيَادَتُهَا، وَقِيلَ: إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِي حَالِ حَمْلِهَا كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي وَلَدِهَا وَقِيلَ: الْغَيْضُ: مَا تَنْقُصُهُ الْأَرْحَامُ مِنَ الدَّمِ، وَالزِّيَادَةُ مَا تَزْدَادُهُ مِنْهُ، وَ «مَا» فِي مَا تَغِيضُ، وما تَزْدَادُ، تَحْتَمِلُ الثَّلَاثَةَ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِمِقْدَارٍ، وَالْمِقْدَارُ: الْقَدْرُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «1» أَيْ: كُلُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ جَارِيَةٌ عَلَى قَدَرِهِ الَّذِي قَدْ سَبَقَ وَفَرَغَ مِنْهُ، لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ شَيْءٌ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيْ عَالِمُ كُلَّ غَائِبٍ عَنِ الْحِسِّ، وَكُلَّ مَشْهُودٍ حَاضِرٍ، أَوْ كُلَّ مَعْدُومٍ وَمَوْجُودٍ، ولا مانع من

_ (1) . القمر: 49.

حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ أَيِ الْعَظِيمُ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ، الْمُتَعَالِي عَمَّا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ، أَوِ الْمُسْتَعْلِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَقَهْرِهِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ تِلْكَ الْمُغَيَّبَاتِ لَا يُغَادِرُهُ شَيْءٌ مِنْهَا، بَيَّنَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يُسِرُّونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَمَا يَجْهَرُونَ بِهِ لِغَيْرِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَفَاوَتُ عِنْدَهُ، فَقَالَ: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَسَرَّهُ الْإِنْسَانُ كَعِلْمِهِ بِمَا جَهَرَ بِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِسَوَاءٍ عَلَى مَعْنَى: يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ وَمَنْ جَهَرَ، أَوْ سِرَّ مَنْ أَسَرَّ وَجَهْرَ مَنْ جَهَرَ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أَيْ مُسْتَتِرٌ فِي الظُّلْمَةِ الْكَائِنَةِ فِي اللَّيْلِ، مُتَوَارٍ عَنِ الْأَعْيُنِ، يُقَالُ: خَفِيَ الشَّيْءُ وَاسْتَخْفَى، أَيِ: اسْتَتَرَ وَتَوَارَى وَسارِبٌ بِالنَّهارِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: سَرَبَ يَسْرُبُ سَرَبًا وَسُرُوبًا إِذَا ذَهَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ أي ذهب. وقال القتبي: سَارِبٌ بِالنَّهَارِ مُتَصَرِّفٌ فِي حَوَائِجِهِ بِسُرْعَةٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَسْرَبَ الْمَاءُ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: حَلَّ سَرَبُهُ، أَيْ: طَرِيقَتُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ الْجَاهِرُ بِنُطْقِهِ، وَالْمُضْمِرُ فِي نَفْسِهِ، وَالظَّاهِرُ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْمُسْتَخْفِي فِي الظُّلُمَاتِ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِمْ جَمِيعًا سَوَى، وَهَذَا أَلْصَقُ بِمَعْنَى الْآيَةِ كَمَا تُفِيدُهُ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْمُسْتَخْفِي وَالسَّارِبِ فَالْمُسْتَخْفِي الْمُسْتَتِرُ، وَالسَّارِبُ الْبَارِزُ الظَّاهِرُ لَهُ مُعَقِّباتٌ الضَّمِيرُ فِي «لَهُ» رَاجِعٌ إِلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ أي لكلّ من هؤلاء معقبات، والمعقبات بالمتناوبات الَّتِي يَخْلُفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا صَاحِبَهُ، وَيَكُونُ بَدَلًا مِنْهُ، وَهُمُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُعَقِّبَاتُ مَلَائِكَةٌ يَأْتِي بَعْضُهُمْ بِعَقِبِ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: مُعَقِّبَاتٌ مَعَ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ ذُكُورًا لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهَا مُعَقِّبَةٌ، ثُمَّ جُمِعَ مُعَقِّبَةٌ عَلَى مُعَقِّبَاتٍ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْفَرَّاءُ، وَقِيلَ: أُنِّثَ لِكَثْرَةِ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَحْوَ نَسَّابَةٍ وَعَلَّامَةٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالتَّعَقُّبُ الْعَوْدُ بَعْدَ الْبَدْءِ. قَالَ اللَّهُ تعالى: وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ وَقُرِئَ «مَعَاقِيبُ» جَمْعُ مُعْقِبٍ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَيْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنْ لَهُ الْمُعَقِّبَاتُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ الْحَفَظَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُعَقِّبَاتِ الْأَعْمَالُ، وَمَعْنَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ: مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أَيْ مِنْ أَجْلِ أَمْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِذَا أَذْنَبَ بِالِاسْتِمْهَالِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ حَتَّى يَتُوبَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي هَذَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، تَقْدِيرُهُ: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ الْحَفَظَةِ يَحْفَظُونَهُ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى حِفْظُهُمْ إِيَّاهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ: مِمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ لَا أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ أَنْ يَدْفَعُوا أَمْرَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَفِي هَذَا قَوْلٌ آخَرُ. وَهُوَ أَنَّ «مِنْ» بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ: يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ بِمَعْنَى عَنْ، أَيْ: يَحْفَظُونَهُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِمَعْنَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، كَقَوْلِهِ: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ «2» أَيْ: عَنْ جُوعٍ وَقِيلَ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ مَلَائِكَةِ العذاب، وقيل: يحفظونه من الجن.

_ (1) . هو الأخنس بن شهاب التغلبي. (2) . قريش: 4.

وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُعَقِّبَاتِ الْمَوَاكِبُ بَيْنَ أَيْدِي الْأُمَرَاءِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْقَضَاءَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَسْلُبُ قَوْمًا نِعْمَةً أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُغَيِّرُوا الَّذِي بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، أَوْ يُغَيِّرُوا الْفِطْرَةَ الَّتِي فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهَا. قِيلَ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُنْزِلُ بِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ عُقُوبَةً حَتَّى يَتَقَدَّمَ لَهُ ذَنْبٌ، بَلْ قَدْ تَنْزِلُ الْمَصَائِبُ بِذُنُوبِ الْغَيْرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ: «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ سَائِلٌ فَقَالَ: أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» . وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً أَيْ هَلَاكًا وَعَذَابًا فَلا مَرَدَّ لَهُ أَيْ فَلَا رَدَّ لَهُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا أَعْمَى قُلُوبَهُمْ حَتَّى يَخْتَارُوا مَا فِيهِ الْبَلَاءُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ يَلِي أَمْرَهُمْ وَيَلْتَجِئُونَ إِلَيْهِ، فَيَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْعِقَابِ، أَوْ مِنْ نَاصَرٍ يَنْصُرُهُمْ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا رَادَّ لِعَذَابِ اللَّهِ وَلَا نَاقِضَ لِحُكْمِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ قَالَ: إِنْ تَعْجَبْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنْ تَعْجَبْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ، وَهُمْ رَأَوْا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ، وَمَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْثَالِ وَأَرَاهُمْ مِنْ حَيَاةِ الْمَوْتَى وَالْأَرْضِ الْمَيْتَةِ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ مِنْ نُطْفَةٍ، فَالْخَلْقُ مِنْ نُطْفَةٍ أَشَدُّ مِنَ الْخَلْقِ مِنْ تُرَابٍ وَعِظَامٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ قَالَ: الْعُقُوبَاتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْمَثُلَاتِ قَالَ: وَقَائِعُ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ فِيمَنْ خَلَا قَبْلَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَثُلَاتُ مَا أَصَابَ الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ مِنَ الْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُهُ مَا هَنَأَ لِأَحَدٍ الْعَيْشُ، وَلَوْلَا وَعِيدُهُ وَعِقَابُهُ لَاتَّكَلَ كُلُّ أَحَدٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ قَالَ: دَاعٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أبي حاتم وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ قَالَ: الْمُنْذِرُ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ نَبِيٍّ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مُحَمَّدٌ الْمُنْذِرُ وَالْهَادِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُنْذِرُ وَهُوَ الْهَادِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَأَبِي الضُّحَى نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: أَنَا الْمُنْذِرُ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى مَنْكِبِ عَلِيٍّ فَقَالَ: أَنْتَ الْهَادِي يَا عَلِيُّ، بِكَ يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ مِنْ بَعْدِي» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم

فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وأخرج عبد الله ابن أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمَسْنَدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْآيَةِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى قَالَ: كُلُّ أُنْثَى مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَعْلَمُ ذَكَرًا هُوَ أَوْ أُنْثَى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ قَالَ: هِيَ الْمَرْأَةُ تَرَى الدَّمَ فِي حَمْلِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ قَالَ: خُرُوجُ الدَّمِ وَما تَزْدادُ قَالَ: اسْتِمْسَاكُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ قَالَ: أَنْ تَرَى الدَّمَ فِي حَمْلِهَا وَما تَزْدادُ قَالَ: فِي التِّسْعَةِ أَشْهُرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَا تَزْدَادُ عَلَى تِسْعَةٍ، وَمَا تَنْقُصُ مِنَ التِّسْعَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الآية ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ قَالَ: السَّقْطُ وَما تَزْدادُ مَا زَادَتْ فِي الْحَمْلِ عَلَى مَا غَاضَتْ حَتَّى وَلَدَتْهُ تَمَامًا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَحْمِلُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَحْمِلُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَنْقُصُ، فَذَلِكَ الْغَيْضُ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَعْلَمُهُ تَعَالَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ قَالَ: السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ قَالَ: رَاكِبٌ رأسه في الْمَعَاصِي وَسارِبٌ بِالنَّهارِ قَالَ: ظَاهِرٌ بِالنَّهَارِ بِالْمَعَاصِي. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ قَالَ: الظَّاهِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ صَاحِبُ رِيبَةٍ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ، وَإِذَا خَرَجَ بِالنَّهَارِ أَرَى النَّاسَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الْإِثْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ قُدُومُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَأَرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ بِالْغُدَّةِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى إِلَى قَوْلِهِ: مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ قَالَ: الْمُعَقِّبَاتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَرْبَدَ بْنَ قَيْسٍ وَمَا قَتَلَهُ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُعَقِّباتٌ الْآيَةَ قَالَ: هَذِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ قَالَ: ذَلِكَ الْحِفْظُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ قَالَ: بِإِذْنِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: وَلِيُّ السُّلْطَانِ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحُرَّاسُ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، يَقُولُ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِي، فَإِنِّي إِذَا أَرَدْتُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْمُلُوكُ يَتَّخِذُونَ الْحَرَسَ

[سورة الرعد (13) : الآيات 12 إلى 18]

يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمَامِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْقَتْلِ، أَلَمْ تَسْمَعْ أن الله يقول في قوله: إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ أَيْ إِذَا أَرَادَ سُوءًا لَمْ يُغْنِ الْحَرَسُ عَنْهُ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ تُعَقِّبُ بِاللَّيْلِ تَكْتُبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، فَإِذَا جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ خَلُّوا عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ إِلَّا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عَلَيْهِ حَائِطٌ، أَوْ يَنْزَوِيَ فِي بِئْرٍ، أَوْ يَأْكُلَهُ سَبْعٌ أَوْ غَرَقٌ أَوْ حَرْقٌ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَدَرِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذِكْرِ الْحَفَظَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْإِنْسَانِ أَحَادِيثُ كثيرة مذكورة في كتب الحديث. [سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 18] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) لَمَّا خَوَّفَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِإِنْزَالِ مَا لَا مَرَدَّ لَهُ أَتْبَعَهُ بِأُمُورٍ تُرْجَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَيُخَافُ مِنْ بَعْضِهَا، وَهِيَ الْبَرْقُ وَالسَّحَابُ وَالرَّعْدُ وَالصَّاعِقَةُ، وَقَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَأَسْبَابُهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَجْهِ انْتِصَابِ خَوْفاً وَطَمَعاً فَقِيلَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: لِتَخَافُوا خوفا وَلِتَطْمَعُوا طَمَعًا، وَقِيلَ: عَلَى الْعِلَّةِ بِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ لِئَلَّا يَخْتَلِفَ فَاعِلُ الْفِعْلِ الْمُعَلِّلِ وَفَاعِلُ الْمَفْعُولِ لَهُ، أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ مِنَ الْبَرْقِ، أَوْ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِتَقْدِيرِ ذَوِي خَوْفٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالْخَوْفِ هُوَ الْحَاصِلُ مِنَ الصَّوَاعِقِ، وَبِالطَّمَعِ هُوَ الْحَاصِلُ فِي الْمَطَرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْخَوْفُ لِلْمُسَافِرِ لِمَا يَتَأَذَّى بِهِ مِنَ الْمَطَرِ، وَالطَّمَعُ لِلْحَاضِرِ لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى الْبَرْقَ طَمِعَ فِي الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْخِصْبِ وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ التَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ وَالْوَاحِدَةُ سَحَابَةٌ، وَالثِّقَالُ: جمع ثقيلة، والمراد أن اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُ السَّحَابَ

الَّتِي يُنْشِئُهَا ثِقَالًا بِمَا يَجْعَلُهُ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أَيْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ نفسه بحمد الله، أي: متلبسا بِحَمْدِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُسْتَبْعَدٍ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُنْطِقَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ الرَّعْدِ بِمَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَلَا اسْتِبْعَادَ فِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ ذِكْرُهُ عَلَى الْإِفْرَادِ مَعَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَهُ لِمَزِيدِ خُصُوصِيَّةٍ لَهُ، وَعِنَايَةٍ بِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ وَيُسَبِّحُ سَامِعُو الرَّعْدِ، أَيْ: يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي: وتسبح الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَقِيلَ: مِنْ خِيفَةِ الرَّعْدِ. وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ هُمْ أَعْوَانُ الرَّعْدِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لَهُ أَعْوَانًا وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ مِنْ خَلْقِهِ فَيُهْلِكُهُ، وَسِيَاقُ هَذِهِ الْأُمُورِ هُنَا لِلْغَرَضِ الَّذِي سِيقَتْ لَهُ الْآيَاتُ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ الدِّلَالَةُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ أَيْ: وَهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ مَعَ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَرَاهُمُ اللَّهُ يُجَادِلُونَ فِي شَأْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَيُنْكِرُونَ الْبَعْثَ تَارَةً وَيَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ أُخْرَى. وَيُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ وَيَعْصُونَ اللَّهَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمِحَالُ الْمَكْرُ، وَالْمَكْرُ مِنَ اللَّهِ: التَّدْبِيرُ بِالْحَقِّ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْمَكْرُ مِنَ اللَّهِ إِيصَالُ الْمَكْرُوهِ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمِحَالُ الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ والميم أصلية، وما حلت فُلَانًا مِحَالًا أَيُّنَا أَشَدُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: المحال العقوبة والمكروه. قال الزّجّاج: يقال ما حلته مِحَالًا إِذَا قَاوَيْتُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَيُّكُمَا أَشَدُّ. وَالْمَحْلُ فِي اللُّغَةِ: الشِّدَّةُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ «1» : أَيْ شَدِيدُ الْكَيْدِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِيلَةِ جُعِلَ الْمِيمُ كَمِيمِ الْمَكَانِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْكَوْنِ، ثُمَّ يُقَالُ تَمَكَّنْتُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: غَلِطَ ابْنُ قُتَيْبَةَ «2» أَنَّ الْمِيمَ فِيهِ زَائِدَةٌ بَلْ هِيَ أَصْلِيَّةٌ، وَإِذَا رَأَيْتَ الْحَرْفَ عَلَى مِثَالِ فِعَالٍ أَوَّلُهُ مِيمٌ مَكْسُورَةٌ فَهِيَ أَصْلِيَّةٌ مِثْلُ مِهَادٍ وَمِلَاكٍ ومراس غير ذَلِكَ مِنَ الْحُرُوفِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَدْ فُسِّرَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِالْحَوْلِ. وَلِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي تَفْسِيرِ الْمِحَالِ هُنَا أَقْوَالٌ ثَمَانِيَةٌ: الْأَوَّلُ الْعَدَاوَةُ، الثَّانِي الْحَوْلُ، الثَّالِثُ الْأَخْذُ، الرَّابِعُ الْحِقْدُ، الْخَامِسُ الْقُوَّةُ، السَّادِسُ الْغَضَبُ، السَّابِعُ الْهَلَاكُ، الثَّامِنُ الْحِيلَةُ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ إِضَافَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ أَيِ الدَّعْوَةُ الْمُلَابِسَةُ لِلْحَقِّ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لِلْبَاطِلِ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَمَا يُقَالُ كَلِمَةُ الْحَقِّ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ وَاقِعَةٌ فِي مَوْقِعِهَا، لَا كَدَعْوَةِ مَنْ دُونَهُ. وَقِيلَ: الحق هو الله سبحانه والمعنى: أن الله سُبْحَانَهُ دَعْوَةَ الْمَدْعُوِّ الْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ فَيُجِيبُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ هَاهُنَا كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمَعْنَى: لِلَّهِ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَيُخْلِصُوا لَهُ. وَقِيلَ: دَعْوَةُ الْحَقِّ دُعَاؤُهُ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ لَا يُدْعَى فِيهِ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وَقِيلَ: الدَّعْوَةُ الْعِبَادَةُ، فَإِنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ هِيَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ أي: والآلهة الذين

_ (1) . انظر كتابه: تفسير غريب القرآن (226) . (2) . كذا في المطبوع وتفسير القرطبي، وفي لسان العرب مادة: محل: القتيبي.

يَدْعُونَهُمْ يَعْنِي الْكُفَّارَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَطْلُبُونَهُ مِنْهُمْ كَائِنًا مَا كَانَ إِلَّا اسْتِجَابَةً كَاسْتِجَابَةِ الْمَاءِ لِمَنْ بَسَطَ كَفَّيْهِ إِلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ فَإِنَّهُ لَا يُجِيبُهُ لِأَنَّهُ جَمَادٌ لَا يَشْعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَبْلُغَ فَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ: وَما هُوَ أَيِ الْمَاءُ بِبالِغِهِ أَيْ بِبَالِغٍ فِيهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِلَّا كَمَا يُسْتَجَابُ لِلَّذِي يَبْسُطُ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ يَدْعُو الْمَاءَ إِلَى فِيهِ، وَالْمَاءُ لَا يَسْتَجِيبُ، أَعَلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ دُعَاءَهُمُ الْأَصْنَامَ كَدُعَاءِ الْعَطْشَانِ إِلَى الْمَاءِ يَدْعُوهُ إِلَى بُلُوغِ فَمِهِ، وَمَا الْمَاءُ بِبَالِغِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَقْبِضَ عَلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ فِي كَفِّهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَقَدْ ضَرَبَتِ الْعَرَبُ لِمَنْ سَعَى فِيمَا لَا يُدْرِكُهُ مَثَلًا بِالْقَبْضِ عَلَى الْمَاءِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَأَصْبَحْتُ مِمَّا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... مِنَ الْوُدِّ مِثْلَ الْقَابِضِ الْمَاءَ بِالْيَدِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَمَنْ يَأْمَنِ الدُّنْيَا يَكُنْ مِثْلَ قَابِضٍ ... عَلَى الْمَاءِ خَانَتْهُ فُرُوجُ الْأَصَابِعِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَاءِ هُنَا مَاءُ الْبِئْرِ لِأَنَّهَا مَعْدِنٌ لِلْمَاءِ، وَأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِمَنْ مَدَّ يَدَهُ إِلَى الْبِئْرِ بِغَيْرِ رِشَاءٍ، ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا مَثَلًا لِمَنْ يَدْعُو غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أَيْ: يَضِلُّ عَنْهُمْ ذَلِكَ الدُّعَاءُ فَلَا يَجِدُونَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَنْفَعُهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَلْ هُوَ ضَائِعٌ ذَاهِبٌ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ لِلتَّعْظِيمِ مَعَ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، فَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةِ وَمُسْلِمِي الْجِنِّ وَأَمَّا فِي الْكُفَّارِ فَلَا يَصِحُّ تَأْوِيلُ السُّجُودِ بِهَذَا فِي حَقِّهِمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ السُّجُودُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى حَقَّ لِلَّهِ السُّجُودُ وَوَجَبَ حَتَّى يتناول السجود بالفعل وغيره، أو يفسر السجود بِالِانْقِيَادِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فَهُمْ مُنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ، وَحُكْمِهِ فِيهِمْ بِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَيَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: طَوْعاً وَكَرْهاً فَإِنَّ الْكُفَّارَ يَنْقَادُونَ كَرْهًا كَمَا يَنْقَادُ الْمُؤْمِنُونَ طَوْعًا، وَهُمَا مُنْتَصِبَانِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَيِ: انْقِيَادَ طَوْعٍ وَانْقِيَادَ كَرْهٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: طَائِعِينَ وَكَارِهِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ يَسْجُدُونَ طَوْعًا، وَبَعْضُ الْكُفَّارِ يَسْجُدُونَ إِكْرَاهًا وَخَوْفًا كَالْمُنَافِقِينَ، فَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ سَجَدَ طَوْعًا لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ السُّجُودُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَثْقُلُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْتِزَامَ التَّكْلِيفِ مَشَقَّةٌ وَلَكِنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ الْمَشَقَّةَ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَإِخْلَاصًا لَهُ وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَظِلَالُهُمْ: جَمْعُ ظِلٍّ، وَالْمُرَادُ بِهِ ظِلُّ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَتْبَعُهُ، جُعِلَ سَاجِدًا بِسُجُودِهِ حَيْثُ صَارَ لَازِمًا لَهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لِلظِّلَالِ أَفْهَامًا «1» تَسْجُدُ بِهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ لِلْجِبَالِ أَفْهَامًا حَتَّى اشْتَغَلَتْ بِتَسْبِيحِهِ، فَظِلُّ الْمُؤْمِنُ يَسْجُدُ لِلَّهِ طَوْعًا، وَظِلُّ الْكَافِرُ يَسْجُدُ لله كرها، وخص الغدوّ والآصال بالذكر لِأَنَّهُ يَزْدَادُ ظُهُورُ الظِّلَالِ فِيهِمَا، وَهُمَا ظَرْفٌ لِلسُّجُودِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ: وَيَسْجُدُ ظِلَالُهُمْ فِي هَذَيْنِ الوقتين.

_ (1) . أي عقولا.

وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغُدُوِّ وَالْآصَالِ فِي الْأَعْرَافِ، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ «1» وجاء بمن فِي مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَغْلِيبًا لِلْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلِكَوْنِ سُجُودِ غَيْرِهِمْ تَبَعًا لِسُجُودِهِمْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ حَمْلَ السُّجُودِ عَلَى الِانْقِيَادِ مَا يُفِيدُهُ تَقْدِيمُ لِلَّهِ عَلَى الْفِعْلِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ، فَإِنَّ سُجُودَ الْكُفَّارِ لِأَصْنَامِهِمْ مَعْلُومٌ، وَلَا يَنْقَادُونَ لَهُمْ كَانْقِيَادِهِمْ لِلَّهِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، كَالْخَلْقِ وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يَسْأَلَ الكفار من رب السموات وَالْأَرْضِ؟ ثُمَّ لَمَّا كَانُوا يُقِرُّونَ بِذَلِكَ وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ «2» وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «3» أمر رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ، فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ فَكَأَنَّهُ حَكَى جَوَابَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَهُ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا تَلَعْثَمُوا فِي الْجَوَابِ حَذَرًا مِمَّا يَلْزَمُهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُلْزِمَهُمُ الْحُجَّةَ وَيُبَكِّتَهُمْ فَقَالَ: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: إِذَا كان رب السموات وَالْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ كَمَا تُقِرُّونَ بِذَلِكَ وَتَعْتَرِفُونَ بِهِ كَمَا حَكَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْكُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ «4» فَمَا بَالُكُمُ اتَّخَذْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ عَاجِزِينَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً يَنْفَعُونَهَا بِهِ وَلا ضَرًّا يَضُرُّونَ بِهِ غَيْرَهُمْ أَوْ يَدْفَعُونَهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ تَرْجُونَ مِنْهُمُ النَّفْعَ وَالضُّرَّ وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُمَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ مَثَلًا وَأَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، فَقَالَ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَيْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى فِي دِينِهِ وَهُوَ الْكَافِرُ، وَالْبَصِيرُ فِيهِ وَهُوَ الْمُوَحِّدُ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ جَاهِلٌ لِمَا يَجِبْ عَلَيْهِ وَمَا يَلْزَمُهُ، وَالثَّانِي عَالِمٌ بِذَلِكَ. قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَالْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ الْكُفْرُ، وَبِالنُّورِ الْإِيمَانُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: كَيْفَ يَكُونَانِ مُسْتَوِيَيْنِ وَبَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، وَمَا بَيْنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، وَوُحِّدَ النُّورُ وَجُمِعَ الظُّلْمَةُ لِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدَةٌ لا تختلف، وطرائق الباطل كثيرة غير محصورة أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ أَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةُ، أَيْ: بَلْ أَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ الْوُقُوعِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ أَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا مِثْلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فَتَشَابَهَ خَلْقُ الشُّرَكَاءِ بِخَلْقِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا حَتَّى يَشْتَبِهَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، بَلْ إِذَا فَكَّرُوا بِعُقُولِهِمْ وَجَدُوا اللَّهَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ، وَسَائِرَ الشُّرَكَاءِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا، وَجُمْلَةُ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةٌ لِشُرَكَاءَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ مُتَّصِفِينَ بِأَنَّهُمْ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ بِهَذَا السَّبَبِ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَسْتَحِقُّوا بِذَلِكَ الْعِبَادَةَ مِنْهُمْ، بَلْ إِنَّمَا جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ الْأَصْنَامَ وَنَحْوَهَا، وَهِيَ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُوَضِّحَ لَهُمُ الْحَقَّ وَيُرْشِدَهُمْ إِلَى الصَّوَابِ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ مُشَارَكَةٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

_ (1) . النحل: 48. (2) . الزخرف: 9. (3) . الزخرف: 87. (4) . المؤمنون: 86 و 87.

قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مما يصح أن يكون مخلوقا، ترى أنه تعالى خالق كل شَيْءٌ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهُوَ الْواحِدُ أَيِ الْمُتَفَرِّدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ الْقَهَّارُ لِمَا عَدَاهُ، فَكُلُّ مَا عَدَاهُ مَرْبُوبٌ مَقْهُورٌ مَغْلُوبٌ، ثُمَّ ضَرَبَ سُبْحَانَهُ مَثَلًا آخَرَ لِلْحَقِّ وَذَوِيهِ، وَلِلْبَاطِلِ وَمُنْتَحِلِيهِ فَقَالَ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً أَيْ مِنْ جِهَتِهَا وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّكْثِيرِ أَوْ لِلنَّوْعِيَّةِ فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ جَمْعُ وَادٍ، وَهُوَ كُلُّ مُنْفَرِجٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا نَعْلَمُ فَاعِلًا جُمِعَ عَلَى أَفْعِلَةٍ إِلَّا هَذَا، وَكَأَنَّهُ حُمِلَ عَلَى فَعِيلٍ فَجُمِعَ عَلَى أَفْعِلَةٍ مِثْلُ جَرِيبٍ وَأَجْرِبَةٍ، كَمَا أَنَّ فَعِيلًا حُمِلَ عَلَى فَاعِلٍ، فَجُمِعَ عَلَى أَفْعَالٍ مِثْلُ يَتِيمٍ وَأَيْتَامٍ وَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ، كَأَصْحَابٍ وَأَنْصَارٍ فِي صَاحِبٍ وَنَاصِرٍ قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ تُوَسَّعٌ، أَيْ: سَالَ مَاؤُهَا، قَالَ: وَمَعْنَى بِقَدَرِها بِقَدَرِ مَائِهَا لِأَنَّ الْأَوْدِيَةَ مَا سَالَتْ بِقَدَرِ أَنْفُسِهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْقَدَرُ مَبْلَغُ الشَّيْءِ، وَالْمَعْنَى: بِقَدَرِهَا مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ صَغُرَ الْوَادِي قَلَّ الْمَاءُ وَإِنِ اتَّسَعَ كَثُرَ، وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: بِقَدَرِهَا بِمِقْدَارِهَا الذي يَعْرِفُ اللَّهُ أَنَّهُ نَافِعٌ لِلْمَمْطُورِ عَلَيْهِمْ غَيْرُ ضَارٍّ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: شُبِّهُ نُزُولُ الْقُرْآنِ الْجَامِعِ لِلْهُدَى وَالْبَيَانِ بِنُزُولِ الْمَطَرِ، إِذْ نَفْعُ نُزُولِ الْقُرْآنِ يَعُمُّ كَعُمُومِ نَفْعِ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَشُبِّهَ الْأَوْدِيَةُ بِالْقُلُوبِ إِذِ الْأَوْدِيَةُ يَسْتَكِنُّ فِيهَا الْمَاءُ كَمَا يَسْتَكِنُّ الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً الزَّبَدُ: هُوَ الْأَبْيَضُ الْمُرْتَفِعُ الْمُنْتَفِخُ عَلَى وَجْهِ السَّيْلِ، وَيُقَالُ لَهُ الْغُثَاءُ وَالرَّغْوَةُ، وَالرَّابِي: الْعَالِي الْمُرْتَفِعُ فَوْقَ الْمَاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الطَّافِي فَوْقَ الْمَاءِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الزَّائِدُ بِسَبَبِ انْتِفَاخِهِ، مِنْ رَبَا يَرْبُو إِذَا زَادَ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا تَشْبِيهُ الْكُفْرِ بِالزَّبَدِ الَّذِي يَعْلُو الْمَاءَ، فَإِنَّهُ يَضْمَحِلُّ وَيَعْلَقُ بِجَنَبَاتِ الْوَادِي وَتَدْفَعُهُ الرِّيَاحُ، فَكَذَلِكَ يَذْهَبُ الْكُفْرُ وَيَضْمَحِلُّ. وَقَدْ تَمَّ الْمَثَلُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي ذِكْرِ الْمَثَلِ الثَّانِي فَقَالَ: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ: وَمِنْهُ يَنْشَأُ زَبَدٌ مِثْلُ زَبَدِ الْمَاءِ، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ بِمَعْنَى: وَبَعْضُهُ زَبَدٌ مِثْلُهُ، وَالضَّمِيرُ لِلنَّاسِ، أُضْمِرَ مَعَ عَدَمِ سَبْقِ الذِّكْرِ لِظُهُورِهِ، هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ يُوقِدُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَبِهَا قَرَأَ حُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ. وَالْمَعْنَى: وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ فَيَذُوبُ مِنَ الْأَجْسَامِ الْمُنْطَرِقَةِ الذَّائِبَةِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَيْ لِطَلَبِ اتِّخَاذِ حِلْيَةٍ تَتَزَيَّنُونَ بِهَا وَتَتَجَمَّلُونَ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوْ مَتاعٍ أَيْ: أَوْ طَلَبِ مَتَاعٍ تَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ الْأَوَانِي وَالْآلَاتِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ زَبَدٌ مِثْلُهُ الْمُرَادُ بِالزَّبَدِ هُنَا الخبث فإنه يعلو فوق ما أذنب مِنْ تِلْكَ الْأَجْسَامِ كَمَا يَعْلُو الزَّبَدُ عَلَى الْمَاءِ، فَالضَّمِيرُ فِي مِثْلُهُ يَعُودُ إِلَى زَبَداً رابِياً وارتفاع زبد على الابتداء وخبره مما يُوقِدُونَ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الضَّرْبِ الْبَدِيعِ يَضْرِبُ اللَّهُ مَثَلَ الْحَقِّ وَمَثَلَ الْبَاطِلِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَقْسِيمِ الْمَثَلِ فَقَالَ: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يُقَالُ: جَفَأَ الْوَادِي بِالْهَمْزِ جَفَاءً إِذَا رَمَى بِالْقَذَرِ وَالزَّبَدِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَفَاءُ: الرَّمْيُ، يُقَالُ: جَفَأَ الوادي غثاء جَفَاءً: إِذَا رَمَى بِهِ، وَالْجَفَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْغُثَاءِ. وَكَذَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رُؤْبَةَ يَقْرَأُ جُفَالًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ أَجْفَلَتِ الْقِدْرُ إِذَا قَذَفَتْ بِزَبَدِهَا، وَأَجْفَلَتِ الرِّيحُ السَّحَابَ إِذَا قَطَعَتْهُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُقْرَأُ بِقِرَاءَةِ رُؤْبَةَ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْفَأْرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الزَّبَدَيْنِ فِي الزَّبَدِ الَّذِي يَحْمِلُهُ السَّيْلُ وَالزَّبَدِ الَّذِي يَعْلُو الْأَجْسَامَ الْمُنْطَرِقَةَ

أَنَّ تُرَابَ الْأَرْضِ لَمَّا خَالَطَ الْمَاءَ وَحَمَلَهُ مَعَهُ صَارَ زَبَدًا رَابِيًا فَوْقَهُ، وَكَذَلِكَ مَا يُوقَدُ عَلَيْهِ فِي النَّارِ حَتَّى يَذُوبَ مِنَ الْأَجْسَامِ الْمُنْطَرِقَةِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ الَّتِي تَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ فَيُخَالِطُهَا التُّرَابُ، فَإِذَا أُذِيبَتْ صَارَ ذَلِكَ التُّرَابُ الَّذِي خَالَطَهَا خَبَثًا مُرْتَفِعًا فَوْقَهَا وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنْهُمَا وَهُوَ الْمَاءُ الصَّافِي، وَالذَّائِبُ الْخَالِصُ مِنَ الْخَبَثِ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَيْ يَثْبُتُ فِيهَا، أَمَّا الْمَاءُ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ فِي عُرُوقِ الْأَرْضِ فَتَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهِ، وَأَمَّا مَا أُذِيبُ مِنْ تِلْكَ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ يُصَاغُ حِلْيَةً وَأَمْتِعَةً، وَهَذَانِ مَثَلَانِ ضَرَبَهُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، يَقُولُ: إِنَّ الْبَاطِلَ وَإِنْ ظَهَرَ عَلَى الْحَقِّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَعَلَاهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَيَمْحَقُهُ وَيُبْطِلُهُ وَيَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ كَالزَّبَدِ الَّذِي يَعْلُو الْمَاءَ فَيُلْقِيهِ الْمَاءُ وَيَضْمَحِلُّ وَكَخَبَثِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ وَإِنْ عَلَا عَلَيْهَا فَإِنَّ الْكِيرَ يَقْذِفُهُ وَيَدْفَعُهُ. فَهَذَا مَثَلُ الْبَاطِلِ وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَنْفَعُ النَّاسَ وَيُنْبِتُ الْمَرَاعِيَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الصَّفْوُ مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ يَبْقَى خَالِصًا لَا شَوْبَ فِيهِ، وَهُوَ مَثَلُ الْحَقِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَاعْتِقَادِهِ وَنَفْعِ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ هَذَا الْمَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَحَيَاةِ كُلِّ شَيْءِ، وَكَمَثَلِ نَفْعِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا تَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهَا، وَمَثَلُ الْكَافِرِ وَكُفْرِهِ كَمَثَلِ الزَّبَدِ الَّذِي يَذْهَبُ جَفَاءً، وَكَمَثَلِ خَبَثِ الْحَدِيدِ وَمَا تُخْرِجُهُ النَّارُ مِنْ وَسَخِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. وَقَدْ حَكَيْنَا عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ شَبَّهَ نُزُولَ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَجَعَلَ ذَلِكَ مَثَلًا ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْقُرْآنِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الضَّرْبِ الْعَجِيبِ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ فِي كُلِّ بَابٍ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِعِبَادِهِ وَاللُّطْفِ بِهِمْ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَنْ ضَرَبَ لَهُ مَثَلَ الْحَقِّ وَمَثَلَ الْبَاطِلِ مِنْ عِبَادِهِ، فَقَالَ فِيمَنْ ضَرَبَ لَهُ مَثَلَ الْحَقِّ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ أَيْ أَجَابُوا دَعْوَتَهُ إِذْ دَعَاهُمْ إِلَى توحيده وتصديق أنبيائه والعمل بشرائعه، والحسنى صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْمَثُوبَةِ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِيمَنْ ضَرَبَ لَهُ مَثَلَ الْبَاطِلِ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِدَعْوَتِهِ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَالْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ، وَهِيَ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَتَمَلَّكُهَا الْعِبَادُ وَيَجْمَعُونَهَا بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَيْ مِثْلَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا كَائِنًا مَعَهُ وَمُنْضَمًّا إِلَيْهِ لَافْتَدَوْا بِهِ أَيْ بِمَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ وَهُوَ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلُهُ. وَالْمَعْنَى: لِيَخْلُصُوا بِهِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْكَبِيرِ وَالْهَوْلِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فَقَالَ: أُولئِكَ يَعْنِي الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: سُوءُ الْحِسَابِ الْمُنَاقَشَةُ فِيهِ وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُحَاسَبَ الرَّجُلُ بِذَنْبِهِ كُلِّهِ لَا يُغْفَرُ مِنْهُ شَيْءٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أَيْ مَرْجِعُهُمْ إِلَيْهَا وَبِئْسَ الْمِهادُ أَيِ الْمُسْتَقَرِّ الَّذِي يَسْتَقِرُّونَ فِيهِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً قَالَ: خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ يَخَافُ أَذَاهُ وَمَشَقَّتَهُ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ يَطْمَعُ فِي رِزْقِ اللَّهِ وَيَرْجُو بَرَكَةَ الْمَطَرِ وَمَنْفَعَتَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَوْفًا لِأَهْلِ الْبَحْرِ وَطَمَعًا لِأَهْلِ الْبِرِّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْخَوْفُ مَا يُخَافُ مِنَ الصَّوَاعِقِ وَالطَّمَعُ: الْغَيْثُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ

جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْخَرَائِطِيُّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْبَرْقُ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ بِأَيْدِي مَلَائِكَةِ السَّحَابِ يَزْجُرُونَ بِهِ السَّحَابَ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مَا يُوَافِقُ هَذَا وَيُخَالِفُهُ، وَلَعَلَّنَا قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ السَّحَابَ فَتَنْطِقُ أَحْسَنَ النُّطْقِ، وَتَضْحَكُ أَحْسَنَ الضَّحِكِ» . قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِنُطْقِهَا الرَّعْدُ، وَبِضَحِكِهَا الْبَرْقُ. وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ وَالصَّوَاعِقَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ» . وَأَخْرَجَ الْعُقَيْلِيُّ وَضَعَّفَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «يُنْشِئُ اللَّهُ السَّحَابَ، ثُمَّ يُنْزِلُ فِيهِ الْمَاءَ، فَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْ ضَحِكِهِ، وَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْ نُطْقِهِ، وَمَنْطِقُهُ الرَّعْدُ، وَضَحِكُهُ الْبَرْقُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ خُزَيْمَةَ بْنَ ثَابِتٍ، وَلَيْسَ بِالْأَنْصَارِيِّ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ منشأ السحاب قال: «إِنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا يَلُمُّ الْقَاصِيَةَ وَيُلْحِمُ الدَّانِيَةَ، فِي يَدِهِ مِخْرَاقٌ، فَإِذَا رَفَعَ بَرَقَتْ، وَإِذَا زَجَرَ رَعَدَتْ، وَإِذَا ضَرَبَ صَعِقَتْ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّا نَسْأَلُكَ عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ أَنْبَأَتْنَا بِهِنَّ عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتَّبَعْنَاكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إِسْرَائِيلُ عَلَى بَنِيهِ إِذْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، قَالَ: هَاتُوا، قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ عَلَامَةِ النَّبِيِّ؟ قَالَ: تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ قَالُوا: أَخْبِرْنَا كَيْفَ تُؤَنِّثُ الْمَرْأَةُ وَكَيْفَ تُذَكِّرُ؟ قَالَ: يَلْتَقِي الْمَاءَانِ، فَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَتْ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَنَّثَتْ قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَمَّا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: كَانَ يشتكي عرق النسا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا أَلْبَانَ كَذَا وَكَذَا: يَعْنِي الْإِبِلَ، فَحَرَّمَ لُحُومَهَا، قَالُوا: صَدَقْتَ قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا هَذَا الرَّعْدُ؟ قَالَ: مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ بِيَدِهِ مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُرُ بِهِ السَّحَابَ يَسُوقُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ، قَالُوا: فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي نَسْمَعُ؟ قَالَ: صَوْتُهُ. قَالُوا: صَدَقْتَ إِنَّمَا بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الَّتِي نُتَابِعُكَ إِنْ أَخْبَرْتَنَا، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ، فَأَخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالُوا: جِبْرِيلُ ذَاكَ يَنْزِلُ بِالْخَرَابِ وَالْقِتَالِ وَالْعَذَابِ عَدُوُّنَا، لَوْ قُلْتَ مِيكَائِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالرَّحْمَةِ وَالنَّبَاتِ وَالْقَطْرِ لَكَانَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ «1» » إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْمَطَرِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَبَّحَتْ لَهُ، وَقَالَ: إِنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ يَنْعِقُ بِالْغَيْثِ كما ينعق الراعي بغنمه.

_ (1) . البقرة: 97.

[سورة الرعد (13) : الآيات 19 إلى 25]

وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الرَّعْدَ صَوْتُ الْمَلَكِ وَكَذَا أَخْرَجَ نَحْوَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّعْدُ مَلَكٌ اسْمُهُ الرَّعْدُ، وَصَوْتُهُ هَذَا تَسْبِيحُهُ فَإِذَا اشْتَدَّ زَجْرُهُ احْتَكَّ السَّحَابُ وَاضْطَرَمَ مِنْ خَوْفِهِ فَتَخْرُجُ الصَّوَاعِقُ مِنْ بَيْنِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْخَرَائِطِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: إِنَّ بُحُورًا مِنْ نَارٍ دُونَ الْعَرْشِ تَكُونُ مِنْهَا الصَّوَاعِقُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الصَّوَاعِقُ نَارٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ قَالَ: شَدِيدُ الْقُوَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: شَدِيدُ الْأَخْذِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ قَالَ: التَّوْحِيدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: دَعْوَةُ الْحَقِّ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ الْعَطْشَانُ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى الْبِئْرِ لِيَرْتَفِعَ الْمَاءُ إِلَيْهِ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا مَثَلُ الْمُشْرِكِ الَّذِي عَبَدَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الرَّجُلِ الْعَطْشَانِ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى خَيَالِهِ فِي الْمَاءِ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ قَالَ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً الْآيَةَ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ احْتَمَلَتْ مِنْهُ الْقُلُوبُ عَلَى قَدْرِ يَقِينِهَا وَشَكِّهَا، فَأَمَّا الشَّكُّ فَلَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْعَمَلُ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فَيَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَهْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَهُوَ الشَّكُّ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْيَقِينُ، وَكَمَا يُجْعَلُ الْحُلِيُّ فِي النَّارِ فَيُؤْخَذُ خَالِصُهُ وَيُتْرَكُ خَبَثُهُ، فَكَذَلِكَ يَقْبَلُ اللَّهُ الْيَقِينَ وَيَتْرُكُ الشَّكَّ. وَأَخْرُجُ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قَالَ: الصَّغِيرُ قدر صغره، والكبير قدر كبره. [سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 25] أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَعْلَمُ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَتَوَهَّمُ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ مَنْ يعلم أنما أنزل اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَبَيْنَ مَنْ هُوَ أَعْمَى لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَالَ

بَيْنَهُمَا مُتَبَاعِدٌ جِدًّا كَالتَّبَاعُدِ الَّذِي بَيْنَ الْمَاءِ وَالزَّبَدِ، وَبَيْنَ الْخَبَثِ وَالْخَالِصِ مِنْ تِلْكَ الْأَجْسَامِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَقِفُ عَلَى تَفَاوُتِ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَتَبَايُنِ الرُّتْبَتَيْنِ أَهْلُ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ، فقال: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْمَادِحَةِ، فَقَالَ: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَيْ بِمَا عَقَدُوهُ مِنَ الْعُهُودِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، أَوْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ الَّذِي وَثَّقُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَكَّدُوهُ بِالْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْمِيثَاقِ كُلُّ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ كَالنُّذُورِ وَنَحْوِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَيَكُونُ مِنَ التَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ عَلَى أَنْ يُرَادَ بِالْعَهْدِ جَمِيعُ عُهُودِ اللَّهِ، وَهِيَ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ الَّتِي وَصَّى بِهَا عَبِيدَهُ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي يُلْزِمُ بِهَا الْعَبْدُ نَفْسَهُ، وَيُرَادُ بِالْمِيثَاقِ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ «1» الْآيَةَ. وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ظَاهِرُهُ شُمُولُ كُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِصِلَتِهِ، وَنَهَى عَنْ قَطْعِهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ صِلَةُ الْأَرْحَامِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَقَدْ قَصَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ، وَاللَّفْظُ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ خَشْيَةً تَحْمِلُهُمْ عَلَى فِعْلِ مَا وَجَبَ، وَاجْتِنَابِ مَا لَا يَحِلُّ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ وَهُوَ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ وَالْمُنَاقَشَةُ لِلْعَبْدِ، فَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ، وَمِنْ حَقِّ هَذِهِ الْخِيفَةِ أَنْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبُوا وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ قِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُضِيِّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي تَحَقُّقُهُ، وَالْمُرَادُ بِالصَّبْرِ الصَّبْرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ وَقِيلَ: عَلَى الرَّزَايَا وَالْمَصَائِبِ، وَمَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ الصَّبْرِ لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لَهُ، لَا شَائِبَةَ فِيهِ لِغَيْرِهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ أَيْ فَعَلُوهَا فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي أَذْكَارِهَا وَأَرْكَانِهَا مَعَ الْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقِيلَ: أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ أَيْ أَنْفَقُوا بَعْضَ مَا رَزَقْنَاهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالسِّرِّ: صَدَقَةُ النَّفْلِ، وَالْعَلَانِيَةِ: صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَقِيلَ: السِّرُّ لِمَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْمَالِ، أَوْ لَا يُتَّهَمُ بِتَرْكِ الزَّكَاةِ، وَالْعَلَانِيَةُ لِمَنْ كَانَ يُعْرَفُ بِالْمَالِ أَوْ يتهم بترك الزكاة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أَيْ يَدْفَعُونَ سَيِّئَةَ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «2» ، أَوْ يَدْفَعُونَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الْعَمَلَ السَّيِّئَ، أَوْ يَدْفَعُونَ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ، أَوِ الْمُنْكَرَ بِالْمَعْرُوفِ، أَوِ الظُّلْمَ بِالْعَفْوِ، أَوِ الذَّنْبَ بِالتَّوْبَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِالصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ الْعُقْبَى مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالْمُرَادُ بِالدَّارِ الدُّنْيَا، وَعُقْبَاهَا الْجَنَّةُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدَّارِ: الدَّارُ الْآخِرَةِ، وَعُقْبَاهَا الْجَنَّةُ لِلْمُطِيعِينَ، وَالنَّارُ لِلْعُصَاةِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها بَدَلٌ مِنْ عُقْبَى الدَّارِ، أَيْ: لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرُهُ يَدْخُلُونَهَا، وَالْعَدْنُ أَصْلُهُ الْإِقَامَةُ، ثُمَّ صَارَ عَلَمًا لِجَنَّةٍ مِنَ الْجِنَانِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وجنات عَدْنٍ: وَسَطُ الْجَنَّةِ وَقَصَبَتُهَا، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَلَكِنْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الجنة» .

_ (1) . الأعراف: 172. (2) . فصلت: 34.

وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ يَشْمَلُ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي يَدْخُلُونَ، وَجَازَ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَيْ: وَيَدْخُلُهَا أَزْوَاجُهُمْ وَذُرِّيَّاتُهُمْ، وَذِكْرُ الصَّلَاحِ دَلِيلٌ على أن لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ كَذَلِكَ مِنْ قَرَابَاتِ أُولَئِكَ، وَلَا يَنْفَعُ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مِنَ الْآبَاءِ أَوِ الْأَزْوَاجِ أَوِ الذَّرِّيَّةِ بِدُونِ صَلَاحٍ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ أَيْ مِنْ جَمِيعِ أَبْوَابِ الْمَنَازِلِ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ التُّحَفِ وَالْهَدَايَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أَيْ قَائِلِينَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، أَيْ: سَلِمْتُمْ مِنَ الْآفَاتِ أَوْ دَامَتْ لَكُمُ السَّلَامَةُ بِما صَبَرْتُمْ أَيْ بِسَبَبِ صَبْرِكُمْ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّلَامِ، أَيْ: إِنَّمَا حَصَلَتْ لَكُمْ هَذِهِ السَّلَامَةُ بِوَاسِطَةِ صَبْرِكُمْ أو متعلق بعليكم. أَوْ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ الْكَرَامَةُ بِسَبَبِ صَبْرِكُمْ أَوْ بَدَلُ مَا احْتَمَلْتُمْ مِنْ مَشَاقِّ الصَّبْرِ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ جَاءَ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَدْحِ مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ عُقْبَى الدَّارِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّشْوِيقِ، ثُمَّ اتْبَعَ أَحْوَالَ السُّعَدَاءِ بِأَحْوَالِ الْأَشْقِيَاءِ، فَقَالَ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ عَدَمِ النَّقْضِ وَعَدَمِ الْقَطْعِ فَعُرِفَ مِنْهُمَا تَفْسِيرُ النَّقْضِ وَالْقَطْعِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ عَنْهُمْ وَمَا بَعَدَهُمَا مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِدُخُولِهَا فِي النَّقْضِ وَالْقَطْعِ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْكُفْرِ وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْإِضْرَارِ بِالْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ أُولئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ لَهُمُ بِسَبَبِ ذَلِكَ اللَّعْنَةُ أَيِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أَيْ سُوءُ عَاقِبَةِ دَارِ الدُّنْيَا، وَهِيَ النَّارُ أَوْ عَذَابُ النَّارِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ انْتَفَعُوا بِمَا سَمِعُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَعَقَلُوهُ وَوَعَوْهُ كَمَنْ هُوَ أَعْمى قَالَ: عَنِ الْحَقِّ فَلَا يُبْصِرُهُ وَلَا يَعْقِلُهُ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ فَبَيَّنَ مَنْ هُمْ، فَقَالَ: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير أُولُوا الْأَلْبابِ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ لُبٌّ أَيْ عَقْلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فِي بِضْعٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْبِرَّ وَالصِّلَةَ لَيُخَفِّفَانِ سُوءَ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ يَعْنِي مِنْ إِيمَانٍ بِالنَّبِيِّينَ وَبِالْكُتُبِ كُلِّهَا وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ يَعْنِي يَخَافُونَ مِنْ قَطِيعَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ يَعْنِي شِدَّةَ الْحِسَابِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ وَتَحْرِيمِ قَطْعِهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عن الضحّاك وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قَالَ يَدْفَعُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: جَنَّاتُ عَدْنٍ قَالَ: بُطْنَانُ الْجَنَّةِ، يَعْنِي وَسَطَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِكَعْبٍ: مَا عَدْنٌ؟

[سورة الرعد (13) : الآيات 26 إلى 30]

قَالَ: هُوَ قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أَوْ حَكَمٌ عَدْلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَنَّةُ عَدْنٍ قَضِيبٌ غَرَسَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ قَالَ: مَنْ آمَنَ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ فِي قَوْلِهِ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ قَالَ: عَلَى دِينِكُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ قَالَ: نِعْمَ مَا أَعْقَبَكُمُ اللَّهُ مِنَ الدُّنْيَا فِي الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ تُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ، وَتُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ: ائْتُوهُمْ فَحَيُّوهُمْ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا نَحْنُ سُكَّانُ سَمَائِكَ وَخِيرَتُكَ مِنْ خَلْقِكَ، أَفَتَأْمُرُنَا أَنْ نَأْتِيَ هَؤُلَاءِ فَنُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ اللَّهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ عِبَادِي كَانُوا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، وَتُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ، وَتُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً، فَتَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَكُونُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَةٍ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَعِنْدَهُ سِمَاطَانِ مِنْ خَدَمٍ، وَعِنْدَ طَرَفِ السِّمَاطَيْنِ بَابٌ مُبَوَّبٌ، فَيُقْبِلُ الْمَلَكُ فَيَسْتَأْذِنُ، فَيَقُولُ أَقْصَى الْخَدَمِ لِلَّذِي يَلِيهِ: مَلَكٌ يَسْتَأْذِنُ، وَيَقُولُ الَّذِي يَلِيهِ: مَلَكٌ يَسْتَأْذِنُ، حَتَّى يَبْلُغَ الْمُؤْمِنَ، فَيَقُولُ: ائْذَنُوا لَهُ، فَيَقُولُ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمُؤْمِنِ: ائْذَنُوا لَهُ، وَيَقُولُ الَّذِي يَلِيهِ لِلَّذِي يَلِيهِ ائْذَنُوا لَهُ، حَتَّى يَبْلُغَ أَقْصَاهُمُ الَّذِي عِنْدَ الْبَابِ، فَيَفْتَحُ لَهُ فَيَدْخُلُ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ قَالَ: سوء العاقبة. [سورة الرعد (13) : الآيات 26 الى 30] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَاقِبَةَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ نَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ قَدْ وَفَّرَ اللَّهُ لَهُ الرِّزْقَ وَبَسَطَ لَهُ فِيهِ، فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ فَقَدْ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ كَانَ كَافِرًا، وَيُقَتِّرُهُ عَلَى مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا، وَلَا يَدُلُّ الْبَسْطُ عَلَى الْكَرَامَةِ وَلَا الْقَبْضُ عَلَى الْإِهَانَةِ، وَمَعْنَى يَقْدِرُ: يُضَيِّقُ، وَمِنْهُ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «1» أي ضيق وقيل: معنى

_ (1) . الطلاق: 7. [.....]

يَقْدِرُ: يُعْطِي بِقَدَرِ الْكِفَايَةِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي مشركوا مَكَّةَ فَرِحُوا بِالدُّنْيَا وَجَهِلُوا مَا عِنْدَ اللَّهِ، قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ وَفَرِحُوا مَعْطُوفًا عَلَى يُفْسِدُونَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ أَيْ: مَا هِيَ إِلَّا شَيْءٌ يُسْتَمْتَعُ بِهِ، وَقِيلَ: الْمَتَاعُ وَاحِدُ الْأَمْتِعَةِ كَالْقَصْعَةِ وَالسُّكُرُّجَةِ وَنَحْوِهِمَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: شَيْءٌ قَلِيلٌ ذَاهِبٌ، مِنْ مَتَعَ النَّهَارُ: إِذَا ارْتَفَعَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَوَالٍ وَقِيلَ: زَادٌ كَزَادِ الرَّاكِبِ يَتَزَوَّدُ بِهِ مِنْهَا إِلَى الْآخِرَةِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: يَقُولُ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَلَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا قَرِيبًا، وَتَكَرَّرَ فِي مَوَاضِعَ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا، وَهُوَ أَنَّ الضَّلَالَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، مَنْ شَاءَ أَنْ يُضِلَّهُ ضَلَّ كَمَا ضَلَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أَيْ وَيَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، أَوْ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ إِلَى جَنَابِهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ أَنابَ أَيْ: مَنْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَصْلُ الْإِنَابَةِ الدُّخُولُ فِي نَوْبَةِ الْخَيْرِ، كَذَا قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ، وَمَحَلُّ الَّذِينَ آمَنُوا النَّصْبُ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ أَنابَ» أَيْ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأَنَابُوا إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ آمَنُوا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَيْ تَسْكُنُ وَتَسْتَأْنِسُ بِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّوْحِيدِ، أَوْ بِسَمَاعِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ سَمَّى سُبْحَانَهُ الْقُرْآنَ ذِكْرًا قَالَ: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ «1» ، وقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ «2» قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ آمَنُوا بِهِ غَيْرَ شَاكِّينَ بِخِلَافِ مَنْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ «3» وَقِيلَ: تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الطَّاعَةُ، وَقِيلَ: بِوَعْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ: بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ، فَإِذَا حَلَفَ خَصْمُهُ بِاللَّهِ سَكَنَ قَلْبُهُ، وَقِيلَ: بِذِكْرِ رَحْمَتِهِ، وَقِيلَ: بِذِكْرِ دَلَائِلِهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وَالنَّظَرُ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَدَائِعِ صُنْعِهِ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ طُمَأْنِينَةً فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ لَيْسَتْ كَهَذِهِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ فِي الْمُعْجِزَاتِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُطِيقُهَا الْبَشَرُ، فَلَيْسَ إِفَادَتُهَا لِلطُّمَأْنِينَةِ كَإِفَادَةِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَهَذَا وَجْهُ مَا يُفِيدُهُ هَذَا التَّرْكِيبُ مِنَ الْقَصْرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ الْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الدُّعَائِيَّةُ، وَهِيَ طُوبَى لَهُمْ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمَشْهُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ على المدح، وطوبى لَهُمْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ بَدَلًا مِنَ الْقُلُوبِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ قُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ وَأَهْلُ اللُّغَةِ: طُوبَى فُعْلَى مِنَ الطِّيبِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَتَأْوِيلُهَا الْحَالُ الْمُسْتَطَابَةُ، وَقِيلَ: طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: هِيَ الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: هِيَ الْبُسْتَانُ بِلُغَةِ الْهِنْدِ، وَقِيلَ: مَعْنَى طُوبَى لَهُمْ: حُسْنَى لَهُمْ، وَقِيلَ: خَيْرٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: كَرَامَةٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: غِبْطَةٌ لَهُمْ. قَالَ النحّاس: وهذه الأقوال

_ (1) . الأنبياء: 50. (2) . الحجر: 9. (3) . الزمر: 45.

مُتَقَارِبَةٌ، وَالْأَصْلُ طُيْبَى فَصَارَتِ الْيَاءُ وَاوًا لِسُكُونِهَا وَضَمِّ مَا قَبْلِهَا، وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلْبَيَانِ مِثْلُ سَقْيًا لَكَ وَرَعْيًا لَكَ. وَقُرِئَ «حُسْنُ مَآبٍ» بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، مِنْ آبَ إِذَا رَجَعَ، أَيْ: وَحُسْنُ مَرْجِعٍ، وَهُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقِيلَ شُبِّهَ الْإِنْعَامُ عَلَى مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْإِنْعَامِ عَلَى مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ، وَمَعْنَى فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ فِي قَرْنٍ قَدْ مَضَتْ مِنْ قَبْلِهِ قُرُونٌ، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ قد مضت من قبلها جماعات لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَيْ لِتَقْرَأَ عَلَيْهِمُ القرآن، وَالحال أن هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ أَيْ: بِالْكَثِيرِ الرَّحْمَةِ لِعِبَادِهِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ إِرْسَالُ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» وَجُمْلَةُ قُلْ هُوَ رَبِّي مُسْتَأْنَفَةٌ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ؟ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ هُوَ رَبِّي أَيْ خَالِقِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيْ: لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لَهُ وَالْإِيمَانَ بِهِ سِوَاهُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فِي جَمِيعِ أُمُورِي وَإِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ مَتابِ أَيْ: تَوْبَتِي، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْكُفَّارِ، وَحَثٌّ لَهُمْ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، وَالتَّوْبَةِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ قَالَ: كَزَادِ الرَّاعِي يُزَوِّدُهُ أَهْلُهُ الْكَفَّ مِنَ التَّمْرِ أَوِ الشَّيْءَ مِنَ الدَّقِيقِ أَوِ الشَّيْءَ يَشْرَبُ عَلَيْهِ اللَّبَنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ فِي إِبِلِهِ، أَوْ غَنَمِهِ، فَيَقُولُ لِأَهْلِهِ: مَتِّعُونِي، فَيُمَتِّعُونَهُ فِلْقَةَ الْخُبْزِ أَوِ التَّمْرِ، فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ؟ فَقَالَ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَثَلِ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ قَالَ: هَشَّتْ إِلَيْهِ وَاسْتَأْنَسَتْ بِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِذَا حَلَفَ لَهُمْ بِاللَّهِ صَدَّقُوا أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ قَالَ: تَسْكُنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ هَلْ تَدْرُونَ مَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَحَبَّ أَصْحَابِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ قَالَ: ذَاكَ مَنْ أَحَبَّ الله

_ (1) . الأنبياء: 107.

[سورة الرعد (13) : الآيات 31 إلى 35]

وَرَسُولَهُ، وَأَحَبَّ أَهْلَ بَيْتِي صَادِقًا غَيْرَ كَاذِبٍ، وَأَحَبَّ الْمُؤْمِنِينَ شَاهِدًا وَغَائِبًا، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ يَتَحَابُّونَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: طُوبى لَهُمْ قَالَ: فَرَحٌ وَقُرَّةُ عَيْنٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: طُوبى لَهُمْ قَالَ: نِعْمَ مَا لَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ نَحْوُ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَالْأَرْجَحُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبيهقي عن عتبة ابن عَبْدٍ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ فَاكِهَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ فِيهَا شَجَرَةٌ تُدْعَى طُوبَى» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لِمَنْ رَآكَ وَآمَنَ بِكَ، قَالَ: طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَرَآنِي، ثُمَّ طُوبَى ثُمَّ طُوبَى ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي، فَقَالَ رَجُلٌ: وَمَا طُوبَى؟ قَالَ: شَجَرَةٌ في الجنة مسيرة مِائَةِ عَامٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا» . وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ عَنِ السَّلَفِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مائة سنة، اقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «1» » وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: «إِنَّهَا شَجَرَةُ الْخُلْدِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ وَحُسْنُ مَآبٍ قَالَ: حُسْنُ مُنْقَلَبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَالَحَ قُرَيْشًا كَتَبَ في الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، قالت قُرَيْشٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَلَا نَعْرِفُهُ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَكْتُبُونَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: دَعْنَا نُقَاتِلْهُمْ، فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ اكْتُبُوا كَمَا يُرِيدُونَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِلَيْهِ مَتابِ قَالَ: توبتي. [سورة الرعد (13) : الآيات 31 الى 35] وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35)

_ (1) . الواقعة: 30.

قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ قِيلَ: هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وَإِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْكُفَّارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَيِّرَ لَهُمْ جِبَالَ مَكَّةَ حَتَّى تَنْفَسِحَ فَإِنَّهَا أَرْضٌ ضَيِّقَةٌ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْجَوَابِ الْمُتَضَمِّنِ لِتَعْظِيمِ شأن القرآن وفساد رأس الْكُفَّارِ حَيْثُ لَمْ يَقْنَعُوا بِهِ وَأَصَرُّوا عَلَى تَعَنُّتِهِمْ وَطَلَبِهِمْ مَا لَوْ فَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَبْقَ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ مِنْ عَدَمِ إِنْزَالِ الْآيَاتِ الَّتِي يُؤْمِنُ عِنْدَهَا جَمِيعُ الْعِبَادِ. وَمَعْنَى سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ، أَيْ: بِإِنْزَالِهِ وَقِرَاءَتِهِ فَسَارَتْ عَنْ مَحَلِّ اسْتِقْرَارِهَا أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَيْ صُدِّعَتْ حَتَّى صَارَتْ قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى أَيْ صَارُوا أَحْيَاءً بِقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا يَفْهَمُونَهُ عِنْدَ تَكْلِيمِهِمْ بِهِ كَمَا يَفْهَمُهُ الْأَحْيَاءُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَابِ لَوْ مَاذَا هُوَ؟ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْجَوَابَ لَكَفَرُوا بِالرَّحْمَنِ، أَيْ: لَوْ فُعِلَ بِهِمْ هَذَا لَكَفَرُوا بِالرَّحْمَنِ وَقِيلَ: جَوَابُهُ لَمَا آمَنُوا كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1» وَقِيلَ: الْجَوَابُ مُتَقَدِّمٌ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ لَوْ أَنَّ قُرْآنًا إِلَى آخِرِهِ، وَكَثِيرًا مَا تَحْذِفُ الْعَرَبُ جَوَابَ لَوْ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً ... وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تُسَاقِطُ أَنْفُسًا أَيْ لَهَانَ عَلَيَّ ذَلِكَ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَيْ: لَوْ أَنَّ قُرْآنًا فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ، وَلَكِنْ لَمْ يُفْعَلْ بَلْ فُعِلَ مَا عَلَيْهِ الشَّأْنُ الْآنَ، فَلَوْ شَاءَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَآمَنُوا وَإِذَا لَمْ يَشَأْ أَنْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَنْفَعْ تَسْيِيرُ الْجِبَالِ وَسَائِرُ مَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْآيَاتِ، فَالْإِضْرَابُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ كَوْنُ الْأَمْرِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَيَسْتَلْزِمُهُ مِنْ تَوَقُّفِ الْأَمْرِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً قَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ أَفَلَمْ يَيْأَسْ بِمَعْنَى أَفَلَمْ يَعْلَمْ، وَهِيَ لُغَةُ النَّخْعِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَقِيلَ: هِيَ لُغَةُ هَوَازِنَ، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفَلَمْ يَعْلَمُوا وَيَتَبَيَّنُوا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الْيَائِسَ مِنَ الشَّيْءِ عَالِمٌ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ، نَظِيرُهُ اسْتِعْمَالُ الرَّجَاءِ فِي مَعْنَى الْخَوْفِ، وَالنِّسْيَانُ فِي التَّرْكِ لِتَضَمُّنِهُمَا إِيَّاهُمَا، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ: أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ رَبَاحِ بْنِ عَدِيٍ: أَلَمْ يَيْأَسِ الْأَقْوَامُ أَنِّي أَنَا ابْنُهُ ... وَإِنْ كُنْتُ عَنْ أَرْضِ الْعَشِيرَةِ نَائِيًا أَيْ: أَلَمْ يَعْلَمْ، وَأَنْشَدَ فِي هَذَا أَبُو عُبَيْدَةَ قَوْلَ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّضْرِيِّ: أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَأْسِرُونَنِي «2» ... أَلَمْ تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم

_ (1) . الأنعام: 111. (2) . في تفسير القرطبي (9/ 320) : ييسرونني، من الميسر. وفي لسان العرب أن قائل البيت هو سحيم بن وثيل اليربوعي.

أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمُوا، فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: أَفَلَمْ يَعْلَمِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَاهِدُوا الْآيَاتِ وَقِيلَ: إِنَّ الْإِيَاسَ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ هِدَايَتَهُمْ لَهَدَاهُمْ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَمَنَّوْا نُزُولَ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا الْكُفَّارُ طَمَعًا فِي إِيمَانِهِمْ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ هَذَا وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ لِكُفَّارِ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ، أَيْ: لَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِسَبَبِ مَا صَنَعُوا مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ لِلرُّسُلِ قَارِعَةٌ، أَيْ: دَاهِيَةٌ تَفْجَؤُهُمْ، يُقَالُ: قَرَعَهُ الْأَمْرُ إِذَا أَصَابَهُ، وَالْجَمْعُ قَوَارِعُ، وَالْأَصْلُ فِي الْقَرْعِ الضَّرْبُ. قَالَ الشَّاعِرُ «1» : أَفْنَى تِلَادِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ القواقيز أَفْوَاهَ الْأَبَارِيقِ «2» وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى تُصِيبَهُمْ دَاهِيَةٌ مُهْلِكَةٌ مِنْ قَتْلٍ أَوْ أَسْرٍ أَوْ جَدْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقَارِعَةَ: النَّكْبَةُ، وَقِيلَ: الطَّلَائِعُ وَالسَّرَايَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَارِعَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ تَحُلُّ أَيِ: الْقَارِعَةُ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فَيَفْزَعُونَ مِنْهَا وَيُشَاهِدُونَ مِنْ آثَارِهَا مَا تَرْجُفُ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَتُرْعَدُ مِنْهُ بِوَادِرُهُمْ «3» ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي تَحُلُّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى: أَوْ تَحِلُّ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ مُحَاصِرًا لَهُمْ آخِذًا بِمَخَانِقِهِمْ كَمَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الطَّائِفِ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وَهُوَ مَوْتُهُمْ، أَوْ قِيَامُ السَّاعَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ إِذَا جَاءَ وَعْدُ اللَّهِ الْمَحْتُومُ حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِهِ مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي الشِّدَّةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِوَعْدِ اللَّهِ هُنَا الْإِذْنُ مِنْهُ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ فَمَا جَرَى بِهِ وَعْدُهُ فَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا التَّنْكِيرُ فِي رُسُلٍ للتكثير، أي: يرسل كَثِيرَةٍ، وَالْإِمْلَاءُ: الْإِمْهَالُ، وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ فِي الْأَعْرَافِ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بِالْعَذَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ بِهِمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّهْدِيدِ، أَيْ: فكيف كان عقابي لهؤلاء الكفار الذي استهزءوا بالرسل، فأمليت لهم ثم أخذتم، ثم استفهم سبحانه استفهاما آخر للتوبيخ والتقريب يَجْرِي مَجْرَى الْحِجَاجِ لِلْكُفَّارِ وَاسْتِرْكَاكِ صُنْعِهِمْ وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ الْقَائِمُ الْحَفِيظُ وَالْمُتَوَلِّي لِلْأُمُورِ، وَأَرَادَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِ خَلْقِهِ الْمُدَبِّرُ لِأَحْوَالِهِمْ بِالْآجَالِ وَالْأَرْزَاقِ، وَإِحْصَاءِ الْأَعْمَالِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْأَنْفُسِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَفَمَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَمَنْ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ مَعْبُودَاتِكُمُ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ كَشُرَكَائِهِمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ إِنْكَارُ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ: المراد بمن هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِبَنِي آدَمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَجُمْلَةُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ مُبَيِّنَةٌ لَهُ أَوْ حَالِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ، أَيْ: وَقَدْ جَعَلُوا، أو معطوفة على وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ

_ (1) . هو الأقيشر الأسدي. (2) . «نشب» : هو الضياع والبساتين. «القواقيز» : جمع قاقوزة، وهي أوان يشرب بها الخمر. (3) . بوادرهم: بادرة السيف: شباته أي: طرفه وحدّه.

أَيِ اسْتَهْزَءُوا وَجَعَلُوا قُلْ سَمُّوهُمْ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ جَعَلْتُمْ لَهُ شُرَكَاءَ فَسَمُّوهُمْ مَنْ هُمْ؟ وَفِي هَذَا تَبْكِيتٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ هَكَذَا فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحْقَرِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَيُقَالُ: سَمِّهِ إِنْ شِئْتَ، يَعْنِي أَنَّهُ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُسَمَّى وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى سَمُّوهُمْ بِالْآلِهَةِ كَمَا تَزْعُمُونَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَهْدِيدًا لَهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ أَيْ: بَلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مَعَ كونه العالم بما في السموات وَالْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ: بَلْ أَتُسَمُّونَهُمْ شُرَكَاءَ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِبَاطِنٍ لَا يَعْلَمُهُ أَمْ بِظَاهِرٍ يَعْلَمُهُ؟ فَإِنْ قَالُوا بِبَاطِنٍ لَا يَعْلَمُهُ فَقَدْ جَاءُوا بِدَعْوَى بَاطِلَةٍ، وَإِنْ قَالُوا بِظَاهِرٍ يَعْلَمُهُ فَقُلْ لَهُمْ سَمُّوهُمْ، فَإِذَا سَمَّوُا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَنَحْوَهُمَا، فَقُلْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ لِنَفْسِهِ شَرِيكًا، وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَرْضَ بِنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي غَيْرِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا لَهُ شَرِيكًا فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ: مَعْنَى: أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أَمْ بِزَائِلٍ مِنَ الْقَوْلِ بَاطِلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَعَيَّرْتَنَا أَلْبَانَهَا وَلُحُومَهَا ... وَذَلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ رَيْطَةَ ظَاهِرُ أَيْ: زَائِلٌ بَاطِلٌ، وَقِيلَ: بِكَذِبٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَقِيلَ مَعْنَى بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بِحُجَّةٍ مِنَ الْقَوْلِ ظَاهِرَةٍ عَلَى زَعْمِهِمْ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ أَيْ لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ، بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «زَيَّنَ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ عَلَى أَنَّ الَّذِي زَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ هُوَ مَكْرُهُمْ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، أَوِ الشَّيْطَانُ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْمَكْرُ كُفْرًا، لِأَنَّ مَكْرَهُمْ بِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ كُفْرًا، وَأَمَّا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ فَهُوَ الْكَيْدُ، أَوِ التَّمْوِيهُ بِالْأَبَاطِيلِ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ صُدُّوا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ: صَدَّهُمُ اللَّهُ، أَوْ صَدَّهُمُ الشَّيْطَانُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ: صَدُّوا غَيْرَهُمْ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِكَسْرِ الصَّادِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أَيْ يَجْعَلُهُ ضَالًّا وَتَقْتَضِي مَشِيئَتُهُ إِضْلَالَهُ، فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ يَهْدِيهِ إِلَى الْخَيْرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ هادٍ مِنْ دُونِ إِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى اللُّغَةِ الْكَثِيرَةِ الْفَصِيحَةِ. وَقُرِئَ بِإِثْبَاتِهَا عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، فَقَالَ: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بِمَا يُصَابُونَ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ يَقِيهِمْ عَذَابَهُ، وَلَا عَاصِمٍ يَعْصِمُهُمْ مِنْهُ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْأُولَى والآخرة، ذَكَرَ مَا أَعَدَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي صفتها الْعَجِيبَةُ الشَّأْنِ الَّتِي هِيَ فِي الْغَرَابَةِ كَالْمَثَلِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَثَلُ الشَّبَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، ثُمَّ قَدْ يَصِيرُ بِمَعْنَى صُورَةِ الشَّيْءِ وَصِفَتِهِ، يُقَالُ: مَثَّلْتُ لَكَ كَذَا، أَيْ: صَوَّرْتُهُ وَوَصَفْتُهُ، فَأَرَادَ هُنَا بِمَثَلِ الْجَنَّةِ صُورَتَهَا وَصِفَتَهَا، ثُمَّ ذَكَرَهَا، فَقَالَ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِلْمَثَلِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَتَقْدِيرُهُ فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مَثَلُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ: إِنَّ مَثَلُ الْجَنَّةِ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ تَجْرِي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ تَمْثِيلٌ لِلْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ، وَمَعْنَاهُ مَثَلُ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَقِيلَ إِنَّ فَائِدَةَ الْخَبَرِ تَرْجِعُ إِلَى أُكُلُها دائِمٌ أَيْ لَا يَنْقَطِعُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لَا مَقْطُوعَةٍ

وَلا مَمْنُوعَةٍ «1» وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَثَلُ مُقْحَمٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى: الْجَنَّةُ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، والعرب تفعل ذلك كثيرا وَظِلُّها أَيْ: كَذَلِكَ دَائِمٌ لَا يَتَقَلَّصُ وَلَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إِلَى الْجَنَّةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيْ: عَاقِبَةُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الْمَعَاصِيَ، وَمُنْتَهَى أَمْرِهِمْ وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ لَيْسَ لَهُمْ عَاقِبَةٌ وَلَا مُنْتَهًى إِلَّا ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالُوا للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: إِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ فَأَرِنَا أَشْيَاخَنَا الْأُوَلَ مِنَ الْمَوْتَى نُكَلِّمُهُمْ، وَافْسَحْ لَنَا هَذِهِ الْجِبَالَ جِبَالَ مَكَّةَ الَّتِي قَدْ ضَمَّتْنَا، فَنَزَلَتْ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ: قَالُوا لِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: لَوْ سَيَّرْتَ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ حَتَّى تَتَّسِعَ فَنَحْرُثَ فِيهَا، أَوْ قَطَّعْتَ لَنَا الْأَرْضَ كَمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يُقَطِّعُ لِقَوْمِهِ بِالرِّيحِ، أَوْ أَحْيَيْتَ لَنَا الْمَوْتَى كَمَا كَانَ يُحْيِي عِيسَى الْمَوْتَى لِقَوْمِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ: أَفَلَمْ يَتَبَيَّنِ الَّذِينَ آمَنُوا، قَالُوا هَلْ تَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: حدّثنا أبو زرعة حدّثنا منجاب بن الحرث، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ مُخْتَصَرًا. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فِي ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مُطَوَّلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً لَا يَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا يَشَاءُ وَلَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَفَلَمْ يَيْأَسِ يَقُولُ: يَعْلَمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَفَلَمْ يَيْأَسِ قَالَ: قَدْ يَئِسَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَهْدُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ قَالَ: السَّرَايَا. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْهُ نَحْوَهُ، وَزَادَ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ قَالَ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ، قَالَ: فَتْحُ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قارِعَةٌ قَالَ: نَكْبَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ قَارِعَةٌ قَالَ: عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ: يَعْنِي نُزُولَ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِهِمْ وَقِتَالَهُ آبَاءَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ نَفْسَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ قَالَ: الظَّاهِرُ مِنَ الْقَوْلِ هُوَ الْبَاطِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ

_ (1) . الواقعة: 33.

[سورة الرعد (13) : الآيات 36 إلى 39]

قَالَ: نَعْتُ الْجَنَّةِ، لَيْسَ لِلْجَنَّةِ مَثَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ فِي قَوْلِهِ: أُكُلُها دائِمٌ قَالَ: لَذَّاتُهَا دائمة في أفواههم. [سورة الرعد (13) : الآيات 36 الى 39] وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ، فَقِيلَ: هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَالَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: الَّذِينَ يَفْرَحُونَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمَا فِي كُتُبِهِمْ مُصَدِّقًا لَهُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ يُمَاثِلُهُمْ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْبَعْضَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، أَيْ: مِنْ أَحْزَابِهِمَا، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ نَاسِخًا لِشَرَائِعِهِمْ فَيَتَوَجَّهُ فَرَحُ مَنْ فَرِحَ بِهِ مِنْهُمْ إِلَى مَا هُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْكِتَابَيْنِ، وَإِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ إِلَى مَا خَالَفَهُمَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَالْمُرَادُ بِمَنْ يَفْرَحُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُرَادُ بِالْأَحْزَابِ الْمُتَحَزِّبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الذي أنكروه ما خَالَفَ مَا يَعْتَقِدُونَهُ عَلَى اخْتِلَافِ اعْتِقَادِهِمْ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ فَرَحَ الْمُسْلِمِينَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ معلوم فلا فائدة من ذِكْرِهِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ زِيَادَةُ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ سَاءَهُمْ قِلَّةُ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ فِي الْقُرْآنِ مَعَ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ فِي التَّوْرَاةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «1» فَفَرِحُوا بِذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ مَا يَحْصُلُ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ مِنَ الْفَرَحِ لِلْبَعْضِ وَالْإِنْكَارِ لِلْبَعْضِ صَرَّحَ بِمَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَقَالَ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ أَيْ لَا أُشْرِكُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ وَرَدًّا لِلْإِنْكَارِ إِنَّمَا أُمِرْتُ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيَّ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ وَتَطَابَقَتْ عَلَى عَدَمِ إِنْكَارِهِ جَمِيعُ الْمِلَلِ الْمُقْتَدِيَةِ بِالرُّسُلِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى نَصْبِ وَلا أُشْرِكَ بِهِ عَطْفًا عَلَى أَعْبُدَ وَقَرَأَ أَبُو خُلَيْدٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وروى هذه القراءة عن نافع إِلَيْهِ أَدْعُوا أَيْ: إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ أَوْ إِلَى مَا أُمِرْتُ بِهِ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ مَآبِ فَإِنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَيْ: إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ مَرْجِعِي. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَأَوْعَدَ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ اتِّبَاعِهِ مَعَ التَّعَرُّضِ لِرَدِّ مَا أَنْكَرُوهُ مِنِ اشْتِمَالِهِ عَلَى نَسْخِ بَعْضِ شَرَائِعِهِمْ فَقَالَ: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا

_ (1) . الإسراء: 110.

أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِنْزَالِ الْبَدِيعِ أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ مُشْتَمِلًا عَلَى أُصُولِ الشَّرَائِعِ وَفُرُوعِهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَكَمَا أَنْزَلْنَا الْكُتُبَ عَلَى الرُّسُلِ بِلُغَاتِهِمْ كَذَلِكَ أنزلنا عليك القرآن بلسان العرب، ويريد بِالْحُكْمِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ أَوْ حِكْمَةٌ عَرَبِيَّةٌ مُتَرْجَمَةٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَانْتِصَابُ حُكْمًا عَلَى الْحَالِ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ الَّتِي يَطْلُبُونَ مِنْكَ مُوَافَقَتَهُمْ عَلَيْهَا كَالِاسْتِمْرَارِ مِنْكَ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى قبلتهم وعدم مخالفتك لشيء ممّا يعتقدونه بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي عَلَّمَكَ اللَّهُ إِيَّاهُ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ أَيْ: مِنْ جَنَابِهِ مِنْ وَلِيٍّ يَلِي أَمْرَكَ وَيَنْصُرُكَ وَلا واقٍ يَقِيكَ مِنْ عَذَابِهِ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضٌ لِأُمَّتِهِ، وَاللَّامُ فِي وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ هي الموطئة للقسم، وما لَكَ سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَالشَّرْطِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً أَيْ: إِنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ أَرْسَلْنَاهُمْ قَبْلَكَ هُمْ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ لَهُمْ أَزْوَاجٌ مِنَ النِّسَاءِ وَلَهُمْ ذُرِّيَّةٌ تَوَالَدُوا مِنْهُمْ وَمِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَلَمْ نُرْسِلِ الرُّسُلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَا يَتَزَوَّجُونَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوُّجَهُ بِالنِّسَاءِ أَيْ: أَنَّ هَذَا شَأْنُ رُسُلِ اللَّهِ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَ هَذَا الرَّسُولِ فَمَا بَالُكُمْ تُنْكِرُونَ عَلَيْهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لِرَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا اقْتَرَحَهُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْكُفَّارِ حَيْثُ اقْتَرَحُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ مَا اقْتَرَحُوا بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ أَيْ: لِكُلِّ أَمْرٍ مِمَّا قَضَاهُ اللَّهُ، أَوْ لِكُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي قَضَى اللَّهُ بِوُقُوعِ أَمْرٍ فِيهَا كِتَابٌ عِنْدَ اللَّهِ يَكْتُبُهُ عَلَى عِبَادِهِ وَيَحْكُمُ بِهِ فِيهِمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَالْمَعْنَى: لِكُلِّ كِتَابٍ أَجَلٌ، أَيْ: لِكُلِّ أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ أَجْلٌ مُؤَجَّلٌ وَوَقْتٌ مَعْلُومٌ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ «1» ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى حَسَبِ إِرَادَةِ الْكُفَّارِ وَاقْتِرَاحَاتِهِمْ، بَلْ عَلَى حَسَبِ مَا يَشَاؤُهُ وَيَخْتَارُهُ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ أَيْ: يَمْحُو مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِنْهُ، يُقَالُ: مَحَوْتُ الْكِتَابَ مَحْوًا إِذَا أَذْهَبْتَ أَثَرَهُ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ «وَيُثَبِّتَ» بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ الْعُمُومُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا فِي الْكِتَابِ فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ مَحْوَهُ مِنْ شَقَاوَةٍ أَوْ سَعَادَةٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ عُمُرٍ أَوْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَيُبْدِلُ هَذَا بِهَذَا، وَيَجْعَلُ هَذَا مَكَانَ هذا ولا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «2» ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو وَائِلٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ. وَقِيلَ: الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَقِيلَ: يَمْحُو مَا يَشَاءُ مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَيُثْبِتُ مَا فِيهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَقِيلَ: يَمْحُو مَا يَشَاءُ مِنَ الرِّزْقِ، وَقِيلَ: يَمْحُو مِنَ الْأَجَلِ وَقِيلَ: يَمْحُو مَا يَشَاءُ مِنَ الشَّرَائِعِ فَيَنْسَخُهُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يَنْسَخُهُ وَقِيلَ: يَمْحُو مَا يَشَاءُ مِنْ ذُنُوبِ عِبَادِهِ وَيَتْرُكُ مَا يَشَاءُ وَقِيلَ: يَمْحُو مَا يَشَاءُ مِنَ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ وَيَتْرُكُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ وَقِيلَ: يَمْحُو الْآبَاءَ وَيُثْبِتُ الْأَبْنَاءُ وَقِيلَ: يَمْحُو الْقَمَرَ وَيُثْبِتُ الشَّمْسَ كَقَوْلِهِ: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً «3» وَقِيلَ: يَمْحُو مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي يَقْبِضُهَا حَالَ النَّوْمِ فَيُمِيتُ صَاحِبَهُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَيَرُدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَقِيلَ: يَمْحُو مَا يشاء

_ (1) . الأنعام: 67. (2) . الأنبياء: 23. [.....] (3) . الإسراء: 12.

مِنَ الْقُرُونِ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا وَقِيلَ: يَمْحُو الدُّنْيَا وَيُثْبِتُ الْآخِرَةَ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى كَمَا تُفِيدُهُ مَا فِي قَوْلِهِ مَا يَشاءُ مِنَ الْعُمُومِ مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ وَمَعَ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أَيْ: أَصْلُهُ، وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ يَمْحُو مَا يَشَاءُ مِمَّا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَيَكُونُ كَالْعَدَمِ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِمَّا فِيهِ فَيَجْرِي فِيهِ قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: «جَفَّ الْقَلَمُ» وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَضَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَقِيلَ: إِنَّ أُمَّ الْكِتَابِ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا خَلَقَ وَمَا هُوَ خَالِقٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ قَالَ: أولئك أصحاب محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَرِحُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَصَدَّقُوا بِهِ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: هَؤُلَاءِ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَفْرَحُونَ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قَالَ: الْأَحْزَابُ الْأُمَمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ مَآبِ قَالَ: إِلَيْهِ مَصِيرُ كُلِّ عَبْدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّبَتُّلِ» . وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ، قَالَتْ: لَا تَفْعَلْ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً. وَقَدْ وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّبَتُّلِ وَالتَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قالت قريش حين أنزل ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ مَا نَرَاكَ يَا مُحَمَّدُ تَمْلِكُ مِنْ شيء، ولقد فرغ من الأمر، فأنزل هَذِهِ الْآيَةُ تَخْوِيفًا لَهُمْ وَوَعِيدًا لَهُمْ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ إِنَّا إِنْ شِئْنَا أَحْدَثْنَا لَهُ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا، وَيُحْدِثُ اللَّهُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مِنْ أَرْزَاقِ النَّاسِ وَمَصَائِبِهِمْ وَمَا يُعْطِيهِمْ وَمَا يَقْسِمُ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ نَصْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ قَالَ: يَنْزِلُ اللَّهُ فِي كُلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُدَبِّرُ أَمْرَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الزَّمَانَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يَعُودُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَمُوتُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَهُوَ الَّذِي يَمْحُو، وَالَّذِي يُثْبِتُ الرَّجُلُ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَقَدْ سَبَقَ لَهُ خَيْرٌ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمَا كِتَابَانِ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أَيْ: جُمْلَةُ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ لَوْحًا مَحْفُوظًا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ لَهُ دَفَّتَانِ مِنْ يَاقُوتٍ،

[سورة الرعد (13) : الآيات 40 إلى 43]

وَالدَّفَّتَانِ لَوْحَانِ: لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ لحظة يمحو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» . وَإِسْنَادُهُ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ: هَكَذَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَهْرِ بْنِ عَسْكَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللَّيْلِ فَيَفْتَحُ الذِّكْرَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى مِنْهَا يَنْظُرُ فِي الذِّكْرِ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَيَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، بِإِسْنَادٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: ضَعِيفٌ، عَنِ ابْنِ عمر سمعت رسول الله يَقُولُ: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالْحَيَاةَ وَالْمَمَاتَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَا يَنْفَعُ الْحَذَرُ مِنَ الْقَدَرِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمْحُو بِالدُّعَاءِ مَا يَشَاءُ مِنَ الْقَدَرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: «الْعَاشِرُ مِنْ رَجَبٍ وَهُوَ يَوْمٌ يَمْحُو اللَّهُ فِيهِ مَا يَشَاءُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ شِقْوَةً أَوْ ذَنْبًا فَامْحُهُ، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ، وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ، فَاجْعَلْهُ سَعَادَةً وَمَغْفِرَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ قَالَ: يُبَدِّلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَنْسَخُهُ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يُبَدِّلُهُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ يَقُولُ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ: النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، مَا يُبَدِّلُ وَمَا يُثْبِتُ، كُلُّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ قَالَ: الذِّكْرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ أُمِّ الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: عَلِمَ اللَّهُ ما هو خالق، وما خلقه عاملون، فقال لعلمه كن كتابا، فكان كتابا. [سورة الرعد (13) : الآيات 40 الى 43] وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ مَا زَائِدَةٌ، وَأَصْلُهُ: وَإِنْ نُرِكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا وَعَدْنَاهُمْ بِذَلِكَ بقولنا: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَبِقَوْلِنَا: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ، وَالْمُرَادُ أَرَيْنَاكَ بَعْضَ مَا نَعِدُهُمْ قَبْلَ مَوْتِكَ، أَوْ تَوَفَّيْنَاكَ قَبْلَ إِرَاءَتِكَ لِذَلِكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أَيْ: فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا تَبْلِيغُ أَحْكَامِ الرِّسَالَةِ، وَلَا يَلْزَمُكَ حُصُولُ الْإِجَابَةِ مِنْهُمْ لِمَا بَلَّغْتَهُ إِلَيْهِمْ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ أَيْ: مُحَاسَبَتُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَمُجَازَاتِهِمْ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْكَ، وَهَذَا تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِخْبَارٌ لَهُ

أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُجِبْ دَعْوَتَهُ، وَيُصَدِّقْ نُبُوَّتَهُ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَاسِبُهُ عَلَى مَا اجْتَرَمَ وَاجْتَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَوَلَمْ يَرَوْا يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ أو لم يَنْظُرُوا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَيْ: نَأْتِي أَرْضَ الْكُفْرِ كَمَكَّةَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا بِالْفُتُوحِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْئًا فَشَيْئًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ بَيَانَ مَا وَعَدَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَهْرِهِمْ قَدْ ظَهَرَ، يَقُولُ: أو لم يَرَوْا أَنَّا فَتَحْنَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَرْضِ مَا قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ، فَكَيْفَ لَا يَعْتَبِرُونَ؟ وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: مَوْتُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَعَلَى هَذَا فَالْأَطْرَافُ الْأَشْرَافُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الطَّرَفُ: الرَّجُلُ الْكَرِيمُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ بِعِيدٌ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْآيَةِ: أَنَّا أَرَيْنَاهُمُ النُّقْصَانَ فِي أَمْرِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِقَابِ عَنْهُمْ لَيْسَ عَنْ عَجْزٍ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَوْتِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: خَرَابُ الْأَرْضِ الْمَعْمُورَةِ حَتَّى يَكُونَ الْعُمْرَانُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ: هَلَاكُ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: نَقْصُ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: جَوْرُ وُلَاتِهَا حَتَّى تَنْقُصَ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ أَيْ: يَحْكُمُ مَا يَشَاءُ فِي خَلْقِهِ، فَيَرْفَعُ هَذَا وَيَضَعُ هَذَا، وَيُحْيِي هَذَا وَيُمِيتُ هَذَا، وَيُغْنِي هَذَا وَيُفْقِرُ هَذَا، وَقَدْ حَكَمَ بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّهِ عَلَى الْأَدْيَانِ، وَجُمْلَةُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: مُعْتَرِضَةٌ. وَالْمُعَقِّبُ: الَّذِي يَكُرُّ عَلَى الشَّيْءِ فَيُبْطِلُهُ، وَحَقِيقَتُهُ الَّذِي يُقَفِّيهِ بِالرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ. قَالَ: وَالْمُعَقِّبُ الَّذِي يَتْبَعُ الشَّيْءَ فَيَسْتَدْرِكُهُ، وَلَا يَسْتَدْرِكُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَتَعَقَّبُ أَحَدٌ حُكْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِنَقْصٍ وَلَا تَغْيِيرٍ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ عَلَى السُّرْعَةِ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً أَيْ: قَدْ مَكَرَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ كَفَّارِ مَكَّةَ بِمَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الرُّسُلِ فَكَادُوهُمْ وَكَفَرُوا بِهِمْ، وَهَذَا تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حَيْثُ أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا دَيْدَنُ الْكُفَّارِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ مَعَ رُسُلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِأَنَّ مَكْرَهُمْ هَذَا كَالْعَدَمِ، وَأَنَّ الْمَكْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. فَقَالَ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً لَا اعْتِدَادَ بِمَكْرِ غَيْرِهِ، ثُمَّ فَسَّرَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَكْرَ الثَّابِتَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَقَالَ: يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَيُجَازِيهَا عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ عَلِمَ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَأَعَدَّ لَهَا جَزَاءَهَا كَانَ الْمَكْرُ كُلُّهُ لَهُ، لِأَنَّهُ يَأْتِيهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ مَكْرَ الْمَاكِرِينَ مخلوق فلا يضرّ إلا بإرادته وقيل: المعنى: فلله جزاء مكر الماكرين وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو «الْكَافِرُ» بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «الْكُفَّارَ» بِالْجَمْعِ، أَيْ: سَيَعْلَمُ جِنْسُ الْكَافِرِ لِمَنِ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، أَوْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَافِرِ: أَبُو جَهْلٍ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا أَيْ: يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ أَوْ جَمِيعُ الْكُفَّارِ: لَسْتَ يَا مُحَمَّدُ مُرْسَلًا إِلَى النَّاسِ مِنَ اللَّهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَهُوَ يَعْلَمُ صِحَّةَ رِسَالَتِي، وَصِدْقَ دَعَوَاتِي، وَيَعْلَمُ كَذِبَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أَيْ: عِلْمُ جِنْسِ الْكِتَابِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَإِنَّ أَهْلَهُمَا الْعَالِمِينَ بِهِمَا يَعْلَمُونَ صِحَّةَ رِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَنَحْوِهِمْ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ

مِنَ الْعَرَبِ يَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ، فَأَرْشَدَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْهُ هُمُ الْمُسْلِمُونَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ، وَقَالَ: لِأَنَّ الْأَشْبَهَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَشْهِدُ عَلَى خَلْقِهِ بِغَيْرِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها قَالَ: «ذهب الْعُلَمَاءِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَنَعِيمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي الْفِتَنِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها قَالَ: مَوْتُ عُلَمَائِهَا وَفُقَهَائِهَا وَذَهَابُ خِيَارِ أَهْلِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: مَوْتُ الْعُلَمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآية: قال: أو لم يَرَوْا أَنَا نَفْتَحُ لِمُحَمَّدٍ الْأَرْضَ بَعْدَ الْأَرْضِ. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق أُخْرَى عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قال: يعني أنّ نبيّ الله كان ينتقص له ما حوله الْأَرَضِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى ذَلِكَ فَلَا يَعْتَبِرُونَ. وَقَالَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ «1» ، بَلْ نَبِيُّ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ هُمُ الْغَالِبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نُقْصَانُ أَهْلِهَا وَبِرْكَتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: أو لم يَرَوْا إِلَى الْقَرْيَةِ تُخَرَّبُ حَتَّى يَكُونَ الْعُمْرَانُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ: لَيْسَ أَحَدٌ يَتَعَقَّبُ حُكْمَهُ فَيَرُدُّهُ كَمَا يَتَعَقَّبُ أَهْلُ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ حُكْمَ بَعْضٍ فَيَرُدُّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْقُفٌ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَجِدُنِي فِي الْإِنْجِيلِ؟ قَالَ: لَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ حَتَّى أَخَذَ بِعِضَادَتَيْ بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بالله أتعلمون أني الذي أنزلت وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. وأخرج ابن جرير وابن مردويه مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ وَيَعْرِفُونَهُ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَالْجَارُودُ وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَدِيٍّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ قَالَ: وَمِنْ عِنْدِ اللَّهِ عِلْمُ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ يَقُولُ: وَمِنْ عِنْدِ اللَّهِ عِلْمُ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ

_ (1) . الأنبياء: 44.

أَهْوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟ قَالَ: كَيْفَ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ؟! وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَا نَزَلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ قَالَ: جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن مجاهد قال: هو الله.

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا عَنِ الزُّبَيْرِ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَقَتَادَةَ إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا، وَقِيلَ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ حَارَبُوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ سِوَى آيَتَيْنِ مِنْهَا نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي قَتْلَى بَدْرٍ من المشركين. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) قَوْلُهُ: الر قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَمْثَالِ هَذَا، وبيان قول من الله قَالَ إِنَّهُ مُتَشَابِهٌ، وَبَيَانُ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ غَيْرُ مُتَشَابِهٍ، وَهُوَ إِمَّا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ كِتَابٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَكُونُ كِتابٌ خَبَرًا لِمَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ أَوْ خَبَرًا ثَانِيًا لِهَذَا الْمُبْتَدَأِ أَوْ يَكُونُ الر مَسْرُودًا عَلَى نَمَطِ التعديد فلا محلّ له، وأَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ صفة لكتاب، أَيْ: أَنْزَلْنَا الْكِتَابَ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَعْنَى لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ لِتُخْرِجَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ جُعِلَ الْكُفْرُ بِمَنْزِلَةِ الظُّلُمَاتِ، والإيمان بمنزلة النور على طريق الِاسْتِعَارَةِ، وَاللَّامُ فِي لِتُخْرِجَ لِلْغَرَضِ وَالْغَايَةِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسِ لِلْجِنْسِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يخرج الناس بِالْكِتَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ النُّورِ وَقِيلَ: إِنَّ الظُّلْمَةَ مُسْتَعَارَةٌ لِلْبِدْعَةِ، وَالنُّورَ مُسْتَعَارٌ لِلسُّنَّةِ وَقِيلَ: مِنَ الشَّكِّ إِلَى الْيَقِينِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْبَاءُ فِي بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلقة بتخرج، وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ الدَّاعِي وَالْهَادِي وَالْمُنْذِرُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: بِمَا أَذِنَ لَكَ مِنْ تَعْلِيمِهِمْ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ هُوَ بَدَلٌ مِنْ إِلَى النُّورِ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ كَمَا يَقَعُ مِثْلُهُ كَثِيرًا، أَيْ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَهُوَ طَرِيقَةُ اللَّهِ الْوَاضِحَةُ الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهَا وَالدُّخُولِ فِيهَا وَيَجُوزُ أَنْ

يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هَذَا النُّورُ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ إِلَيْهِ؟ فَقِيلَ: صِرَاطُ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. وَالْعَزِيزُ هُوَ الْقَادِرُ الْغَالِبُ، وَالْحَمِيدُ هُوَ الْكَامِلُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ اللَّهُ الْمُتَّصِفُ بملك ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ لِكَوْنِهِ مِنَ الْأَعْلَامِ الْغَالِبَةِ، فَلَا يَصِحُّ وَصْفُ مَا قَبْلَهُ بِهِ لِأَنَّ الْعَلَمَ لَا يُوصَفُ بِهِ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِنَّ قِرَاءَةَ الْجَرِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. وَكَانَ يَعْقُوبُ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْحَمِيدِ رَفَعَ، وَإِذَا وَصَلَ خَفَضَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَنْ خَفَضَ وَقَفَ عَلَى وَما فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنْ لَا يَعْتَرِفُ بِرُبُوبِيَّتِهِ فَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْوَيْلِ، وَأَصْلُهُ النَّصْبُ كَسَائِرِ الْمَصَادِرِ، ثُمَّ رُفِعَ لِلدِّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِلْعَذَابِ وَالْهَلَكَةِ، فَدَعَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْكُفَّارِ بهداية رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَهُ بِمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الإيمان ومِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ متعلق بويل عَلَى مَعْنَى يُوَلْوِلُونَ وَيَضِجُّونَ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الَّذِي صَارُوا فِيهِ، ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ يُؤْثِرُونَهَا لِمَحَبَّتِهِمْ لَهَا عَلَى الْآخِرَةِ الدَّائِمَةِ وَالنَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوْصُولَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبْرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيِ: هُمُ الَّذِينَ وَقِيلَ: الْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أُولَئِكَ، وَجُمْلَةُ وَيَصُدُّونَ وَكَذَلِكَ وَيَبْغُونَ مَعْطُوفَتَانِ عَلَى يَسْتَحِبُّونَ، وَمَعْنَى الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صَرْفُ النَّاسِ عَنْهُ وَمَنْعُهُمْ مِنْهُ، وَسَبِيلُ اللَّهِ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أَيْ: يَطْلُبُونَ لَهَا زَيْغًا وَمَيْلًا لِمُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ وَقَضَاءِ حَاجَاتِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ، وَالْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَعَانِي وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْأَعْيَانِ وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. وَالْأَصْلُ يَبْغُونَ لَهَا فَحُذِفَ الْحَرْفُ وَأُوصِلَ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ، وَاجْتِمَاعُ هَذِهِ الْخِصَالِ نِهَايَةُ الضَّلَالِ، وَلِهَذَا وَصَفَ ضَلَالَهُمْ بِالْبُعْدِ عَنِ الْحَقِّ فَقَالَ: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ وَالْبُعْدُ وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَةِ الضَّالِّ لَكِنَّهُ يَجُوزُ وَصْفُ الضَّلَالِ بِهِ مَجَازًا لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ لَمَّا منّ على المكلفين بإنزال الكتاب وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ ذَكَرَ مِنْ كَمَالِ تِلْكَ النِّعْمَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُرْسَلَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ فَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِلِسَانِهِمْ مُتَكَلِّمًا بِلُغَتِهِمْ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهِمَ عَنْهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ مَا يَقُولُهُ لَهُمْ وَسَهُلَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ بِلِسَانِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا يَقُولُ وَلَا يَفْهَمُونَ مَا يُخَاطِبُهُمْ بِهِ حَتَّى يَتَعَلَّمُوا ذَلِكَ اللِّسَانَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَمَعَ ذَلِكَ فلا بدّ أن يصعب عليهم فَهْمُ ذَلِكَ بَعْضَ صُعُوبَةٍ، وَلِهَذَا عَلَّلَ سُبْحَانَهُ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَيْ: لِيُوَضِّحَ لَهُمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ وَوَحَّدَ اللِّسَانَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا اللُّغَةُ. وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أُرْسِلَ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا بَلْ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَلُغَاتُهُمْ مُتَبَايِنَةٌ وَأَلْسِنَتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ. وَأُجِيبَ بأنه وإن كان صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُرْسَلًا إِلَى الثَّقَلَيْنِ كَمَا مَرَّ لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَوْمُهُ الْعَرَبَ وَكَانُوا أَخَصَّ بِهِ وَأَقْرَبَ إِلَيْهِ كَانَ إِرْسَالُهُ بِلِسَانِهِمْ أَوْلَى مِنْ إِرْسَالِهِ بِلِسَانِ غَيْرِهِمْ، وَهُمْ يُبَيِّنُونَهُ لِمَنْ كَانَ على غير لسانهم ويوضحونه حتى يصير فإهماله كَفَهْمِهِمْ إِيَّاهُ، وَلَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِجَمِيعِ لُغَاتِ من أرسل

إِلَيْهِمْ، وَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ لِكُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ لَكَانَ ذَلِكَ مَظَنَّةً لِلِاخْتِلَافِ وَفَتْحًا لِبَابِ التَّنَازُعِ لِأَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ قَدْ تَدَّعِي مِنَ الْمَعَانِي فِي لِسَانِهَا مَا لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهَا، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مُفْضِيًا إِلَى التَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ بِسَبَبِ الدَّعَاوِي الْبَاطِلَةِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْمُتَعَصِّبُونَ وَجُمْلَةُ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ: يَضِلُّ مَنْ يَشَاءُ إِضْلَالَهُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا ذُكِرَ فِعْلٌ وَبَعْدَهُ فِعْلٌ آخَرُ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّسَقُ مُشَاكِلًا لِلْأَوَّلِ فَالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ هُوَ الْوَجْهُ، فَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا أرسلنا من رسول الله إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ تِلْكَ الشَّرَائِعَ بِاللُّغَةِ الَّتِي أَلِفُوهَا وَفَهِمُوهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُضِلَّ وَالْهَادِيَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْبَيَانُ لَا يُوجِبُ حُصُولَ الْهِدَايَةِ إِلَّا إِذَا جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَاسِطَةً وَسَبَبًا، وَتَقْدِيمُ الْإِضْلَالِ عَلَى الْهِدَايَةِ لِأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهَا، إِذْ هُوَ إِبْقَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ وَالْهِدَايَةُ إِنْشَاءُ مَا لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ الْحَكِيمُ الَّذِي يُجْرِي أَفْعَالَهُ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ بِعْثَةِ نَبِيِّنَا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ هُوَ إِخْرَاجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ إِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا ذَلِكَ، وَخَصَّ مُوسَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّ أُمَّتَهُ أَكْثَرُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَقَالَ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي لِمُوسَى، وَمَعْنَى أَنْ أَخْرِجْ أَيْ: أَخْرِجْ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ بِأَنْ أَخْرِجْ، وَالْمُرَادُ بِقَوْمِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُلْكِ فِرْعَوْنَ مِنَ الظُّلُماتِ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ مِنَ الْجَهْلِ الَّذِي قَالُوا بِسَبَبِهِ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «1» . إِلَى النُّورِ إِلَى الْإِيمَانِ أَوْ إِلَى الْعِلْمِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أَيْ: بِوَقَائِعِهِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْعَرَبُ تَقُولُ الْأَيَّامَ فِي مَعْنَى الْوَقَائِعِ، يُقَالُ: فُلَانٌ عَالِمٌ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ، أَيْ: بِوَقَائِعِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ ذَكِّرْهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَبِنِقَمِ أَيَّامِ اللَّهِ الَّتِي انْتَقَمَ فِيهَا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. وَالْمَعْنَى: عِظْهُمْ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِنَّ فِي ذلِكَ أَيْ: فِي التَّذْكِيرِ بِأَيَّامِ اللَّهِ أَوْ فِي نَفْسِ أَيَّامِ اللَّهِ لَآياتٍ لَدِلَالَاتٍ عَظِيمَةٍ دَالَّةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ لِكُلِّ صَبَّارٍ أَيْ: كَثِيرِ الصَّبْرِ عَلَى الْمِحَنِ وَالْمِنَحِ شَكُورٍ كَثِيرِ الشُّكْرِ لِلنِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِلَاكُ الْإِيمَانِ، وَقُدِّمَ الصَّبَّارُ عَلَى الشَّكُورِ لِكَوْنِ الشُّكْرِ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ قَالَ: مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: يَسْتَحِبُّونَ قَالَ: يَخْتَارُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وعلى الأنبياء، وقيل: مَا فَضَّلَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ «2» وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «3» فَكَتَبَ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ قِيلَ فَمَا هو فَضَّلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ وقال لمحمد:

_ (1) . الأعراف: 138. (2) . الأنبياء: 29. (3) . الفتح: 2.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 6 إلى 12]

وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «1» فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا قَالَ: بِالْآيَاتِ التِّسْعِ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ وَالْعَصَا وَيَدِهِ وَالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ قَالَ: مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبيهقي في شعب لإيمان عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ قَالَ: «بِنِعَمِ اللَّهِ وَآلَائِهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ قَالَ: نِعَمِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ قَالَ: وَعِظْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي الْآيَةِ قَالَ: بِوَقَائِعِ اللَّهِ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ قَالَ: نِعْمَ الْعَبْدُ عَبْدٌ إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 6 الى 12] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) قَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ مُوسى الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ اذْكُرْ، أَيِ: اذْكُرْ وَقْتَ قَوْلِ موسى وإِذْ أَنْجاكُمْ متعلق باذكروا، أَيِ: اذْكُرُوا إِنْعَامَهُ عَلَيْكُمْ وَقْتَ إِنْجَائِهِ لَكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، أَوْ بِالنِّعْمَةِ، أَوْ بِمُتَعَلِّقِ عَلَيْكُمْ: أَيْ: مُسْتَقِرَّةٌ عَلَيْكُمْ وَقْتَ إِنْجَائِهِ، وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ النِّعْمَةِ مُرَادًا بِهَا الْإِنْعَامُ أَوِ الْعَطِيَّةُ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أَيْ: يَبْغُونَكُمْ، يُقَالُ سَامَهُ ظُلْمًا، أَيْ: أَوْلَاهُ ظُلْمًا، وَأَصْلُ السوم الذهاب في طلب الشيء

_ (1) . سبأ: 28.

وسوء العذاب: مصدر ساء يسوء، والمراد جنس الْعَذَابِ السَّيِّئِ، وَهُوَ اسْتِعْبَادُهُمْ وَاسْتِعْمَالُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَعُطِفَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ عَلَى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَإِنْ كَانَ التَّذْبِيحُ مِنْ جِنْسِ سُوءِ الْعَذَابِ إِخْرَاجًا لَهُ عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَذَابِ الْمُعْتَادِ حَتَّى كَأَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ لِمَا فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ، وَمَعَ طَرْحِ الْوَاوِ كَمَا فِي الْآيَةِ الأخرى يكون التذبيح تفسيرا لسوء الْعَذَابِ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أَيْ: يَتْرُكُونَهُنَّ فِي الْحَيَاةِ لِإِهَانَتِهِنَّ وَإِذْلَالِهِنَّ وَفِي ذلِكُمْ الْمَذْكُورِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أَيِ: ابْتِلَاءٌ لَكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ تَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَذِنَ قَالَهُ الْفَرَّاءُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَلَا بُدَّ فِي تَفَعَّلَ مِنْ زِيَادَةِ مَعْنًى لَيْسَتْ فِي أَفْعَلَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذْ أَذِنَ رَبُّكُمْ إِيذَانًا بَلِيغًا تَنْتَفِي عَنْهُ الشُّكُوكُ وَتَنْزَاحُ الشُّبَهُ. وَالْمَعْنَى: وَإِذْ تَأَذَّنُ رَبُّكُمْ فَقَالَ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ أَوْ أَجْرَى تَأَذَّنَ مَجْرَى قَالَ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْقَوْلِ انْتَهَى، وَهَذَا مِنْ قَوْلِ مُوسَى لِقَوْمِهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى نِعْمَةَ اللَّهِ، أَيِ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا حِينَ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِذْ أَنْجَاكُمْ أَيِ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، فَإِنَّ هَذَا التَّأَذُّنَ أَيْضًا نِعْمَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «وَإِذْ قَالَ رَبُّكُمْ» وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّامُ فِي لَئِنْ شَكَرْتُمْ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَقَوْلُهُ: لَأَزِيدَنَّكُمْ سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابَيِ الشَّرْطِ وَالْقَسَمِ، وَكَذَا اللَّامُ فِي وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ وَقَوْلِهِ: إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ سَادٌّ مَسَدَّ الْجَوَابَيْنِ أيضا والمعنى: لئن شَكَرْتُمْ إِنْعَامِي عَلَيْكُمْ بِمَا ذُكِرَ لَأَزِيدَنَّكُمْ نِعْمَةً إِلَى نِعْمَةٍ تَفَضُّلًا مِنِّي وَقِيلَ: لَأَزِيدَنَّكُمْ مِنْ طَاعَتِي وَقِيلَ: لَأَزِيدَنَّكُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَالشَّكُّ سَبَبُ الْمَزِيدِ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ذَلِكَ وَجَحَدْتُمُوهُ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِنْهُ مَا يُصِيبُ وَقِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ لَأُعَذِّبَنَّكُمْ، وَالْمَذْكُورُ تَعْلِيلٌ لِلْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أَيْ: إِنْ تَكْفُرُوا نِعْمَتَهُ تَعَالَى أَنْتُمْ وَجَمِيعُ الْخَلْقِ وَلَمْ تَشْكُرُوهَا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَغَنِيٌّ عَنْ شُكْرِكُمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلَا يَلْحَقُهُ بِذَلِكَ نَقْصٌ حَمِيدٌ أَيْ: مُسْتَوْجِبٌ لِلْحَمْدِ لِذَاتِهِ لِكَثْرَةِ إِنْعَامِهِ، وَإِنْ لَمْ تَشْكُرُوهُ، أَوْ يَحْمَدُهُ غَيْرُكُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا مِنْ مُوسَى لِقَوْمِهِ، فَيَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ التَّذْكِيرِ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ابْتِدَاءً خِطَابًا لِقَوْمِ مُوسَى وَتَذْكِيرًا لَهُمْ بِالْقُرُونِ الْأُولَى وَأَخْبَارِهِمْ وَمَجِيءِ رُسُلِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ خِطَابٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِقَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْذِيرًا لَهُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ، وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ، وَالْجَمْعُ الْأَنْبَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : أَلَمْ تَأْتِيكَ وَالْأَنْبَاءُ تُنْمَى ... بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادٍ وقَوْمِ نُوحٍ بَدَلٌ مِنَ الْمَوْصُولِ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ: مِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أَيْ: لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ وَيُحِيطُ بِهِمْ عِلْمًا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، أَوْ يَكُونُ الموصول معطوفا على ما قبله ولا يعلمهم

_ (1) . هو قيس بن زهير.

إِلَّا اللَّهُ اعْتِرَاضٌ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى صِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَمُدَدِ أَعْمَارِهِمْ، أَيْ: هَذِهِ الْأُمُورُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ، أو يكون راجعا إلى ذواتهم، أي: أنه لَا يَعْلَمُ ذَوَاتِ أُولَئِكَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَجُمْلَةُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ النَّبَأِ الْمَذْكُورِ فِي أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَيْ: جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ وَبِالشَّرَائِعِ الْوَاضِحَةِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أَيْ: جَعَلُوا أَيْدِي أَنْفُسِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ لِيَعَضُّوهَا غَيْظًا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ «1» لِأَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْهُمْ بِتَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ وَشَتْمِ أَصْنَامِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَشَارُوا بِأَصَابِعِهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيِ: اسْكُتُوا وَاتْرُكُوا هَذَا الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ تَكْذِيبًا لَهُمْ وَرَدًّا لِقَوْلِهِمْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَشَارُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنَ الْمَقَالَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أَيْ: لَا جَوَابَ لَكُمْ سِوَى هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ لَكُمْ بِأَلْسِنَتِنَا هَذِهِ وَقِيلَ: وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمُ اسْتِهْزَاءً وَتَعَجُّبًا كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ غَلَبَهُ الضَّحِكُ مِنْ وَضْعِ يَدِهِ عَلَى فِيهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: رَدُّوا عَلَى الرُّسُلِ قَوْلَهُمْ وَكَذَّبُوهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ فَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ لِلرُّسُلِ وَالثَّانِي لِلْكُفَّارِ وَقِيلَ: جَعَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِ الرُّسُلِ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ فَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَلَى هَذَا لِلْكُفَّارِ وَالثَّانِي لِلرُّسُلِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَوْمَئُوا إِلَى الرُّسُلِ أَنِ اسْكُتُوا وَقِيلَ: أَخَذُوا أَيْدِيَ الرُّسُلِ وَوَضَعُوهَا عَلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ ليسكنوهم وَيَقْطَعُوا كَلَامَهُمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْأَيْدِيَ هُنَا النِّعَمُ، أَيْ: رَدُّوا نِعَمَ الرُّسُلِ بِأَفْوَاهِهِمْ، أَيْ: بِالنُّطْقِ والتكذيب، والمراد بالنعم هنا ما جاءوهم بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَنِعْمَ مَا قَالَ: هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ، أَيْ: لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُجِيبُوا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَمْسَكَ عَنِ الْجَوَابِ وَسَكَتَ: قَدْ رَدَّ يَدَهُ فِي فِيهِ، وَهَكَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَاعْتَرَضَ ذَلِكَ القتبي فَقَالَ: لَمْ يُسْمَعْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ ردّ يده في فيه: إذ تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عَضُّوا عَلَى الْأَيْدِي حَنَقًا وَغَيْظًا، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: يَرُدَّنَّ في فيه غيظ الحسو ... د حَتَّى يَعَضَّ عَلِيَّ الْأَكُفَّا «2» وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَمِنْهُ قول الشاعر: أو أنّ سلمى أبصرت تخدّدي ... [ودقّة في عظم ساقي ويدي] [وبعد أهلي وجفاء عوّدي] ... عضّت من الوجد بأطراف اليدا «3» وَهُوَ أَقْرَبُ التَّفَاسِيرِ لِلْآيَةِ إِنْ لَمْ يَصِحَّ عَنِ الْعَرَبِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ، فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرَاهُ فَتَفْسِيرُ الْآيَةِ بِهِ أَقْرَبُ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أَيْ: قَالَ الْكُفَّارُ لِلرُّسُلِ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أَرْسَلْتُمْ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ عَلَى زَعْمِكُمْ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ أَيْ: فِي شَكٍّ عَظِيمٍ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بالله وحده

_ (1) . آل عمران: 119. (2) . في تفسير القرطبي (9/ 346) : تردّون بدل: يردنّ، وغشّ بدل: غيظ. (3) . ما بين معقوفتين مستدرك من تفسير القرطبي (9/ 345) . «التخدّد» : أن يضطرب اللحم من الهزال.

وَتَرْكِ مَا سِوَاهُ مُرِيبٍ أَيْ: مُوجِبٍ لِلرَّيْبِ، يُقَالُ: أَرَبْتُهُ إِذَا فَعَلْتَ أَمْرًا أَوْجَبَ رِيبَةً وَشَكًّا، وَالرَّيْبُ: قَلَقُ النَّفْسِ وَعَدَمُ سُكُونِهَا. وَقَدْ قيل: كيف صرّحوا بالكفر ثم أقرهم عَلَى الشَّكِّ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِنَّا كَافِرُونَ بِرِسَالَتِكُمْ، وَإِنْ نَزَلْنَا عَنْ هَذَا الْمَقَامِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنَّا نَشُكُّ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِكُمْ، وَمَعَ كَمَالِ الشَّكِّ لَا مَطْمَعَ فِي الِاعْتِرَافِ بِنُبُوَّتِكُمْ. وَجُمْلَةُ قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَتْ لَهُمُ الرُّسُلُ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: أَفِي وَحْدَانِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ شَكٌّ، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَالْجَلَاءِ، ثُمَّ إِنَّ الرُّسُلَ ذَكَرُوا بَعْدَ إِنْكَارِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ مَا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ الْإِنْكَارَ مِنَ الشَّوَاهِدِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الشَّكِّ فِي وُجُودِهِ سُبْحَانَهُ وَوَحْدَانِيَّتِهِ. فَقَالُوا: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ خَالِقِهِمَا وَمُخْتَرِعِهِمَا وَمُبْدِعِهِمَا وَمُوجِدِهِمَا بَعْدَ الْعَدَمِ يَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَتَوْحِيدِهِ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنْ زَائِدَةٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ الْبَعْضُ وَيُرَادُ مِنْهُ الْجَمِيعُ وَقِيلَ: التَّبْعِيضُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ غُفْرَانِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لأمة محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ غُفْرَانُ جَمِيعِهَا لِغَيْرِهِمْ، وَبِهَذِهِ الْآيَةِ احْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ زِيَادَةَ مِنْ فِي الْإِثْبَاتِ وَقِيلَ: مِنْ لِلْبَدَلِ وَلَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ وَلَا تَبْعِيضِيَّةٍ، أَيْ: لِتَكُونَ الْمَغْفِرَةُ بَدَلًا مِنَ الذُّنُوبِ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ: إِلَى وَقْتٍ مُسَمًّى عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الْمَوْتُ فَلَا يُعَذِّبُكُمْ فِي الدُّنْيَا قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أَيْ: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فِي الْهَيْئَةِ وَالصُّورَةِ، تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ كَمَا نَأْكُلُ وَنَشْرَبُ وَلَسْتُمْ مَلَائِكَةً تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا وَصَفُوهُمْ بِالْبَشَرِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِإِرَادَةِ الصَّدِّ لَهُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ ثَانِيًا، أَيْ: تُرِيدُونَ أَنْ تَصْرِفُونَا عَنْ مَعْبُودَاتِ آبَائِنَا مِنَ الْأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا فَأْتُونا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بِأَنَّكُمْ مُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أَيْ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا تَدَّعُونَهُ، وَقَدْ جَاءُوهُمْ بِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ وَالْحُجَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ تَعَنُّتَاتِهِمْ، وَلَوْنٌ مِنْ تَلَوُّنَاتِهِمْ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَيْ: مَا نَحْنُ فِي الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كَمَا قُلْتُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَيْ: يَتَفَضَّلُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ بِالنُّبُوَّةِ وَقِيلَ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ أَيْ: مَا صَحَّ وَلَا اسْتَقَامَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِحُجَّةٍ مِنَ الْحُجَجِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُدْرَتِنَا. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ هُنَا هُوَ مَا يَطْلُبُهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَقِيلَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَا شَاءَهُ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يشأه لم يكن وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ: عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ دُونَ مَنْ عَدَاهُ، وَكَأَنَّ الرُّسُلَ قَصَدُوا بِهَذَا الْأَمْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْأَمْرَ لَهُمْ أَنْفُسِهِمْ قَصْدًا أَوَّلِيًّا، وَلِهَذَا قَالُوا وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أَيْ: وَأَيُّ عُذْرٍ لَنَا فِي أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ بِنَا مَا يُوجِبُ تَوَكُّلَنَا عَلَيْهِ مِنْ هِدَايَتِنَا إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى رَحْمَتِهِ، وَهُوَ مَا شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ سُلُوكَهُ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا بِمَا يَقَعُ مِنْكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ لنا والاقتراحات الباطلة وَعَلَى اللَّهِ وحده دُونَ مَنْ عَدَاهُ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّوَكُّلِ الْأَوَّلِ اسْتِحْدَاثُهُ، وَبِهَذَا السَّعْيِ فِي بَقَائِهِ وَثُبُوتِهِ وَقِيلَ: مَعْنَى الْأَوَّلِ: إِنَّ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الْمُعْجِزَاتِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا فِي حُصُولِهَا على

اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا عَلَيْنَا، فَإِنْ شَاءَ سُبْحَانَهُ أَظْهَرَهَا وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُظْهِرْهَا. وَمَعْنَى الثَّانِي: إِبْدَاءُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي دَفْعِ شَرِّ الْكُفَّارِ وَسَفَاهَتِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ قَالَ: أَخْبَرَهُمْ مُوسَى عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُمْ إِنْ شَكَرُوا النِّعْمَةَ زَادَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَوْسَعَ لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ، وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى الْعَالَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ لَأَزِيدَنَّكُمْ قَالَ: مِنْ طَاعَتِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَا تَذْهَبْ أَنْفُسُكُمْ إِلَى الدُّنْيَا فَإِنَّهَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ مِنْ طَاعَتِي. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أَتَى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ سَائِلٌ فَأَمَرَ لَهُ بِتَمْرَةٍ فَلَمْ يَأْخُذْهَا، وَأَتَاهُ آخَرُ فَأَمَرَ لَهُ بِتَمْرَةٍ فَقَبِلَهَا، وَقَالَ: تَمْرَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ لِلْجَارِيَةِ: اذْهَبِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَعْطِيهِ الْأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا الَّتِي عِنْدَهَا» وَفِي إِسْنَادِ أَحْمَدَ عُمَارَةُ بْنُ زَاذَانَ، وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: صَالِحٌ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، لَيْسَ بِالْمَتِينِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: رُبَّمَا يَضْطَرِبُ فِي حَدِيثِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: رُوِيَ عَنْهُ أَحَادِيثُ مُنْكَرَةٌ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَيْسَ بِذَاكَ، وَضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أُلْهِمَ خَمْسَةً لَمْ يُحْرَمْ خَمْسَةً، وَفِيهَا: وَمَنْ أُلْهِمَ الشُّكْرَ لَمْ يُحْرَمِ الزِّيَادَةَ» . وَأَخْرَجَ الحكيم الترمذي في نوادره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيَهُنَّ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ اللَّهِ أَرْبَعًا، وَفِيهَا: وَمَنْ أُعْطِيَ الشُّكْرَ لَمْ يُمْنَعِ الزِّيَادَةَ» . وَلَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ الزِّيَادَةِ بِالزِّيَادَةِ فِي الطَّاعَةِ، بَلِ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ الْعُمُومُ، كَمَا يُفِيدُهُ جَعْلُ الزِّيَادَةِ جَزَاءً لِلشُّكْرِ، فَمَنْ شَكَرَ اللَّهَ عَلَى مَا رَزَقَهُ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَمَنْ شَكَرَ اللَّهَ عَلَى مَا أَقْدَرَهُ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ زَادَهُ مِنْ طَاعَتِهِ، وَمَنْ شَكَرَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهِ مِنَ الصِّحَّةِ زَادَهُ اللَّهُ صِحَّةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَيَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَا أَنْسُبُ النَّاسَ، قَالَ: إِنَّكَ لَا تَنْسُبُ النَّاسَ، فَقَالَ: بَلَى، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً «1» قَالَ: أَنَا أَنْسُبُ ذَلِكَ الْكَثِيرَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ قوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ فَسَكَتَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ ثَلَاثُونَ أَبًا لَا يُعْرَفُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ في قوله:

_ (1) . الفرقان: 38.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 إلى 18]

فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ قَالَ: لَمَّا سَمِعُوا كِتَابَ اللَّهِ عَجِبُوا وَرَجَعُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ يَقُولُونَ: لا نصدّكم فِيمَا جِئْتُمْ بِهِ، فَإِنَّ عِنْدَنَا فِيهِ شَكًّا قَوِيًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ قَالَ: عَضُّوا عَلَيْهَا. وَفِي لفظ: على أناملهم غيظا على رسلهم. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 18] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ هُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَمَرِّدِينَ عَنْ إِجَابَةِ الرُّسُلِ، وَاللَّامُ فِي لَنُخْرِجَنَّكُمْ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، أَيْ: وَاللَّهِ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، لَمْ يَقْنَعُوا بِرَدِّهِمْ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَعَدَمِ امْتِثَالِهِمْ لِمَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ حَتَّى اجْتَرَءُوا عَلَيْهِمْ بِهَذَا، وَخَيَّرُوهُمْ بَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ أَرْضِهِمْ، أَوِ الْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمُ الْكُفْرِيَّةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوْ فِي أَوْ لَتَعُودُنَّ بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ، يَعْنِي: إِلَّا أَنْ تَعُودُوا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ أَوْ عَلَى بَابِهَا لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. قِيلَ: وَالْعَوْدُ هُنَا بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ لِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلرُّسُلِ ولمن آمن بهم فغلب الرسل عَلَى أَتْبَاعِهِمْ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أَيْ: إِلَى الرُّسُلِ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ أَيْ: قَالَ لَهُمْ: لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ أَيْ: أَرْضَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَوَعَّدُوكُمْ بِمَا تَوَعَّدُوا مِنَ الْإِخْرَاجِ أَوِ الْعَوْدِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا «1» ، وقال: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ «2» . وقرئ ليهلكنّ وليسكننكم بِالتَّحْتِيَّةِ فِي الْفِعْلَيْنِ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ فَأَوْحَى، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ وَإِسْكَانِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسَاكِنِهِمْ لِمَنْ خافَ مَقامِي أَيْ: مَوْقِفِي، وَذَلِكَ يَوْمَ الْحِسَابِ، فَإِنَّهُ مَوْقِفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمَقَامُ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَكَانُ الْإِقَامَةِ، وَبِالضَّمِّ فِعْلُ الْإِقَامَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِيَامِ، أَيْ: لِمَنْ خَافَ قِيَامِي عَلَيْهِ وَمُرَاقَبَتِي لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «3» وَقَالَ الْأَخْفَشُ: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي، أَيْ: عذابي وَخافَ وَعِيدِ أي: خاف

_ (1) . الأعراف: 137. (2) . الأحزاب: 37. (3) . الرعد: 33. [.....]

وَعِيدِي بِالْعَذَابِ، وَقِيلَ: بِالْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ نَفْسُ الْعَذَابِ، وَالْوَعِيدُ الِاسْمُ مِنَ الْوَعْدِ وَاسْتَفْتَحُوا مَعْطُوفٌ عَلَى أَوْحَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اسْتَنْصَرُوا بِاللَّهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، أَوْ سَأَلُوا اللَّهَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ، مِنَ الْفُتَاحَةِ وَهِيَ الْحُكُومَةُ وَمِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ قوله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ «1» أَيْ: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ وَمِنَ الْمَعْنَى الثَّانِي قَوْلُهُ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «2» أَيِ: احْكُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي اسْتَفْتَحُوا لِلرُّسُلِ وَقِيلَ: لِلْكُفَّارِ، وَقِيلَ: لِلْفَرِيقَيْنِ وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الَّذِي لَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا، هَكَذَا حَكَاهُ النَّحَّاسُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْعَنِيدُ: الْمُعَانِدُ لِلْحَقِّ وَالْمُجَانِبُ لَهُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِنْدِ، وَهُوَ النَّاحِيَةُ، أَيْ: أَخَذَ فِي نَاحِيَةٍ مُعْرِضًا. قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا نَزَلْتُ فَاجْعَلُونِي وَسَطًا ... إِنِّي كَبِيرٌ لَا أُطِيقُ الْعِنْدَا قَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَنِيدُ: الَّذِي يَعْدِلُ عَنِ الْقَصْدِ، وَبِمِثْلِهِ قَالَ الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ الَّذِي عَنَدَ وَبَغَى، وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ الشَّامِخُ بِأَنْفِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْعَاصِي، وَقِيلَ: الَّذِي أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ خَسِرَ وَهَلَكَ مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أَيْ: مِنْ بَعْدِهِ جَهَنَّمُ، وَالْمُرَادُ بَعْدَ هَلَاكِهِ عَلَى أن وراءها هنا بِمَعْنَى بَعْدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ أَيْ: لَيْسَ بَعْدَ اللَّهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ أَيْ: مِنْ بَعْدِهِ. كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ، وَقِيلَ: مِنْ وَرائِهِ أَيْ: مِنْ أَمَامِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْقَلِبُ إِلَى الْآخَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمِنْ وَرَائِكَ يَوْمٌ أَنْتَ بَالِغُهُ ... لَا حَاضِرٌ مُعْجَزٌ عَنْهُ وَلَا بَادِي وَقَالَ آخَرُ: أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ... وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَا أَيْ: أَمَامِي. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً «3» أَيْ: أَمَامَهُمْ، وَبِقَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ هَذَا قَالَ قُطْرُبٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ كَمَا يُقَالُ: هَذَا الْأَمْرُ مِنْ وَرَائِكَ أَيْ: سَوْفَ يَأْتِيكَ، وَأَنَا مِنْ وَرَاءِ فُلَانٍ، أَيْ: فِي طَلَبِهِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: مِنْ وَرَائِهِ أَيْ: مِنْ أَمَامِهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ تَوَارَى أَيِ: اسْتَتَرَ فَصَارَتْ جَهَنَّمُ مِنْ وَرَائِهِ، لِأَنَّهَا لَا تُرَى، وَحَكَى مِثْلَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ سائل. كأنه قيل: فماذا يكون إذن؟ قِيلَ: يُلْقَى فِيهَا وَيُسْقَى، وَالصَّدِيدُ مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الصَّدِّ. لِأَنَّهُ يَصُدُّ النَّاظِرِينَ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَهُوَ دَمٌ مُخْتَلِطٌ بِقَيْحٍ، وَالصَّدِيدُ صِفَةٌ لِمَاءٍ، وَقِيلَ: عَطْفُ بيان عنه ويَتَجَرَّعُهُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَاءٍ،

_ (1) . الأنفال: 19. (2) . الأعراف: 89. (3) . الكهف: 79.

أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى سُؤَالٍ، وَالتَّجَرُّعُ: التَّحَسِّي، أَيْ: يَتَحَسَّاهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لَا مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَرَارَتِهِ وَحَرَارَتِهِ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أَيْ: يَبْتَلِعُهُ، يُقَالُ: سَاغَ الشَّرَابُ فِي الْحَلْقِ يَسُوغُ سَوْغًا إِذَا كَانَ سَهْلًا، وَالْمَعْنَى: وَلَا يُقَارِبُ إِسَاغَتَهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْإِسَاغَةُ؟ بَلْ يُغَصُّ به فيطول عذابه بالعطش تارة، وبشربه عَلَى هَذِهِ الْحَالِ أُخْرَى وَقِيلَ: إِنَّهُ يُسِيغُهُ بَعْدَ شِدَّةٍ وَإِبْطَاءٍ، كَقَوْلِهِ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «1» أَيْ: يَفْعَلُونَ بَعْدَ إِبْطَاءٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ «2» . وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أَيْ: تَأْتِيهِ أَسْبَابُ الْمَوْتِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ، أَوْ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَوَاضِعِ بَدَنِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمُرَادُ بِالْمَوْتِ هُنَا الْبَلَايَا الَّتِي تُصِيبُ الْكَافِرَ فِي النَّارِ، سَمَّاهَا مَوْتًا لِشِدَّتِهَا وَما هُوَ بِمَيِّتٍ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ حَقِيقَةً فَيَسْتَرِيحُ وَقِيلَ: تَعْلَقُ نَفْسُهُ فِي حَنْجَرَتِهِ فَلَا تَخْرُجُ مِنْ فِيهِ فَيَمُوتُ، وَلَا تَرْجِعُ إِلَى مَكَانِهَا مِنْ جَوْفِهِ فَيَحْيَا، وَمِثْلُهُ قوله تعالى: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَقِيلَ: مَعْنَى وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ لِتَطَاوُلِ شَدَائِدِ الْمَوْتِ بِهِ وَامْتِدَادِ سَكَرَاتِهِ عَلَيْهِ. وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِعَدَمِ الْمَوْتِ حَقِيقَةً لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قوله سبحانه: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى «3» وَقَوْلِهِ: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها «4» . وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ أَيْ: مِنْ أَمَامِهِ، أَوْ مِنْ بَعْدِهِ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْخُلُودُ، وَقِيلَ: حَبْسُ النَّفْسِ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَثَلُ مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ مَثَلُ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَحُذِفَ الْمُضَافُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِإِلْغَاءِ مَثَلُ، وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَعْنِي مَثَلُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الصِّفَةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ صفتهم العجيبة أعمالهم كرماد. والمراد: أَنَّ أَعْمَالَهُمْ بَاطِلَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَالرَّمَادُ مَا يَبْقَى بَعْدَ احْتِرَاقِ الشَّيْءِ ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ مَثَلًا لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ فِي أَنَّهُ يَمْحَقُهَا كَمَا تَمْحَقُ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الرَّمَادَ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ. وَمَعْنَى: اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ: حَمَلَتْهُ بِشِدَّةٍ وَسُرْعَةٍ، وَالْعَصْفُ شِدَّةُ الرِّيحِ، وُصِفَ بِهِ زَمَانُهَا مُبَالَغَةً كَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ حَارٌّ وَيَوْمٌ بَارِدٌ، وَالْبَرْدُ وَالْحَرُّ فِيهِمَا لَا مِنْهُمَا لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ أَيْ: لَا يَقْدِرُ الْكُفَّارُ مِمَّا كَسَبُوا مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا يَرَوْنَ لَهُ أَثَرًا فِي الْآخِرَةِ يُجَازَوْنَ بِهِ وَيُثَابُونَ عَلَيْهِ، بَلْ جَمِيعُ مَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا بَاطِلٌ ذَاهِبٌ كَذَهَابِ الرِّيحِ بِالرَّمَادِ عِنْدَ شِدَّةِ هُبُوبِهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّمْثِيلُ، أَيْ: هَذَا الْبُطْلَانُ لِأَعْمَالِهِمْ وَذَهَابُ أَثَرِهَا هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ الْمُخَالِفِ لِمَنْهَجِ الصَّوَابِ، لَمَّا كَانَ هَذَا خُسْرَانًا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ سَمَّاهُ بَعِيدًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا الْآيَةَ، قَالَ: كَانَتِ الرُّسُلُ وَالْمُؤْمِنُونَ يَسْتَضْعِفُهُمْ قَوْمُهُمْ وَيَقْهَرُونَهُمْ وَيُكَذِّبُونَهُمْ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى أَنْ يَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ، فَأَبَى اللَّهُ لِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعُودُوا فِي مِلَّةِ الْكُفْرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَفْتِحُوا عَلَى الْجَبَابِرَةِ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يُسْكِنَهُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَأَنْجَزَ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، وَاسْتَفْتَحُوا كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ

_ (1) . البقرة: 71. (2) . الحج: 20. (3) . الأعلى: 13. (4) . فاطر: 36.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 إلى 23]

يَسْتَفْتِحُوا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: وَعَدَهُمُ النَّصْرَ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ مَنْ يَسْكُنُهَا مِنْ عِبَادِهِ فَقَالَ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «1» وَإِنَّ لِلَّهِ مَقَامًا هُوَ قَائِمُهُ، وَإِنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ خَافُوا ذَلِكَ الْمَقَامَ فَنَصَبُوا وَدَأَبُوا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَفْتَحُوا قَالَ: لِلرُّسُلِ كُلِّهَا يَقُولُ اسْتَنْصَرُوا، وَفِي قَوْلِهِ: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ قَالَ: مُعَانِدٌ لِلْحَقِّ مُجَانِبٌ لَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: اسْتَنْصَرَتِ الرُّسُلُ عَلَى قَوْمِهَا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يَقُولُ: عَنِيدٌ عَنِ الْحَقِّ مُعْرِضٌ عَنْهُ، أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: الْعَنِيدُ، النَّاكِبُ عَنِ الْحَقِّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ قَالَ: «يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا دَنَا مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ» . يَقُولُ اللَّهُ تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ «2» وَقَالَ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ «3» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ قَالَ: يَسِيلُ مِنْ جِلْدِ الْكَافِرِ وَلَحْمِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ هُوَ الْقَيْحُ وَالدَّمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ قَالَ: أَنْوَاعُ الْعَذَابِ، وَلَيْسَ مِنْهَا نَوْعٌ إِلَّا الْمَوْتُ يَأْتِيهِ مِنْهُ لَوْ كَانَ يَمُوتُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمُوتُ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا «4» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ميمون ابن مِهْرَانَ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ قَالَ: مِنْ كُلِّ عَظْمٍ وَعِرْقٍ وَعَصَبٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: مِنْ مَوْضِعِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِهِ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ قَالَ: الْخُلُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ قَالَ: حَبْسُ الْأَنْفَاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ الْآيَةَ قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ فَأَعْمَالُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ يَنْفَعُهُمْ، كَمَا لَا يُقْدَرُ عَلَى الرماد إذا أرسل في يوم عاصف. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 23] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)

_ (1) . الرحمن: 46. (2) . محمد: 15. (3) . الكهف: 29. (4) . فاطر: 36.

قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ الرُّؤْيَةُ هُنَا هِيَ الْقَلْبِيَّةُ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضًا لِأُمَّتِهِ، أَوِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يصلح له. وقرأ حمزة والكسائي: «خالق السموات» وَمَعْنَى بِالْحَقِّ: بِالْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَحِقُّ أَنْ يَخْلُقَهَا عَلَيْهِ لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَاسْتِغْنَاءَهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَقَالَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ فَيُعْدِمُ الْمَوْجُودِينَ وَيُوجِدُ الْمَعْدُومِينَ وَيُهْلِكُ الْعُصَاةَ وَيَأْتِي بِمَنْ يُطِيعُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْمَقَامُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَلْقُ الْجَدِيدُ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أَيْ: بِمُمْتَنِعٍ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى كل شيء، وفيه أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أَيْ: بِمُمْتَنِعٍ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يُرْجَى ثَوَابُهُ وَيُخَافَ عِقَابُهُ، فَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أَيْ: بَرَزُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْبُرُوزُ: الظُّهُورُ، وَالْبَرَازُ: الْمَكَانُ الْوَاسِعُ لِظُهُورِهِ، وَمِنْهُ امْرَأَةٌ بَرْزَةٌ، أَيْ: تَظْهَرُ لِلرِّجَالِ فَمَعْنَى بَرَزُوا ظَهَرُوا مِنْ قُبُورِهِمْ. وَعُبِّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَإِنَّمَا قَالَ: وَبَرَزُوا لِلَّهِ مَعَ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِهِمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ بَرَزُوا أَوْ لَمْ يَبْرُزُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ عَنِ الْعُيُونِ عِنْدَ فِعْلِهِمْ لِلْمَعَاصِي، وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَالْكَلَامُ خَارِجٌ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أَيْ: قَالَ الْأَتْبَاعُ الضُّعَفَاءُ لِلرُّؤَسَاءِ الْأَقْوِيَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الرِّيَاسَةِ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أَيْ: فِي الدُّنْيَا، فَكَذَّبْنَا الرُّسُلَ وَكَفَرْنَا بِاللَّهِ مُتَابَعَةً لَكُمْ، وَالتَّبَعُ: جَمْعُ تَابِعٍ، أَوْ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ ذَوِي تَبَعٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: جَمَعَهُمْ فِي حَشْرِهِمْ فَاجْتَمَعَ التَّابِعُ وَالْمَتْبُوعُ، فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ أَكَابِرِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا جَمْعُ تَابِعٍ مِثْلُ خَادِمٍ وَخَدَمٍ، وَحَارِسٍ وَحَرَسٍ، وَرَاصِدٍ وَرَصَدٍ فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا أي: أي دافعون عنا من عذاب الله من شيء، من الأولى للبيان، والثانية للتبعيض أي: بعض الشيء الذي هو عَذَابِ اللَّهِ يُقَالُ أَغْنَى عَنْهُ إِذَا دَفَعَ عَنْهُ الْأَذَى، وَأَغْنَاهُ إِذَا أَوْصَلَ إِلَيْهِ النَّفْعَ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ أَيْ: قَالَ الْمُسْتَكْبِرُونَ مُجِيبِينَ عَنْ قَوْلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ أَجَابُوا؟ أَيْ: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ لَهَدَيْنَاكُمْ إِلَيْهِ وَقِيلَ: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ لَهَدَيْنَاكُمْ إِلَيْهَا وَقِيلَ: لَوْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ لَنَجَّيْنَاكُمْ مِنْهُ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ أَيْ: مُسْتَوٍ عَلَيْنَا الْجَزَعُ وَالصَّبْرُ، وَالْهَمْزَةُ وَأَمْ لِتَأْكِيدِ التَّسْوِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ «1» . مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ أَيْ: مِنْ مَنْجًا وَمَهْرَبٍ مِنَ الْعَذَابِ، يُقَالُ: حَاصَ فُلَانٌ عَنْ كذا، أي: فرّ وزاغ يحيص حيصا

_ (1) . البقرة: 6.

وَحُيُوصًا وَحَيَصَانًا، وَالْمَعْنَى: مَا لَنَا وَجْهٌ نَتَبَاعَدُ بِهِ عَنِ النَّارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ: قَالَ لِلْفَرِيقَيْنِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَمَعْنَى لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: لَمَّا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَهُوَ وَعْدُهُ سُبْحَانَهُ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، وَمُجَازَاةِ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ أَيْ: وَعَدْتُكُمْ وَعْدًا بَاطِلًا، بِأَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ فَأَخْلَفْتُكُمْ مَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَعْدَ الْحَقِّ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْيَوْمِ الْحَقِّ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أَيْ: تَسَلُّطٍ عَلَيْكُمْ بِإِظْهَارِ حُجَّةٍ عَلَى مَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ وَزَيَّنْتُهُ لَكُمْ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أَيْ: إِلَّا مُجَرَّدُ دُعَائِي لَكُمْ إِلَى الْغَوَايَةِ وَالضَّلَالِ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَدَعْوَتُهُ إِيَّاهُمْ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ السُّلْطَانِ حَتَّى تُسْتَثْنَى مِنْهُ، بَلِ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، أَيْ: فَسَارَعْتُمْ إِلَى إِجَابَتِي وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ هُنَا الْقَهْرُ أَيْ: مَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ قَهْرٍ يَضْطَرُّكُمْ إِلَى إِجَابَتِي وَقِيلَ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ مِنْ بَابِ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ مُبَالَغَةً فِي نَفْيِهِ لِلسُّلْطَانِ عَنْ نَفْسِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا يَكُونُ لِيَ عَلَيْكُمْ سُلْطَانٌ إِذَا كَانَ مُجَرَّدُ الدُّعَاءِ مِنَ السُّلْطَانِ، وَلَيْسَ مِنْهُ قَطْعًا فَلا تَلُومُونِي بِمَا وَقَعْتُمْ فِيهِ بِسَبَبِ وَعْدِي لَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَإِخْلَافِي لِهَذَا الْمَوْعِدِ وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ بِاسْتِجَابَتِكُمْ لِي بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ الَّتِي لَا سُلْطَانَ عَلَيْهَا وَلَا حُجَّةَ، فَإِنَّ مَنْ قَبِلَ الْمَوَاعِيدَ الْبَاطِلَةَ وَالدَّعَاوَى الزَّائِغَةَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَعَلَى نَفْسِهِ جَنَى، وَلِمَارِنِهِ «1» قَطَعَ وَلَا سِيَّمَا وَدَعْوَتِي هَذِهِ الْبَاطِلَةُ وَمَوْعِدِي الْفَاسِدُ وَقَعَا مُعَارِضَيْنِ لِوَعْدِ اللَّهِ لَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَدَعْوَتِهِ لَكُمْ إِلَى الدَّارِ السَّلَامِ مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ وَلَا تَلْتَبِسُ إِلَّا عَلَى مَخْذُولٍ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَنْ يَقْتَدِي بِآرَاءِ الرِّجَالِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ولما سنّه رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَيُؤْثِرُهَا عَلَى مَا فِيهِمَا، فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لِلْبَاطِلِ الَّذِي لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ، وَتَرَكَ الْحُجَّةَ وَالْبُرْهَانَ خَلْفَ ظَهْرِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِالرِّجَالِ الْمُتَنَكِّبِينَ طَرِيقَ الْحَقِّ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمُ، اللَّهُمَّ غَفْرًا مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ يُقَالُ: صَرَخَ فُلَانٌ إِذَا اسْتَغَاثَ يَصْرُخُ صُرَاخًا وَصَرْخًا، وَاسْتَصْرَخَ بِمَعْنَى صَرَخَ، وَالْمُصْرِخُ: الْمُغِيثُ، وَالْمُسْتَصْرِخُ: الْمُسْتَغِيثُ، يُقَالُ: اسْتَصْرَخَنِي فَأَصْرَخْتُهُ، وَالصَّرِيخُ: صَوْتُ الْمُسْتَصْرِخِ، وَالصَّرِيخُ أَيْضًا: الصَّارِخُ وَهُوَ الْمُغِيثُ وَالْمُسْتَغِيثُ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الصَّارِخُ: الْمُسْتَغِيثُ، وَالْمُصْرِخُ: الْمُغِيثُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَا أَنَا بِمُغِيثِكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُغِيثِيَّ مِمَّا أَنَا فِيهِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لَهُمْ إِلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُبْتَلًى بِمَا ابْتُلُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يُغِيثُهُ وَيُخَلِّصُهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ، فَكَيْفَ يَطْمَعُونَ فِي إِغَاثَةِ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يُغِيثُهُ؟ وَمِمَّا وَرَدَ مَوْرِدَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ قول أمية بن أبي الصّلت:

_ (1) . المارن: الأنف، أو طرفه، أو ما لان منه ومن الرّمح.

فَلَا تَجْزَعُوا إِنِّي لَكُمْ غَيْرُ مُصْرِخٍ ... وَلَيْسَ لكم عندي غناء ولا نصر وَ «مُصْرِخِيَّ» بِفَتْحِ الْيَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ بِكَسْرِ الْيَاءِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَهْمٌ مِنْهُ، وَقَلَّ مَنْ سَلِمَ عَنْ خَطَأٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ قِرَاءَةٌ رَدِيئَةٌ وَلَا وَجْهَ لَهَا إِلَّا وَجْهٌ ضَعِيفٌ يَعْنِي مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ كَسَرَهَا عَلَى الْأَصْلِ فِي الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وقال قطرب: هذه لغة يَرْبُوعَ يَزِيدُونَ عَلَى يَاءِ الْإِضَافَةِ يَاءً، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ فِيمَا وَرَدَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلَ الشاعر «1» : قال لها هل لك يا تافيّ «2» ... قَالَتْ لَهُ مَا أَنْتَ بِالْمَرْضِيِّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ لَمَّا كَشَفَ لَهُمُ الْقِنَاعَ بِأَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا، وَلَا يَنْصُرُهُمْ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّصْرِ، صَرَّحَ لَهُمْ بِأَنَّهُ كَافِرٌ بِإِشْرَاكِهِمْ لَهُ مَعَ اللَّهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِيهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ جَعْلِهِ شَرِيكًا، وَلَقَدْ قَامَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَقَامًا يَقْصِمُ ظُهُورَهُمْ وَيَقْطَعُ قُلُوبَهُمْ، فَأَوْضَحَ لَهُمْ أَوَّلًا أَنَّ مَوَاعِيدَهُ الَّتِي كَانَ يَعِدُهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا بَاطِلَةٌ مُعَارِضَةٌ لِوَعْدِ الْحَقِّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَنَّهُ أَخْلَفَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاعِيدِ وَلَمْ يَفِ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا ثُمَّ أَوْضَحَ لَهُمْ ثَانِيًا بِأَنَّهُمْ قَبِلُوا قَوْلَهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْقَبُولَ، وَلَا يَنْفُقُ عَلَى عَقْلِ عَاقِلٍ لِعَدَمِ الْحُجَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْعَاقِلِ مِنْهَا فِي قَبُولِ قَوْلِ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَوْضَحَ ثَالِثًا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الدَّعْوَةِ الْعَاطِلَةِ عَنِ الْبُرْهَانِ الْخَالِيَةِ عَنْ أَيْسَرِ شَيْءٍ مِمَّا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْعُقَلَاءُ ثُمَّ نَعَى عَلَيْهِمْ رَابِعًا مَا وَقَعُوا فِيهِ، وَدَفَعَ لَوْمَهُمْ لَهُ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَلُومُوا أَنْفُسَهُمْ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَبِلُوا الْبَاطِلَ الْبَحْتَ الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ بُطْلَانُهُ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى عقل ثم وأضح لَهُمْ خَامِسًا بِأَنَّهُ لَا نَصْرَ عِنْدَهُ وَلَا إِغَاثَةَ وَلَا يَسْتَطِيعُ لَهُمْ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ ضُرًّا، بَلْ هُوَ مِثْلُهُمْ فِي الْوُقُوعِ فِي الْبَلِيَّةِ وَالْعَجْزِ عَنِ الْخُلُوصِ عَنْ هَذِهِ الْمِحْنَةِ ثُمَّ صَرَّحَ لَهُمْ سَادِسًا بِأَنَّهُ قَدْ كَفَرَ بِمَا اعْتَقَدُوهُ فِيهِ وَأَثْبَتُوهُ لَهُ فَتَضَاعَفَتْ عَلَيْهِمُ الْحَسَرَاتُ وَتَوَالَتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ، وَإِذَا كَانَ جُمْلَةُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَعْضُ فَهُوَ نَوْعٌ سَابِعٌ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي خَاطَبَهُمْ بِهِ، فَأَثْبَتَ لَهُمُ الظُّلْمَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ جَزَاؤُهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، لَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إلى أن ما مصدرية في بِما أَشْرَكْتُمُونِ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً عَلَى مَعْنَى إِنِّي كَفَرْتُ بِالَّذِي أَشْرَكْتُمُونِيهِ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكُونُ هَذَا حِكَايَةً لِكُفْرِهِ بِاللَّهِ عِنْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَمَّا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِحَالِ أَهْلِ النَّارِ أَخْبَرَ بِحَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «أُدْخِلَ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ «وَأَدْخَلَ» عَلَى الِاسْتِقْبَالِ وَالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ: وَأَنَا أُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خُلُودَهُمْ فِي الْجَنَّاتِ وَعَدَمَ انْقِطَاعِ نَعِيمِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، أَيْ: بِتَوْفِيقِهِ وَلُطْفِهِ وَهِدَايَتِهِ، هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ فيكون بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلقا بقوله:

_ (1) . هو الأغلب العجلي. [.....] (2) . في المطبوع: قُلْتُ لَهَا يَا تَاءُ هَلْ لَكِ فِيَّ. والمثبت من معاني القرآن للفراء (2/ 76) .

تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أَيْ: تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ فِي الْجَنَّةِ سَلَامٌ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ يُونُسَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ قَالَ: بِخَلْقٍ آخَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: فَقالَ الضُّعَفاءُ قَالَ: الْأَتْبَاعُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا قَالَ: لِلْقَادَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: جَزِعُوا مِائَةَ سَنَةٍ، وَصَبَرُوا مِائَةَ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن كعب ابن مَالِكٍ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْنا الْآيَةَ قَالَ: «يقول أهل النار هلمّوا فلنصبر، فيصبروا خَمْسَمِائَةِ عَامٍ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ قَالُوا: هَلُمُّوا فَلْنَجْزَعْ، فَبَكَوْا خَمْسَمِائَةِ عَامٍ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ قَالُوا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ» . الظاهر أَنَّ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ بَعْدَ دُخُولِهِمُ النَّارَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ- قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ يَرْفَعُهُ، وَذَكَرَ فيه حديث الشفاعة، ثم قال: «ويقول الكافرون عِنْدَ ذَلِكَ: قَدْ وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ، فَمَنْ يَشْفَعُ لَنَا؟ مَا هُوَ إِلَّا إِبْلِيسُ فَهُوَ الَّذِي أَضَلَّنَا، فَيَأْتُونَ إِبْلِيسَ فَيَقُولُونَ: قَدْ وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ قُمْ أَنْتَ فَاشْفَعْ لَنَا فَإِنَّكَ أَنْتَ أَضْلَلْتَنَا، فَيَقُومُ إِبْلِيسُ فَيَثُورُ مِنْ مَجْلِسِهِ مِنْ أَنْتَنِ رِيحٍ شَمَّهَا أَحَدٌ قَطُّ، ثُمَّ يَعِظُهُمْ بِجَهَنَّمَ، وَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ الْآيَةَ» . وَضَعَّفَ السُّيُوطِيُّ إِسْنَادَهُ، وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ كَوْنُ فِي إِسْنَادِهِ رِشْدِينَ بْنِ سعد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ عَنْ دخين الحجري عَنْ عُقْبَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَامَ إِبْلِيسُ خَطِيبًا عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ نَارٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ قَالَ: بِنَاصِرِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ قَالَ: بِطَاعَتِكُمْ إِيَّايَ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: خَطِيبَانِ يَقُومَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِبْلِيسُ، وَعِيسَى فَأَمَّا إِبْلِيسُ فَيَقُومُ فِي حِزْبِهِ فَيَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ وَأَمَّا عِيسَى فَيَقُولُ: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ قَالَ: مَا أَنَا بِنَافِعِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بنافعيّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ قال: شركه: عباده. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ قَالَ: مَا أَنَا بِمُغِيثِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ قَالَ: الملائكة يسلّمون عليهم في الجنّة.

_ (1) . غافر: 47 و 48. (2) . المائدة: 117.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 إلى 27]

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ (27) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَثَلَ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهَا كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَعِيمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا جَازَاهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ خَالِدِينَ فِيهَا، وَتَحِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ ذَكَرَ تَعَالَى هَاهُنَا مَثَلًا لِلْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، أَيْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَاتِ الْخَيْرِ، وَذَكَرَ مَثَلًا لِلْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ، وَهِيَ كَلِمَةُ الشِّرْكِ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَاتِ الشَّرِّ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مُخَاطِبًا لِمَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أَيِ: اخْتَارَ مَثَلًا وَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ اللَّائِقِ بِهِ، وَانْتِصَابُ مثلا على أنه مفعول ضرب، وكلمة بَدَلٌ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَنْتَصِبَ الْكَلِمَةُ عَلَى أنها عطف بيان لمثلا، وَيَجُوزُ أَنْ تَنْتَصِبَ الْكَلِمَةُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: جَعَلَ كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وَحَكَمَ بِأَنَّهَا مِثْلُهَا، وَمَحَلُّ كَشَجَرَةٍ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لكلمة، أَوِ الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هِيَ كَشَجَرَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةً أَوَّلَ مَفْعُولَيْ ضَرَبَ، وَأُخِّرَتْ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَهُوَ مَثَلًا لئلا تبعد عن صفتها، والأوّل أولى، وكلمة وَمَا بَعْدَهَا تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ، ثُمَّ وَصَفَ الشَّجَرَةَ بِقَوْلِهِ: أَصْلُها ثابِتٌ أَيْ: رَاسِخٌ آمِنٌ مِنَ الِانْقِلَاعِ بِسَبَبِ تَمَكُّنِهَا مِنَ الْأَرْضِ بِعُرُوقِهَا وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أَيْ: أَعْلَاهَا ذَاهِبٌ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ مُرْتَفِعٌ فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ وَصَفَهَا سُبْحَانَهُ بِأَنَّهَا تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ كُلَّ وَقْتٍ بِإِذْنِ رَبِّها بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، قِيلَ: وَهِيَ النَّخْلَةُ، وَقِيلَ: غَيْرُهَا. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ أَيْ: كُلَّ سَاعَةٍ مِنَ السَّاعَاتِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ شِتَاءٍ وَصَيْفٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَقِيلَ: كُلَّ غُدْوَةٍ وَعَشِيَّةٍ، وَقِيلَ: كُلَّ شَهْرٍ، وَقِيلَ: كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الأقوال متقاربة غير متناقضة لأن الحين عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ بِمَعْنَى الْوَقْتِ يَقَعُ لِقَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ، وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ قَوْلَ النَّابِغَةِ: ................ تُطَلِّقُهُ حِينًا وَحِينًا تُرَاجِعُ «1» قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الْحِينَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ. وَقَدْ وَرَدَ الْحِينُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يُرَادُ بِهِ أَكْثَرُ كَقَوْلِهِ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ «2» . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْحِينِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «3» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحِينُ الْوَقْتُ طَالَ أَمْ قَصُرَ

_ (1) . صدر البيت: تناذرها الرّاقون من سوء سمّها. «تناذرها» : أي أنذر بعضهم بعضا ألا يتعرضوا لها. «تطلقه حينا وحينا تراجع» : أي أنها تخفى الأوجاع عن السليم تارة، وتارة تشتدّ عليه. (2) . الإنسان: 1. (3) . البقرة: 36.

وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يَتَفَكَّرُونَ أَحْوَالَ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَبَدَائِعَ صُنْعِهِ سُبْحَانَهُ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَفِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ زِيَادَةُ تَذْكِيرٍ وَتَفْهِيمٍ وَتَصْوِيرٍ لِلْمَعَانِي وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَقِيلَ: هِيَ الْكَافِرُ نَفْسُهُ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ: الْمُؤْمِنُ نَفْسُهُ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ أَيْ: كَمَثَلِ شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ، قِيلَ: هِيَ شَجَرَةُ الْحَنْظَلِ، وَقِيلَ: هِيَ شَجَرَةُ الثَّوْمِ، وَقِيلَ: الْكَمْأَةُ، وَقِيلَ: الطُّحْلُبَةُ، وَقِيلَ: هِيَ الْكُشُوثُ بِالضَّمِّ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ، وَهِيَ شَجَرَةٌ لَا وَرَقَ لَهَا وَلَا عُرُوقَ في الأرض. قال الشاعر: وهم كشوث فلا أصل ولا ورق «1» ............... .. وَقُرِئَ «وَمَثَلًا كَلِمَةً» بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى «كَلِمَةً طَيِّبَةً» اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ أَيِ: اسْتُؤْصِلَتْ وَاقْتُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: هُوَ الجلاء الذي يجتثّ أصلكم «2» ............... .. قال المؤرج: أُخِذَتْ جُثَّتُهَا وَهِيَ نَفْسُهَا، وَالْجُثَّةُ: شَخْصُ الْإِنْسَانِ، يُقَالُ جَثَّهُ: قَلَعَهُ، وَاجْتَثَّهُ: اقْتَلَعَهُ، وَمَعْنَى مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ رَاسِخٌ وَعُرُوقٌ مُتَمَكِّنَةٌ مِنَ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ أَيْ: مِنِ اسْتِقْرَارٍ عَلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مِنْ ثَبَاتٍ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ وَكَلِمَتَهُ لَا حُجَّةَ لَهُ وَلَا ثَبَاتَ فِيهِ وَلَا خَيْرَ يَأْتِي مِنْهُ أَصْلًا، وَلَا يَصْعَدُ لَهُ قَوْلٌ طَيِّبٌ وَلَا عَمَلٌ طَيِّبٌ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أَيْ: بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ «شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» ، وَذَلِكَ إِذَا قَعَدَ الْمُؤْمِنُ فِي قبره قال النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَقِيلَ: مَعْنَى تَثْبِيتِ اللَّهِ لَهُمْ هُوَ أَنْ يَدُومُوا عَلَى الْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: يُثَبِّتُ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسَى ونصرا كالذي نصرا وَمَعْنَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَنَّهُمْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَبْرُ لِأَنَّ الْمَوْتَى فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُبْعَثُوا، وَمَعْنَى وَفِي الْآخِرَةِ وقت الحساب. وقيل: المراد بالحياة الدُّنْيَا: وَقْتُ الْمُسَاءَلَةِ فِي الْقَبْرِ، وَفِي الْآخِرَةِ: وَقْتِ الْمُسَاءَلَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ إِذَا سُئِلُوا عَنْ مُعْتَقَدِهِمْ وَدِينِهِمْ أَوْضَحُوا ذَلِكَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ مَنْ دُونِ تَلَعْثُمٍ وَلَا تَرَدُّدٍ وَلَا جَهْلٍ، كَمَا يَقُولُ مَنْ لَمْ يُوَفَّقْ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أَيْ: يُضِلُّهُمْ عَنْ حُجَّتِهِمُ الَّتِي هِيَ الْقَوْلُ الثَّابِتُ، فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِهَا فِي قُبُورِهِمْ وَلَا عِنْدَ الْحِسَابِ، كَمَا أَضَلَّهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا. قيل:

_ (1) . في المطبوع: وهي كشوث فلا أصل ولا ثمر. وتمامه: ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر. (2) . وتمامه: فمن رأى مثل ذا يوما ومن سمعا. والشاعر: لقيط الإيادي.

وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ هُنَا الْكَفَرَةُ، وَقِيلَ: كُلُّ مِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَوْ بِمُجَرَّدِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَةِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي مَوَاقِفِ الْفِتَنِ وَلَا يَهْتَدِي إِلَى الْحَقِّ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنَ التَّثْبِيتِ وَالْخِذْلَانِ لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: لَا تُنْكَرُ لَهُ قُدْرَةٌ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَالْإِظْهَارُ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ كَمَا قِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً قَالَ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ أَصْلُها ثابِتٌ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا إِلَّا اللَّهُ ثَابِتٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ يَقُولُ: يُرْفَعُ بِهَا عَمَلُ الْمُؤْمِنِ إِلَى السَّمَاءِ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وَهِيَ الشِّرْكُ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ يَعْنِي الْكَافِرَ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ يَقُولُ: الشِّرْكُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَأْخُذُ بِهِ الْكَافِرُ وَلَا بُرْهَانٌ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلًا. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [بقناع] «1» بسر فقال: «ومثل كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» حَتَّى بَلَغَ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ حَتَّى بَلَغَ مَا لَها مِنْ قَرارٍ قَالَ: هِيَ الْحَنْظَلَةُ» . وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى أَنَسٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ: قَالَ: هِيَ الَّتِي لَا يَنْقُصُ وَرَقُهَا قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: «إِنَّ شَجَرَةً مِنَ الشَّجَرِ لَا يَطَّرِحُ وَرَقُهَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، قَالَ: فَوَقَعَ الناس في شجر الْبَوَادِي، وَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ النَّخْلَةُ» وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: «أَخْبِرُونِي عَنْ شَجَرَةٍ كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ لَا يَتَحَاتُّ ورقها ولا، ولا، ولا «2» ، وتؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ» . وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا الشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ؟، ثُمَّ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ» . وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها قَالَ: كُلَّ سَاعَةٍ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَذَلِكَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ يُطِيعُ رَبَّهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَكُونُ أَخْضَرَ ثُمَّ يَكُونُ أَصْفَرَ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: كُلَّ حِينٍ قَالَ: جُذَاذُ النَّخْلِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ قَالَ: تُطْعِمُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْحِينُ هُنَا سَنَةٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْحِينُ قَدْ يَكُونُ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً. وقد

_ (1) . من مسند أبي يعلى (4165) والترمذي (3119) . والقناع: هو الطبق الذي يؤكل عليه. (2) . كذا ذكر النفي ثلاث مرات على طريق الاكتفاء. فقيل في تفسيره: ولا ينقطع ثمرها ولا يعدم فيؤها ولا يبطل نفعها [فتح الباري 1/ 146] .

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 إلى 34]

رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ فِي هَذَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ البراء ابن عَازِبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلِهِ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ قَالَ: التَّثْبِيتُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِذَا جَاءَ الْمَلَكَانِ إِلَى الرَّجُلِ فِي الْقَبْرِ فَقَالَا: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: رَبِّيَ اللَّهُ، قَالَ: وَمَا دِينُكَ؟ قَالَ: دِينِي الْإِسْلَامُ، قَالَ: وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ قَالَ: نَبِيِّي مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ التَّثْبِيتُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: فِي الْآخِرَةِ الْقَبْرِ. وَأَخْرَجَ ابن مردويه عن عائشة قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ قَالَ: هَذَا فِي الْقَبْرِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِهَا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُبْتَلَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي قُبُورِهَا، فَكَيْفَ بِي وَأَنَا امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ؟ قَالَ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ» . وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي سُؤَالِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ، وَفِي جَوَابِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِي عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 34] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ هَذَا خِطَابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَهُوَ تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِ الْكُفَّارِ حَيْثُ جَعَلُوا بَدَلَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الْكُفْرَ، أَيْ: بَدَلَ شُكْرِهَا الْكُفْرَ بِهَا، وَذَلِكَ بِتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ قَاتَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَطْنَيْنِ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ بَنِي مَخْزُومٍ وَبَنِي أُمَيَّةَ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ، وَهُمْ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ وَأَصْحَابُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ جَبَلَةَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يُسْلِمُوا إِلَّا فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقِيلَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِتَبْدِيلِ نِعْمَةِ اللَّهِ كُفْرًا أَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوهَا سَلَبَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ فَصَارُوا مُتَبَدِّلِينَ بِهَا الْكُفْرَ وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ أَيْ: أَنْزَلُوا قَوْمَهُمْ بِسَبَبِ مَا زَيَّنُوهُ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ دَارَ الْبَوَارِ، وَهِيَ جَهَنَّمُ، وَالْبَوَارُ: الْهَلَاكُ وَقِيلَ: هُمْ

قَادَةُ قُرَيْشٍ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ دَارَ الْبَوَارِ أَيِ: الْهَلَاكِ، وَهُوَ الْقَتْلُ الَّذِي أُصِيبُوا بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُمْ أَبْطَالَ حَرْبٍ ... غَدَاةَ الْحَرْبِ إِذْ خِيفَ الْبَوَارُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: جَهَنَّمَ فَإِنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ لدار البوار، ويَصْلَوْنَها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ هُوَ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ حُلُولِهِمْ فِيهَا وَبِئْسَ الْقَرارُ أَيْ: بِئْسَ الْقَرَارُ قَرَارُهُمْ فِيهَا، أَوْ بِئْسَ الْمَقَرُّ جَهَنَّمُ، فَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً مَعْطُوفٌ عَلَى وَأَحَلُّوا أَيْ: جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، أَوْ فِي التَّسْمِيَةِ وَهِيَ الْأَصْنَامُ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لِيُضِلُّوا بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ: لِيَضِلُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَكُونُ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ أَيْ: لِيَتَعَقَّبَ جَعْلَهُمْ لِلَّهِ أَنْدَادًا ضَلَالُهُمْ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُرِيدُ ضَلَالَ نَفْسِهِ، وَحَسُنَ اسْتِعْمَالُ لَامِ الْعَاقِبَةِ هُنَا لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْغَرَضَ وَالْغَايَةَ مِنْ جِهَةِ حُصُولِهَا فِي آخِرِ الْمَرَاتِبِ، وَالْمُشَابَهَةُ أَحَدُ الْأُمُورِ الْمُصَحِّحَةِ لِلْمَجَازِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ لِيُوقِعُوا قَوْمَهُمْ فِي الضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الْغَرَضُ مِنْ جَعْلِهِمْ لِلَّهِ أَنْدَادًا. ثُمَّ هَدَّدَهُمْ سبحانه، فقال لنبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: قُلْ تَمَتَّعُوا بِمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَمَا زَيَّنَتْهُ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ مِنْ كُفْرَانِ النِّعَمِ وَإِضْلَالِ النَّاسِ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ أَيْ: مَرَدُّكُمْ وَمَرْجِعُكُمْ إِلَيْهَا لَيْسَ إِلَّا، وَلَمَّا كَانَ هَذَا حَالَهُمْ، وَقَدْ صَارُوا لِفَرْطِ تَهَالُكِهِمْ عَلَيْهِ وَانْهِمَاكِهِمْ فِيهِ لَا يُقْلِعُونَ عَنْهُ، وَلَا يَقْبَلُونَ فِيهِ نُصْحَ النَّاصِحِينَ جُعِلَ الْأَمْرُ بِمُبَاشَرَتِهِ مكان النهي عن قُرْبَانِهِ إِيضَاحًا لِمَا تَكُونُ عَلَيْهِ عَاقِبَتُهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا مَحَالَةَ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ ذَلِكَ، فَجُمْلَةُ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّمَتُّعِ، وَفِيهِ مِنَ التَّهْدِيدِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدَرُهٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابًا لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنْ دُمْتُمْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالنَّظْمُ الْقُرْآنِيِّ عَلَيْهِ أَدَلُّ، وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يَسْعَى فِي مُخَالَفَةِ السُّلْطَانِ: اصْنَعْ مَا شِئْتَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فَإِنَّ مَصِيرَكَ إِلَى السَّيْفِ قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً لَمَّا أَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُبَدِّلِينَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، الْجَاعِلِينَ لِلَّهِ أَنْدَادًا، مَا قَالَهُ لَهُمْ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَ لِلطَّائِفَةِ الْمُقَابِلَةِ لَهُمْ، وَهِيَ طَائِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْقَوْلَ، وَالْمَقُولُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ أَيْ: قُلْ لِعِبَادِي أَقِيمُوا وَأَنْفِقُوا وَيُقِيمُوا وَيُنْفِقُوا، فَجَزَمَ يُقِيمُوا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ الْمَحْذُوفِ، وَكَذَلِكَ يُنْفِقُوا، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ يُقِيمُوا مَجْزُومٌ بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: لِيُقِيمُوا فَأُسْقِطَتِ اللَّامُ، ثُمَّ ذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ لِلْجَزْمِ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ: وَانْتِصَابُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، إِمَّا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُسِرِّينَ وَمُعْلِنِينَ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: إِنْفَاقَ سِرٍّ وَإِنْفَاقَ عَلَانِيَةٍ، أَوْ عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ: وَقْتَ سِرٍّ وَوَقْتَ عَلَانِيَةٍ. قَالَ الْجُمْهُورُ: السِّرُّ مَا خَفِيَ، وَالْعَلَانِيَةُ مَا ظَهَرَ. وَقِيلَ: السِّرُّ التَّطَوُّعُ، وَالْعَلَانِيَةُ الْفَرْضُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ «1» . مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْبَيْعُ هَاهُنَا الْفِدَاءُ، وَالْخِلَالُ الْمُخَالَّةُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ خُلَّةٍ مِثْلَ بُرْمَةِ وَبِرَامٍ، وَعُلْبَةِ وَعِلَابٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا بَيْعَ فِيهِ حَتَّى يَفْتَدِيَ الْمُقَصِّرُ فِي الْعَمَلِ نَفْسَهُ مِنْ عَذَابِ الله بدفع عوض عن ذلك،

_ (1) . البقرة: 271.

وَلَيْسَ هُنَاكَ مُخَالَلَةٌ حَتَّى يَشْفَعَ الْخَلِيلُ لِخَلِيلِهِ وَيُنْقِذَهُ مِنَ الْعَذَابِ، فَأَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مَا دَامُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَادِرِينَ عَلَى إِنْفَاقِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ بَلْ لَا مَالَ لَهُمْ إِذْ ذَاكَ، فَالْجُمْلَةُ أَعْنِي مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا أَيْضًا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ الْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَهَا كَثِيرًا مَا يَكُونُ بِسَبَبِ الِاشْتِغَالِ بِالْبَيْعِ وَرِعَايَةِ حُقُوقِ الْأَخِلَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ تَفْسِيرُ الْبَيْعِ وَالْخِلَالِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَيْ: أَبْدَعَهُمَا وَاخْتَرَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ وَخَلَقَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَالِاسْمُ الشَّرِيفُ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ هُنَا جِهَةُ الْعُلُوِّ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْفَلَكُ عِنْدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ ابْتِدَاءَ الْمَطَرِ مِنْهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ السَّحَابُ عِنْدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ ابْتِدَاءَ الْمَطَرِ مِنْهَا، وَتَدْخُلُ فِيهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تُثِيرُ السَّحَابَ كَالرِّيَاحِ، وَتَنْكِيرُ الْمَاءِ هُنَا لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ: نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَاءِ، وَهُوَ مَاءُ الْمَطَرِ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ أَيْ: أَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ مِنَ الثَّمَرَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ رِزْقًا لِبَنِي آدَمَ يَعِيشُونَ بِهِ، وِ «مِنْ» فِي مِنَ الثَّمَراتِ لِلْبَيَانِ كَقَوْلِكَ: أَنْفَقْتُ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَقِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الثَّمَرَاتِ مِنْهَا مَا هُوَ رِزْقٌ لِبَنِي آدَمَ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِرِزْقٍ لَهُمْ، وَهُوَ مَا لَا يَأْكُلُونَهُ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ فَجَرَتْ عَلَى إِرَادَتِكُمْ وَاسْتَعْمَلْتُمُوهَا فِي مَصَالِحِكُمْ، وَلِذَا قَالَ: لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ كَمَا تُرِيدُونَ وَعَلَى مَا تَطْلُبُونَ بِأَمْرِهِ أَيْ: بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ أَيْ: ذَلَّلَهَا لَكُمْ بِالرُّكُوبِ عَلَيْهَا وَالْإِجْرَاءِ لَهَا إِلَى حَيْثُ تُرِيدُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِتَنْتَفِعُوا بِهِمَا وتستضيئوا بضوئهما، وانتصاب دائِبَيْنِ على الحال، والدؤوب: مُرُورُ الشَّيْءِ فِي الْعَمَلِ عَلَى عَادَةٍ جَارِيَةٍ، أَيْ دَائِبَيْنِ فِي إِصْلَاحِ مَا يُصْلِحَانِهِ مِنَ النَّبَاتِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ: دَائِبَيْنِ فِي السَّيْرِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى: يَجْرِيَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَفْتُرَانِ وَلَا يَنْقَطِعُ سَيْرُهُمَا وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يَتَعَاقَبَانِ، فَالنَّهَارُ لِسَعْيِكُمْ فِي أُمُورِ مَعَاشِكُمْ وَمَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاكُمْ، وَاللَّيْلُ لِتَسْكُنُوا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ «1» . وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ قَالَ الْأَخْفَشُ: أي أعطاكم من كلّ مسؤول سَأَلْتُمُوهُ شَيْئًا فَحُذِفَ شَيْئًا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَمِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَسْأَلُوهُ، فَحُذِفَتِ الْجُمْلَةَ الْأُخْرَى قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ، أَيْ: آتَاكُمْ كُلَّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَقِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: آتَاكُمْ بَعْضَ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ «مِنْ كُلٍّ» بِتَنْوِينِ كُلٍّ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» نَافِيَةً، أَيْ: آتَاكُمْ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ حَالَ كَوْنِكُمْ غَيْرَ سَائِلِينَ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، أَيْ: آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها أَيْ: وَإِنْ تَتَعَرَّضُوا لِتَعْدَادِ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ إِجْمَالًا فَضْلًا عَنِ التَّفْصِيلِ لَا تُطِيقُوا إِحْصَاءَهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا تَقُومُوا بِحَصْرِهَا عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَأَصْلُ الْإِحْصَاءِ أَنَّ الْحَاسِبَ إِذَا بَلَغَ عَقْدًا مُعَيَّنًا مِنْ عُقُودِ الْأَعْدَادِ وَضَعَ حَصَاةً لِيَحْفَظَهُ بِهَا، وَمَعْلُومٌ أنه لو رام فرد

_ (1) . القصص: 73.

مِنْ أَفْرَادِ الْعِبَادِ أَنْ يُحْصِيَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ فِي خَلْقِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، أَوْ حَاسَّةٍ مِنْ حَوَاسِّهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ قَطُّ وَلَا أَمْكَنَهُ أَصْلًا، فَكَيْفَ بِمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي بَدَنِهِ، فَكَيْفَ بِمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى تَنَوُّعِهَا وَاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا. اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُرُكَ عَلَى كُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيْنَا مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْتَ، وَمِمَّا عَلِمْنَاهُ شُكْرًا لَا يُحِيطُ بِهِ حَصْرٌ وَلَا يَحْصُرُهُ عَدٌّ، وَعَدَدَ مَا شَكَرَكَ الشَّاكِرُونَ بِكُلِّ لِسَانٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ لِنَفْسِهِ بِإِغْفَالِهِ لِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُهُ شُمُولُ كُلِّ إِنْسَانٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ اسْمُ جِنْسٍ يُقْصَدُ بِهِ الْكَافِرُ خَاصَّةً كَمَا قال إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «1» كَفَّارٌ أَيْ شَدِيدُ كُفْرَانِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، جَاحِدٌ لَهَا، غَيْرُ شَاكِرٍ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهَا كَمَا يَنْبَغِي وَيَجِبُ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً قَالَ: هُمْ كُفَّارُ أَهْلِ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً قَالَ: هُمَا الْأَفْجَرَانِ مِنْ قُرَيْشٍ: بَنُو الْمُغِيرَةِ، وَبَنُو أُمَيَّةَ فَأَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ فَكُفِيتُمُوهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ عَلِيٍّ فِي الْآيَةِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُبَيِّ الطُّفَيْلِ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَ عَلِيًّا عَنِ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا قَالَ: هُمُ الْفُجَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ كُفِيتُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ: فَمَنِ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟ قَالَ: مِنْهُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طُرُقٍ نَحْوُ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ مِنَ الْعَرَبِ فَلَحِقُوا بِالرُّومِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ قَالَ: الْهَلَاكِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً قَالَ: أَشْرَكُوا بِاللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ قَالَ: بِكُلِّ فَائِدَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ قَالَ: دؤوبهما فِي طَاعَةَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عِكْرِمَةَ وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ قَالَ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ رَغِبْتُمْ إِلَيْهِ فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: مِنْ كُلِّ الَّذِي سَأَلْتُمُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَى الْعِبَادِ عَلَى قَدَرِهِ، وَكَلَّفَهُمُ الشُّكْرَ عَلَى قَدَرِهِمْ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ قَدْرَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَغَمِّضْ عَيْنَيْكَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَنْ لَمْ يَعْرِفْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَّا فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ، فَقَدْ قَلَّ عَمَلُهُ وَحَضَرَ عَذَابُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْقُرَشِيِّ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ قَالَ: قَالَ داود عليه السلام:

_ (1) . العصر: 2.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 إلى 41]

رَبِّ أَخْبِرْنِي مَا أَدْنَى نِعْمَتِكَ عَلَيَّ؟ فَأَوْحَى إِلَيَّ: يَا دَاوُدُ تَنَفَّسَ فَتَنَفَّسَ، فَقَالَ: هَذَا أَدْنَى نِعْمَتِي عَلَيْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ظُلْمِي وَكُفْرِي، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الظُّلْمُ، فَمَا بَالُ الْكُفْرِ؟ قال: إن الإنسان لظلوم كفّار. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) قَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيِ: اذْكُرْ وَقْتَ قَوْلِهِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِسِيَاقِ مَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَيَانُ كُفْرِ قُرَيْشٍ بِالنِّعَمِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، وَهِيَ إِسْكَانُهُمْ مَكَّةَ بَعْدَ مَا بَيَّنَ كُفْرَهُمْ بِالنِّعَمِ الْعَامَّةِ وَقِيلَ: إِنَّ ذِكْرَ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ هَاهُنَا لِمِثَالِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَقِيلَ: لِقَصْدِ الدُّعَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَإِنْكَارِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً الْمُرَادُ بِالْبَلَدِ هُنَا مَكَّةُ دَعَا إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَهُ آمِنًا، أَيْ: ذَا أَمْنٍ، وَقَدَّمَ طَلَبَ الْأَمْنِ عَلَى سَائِرِ الْمَطَالِبِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى الْأَمْنُ لَمْ يَفْرَغِ الْإِنْسَانُ لِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً «1» ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُنَا وَمَا هُنَالِكَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَا مُجَرَّدُ الْأَمْنِ لِلْبَلَدِ، وَالْمَطْلُوبَ هُنَالِكَ الْبَلَدِيَّةُ وَالْأَمْنُ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، يُقَالُ: جَنَّبْتُهُ كَذَا وَأَجْنَبْتُهُ وَجَنَّبْتُهُ أَيْ: بَاعَدْتُهُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: بَاعِدْنِي، وَبَاعِدْ بَنِيَّ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ قِيلَ: أَرَادَ بَنِيهِ مِنْ صُلْبِهُ وَكَانُوا ثَمَانِيَةً، وَقِيلَ: أَرَادَ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ دَعْوَتِهِ مِنْ بَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ مَا تَنَاسَلُوا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَعْبُدْ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ صَنَمًا، وَالصَّنَمُ: هُوَ التِّمْثَالُ الَّذِي كَانَتْ تَصْنَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْأَحْجَارِ وَنَحْوِهَا فَيَعْبُدُونَهُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «وَأَجْنِبْنِي» بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ، عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ أَجْنَبَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أَسْنَدَ الْإِضْلَالَ إِلَى الْأَصْنَامِ مَعَ كَوْنِهَا جَمَادَاتٍ لَا تَعْقِلُ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِضَلَالِهِمْ فَكَأَنَّهَا أَضَلَّتْهُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِدُعَائِهِ لِرَبِّهِ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ تَبِعَنِي أَيْ: مَنْ تَبِعَ دِينِي مِنَ النَّاسِ فَصَارَ مُسْلِمًا مُوَحِّدًا فَإِنَّهُ مِنِّي أَيْ: مِنْ أَهْلِ دِينِي: جَعَلَ أَهْلَ مِلَّتِهِ كَنَفْسِهِ مُبَالَغَةً وَمَنْ عَصانِي فَلَمْ يُتَابِعْنِي وَيَدْخُلْ فِي مِلَّتِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لَهُ، وقيل: قَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لا يغفر أن يشرك

_ (1) . البقرة: 126. [.....]

بِهِ كَمَا وَقَعَ مِنْهُ الِاسْتِغْفَارُ لِأَبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَقِيلَ: الْمُرَادُ عِصْيَانُهُ هُنَا فِيمَا دُونَ الشِّرْكِ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ مُقَيَّدَةٌ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ، ثُمَّ قَالَ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ الفراء: لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: بَعْضِ ذُرِّيَّتِي. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ، أَيْ: أَسْكَنْتُ ذُرِّيَّتِي، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَسْكَنَ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ بَعْضُ وَلَدِهِ بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أَيْ: لَا زَرْعَ فِيهِ، وَهُوَ وَادِي مَكَّةَ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ أَيِ: الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ مَا يُسْتَبَاحُ فِي غَيْرِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْجَبَابِرَةِ، وَقِيلَ: مُحَرَّمٌ مِنْ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَتُهُ، أَوْ يُسْتَخَفَّ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ، ثُمَّ قَالَ: رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ اللام متعلقة بأسكنت أَيْ: أَسْكَنْتُهُمْ لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فِيهِ، مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ، مُتَبَرِّكِينَ بِهِ، وَخَصَّهَا دُونَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لِمَزِيدِ فَضْلِهَا، وَلَعَلَّ تَكْرِيرَ النِّدَاءِ لِإِظْهَارِ الْعِنَايَةِ الْكَامِلَةِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ الْأَفْئِدَةُ: جَمْعُ فُؤَادٍ، وَهُوَ الْقَلْبُ، عُبِّرَ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ عُضْوٍ فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ وَفْدٍ وَالْأَصْلُ أَوْفِدَةٌ فَقُدِّمَتِ الْفَاءُ، وَقْلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَجَعَلَ وُفُودًا مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَ «مِنْ» فِي مِنَ النَّاسِ لِلتَّبْعِيضِ وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَحُجَّ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِدُخُولِهِمْ تَحْتَ لَفْظِ النَّاسِ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ تَوْجِيهُ قُلُوبِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ لِلسُّكُونِ مَعَهُمْ وَالْجَلْبِ إِلَيْهِمْ لَا تَوْجِيهُهَا إِلَى الْحَجِّ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مرادا لقال لتهوي إِلَيْهِ وَقِيلَ: مِنْ لِلِابْتِدَاءِ، كَقَوْلِكَ: الْقَلْبُ مِنِّي سَقِيمٌ، يُرِيدُ قَلْبِي، وَمَعْنَى تَهْوِي إِلَيْهِمْ: تَنْزِعُ إليهم، يقال: هوى نحوه إذا مال، وهو النَّاقَةُ تَهْوِي هَوْيًا فَهِيَ هَاوِيَةٌ إِذَا عَدَتْ عَدْوًا شَدِيدًا كَأَنَّهَا تَهْوِي فِي بِئْرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تَجِيءُ إِلَيْهِمْ أَوْ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ أَيِ: ارْزُقْ ذُرِّيَّتِي الَّذِينَ أَسْكَنْتَهُمْ هُنَالِكَ أَوْ هُمْ وَمَنْ يُسَاكِنُهُمْ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ الَّتِي تَنْبُتُ فِيهِ، أَوْ تُجْلَبُ إِلَيْهِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ نِعَمَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيْهِمْ رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ أَيْ: مَا نَكْتُمُهُ وَمَا نُظْهِرُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَالْمُضْمَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ سِيَّانِ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ هُنَا بما نُخْفِي مَا يُقَابِلُ مَا نُعْلِنُ، فَالْمَعْنَى مَا نُظْهِرُهُ وَمَا لَا نُظْهِرُهُ، وَقَدَّمَ مَا نُخْفِي عَلَى مَا نُعْلِنُ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ عُمُومُ كُلِّ مَا لَا يَظْهَرُ وَمَا يَظْهَرُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَا يُخْفِيهِ إِبْرَاهِيمُ مِنْ وَجْدِهِ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ حَيْثُ أَسْكَنَهُمَا بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَمَا يُعْلِنُهُ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ: مَا يُخْفِيهِ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْوَجْدِ وَيُعْلِنُهُ مِنَ الْبُكَاءِ وَالدُّعَاءِ، وَالْمَجِيءُ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُرِدْ نَفْسَهُ فَقَطْ، بَلْ أَرَادَ جَمِيعَ الْعِبَادِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ بِكُلِّ مَا يُظْهِرُهُ الْعِبَادُ وَبِكُلِّ مَا لَا يُظْهِرُونَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَصْدِيقًا لِمَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ بِمَا يُخْفِيهِ الْعِبَادُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَإِنَّمَا ذكر السموات وَالْأَرْضَ لِأَنَّهَا الْمُشَاهَدَةُ لِلْعِبَادِ، وَإِلَّا فَعِلْمُهُ سُبْحَانَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي الْعَالَمِ، وَكُلِّ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَتَعْمِيمًا بَعْدَ التَّخْصِيصِ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى بَعْضِ نِعَمِهِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ

إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ أَيْ: وَهَبَ لِي عَلَى كِبَرِ سنّي وسنّ امرأتي، وقيل: وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ واثنتي عشرة سنة، قيل: و «على» هنا بمعنى مع، أي: وهو لِي مَعَ كِبَرِي وَيَأْسِي عَنِ الْوَلَدِ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أَيْ: لَمُجِيبُ الدُّعَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ سَمِعَ كَلَامَهُ إِذَا أَجَابَهُ وَاعْتَدَّ بِهِ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْمُبَالَغَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ لَكَثِيرُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ لِمَنْ يَدْعُوكَ. ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُقِيمَ الصَّلَاةِ، مُحَافِظًا عَلَيْهَا، غَيْرَ مُهْمِلٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أَيْ: بَعْضَ ذُرِّيَّتِي أَيِ: اجْعَلْنِي وَاجْعَلْ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي مُقِيمِينَ لِلصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْبَعْضَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ مِنْهُمْ مِنْ لَا يُقِيمُهَا كَمَا يَنْبَغِي. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ: اجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي مَنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنَّ يَتَقَبَّلَ دُعَاءَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ دُعَاؤُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ هُنَا الْعِبَادَةُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَتَقَبَّلْ عِبَادَتِي الَّتِي أَعْبُدُكَ بِهَا، ثُمَّ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِمَّا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَغْفِرَهُ اللَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَبِيرًا لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الْكَبَائِرِ. ثُمَّ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَغْفِرَ لِوَالِدَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ دَعَا لَهُمَا بِالْمَغْفِرَةِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمَا عَدُوَّانِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «1» . وَقِيلَ: كَانَتْ أُمُّهُ مَسْلِمَةً، وَقِيلَ: أَرَادَ بِوَالِدَيْهِ آدَمَ وَحَوَّاءَ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «وَلِوَالِدِي» بِالتَّوْحِيدِ عَلَى إِرَادَةِ الْأَبِ وَحْدَهُ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ «وَلِوَلَدِي» يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَكَذَا قَرَأَ يحيى ابن يَعْمُرَ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَظَاهِرُهُ شُمُولُ كُلِّ مُؤْمِنٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَقَطْ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أَيْ: يَوْمَ يَثْبُتُ حِسَابُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْمَحْشَرِ، اسْتُعِيرَ لَهُ لَفْظُ يَقُومُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَتُهُ فِي قِيَامِ الرَّجُلِ لدلالة عَلَى أَنَّهُ فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِلْحِسَابِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ الْآيَةَ قَالَ: فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ دَعْوَتَهُ فِي وَلَدِهِ، فَلَمْ يَعْبُدْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ صَنَمًا بَعْدَ دَعْوَتِهِ، وَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَجَعَلَ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا، وَرَزَقَ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ، وَجَعَلَهُ إِمَامًا، وَجَعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتَقَبَّلَ دُعَاءَهُ فَأَرَاهُ مَنَاسِكَهُ وَتَابَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي «الدَّلَائِلِ» عَنْ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَاهُ السِّتَّةُ النَّفَرِ مِنَ الْأَنْصَارِ جَلَسَ إِلَيْهِمْ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ وَالْمُؤَازَرَةِ عَلَى دِينِهِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِمْ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَقَرَأَ مِنْ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَرَقَّ الْقَوْمُ وَأَخْبَتُوا حِينَ سَمِعُوا مِنْهُ مَا سَمِعُوا وَأَجَابُوهُ. وأخرج الواقدي وابن عساكر عن طريق عامر ابن سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ سَارَةُ تَحْتَ إِبْرَاهِيمَ، فَمَكَثَتْ تَحْتَهُ دَهْرًا لَا تُرْزَقُ مِنْهُ وَلَدًا، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ وَهَبَتْ لَهُ هَاجَرَ أَمَةً لَهَا قِبْطِيَّةً، فَوَلَدَتْ لَهُ إِسْمَاعِيلَ، فَغَارَتْ مِنْ ذَلِكَ سَارَةُ وَوَجَدَتْ فِي نَفْسِهَا وَعَتَبَتْ عَلَى هَاجَرَ، فَحَلَفَتْ أَنْ تَقْطَعَ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أشرافا «2» ، فَقَالَ لَهَا إِبْرَاهِيمُ: هَلْ لَكِ أَنْ تُبِرِّي يمينك؟ قالت: كيف أصنع؟

_ (1) . التوبة: 114. (2) . أشراف الإنسان: أذناه وأنفه. (اللسان: شرف) .

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 إلى 46]

قَالَ: اثْقُبِي أُذُنَيْهَا وَاخْفِضِيهَا، وَالْخَفْضُ: هُوَ الْخِتَانُ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ بِهَا، فَوَضَعَتْ هَاجَرُ فِي أُذُنَيْهَا قُرْطَيْنِ فَازْدَادَتْ بِهِمَا حُسْنًا، فَقَالَتْ سَارَةُ: أَرَانِي أَنَّمَا زِدْتُهَا جَمَالًا فَلَمْ تُقَارَّهُ «1» عَلَى كَوْنِهِ مَعَهَا، وَوَجِدَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَجْدًا شَدِيدًا، فَنَقَلَهَا إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ يَزُورُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّامَ عَلَى الْبُرَاقِ مِنْ شَغَفِهِ بِهَا وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ: أَسْكَنَ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قَالَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ لَوْ قَالَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ لَازْدَحَمَتْ عَلَيْهِ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أبي حاتم عَنِ الْحَكَمِ قَالَ: سَأَلْتُ عِكْرِمَةَ وَطَاوُسًا وَعَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: الْبَيْتُ تَهْوِي إِلَيْهِ قُلُوبُهُمْ يَأْتُونَهُ وَفِي لَفْظٍ قَالُوا: هَوَاهُمْ إِلَى مَكَّةَ أَنْ يَحُجُّوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: تَهْوِي إِلَيْهِمْ قَالَ: تَنْزِعُ إِلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا دَعَا لِلْحَرَمِ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ نَقَلَ اللَّهُ الطَّائِفَ مِنْ فِلَسْطِينَ!. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ نَقَلَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الشَّامِ فَوَضَعَهَا بِالطَّائِفِ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: لَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ لَحَجَّ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ فَخَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ قَالَ: مِنَ الْحُزْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي قَالَ: مِنْ حُبِّ إِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ وَما نُعْلِنُ قَالَ: مَا نُظْهِرُ لِسَارَةَ مِنَ الْجَفَاءِ لَهُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ قَالَ: هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: بُشِّرَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ سَبْعَ عشرة سنة ومائة سنة. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 46] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)

_ (1) . قارّة مقارة: أي قرّ معه وسكن.

قَوْلُهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ لِأُمَّتِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَحْسَبُ أُمَّتُكَ يَا مُحَمَّدُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيضٍ لِأُمَّتِهِ فَمَعْنَاهُ التَّثْبِيتُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحُسْبَانِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» وَنَحْوِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: وَلَا تَحْسَبَنَّهُ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْغَافِلِ عَمَّا يَعْمَلُونَ، وَلَكِنْ مُعَامَلَةَ الرَّقِيبِ عَلَيْهِمْ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْحُسْبَانِ الْإِيذَانَ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ. وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِعْلَامٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ لَيْسَ لِلرِّضَا بِأَفْعَالِهِمْ، بَلْ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي إِمْهَالِ الْعُصَاةِ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أَيْ: يُؤَخِّرُ جَزَاءَهُمْ وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِظُلْمِهِمْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ السَّابِقِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالنُّونِ فِي نُؤَخِّرُهُمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ وَمَعْنَى لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أَيْ: تُرْفَعُ فِيهِ أَبْصَارُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَلَا تُغْمِضُ مِنْ هَوْلِ مَا تَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، هَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. يُقَالُ: شَخَصَ الرَّجُلُ بَصَرَهُ وَشَخَصَ الْبَصَرُ نَفْسُهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَى، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْأَبْصَارَ بَقِيَتْ مَفْتُوحَةً لَا تَتَحَرَّكُ مِنْ شِدَّةِ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ مُهْطِعِينَ أَيْ: مُسْرِعِينَ، مِنْ أَهْطَعَ يَهْطَعُ إِهْطَاعًا إِذَا أَسْرَعَ وَقِيلَ: الْمُهْطِعُ: الَّذِي يَنْظُرُ فِي ذُلٍّ وَخُشُوعٍ. وَمِنْهُ: بِدَجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُمْ ... بِدَجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السّماع «2» وَقِيلَ: الْمُهْطِعُ: الَّذِي يُدِيمُ النَّظَرَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَدْ يَكُونُ الْوَجْهَانِ جَمِيعًا، يَعْنِي الْإِسْرَاعَ مَعَ إِدَامَةِ النَّظَرِ وَقِيلَ: الْمُهْطِعُ الَّذِي لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْمُهْطِعُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي ذُلٍّ وَخُضُوعٍ وَقِيلَ: هُوَ السَّاكِتُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَهْطَعَ إِذَا أَسْرَعَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي: رافعي رؤوسهم، وَإِقْنَاعُ الرَّأْسِ: رَفْعُهُ، وَأَقْنَعَ صَوْتَهُ: إِذَا رَفَعَهُ، والمعنى: أنهم يومئذ رافعون رؤوسهم إِلَى السَّمَاءِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا نَظَرَ فَزَعٍ وَذُلٍّ وَلَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: إِنَّ إِقْنَاعَ الرَّأْسِ نَكْسُهُ وَقِيلَ: يُقَالُ أَقْنَعَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، وَأَقْنَعَ: إِذَا طَأْطَأَ ذِلَّةً وَخُضُوعًا، وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوَجْهَيْنِ. قَالَ الْمِبْرَدُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَعْرَفُ فِي اللُّغَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَنَغْضَ «3» نَحْوِي رَأْسَهُ وَأَقْنَعَا ... كَأَنَّمَا أَبْصَرَ شَيْئًا أَطْمَعَا لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أَيْ: لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبْصَارُهُمْ، وَأَصْلُ الطَّرْفِ: تَحْرِيكُ الْأَجْفَانِ وَسُمِّيَتِ الْعَيْنُ طَرْفًا لِأَنَّهُ يَكُونُ بِهَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ الطَّرْفِ على العين قول عَنْتَرَةَ: وَأَغُضُّ طَرَفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا

_ (1) . الأنعام: 14. (2) . في المطبوع: السماء. والمثبت من تفسير القرطبي (9/ 376) . (3) . «أنغض» حرّك.

وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ الْهَوَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْمُجَوَّفُ الْخَالِي الَّذِي لَمْ تَشْغَلْهُ الْأَجْرَامُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ قُلُوبَهُمْ خَالِيَةٌ عَنِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ لِمَا شَاهَدُوا مِنَ الْفَزَعِ وَالْحَيْرَةِ وَالدَّهَشِ، وَجَعْلُهَا نَفْسَ الْهَوَى مُبَالَغَةٌ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَحْمَقِ وَالْجَبَانِ قَلْبُهُ هَوَاءٌ، أَيْ: لَا رَأْيَ فِيهِ وَلَا قُوَّةَ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهَا خَرَجَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ مَوَاضِعِهَا فَصَارَتْ فِي الْحَنَاجِرِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ أَفْئِدَةَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا خَالِيَةٌ عَنِ الْخَيْرِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَأَفْئِدَتُهُمْ ذَاتُ هَوَاءٍ. وَمِمَّا يُقَارِبُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً «1» أَيْ: خَالِيًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ هَمِّ مُوسَى وَأَنْذِرِ النَّاسَ هَذَا رُجُوعٌ إِلَى خطاب رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُنْذِرَ النَّاسَ، وَالْمُرَادُ النَّاسُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَقِيلَ: الْكُفَّارُ عَلَى الْعُمُومِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْإِنْذَارَ كَمَا يَكُونُ لِلْكَافِرِ يَكُونُ أَيْضًا لِلْمُسْلِمِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ «2» . وَمَعْنَى: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ: خَوِّفْهُمْ هَذَا الْيَوْمَ، وَهُوَ يَوْمُ إِتْيَانِ الْعَذَابِ، وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى ذِكْرِ إِتْيَانِ الْعَذَابِ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ يَوْمَ إِتْيَانِ الثَّوَابِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَهْدِيدٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ يَوْمُ مَوْتِهِمْ فَإِنَّهُ أَوَّلُ أَوْقَاتِ إِتْيَانِ الْعَذَابِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ يَوْمُ هَلَاكِهِمْ بِالْعَذَابِ الْعَاجِلِ، وَانْتِصَابُ يَوْمَ عَلَى أنه مفعول ثان لأنذر فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا هَاهُنَا هُمُ النَّاسُ، أَيْ: فَيَقُولُونَ، وَالْعُدُولُ إِلَى الْإِظْهَارِ مَكَانَ الْإِضْمَارِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْعِلَّةُ فِيمَا نَزَلَ بِهِمْ، هَذَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُمُ الْكُفَّارَ. وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِهِمْ مَنْ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ، فَالْمَعْنَى: فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ رَبَّنا أَخِّرْنا أَمْهِلْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ إِلَى أَمَدٍ مِنَ الزَّمَانِ مَعْلُومٍ غَيْرِ بَعِيدٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ أَيْ دَعْوَتَكَ لِعِبَادِكَ عَلَى أَلْسُنِ أَنْبِيَائِكَ إِلَى تَوْحِيدِكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ الْمُرْسَلِينَ مِنْكَ إِلَيْنَا فَنَعْمَلْ بِمَا بَلَّغُوهُ إِلَيْنَا مِنْ شَرَائِعِكَ، وَنَتَدَارَكْ مَا فَرَطَ مِنَّا مِنَ الْإِهْمَالِ، وَإِنَّمَا جُمِعَ الرُّسُلُ، لِأَنَّ دَعْوَتَهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ مُتَّفِقَةٌ، فَاتِّبَاعُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ اتِّبَاعٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهَذَا مِنْهُمْ سُؤَالٌ لِلرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا لَمَّا ظَهَرَ لَهُمُ الْحَقُّ فِي الْآخِرَةِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «3» . ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ مَا يُجَابُ بِهِ عَنْهُمْ عِنْدَ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ أَيْ: فَيُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ تَوْبِيخًا وتقريعا، أي: أو لم تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْيَوْمِ مَا لَكَمَ مِنْ زَوَالٍ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا قَسَمَ مِنْهُمْ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا كَانَ لِسَانُ حَالِهِمْ ذَلِكَ لِاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي الشَّهَوَاتِ وَإِخْلَادِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: قَسَمُهُمْ هَذَا هُوَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «4» ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَإِنَّمَا جَاءَ بِلَفْظِ الْخِطَابِ فِي مَا لَكَمَ مِنْ زَوَالٍ لِمُرَاعَاةِ أَقْسَمْتُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: مَا لَنَا مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَيِ: اسْتَقْرَرْتُمْ، يُقَالُ: سَكَنَ الدَّارَ وَسَكَنَ فِيهَا، وَهِيَ بِلَادُ ثَمُودَ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْعِصْيَانِ لَهُ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ قَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ نُبَيِّنُ بِالنُّونِ وَالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْفِعْلِ الْمَاضِي، أَيْ: تَبَيَّنَ لَكُمْ بِمُشَاهَدَةِ الْآثَارِ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ بِمَا فَعَلُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَفَاعِلُ تَبَيَّنَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهُ، أَيْ: تَبَيَّنَ لَكُمْ فِعْلُنَا العجيب بهم

_ (1) . القصص: 10. (2) . يس: 11. (3) . الأنعام: 28. (4) . النحل: 38.

وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ فِي كُتُبِ اللَّهِ وَعَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ إِيضَاحًا لَكُمْ وَتَقْرِيرًا وَتَكْمِيلًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فَعَلْنَا بِهِمْ مَا فَعَلْنَا، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ قَدْ مَكَرُوا فِي رَدِّ الْحَقِّ وَإِثْبَاتِ الْبَاطِلِ مَكْرَهُمُ الْعَظِيمَ، الَّذِي اسْتَفْرَغُوا فِيهِ وُسْعَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أَيْ: وَعِنْدَ اللَّهِ جَزَاءُ مَكْرِهِمْ، أَوْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ مَكْرُهُمْ فَهُوَ مُجَازِيهِمْ، أَوْ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمُ الَّذِي يَمْكُرُهُمْ بِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَكْرُ مضافا إلى المفعول وقيل: وَالْمُرَادُ بِهِمْ قَوْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم مكروا بالنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَا وَقَعَ مِنَ النُّمْرُوذِ حَيْثُ حَاوَلَ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ، فَاتَّخَذَ لِنَفْسِهِ تَابُوتًا وَرَبَطَ قَوَائِمَهُ بِأَرْبَعَةِ نُسُورٍ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ قَرَأَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيٌّ وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مَكَانَ النُّونِ. وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْقُرَّاءِ وَإِنْ كانَ بِالنُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْكِسَائِيُّ «لَتَزُولُ» بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا لَامُ الِابْتِدَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا عَلَى أَنَّهَا لَامُ الْجُحُودِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الِاخْتِيَارُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ، يَعْنِي قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ زَالَتْ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فَعَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ وَمَنْ مَعَهُ تَكُونُ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةَ، وَزَوَالُ الْجِبَالِ مَثَلٌ لِعِظَمِ مَكْرِهِمْ وَشِدَّتِهِ، أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ كَانَ مَكْرُهُمْ مُعَدًّا لِذَلِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ يَبْلُغُ فِي الْكَيْدِ إِلَى إِزَالَةِ الْجِبَالِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ دِينَهُ وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَالْمَعْنَى كَمَا مَرَّ. وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً وَاللَّامُ الْمَكْسُورَةُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «1» وَالْمَعْنَى: وَمُحَالٌّ أَنْ تَزُولَ الْجِبَالُ بِمَكْرِهِمْ، عَلَى أَنَّ الْجِبَالَ مَثَلٌ لِآيَاتِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ الثَّابِتَةِ عَلَى حَالِهَا مَدَى الدَّهْرِ، فَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مَكَرُوا لَا مِنْ قَوْلِهِ: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ مَكْرَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم، والخرائطي في مساوئ الْأَخْلَاقِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ قَالَ: هِيَ تَعْزِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ وَوَعِيدٌ لِلظَّالِمِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ قَالَ: شَخَصَتْ فِيهِ وَاللَّهِ أَبْصَارُهُمْ فَلَا تَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُهْطِعِينَ قَالَ: يَعْنِي بِالْإِهْطَاعِ النَّظَرَ مِنْ غَيْرِ أن يطرف مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ قال: الإقناع رفع رؤوسهم لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ قَالَ: شَاخِصَةٌ أَبْصَارُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ، فَهِيَ كَالْخَرِبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُهْطِعِينَ قَالَ: مُدِيمِي النَّظَرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ مُهْطِعِينَ قَالَ: مُسْرِعِينَ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ قَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، خَرَجَتْ مِنْ صُدُورِهِمْ فَنَشِبَتْ فِي حُلُوقِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أبي حاتم عن مُرَّةَ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ قَالَ: مُنْخَرِقَةٌ لَا تَعِي شَيْئًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ يَقُولُ: أَنْذِرْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

_ (1) . البقرة: 143.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 47 إلى 52]

وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ قَالَ: عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ إِلَى مَا تَقُولُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ قَالَ: بَعْثٍ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ قَالَ: عَمِلْتُمْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ يَقُولُ: مَا كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ يَقُولُ: شِرْكُهُمْ كَقَوْلِهِ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا «1» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ ثُمَّ فَسَّرَهَا فَقَالَ: إِنَّ جَبَّارًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ قَالَ: لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى مَا فِي السَّمَاءِ، فَأَمَرَ بِفِرَاخِ النُّسُورِ تُعْلَفُ اللَّحْمَ حَتَّى شَبَّتْ وَغَلُظَتْ، وَأَمَرَ بِتَابُوتٍ فَنُجِرَ يَسَعُ رَجُلَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَ فِي وَسَطِهِ خَشَبَةً، ثُمَّ رَبَطَ أَرْجُلَهُنَّ بِأَوْتَادٍ، ثُمَّ جَوَّعَهُنَّ، ثُمَّ جَعَلَ على رأس الخشبة لحمة، ثُمَّ دَخَلَ هُوَ وَصَاحِبُهُ فِي التَّابُوتِ، ثُمَّ رَبَطَهُنَّ إِلَى قَوَائِمِ التَّابُوتِ، ثُمَّ خَلَّى عَنْهُنَّ يُرِدْنَ اللَّحْمَ، فَذَهَبْنَ بِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ لِصَاحِبِهِ: افْتَحْ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى فَفَتَحَ فَقَالَ: انْظُرْ إِلَى الْجِبَالِ كَأَنَّهَا الذُّبَابُ، قَالَ: أَغْلِقْ فَأَغْلَقَ، فَطِرْنَ بِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: افْتَحْ فَفَتَحَ، فَقَالَ: انْظُرْ مَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ: مَا أَرَى إِلَّا السَّمَاءَ وَمَا أَرَاهَا تَزْدَادُ إِلَّا بُعْدًا، قَالَ: صَوِّبِ الْخَشَبَةَ، فَصَوَّبَهَا فَانْقَضَّتْ تُرِيدُ اللَّحْمَ، فَسَمِعَ الْجِبَالَ هَدَّتَهَا فَكَادَتْ تَزُولُ عَنْ مَرَاتِبِهَا. وَقَدْ رُوِيَ نحو هذه القصة لبختنصر وَلِلنُّمْرُوذِ مِنْ طُرُقٍ ذِكْرُهَا فِي «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» . [سورة إبراهيم (14) : الآيات 47 الى 52] فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) مُخْلِفَ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ تَحْسَبَنَّ، وانتصاب رسله على أنه مفعول وعده، وقيل: وَذَلِكَ عَلَى الِاتِّسَاعِ، وَالْمَعْنَى: مُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ. قال القتبي: هُوَ مِنَ الْمُقَدَّمِ الَّذِي يُوَضِّحُهُ التَّأْخِيرُ، وَالْمُؤَخَّرُ الَّذِي يُوَضِّحُهُ التَّقْدِيمُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ وَمُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ، وَمِثْلُ مَا في الآية قول الشاعر: ترى الدّور مُدْخِلَ الظِّلِّ رَأْسَهُ ... وَسَائِرُهَ بَادٍ إِلَى الشَّمْسِ أَجْمَعُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدَّمَ الْوَعْدَ لِيُعْلِمَ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ أَصْلًا كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ «2» ثُمَّ قَالَ رُسُلَهُ: لِيُؤْذِنَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُخْلِفْ وَعْدَهُ أَحَدًا، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ إِخْلَافُ الْمَوَاعِيدِ، فَكَيْفَ يُخْلِفُهُ رُسُلَهُ الَّذِينَ هُمْ خِيرَتُهُ وَصَفْوَتُهُ وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ هُنَا هُوَ مَا وَعَدَهُمْ سبحانه بقوله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا «3» و

_ (1) . مريم: 90. (2) . آل عمران: 9. (3) . غافر: 51. [.....]

كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» وَقُرِئَ: «مُخْلِفَ وَعْدَهُ رُسُلِهِ» بِجَرِّ رُسُلِهِ وَنَصْبِ وَعْدِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ فِي الضَّعْفِ كَمَنْ قَرَأَ: «قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ» . إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَالِبٌ لَا يُغَالِبُهُ أَحَدٌ ذُو انتِقامٍ يَنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِهِ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ قَالَ الزَّجَّاجُ: انْتِصَابُ يَوْمَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ، أَوْ عَلَى الظَّرْفِ لِلِانْتِقَامِ انْتَهَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِمُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ: وَاذْكُرْ أَوْ وَارْتَقِبْ، وَالتَّبْدِيلُ قَدْ يَكُونُ فِي الذَّاتِ كَمَا فِي بَدَّلْتُ الدَّرَاهِمَ دَنَانِيرَ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الصِّفَاتِ كَمَا فِي بَدَّلْتُ الْحَلْقَةَ خَاتَمًا، وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ قِيلَ: الْمُرَادُ تَغَيُّرُ صِفَاتِهَا، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُ، وَقِيلَ: تَغَيُّرُ ذَاتِهَا، ومعنى وَالسَّماواتُ أي: وتبدّل السّموات غير السّموات عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي مَرَّ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أَيْ: بَرَزَ الْعِبَادُ لِلَّهِ أَوِ الظَّالِمُونَ كَمَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ أَيْ: ظَهَرُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، أَوْ ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ، وَالتَّعْبِيرُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ «2» والْواحِدِ الْقَهَّارِ «3» الْمُتَفَرِّدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ الْكَثِيرُ الْقَهْرِ لِمَنْ عَانَدَهُ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ مَعْطُوفٌ عَلَى بَرَزُوا أَوْ عَلَى تُبَدَّلُ، وَالْمَجِيءُ بِالْمُضَارِعِ لاستحضار الصورة، والمجرمون هم المشركون، ويومئذ يعني يوم القيامة، ومُقَرَّنِينَ أَيْ: مَشْدُودِينَ إِمَّا بِجَعْلِ بَعْضِهِمْ مَقْرُونًا مَعَ بَعْضٍ، أَوْ قُرِنُوا مَعَ الشَّيَاطِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ «4» أَوْ جُعِلَتْ أَيْدِيهُمْ مَقْرُونَةً إِلَى أَرْجُلِهِمْ، وَالْأَصْفَادُ: الأغلال والقيود، والجار والمجرور متعلّق بمقرّنين أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ، يُقَالُ: صَفَدْتُهُ صَفْدًا، أَيْ: قَيَّدْتُهُ. وَالِاسْمُ الصَّفْدُ، فَإِذَا أَرَدْتَ التَّكْثِيرَ قُلْتَ: صَفَّدْتُهُ. قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا ... وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: مِنْ بَيْنِ مَأْسُورٍ يَشُدُّ صَفَادَهُ ... صقر إذا لاقى الكريهة حام وَيُقَالُ: صَفَدْتُهُ وَأَصْفَدْتُهُ إِذَا أَعْطَيْتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: ............... .... وَلَمْ أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ «5» سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ السَّرَابِيلُ: الْقُمُصُ، وَاحِدُهَا سِرْبَالٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: تَلْقَاكُمْ عُصَبٌ حَوْلَ النَّبِيِّ لَهُمْ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ وَالْقَطِرَانُ: هُوَ قَطِرَانُ الْإِبِلِ الَّذِي تَهْنَأُ بِهِ أَيْ: قُمْصَانُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ تُطْلَى بِهِ جُلُودُهُمْ حَتَّى يَعُودَ ذَلِكَ الطِّلَاءُ كَالسَّرَابِيلِ وَخُصَّ القطران لسرعة اشتعال النهار فِيهِ مَعَ نَتْنِ رَائِحَتِهِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ هُوَ

_ (1) . المجادلة: 21. (2) . الكهف: 99. (3) . يوسف: 39. (4) . الزخرف: 36. (5) . وصدره: هذا الثناء فإن تسمع لقائله. ومعنى «أبيت اللعن» : أبيت أن تأتي شيئا تلعن عليه.

النُّحَاسُ: أَيْ: قُمْصَانُهُمْ مِنْ نُحَاسٍ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ مِنْ قَطِرانٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَسْكِينِ الطَّاءِ. وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ، رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَيَعْقُوبَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ أَيْ: تَعْلُو وجههم وَتَضْرِبُهَا وَخَصَّ الْوُجُوهَ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَا فِي الْبَدَنِ، وَفِيهَا الْحَوَاسُّ الْمُدْرِكَةُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نصب على الحال أيضا، ولِيَجْزِيَ اللَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ لِيَجْزِيَ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ مِنَ الْمَعَاصِي أَيْ: جَزَاءً مُوَافِقًا لِمَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لَا يَشْغَلُهُ عَنْهُ شَيْءٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ هَذَا بَلاغٌ أَيْ: هَذَا الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ بَلَاغٌ، أَيْ: تَبْلِيغٌ وَكِفَايَةٌ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ. قِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ هُنَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا إِلَى سَرِيعُ الْحِسابِ أَيْ: هَذَا فِيهِ كِفَايَةٌ مِنْ غَيْرِ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: إِلَى الْقُرْآنِ، وَمَعْنَى لِلنَّاسِ لِلْكُفَّارِ، أَوْ لِجَمِيعِ النَّاسِ عَلَى مَا قِيلَ فِي قوله: وَأَنْذِرِ النَّاسَ. وَلِيُنْذَرُوا بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ: لِيُنْصَحُوا وَلِيُنْذَرُوا بِهِ، وَالْمَعْنَى: وَلِيُخَوَّفُوا بِهِ، وَقُرِئَ «وَلِيَنْذَرُوا» بِفَتْحِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، يُقَالُ: نَذَرْتُ بِالشَّيْءِ أَنْذِرَ إِذَا عَلِمْتَ بِهِ فَاسْتَعْدَدْتَ لَهُ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أَيْ: لِيَعْلَمُوا بِالْأَدِلَّةِ التَّكْوِينِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ سَابِقًا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وأنه لا شريك له وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أَيْ: وَلِيَتَّعِظَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ، وَهَذِهِ اللَّامَاتُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَلَاغِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: كِفَايَةً لَهُمْ فِي أَنْ يُنْصَحُوا وَيُنْذَرُوا وَيَعْلَمُوا بِمَا أَقَامَ اللَّهُ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَحْدَانِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِيَتَّعِظَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ الَّتِي تَعْقِلُ وَتُدْرِكُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ قَالَ: عَزِيزٌ وَاللَّهِ فِي أَمْرِهِ، يُمْلِي وَكَيْدُهُ مَتِينٌ، ثُمَّ إِذَا انْتَقَمَ انْتَقَمَ بِقُدْرَةٍ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. قَالَتْ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ قُلْتُ: أَيْنَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الصِّرَاطِ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي قَوْلِ اللَّهِ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ قَالَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ، كَأَنَّهَا فِضَّةٌ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ حَرَامٌ، وَلَمْ يُعْمَلْ بِهَا خَطِيئَةٌ» . وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْهُ مَوْقُوفًا نَحْوَهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن زيد ابن ثَابِتٍ قَالَ: «أَتَى الْيَهُودُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: جَاءُونِي يَسْأَلُونَنِي وَسَأُخْبِرُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلُونِي يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ قَالَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ كَالْفِضَّةِ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: أَرْضٌ بَيْضَاءُ كَالنَّقِيِّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ

مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ مَوْقُوفًا نَحْوَهُ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ» . وَفِيهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ» الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ قَالَ الْكُبُولُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْأَصْفادِ قَالَ: الْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: فِي السَّلَاسِلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَصْفادِ يَقُولُ: فِي وِثَاقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ سَرابِيلُهُمْ قَالَ: قُمُصُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَطِرانٍ قَالَ: قَطِرَانِ الْإِبِلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا الْقَطِرَانُ يُطْلَى بِهِ حَتَّى يَشْتَعِلَ نَارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ مِنْ قَطِرانٍ فقال: القطر: الصّفر، و: الآن: الْحَارُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مَنْ جَرَبٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ قَالَ: الْقُرْآنُ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ قال: بالقرآن.

سورة الحجر

سورة الحجر وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْحِجْرِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مثله. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) قَوْلُهُ: الر قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَحَلِّهِ مُسْتَوْفًى، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنَ الْآيَاتِ وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتَابُ. قِيلَ: هُوَ لِلْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذَا ذِكْرُ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْكِتَابِ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هَذِهِ السُّورَةُ، وَتَنْكِيرُ الْقُرْآنِ لِلتَّفْخِيمِ، أَيِ: الْقُرْآنِ الْكَامِلِ رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ مِنْ رُبَمَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَهْلُ الْحِجَازِ يُخَفِّفُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : رُبَمَا ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ صَقِيلٍ ... بَيْنَ بُصْرَى وَطَعْنَةٍ نَجْلَاءَ وَتَمِيمٌ وَرَبِيعَةُ يُثْقِلُونَهَا. وَقَدْ تزداد فيها التَّاءُ الْفَوْقِيَّةُ «2» ، وَأَصْلُهَا أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الْقَلِيلِ. وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْكَثِيرِ. قَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَيْ يُودُّ الْكُفَّارُ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَهُ ذَلِكَ الْيَوْ ... مَ وَأَسْرَى مِنْ مَعْشَرٍ أَقْيَالِ

_ (1) . هو عدي بن الرعلاء الغساني. (2) . أي: ربّتما أو: ربتما، وكذلك بضم الراء وفتحها.

وَقِيلَ: هِيَ هُنَا لِلتَّقْلِيلِ لِأَنَّهُمْ وَدُّوا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا فِي كُلِّهَا لِشُغْلِهِمْ بالعذاب. قيل: وما هُنَا لَحِقَتْ رُبَّ لِتُهَيِّئَهَا لِلدُّخُولِ عَلَى الْفِعْلِ وَقِيلَ: هِيَ نَكِرَةٌ بِمَعْنَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ رُبَّ هُنَا عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ كَوْنِهَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْمَاضِي، لِأَنَّ الْمُتَرَقَّبَ فِي إِخْبَارِهِ سُبْحَانَهُ كَالْوَاقِعِ الْمُتَحَقِّقِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: رُبَمَا وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، أَيْ: مُنْقَادِينَ لِحُكْمِهِ مُذْعِنِينَ لَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِهِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْوِدَادَةُ مِنْهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا انْكَشَفَ لَهُمُ الْأَمْرُ، وَاتَّضَحَ بُطْلَانُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ لَا دِينَ غَيْرُهُ، حَصَلَتْ مِنْهُمْ هَذِهِ الْوِدَادَةُ الَّتِي لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ، بَلْ هِيَ لِمُجَرَّدِ التَّحَسُّرِ وَالتَّنَدُّمِ وَلَوْمِ النَّفْسِ عَلَى مَا فَرَّطَتْ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَقِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْوِدَادَةُ مِنْهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ حَالِهِمْ وَحَالِ الْمُسْلِمِينَ وَقِيلَ: عِنْدَ خُرُوجِ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْوِدَادَةَ كَائِنَةٌ مِنْهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُسْتَمِرَّةٌ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ بَعْدَ انْكِشَافِ الْأَمْرِ لَهُمْ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ، أَيْ: دَعْهُمْ عَمَّا أَنْتَ بِصَدَدِهِ مِنَ الْأَمْرِ لَهُمْ وَالنَّهْيِ، فَهُمْ لَا يَرْعَوُونَ أَبَدًا، وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ بَاطِلٍ، وَلَا يَدْخُلُونَ فِي حَقٍّ، بَلْ مُرْهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْأَكْلِ وَالتَّمَتُّعِ بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ كَالْأَنْعَامِ الَّتِي لَا تَهْتَمُّ إِلَّا بِذَلِكَ وَلَا تَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ، وَالْمَعْنَى: اتْرُكْهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْأَكْلِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَمِنْ إِلْهَاءِ الْأَمَلِ لَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِكَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ وَسُوءَ صَنِيعِهِمْ. وَفِي هَذَا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ مَا لَا يُقَدَّرُ قَدَرُهُ، يُقَالُ: أَلْهَاهُ كَذَا، أي: شغله، ولهي هو عن الشيء يلهى، أَيْ: شَغَلَهُمُ الْأَمَلُ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَمَا زَالُوا فِي الْآمَالِ الْفَارِغَةِ وَالتَّمَنِّيَاتِ الْبَاطِلَةِ حَتَّى أَسْفَرَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ، وَانْكَشَفَ الْأَمْرُ، وَرَأَوُا الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَذُوقُونَ وَبَالَ مَا صَنَعُوا. وَالْأَفْعَالُ الثَّلَاثَةُ مَجْزُومَةٌ عَلَى أَنَّهَا جَوَابُ الْأَمْرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أَيْ: وَمَا أَهْلَكْنَا قَرْيَةً مِنَ الْقُرَى بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ إِلَّا وَلَها أَيْ: لِتِلْكَ الْقَرْيَةِ كِتابٌ أَيْ: أَجْلٌ مُقَدَّرٌ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَلَا مَنْسِيٍّ، فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّخَلُّفُ عَنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَجُمْلَةُ لَها كِتابٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَرْيَةٍ وَإِنْ كَانَتْ نَكِرَةً لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ فِي حُكْمِ الْمَوْصُوفَةِ، وَالْوَاوُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ حَالًا، أَوْ صِفَةً فإنها تعينها للحالية كقولك: جاءني رَجُلٌ عَلَى كَتِفِهِ سَيْفٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ، وَالْوَاوُ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها أَيْ: مَا تَسْبِقُ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ أَجَلَهَا الْمَضْرُوبَ لَهَا الْمَكْتُوبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَأْتِي هَلَاكُهَا قَبْلَ مَجِيءِ أَجَلِهَا وَما يَسْتَأْخِرُونَ أَيْ: وَمَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ، فَيَكُونُ مَجِيءُ هَلَاكِهِمْ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لَهُ، وَإِيرَادُ الْفِعْلِ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى مَعَ التَّغْلِيبِ وَلِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَالْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْإِمْهَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرَّ بِهِ الْعُقَلَاءُ، فَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ وَقْتًا مُعَيَّنًا فِي نُزُولِ الْعَذَابِ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَجَلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ شَرَعَ فِي بَيَانِ بَعْضِ عُتُوِّهِمْ فِي الْكُفْرِ، وَتَمَادِيهِمْ فِي الْغَيِّ مَعَ تَضَمُّنِهِ لِبَيَانِ كُفْرِهِمْ بِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ بَعْدَ بَيَانِ كفرهم بالكتاب، فقال: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أَيْ: قَالَ كُفَّارُ

مَكَّةَ مُخَاطِبِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُتَهَكِّمِينَ بِهِ حَيْثُ أَثْبَتُوا لَهُ إِنْزَالَ الذِّكْرِ عَلَيْهِ، مَعَ إِنْكَارِهِمْ لِذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ أَشَدَّ إِنْكَارٍ وَنَفْيِهِمْ لَهُ أَبْلَغَ نَفْيٍ، أَوْ أرادوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي زَعْمِهِ، وَعَلَى وَفْقِ مَا يَدَّعِيهِ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ أَيْ: إِنَّكَ بِسَبَبِ هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي تَدَّعِيهَا مِنْ كَوْنِكَ رَسُولًا لِلَّهِ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ أَحْكَامِهِ لَمَجْنُونٌ، فَإِنَّهُ لَا يَدَّعِي مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى الْعَظِيمَةِ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَ عَاقِلًا، فَقَوْلُهُمْ هَذَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ هُوَ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «1» . لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ لَوْ مَا: حَرْفُ تَحْضِيضٍ، مُرَكَّبٍ مِنْ لَوِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّمَنِّي وَمِنْ مَا الْمَزِيدَةِ، فَأَفَادَ الْمَجْمُوعُ الْحَثَّ عَلَى الْفِعْلِ الدَّاخِلَةُ هِيَ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى: هَلَّا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ لِيَشْهَدُوا عَلَى صِدْقِكَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قال الفراء: الميم في «لو ما» بَدَلٌ مِنَ اللَّامِ فِي لَوْلَا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لولا ولو ما سواء في الخبر والاستفهام. قال النحاس: لو ما ولولا وهلا واحد وقيل: المعنى: لو ما تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ فَيُعَاقِبُونَا عَلَى تَكْذِيبِنَا لَكَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ قُرِئَ «مَا نُنَزِّلُ» بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا مِنَ التَّنْزِيلِ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُجِيبًا عَلَى الْكُفَّارِ لَمَّا طَلَبُوا إِتْيَانَ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ مَا نُنَزِّلُ نَحْنُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ: تَنْزِيلًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ الَّذِي يَحِقُّ عِنْدَهُ تَنْزِيلُنَا لَهُمْ فِيمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْمَشِيئَةُ الرَّبَّانِيَّةُ، وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي اقْتَرَحْتُمُوهُ مِمَّا يَحِقُّ عِنْدَهُ تَنْزِيلُ الْمَلَائِكَةِ، وَقُرِئَ «نُنْزِلُ» مُخَفَّفًا مِنَ الْإِنْزَالِ، أَيْ: مَا نُنْزِلُ نَحْنُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَقُرِئَ «مَا تَنَزَّلُ» بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ مُضَارِعًا مُثْقَلًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنَ التَّنْزِيلِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، أَيْ: تَتَنَزَّلُ، وَقُرِئَ أَيْضًا بِالْفَوْقِيَّةِ مُضَارِعًا مَبْنِيًا لِلْمَفْعُولِ وَقِيلَ: مَعْنَى إِلَّا بِالْحَقِّ إِلَّا بِالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: بِالرِّسَالَةِ، وَقِيلَ: بِالْعَذَابِ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ أَنْزَلْنَا الْمَلَائِكَةَ لَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ، فَالْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ جَزَاءٌ لِلْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْمَحْذُوفَةِ، ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَى الْكُفَّارِ اسْتِهْزَاءَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بقولهم: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ أَيْ: نَحْنُ نَزَّلْنَا ذَلِكَ الذِّكْرَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَنَسَبُوكَ بِسَبَبِهِ إِلَى الْجُنُونِ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ تَصْحِيفٍ وَتَحْرِيفٍ وَزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بِهِ، الْمُسْتَهْزِئِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالْمَقَامِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عَادَةَ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ كَذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ أَيْ: رُسُلًا، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ الْإِرْسَالِ عَلَيْهِ، أَيْ: رُسُلًا كَائِنَةً مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ فِي أُمَمِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَسَائِرِ فِرَقِهِمْ وَطَوَائِفِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الشِّيَعُ الْأُمَّةُ التَّابِعَةُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ شَاعَهُ إِذَا تَبِعَهُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْأَوَّلِينَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ، أَوْ مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ عِنْدَ آخَرِينَ مِنْهُمْ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ: مَا يَأْتِي رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ شِيعَتَهُ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَمَا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ الكفار مع محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَجُمْلَةُ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ فِي مَحَلِّ

_ (1) . الشعراء: 27.

رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ رَسُولٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لَهُ عَلَى اللَّفْظِ لَا عَلَى الْمَحَلِّ كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الَّذِي سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِرُسُلِهِمْ نَسْلُكُهُ أَيِ: الذِّكْرُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنْ إِلْقَاءِ الْوَحْيِ مَقْرُونًا بِالِاسْتِهْزَاءِ، وَالسَّلْكُ إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ كَالْخَيْطِ فِي الْمِخْيَطِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، قَالَ: وَالْمَعْنَى كَمَا فَعَلَ بِالْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ اسْتَهْزَءُوا نَسْلُكُ الضَّلَالَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، وَجُمْلَةُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ نَسْلُكُهُ: أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ بِالذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ مَا قَبْلَهَا فَلَا مَحَلَّ لَهَا وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي نَسْلُكُهُ لِلِاسْتِهْزَاءِ، وَفِي لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ لِلذِّكْرِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْأَوْلَى أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ لِلذِّكْرِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: مَضَتْ طَرِيقَتُهُمُ الَّتِي سَنَّهَا اللَّهُ فِي إِهْلَاكِهِمْ، حَيْثُ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنَ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ بِأَنَّ سَلَكَ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِهِمْ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَتَصْمِيمَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، فَقَالَ: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَيْ: عَلَى هؤلاء المعاندين لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ بَابًا مِنَ السَّماءِ أَيْ: مِنْ أَبْوَابِهَا الْمَعْهُودَةِ وَمَكَّنَّاهُمْ مِنَ الصُّعُودِ إِلَيْهِ فَظَلُّوا فِيهِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْبَابِ يَعْرُجُونَ يَصْعَدُونَ بِآلَةٍ أَوْ بِغَيْرِ آلَةٍ حَتَّى يُشَاهِدُوا مَا فِي السَّمَاءِ مِنْ عَجَائِبِ الْمَلَكُوتِ الَّتِي لَا يَجْحَدُهَا جَاحِدٌ وَلَا يُعَانِدُ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا مُعَانِدٌ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَظَلُّوا لِلْمَلَائِكَةِ، أَيْ: فَظَلَّ الْمَلَائِكَةُ يَعْرُجُونَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، وَالْكُفَّارُ يُشَاهِدُونَهُمْ وَيَنْظُرُونَ صُعُودَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ لَقالُوا أَيِ: الْكُفَّارُ لِفَرْطِ عِنَادِهِمْ وَزِيَادَةِ عُتُوِّهِمْ إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ سُكِرَتْ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ مِنْ سُكْرِ الشَّرَابِ، أَوْ مِنَ السَّكْرِ، وَهُوَ سَدُّهَا عَنِ الْإِحْسَاسِ، يُقَالُ: سَكَرَ النَّهْرَ إِذَا سَدَّهُ وَحَبَسَهُ عَنِ الْجَرْيِ، وَرُجِّحَ الثَّانِي بِقِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: سُكِّرَتْ غُشِّيَتَ وَغُطِّيَتَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَطَلَعَتْ شَمْسٌ عَلَيْهَا مِغْفَرُ «1» ... وَجَعَلَتْ عَيْنُ الْحَرُورِ تَسْكَرُ وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا أَنَّهُ مِنْ سُكْرِ الشَّرَابِ، أَيْ: غَشِيَهُمْ مَا غَطَّى أَبْصَارَهُمْ كَمَا غَشِيَ السَّكْرَانَ مَا غَطَّى عَقْلَهُ وَقِيلَ: مَعْنَى سُكِّرَتْ حُبِسَتْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ: قصرت «2» عَلَى لَيْلَةٍ سَاهِرَهْ ... فَلَيْسَتْ بِطَلْقٍ وَلَا سَاكِرَهْ قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ أَضْرَبُوا عَنْ قَوْلِهِمْ سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مَسْحُورُونَ، أَيْ: سَحَرَهُمْ مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِعِنَادِهِمُ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يُقْلِعُهُمْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ، فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا آيَةً تُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ نَسَبُوا إِلَى أَبْصَارِهِمْ أَنَّ إِدْرَاكَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ لِعَارِضِ السُّكْرِ، أَوْ أَنَّ عُقُولَهُمْ قَدْ سُحِرَتْ فَصَارَ إِدْرَاكُهُمْ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَمَنْ بَلَغَ فِي التَّعَنُّتِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَلَا تَنْفَعُ فِيهِ مَوْعِظَةٌ، ولا يهتدي بآية.

_ (1) . في اللسان مادة سكر: جاء الشّتاء واجثألّ القبّر. (2) . في اللسان مادة سكر: جذلت.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ قَالَ: التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ قَالَ: الْكُتُبُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ قَالَ: مُبِينٌ وَاللَّهِ هُدَاهُ وَرُشْدَهُ وَخَيْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ قَالَ: وَدَّ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ فَعُرِضُوا عَلَى النَّارِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا فِي الْجَهَنَّمِيِّينَ إِذَا رَأَوْهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ منصور وهناد ابن السَّرِيِّ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا يَزَالُ اللَّهُ يَشْفَعُ وَيُدْخِلُ وَيَشْفَعُ وَيَرْحَمُ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ كَانَ مُسْلِمًا فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ أَنَّهُمَا تَذَاكَرَا هَذِهِ الْآيَةَ رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ فَقَالَا: هَذَا حَيْثُ يَجْمَعُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخَطَايَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي النَّارِ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، فَيَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ فَيُخْرِجُهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: صَحِيحٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِهِمْ، فَيَكُونُونَ فِي النَّارِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا، ثُمَّ يُعَيِّرُهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ، فَيَقُولُونَ: مَا نَرَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِكُمْ نَفَعَكُمْ، فَلَا يَبْقَى مُوَحِّدٌ إِلَّا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي السُّنَّةِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ فِي تَعْيِينِ هَذَا السَّبَبِ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا الْآيَةَ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: ذَرْهُمْ قَالَ: خَلِّ عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ قَالَ: نَرَى أَنَّهُ إِذَا حَضَرَهُ أَجَلُهُ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَخَّرُ سَاعَةً وَلَا يُقَدَّمُ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ يُؤَخِّرُ مَا شَاءَ وَيُقَدِّمُ مَا شَاءَ. قُلْتُ: وَكَلَامُ الزُّهْرِيِّ هَذَا لَا حَاصِلَ لَهُ وَلَا مُفَادَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ قَالَ: الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ قَالَ: بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ قَالَ: وَمَا كَانُوا لَوْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بِمُنْظَرِينَ مِنْ أَنْ يُعَذَّبُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أبي حاتم عن مُجَاهِدٍ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قَالَ: عِنْدَنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فِي شِيَعِ

[سورة الحجر (15) : الآيات 16 إلى 25]

الْأَوَّلِينَ قَالَ: أُمَمِ الْأَوَّلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ قَالَ: الشِّرْكُ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حاتم عن قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ قَالَ: وَقَائِعُ اللَّهِ فِيمَنْ خَلَا مِنَ الْأُمَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَظَلَّتِ الْمَلَائِكَةُ تَعْرُجُ فَنَظَرُوا إِلَيْهِمْ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا قَالَ: قُرَيْشٌ تَقُولُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا يَقُولُ: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَظَلَّتِ الْمَلَائِكَةُ تَعْرُجُ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ذاهبين وجائين لقال أهل الشرك: إنما أخذت أَبْصَارُنَا، وَشُبِّهَ عَلَيْنَا، وَإِنَّمَا سُحِرْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن مُجَاهِدٍ سُكِّرَتْ أَبْصارُنا قَالَ: سُدَّتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ قَالَ: وَمَنْ قَرَأَ: سُكِّرَتْ مخففة، فإنه يعني سحرت. [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25] وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ كُفْرَ الْكَافِرِينَ وَعَجْزَهُمْ وَعَجْزَ أَصْنَامِهِمْ، ذَكَرَ قُدْرَتَهُ الْبَاهِرَةَ وَخَلْقَهُ الْبَدِيعَ لِيَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، فَقَالَ: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً الْجَعْلُ إن كان بمعنى الخلق، ففي السَّمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ ففي السَّمَاءِ خَبَرُهُ، وَالْبُرُوجُ فِي اللُّغَةِ: الْقُصُورُ وَالْمَنَازِلُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ السَّيَّارَةِ، وَهِيَ الِاثْنَا عَشَرَ الْمَشْهُورَةُ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّجْرِبَةُ، وَالْعَرَبُ تَعُدُّ الْمَعْرِفَةَ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَمَنَازِلِهَا مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى الطُّرُقَاتِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْخِصْبِ وَالْجَدْبِ، وَقَالُوا: الْفَلَكُ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا، وَأَسْمَاءُ هَذِهِ الْبُرُوجِ: الْحَمَلُ، الثَّوْرُ، الْجَوْزَاءُ، السَّرَطَانُ، الْأَسَدُ، السُّنْبُلَةُ، الْمِيزَانُ، الْعَقْرَبُ، الْقَوْسُ، الْجَدْيُ، الدَّلْوُ، الْحُوتُ. كُلُّ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة والمشتغلين بهذا العلم يسمون الْحَمَلَ وَالْأَسَدَ وَالْقَوْسَ مُثَلَّثَةً نَارِيَّةً، وَالثَّوْرَ وَالسُّنْبُلَةَ وَالْجَدْيَ مُثَلَّثَةً أَرْضِيَّةً، وَالْجَوْزَاءَ وَالْمِيزَانَ وَالدَّلْوَ مُثَلَّثَةً هَوَائِيَّةً، وَالسَّرَطَانَ وَالْعَقْرَبَ وَالْحُوتَ مُثَلَّثَةً مَائِيَّةً. وَأَصْلُ الْبُرُوجِ الظُّهُورُ، وَمِنْهُ تَبَرُّجُ الْمَرْأَةِ بِإِظْهَارِ زِينَتِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْبُرُوجُ النُّجُومُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِظُهُورِهَا وَارْتِفَاعِهَا، وَقِيلَ: السَّبْعَةُ

السَّيَّارَةُ مِنْهَا قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ، وَقِيلَ: هِيَ قُصُورٌ وَبُيُوتٌ فِي السَّمَاءِ فِيهَا حَرَسٌ، وَالضَّمِيرُ فِي وَزَيَّنَّاها رَاجِعٌ إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ: وَزَيَّنَا السَّمَاءَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْبُرُوجِ لِلنَّاظِرِينَ إِلَيْهَا، أَوْ لِلْمُتَفَكِّرِينَ الْمُعْتَبِرِينَ الْمُسْتَدِلِّينَ إِذَا كَانَ مِنَ النَّظَرِ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ وَحَفِظْناها أَيِ: السَّمَاءَ مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّجِيمُ الْمَرْجُومُ بِالنُّجُومِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: رُجُوماً لِلشَّياطِينِ. وَالرَّجْمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ، ثُمَّ قيل للّعن والطرد والإبعاد رجم لأن الرامي بِالْحِجَارَةِ يُوجِبُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، أَيْ: إِلَّا مِمَّنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا، أَيْ: وَلَكِنَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ وَالْمَعْنَى: حَفِظْنَا السَّمَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ تَسْمَعَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَإِنَّهَا تَتْبَعُهُ الشُّهُبُ فَتَقْتُلُهُ أَوْ تُخْبِلُهُ. وَمَعْنَى فَأَتْبَعَهُ تَبِعَهُ وَلَحِقَهُ أَوْ أَدْرَكَهُ. وَالشِّهَابُ: الْكَوْكَبُ أَوِ النَّارُ الْمُشْتَعِلَةُ السَّاطِعَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: بِشِهابٍ قَبَسٍ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عفرية «1» ................ وَسُمِّي الْكَوْكَبُ شِهَابًا لِبَرِيقِهِ شِبْهَ النَّارِ، وَالْمُبِينُ: الظَّاهِرُ لِلْمُبْصِرِينَ يَرَوْنَهُ لَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِي الشِّهَابِ هَلْ يَقْتُلُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشِّهَابُ يَجْرَحُ وَيَحْرِقُ وَيُخْبِلُ وَلَا يَقْتُلُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَطَائِفَةٌ: يَقْتُلُ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي قَتْلِهِمْ بِالشُّهُبِ قَبْلَ إِلْقَاءِ السَّمْعِ إِلَى الْجِنِّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ قَبْلَ إِلْقَائِهِمْ مَا اسْتَرَقُوهُ مِنَ السَّمْعِ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَلَا تَصِلُ أَخْبَارُ السَّمَاءِ إِلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِذَلِكَ انْقَطَعَتِ الْكَهَانَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ بَعْدَ إِلْقَائِهِمْ مَا اسْتَرَقُوهُ مِنَ السَّمْعِ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْجِنِّ، قَالَ: ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ: وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ رَمْيٌ بِالشُّهُبِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: نَعَمْ، وَقِيلَ: لَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالرَّمْيُ بِالشُّهُبِ مِنْ آيَاتِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِمَّا حَدَثَ بَعْدَ مَوْلِدِهِ لِأَنَّ الشُّعَرَاءَ فِي الْقَدِيمِ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي أَشْعَارِهِمْ. قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: نَحْنُ نَرَى انْقِضَاضَ الْكَوَاكِبِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَمَا نَرَى، ثُمَّ يَصِيرُ نَارًا إِذَا أَدْرَكَ الشَّيْطَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُرْمَوْنَ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارِ الْهَوَاءِ فَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهُ نَجْمٌ يَسْرِي وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أَيْ: بَسَطْنَاهَا وَفَرَشْنَاهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «2» ، وفي قوله: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ «3» ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا كَالْكُرَةِ «4» وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي: جبال ثَابِتَةً لِئَلَّا تَحَرَّكَ بِأَهْلِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أَيْ: أَنْبَتْنَا فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ مِقْدَارٌ تُعْرَفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ، ومنه قول الشاعر:

_ (1) . وعجزه: مسوّم في سواد الليل منقضب. (2) . النازعات: 30. (3) . الذاريات: 48. (4) . قوله تعالى: «فرشناها» هذا ما يبدو للناظر أنها مبسوطة ممدودة، و «دحاها» : جعلها كالبيضة ليست تامة الكروية، فهي مفلطحة من جانبيها. وليس في الآيات المذكورة ما ينفي أن الأرض كروية، خاصة وقد أثبتت الحقائق العلمية كرويتها. [.....]

قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذَا مِرَّةٍ ... عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهُ وَقِيلَ: مَعْنَى مَوْزُونٍ مَقْسُومٍ، وقيل: معدود، والمقصود من الإنبات: الْإِنْشَاءُ وَالْإِيجَادُ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْجِبَالِ، أَيْ: أَنْبَتْنَا فِي الْجِبَالِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقِيلَ: مَوْزُونٌ بِمِيزَانِ الْحِكْمَةِ، وَمُقَدَّرٌ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ وَقِيلَ: الْمَوْزُونُ هُوَ الْمَحْكُومُ بِحُسْنِهِ كَمَا يُقَالُ كَلَامٌ مَوْزُونٌ، أَيْ: حَسَنٌ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تَعِيشُونَ بِهَا مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ جَمْعُ مَعِيشَةٍ، وَقِيلَ: هِيَ الْمَلَابِسُ، وَقِيلَ: هِيَ التَّصَرُّفُ فِي أَسْبَابِ الرِّزْقِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ الظَّاهِرُ. قُلْتُ: بَلِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: تُكَلِّفُنِي مَعِيشَةَ آلِ زيد ... ومن لي بالمرقّق والصّنابا «1» وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَعَايِشَ أَيْ: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَهُمُ الْمَمَالِيكُ وَالْخَدَمُ وَالْأَوْلَادُ الَّذِينَ رَازِقُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ، وَإِنْ ظَنَّ بَعْضُ الْعِبَادِ أَنَّهُ الرَّازِقُ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ اسْتِقْلَالِهِ بِالْكَسْبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ لَكُمْ، أَيْ: جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَجَعَلْنَا لِمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ فِيهَا مَعَايِشَ، وَهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الدَّوَابُّ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا، وَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي لَكُمْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْجَارِ وَقِيلَ: أَرَادَ الْوَحْشَ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ إِنْ هي النافية ومن مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ عَامٌّ لِوُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ مَعَ زِيَادَةِ مِنْ، وَمَعَ لَفْظِ شَيْءٍ الْمُتَنَاوِلِ لِكُلِّ الْمَوْجُودَاتِ الصَّادِقِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ اللَّهِ خَزَائِنُهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَالْخَزَائِنُ: جَمْعُ خِزَانَةٍ، وَهِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ نَفَائِسُ الْأُمُورِ، وَذِكْرُ الْخَزَائِنِ تَمْثِيلٌ لِاقْتِدَارِهِ عَلَى كُلِّ مَقْدُورٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ الْمُمْكِنَاتِ مَقْدُورَةٌ وَمَمْلُوكَةٌ يُخْرِجُهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُوبِ بِمِقْدَارٍ كَيْفَ شَاءَ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَطَرُ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْأَرْزَاقِ وَالْمَعَايِشِ وَقِيلَ: الْخَزَائِنُ: الْمَفَاتِيحُ، أَيْ: مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا فِي السَّمَاءِ مَفَاتِيحُهُ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعُمُومِ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، بَلْ قَدْ يَصْدُقُ الشَّيْءُ عَلَى الْمَعْدُومِ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي ذَلِكَ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أَيْ: مَا نُنَزِّلُهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَوْ نُوجِدُهُ لِلْعِبَادِ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وَالْقَدَرُ الْمِقْدَارُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُوجِدُ لِلْعِبَادِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا مُتَلَبِّسًا ذَلِكَ الإيجاد بمقدار معين حسبما تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ عَلَى مِقْدَارِ حَاجَةِ الْعِبَادِ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ «2» وَقَدْ فُسِّرَ الْإِنْزَالُ بِالْإِعْطَاءِ، وَفُسِّرَ بِالْإِنْشَاءِ، وَفُسِّرَ بِالْإِيجَادِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَجُمْلَةُ وَمَا نُنَزِّلُهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ: أَيْ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ نُنَزِّلُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. قَرَأَ حَمْزَةُ «الرِّيحَ» بِالتَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُ «الرِّياحَ» بِالْجَمْعِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ فتكون اللام في الريح للجنس. قال

_ (1) . «المرقّق» : الأرغفة الرقيقة الواسعة. «الصناب» : صباغ يتّخذ من الخردل والزبيب، يؤتدم به. (2) . الشورى: 27.

الْأَزْهَرِيُّ: وَجَعَلَ الرِّيَاحَ لِوَاقِحَ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ السَّحَابَ، أَيْ: تُقِلُّهُ وَتَصْرِفُهُ، ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ فَتُنْزِلُهُ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا، أَيْ: حَمَلَتْ. وَنَاقَةٌ لَاقِحٌ إِذَا حَمَلَتِ الْجَنِينَ فِي بَطْنِهَا، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَقِيلَ: لَوَاقِحُ بِمَعْنَى مُلَقِّحَةٍ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: تقول العرب: أبقل النبت فهو باقل، وقيل: مُبْقِلٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تُلَقِّحُ الشَّجَرَ، أَيْ: بِقُوَّتِهَا وَقِيلَ: مَعْنَى لَوَاقِحَ: ذَوَاتُ لَقَحٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: معناه: ذات لِقْحَةٍ لِأَنَّهَا تَعْصِرُ السَّحَابَ وَتُدِرُّهُ كَمَا تُدَرُّ اللِّقْحَةُ يُقَالُ رَامِحٌ، أَيْ: ذُو رُمْحٍ، وَلَابِنٌ، أَيْ: ذُو لَبَنٍ، وَتَامِرٌ، أَيْ: ذُو تَمْرٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَوَاقِحُ بِمَعْنَى مَلَاقِحَ، ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا جَمْعُ مَلْقَحَةٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَشْبِيهُ الرِّيَاحِ الَّتِي تَحْمِلُ الْمَاءَ بِالْحَامِلِ، وَلَقَاحِ الشجر بلقاح الحمل فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً أَيْ: مِنَ السَّحَابِ، وَكُلُّ مَا عَلَاكَ فَأَظَلَّكَ فَهُوَ سَمَاءٌ، وَقِيلَ: مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ هُنَا مَاءُ الْمَطَرِ فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أَيْ: جَعَلْنَا ذَلِكَ الْمَطَرَ لَسُقْيَاكُمْ وَلِشُرْبِ مَوَاشِيكُمْ وَأَرْضِكُمْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يُقَالُ سَقَيْتُهُ الْمَاءَ إِذَا أَعْطَيْتَهُ قَدْرَ مَا يَرْوِي وَأَسْقَيْتُهُ نَهْرًا، أَيْ: جَعَلْتَهُ شِرْبًا لَهُ، وَعَلَى هَذَا فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أَبْلَغُ مِنْ سَقَيْنَاكُمُوهُ وَقِيلَ: سَقَى وَأَسْقَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أَيْ: لَيْسَتْ خَزَائِنُهُ عِنْدَكُمْ، بَلْ خَزَائِنُهُ عِنْدَنَا، وَنَحْنُ الْخَازِنُونَ لَهُ، فَنَفَى عَنْهُمْ سُبْحَانَهُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ. وقيل: المعنى: مَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ بَعْدَ أَنْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكُمْ، أَيْ: لَا تَقْدِرُونَ عَلَى حِفْظِهِ فِي الْآبَارِ وَالْغُدْرَانِ وَالْعُيُونِ، بَلْ نَحْنُ الْحَافِظُونَ لَهُ فِيهَا لِيَكُونَ ذَخِيرَةً لَكُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أَيْ: نُوجِدُ الْحَيَاةَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَنَسْلُبُهَا عَنْهَا مَتَى شِئْنَا، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْجَزَاءِ لِعِبَادِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ وَتَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ، وَلِهَذَا قَالَ: وَنَحْنُ الْوارِثُونَ أَيْ: لِلْأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ، الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وُجُودُهُ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» . وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ هَذِهِ اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَهَكَذَا اللَّامُ فِي وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ، وَالْمُرَادُ مَنْ تَقَدَّمَ وِلَادَةً وَمَوْتًا، وَمَنْ تَأَخَّرَ فِيهِمَا وَقِيلَ: مَنْ تَقَدَّمَ طَاعَةً وَمَنْ تَأَخَّرَ فِيهَا، وَقِيلَ: مِنْ تَقَدَّمَ فِي صَفِّ الْقِتَالِ وَمَنْ تَأَخَّرَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُسْتَقْدِمِينَ الْأَمْوَاتُ، وَبِالْمُسْتَأْخِرِينَ الْأَحْيَاءُ وَقِيلَ: الْمُسْتَقْدِمِينَ هُمُ الْأُمَمُ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَالْمُسْتَأْخِرُونَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: الْمُسْتَقْدِمُونَ مَنْ قُتِلَ فِي الْجِهَادِ، وَالْمُسْتَأْخِرُونَ مَنْ لَمْ يُقْتَلْ. وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ وهو الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ، الْقَادِرُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا يُفِيدُهُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ مِنَ الْحَصْرِ. وَفِيهِ أَنَّهُ سبحانه يجازي المحسن بإحسانه، والمسيئ بِإِسَاءَتِهِ لِأَنَّهُ الْأَمْرُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَشْرِ إِنَّهُ حَكِيمٌ يُجْرِي الْأُمُورَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ عَلِيمٌ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ الْقُدْرَةُ الْبَالِغَةُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا وَسِعَهُ عِلْمُهُ، وَجَرَى فِيهِ حُكْمُهُ سُبْحَانَهُ لَا إله إلا هو.

_ (1) . آل عمران: 180.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً قَالَ: كَوَاكِبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَطِيَّةَ قَالَ: قُصُورًا فِي السَّمَاءِ فِيهَا الْحَرَسُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن قتادة قال الرَّجِيمُ: الْمَلْعُونُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أَرَادَ أَنْ يَخْطَفَ السَّمْعَ كقوله: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الشُّهُبَ لَا تَقْتُلُ، وَلَكِنْ تَحْرِقُ وَتَخْبِلُ وَتَجْرَحُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْتُلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قَالَ: مَعْلُومٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قَالَ: بِقَدَرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: الْأَشْيَاءُ الَّتِي تُوزَنُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَا أَنْبَتَتِ الْجِبَالُ مِثْلَ الْكُحْلِ وَشِبْهِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ قَالَ: الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: الْوَحْشُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «خَزَائِنُ اللَّهِ الْكَلَامُ، فَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ قَالَ: الْمَطَرُ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا نَقَصَ الْمَطَرُ مُنْذُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَلَكِنْ تُمْطِرُ أَرْضٌ أَكْثَرَ مِمَّا تُمْطِرُ أُخْرَى، ثُمَّ قَرَأَ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا مِنْ عَامٍ بِأَمْطَرَ مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَصْرِفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، ثُمَّ قَرَأَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ قَالَ: يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيحَ فَتَحْمِلُ الْمَاءَ، فَتُلَقِّحُ بِهِ السَّحَابَ، فَتَدِرُّ كَمَا تَدِرُّ اللِّقْحَةُ، ثُمَّ تُمْطِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: يَبْعَثُ اللَّهُ الْمُبَشِّرَةَ فَتَقُمُّ «2» الْأَرْضَ قَمًّا، ثُمَّ يَبْعَثُ الْمُثِيرَةَ فَتُثِيرُ السَّحَابَ فَتَجْعَلُهُ كِسَفًا، ثُمَّ يَبْعَثُ الْمُؤَلِّفَةَ فَتُؤَلِّفُ بَيْنَهُ فَيَجْعَلُهُ رُكَامًا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّوَاقِحَ فَتُلَقِّحُهُ فَتُمْطِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «رِيحُ الْجَنُوبِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهِيَ الرِّيحُ اللَّوَاقِحُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ» . وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَةٌ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

_ (1) . الصافات: 10. (2) . «قمّ» : كنس.

[سورة الحجر (15) : الآيات 26 إلى 44]

حَسْنَاءَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، فَكَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِئَلَّا يَرَاهَا، وَيَسْتَأْخِرُ بَعْضُهُمْ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ، فَإِذَا رَكَعَ نَظَرَ مِنْ تَحْتِ إِبِطَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْجَوْزَاءِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ أَصَحَّ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْمُسْتَقْدِمِينَ: الصُّفُوفَ المقدّمة، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ: الصُّفُوفَ الْمُؤَخَّرَةَ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي أَنَّ خَيْرَ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرَّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرَ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرَّهَا أَوَّلُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ وَمُقَاتِلِ بن حيان أن الآية في صفوف [الصلاة و] «1» الْقِتَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْمُسْتَقْدِمِينَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يعني بالمستقدمين من مات، وبالمستأخرين مَنْ هُوَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْمُسْتَقْدِمِينَ آدَمَ وَمَنْ مَضَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ هُوَ آدَمُ لِأَنَّهُ أَصْلُ هَذَا النَّوْعِ، وَالصَّلْصَالُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الطِّينُ الْمَخْلُوطُ بِالرَّمْلِ الَّذِي يَتَصَلْصَلُ إِذَا حُرِّكَ، فَإِذَا طُبِخَ فِي النَّارِ فَهُوَ الْفَخَّارُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ الطِّينُ الْمُنْتِنُ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ صَلَّ اللَّحْمُ وَأَصَلَّ: إِذَا أَنْتَنَ مَطْبُوخًا كَانَ أَوْ نِيئًا. قَالَ الْحُطَيْئَةُ: ذَاكَ فَتًى يَبْذُلُ ذَا قِدْرِةٍ ... لَا يُفْسِدُ اللَّحْمَ لَدَيْهِ الصُّلُولُ

_ (1) . من الدر المنثور (5/ 75) .

وَالْحَمَأُ: الطِّينُ الْأَسْوَدُ الْمُتَغَيِّرُ. أَوِ الطِّينُ الْأَسْوَدُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْمُتَغَيِّرِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: تقول منه: حمئت الْبِئْرَ حَمْأً بِالتَّسْكِينِ إِذَا نَزَعْتَ حَمْأَتَهَا، وَحَمِئَتِ البئر حمأ بالتحريك: كثرت حمأتها، وأحمأتها إِحْمَاءً: أَلْقَيْتُ فِيهَا الْحَمَأَةَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الحمأة بسكون الميم مثل الكمأة يَعْنِي بِالتَّحْرِيكِ، وَالْجَمْعُ حَمْءٌ مِثْلُ تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، وَالْحَمَأُ الْمَصْدَرُ مِثْلُ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ. وَالْمَسْنُونُ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الْمُتَغَيِّرُ، وَأَصْلُهُ مِنْ سَنَنْتُ الْحَجَرَ عَلَى الْحَجَرِ إِذَا حَكَكْتُهُ، وَمَا يَخْرُجُ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ يُقَالُ لَهُ السُّنَانَةُ وَالسِّنِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ: ثم خاصرتها إلى القبّة الحم ... راء «1» تمشي في مرمر مسنون أَيْ: مَحْكُوكٍ، وَيُقَالُ: أَسِنَ الْمَاءُ إِذَا تَغَيَّرَ، ومنه قوله: لَمْ يَتَسَنَّهْ «2» وقوله: ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ «3» . وَكِلَا الِاشْتِقَاقَيْنِ يَدُلُّ عَلَى التَّغَيُّرِ، لِأَنَّ مَا يَخْرُجُ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُنْتِنًا. وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ سَنَنْتُ الْمَاءَ عَلَى الْوَجْهِ إِذَا صَبَبْتَهُ، وَالسَّنُّ الصَّبُّ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَسْنُونُ الْمُصَوَّرُ، مَأْخُوذٌ مِنْ سُنَّةِ الْوَجْهِ، وَهِيَ صُورَتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلَا نَدَبُ «4» وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَسْنُونُ الْمَنْصُوبُ الْقَائِمُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: وَجْهٌ مَسْنُونٌ إِذَا كَانَ فِيهِ طُولٌ. وَالْحَاصِلُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ التُّرَابَ لَمَّا بُلَّ صَارَ طِينًا، فَلَمَّا أَنْتَنَ صَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، فَلَمَّا يَبِسَ صَارَ صَلْصَالًا. فَأَصْلُ الصَّلْصَالِ: هُوَ الْحَمَأُ الْمَسْنُونُ، وَلِهَذَا وُصِفَ بِهِمَا وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ الْجَانَّ أَبُو الْجِنِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ إِبْلِيسُ. وَسُمِّيَ جَانًّا لِتَوَارِيهِ عَنِ الْأَعْيُنِ. يُقَالُ: جَنَّ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرَهُ. فَالْجَانُّ يَسْتُرُ نَفْسَهُ عَنْ أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ، وَمَعْنَى مِنْ قَبْلُ: مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ، وَالسَّمُومُ: الرِّيحُ الْحَادَّةُ النَّافِذَةُ فِي الْمَسَامِّ، تَكُونُ بِالنَّهَارِ وَقَدْ تَكُونُ بِاللَّيْلِ، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَذُكِرَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ وَالْجَانِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَبَيَانِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى النَّشْأَةِ الْأَوْلَى قَادِرٌ عَلَى النَّشْأَةِ الْأُخْرَى وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ، بيّن سبحانه بعد ذكره الخلق الْإِنْسَانِ مَا وَقَعَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ، وَالْبَشَرُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَشَرَةِ، وَهِيَ ظَاهِرُ الْجِلْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الصَّلْصَالِ وَالْحَمَأِ الْمَسْنُونِ قَرِيبًا مُسْتَوْفًى. فَإِذا سَوَّيْتُهُ أَيْ: سَوَّيْتُ خَلْقَهُ وَعَدَلْتُ صُورَتَهُ الْإِنْسَانِيَّةَ وكملت أجزائه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي النَّفْخُ: إِجْرَاءُ الرِّيحِ فِي تَجَاوِيفِ جِسْمٍ آخَرَ فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ لَطِيفٌ كَالْهَوَاءِ فَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ وَلَا حَالٍّ فِي مُتَحَيِّزٍ. فَمَعْنَى النَّفْخِ عِنْدَهُ تَهْيِئَةُ الْبَدَنِ لِتَعَلُّقِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ بِهِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي رُوحِي لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ، مِثْلُ نَاقَةِ اللَّهِ، وَبَيْتِ اللَّهِ. قال القرطبي: والروح: جسم لطيف

_ (1) . في لسان العرب: الخضراء. (2) . البقرة: 259. (3) . محمد: 15. (4) . «السنة» : الصورة. «المقرفة» : التي دنت من الهجينة. «خال» : شامة. «ندب» : الأثر من الجرح والقراح.

أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنْ يَخْلُقَ الْحَيَاةَ فِي الْبَدَنِ مَعَ ذَلِكَ الْجِسْمِ، وَحَقِيقَتُهُ إِضَافَةُ خَلْقٍ إِلَى خَالِقٍ، فَالرُّوحُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا، قَالَ: وَمِثْلُهُ: وَرُوحٌ مِنْهُ «1» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النِّسَاءِ فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ الْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُجُودَهُمْ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ عَقِبَ التَّسْوِيَةِ وَالنَّفْخِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَهُوَ أَمْرٌ بِالْوُقُوعِ مِنْ وَقَعَ يَقَعُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ السُّجُودُ لَا مُجَرَّدُ الِانْحِنَاءِ كَمَا قِيلَ، وَهَذَا السُّجُودُ هُوَ سُجُودُ تَحِيَّةٍ وَتَكْرِيمٍ لَا سُجُودُ عِبَادَةٍ، وَلِلَّهِ أَنْ يُكْرِمَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ كَيْفَ يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ، وَقِيلَ: كَانَ السُّجُودُ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَ آدَمُ قِبْلَةً لَهُمْ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَجَدُوا جَمِيعًا عِنْدَ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: قَوْلُهُ: كُلُّهُمْ أَزَالَ احْتِمَالَ أَنَّ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَسْجُدْ، وَقَوْلُهُ: أَجْمَعُونَ تَوْكِيدٌ بَعْدَ تَوْكِيدٍ، وَرَجَّحَ هَذَا الزَّجَّاجُ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ أَجْمَعَ مَعْرِفَةٌ فَلَا يَقَعُ حَالًا وَلَوْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ حَالًا لَكَانَ مُنْتَصِبًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى إِبْلِيسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قِيلَ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَكِنَّهُ أَبَى ذَلِكَ اسْتِكْبَارًا وَاسْتِعْظَامًا لِنَفْسِهِ وَحَسَدًا لِآدَمَ، فَحَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ اللَّهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ، فَغَلَبَ اسْمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ وَأُمِرَ بِمَا أُمِرُوا بِهِ، فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مُتَّصِلًا وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْفَصِلٌ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ كَوْنِهِ مِنْهُمْ، وَعَدَمِ تَغْلِيبِهِمْ عَلَيْهِ، أَيْ: وَلَكِنَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَجُمْلَةُ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِكَيْفِيَّةِ مَا فِيهِمْ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ عَدَمِ السُّجُودِ لِأَنَّ عَدَمَ السُّجُودِ قَدْ يَكُونُ مَعَ التَّرَدُّدِ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أنه كان على وجه الإباء، وجملة قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِإِبْلِيسَ بَعْدَ أَنْ أَبَى السُّجُودَ؟ وَهَذَا الْخِطَابُ لَهُ لَيْسَ لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ، بَلْ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ غَرَضٍ لَكَ فِي الِامْتِنَاعِ؟ وَأَيُّ سَبَبٍ حملك عليه على أن لا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ لِآدَمَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ؟ وَهُمْ فِي الشَّرَفِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي قَدْ عَلِمْتَهَا، وَجُمْلَةُ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، جَعَلَ الْعِلَّةَ لِتَرْكِ سُجُودِهِ كَوْنَ آدَمَ بَشَرًا مَخْلُوقًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ عُنْصُرٍ أَشْرَفَ مِنْ عُنْصُرِ آدَمَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِجْمَالِيَّةٌ فِي كَوْنِهِ خَيْرًا مِنْهُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «2» ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً «3» ، وَاللَّامُ فِي لِأَسْجُدَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنِّي، فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا، قِيلَ: عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: إِلَى السَّمَاءِ، وَقِيلَ: إِلَى زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ: فَاخْرُجْ مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، أَيْ: مَرْجُومٌ بِالشُّهُبِ. وَقِيلَ: مَعْنَى رَّجِيمِ مَلْعُونٌ، أَيْ: مَطْرُودٌ، لِأَنَّ مَنْ يُطْرَدُ يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ أَيْ: عَلَيْكَ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُسْتَمِرًا عَلَيْكَ لَازِمًا لَكَ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَجَعْلُ يَوْمِ الدِّينِ غَايَةً لِلَّعْنَةِ لا يستلزم انقطاعها

_ (1) . النساء: 171. (2) . ص: 76. (3) . الإسراء: 61.

فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْمُرَادَ دَوَامُهَا مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، وَذُكِرَ يَوْمُ الدِّينِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ «1» ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ فِي يَوْمِ الدِّينِ وَمَا بَعْدَهُ يُعَذَّبُ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ اللَّعْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، فَكَأَنَّهُ لَا يَجِدُ لَهُ مَا كَانَ يَجِدُهُ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهُ الْعَذَابُ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أَيْ: أَخِّرْنِي وَأَمْهِلْنِي وَلَا تُمِتْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أَيْ: آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ. طَلَبَ أَنْ يَبْقَى حَيًّا إِلَى هَذَا الْيَوْمِ لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخَّرَ عَذَابَهُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَكَأَنَّهُ طَلَبَ أَنْ لَا يَمُوتَ أَبَدًا، لِأَنَّهُ إِذَا أُخِّرَ مَوْتُهُ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ فَهُوَ يَوْمٌ لَا مَوْتَ فِيهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ أَنْ لَا يَمُوتَ، بَلْ طَلَبَ أَنْ يُؤَخَّرَ عَذَابُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا يُعَذَّبَ فِي الدُّنْيَا قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ لَمَّا سَأَلَ الْإِنْظَارَ أَجَابَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى مَا طَلَبَهُ وَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَنْظَرَهُ مِمَّنْ أَخَّرَ آجَالَهُمْ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَخَّرَ عُقُوبَتَهُمْ بِمَا اقْتَرَفُوا، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْغَايَةَ الَّتِي أَمْهَلَهُ إِلَيْهَا. فَقَالَ: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ يَوْمَ الدِّينِ وَيَوْمَ يَبْعَثُونَ وَيَوْمَ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ كُلَّهَا عِبَارَاتٌ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَقْتِ الْمَعْلُومِ هُوَ الْوَقْتُ الْقَرِيبُ مِنَ الْبَعْثِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَمُوتُ قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ الباء للقسم، وما مَصْدَرِيَّةٌ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ، أَيْ: أُقْسِمُ بِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: مَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا، وَالتَّزْيِينُ مِنْهُ إِمَّا بتحسين المعاصي وإيقاعهم فيها، أو بشغلهم بِزِينَةِ الدُّنْيَا عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى غَيْرِهَا. وَإِقْسَامُهُ هَاهُنَا بِإِغْوَاءِ اللَّهِ لَهُ لَا يُنَافِي إِقْسَامَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِعِزَّةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ سُلْطَانُهُ وقهره لأن الإغواء لَهُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَصْدُقُ عَلَيْهِ الْعِزَّةُ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ: لَأُضِلَّنَّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَأُوقِعُهُمْ فِي طَرِيقِ الْغَوَايَة وَأَحْمِلُهُمْ عَلَيْهَا إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بِفَتْحِ اللَّامِ، أَيِ: الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ مِنَ الْعِبَادِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ اللَّامِ، أَيِ: الَّذِينَ أَخْلَصُوا لَكَ الْعِبَادَةَ فَلَمْ يَقْصِدُوا بِهَا غَيْرَكَ قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أَيْ: حَقٌّ عَلَيَّ أَنْ أُرَاعِيَهُ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَكَ عَلَى عِبَادِي سُلْطَانٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هذا على الوعيد والتهديد، كقولك لمن تهدد: طَرِيقُكَ عَلَيَّ وَمَصِيرُكُ إِلَيَّ، وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ، فَكَأَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ هَذَا طَرِيقُ مَرْجِعِهِ إِلَيَّ فَأُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، وَقِيلَ: عَلَى هُنَا بمعنى إليّ وقيل: المعنى علي أن أدلّ على الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ وَقِيلَ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَقَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَحُمَيْدٌ وَيَعْقُوبُ «هَذَا صِرَاطٌ عَلِيٌّ» عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَمَعْنَاهُ رَفِيعٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ الْمُرَادُ بِالْعِبَادِ هُنَا هُمُ الْمُخْلَصُونَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا تَسَلُّطَ لَهُ عَلَيْهِمْ بِإِيقَاعِهِمْ فِي ذَنْبٍ يَهْلَكُونَ بِهِ وَلَا يَتُوبُونَ مِنْهُ، فَلَا يُنَافِي هَذَا مَا وَقَعَ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ ذَنْبٌ مَغْفُورٌ لِوُقُوعِ التَّوْبَةِ عَنْهُ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ مِنْ عِبَادِهِ هَؤُلَاءِ، وَهُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِإِبْلِيسَ مِنَ الْغَاوِينَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، الْوَاقِعِينَ فِي الضَّلَالِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ مِنْ قَوْلِهِ: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ- إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فَرْقًا، فَكَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهِ نَفْيُ سُلْطَانِ إِبْلِيسَ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْغَاوِينَ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمُخْلَصُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ إبليس من الغاوين وكلام

_ (1) . هود: 107، 108. [.....]

إِبْلِيسَ اللَّعِينِ يَتَضَمَّنُ إِغْوَاءَ الْجَمِيعِ إِلَّا الْمُخْلَصِينَ، فَدَخَلَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُخْلَصًا وَلَا تَابِعًا لِإِبْلِيسَ غَاوِيًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيْنَ الْمُخْلَصِينَ وَالْغَاوِينَ التَّابِعِينَ لِإِبْلِيسَ طَائِفَةٌ لَمْ تَكُنْ مُخْلَصَةً وَلَا غَاوِيَةً تَابِعَةً لِإِبْلِيسَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْغَاوِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِإِبْلِيسَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ «1» ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَوَعِّدًا لِأَتْبَاعِ إِبْلِيسَ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ: مَوْعِدُ الْمُتَّبِعِينَ الغاوين، وأجمعين تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ أَوْ حَالٌ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ يَدْخُلُ أَهْلُ النَّارِ مِنْهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ سَبْعَةً لِكَثْرَةِ أَهْلِهَا لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ أَيْ: مِنَ الْأَتْبَاعِ الْغُوَاةِ جُزْءٌ مَقْسُومٌ أَيْ: قَدَرٌ مَعْلُومٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَبْوَابِ الْأَطْبَاقُ طَبَقٌ فَوْقَ طَبَقٍ، وَهِيَ: جَهَنَّمُ، ثُمَّ لَظَى، ثُمَّ الْحُطَمَةُ، ثُمَّ السَّعِيرُ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ فَأَعْلَاهَا لِلْمُوَحِّدِينَ، وَالثَّانِيَةُ لِلْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةُ لِلنَّصَارَى، وَالرَّابِعَةُ لِلصَّابِئِينَ، وَالْخَامِسَةُ لِلْمَجُوسِ، وَالسَّادِسَةُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالسَّابِعَةُ لِلْمُنَافِقِينَ، فَجَهَنَّمُ أَعْلَى الطِّبَاقِ، ثُمَّ مَا بَعْدَهَا تَحْتَهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ، كَذَا قِيلَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ ثَلَاثٍ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ وَصَلْصَالٍ وَحَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَالطِّينُ اللَّازِبُ: اللَّازِمُ الْجَيِّدُ، وَالصَّلْصَالُ: الْمُدَقَّقُ الَّذِي يُصْنَعُ مِنْهُ الْفَخَّارُ، وَالْحَمَأُ الْمَسْنُونُ: الطِّينُ الَّذِي فِيهِ الْحَمَأَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: الصَّلْصَالُ الْمَاءُ يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ ثُمَّ يُحْسَرُ عَنْهَا فَتَشَقَّقُ ثُمَّ تَصِيرُ مِثْلَ الْخَزَفِ الرِّقَاقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الصَّلْصَالُ هُوَ التُّرَابُ الْيَابِسُ الَّذِي يُبَلُّ بَعْدَ يُبْسِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: قَالَ: الصَّلْصَالُ طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا. قَالَ: الصَّلْصَالُ الَّذِي إِذَا ضَرَبْتَهُ صَلْصَلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا. قَالَ: الصَّلْصَالُ: الطِّينُ تَعْصِرُ بِيَدِكَ فَيَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قَالَ: مِنْ طِينٍ رَطْبٍ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قَالَ: مِنْ طِينٍ مُنْتِنٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْجَانُّ مَسِيخُ الْجِنِّ، كَالْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ مَسِيخُ الْإِنْسِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ: قَالَ: الْجَانُّ. هُوَ إِبْلِيسُ خُلِقَ مِنْ قَبْلِ آدَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ قَالَ: مِنْ أَحْسَنِ النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: نَارِ السَّمُومِ: الْحَارَةِ الَّتِي تَقْتُلُ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: السَّمُومُ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا الْجَانُّ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ قَرَأَ: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ وأخرج ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ:

_ (1) . النحل: 100.

[سورة الحجر (15) : الآيات 45 إلى 66]

أراد إبليس أن لا يَذُوقَ الْمَوْتَ فَقِيلَ إِنَّكَ مِنَ الْمَنْظَرَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، قَالَ: النَّفْخَةُ الْأُولَى يَمُوتُ فِيهَا إِبْلِيسُ، وَبَيْنَ النَّفْخَةِ وَالنَّفْخَةِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وأخرج أبو عبيدة وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أَيْ: رَفِيعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ بِعَدَدِ أَطْبَاقِ جَهَنَّمَ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ النَّارِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَطْبَاقُ جَهَنَّمَ سَبْعَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَيُمْلَأُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ حَتَّى تُمْلَأَ كُلُّهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «بِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ: بَابٌ مِنْهَا لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ عَلَى أُمَّتِي» . وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَةِ النَّارِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ قَالَ: جُزْءٌ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، وَجُزْءٌ شَكُّوا فِي الله، وجزء غفلوا عن الله» . [سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 66] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أَيِ: الْمُتَّقِينَ لِلشِّرْكِ بِاللَّهِ كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ اتَّقَوْا جَمِيعَ الْمَعَاصِي فِي جَنَّاتِ وَهِيَ الْبَسَاتِينُ، وَعُيُونٍ وَهِيَ الْأَنْهَارُ. قُرِئَ بِضَمِّ الْعَيْنِ مِنْ عُيُونٍ عَلَى الْأَصْلِ، وَبِالْكَسْرِ مُرَاعَاةً لِلْيَاءِ، وَالتَّرْكِيبُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتٌ وَعُيُونٌ، أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَنَّاتٌ وَعُيُونٌ، أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَنَّةٌ وَعَيْنٌ ادْخُلُوها قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: قِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَرُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَقْطُوعَةً، وَفَتْحِ الْخَاءِ، عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ،

فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ادْخُلُوهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ؟ فَإِنَّ الْأَمْرَ لَهُمْ بِالدُّخُولِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِيهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا فِي الْجَنَّاتِ، فَإِذَا انْتَقَلُوا مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى الَّتِي أَرَادُوا الِانْتِقَالَ إِلَيْهَا ادْخُلُوهَا، وَمَعْنَى بِسَلامٍ آمِنِينَ بِسَلَامَةٍ مِنَ الْآفَاتِ، وَأَمْنٍ مِنَ الْمَخَافَاتِ، أَوْ مُسَلِّمِينَ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا، أَوْ مُسَلَّمًا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ الْغِلُّ: الْحِقْدُ وَالْعَدَاوَةُ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي الْأَعْرَافِ، وَانْتِصَابُ إِخْواناً عَلَى الْحَالِ، أَيْ: إِخْوَةً فِي الدِّينِ وَالتَّعَاطُفِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ عَلَى سُرُرٍ، وَعَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ التَّقَابُلُ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى وَجْهِ بَعْضٍ، وَالسُّرُرُ جَمْعُ سَرِيرٍ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَجْلِسُ الرَّفِيعُ الْمُهَيَّأُ لِلسُّرُورِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سِرُّ الْوَادِي لِأَفْضَلِ مَوْضِعٍ مِنْهُ لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ أَيْ: تَعَبٌ وَإِعْيَاءٌ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا نُعَيْمٌ خَالِصٌ، وَلَذَّةٌ مَحْضَةٌ، تَحْصُلُ لَهُمْ بِسُهُولَةٍ، وَتُوَافِيهِمْ مَطَالِبُهُمْ بِلَا كَسْبٍ وَلَا جَهْدٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ خُطُورِ شَهْوَةِ الشَّيْءِ بِقُلُوبِهِمْ يَحْصُلُ ذَلِكَ الشَّيْءُ عِنْدَهُمْ صَفْوًا عَفْوًا وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أَبَدًا، وَفِي هَذَا الْخُلُودِ الدَّائِمِ وَعِلْمِهِمْ بِهِ تَمَامُ اللَّذَّةِ وَكَمَالُ النَّعِيمِ، فَإِنَّ عِلْمَ مَنْ هُوَ فِي نِعْمَةٍ وَلَذَّةٍ بِانْقِطَاعِهَا وَعَدَمِهَا بَعْدَ حِينٍ مُوجِبٌ لِتَنَغُّصِ نَعِيمِهِ وَتَكَدُّرِ لَذَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ قَصَّ عَلَيْنَا مَا لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ وَالْأَجْرِ الْجَزِيلِ نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أَيْ: أَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَنِّي أَنَا الْكَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ لِذُنُوبِهِمُ، الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لَهُمْ، كَمَا حَكَمْتُ بِهِ عَلَى نَفْسِي: «أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» . اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الَّذِينَ تَفَضَّلْتَ عَلَيْهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ، وَأَدْخَلْتَهُمْ تَحْتَ وَاسِعِ الرَّحْمَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُخْبِرَ عِبَادَهُ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ الْعَظِيمَةِ، أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ شَيْئًا مِمَّا يَتَضَمَّنُ التَّخْوِيفَ وَالتَّحْذِيرَ حَتَّى يَجْتَمِعَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ، وَيَتَقَابَلَ التَّبْشِيرُ وَالتَّحْذِيرُ لِيَكُونُوا رَاجِينَ خَائِفِينَ فَقَالَ: وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ أَيِ: الكثير الإيلام، وعند ما جَمَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ التَّبْشِيرِ وَالتَّحْذِيرِ صَارُوا فِي حَالَةٍ وَسَطًا بَيْنَ الْيَأْسِ وَالرَّجَاءِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَهِيَ الْقِيَامُ عَلَى قَدَمَيِ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَبَيْنَ حَالَتَيِ الْأُنْسِ وَالْهَيْبَةِ، وَجُمْلَةُ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ مَعْطُوفَةٌ على جملة نبىء عِبَادِي أَيْ: أَخْبِرْهُمْ بِمَا جَرَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ لَهُ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ، وَالتَّبْشِيرُ الَّذِي خَالَطَهُ نَوْعٌ مِنَ الْوَجَلِ لِيَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ وَيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي عِبَادِهِ. وَأَيْضًا لَمَّا اشْتَمَلَتِ الْقِصَّةُ عَلَى إِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ كَانَ فِي ذَلِكَ تقديرا لِكَوْنِهِ الْغَفُورَ الرَّحِيمَ وَأَنَّ عَذَابَهُ هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَانْتِصَابُ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى نَبِّئْ عِبادِي أَيْ: وَاذْكُرْ لَهُمْ دُخُولَهُمْ عَلَيْهِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالضَّيْفُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، وَلِذَلِكَ وُحِّدَ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً، وَسُمِّيَ ضَيْفًا لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمُضِيفِ فَقالُوا سَلاماً أَيْ: سَلَّمْنَا سَلَامًا قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أَيْ: فَزِعُونَ خَائِفُونَ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا بَعْدَ أَنْ قَرَّبَ إِلَيْهِمُ الْعِجْلَ فَرَآهُمْ لَا يَأْكُلُونَ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً «1» . وَقِيلَ: أَنْكَرَ السَّلَامَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ، وَقِيلَ: أَنْكَرَ دُخُولَهُمْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ استئذان

_ (1) . هود: 70.

قالُوا لَا تَوْجَلْ أَيْ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَا تخف، وقرئ لا تأجل ولا تَوْجَلْ مِنْ أَوْجَلَهُ، أَيْ: أَخَافَهُ، وَجُمْلَةُ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنِ الْوَجَلِ، وَالْعَلِيمُ: كَثِيرُ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَلِيمُ كَمَا وَقَعَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَهَذَا الْغُلَامُ: هُوَ إِسْحَاقُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هُودٍ، وَلَمْ يُسَمِّهِ هُنَا وَلَا ذَكَرَ التَّبْشِيرَ بِيَعْقُوبَ اكْتِفَاءً بِمَا سَلَفَ قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِأَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «بَشَّرْتُمُونِي» بِغَيْرِ الْأَلِفِ عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَعَ حَالَةِ الْكِبَرِ وَالْهَرَمِ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ، كَأَنَّهُ عَجِبَ مِنْ حُصُولِ الْوَلَدِ لَهُ مَعَ مَا قَدْ صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَرَمِ الَّذِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ لَا يُولَدُ لِمَنْ بَلَغَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ شَيْءٍ تُبَشِّرُونَ، فَإِنَّ الْبِشَارَةَ بِمَا لَا يَكُونُ عَادَةً لَا تَصِحُّ. وَقَرَأَ نَافِعٌ «تُبَشِّرُونِ» بِكَسْرِ النُّونِ وَالتَّخْفِيفِ وَإِبْقَاءِ الْكِسْرَةِ لِتَدُلَّ عَلَى الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِكَسْرِ النُّونِ مُشَدَّدَةً عَلَى إِدْغَامِ النُّونِ فِي النُّونِ، وَأَصْلُهُ تُبَشِّرُونَنِي. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «تُبَشِّرُونَ» بِفَتْحِ النُّونِ قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْيَقِينِ الَّذِي لَا خُلْفَ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَعْدُ اللَّهِ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ هَكَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «مِنَ الْقَنِطِينَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، أَيْ: مِنَ الْآيِسِينَ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي بَشَّرْنَاكَ بِهِ قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ قُرِئَ بِفَتْحِ النُّونِ مَنْ يَقْنَطُ وَبِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. وَحُكِيَ فِيهِ ضَمُّ النون. والضالون: الْمُكَذِّبُونَ، أَوِ الْمُخْطِئُونَ الذَّاهِبُونَ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ، أَيْ: إِنَّمَا اسْتَبْعَدْتُ الْوَلَدَ لِكِبَرِ سَنِّي لَا لِقُنُوطِي مِنْ رَحْمَةِ رَبِّي ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَمَّا لأجله أرسلهم الله سبحانه ف قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ الْخَطْبُ: الْأَمْرُ الْخَطِيرُ وَالشَّأْنُ الْعَظِيمُ، أَيْ: فَمَا أَمْرُكُمْ وَشَأْنُكُمْ وَمَا الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ غَيْرَ مَا قَدْ بَشَّرْتُمُونِي بِهِ، وَكَأَنَّهُ قَدْ فَهِمَ أَنَّ مَجِيئَهُمْ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ الْبِشَارَةِ، بَلْ لَهُمْ شَأْنٌ آخَرُ لِأَجْلِهِ أُرْسِلُوا قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أَيْ: إِلَى قَوْمٍ لَهُمْ إِجْرَامٌ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ الشِّرْكُ وَمَا هُوَ دُونَهُ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ: هُمْ قَوْمُ لُوطٍ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنْ لَيْسُوا مُجْرِمِينَ فَقَالَ: إِلَّا آلَ لُوطٍ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لِأَنَّهُ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُجْرِمِينَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ لَكَانَ مُنْقَطِعًا لِكَوْنِهِمْ قَدْ وُصِفُوا بِكَوْنِهِمْ مُجْرِمِينَ، وَلَيْسَ آلُ لُوطٍ مُجْرِمِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا سَيَخْتَصُّ بِهِ آلُ لُوطٍ مِنَ الْكَرَامَةِ لِعَدَمِ دُخُولِهِمْ مَعَ الْقَوْمِ فِي إِجْرَامِهِمْ فَقَالَ: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ: آلَ لُوطٍ، وَهُمْ أَتْبَاعُهُ وَأَهْلُ دِينِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَكُونُ حَالُ آلِ لُوطٍ؟ فَقَالَ: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا فَهِيَ خَبَرٌ، أَيْ: لَكِنَّ آلَ لُوطٍ نَاجُونَ مِنْ عَذَابِنَا. وَقَرَأَ حمزة والكسائي لَمُنَجُّوهُمْ بالتخفيف من أنجى. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ نَجَّى. وَاخْتَارَ هَذِهِ القراءة الأخيرة أبو عبيد وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالتَّنْجِيَةُ وَالْإِنْجَاءُ: التَّخْلِيصُ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ غَيْرُهُمْ إِلَّا امْرَأَتَهُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُنَجُّوهُمْ إِخْرَاجًا لَهَا مِنَ التَّنْجِيَةِ أَيْ: إِلَّا امْرَأَتَهُ فَلَيْسَتْ مِمَّنْ نُنْجِيهِ بَلْ مِمَّنْ نُهْلِكُهُ وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ آلِ لُوطٍ بِاعْتِبَارِ مَا حُكِمَ لَهُمْ بِهِ مِنَ التنجية، والمعنى: قالوا: إننا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُهْلِكَهُمْ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ إِلَّا امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا مِنَ الْهَالِكِينَ، وَمَعْنَى قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ قَضَيْنَا وَحَكَمْنَا أَنَّهَا مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ مَعَ الكفرة، والغابر الباقي، قال الشاعر «1» :

_ (1) . هو الحارث بن حلزة.

لَا تَكْسَعِ الشَّوْلَ بِأَغْبَارِهَا ... إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَنِ النَّاتِجُ «1» وَالْإِغْبَارُ: بَقَايَا اللَّبَنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى قَدَّرْنَا دَبَّرْنَا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَضَيْنَا، وَأَصْلُ التَّقْدِيرِ: جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلِ «قَدَرْنَا» بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: هُمَا بِمَعْنًى، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ التَّقْدِيرُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِمَا لَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ عِنْدَ اللَّهِ فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ هذه الجملة مستأنفة لبيان وإهلاك مَنْ يَسْتَحِقُّ الْهَلَاكَ وَتَنْجِيَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّجَاةَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أَيْ: قَالَ لُوطٌ مُخَاطِبًا لَهُمْ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، أَيْ: لَا أَعْرِفُكُمْ بَلْ أُنْكِرُكُمْ قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أَيْ: بِالْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يَشُكُّونَ فِيهِ، فَالْإِضْرَابُ هُوَ عَنْ مَجِيئِهِمْ بِمَا يُنْكِرُهُ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا جِئْنَاكَ بِمَا خَطَرَ بِبَالِكَ مِنَ الْمَكْرُوهِ، بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا فِيهِ سُرُورُكَ، وَهُوَ عَذَابُهُمُ الَّذِي كُنْتَ تُحَذِّرُهُمْ مِنْهُ وَهُمْ يُكَذِّبُونَكَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْيَقِينِ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ، وَهُوَ الْعَذَابُ النَّازِلُ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ «2» فِي سورة هود: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ كن من ورائهم تذودهم لئلا يتخلف مِنْهُمْ أَحَدٌ فَيَنَالَهُ الْعَذَابُ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَيْ: لَا تَلْتَفِتْ أَنْتَ وَلَا يَلْتَفِتْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَرَى مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَيَشْتَغِلَ بِالنَّظَرِ فِي ذَلِكَ وَيَتَبَاطَأَ عَنْ سُرْعَةِ السَّيْرِ وَالْبُعْدِ عَنْ دِيَارِ الظَّالِمِينَ وَقِيلَ: مَعْنَى لَا يَلْتَفِتْ لَا يَتَخَلَّفْ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أَيْ: إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُضِيِّ إِلَيْهَا، وَهِيَ جِهَةُ الشَّامِ، وَقِيلَ: مِصْرُ، وَقِيلَ: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى لُوطٍ، وَقِيلَ: أَرْضُ الْخَلِيلِ وَقَضَيْنا إِلَيْهِ أَيْ: أَوْحَيْنَا إِلَى لُوطٍ ذلِكَ الْأَمْرَ وَهُوَ إِهْلَاكُ قَوْمِهِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ أَنَّ نَصْبٌ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَالدَّابِرُ هُوَ الْآخِرُ، أَيْ: أَنَّ آخِرَ مَنْ يَبْقَى مِنْهُمْ يَهْلَكُ وَقْتَ الصُّبْحِ، وَانْتِصَابُ مُصْبِحِينَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ، وَمِثْلُهُ: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: آمِنِينَ قَالَ: أَمِنُوا الْمَوْتَ فَلَا يَمُوتُونَ وَلَا يَكْبُرُونَ وَلَا يَسْقُمُونَ وَلَا يَعْرُونَ وَلَا يَجُوعُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قَالَ: الْعَدَاوَةِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: فِينَا وَاللَّهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ نَزَلَتْ وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ: فِي بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي تَيْمٍ، وَبَنِي عَدِيٍّ، فِيَّ وَفِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ كَثِيرٍ النّوّاء. قال: قلت

_ (1) . «الكسع» : ضرب ضرع الناقة بالماء البارد ليجف لبنها ويترادّ في ظهرها فيكون أقوى لها على الجدب في العام القابل. «الشول» : جمع شائلة، وهي من الإبل التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فخفّ لبنها. (2) . هود: 81.

لِأَبِي جَعْفَرٍ: إِنَّ فُلَانًا حَدَّثَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ وَفِيمَنْ تَنْزِلُ إِلَّا فِيهِمْ؟ قُلْتُ: وَأَيُّ غِلٍّ هُوَ؟ قَالَ: غِلُّ الْجَاهِلِيَّةِ، إِنَّ بَنِي تَيْمٍ وَبَنِي عَدِيٍّ وَبَنِي هَاشِمٍ كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا أَسَلَمَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ تَحَابُّوا، فَأَخَذَتْ أَبَا بَكْرٍ الْخَاصِرَةُ «1» ، فَجَعَلَ عَلِيٌّ يُسْخِنُ يَدَهُ فَيُكَمِّدُ بِهَا خَاصِرَةَ أَبِي بَكْرٍ، فَنَزَلَتْ هذه الآية. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ طَلْحَةَ: إِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَنَا وَأَبُوكَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ الْآيَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ: اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَصَاحَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ صيحة تداعى لها القصر وقال: فيمن إذن إِنْ لَمْ نَكُنْ نَحْنُ أُولَئِكَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ فِيمَنْ قَالَ اللَّهُ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَشَرَةٍ: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطِلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ، وَسَعِيدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ قَالَ: لَا يَرَى بَعْضُهُمْ قَفَا بَعْضٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ قَالَ: الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ قَالَ: الْمَشَقَّةُ وَالْأَذَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اطَّلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ بَنُو شَيْبَةَ فَقَالَ: «أَلَا أَرَاكُمْ تَضْحَكُونَ، ثُمَّ أَدْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَجَرِ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فَقَالَ: إِنِّي لَمَّا خَرَجْتُ جَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: لِمَ تُقَنِّطُ عِبَادِي؟ نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَضْحَكُونَ فَقَالَ: «اذْكُرُوا الْجَنَّةَ وَاذْكُرُوا النَّارَ، فَنَزَلَتْ نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: مرّ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ كُلَّ الَّذِي عِنْدَ الله من رحمته لم بيأس مِنَ الرَّحْمَةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النار» .

_ (1) . أي وجع الخاصرة.

[سورة الحجر (15) : الآيات 67 إلى 77]

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قالُوا لَا تَوْجَلْ لَا تَخَفْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِنَ الْقانِطِينَ قَالَ: الْآيِسِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ يَعْنِي الْبَاقِينَ فِي عَذَابِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قَالَ: أَنْكَرَهُمْ لُوطٌ، وَفِي قَوْلِهِ: بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ قَالَ: بِعَذَابِ قَوْمِ لُوطٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ قَالَ: يَشُكُّونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ قَالَ: أُمِرَ أَنْ يَكُونَ خَلْفَ أَهْلِهِ يَتَّبِعُ أَدْبَارَهُمْ فِي آخِرِهِمْ إِذَا مَشَوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قَالَ: أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ إِلَى الشَّامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ قَالَ: أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ يعني: استئصالهم وهلاكهم. [سورة الحجر (15) : الآيات 67 الى 77] وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا كَانَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ عِنْدَ وُصُولِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى قَرْيَتِهِمْ فَقَالَ: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ أَيْ: أَهْلُ مَدِينَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَهِيَ سدوم كَمَا سَبَقَ، وَجُمْلَةُ يَسْتَبْشِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُسْتَبْشِرُونَ بِأَضْيَافِ لُوطٍ طَمَعًا في ارتكاب الفاحشة منهم ف قالَ لَهُمْ لُوطٌ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي وَحَّدَ الضَّيْفَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُرَادُ أَضْيَافِي، وَسَمَّاهُمْ ضَيْفًا لِأَنَّهُ رَآهُمْ عَلَى هَيْئَةِ الْأَضْيَافِ، وَقَوْمُهُ رَأَوْهُمْ مُرْدًا حِسَانَ الْوُجُوهِ، فَلِذَلِكَ طَمِعُوا فِيهِمْ فَلا تَفْضَحُونِ يُقَالُ: فَضَحَهُ يَفْضَحُهُ فَضِيحَةً وَفَضْحًا إِذَا أَظْهَرَ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَلْزَمُهُ الْعَارُ بِإِظْهَارِهِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَفْضَحُونِ عِنْدَهُمْ بِتَعَرُّضِكُمْ لَهُمْ بِالْفَاحِشَةِ فَيَعْلَمُونَ أَنِّي عَاجِزٌ عَنْ حِمَايَةِ مَنْ نزل بي، أو لا تفضحون فضيحة ضَيْفِي، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ مَا يَفْضَحُ الضَّيْفَ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَفْضَحُ الْمُضِيفَ وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي أَمْرِهِمْ وَلا تُخْزُونِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْخِزْيِ وَهُوَ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخِزَايَةِ وَهِيَ الْحَيَاءُ وَالْخَجَلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي هُودٍ قالُوا أَيْ: قَوْمُ لُوطٍ مُجِيبِينَ لَهُ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَلَمْ نَتَقَدَّمْ إِلَيْكَ وَنَنْهَكَ عَنْ أَنْ تَكَلِّمَنَا فِي شَأْنِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِذَا قَصَدْنَاهُ بِالْفَاحِشَةِ؟ وَقِيلَ: نَهَوْهُ عَنْ ضِيَافَةِ النَّاسِ، وَيَجُوزُ حَمْلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ قالَ هؤُلاءِ بَناتِي فَتَزَوَّجُوهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ مَا عَزَمْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ بِضَيْفِي فَهَؤُلَاءِ بَنَاتِي تزوّجوهنّ حلالا ولا ترتكبوا الْحَرَامَ وَقِيلَ: أَرَادَ بِبَنَاتِهِ نِسَاءَ قَوْمِهِ لِكَوْنِ النَّبِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ لِقَوْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي هُودٍ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ الْعَمْرُ وَالْعُمْرُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ وَاحِدٌ، لَكِنَّهُمْ خَصُّوا الْقَسَمَ بِالْمَفْتُوحِ لِإِيثَارِ الْأَخَفِّ فَإِنَّهُ كَثِيرُ الدَّوْرِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، ذَكَرَ ذَلِكَ

الزَّجَّاجُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذَا أَنَّهُ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِمُدَّةِ حَيَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا حَكَى إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ بِأَجْمَعِهِمْ: أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَاهُنَا بِحَيَاةِ محمد صلّى الله عليه وسلّم تشريفا له. قال أبو الْجَوْزَاءِ: مَا أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غير محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ الْبَرِيَّةِ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ العربي: ما الذي يمتنع أَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحَيَاةِ لُوطٍ وَيَبْلُغَ بِهِ مِنَ التَّشْرِيفِ مَا شَاءَ، وَكُلُّ مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى لِلُوطٍ مِنْ فَضْلٍ يُؤْتِي ضِعْفَهُ مِنْ شَرَفٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لأنه أكرم على الله منه، أو لا تَرَاهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَى إِبْرَاهِيمَ الْخُلَّةَ وَمُوسَى التَّكْلِيمَ، وأعطى ذلك لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ؟ فَإِذَا أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحَيَاةِ لُوطٍ فَحَيَاةُ مُحَمَّدٍ أَرْفَعُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَا قَالَهُ حَسَنٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَسْمُهُ سُبْحَانَهُ بِحَيَاةِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَلَامًا مُعْتَرَضًا فِي قِصَّةِ لُوطٍ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَا فِيهِمَا مِنْ فَضْلٍ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ إِلَّا وَفِي ذَلِكَ دِلَالَةٌ عَلَى فَضْلِهِ عَلَى جِنْسِهِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَأَتْبَاعُهُ أن هذا القسم هُوَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ، أَيْ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لِلُوطٍ لَعَمْرُكَ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ وَمَا أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ قَطُّ كَرَامَةً لَهُ انْتَهَى. وَقَدْ كَرِهَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْقَسَمَ بِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَجَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لِعِبَادِهِ أَنْ يُقْسِمُوا بِغَيْرِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ مخلوقاته: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» ، وَقِيلَ: الْإِقْسَامُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطَوْرِ سينين وَالنَّجْمِ وَالضُّحَى وَالشَّمْسِ وَاللَّيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ هُوَ الْمُقْسَمُ بِهِ، أَيْ: وَخَالِقِ التِّينِ وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ، وَفِي قَوْلِهِ: لَعَمْرُكَ أَيْ: وَخَالِقِ عُمُرِكَ، وَمَعْنَى إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ لَفِي غَوَايَتِهِمْ يَتَحَيَّرُونَ، جَعَلَ الْغَوَايَة لِكَوْنِهَا تَذْهَبُ بِعَقْلِ صَاحِبِهَا كَمَا تَذْهَبُ بِهِ الْخَمْرُ سَكْرَةً، وَالضَّمِيرُ لِقُرَيْشٍ عَلَى أَنَّ الْقَسَمَ بمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَوْ لِقَوْمِ لُوطٍ عَلَى أَنَّ الْقَسَمَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الْعَظِيمَةُ أَوْ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ حَالَ كَوْنِهِمْ مُشْرِقِينَ أَيْ: دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الشُّرُوقِ، يُقَالُ: أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، أَيْ: أَضَاءَتْ وَشَرَقَتْ إِذَا طَلَعَتْ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَشْرَقَ الْقَوْمُ إِذَا دَخَلُوا فِي وَقْتِ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَقِيلَ: أَرَادَ شُرُوقَ الْفَجْرِ وَقِيلَ: أَوَّلُ الْعَذَابِ كَانَ عِنْدَ شُرُوقِ الْفَجْرِ وَامْتَدَّ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَالصَّيْحَةُ: الْعَذَابُ فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها أَيْ: عَالِيَ الْمَدِينَةِ سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مِنْ طِينٍ مُتَحَجِّرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُسْتَوْفًى عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ هُودٍ إِنَّ فِي ذلِكَ أَيْ: فِي الْمَذْكُورِ مِنْ قِصَّتِهِمْ وَبَيَانِ مَا أَصَابَهُمْ لَآياتٍ لِعَلَامَاتٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا لِلْمُتَوَسِّمِينَ لِلْمُتَفَكِّرِينَ النَّاظِرِينَ فِي الْأَمْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَفِيهِنَّ مَلْهًى لِلصَّدِيقِ ومنظر ... أنيق لعين النّاظر المتوسّم وقال آخر «2» : أو كلّما وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ ... بَعَثُوا إِلَيَّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ

_ (1) . الأنبياء: 23. (2) . هو طريف بن تميم العنبري.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لِلْمُتَبَصِّرِينَ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْوَاسِمُ الناظر إليك من فرقك إِلَى قَدَمِكَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَأَصْلُ التَّوَسُّمِ التَّثَبُّتُ وَالتَّفَكُّرُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ وَهُوَ التَّأْثِيرُ بِحَدِيدَةٍ فِي جِلْدِ الْبَعِيرِ وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ يَعْنِي قُرَى قَوْمِ لُوطٍ أَوْ مَدِينَتَهُمْ عَلَى طَرِيقٍ ثَابَتٍ، وَهِيَ الطَّرِيقُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ فَإِنَّ السَّالِكَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ يَمُرُّ بِتِلْكَ الْقُرَى إِنَّ فِي ذلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْمَدِينَةِ أَوِ الْقُرَى لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يَعْتَبِرُونَ بِهَا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعِبَادِ هُمُ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْآثَارِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ: اسْتَبْشَرُوا بِأَضْيَافِ نَبِيِّ اللَّهِ لُوطٍ حِينَ نَزَلُوا بِهِ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُنْكَرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ قال: يقولون أو لم ننهك أن تضيف أحدا أو تؤويه. قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أَمَرَهُمْ لُوطٌ بِتَزْوِيجِ النِّسَاءِ، وَأَرَادَ أَنْ يَقِيَ أَضْيَافَهَ بِبَنَاتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ وَمَا ذَرَأَ وَمَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرَهُ قَالَ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ يَقُولُ: وَحَيَاتِكَ يَا مُحَمَّدُ وَعُمُرِكَ وَبَقَائِكَ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَعَمْرُكَ قَالَ: لَعَيْشُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا حَلَفَ اللَّهُ بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلَّا بِحَيَاةِ مُحَمَّدٍ قَالَ: لَعَمْرُكَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لَعَمْرِي، يَرَوْنَهُ كَقَوْلِهِ وَحَيَاتِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أَيْ: فِي ضَلَالِهِمْ يَلْعَبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي الْآيَةِ: لَفِي غَفْلَتِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ مُشْرِقِينَ قَالَ: حِينَ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً قَالَ: عَلَامَةً أَمَا تَرَى الرَّجُلَ يُرْسِلُ خَاتَمَهُ إِلَى أَهْلِهِ، فَيَقُولُ: هَاتُوا كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا رَأَوْهُ عَرَفُوا أَنَّهُ حَقٌّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ: لِلنَّاظِرِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لِلْمُعْتَبِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لِلْمُتَفَرِّسِينَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ يَقُولُ: لَبِهَلَاكٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَبِطَرِيقٍ مُقِيمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قتادة قال: لبطريق واضح.

[سورة الحجر (15) : الآيات 78 إلى 86]

[سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 86] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) قَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ. وَالْأَيْكَةُ: الْغَيْضَةُ، وَهِيَ جِمَاعُ الشَّجَرِ، وَالْجَمْعُ: الْأَيْكُ. وَيُرْوَى أَنَّ شَجَرَهُمْ كَانَ دَوْمًا، وَهُوَ الْمُقْلُ، فَالْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الشَّجَرِ الْمُجْتَمِعِ وَقِيلَ: الْأَيْكَةُ اسْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَيْكَةُ وَلَيْكَةُ مَدِينَتُهُمْ كَمَكَّةَ وَبَكَّةَ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُهُمْ، وَاقْتَصَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هُنَا عَلَى وَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ، وَقَدْ فَصَّلَ ذَلِكَ الظُّلْمَ فِيمَا سَبَقَ، وَالضَّمِيرُ فِي وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ يَرْجِعُ إِلَى مَدِينَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمَكَانِ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ أَيْ: وَإِنَّ الْمَكَانَيْنِ لَبِطَرِيقٍ وَاضِحٍ، وَالْإِمَامُ اسْمٌ لِمَا يُؤْتَمُّ بِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الطَّرِيقُ الَّتِي تُسْلَكُ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: سُمِّيَ الطَّرِيقُ إِمَامًا لِأَنَّهُ يُؤْتَمُّ وَيُتَّبَعُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَأْتَمُّ بِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرِيدُهُ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْأَيْكَةِ وَمَدْيَنَ لِأَنَّ شُعَيْبًا كَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِمَا. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَتَمَ الْقَصَصَ بِقِصَّةِ ثَمُودَ فَقَالَ: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ الْحِجْرُ: اسْمٌ لِدِيَارِ ثَمُودَ. قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَهِيَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَتَبُوكَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هِيَ أَرْضٌ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ. وَقَالَ: الْمُرْسَلِينَ، وَلَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ إِلَّا صَالِحٌ، لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ وَاحِدًا مِنَ الرُّسُلِ فَقَدْ كَذَّبَ الْبَاقِينَ لِكَوْنِهِمْ مُتَّفِقِينَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَقِيلَ: كَذَّبُوا صَالِحًا وَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقِيلَ: كَذَّبُوا صَالِحًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَآتَيْناهُمْ آياتِنا أَيِ: الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى نَبِيِّهِمْ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا النَّاقَةُ فَإِنَّ فِيهَا آيَاتٍ جَمَّةً كَخُرُوجِهَا مِنَ الصَّخْرَةِ وَدُنُوِّ نِتَاجِهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا وَعِظَمِهَا وَكَثْرَةِ لَبَنِهَا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ أَيْ: غَيْرَ مُعْتَبِرِينَ، وَلِهَذَا عَقَرُوا النَّاقَةَ وَخَالَفُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً النَّحْتُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْبَرْيُ وَالنَّجْرُ، نَحَتَهُ يَنْحِتُهُ بِالْكَسْرِ نَحْتًا، أَيْ: بَرَاهُ، وَفِي التنزيل: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ «1» أَيْ: تَنْجُرُونَ، وَكَانُوا يَتَّخِذُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا أَيْ: يَخْرِقُونَهَا فِي الْجِبَالِ، وَانْتِصَابُ آمِنِينَ على الجر، قَالَ الْفَرَّاءُ: آمِنِينَ مِنْ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: آمَنِينَ مِنَ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: مِنَ الْعَذَابِ، رُكُونًا مِنْهُمْ عَلَى قُوَّتِهَا وَوَثَاقَتِهَا فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أَيْ: دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الصَّيْحَةِ فِي الْأَعْرَافِ وَفِي هُودٍ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا قَرِيبًا فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ: لَمْ يَدْفَعْ عَنْهُمْ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحُصُونِ فِي الْجِبَالِ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ: مُتَلَبِّسَةً بِالْحَقِّ، وَهُوَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَصَالِحِ، وقيل: المراد بالحق مجازاة المحسن بإحسانه والمسيئ بِإِسَاءَتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ

_ (1) . الصافات: 95.

وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «1» ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ الزَّوَالُ لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ زَائِلٌ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ وَعِنْدَ إِتْيَانِهَا يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ، وَيُحْسِنُ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِحْسَانَ، وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلْعُصَاةِ وَتَهْدِيدٌ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَصْفَحَ عَنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أَيْ: تَجَاوَزْ عَنْهُمْ وَاعْفُ عَفْوًا حَسَنًا وَقِيلَ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ إِعْرَاضًا جَمِيلًا وَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، وَعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةَ الصَّفُوحِ الْحَلِيمِ. قِيلَ: وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ أَيِ: الْخَالِقُ لِلْخَلْقِ جَمِيعًا الْعَلِيمُ بِأَحْوَالِهِمْ وَبِالصَّالِحِ وَالطَّالِحِ مِنْهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَدْيَنَ وَأَصْحَابَ الْأَيْكَةِ أُمَّتَانِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمَا شُعَيْبًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ، وَالْأَيْكَةُ ذَاتُ آجَامٍ وَشَجَرٍ كَانُوا فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَيْكَةُ الْغَيْضَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أَهْلُ مَدْيَنَ، وَالْأَيْكَةُ: الْمُلْتَفَّةُ مِنَ الشَّجَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْأَيْكَةُ: مَجْمَعُ الشَّيْءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ طَرِيقٍ ظَاهِرٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي أَصْحَابِ الْحِجْرِ قَالَ: أَصْحَابُ الْوَادِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ: ثَمُودَ وَقَوْمَ صَالِحٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِ الْحِجْرِ «2» : «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ بِالْحِجْرِ عِنْدَ بُيُوتِ ثَمُودَ، فَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْ مِيَاهِ الْآبَارِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا ثَمُودُ وَعَجَنُوا مِنْهَا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ بِاللَّحْمِ، فَأَمَرَهُمْ بِإِهْرَاقِ الْقُدُورِ، وَعَلَفُوا الْعَجِينَ الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بِهِمْ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ عُذِّبُوا، فَقَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَهُمْ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بِالْحِجْرِ لِأَصْحَابِهِ: «مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ شَيْئًا فَلْيُلْقِهِ» . قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ عَجَنَ الْعَجِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَاسَ الْحَيْسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ قَالَ: الرِّضَا بِغَيْرِ عِتَابٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ الْقِتَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ.

_ (1) . النجم: 31. (2) . قال في فتح الباري في شرح الحديث (4420) : اللام في قوله: لأصحاب الحجر بمعنى: عن، وحذف المقول لهم ليعم كل سامع، والتقدير: قال لأمته عن أصحاب الحجر، وهم ثمود.

[سورة الحجر (15) : الآيات 87 إلى 99]

[سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 99] وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي السَّبْعِ الْمَثَانِي مَاذَا هِيَ؟ فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا الْفَاتِحَةُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ والكلبي. وزاد القرطبي أبا هريرة وأبا العالية، وَزَادَ النَّيْسَابُورِيُّ الضَّحَّاكَ وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ. وَقَدْ روي ذلك مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ: الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ. وَالسَّابِعَةُ الْأَنْفَالُ وَالتَّوْبَةُ، لِأَنَّهَا كَسُورَةٍ وَاحِدَةٍ إِذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَسْمِيَةٌ، رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَثَانِي السَّبْعَةُ الْأَحْزَابِ فَإِنَّهَا سَبْعُ صَحَائِفَ، وَالْمَثَانِي جَمْعُ مُثَنَّاةٍ مِنَ التَّثْنِيَةِ أَوْ جَمْعُ مَثْنِيَّةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تُثَنَّى بِمَا يُقْرَأُ بَعْدَهَا مَعَهَا. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ وَجْهُ تَسْمِيَةِ الْفَاتِحَةِ مَثَانِيَ أَنَّهَا تُثَنَّى، أَيْ: تُكَرَّرُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا السَّبْعُ الطُّوَالُ فَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ الْعِبَرَ وَالْأَحْكَامَ وَالْحُدُودَ كُرِّرَتْ فِيهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا السَّبْعَةُ الْأَحْزَابِ يَكُونُ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ هُوَ تَكْرِيرَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقَصَصِ وَنَحْوِهَا. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي الْقُرْآنُ كُلُّهُ الضَّحَّاكُ وَطَاوُسٌ وَأَبُو مَالِكٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، واستدلوا بقوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «1» . وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي أَقْسَامُ الْقُرْآنِ وَهِيَ الْأَمْرُ، وَالنَّهْيُ، وَالتَّبْشِيرُ، وَالْإِنْذَارُ، وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ، وَتَعْرِيفُ النعم، وأنباء قرون ماضية. قاله زياد ابن أَبِي مَرْيَمَ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْفَاتِحَةِ مَثَانِيَ لَا تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ تَسْمِيَةِ غَيْرِهَا بِهَذَا الِاسْمِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهَا الْمُرَادَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ صِدْقُ وَصْفِ الْمَثَانِي عَلَى غَيْرِهَا وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مَعْطُوفٌ عَلَى سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ بَعْضٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي السَّبْعُ الطُّوَالُ لِأَنَّهَا بَعْضٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهَا السَّبْعَةُ الْأَحْزَابِ أَوْ جَمِيعُ الْقُرْآنِ أَوْ أَقْسَامُهُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ «2» ........... وَمِمَّا يُقَوِّي كَوْنَ السَّبْعِ الْمَثَانِي هِيَ الْفَاتِحَةَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَأَكْثَرَ السَّبْعِ الطِّوَالِ مَدَنِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ وَأَكْثَرُ أَقْسَامِهِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ إيتاء السبع على

_ (1) . الزمر: 23. (2) . وعجزه: وليث الكتيبة في المزدحم.

نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَ «مِنَ» فِي مِنَ المثاني للتبعيض أو البيان على اختلاف الأقوال، ذكر معنى ذلك الزجاج فقال: هي لِلتَّبْعِيضِ إِذَا أَرَدْتَ بِالسَّبْعِ الْفَاتِحَةَ أَوِ الطِّوَالَ، وللبيان إذا أردت الأسباع. ثم لمّا بيّن لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ الدِّينِيَّةِ نَفَّرَهُ عَنِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ الزَّائِلَةِ فَقَالَ: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أَيْ: لَا تَطْمَحْ بِبَصَرِكَ إِلَى زَخَارِفِ الدُّنْيَا طُمُوحَ رَغْبَةٍ فِيهَا وَتَمَنٍّ لَهَا، وَالْأَزْوَاجُ الْأَصْنَافُ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْأَزْوَاجُ: الْقُرَنَاءُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّمَا يَكُونُ مَادًّا عَيْنَيْهِ إِلَى الشَّيْءِ إِذَا أَدَامَ النَّظَرَ نَحْوَهُ، وَإِدَامَةُ النَّظَرِ إِلَيْهِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ وَتَمَنِّيهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى الْآيَةِ لَا تَحْسُدَنَّ أَحَدًا عَلَى مَا أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا، وَرُدَّ بِأَنَّ الْحَسَدَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَا تَمُدَّنَّ بِغَيْرِ وَاوٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ طَلَبٌ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ طه، ثُمَّ لَمَّا نَهَاهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ نَهَاهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنُوا وَصَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَحْزَنْ عَلَى مَا مُتِّعُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا فَلَكَ الْآخِرَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، ثُمَّ لَمَّا نَهَاهُ عَنْ أَنْ يَمُدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَلَا يَحْزَنَ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّهَاوُنَ بِهِمْ وَبِمَا مَعَهُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وخفض الجناح كناية عن التواضح وَلِينِ الْجَانِبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ، وَقَوْلُ الْكُمَيْتِ: خَفَضْتُ لَهُمْ مِنِّي جَنَاحَيْ مَوَدَّةٍ ... إِلَى كَنَفٍ عِطْفَاهُ أَهْلٌ وَمَرْحَبُ وَأَصْلُهُ أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا ضَمَّ فَرْخَهُ إِلَى نَفْسِهِ بَسَطَ جَنَاحَهُ، ثُمَّ قَبَضَهُ عَلَى الْفَرْخِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ وَصْفًا لِتَوَاضُعِ الْإِنْسَانِ لِأَتْبَاعِهِ وَيُقَالُ: فُلَانٌ خَافِضُ الْجَنَاحِ، أَيْ: وَقُورٌ سَاكِنٌ، وَالْجَنَاحَانِ مِنِ ابْنِ آدَمَ جَانِبَاهُ، وَمِنْهُ: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ ومنه قول الشاعر: وحسبك فتية لِزَعِيمِ قَوْمٍ ... يَمُدُّ عَلَى أَخِي سَقَمٍ جَنَاحًا وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أَيِ: الْمُنْذِرُ الْمُظْهِرُ لِقَوْمِهِ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قِيلَ: الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَفْعُولُ أَنْزَلْنَا، وَالتَّقْدِيرُ: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ عَذَابًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لَكُمْ مِنْ عَذَابٍ مِثْلِ عَذَابِ الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ «1» ، وَقِيلَ: إِنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أَنْذَرْتُكُمْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ مِنَ الْعَذَابِ وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ، أَيْ: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْمُقْتَسِمُونَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُقْتَسِمِينَ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُمْ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا، بَعَثَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَاقْتَسَمُوا أَنْقَابَ مَكَّةَ وَفِجَاجَهَا يَقُولُونَ لِمَنْ دَخَلَهَا: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الْخَارِجِ فِينَا فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا سَاحِرٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا شَاعِرٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا كَاهِنٌ، فَقِيلَ لَهُمْ مُقْتَسِمِينَ لِأَنَّهُمُ اقتسموا هذه الطرق. وقيل:

_ (1) . فصلت: 13. [.....]

إِنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ اقْتَسَمُوا كِتَابَ اللَّهِ، فَجَعَلُوا بَعْضَهُ شِعْرًا، وَبَعْضَهُ سِحْرًا، وَبَعْضَهُ كَهَانَةً، وَبَعْضَهُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ. قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَسُمُّوا مُقْتَسِمِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَسِمُونَ الْقُرْآنَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ هَذِهِ السُّورَةُ لِي وَهَذِهِ لَكَ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَسَّمُوا كِتَابَهُمْ وَفَرَّقُوهُ وَبَدَّدُوهُ وَحَرَّفُوهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ قَوْمُ صَالِحٍ تَقَاسَمُوا عَلَى قَتْلِهِ قسموا مُقْتَسِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ «1» ، وَقِيلَ: تَقَاسَمُوا أَيْمَانًا تَحَالَفُوا عَلَيْهَا، قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَقِيلَ: إِنَّهُمُ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَمُنَبِّهُ بْنُ الْحَجَّاجِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ جَمْعُ عِضَةٍ، وَأَصْلُهَا عِضْوَةٌ فِعْلَةٌ مِنْ عَضَى الشَّاةَ إِذَا جَعَلَهَا أَجْزَاءً، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ أَجْزَاءً مُتَفَرِّقَةً، بَعْضُهُ شِعْرٌ، وَبَعْضُهُ سِحْرٌ، وَبَعْضُهُ كَهَانَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وقيل: هو مأخوذ من عضهه إِذَا بَهَتَّهُ، فَالْمَحْذُوفُ مِنْهُ الْهَاءُ لَا الْوَاوُ، وَجُمِعَتِ الْعِضَةُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمْعُ الْعُقَلَاءِ لِمَا لَحِقَهَا مِنَ الْحَذْفِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ عِوَضًا عَمَّا لَحِقَهَا مِنَ الْحَذْفِ وَقِيلَ: مَعْنَى عِضِينَ: إِيمَانُهُمْ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكُفْرُهُمْ بِبَعْضٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ مَعْنَى عِضِينَ التَّفْرِيقُ، قَوْلُ رُؤْبَةَ: وَلَيْسَ دِينُ اللَّهِ بِالْعِضِينَ «2» أَيْ: بِالْمُفَرَّقِ، وَقِيلَ: الْعِضَةُ وَالْعِضِينُ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ السِّحْرُ وَهُمْ يَقُولُونَ لِلسَّاحِرِ عَاضِهٌ، وَلِلسَّاحِرَةِ عَاضِهَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَعُوذُ بربّي من النافثا ... ت في عقد العاضه المعضه وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْعَاضِهَةَ وَالْمُسْتَعْضِهَةَ، وَفُسِّرَ بِالسَّاحِرَةِ وَالْمُسْتَسْحِرَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَكْثَرُوا الْبُهْتَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَسَمَّوْهُ سِحْرًا وَكَذِبًا وَأَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، وَنَظِيرُ عِضَةٍ فِي النُّقْصَانِ شَفَةٌ، وَالْأَصْلُ شَفْهَةٌ، وَكَذَلِكَ سَنَةٌ، وَالْأَصْلُ سَنْهَةٌ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعِضَةُ الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ، وَجَمْعُهَا عِضُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ العضاء، وَهِيَ شَجَرٌ يُؤْذِي وَيَجْرَحُ كَالشَّوْكِ، وَيَجُوزُ أَنْ يراد بالقرآن التوراة والإنجيل لكونهما مما يقرأ، ويراد بالمقتسمين هم الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَيْ: جَعَلُوهُمَا أَجْزَاءً مُتَفَرِّقَةً، وَهُوَ أحد الأقوال المتقدّمة فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ: لَنَسْأَلَنَّ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ أَجْمَعِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا وَيُسْأَلُونَ عَنْهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ سُؤَالُهُمْ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَالْعُمُومُ فِي عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، يُفِيدُ مَا هُوَ أوسع من ذلك وقيل: إن المسؤولين هَاهُنَا هُمْ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْعُصَاةِ وَالْكُفَّارِ، وَيَدُلُّ عليه قوله: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ «3» ، وقوله: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ «4» ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ- ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ «5» ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَصْرَ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى الْمَذْكُورِينَ فِي السِّيَاقِ وَصَرْفَ الْعُمُومِ إِلَيْهِمْ لَا يُنَافِي سُؤَالَ غَيْرِهِمْ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ قال الزجّاج: يقول أظهر ما

_ (1) . النمل: 49. (2) . في تفسير القرطبي (10/ 59) : بالمعضّى. (3) . التكاثر: 8. (4) . الصافات: 24. (5) . الغاشية: 25 و 26.

تُؤْمَرُ بِهِ، أُخِذَ مِنَ الصَّدِيعِ وَهُوَ الصُّبْحُ انْتَهَى. وَأَصْلُ الصَّدْعِ الْفَرْقُ وَالشِّقُّ، يُقَالُ: صَدَعْتُهُ فَانْصَدَعَ أَيِ: انْشَقَّ، وَتَصَدَّعَ الْقَوْمُ، أَيْ: تَفَرَّقُوا، ومنه: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ «1» أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ فَاصْدَعْ بِالْأَمْرِ أي: أظهر دينك فما مَعَ الْفِعْلِ عَلَى هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مَعْنَى اصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ أَيِ: اقْصِدْ وَقِيلَ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أَيْ: فَرِّقْ جَمْعَهُمْ وَكَلِمَتَهُمْ بِأَنْ تَدْعُوَهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ فَإِنَّهُمْ يَتَفَرَّقُونَ، وَالْأَوْلَى أَنَّ الصَّدْعَ الْإِظْهَارُ، كَمَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ النَّحْوِيُّونَ: الْمَعْنَى بِمَا تُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مصدرية، أي: يأمرك وَشَأْنِكَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيِ: اجْهَرْ بِالْأَمْرِ. أَيْ: بِأَمْرِكَ بَعْدَ إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ، وَمَا زَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَمْرِهِ بِالصَّدْعِ بِالْإِعْرَاضِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَيْ: لَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ إِذَا لَامُوكَ عَلَى إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْأَمْرَ وَثَبَّتَ قَلْبَ رَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ مَعَ كَوْنِهِمْ كَانُوا مِنْ أَكَابِرِ الْكُفَّارِ، وَأَهْلِ الشَّوْكَةِ فِيهِمْ، فَإِذَا كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِقَمْعِهِمْ وَتَدْمِيرِهِمْ كَفَاهُ أَمْرَ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ بِالْأَوْلَى، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئُونَ كَانُوا خَمْسَةً مِنْ رُؤَسَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بن المطلب بن الحارث بن زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بْنُ الطُّلَاطِلَةِ. كَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَوَافَقَهُ غَيْرُهُ من المفسرين. وقد أهلكهم الله جميعا، وكفاه أَمْرَهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالشِّرْكِ فَقَالَ: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَلَمْ يَكُنْ ذَنْبُهُمْ مُجَرَّدَ الِاسْتِهْزَاءِ، بَلْ لَهُمْ ذَنْبٌ آخَرُ وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ فَقَالَ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ كَيْفَ عَاقِبَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَسْلِيَةً أُخْرَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ التَّسْلِيَةِ الْأُولَى بِكِفَايَتِهِ شَرِّهِمْ وَدَفْعِهِ لِمَكْرِهِمْ فَقَالَ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْكُفْرِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلطَّعْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسحر والجنون والكهان وَالْكَذِبِ، وَقَدْ كَانَ يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْمِزَاجِ الْإِنْسَانِيِّ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَفْزَعَ لِكَشْفِ مَا نَابَهُ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ إِلَى تَسْبِيحِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحَمْدِهِ فَقَالَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِهِ أَيِ: افْعَلِ التَّسْبِيحَ الْمُتَلَبِّسَ بِالْحَمْدِ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أَيِ: الْمُصَلِّينَ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ كَشَفَ اللَّهُ هَمَّكَ وَأَذْهَبَ غَمَّكَ وَشَرَحَ صَدْرَكَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، أَيْ: بِالدَّوَامِ عَلَيْهَا إِلَى غَايَةٍ هِيَ قَوْلُهُ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أَيِ: الْمَوْتُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ. قَالَ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ: يَعْنِي الْمَوْتَ لِأَنَّهُ مُوقِنٌ بِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى اعْبُدْ رَبَّكَ أَبَدًا لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ اعْبُدْ رَبَّكَ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ لَجَازَ إِذَا عَبَدَ الْإِنْسَانُ مَرَّةً أَنْ يَكُونَ مُطِيعًا، فَإِذَا قَالَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ أَبَدًا مَا دَامَ حَيًّا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ بمثله. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ وَزَادَ: وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ

_ (1) . الروم: 43.

سَائِرُ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ اسْتَثْنَاهَا اللَّهُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، فَرَفَعَهَا فِي أُمِّ الكتاب فادّخرها لهم حتى أخرجها ولم يعطها أحد قبل وقيل: فَأَيْنَ الْآيَةُ السَّابِعَةُ؟ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَرُوِيَ عَنْهُ نَحْوُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَرُوِيَ نَحْوُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى أَنَّهُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُعَلِّمُكَ أَفْضَلَ سُورَةٍ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ فَذَكَّرْتُهُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» فَوَجَبَ بِهَذَا الْمَصِيرُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، ولكن تسميتها بذلك لا ينافي تسمية غيرها به كما قدّمنا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْآيَةِ: هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مِثْلَهُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ ابن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الطِّوَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَا ثُنِّيَ مِنَ الْقُرْآنِ، أَلَمْ تَسْمَعْ لِقَوْلِ اللَّهِ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْمَثَانِي الْقُرْآنُ يَذْكُرُ اللَّهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ مِرَارًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَعْطَيْتُكَ سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ. مُرْ، وَانْهَ، وَبَشِّرْ، وَأَنْذِرْ، وَاضْرِبِ الْأَمْثَالَ، وَاعَدُدِ النِّعَمَ، وَاتْلُ نَبَأَ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ قَالَ: نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَتَمَنَّى مَالَ صَاحِبِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَزْواجاً مِنْهُمْ قال: الأغنياء، والأمثال، وَالْأَشْبَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: مَنْ أُعْطِيَ الْقُرْآنَ فَمَدَّ عَيْنَهُ إلى شيء منها فقد صغر القرآن أي: فقد خالف القرآن، ألم يسمع إِلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وإلى قوله: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى. وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَيْضًا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» فَقَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى يَسْتَغْنِي بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ قَالَ: اخْضَعْ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الْآيَةَ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الكتاب جزّءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا

_ (1) . الزمر: 23.

بِبَعْضِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ قَالَ: عِضِينَ: فِرَقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم في قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ: «عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فَامْضِهِ، وَفِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وأخرج ابن جرير عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا زَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فَخَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ بِتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ قَوْمَهُ وَجَمِيعَ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ قَالَ: أَعْلِنْ بِمَا تُؤْمَرُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: نسخه قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «1» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ قَالَ: الْمُسْتَهْزِئُونَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَيْطَلٍ السَّهْمِيُّ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَذَكَرَ قِصَّةَ هَلَاكِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعَ زِيَادَةٍ فِي عَدَدِهِمْ وَنَقْصٍ عَلَى طُولٍ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُنْ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَوْسٍ الطَّائِفِيِّ قال: حدّني أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ يَرْفَعُهُ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قَالَ الْمَوْتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ.

_ (1) . التوبة: 5.

سورة النحل

سورة النّحل وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُورَةُ النَّحْلِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ سِوَى ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا فَإِنَّهُنَّ نَزَلْنَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي مُنْصَرَفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِ أحد، وقيل: وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ «1» الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ «2» فِي شَأْنِ التَّمْثِيلِ بِحَمْزَةَ وَقَتْلَى أُحُدٍ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا «3» الْآيَةَ، وَقِيلَ: الثَّالِثَةُ: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِلَى قَوْلِهِ: بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ «4» وتسمّى هذه السورة سورة النّعم بسبب ما عدّد الله فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) قَوْلُهُ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ أَيْ: عِقَابُهُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْقِيَامَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تحقّق وُقُوعِهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأَمْرِ اللَّهِ حُكْمُهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ وَأَتَى، فَأَمَّا الْمَحْكُومُ بِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بِوُقُوعِهِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَقَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَخْرُجُ إِلَى الْوُجُودِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِإِتْيَانِهِ إِتْيَانُ مَبَادِيهِ وَمُقَدَّمَاتِهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ نَهَاهُمْ عَنِ اسْتِعْجَالِهِ، أَيْ: فَلَا تَطْلُبُوا حُضُورَهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْتَعْجِلُونَ عَذَابَ اللَّهِ كَمَا قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «5» الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى: قَرُبَ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ، وَقَدْ كَانَ اسْتِعْجَالُهُمْ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ من دون استعجال على الحقيقة،

_ (1) . النحل: 126. (2) . النحل: 127. (3) . النحل: 110. (4) . النحل: 95 و 96. (5) . الأنفال: 32.

وَفِي نَهْيِهِمْ عَنِ الِاسْتِعْجَالِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: تَنَزَّهَ وَتَرَفَّعَ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ، أَوْ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ، وشركهم هاهنا هُوَ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنِ اسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ، أَوْ قِيَامِ السَّاعَةِ اسْتِهْزَاءً وَتَكْذِيبًا، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ وَصْفَهُمْ لَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ وَالْعَجْزُ وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ من صفات المخلوق لَا مِنْ صِفَاتِ الْخَالِقِ، فَكَانَ ذَلِكَ شِرْكًا يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ قَرَأَ الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْأَصْلُ تَتَنَزَّلُ، فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ تُنَزَّلُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ «نُنَزِّلُ» بِالنُّونِ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ وَأَبَا عَمْرٍو يُسَكِّنَانِ النُّونَ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَوَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ قَرُبَ أَمْرُهُ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاسْتِعْجَالِ تَرَدَّدُوا فِي الطَّرِيقِ الَّتِي عَلِمَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ عَلِمَ بِهَا بِالْوَحْيِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، وَالرُّوحُ: الْوَحْيُ، وَمِثْلُهُ: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «1» وَسُمِّيَ الْوَحْيُ رُوحًا لِأَنَّهُ يُحْيِي قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْوَحْيِ الْقُرْآنَ، وَهُوَ نَازِلٌ مِنَ الدِّينِ مَنْزِلَةَ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَرْوَاحُ الْخَلَائِقِ وَقِيلَ: الرُّوحُ الرَّحْمَةُ، وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ لِأَنَّهَا تَحْيَا بِهَا الْقُلُوبُ كَمَا تَحْيَا الْأَبْدَانُ بِالْأَرْوَاحِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الرُّوحُ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ حَيَاةٌ بِالْإِرْشَادِ إِلَى أَمْرِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الرُّوحُ هُنَا جِبْرِيلُ، وَتَكُونُ الباء على هذا بمعنى مع، «ومن» فِي «مِنْ أَمْرِهِ» بَيَانِيَّةٌ، أَيْ: بِأَشْيَاءَ أَوْ مبتدأ مِنْ أَمْرِهِ أَوْ صِفَةٌ لِلرُّوحِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بينزل، وَمَعْنَى عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ عَلَى مَنِ اخْتَصَّهُ بِذَلِكَ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ أَنْ أَنْذِرُوا قَالَ الزَّجَّاجُ: «أَنْ أَنْذِرُوا» بَدَلٌ مِنَ الرُّوحِ، أي: ينزلهم بأن أنذروا، وأن إِمَّا مُفَسِّرَةٌ لِأَنَّ تَنَزُّلَ الْوَحْيِ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَإِمَّا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَضَمِيرُ الشَّأْنِ مُقَدَّرٌ، أَيْ: بِأَنَّ الشَّأْنَ أَقُولُ لَكُمْ أَنْذِرُوا، أَيْ: أَعْلِمُوا النَّاسَ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا أَيْ: مُرُوهُمْ بِتَوْحِيدِي وَأَعْلِمُوهُمْ ذَلِكَ مَعَ تَخْوِيفِهِمْ لِأَنَّ فِي الْإِنْذَارِ تَخْوِيفًا وَتَهْدِيدًا، وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ لِلشَّأْنِ فَاتَّقُونِ الْخِطَابُ لِلْمُسْتَعْجِلِينَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ تَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرْشَدَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ ذَكَرَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ: أَوْجَدَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي هُمَا عَلَيْهَا بِالْحَقِّ أَيْ: لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا الْفَنَاءُ وَالزَّوَالُ تَعالى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: تَرَفَّعَ وَتَقَدَّسَ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ أَوْ عَنْ شَرِكَةِ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لَهُ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ أَشْرَفَ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ السُّفْلِيَّةِ قَدَّمَهُ وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ، فَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ وَهُوَ اسْمٌ لِجِنْسِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ نُطْفَةٍ مِنْ جَمَادٍ يَخْرُجُ مِنْ حَيَوَانٍ، وَهُوَ الْمَنِيُّ «2» ، فَنَقَلَهُ أَطْوَارًا إِلَى أَنْ كَمُلَتْ صُورَتُهُ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ فعاش

_ (1) . غافر: 15. [.....] (2) . المنيّ: هو مجموع المواد المفرزة من الجهاز التناسلي الذكري أثناء الدفق من القضيب، ويشمل: النطاف من الخصية ومفرزات الغدد الجنسية اللاحقة، ويحتوي كل 1 سم 3 منه على (50- 350) مليون نطفة، وعدد المتحركة فيها: (60- 75) والنطاف المتوسطة الحركة (15) وغير المتحركة (10) .

فِيهَا فَإِذا هُوَ بَعْدَ خَلْقِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ خَصِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْخُصُومَةِ وَالْمُجَادَلَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَالْمُخَاصِمِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي قُدْرَتِهِ، وَمَعْنَى مُبِينٌ ظَاهِرُ الْخُصُومَةِ وَاضِحُهَا، وَقِيلَ: يُبَيِّنُ عَنْ نَفْسِهِ مَا يُخَاصِمُ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْمُبِينُ هُوَ الْمُفْصِحُ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ بِمَنْطِقِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ «1» ، عَقَّبَ ذِكْرَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِخَلْقِ الْأَنْعَامِ لِمَا فِيهَا مِنَ النَّفْعِ لِهَذَا النَّوْعِ، فَالِامْتِنَانُ بِهَا أَكْمَلُ مِنَ الِامْتِنَانِ بِغَيْرِهَا، فَقَالَ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ نَعَمٌ وَأَنْعَامٌ لِلْإِبِلِ، وَيُقَالُ لِلْمَجْمُوعِ، وَلَا يُقَالُ لِلْغَنَمِ مُفْرَدَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ: وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ فَعَطَفَ الشَّاءَ عَلَى النَّعَمِ، وَهِيَ هُنَا الْإِبِلُ خَاصَّةً. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالنَّعَمُ وَاحِدُ الْأَنْعَامِ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْإِبِلِ. ثُمَّ لَمَّا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَهَا لِبَنِي آدَمَ بَيَّنَ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي فِيهَا لَهُمْ فَقَالَ: فِيها دِفْءٌ الدِّفْءُ: السَّخَانَةُ، وَهُوَ مَا اسْتُدْفِئَ بِهِ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَالْجُمْلَةُ فِي محلّ النصب عَلَى الْحَالِ وَمَنافِعُ مَعْطُوفٌ عَلَى دِفْءٌ، وَهِيَ دَرُّهَا وَرُكُوبُهَا وَنِتَاجُهَا وَالْحِرَاثَةُ بِهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الدِّفْءَ: النِّتَاجُ وَاللَّبَنُ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الدِّفْءُ نِتَاجُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا وَمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: وَالدِّفْءُ أَيْضًا السُّخُونَةُ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ أُرِيدَ بِالدِّفْءِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا عَدَاهُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي كَانَ تَفْسِيرُ الْمَنَافِعِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَاضِحًا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَنَافِعِ النِّتَاجُ خَاصَّةً وَقِيلَ: الرُّكُوبُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ أَيْ: مِنْ لُحُومِهَا وَشُحُومِهَا وَخَصَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهَا تَحْتَ الْمَنَافِعِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُهَا وَقِيلَ: خَصَّهَا لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِلَحْمِهَا وَشَحْمِهَا تُعْدَمُ عِنْدَهُ عَيْنُهَا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي فِيهَا، وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ الْمُؤْذِنِ بِالِاخْتِصَاصِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنْهَا هُوَ الْأَصْلُ، وَغَيْرُهُ نَادِرٌ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ أَيْ: لَكُمْ فِيهَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ جَمَالٌ، وَالْجَمَالُ: مَا يُتَجَمَّلُ بِهِ وَيُتَزَيَّنُ، وَالْجَمَالُ: الْحُسْنُ، وَالْمَعْنَى هُنَا: لَكُمْ فِيهَا تَجَمُّلٌ وَتَزَيُّنٌ عِنْدَ النَّاظِرَيْنِ إِلَيْهَا حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ أَيْ: فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَهُمَا وَقْتُ رَدِّهَا مِنْ مَرَاعِيهَا، وَوَقْتُ تَسْرِيحِهَا إِلَيْهَا، فَالرَّوَاحُ رُجُوعُهَا بِالْعَشِيِّ مِنَ الْمَرَاعِي وَالسَّرَاحُ: مَسِيرُهَا إِلَى مَرَاعِيهَا بِالْغَدَاةِ، يُقَالُ: سَرَّحْتُ الْإِبِلَ أُسَرِّحُهَا سَرْحًا وَسُرُوحًا إِذَا غَدَوْتَ بِهَا إِلَى الْمَرْعَى، وَقَدَّمَ الْإِرَاحَةَ عَلَى التَّسْرِيحِ لِأَنَّ مَنْظَرَهَا عِنْدَ الْإِرَاحَةِ أَجْمَلُ، وَذَوَاتَهَا أَحْسَنُ لِكَوْنِهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ قَدْ نَالَتْ حَاجَتَهَا مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَعَظُمَتْ بُطُونُهَا وَانْتَفَخَتْ ضُرُوعُهَا، وَخَصَّ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِأَنَّهُمَا وَقْتُ نَظَرِ النَّاظِرِينَ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا عِنْدَ اسْتِقْرَارِهَا فِي الْحَظَائِرِ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ، وَعِنْدَ كَوْنِهَا فِي مَرَاعِيهَا هِيَ مُتَفَرِّقَةٌ غَيْرُ مُجْتَمِعَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَرْعَى فِي جَانِبٍ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ الْأَثْقَالُ: جَمْعُ ثِقَلٍ، وَهُوَ مَتَاعُ الْمُسَافِرِ مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ، وَسُمِّيَ ثِقَلًا لِأَنَّهُ يُثْقِلُ الْإِنْسَانَ حَمْلُهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَبْدَانَهُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ أَيْ: لَمْ تَكُونُوا وَاصِلِينَ إِلَيْهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَكُمْ إِبِلٌ تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ لِبُعْدِهِ عَنْكُمْ، وَعَدَمِ وُجُودِ مَا يَحْمِلُ مَا لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْهُ فِي السَّفَرِ. وَظَاهِرُهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ بَلَدٍ بَعِيدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَقِيلَ: المراد بالبلد مكة،

_ (1) . يس: 77.

وَقِيلَ: الْيَمَنُ وَمِصْرُ وَالشَّامُ لِأَنَّهَا مَتَاجِرُ الْعَرَبِ، وشق الْأَنْفُسِ: مَشَقَّتُهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالشِّقُّ: الْمَشَقَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْتُوحُ مَصْدَرًا مَنْ شَقَقْتُ عَلَيْهِ أَشُقُّ شَقًّا، وَالْمَكْسُورُ بِمَعْنَى النِّصْفِ، يُقَالُ: أَخَذْتُ شِقَّ الشَّاةِ وَشَقَّةَ الشَّاةِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا فِي الْآيَةِ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِذَهَابِ نِصْفِ الْأَنْفُسِ مِنَ التَّعَبِ، وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ بِخَلْقِ الْأَنْعَامِ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ خَصَّ الْإِبِلَ بِالذِّكْرِ لِمَا فِيهَا مِنْ نِعْمَةِ حَمْلِ الْأَثْقَالِ دُونَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، أَيْ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْأَنْعَامَ أَيْ: وَخَلَقَ لَكُمْ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَصْنَافَ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلِّهَا وَسُمِّيَتِ الْخَيْلُ خَيْلًا لِاخْتِيَالِهَا فِي مَشْيِهَا، وَوَاحِدُ الْخَيْلِ خَائِلٌ كَضَائِنٍ وَاحِدُ الضَّأْنِ، وَقِيلَ: لَا وَاحِدَ لَهُ. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَنْوَاعِ بِقَوْلِهِ: لِتَرْكَبُوها وَهَذِهِ الْعِلَّةُ هِيَ بِاعْتِبَارِ مُعْظَمِ مَنَافِعِهَا لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها وَعطف زِينَةً عَلَى مَحَلِّ لِتَرْكَبُوها لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ لِخَلْقِهَا وَلَمْ يَقُلْ لِتَتَزَيَّنُوا بِهَا حَتَّى يُطَابِقَ لِتَرْكَبُوهَا لِأَنَّ الرُّكُوبَ فِعْلُ الْمُخَاطَبِينَ، وَالزِّينَةُ فِعْلُ الزَّائِنِ وَهُوَ الْخَالِقُ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الرُّكُوبَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي المقصود، بخلاف الزينة فَإِنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ لِأَنَّهُ يُورِثُ الْعُجْبَ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: خَلَقْتُهَا لِتَرْكَبُوهَا فَتَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِوَاسِطَتِهَا ضَرَرَ الْإِعْيَاءِ وَالْمَشَقَّةِ، وَأَمَّا التَّزَيُّنُ بِهَا فَهُوَ حَاصِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْقَائِلُونَ بِتَحْرِيمِ لُحُومِ الْخَيْلِ قَائِلِينَ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالرُّكُوبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ دُونَ غَيْرِهَا. قَالُوا: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ إِفْرَادُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ وَإِخْرَاجُهَا عَنِ الْأَنْعَامِ فَيُفِيدُ ذَلِكَ اتِّحَادَ حُكْمِهَا فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ أَكْلُ الْخَيْلِ جَائِزًا لَكَانَ ذِكْرُهُ وَالِامْتِنَانُ بِهِ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الرُّكُوبِ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ فَائِدَةً مِنْهُ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى حِلِّ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَلَا حُجَّةَ لِأَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي التعليل: لِتَرْكَبُوها لِأَنَّ ذِكْرَ مَا هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ مَنَافِعِهَا لَا يُنَافِي غَيْرَهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَكْلَ أَكْثَرُ فَائِدَةً مِنَ الرُّكُوبِ حَتَّى يُذْكَرَ وَيَكُونُ ذِكْرُهُ أَقْدَمَ مِنْ ذِكْرِ الرُّكُوبِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَيْلِ لَدَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ ثَمَّ حَاجَةٌ لِتَحْدِيدِ التَّحْرِيمِ لَهَا عَامَ خَيْبَرَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى حِلِّ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ، فَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَمَسَّكًا لِلْقَائِلِينَ بِالتَّحْرِيمِ لَكَانَتِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ الثَّابِتَةُ رَافِعَةً لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَدَافِعَةً لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مُؤَلَّفَاتِنَا بِمَا لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيْ: يَخْلُقُ مَا لَا يُحِيطُ عِلْمُكُمْ بِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ غَيْرَ مَا قَدْ عَدَّدَهُ هَاهُنَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ فِي أَسَافِلِ الْأَرْضِ، وَفِي الْبَحْرِ مِمَّا لَمْ يَرَهُ الْبَشَرُ وَلَمْ يَسْمَعُوا بِهِ وَقِيلَ: هُوَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي الْجَنَّةِ وَفِي النَّارِ مِمَّا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَقِيلَ: هُوَ خَلْقُ السُّوسِ فِي النَّبَاتِ وَالدُّودِ فِي الْفَوَاكِهِ وَقِيلَ: عَيْنٌ تَحْتَ الْعَرْشِ وَقِيلَ: نَهْرٌ مِنَ النُّورِ وَقِيلَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ، وَلَا

وَجْهَ لِلِاقْتِصَارِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ مَا لَا يَعْلَمُ بِهِ الْعِبَادُ، فَيَشْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ لَا يُحِيطُ عِلْمُهُمْ بِهِ، وَالتَّعْبِيرُ هُنَا بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَ مَا لَا يَعْلَمُ بِهِ الْعِبَادُ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ الْقَصْدُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، فَالْمَعْنَى وَعَلَى اللَّهِ قَاصِدُ السَّبِيلِ أَيْ: هِدَايَةُ قَاصِدِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ بِمُوجَبِ وَعْدِهِ الْمَحْتُومِ وَتَفَضُّلِهِ الْوَاسِعِ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعَلَى اللَّهِ بَيَانُ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَالسَّبِيلُ: الْإِسْلَامُ، وَبَيَانُهُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، وَالْقَصْدُ فِي السَّبِيلِ هُوَ كَوْنُهُ مُوَصِّلًا إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَالْمَعْنَى: وَعَلَى اللَّهِ بَيَانُ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَمِنْها جائِرٌ الضَّمِيرُ فِي «مِنْهَا» رَاجِعٌ إِلَى السَّبِيلِ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ، لِأَنَّهَا تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَيْهَا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: وَمِنْ جِنْسِ السَّبِيلِ جَائِرٌ مَائِلٌ عَنِ الحق عادل منه، فَلَا يَهْتَدِي بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: ومن الطريقة جائر وهدى ... قصد السبيل منه ذُو دَخَلِ «1» وَقِيلَ: إِنَّ الطَّرِيقَ كِنَايَةٌ عَنْ صَاحِبِهَا، وَالْمَعْنَى: وَمِنْهُمْ جَائِرٌ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ أَيْ: عَادِلٌ عَنْهُ، فَلَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ قِيلَ وَهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَقِيلَ: أَهْلُ الْمِلَلِ الْكُفْرِيَّةِ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: «وَمِنْكُمْ جَائِرٌ» وَكَذَا قَرَأَ عَلِيٌّ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ: وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَهْدِيَكُمْ جَمِيعًا إِلَى الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ، وَالْمَنْهَجِ الْحَقِّ لَفَعَلَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ، بَلِ اقْتَضَتْ مَشِيئَتُهُ سُبْحَانَهُ إِرَاءَةَ الطريق والدلالة عليها: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ، وَأَمَّا الْإِيصَالُ إِلَيْهَا بِالْفِعْلِ فَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الْعِبَادِ كَافِرٌ، وَلَا مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدِ اقْتَضَتِ الْمَشِيئَةُ الرَّبَّانِيَّةُ أَنَّهُ يَكُونُ الْبَعْضُ مُؤْمِنًا وَالْبَعْضُ كَافِرًا، كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ ذُعِرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فَسَكَنُوا» . وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ أَتى أَمْرُ اللَّهِ قَامُوا، فَنَزَلَتْ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَتى أَمْرُ اللَّهِ قَالَ: خُرُوجُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ قَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ أَتَى، فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حَتَّى تَنْظُرُوا مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ شَيْءٌ قَالُوا: مَا نَرَاهُ نَزَلَ شَيْءٌ، فَنَزَلَتْ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ «2» ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ مِثْلَهَا أَيْضًا، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ شَيْءٌ قَالُوا: مَا نَرَاهُ نَزَلَ شَيْءٌ، فَنَزَلَتْ: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ الْآيَةَ» «3» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ قَالَ: الْأَحْكَامُ وَالْحُدُودُ وَالْفَرَائِضُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ قَالَ: بِالْوَحْيِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ الرُّوحُ: أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَخَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَصَوَّرَهُمْ عَلَى صُورَةِ بَنِي آدم، وما ينزل من السماء

_ (1) . «دخل» : أي: فساد. (2) . الأنبياء: 1. (3) . هود: 8.

[سورة النحل (16) : الآيات 10 إلى 19]

مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِدٌ مِنَ الرُّوحِ، ثُمَّ تلا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ قَالَ: الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ قَالَ: الثِّيَابُ وَمَنافِعُ قَالَ: مَا تَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: نَسْلُ كُلِّ دَابَّةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ يَعْنِي مَكَّةَ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ قَالَ: لَوْ تَكَلَّفْتُمُوهُ لَمْ تُطِيقُوهُ إِلَّا بِجُهْدٍ شَدِيدٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حِلِّ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ أَحَادِيثُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ قَالَتْ: «نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلْنَاهُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ، وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا، وَهُمَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي الْخَيْلِ» . وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» . فَفِي إِسْنَادِهِ صَالِحُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ وَفِيهِ مَقَالٌ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ لَمْ يَقْوَ عَلَى مُعَارَضَةِ أَحَادِيثِ الْحِلِّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُصَرِّحَ بِالتَّحْرِيمِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى يَوْمِ خَيْبَرَ فَيَكُونُ مَنْسُوخًا. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ قَالَ: الْبَرَاذِينُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ أَرْضًا مِنْ لُؤْلُؤَةٍ بَيْضَاءَ» . ثُمَّ سَاقَ مِنْ أَوْصَافِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مَوْضُوعٌ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: «فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ يَقُولُ: عَلَى اللَّهِ أَنْ يُبَيِّنَ الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ وَمِنْها جائِرٌ قَالَ: مِنَ السُّبُلِ نَاكِبٌ عَنِ الْحَقِّ، قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «وَمِنْكُمْ جَائِرٌ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ هذه الآية: «ومنكم جائر» .

_ (1) . النبأ: 38. [سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 19] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19)

لَمَّا اسْتَدَلَّ سُبْحَانَهُ عَلَى وُجُودِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَبَدِيعِ صَنْعَتِهِ بِعَجَائِبِ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ، أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِغَرَائِبِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أَيْ: مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، وَهِيَ السَّحَابُ مَاءً أَيْ: نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَاءِ، وَهُوَ الْمَطَرُ لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ يجوز أن يتعلّق لكم بأنزل أو هو خبر مقدّم، وشراب مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لماء وَمِنْهُ في محل نصب على الحال، والشارب اسْمٌ لِمَا يُشْرَبُ كَالطَّعَامِ لِمَا يُطْعَمُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَشْرَبُهُ النَّاسُ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ مَاءُ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمَطَرِ لِقَوْلِهِ: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ وَقِسْمٌ يَحْصُلُ مِنْهُ شَجَرٌ تَرْعَاهُ الْمَوَاشِي. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ شَجَرٌ لِأَنَّ التَّرْكِيبَ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَاطِ، وَمِنْهُ تَشَاجَرَ الْقَوْمُ إِذَا اخْتَلَطَ أَصْوَاتُ بَعْضِهِمْ بِالْبَعْضِ، وَمَعْنَى الِاخْتِلَاطِ حَاصِلٌ فِي الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ وَفِيمَا لَهُ سَاقٌ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُرَادُ مِنَ الشَّجَرِ فِي الْآيَةِ الْكَلَأُ، وَقِيلَ: الشَّجَرُ كُلُّ مَا لَهُ سَاقٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ «1» وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ، فَلَمَّا كَانَ النَّجْمُ مَا لَا سَاقَ لَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّجَرُ مَا لَهُ سَاقٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَطْفَ الْجِنْسِ عَلَى النَّوْعِ جَائِزٌ فِيهِ تُسِيمُونَ أَيْ: فِي الشَّجَرِ تَرْعَوْنَ مَوَاشِيَكُمْ، يُقَالُ: سَامَتِ السَّائِمَةُ تَسُومُ سَوْمًا: رَعَتْ: فَهِيَ سَائِمَةٌ، وَأَسَمْتُهَا، أَيْ: أَخْرَجْتُهَا إِلَى الرَّعْيِ فَأَنَا مُسِيمٌ، وَهِيَ مُسَامَةٌ وَسَائِمَةٌ، وَأَصْلُ السَّوْمِ الْإِبْعَادُ فِي الْمَرْعَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: أُخِذَ مِنَ السَّوْمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ، لِأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ عَلَامَاتٍ بِرَعْيِهَا يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ «نُنْبِتُ» بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: يُنْبِتُ اللَّهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَدَّمَ الزَّرْعَ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي يَعِيشُ بِهَا النَّاسُ، وَأَتْبَعَهُ بِالزَّيْتُونِ لِكَوْنِهِ فَاكِهَةً مِنْ وَجْهٍ وَإِدَامًا مِنْ وَجْهٍ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الدُّهْنِ، وَهُوَ جَمْعُ زَيْتُونَةٍ، وَيُقَالُ لِلشَّجَرَةِ نَفْسِهَا زَيْتُونَةٌ ثُمَّ ذَكَرَ النَّخِيلَ لِكَوْنِهِ غِذَاءً وَفَاكِهَةً وَهُوَ مَعَ الْعِنَبِ أَشْرَفُ الْفَوَاكِهِ، وَجَمَعَ الْأَعْنَابَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى سَائِرِ الثَّمَرَاتِ فَقَالَ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَمَا أَجْمَلَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ، وقرأ أبيّ ابن كعب «ينبت لكم به الزرع» برفع الزَّرْعَ وَمَا بَعْدَهُ إِنَّ فِي ذلِكَ أَيِ: الْإِنْزَالِ وَالْإِنْبَاتِ لَآيَةً عَظِيمَةً دَالَّةً عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالتَّفَرُّدِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَلَا يُهْمِلُونَ النَّظَرَ فِي مَصْنُوعَاتِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ مَعْنَى تَسْخِيرِهِمَا لِلنَّاسِ تَصْيِيرُهُمَا نَافِعَيْنِ لَهُمْ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ مَصَالِحُهُمْ وَتَسْتَدْعِيهِ حَاجَاتُهُمْ، يَتَعَاقَبَانِ دَائِمًا كَالْعَبْدِ الطَّائِعِ لِسَيِّدِهِ لَا يُخَالِفُ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ إِرَادَتِهِ وَلَا يُهْمِلُ السَّعْيَ فِي نَفْعِهِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، فَإِنَّهَا تجري على نمط متّحد يستدل

_ (1) . الرحمن: 6.

بِهَا الْعِبَادُ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَوْقَاتِ، وَيَهْتَدُونَ بِهَا وَيَعْرِفُونَ أَجْزَاءَ الزَّمَانِ وَمَعْنَى مُسَخَّرَاتٌ مُذَلَّلَاتٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِرَفْعِ النُّجُومُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ: مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ وَعَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ فِي مسخرات يكون حَالًا مُؤَكِّدَةً لِأَنَّ التَّسْخِيرَ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: «وَسَخَّرَ» وَقَرَأَ حَفْصٌ فِي رِوَايَةٍ بِرَفْعِ مُسَخَّرَاتٌ مَعَ نَصْبِ مَا قَبْلَهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ مُسَخَّرَاتٌ إِنَّ فِي ذلِكَ التَّسْخِيرِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أَيْ: يُعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي هَذِهِ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَتَفَرُّدِهِ وَعَدَمِ وُجُودِ شَرِيكٍ لَهُ، وَذَكَرَ الْآيَاتِ لِأَنَّ الْآثَارَ الْعُلْوِيَّةَ أَظْهَرُ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَأَبْيَنُ شَهَادَةً لِلْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، وَجَمَعَهَا لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ مُسَخَّرَاتٌ وَقِيلَ: إِنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ هُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَسْخِيرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ آيَةٌ فِي نَفْسِهَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِنْبَاتِ فَإِنَّهُ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا يَخْلُو كُلُّ هَذَا عَنْ تَكَلُّفٍ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي أَفْرَدَ الْآيَةَ فِي بَعْضِهَا وَجَمَعَهَا فِي بَعْضِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَصْلُحُ لِلْجَمْعِ بِاعْتِبَارٍ وَلِلْإِفْرَادِ بِاعْتِبَارٍ، فَلَمْ يُجْرِهَا عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ افْتِنَانًا وَتَنْبِيهًا عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ وَحُسْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: خَلَقَ، يُقَالُ: ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَذْرَؤُهُمْ ذَرْءًا: خَلَقَهُمْ، فَهُوَ ذَارِئٌ، وَمِنْهُ الذُّرِّيَّةُ، وَهِيَ نَسْلُ الثِّقَلَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى النُّجُومُ رَفْعًا وَنَصْبًا، أَيْ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ سَخَّرَ لَهُمْ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْمَخْلُوقَاتِ الأرضية، وانتصاب مختلفا ألوانه على الحال، وألوانه: هَيْئَاتُهُ وَمَنَاظِرُهُ، فَإِنَّ ذَرْءَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ مَعَ تَسَاوِي الْكُلِّ فِي الطَّبِيعَةِ الْجِسْمِيَّةِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَفَرُّدِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ التَّسْخِيرِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ لَآيَةً وَاضِحَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فَإِنَّ مَنْ تَذَكَّرَ اعْتَبَرَ، وَمَنِ اعْتَبَرَ اسْتَدَلَّ عَلَى المطلوب وقيل: وَإِنَّمَا خُصَّ الْمَقَامُ الْأَوَّلُ بِالتَّفَكُّرِ لِإِمْكَانِ إِيرَادِ الشُّبْهَةِ الْمَذْكُورَةِ وَخُصَّ الْمَقَامُ الثَّانِي بِالْعَقْلِ لِذِكْرِهِ بعد إماطة الشبه وَإِزَاحَةِ الْعِلَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بَعْدَهَا بِالْوَحْدَانِيَّةِ فَلَا عَقْلَ لَهُ وَخُصَّ الْمَقَامُ الثَّالِثُ بِالتَّذَكُّرِ لِمَزِيدِ الدَّلَالَةِ، فَمَنْ شَكَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا حِسَّ لَهُ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّكَلُّفِ مَا لَا يَخْفَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هُنَا كَمَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فِي إِفْرَادِ الْآيَةِ فِي الْبَعْضِ وَجَمْعِهَا فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ يَصْلُحُ لِذِكْرِ التَّفَكُّرِ وَلِذِكْرِ التَّعَقُّلِ وَلِذِكْرِ التَّذَكُّرِ لِاعْتِبَارَاتٍ ظَاهِرَةٍ غَيْرِ خَفِيَّةٍ، فَكَانَ فِي التَّعْبِيرِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِوَاحِدٍ مِنْهَا افْتِنَانٌ حَسَنٌ لَا يُوجَدُ فِي التَّعْبِيرِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَسْخِيرِ الْبَحْرِ بِإِمْكَانِ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِيهِ مِنْ صَيْدٍ وَجَوَاهِرَ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيْنَ التَّذْكِيرِ لَهُمْ بِآيَاتِهِ الْأَرْضِيَّةِ وَالسَّمَاوِيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ، فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَمْكِنَةِ إِتْمَامًا لِلْحُجَّةِ، وَتَكْمِيلًا لِلْإِنْذَارِ، وَتَوْضِيحًا لِمَنَازِعِ الِاسْتِدْلَالِ وَمَنَاطَاتِ الْبُرْهَانِ، وَمَوَاضِعِ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ فِي تَسْخِيرِ الْبَحْرِ فَقَالَ: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا الْمُرَادُ بِهِ السَّمَكُ، وَوَصَفَهُ بِالطَّرَاوَةِ لِلْإِشْعَارِ بِلَطَافَتِهِ، وَالْإِرْشَادُ إِلَى الْمُسَارَعَةِ بِأَكْلِهِ لِكَوْنِهِ مِمَّا يَفْسَدُ بِسُرْعَةٍ

وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها أَيْ: لُؤْلُؤًا وَمَرْجَانًا كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: تَلْبَسُونَها أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرِّجَالِ أَنْ يَلْبَسُوا اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ أَيْ: يَجْعَلُونَهُ حِلْيَةً لَهُمْ كَمَا يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ، وَلَا حَاجَةَ لِمَا تَكَلَّفَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: تَلْبَسُونَها بِقَوْلِهِ تَلْبَسُهُ نِسَاؤُهُمْ، لِأَنَّهُنَّ مَنْ جُمْلَتِهِمْ، أَوْ لكونهنّ يلبسها لِأَجْلِهِمْ، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ مَا يَقْتَضِي مَنْعَ الرِّجَالِ مِنَ التَّحَلِّي بِاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ مَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ عَلَى صِفَةٍ لَا يَسْتَعْمِلُهُ عَلَيْهَا إِلَّا النِّسَاءُ خَاصَّةً، فَإِنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ تَشَبُّهًا بِهِنَّ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِمَنْعِهِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ حِلْيَةَ لُؤْلُؤٍ أَوْ مَرْجَانٍ وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ أَيْ: تَرَى السُّفُنَ شَوَاقَّ لِلْمَاءِ تَدْفَعُهُ بِصَدْرِهَا. وَمَخْرُ السَّفِينَةِ: شَقُّهَا الْمَاءَ بِصَدْرِهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَخَرَ السَّابِحُ: إِذَا شَقَّ الْمَاءَ بِصَدْرِهِ، وَمَخَرَ الْأَرْضَ: شَقَّهَا لِلزِّرَاعَةِ، وَقِيلَ: مَوَاخِرُ: جِوَارِي، وَقِيلَ: مُعْتَرِضَةٌ، وَقِيلَ: تَذْهَبُ وَتَجِيءُ، وَقِيلَ: مُلَجَّجَةٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمَخْرُ فِي اللُّغَةِ: صَوْتُ هُبُوبِ الرِّيحِ، وَلَمْ يُقَيَّدْ بِكَوْنِهِ فِي مَاءٍ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى تَسْتَخْرِجُوا، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، أَوْ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ تَقْدِيرُهُ لِتَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَلِتَبْتَغُوا، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلِ ذَلِكَ لِتَبْتَغُوا، أَيْ: لِتَتَّجِرُوا فِيهِ فَيَحْصُلُ لَكُمُ الرِّبْحُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ: إِذَا وَجَدْتُمْ فَضْلَهُ عَلَيْكُمْ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْكُمُ اعْتَرَفْتُمْ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْكُمْ فَشَكَرْتُمْ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ وَالْأَرْكَانِ. قِيلَ: وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِ هَذِهِ النِّعْمَةِ بِالتَّعْقِيبِ بِالشُّكْرِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ فِيهَا قَطْعًا لِمَسَافَةٍ طَوِيلَةٍ مَعَ أَحْمَالٍ ثَقِيلَةٍ مِنْ غَيْرِ مُزَاوَلَةِ أَسْبَابِ السَّفَرِ، بَلْ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ أَصْلًا مَعَ أَنَّهَا فِي تَضَاعِيفِ الْمَهَالِكِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُضَمَّ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْبَحْرُ مَنْ كَوْنِ فِيهِ أَطْيَبُ مَأْكُولٍ وَأَنْفَسُ مَلْبُوسٍ وَكَثْرَةُ النِّعَمِ مَعَ نَفَاسَتِهَا وَحُسْنُ مَوْقِعِهَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُسْتَدْعِيَةِ لِلشُّكْرِ الْمُوجِبَةِ لَهُ، ثُمَّ أَرْدَفَ هَذِهِ النِّعَمَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّوْحِيدِ الْمُفِيدَةَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى وَآيَةٍ كُبْرَى فَقَالَ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَيْ: جِبَالًا ثَابِتَةً، يُقَالُ: رَسَا يَرْسُو إِذَا ثَبَتَ وَأَقَامَ، قَالَ الشَّاعِرُ «1» : فَصَبَرَتْ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَصْرِيُّونَ، أَوْ لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ عَلَى مَا قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ. وَالْمَيْدُ: الِاضْطِرَابُ يَمِينًا وَشِمَالًا، مَادَ الشَّيْءُ يَمِيدُ مَيْدًا تَحَرَّكَ، وَمَادَتِ الْأَغْصَانُ تَمَايَلَتْ، وَمَادَ الرَّجُلُ تَبَخْتَرَ وَأَنْهاراً أَيْ: وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا، لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْجَعْلِ وَالْخَلْقِ كَقَوْلِهِ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي «2» - وَسُبُلًا أَيْ: وَجَعَلَ فِيهَا سُبُلًا وَأَظْهَرَهَا وَبَيَّنَهَا لِأَجْلِ تَهْتَدُونَ بِهَا فِي أَسْفَارِكُمْ إِلَى مَقَاصِدِكُمْ. وَالسُّبُلُ: الطُّرُقُ وَعَلاماتٍ أَيْ: وَجَعَلَ فِيهَا عَلَامَاتٍ وَهِيَ مَعَالِمُ الطُّرُقِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِلطُّرُقِ عَلَامَاتٍ يَهْتَدُونَ بِهَا وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الْجِنْسُ، أَيْ: يَهْتَدُونَ بِهِ فِي سَفَرِهِمْ لَيْلًا. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَبِالنُّجُمِ بِضَمِّ النُّونِ وَالْجِيمِ، وَمُرَادُهُ النُّجُومُ فَقَصَرَهُ، أَوْ هُوَ جمع نجوم كسقف وَسُقُفٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ هُنَا الْجَدْيُ وَالْفَرْقَدَانِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَقِيلَ: الثُّرَيَّا، وَقِيلَ: الْعَلَامَاتُ الْجِبَالُ، وقيل: هي النجوم

_ (1) . هو عنترة العبسي. (2) . طه: 39.

لِأَنَّ مِنَ النُّجُومِ مَا يُهْتَدَى بِهِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَامَةً لَا يُهْتَدَى بِهَا. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ الِاهْتِدَاءُ فِي الْأَسْفَارِ وَقِيلَ: هُوَ الِاهْتِدَاءُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الأخفش: ثمّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَعَلَامَاتٍ، وَقَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ كَلَامٌ مُنْفَصِلٌ عَنِ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمَّا عَدَّدَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ أَرَادَ أَنْ يُوَبِّخَ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ فَقَالَ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ الْعَظِيمَةَ وَيَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ الْعَجِيبَةَ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا مِنْهَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيجَادِ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهُوَ هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا وَتَجْعَلُونَهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا لَفْظَ «مِنْ» إِجْرَاءً لَهَا مَجْرَى أُولِي الْعِلْمِ جَرْيًا عَلَى زَعْمِهِمْ بِأَنَّهَا آلِهَةٌ، أَوْ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ: «أَفَمَنْ يَخْلُقُ» لِوُقُوعِهَا فِي صُحْبَتِهِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِلْكُفَّارِ مَا لَا يَخْفَى، وَمَا أَحَقَّهُمْ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ شَرِيكًا لخالقه: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ «1» - أَفَلا تَذَكَّرُونَ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَبَدِيعِ صَنْعَتِهِ فَتَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لِوُضُوحِهَا يَكْفِي فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا مُجَرَّدُ التَّذَكُّرِ لَهَا ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ تَعْدِيدِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ نِعَمٌ قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ الْعُقَلَاءُ: إِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ لَوْ ظَهَرَ فِيهِ أَدْنَى خَلَلٍ وَأَيْسَرُ نَقْصٍ لَنَغَّصَ النِّعَمَ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَتَمَنَّى أَنْ يُنْفِقَ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ ذَلِكَ الْخَلَلُ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ يدبّر بَدَنَ هَذَا الْإِنْسَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُلَائِمِ لَهُ، مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا عِلْمَ لَهُ بِوُجُودِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يُطِيقُ حَصْرَ بَعْضِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْ يَقْدِرُ عَلَى إِحْصَائِهَا، أَوْ يَتَمَكَّنُ مِنْ شُكْرِ أَدْنَاهَا؟ يَا رَبَّنَا هَذِهِ نَوَاصِينَا بِيَدِكَ، خَاضِعَةٌ لِعَظِيمِ نِعَمِكَ، مُعْتَرِفَةٌ بِالْعَجْزِ عَنْ تأدية الشُّكْرِ لِشَيْءٍ مِنْهَا، لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَا نُطِيقُ التَّعْبِيرَ بِالشُّكْرِ لَكَ، فَتَجَاوَزْ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنَا، وَأَسْبِلْ ذُيُولَ سِتْرِكَ عَلَى عَوْرَاتِنَا، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَفْعَلْ ذَلِكَ نَهْلَكْ بِمُجَرَّدِ التَّقْصِيرِ فِي شُكْرِ نِعَمِكَ، فَكَيْفَ بِمَا قَدْ فَرَطَ مِنَّا مِنَ التَّسَاهُلِ فِي الِائْتِمَارِ بِأَوَامِرِكَ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ مَنَاهِيكَ، وَمَا أَحْسَنُ مَا قَالَ مَنْ قَالَ: الْعَفْوُ يُرْجَى مِنْ بَنِي آدَمَ ... فَكَيْفَ لَا يُرْجَى مِنَ الرَّبِّ فَقُلْتُ مُذَيِّلًا لِهَذَا الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ قَصْرٌ مَشِيدٌ: فَإِنَّهُ أَرْأَفُ بِي مِنْهُمُ ... حَسْبِي بِهِ حَسْبِي بِهِ حَسْبِي وَمَا أَحْسَنُ مَا خَتَمَ بِهِ هَذَا الِامْتِنَانَ الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ عَلَى إِنْسَانٍ مُشِيرًا إِلَى عَظِيمِ غُفْرَانِهِ وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِالْغَفْلَةِ عَنْ شُكْرِ نِعَمِهِ، وَالْقُصُورِ عَنْ إِحْصَائِهَا، وَالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَدْنَاهَا، وَمِنْ رَحْمَتِهِ إِدَامَتُهَا عَلَيْكُمْ وَإِدْرَارُهَا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَعِنْدَ كُلِّ نَفَسٍ تَتَنَفَّسُونَهُ وَحَرَكَةٍ تَتَحَرَّكُونَ بِهَا. اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُرُكَ عَدَدَ مَا شَكَرَكَ الشَّاكِرُونَ بِكُلِّ لِسَانٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَعَدَدَ مَا سَيَشْكُرُكَ الشَّاكِرُونَ بِكُلِّ لِسَانٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَقَدْ خَصَصْتَنِي بِنِعَمٍ لَمْ أَرَهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ، وإن رأيت

_ (1) . الأعراف: 190.

مِنْهَا شَيْئًا عَلَى بَعْضِ خَلْقِكَ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ بَقِيَّتَهَا، فَأَنَّى أُطِيقُ شُكْرَكَ! وَكَيْفَ أَسْتَطِيعُ تأدية أَدْنَى شُكْرِ أَدْنَاهَا فَكَيْفَ أَسْتَطِيعُ أَعْلَاهَا؟ فَكَيْفَ أَسْتَطِيعُ شُكْرَ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَا؟ ثُمَّ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ، فَقَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ أَيْ: تُضْمِرُونَهُ مِنَ الْأُمُورِ وَما تُعْلِنُونَ أَيْ: تُظْهِرُونَهُ مِنْهَا، وَفِيهِ وَعِيدٌ وَتَعْرِيضٌ وَتَوْبِيخٌ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لَا كَالْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا، فَإِنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا شُعُورَ لَهَا بِشَيْءٍ مِنَ الظَّوَاهِرِ فَضْلًا عَنِ السَّرَائِرِ فَكَيْفَ يَعْبُدُونَهَا؟ وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ قَالَ: مَا خَلَقَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا مِنَ الدَّوَابِّ، وَالشَّجَرِ وَالثِّمَارِ نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ مُتَظَاهِرَةٌ فَاشْكُرُوهَا لِلَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا يَعْنِي حِيتَانَ الْبَحْرِ وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها قَالَ: هَذَا اللُّؤْلُؤُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا قَالَ: هُوَ السَّمَكُ وَمَا فِيهِ مِنَ الدَّوَابِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: لَيْسَ فِي الْحُلَى زَكَاةٌ، ثُمَّ قَرَأَ: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها. أَقُولُ: وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ. وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ مِنَ الزَّكَاةِ حَتَّى يَرِدَ الدَّلِيلُ بِوُجُوبِهَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَالِ فتلزم، وقد ورد في الذهب والفضة ما هُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْجَوَاهِرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوَاخِرَ قَالَ: جِوَارِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مَواخِرَ قَالَ: تَشُقُّ الْمَاءَ بِصَدْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضحّاك مَواخِرَ قَالَ: تَشُقُّ الْمَاءَ بِصَدْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مَواخِرَ قَالَ: السَّفِينَتَانِ تَجْرِيَانِ بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ مُقْبِلَةٌ وَمُدْبِرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ قَالَ: هِيَ التِّجَارَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: رَواسِيَ قَالَ: الْجِبَالُ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ قَالَ: حَتَّى لَا تَمِيدَ بِكُمْ، كَانُوا عَلَى الْأَرْضِ تَمُورُ بِهِمْ لَا تَسْتَقِرُّ، فَأَصْبَحُوا صُبْحًا وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْجِبَالَ، وَهِيَ الرَّوَاسِي أَوْتَادًا فِي الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَسُبُلًا قَالَ: السُّبُلُ هِيَ الطُّرُقُ بَيْنَ الْجِبَالِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْخَطِيبُ عَنْ قَتَادَةَ وَسُبُلًا قَالَ: طُرُقًا، وَعَلاماتٍ قَالَ: هِيَ النُّجُومُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: عَلَامَاتُ النَّهَارِ الْجِبَالُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن الْكَلْبِيِّ وَعَلاماتٍ قَالَ: الْجِبَالُ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلاماتٍ يَعْنِي مَعَالِمَ الطُّرُقِ بِالنَّهَارِ، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ يَعْنِي بِاللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ قَالَ: اللَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، وَهَذِهِ الْأَوْثَانُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تُخْلَقُ وَلَا تَخْلُقُ شَيْئًا ولا تملك لأهلها ضرّا ولا نفعا.

[سورة النحل (16) : الآيات 20 إلى 26]

[سورة النحل (16) : الآيات 20 الى 26] وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي تَحْقِيقِ كَوْنِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: كَمَنْ لَا يَخْلُقُ عَاجِزَةً عَلَى أَنْ يَصْدُرَ مِنْهَا خَلْقُ شَيْءٍ فَلَا تَسْتَحِقُّ عِبَادَةً فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيِ: الْآلِهَةَ الَّذِينَ يَدْعُوهُمُ الْكُفَّارُ مَنْ دُونِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ صِفَتُهُمْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ أَصْلًا لَا كَبِيرًا وَلَا صَغِيرًا، وَلَا جَلِيلًا وَلَا حَقِيرًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَيْ: وَصِفَتُهُمْ أَنَّهُمْ يُخْلَقُونَ، فَكَيْفَ يَتَمَكَّنُ الْمَخْلُوقُ مِنْ أَنْ يَخْلُقَ غَيْرَهُ؟ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُمْ صِفَةَ النُّقْصَانِ بَعْدَ أَنْ سَلَبَ عَنْهُمْ صِفَةَ الْكَمَالِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ سَلْبِ صِفَةِ الْكَمَالِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ مُطَابَقَةً لِمَا قَبْلَهُ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوَى هُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ «يَدْعُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ، ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةً أُخْرَى مِنْ صِفَاتِهِمْ فَقَالَ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ أَجْسَادُهَا مَيِّتَةٌ لَا حَيَاةَ بِهَا أَصْلًا، فَزِيَادَةُ «غَيْرُ أَحْياءٍ» لِبَيَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَبَعْضِ الْأَجْسَادِ الَّتِي تَمُوتُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَيَاةِ لَهَا بَلْ لَا حَيَاةَ لِهَذِهِ أَصْلًا، فَكَيْفَ يَعْبُدُونَهَا وَهُمْ أَفْضَلُ مِنْهَا؟ لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ الضَّمِيرُ فِي يَشْعُرُونَ لِلْآلِهَةِ، وَفِي يُبْعَثُونَ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَالْمَعْنَى: مَا تَشْعُرُ هَذِهِ الْجَمَادَاتُ مِنَ الْأَصْنَامِ أَيَّانَ يُبْعَثُ عَبَدَتُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَكُونُ هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ لِأَنَّ شُعُورَ الْجَمَادِ مُسْتَحِيلٌ بِمَا هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ فَضْلًا عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي يُبْعَثُونَ لِلْآلِهَةِ، أَيْ: وَمَا تَشْعُرُ هَذِهِ الْأَصْنَامُ أَيَّانَ تُبْعَثُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الْأَصْنَامَ وَيَخْلُقُ لَهَا أَرْوَاحًا مَعَهَا شَيَاطِينُهَا فَيُؤْمَرُ بِالْكُلِّ إلى النار، ويدلّ على هذه قَوْلُهُ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» ، وَقِيلَ قَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَوَصَفَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ غير أحياء وما يشعرون أبان يُبْعَثُونَ، فَيَكُونُ الضَّمِيرَانِ عَلَى هَذَا لِلْكُفَّارِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا لِلْأَصْنَامِ يَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا مَعَ كَوْنِهَا لَا تَعْقِلُ بِمَا هُوَ لِلْعُقَلَاءِ جَرْيًا عَلَى اعْتِقَادِ مَنْ يَعْبُدُهَا بِأَنَّهَا تَعْقِلُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ «إِيَّانَ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وهما لغتان، وهو في

_ (1) . الأنبياء: 98.

مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهُ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَمَّا زَيَّفَ سُبْحَانَهُ طَرِيقَةَ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ صَرَّحَ بِمَا هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ وَحْدَانِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا لِأَجْلِهِ أَصَرَّ الْكُفَّارُ عَلَى شِرْكِهِمْ فَقَالَ: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا وَعْظٌ وَلَا يَنْجَعُ فِيهَا تَذْكِيرٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، مُتَعَظِّمُونَ عَنِ الْإِذْعَانِ لِلصَّوَابِ، مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْجَحْدِ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ قَالَ الْخَلِيلُ: لَا جَرَمَ كَلِمَةُ تَحْقِيقٍ وَلَا تَكُونُ إِلَّا جَوَابًا، أَيْ: حَقًّا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي لَا جَرَمَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أَيْ: لَا يُحِبُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالِاسْتِجَابَةِ لِأَنْبِيَائِهِ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ أَيْ: وَإِذَا قَالَ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمُنْكِرِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ قَائِلٌ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ أَوْ مَاذَا الَّذِي أَنْزَلَ؟ قِيلَ: الْقَائِلُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ، فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ التَّهَكُّمِ وَقِيلَ: الْقَائِلُ هُوَ مَنْ يَفِدُ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: الْقَائِلُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَجَابَ الْمُشْرِكُونَ الْمُنْكِرُونَ الْمُسْتَكْبِرُونَ فَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ بِالرَّفْعِ أَيْ: مَا تَدْعُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ نُزُولَهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَوْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَرَادُوا السُّخْرِيَةَ بِالْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا الْمُنَزَّلُ عَلَيْكُمْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَرِدُ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي أَنْزَلَهُ رَبُّنَا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَالْكُفَّارُ لَا يُقِرُّونَ بِالْإِنْزَالِ، وَوَجْهُ عَدَمِ وُرُودِهِ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، أَيْ: لَيْسَ مَا تَدْعُونَ إِنْزَالَهُ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مُنَزَّلًا بَلْ هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ جُوِّزَ عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِ النَّحْوِ نَصْبُ أَسَاطِيرَ وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَلَا بُدَّ فِي النَّصْبِ مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، أَيْ: أَنْزَلَ عَلَى دَعْوَاكُمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، أَوْ يَقُولُونَ ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى طَرِيقِ السُّخْرِيَةِ. وَالْأَسَاطِيرُ: الْأَبَاطِيلُ وَالتُّرَّهَاتُ الَّتِي يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَا عَنِ الْقُرُونِ الْأُولَى، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَا مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ أَصْلًا فِي زَعْمِهِمْ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً أَيْ: قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِكَيْ يَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً، لَمْ يُكَفَّرْ مِنْهَا شَيْءٌ لِعَدَمِ إِسْلَامِهِمُ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ أَسَاطِيرَ لِأَجْلِ يَحْمِلُونَ الْأَوْزَارَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ عَاقِبَتُهُمْ ذَلِكَ حَسُنَ التَّعْلِيلُ بِهِ كَقَوْلِهِ: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «1» . وَقِيلَ: هِيَ لَامُ الْأَمْرِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ أي: ويحملون بعض أوزار الذي أَضَلُّوهُمْ لِأَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَقِيلَ: مِنْ لِلْجِنْسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: يَحْمِلُونَ كُلَّ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، وَمَحَلُّ بِغَيْرِ عِلْمٍ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ «يُضِلُّونَهُمْ» أَيْ: يُضِلُّونَ النَّاسَ جَاهِلِينَ غَيْرَ عَالِمِينَ بِمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، وَلَا عَارِفِينَ بِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْآثَامِ وَقِيلَ: إِنَّهُ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَيْ: يُضِلُّونَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «2» . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «3» . أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ أَيْ: بِئْسَ شَيْئًا يَزِرُونَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ حَالَ أَضَرَابِهِمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَقَالَ: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ به نمروذ بن كنعان حيث

_ (1) . القصص: 8. (2) . العنكبوت: 13. (3) . الأنعام: 164. [.....]

بَنَى بِنَاءً عَظِيمًا بِبَابِلَ، وَرَامَ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ لِيُقَاتِلَ أَهْلَهَا، فَأَهَبَّ اللَّهُ الرِّيحَ، فَخَرَّ ذَلِكَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِهِ فَهَلَكُوا، وَالْأَوْلَى أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُبْطِلِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ إِلْحَاقَ الضُّرِّ بِالْمُحِقِّينَ وَمَعْنَى الْمَكْرِ هُنَا الْكَيْدُ وَالتَّدْبِيرُ الَّذِي لَا يُطَابِقُ الْحَقَّ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَكْرَهُمْ سَيَعُودُ عَلَيْهِمْ كَمَا عَادَ مَكْرُ مَنْ قَبْلَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ أَيْ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، وَهُوَ الرِّيحُ الَّتِي أَخْرَبَتْ بُنْيَانَهُمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَرْسَلَ اللَّهُ رِيحًا فَأَلْقَتْ رَأْسَ الصَّرْحِ فِي الْبَحْرِ، وَخَرَّ عَلَيْهِمُ الْبَاقِي مِنَ الْقَواعِدِ قَالَ الزَّجَّاجُ: مِنَ الْأَسَاطِينِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَتَاهَا أَمْرُ اللَّهِ مِنْ جِهَةِ قَوَاعِدِهَا فَزَعْزَعَهَا فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ قَرَأَ ابْنُ أَبِي هريرة وابن محيصن «السقف» بضم السين والقاف جميعا. وقرأ مجاهد بضم السين وسكون القاف، وقرأ الباقون «السَّقْفُ» بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سَقَطَ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ لِأَنَّهُ بَعْدَ سُقُوطِ قَوَاعِدِ الْبِنَاءِ يَسْقُطُ جَمِيعُ مَا هُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ فَوْقِهِمْ لِيُعْلِمَكَ أَنَّهُمْ كَانُوا حَالِّينِ تَحْتَهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَّ عَلَيْنَا سَقْفٌ، وَوَقَعَ عَلَيْنَا حَائِطٌ إِذَا كَانَ يَمْلِكُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ عَلَيْهِ، فَجَاءَ بِقَوْلِهِ: مِنْ فَوْقِهِمْ لِيُخْرِجَ هَذَا الشَّكَّ الَّذِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: مِنْ فَوْقِهِمْ أَيْ: عَلَيْهِمْ وَقَعَ، وَكَانُوا تَحْتَهُ فَهَلَكُوا، وَمَا أَفْلَتُوا وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّقْفِ السَّمَاءُ، أَيْ: أَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي فَوْقَهُمْ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَمْثِيلٌ لِهَلَاكِهِمْ وَالْمَعْنَى: أَهْلَكَهُمْ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَقَطَ بُنْيَانُهُ عَلَيْهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ، فَقِيلَ: هُوَ نُمْرُوذُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بُخْتَنَصَّرُ وَأَصْحَابُهُ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ أَيِ: الْهَلَاكُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عَذَابَهُمْ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا. فَقَالَ: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ بِإِدْخَالِهِمُ النَّارَ، وَيَفْضَحُهُمْ بِذَلِكَ وَيُهِينُهُمْ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: هَذَا عَذَابُهُمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا أَيْنَ شُرَكائِيَ كَمَا تَزْعُمُونَ وَتَدَّعُونَ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ الْبَزِّيِّ «شُرَكَايَ» مِنْ دُونِ هَمْزٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ، ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، أَيْ: تُخَاصِمُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِيهِمْ، وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ تُخَاصِمُونَنِي فِيهِمْ وَتُعَادُونَنِي: ادْعُوهُمْ فَلْيَدْفَعُوا عَنْكُمْ هَذَا الْعَذَابَ النَّازِلَ بِكُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا جَرَمَ يَقُولُ: بَلَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ لَا جَرَمَ قَالَ: يَعْنِي الْحَقَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: لَا كَذِبَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حسنا،

[سورة النحل (16) : الآيات 27 إلى 32]

فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ «1» » ، وَفِي ذَمِّ الْكِبْرِ وَمَدْحِ التَّوَاضُعِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي إِخْرَاجِ مَحَبَّةِ حُسْنِ الثَّوْبِ وَحُسْنِ النَّعْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنِ الْكِبْرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ مَاهِيَّةَ الْكِبْرِ أَنَّهُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ، فَهَذَا هُوَ الْكِبْرُ الْمَذْمُومُ. وَقَدْ سَاقَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً لَيْسَ هَذَا مَقَامَ إِيرَادِهَا، بَلِ الْمَقَامُ مَقَامُ ذكر ماله عَلَاقَةٌ بِتَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أن ناسا من مشركي العرب كان يَقْعُدُونَ بِطَرِيقِ مَنْ أَتَى نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا مَرُّوا سَأَلُوهُمْ فَأَخْبَرُوهُمْ بِمَا سَمِعُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا إِنَّمَا هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ الْآيَةَ يَقُولُ يحملون مع ذنوبهم ذنوب الذي يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَلَا يُخَفِّفُ ذَلِكَ عَمَّنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَالَ: نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ حِينَ بَنَى الصَّرْحَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ النُّمْرُوذُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ قَالَ: أَتَاهَا أَمْرُ اللَّهِ مِنْ أَصْلِهَا فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ والسقف: أعالي البيوت فائتفكت بِهِمْ بُيُوتُهُمْ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَهُمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قال: تخالفوني. [سورة النحل (16) : الآيات 27 الى 32] ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) قَوْلُهُ: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قِيلَ: هُمُ الْعُلَمَاءُ قَالُوهُ لِأُمَمِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يَعِظُونَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى وَعْظِهِمْ. وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ الشَّمَاتَةِ وَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ ذِكْرَهُمْ بِوَصْفِ الْعِلْمِ يُفِيدُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ هُمْ أَعْرَقُ فِيهِ لَكِنْ لَهُمْ وَصْفٌ يُذْكَرُونَ بِهِ هُوَ أَشْرَفُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ أَنْبِيَاءَ أَوْ كَوْنُهُمْ مَلَائِكَةً، وَلَا يَقْدَحُ فِي هذا

_ (1) . (غمص الناس) و (غمط الناس) بمعنى واحد، وهو: الاستهانة بهم. انظر النهاية: غمص، غمط.

جَوَازُ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الظُّهُورِ فَقَطْ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ أَيِ: الذُّلَّ وَالْهَوَانَ وَالْفَضِيحَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسُّوءَ أَيِ: الْعَذَابَ عَلَى الْكافِرِينَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَالْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْكَافِرِينَ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ، وَانْتِصَابُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ على الحال فَأَلْقَوُا السَّلَمَ معطوف على «وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ» وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ أَيْ أَقَرُّوا بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَانْقَادُوا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَمَعْنَاهُ الِاسْتِسْلَامُ قَالَهُ قُطْرُبٌ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْمُسَالَمَةُ، أَيْ: سَالَمُوا وَتَرَكُوا الْمُشَاقَّةَ قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْإِسْلَامُ أَيْ أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ وَتَرَكُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَجُمْلَةُ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرًا لِلسَّلَمِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّلَمِ الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّوءِ هُنَا الشِّرْكَ، وَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْجُحُودِ وَالْكَذِبِ، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزِ الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْقِيَامَةِ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا سُوءًا فِي اعْتِقَادِهِمْ وَعَلَى حَسَبِ ظُنُونِهِمْ، وَمِثْلُهُ قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. فَلَمَّا قَالُوا هَذَا أَجَابَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِمْ: بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ: بَلَى كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ السُّوءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالَّذِي كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ فَمُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ وَلَا يَنْفَعُكُمْ هَذَا الْكَذِبُ شَيْئًا فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ وَأَنَّ جَهَنَّمَ درجات بعضها فوق بعض، وخالِدِينَ فِيها حَالٌ مُقَدَّرَةٌ لِأَنَّ خُلُودَهُمْ مُسْتَقْبَلٌ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ جَهَنَّمُ، وَالْمُرَادُ بِتَكَبُّرِهِمْ هُنَا هُوَ تَكَبُّرُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ «1» ، ثُمَّ أَتْبَعَ أَوْصَافَ الْأَشْقِيَاءِ بِأَوْصَافِ السُّعَدَاءِ، فَقَالَ: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً أَيْ: أَنْزَلَ خَيْرًا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: فَإِنْ قِيلَ لِمَ ارْتَفَعَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَانْتَصَبَ فِي قَوْلِهِ: خَيْراً فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالتَّنْزِيلِ، فَكَأَنَّهُمْ قالوا الذي يقولونه مُحَمَّدٌ هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ آمَنُوا بِالنُّزُولِ، فقالوا أَنْزَلَ خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ قِيلَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةٌ لِكَلَامِ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فيكون على هذا بدلا من خيرا، وعلى الْأَوَّلِ يَكُونُ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مَسُوقًا لِلْمَدْحِ لِلْمُتَّقِينَ، وَالْمَعْنَى: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، أَيْ: مَثُوبَةً حَسَنَةً وَلَدارُ الْآخِرَةِ أَيْ مَثُوبَتُهَا خَيْرٌ مِمَّا أُوتُوا فِي الدُّنْيَا وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دَارُ الْآخِرَةِ، فَحُذِفَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَارْتِفَاعُ جَنَّاتُ عَدْنٍ عَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهَا مَا بَعْدَهَا، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ يَدْخُلُونَها هُوَ إِمَّا خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَنْكِيرِ عَدْنٍ تَكُونُ صِفَةً لِجَنَّاتٍ وَكَذَلِكَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَتَانِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ لَفْظَ عَدْنٍ عَلَمٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى جَرْيِ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ أي: لهم في الجنات ما تقع عليه مَشِيئَتُهُمْ صَفْوًا عَفْوًا يَحْصُلُ لَهُمْ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ

_ (1) . الصافات: 35.

[سورة النحل (16) : الآيات 33 إلى 40]

كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ يَجْزِيهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ كُلُّ مَنْ يَتَّقِي الشِّرْكَ وَمَا يُوجِبُ النَّارَ مِنَ الْمَعَاصِي، وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبِ نَعْتٍ لِلْمُتَّقِينَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ «تَتَوَفَّاهُمُ» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ مُسْتَدِلًّا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ فَذَكِّرُوهُمْ أنتم. وطيبين فِيهِ أَقْوَالٌ: طَاهِرِينَ مِنَ الشِّرْكِ، أَوِ الصَّالِحِينَ، أَوْ زَاكِيَةً أَفْعَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ، أَوْ طَيِّبِينَ الْأَنْفُسِ ثِقَةً بِمَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ، أَوْ طَيِّبَةً نُفُوسُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، أَوْ طَيِّبِينَ الْوَفَاةِ، أَيْ: هِيَ عَلَيْهِمْ سَهْلَةٌ لَا صُعُوبَةَ فِيهَا، وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: أَيْ قَائِلِينَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَمَعْنَاهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ إِنْذَارًا لَهُمْ بِالْوَفَاةِ. الثَّانِي أَنْ يَكُونَ تَبْشِيرًا لَهُمْ بِالْجَنَّةِ لِأَنَّ السَّلَامَ أَمَانٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُونَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَلِيَّ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ: بِسَبَبِ عَمَلِكُمْ، قِيلَ: يَحْتَمِلُ هَذَا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ تَبْشِيرًا بِدُخُولِ الْجَنَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، الثَّانِي أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَلَا يُنَافِي هَذَا دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالتَّفَضُّلِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قِيلَ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» وَقَدْ قَدَّمْنَا الْبَحْثَ عَنْ هَذَا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ، يُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أَيْ: آمَنُوا بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَأَمَرُوا بِطَاعَتِهِ وَحَثُّوا عِبَادَ اللَّهِ عَلَى الْخَيْرِ وَدَعَوْهُمْ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ قَالَ: أَحْيَاءً وأمواتا قدّر الله لهم ذلك. [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 40] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)

قوله: لْ يَنْظُرُونَ الْآيَةَ هَذَا جَوَابُ شُبْهَةٍ أُخْرَى لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا مِنَ السَّمَاءِ يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِهِ فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ، فقال: هل ينظرون في تصديق نبوتك لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ شَاهِدِينَ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أساطير الأوّلين أوعدهم الله بقوله: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ أَيْ: عَذَابُهُ فِي الدُّنْيَا الْمُسْتَأْصِلُ لَهُمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْقِيَامَةُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ «إلا أن يأتيهم الْمَلَائِكَةُ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ يَنْظُرُونَ- أَيْ: يَنْتَظِرُونَ إِتْيَانَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ إِتْيَانَ أَمْرِ اللَّهِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْآخَرِ- أَنَّهُمْ قَدْ فَعَلُوا فِعْلَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَصَارَ مُنْتَظِرًا لَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ ولا يصدّقونه ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: مِثْلَ فِعْلِ هَؤُلَاءِ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فَعَلَ الَّذِينَ خَلَوْا مَنْ قَبْلِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الكفار، فأتاهم أمر الله فهلكوا ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بِتَدْمِيرِهِمْ بِالْعَذَابِ فَإِنَّهُ أَنْزَلَ بِهِمْ ما استحقّوه بكفرهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَفِيهِ أَنَّ ظُلْمَهُمْ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ مَا إليه يؤول، وَجُمْلَةُ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى فِعْلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: فَأَصَابَهُمْ جَزَاءُ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ، أَوْ جَزَاءُ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَحاقَ بِهِمْ أَيْ: نَزَلَ بِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْإِحَاطَةِ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيِ: الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَوْ عِقَابُ اسْتِهْزَائِهِمْ وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ كُفْرِهِمُ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ أَشْرَكُوا هُنَا أَهْلُ مَكَّةَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ: لَوْ شَاءَ عَدَمَ عِبَادَتِنَا لِشَيْءٍ غَيْرِهِ مَا عَبَدْنَا ذَلِكَ نَحْنُ وَلا آباؤُنا الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ الْآنَ مِنْ دِينِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ بِاللَّهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُمْ قَالُوا هَذَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَلَوْ قَالُوهُ عَنِ اعْتِقَادٍ لَكَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ وَنَحْوِهِمَا، وَمَقْصُودُهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُعَلَّقِ بِالْمَشِيئَةِ الطَّعْنُ فِي الرِّسَالَةِ، أَيْ: لَوْ كَانَ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ حَقًّا مِنَ الْمَنْعِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَالْمَنْعِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، حَاكِيًا ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ لَمْ يَقَعْ مِنَّا مَا يُخَالِفُ مَا أَرَادَهُ مِنَّا فَإِنَّهُ قَدْ شَاءَ ذَلِكَ، وَمَا شَاءَهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَكُنْ، فَلَمَّا وَقَعَ مِنَّا الْعِبَادَةُ لِغَيْرِهِ وَتَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُطَابِقُ لِمُرَادِهِ وَالْمُوَافِقُ لِمَشِيئَتِهِ، مَعَ أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَلَا يُقِرُّونَ بِهِ، لَكِنَّهُمْ قَصَدُوا مَا ذَكَرْنَا مِنَ الطَّعْنِ على الرسل ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وجادلوا رسله بالباطل، واستهزءوا بِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمُ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ شَرَائِعِهِ الَّتِي رَأْسُهَا تَوْحِيدُهُ، وَتَرْكُ الشِّرْكِ بِهِ إِلَّا الْبَلاغُ إِلَى مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ بِمَا أُمِرُوا بِتَبْلِيغِهِ بَلَاغًا وَاضِحًا يَفْهَمُهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ هَذَا وَزَادَهُ إِيضَاحًا فَقَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا كَمَا بَعَثْنَا فِي هَؤُلَاءِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» ،

_ (1) . الْإِسْرَاءِ: 15.

وَ «أَنِ» فِي قَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ إِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بَعَثْنَا بِأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، أَوْ مُفَسِّرَةٌ لِأَنَّ فِي الْبَعْثِ مَعْنَى الْقَوْلِ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أَيِ: اتْرُكُوا كُلَّ مَعْبُودٍ دُونَ اللَّهِ كَالشَّيْطَانِ وَالْكَاهِنِ وَالصَّنَمِ وَكُلِّ مَنْ دَعَا إِلَى الضَّلَالِ فَمِنْهُمْ أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا رُسُلَهُ مَنْ هَدَى اللَّهُ أَيْ: أَرْشَدَهُ إِلَى دِينِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَاجْتِنَابِ الطَّاغُوتِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أَيْ: وَجَبَتْ وَثَبَتَتْ لِإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ بَعَثَ الرُّسُلَ بِالْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، وَهُوَ مِنْ وَرَاءِ الْإِضْلَالِ وَالْهِدَايَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ «1» . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ جَمِيعَ عِبَادِهِ بِعِبَادَتِهِ، وَاجْتِنَابِ الشَّيْطَانِ وَكُلِّ مَا يَدْعُو إِلَى الضَّلَالِ، وَأَنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَرِيقَانِ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مُوَافَقَةَ إِرَادَتِهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ الْكُلَّ بِالْإِيمَانِ، وَلَا يُرِيدُ الْهِدَايَةَ إِلَّا لِلْبَعْضِ، إِذْ لَوْ أَرَادَهَا لِلْكُلِّ لَمْ يَكْفُرْ أَحَدٌ، وَهَذَا مَعْنَى مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ الزَّجَّاجِ هُنَا فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ سَيْرَ مُعْتَبِرِينَ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِكُمْ لِآثَارِهِمْ كَعَادٍ وَثَمُودَ، أَيْ: كَيْفَ صَارَ آخِرُ أَمْرِهِمْ إِلَى خَرَابِ الدِّيَارِ بَعْدَ هَلَاكِ الْأَبْدَانِ بِالْعَذَابِ، ثُمَّ خَصَّصَ الْخِطَابَ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَكِّدًا لِمَا تَقَدَّمَ، فَقَالَ: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ أَيْ: تَطْلُبْ بِجُهْدِكَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ «لَا يَهْدِي» بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ مُسْتَقْبَلٍ مُسْنَدٍ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرْشِدُ مَنْ أَضَلَّهُ، وَ «مَنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «لَا يُهْدَى» بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ «2» ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِ هَادٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَ «مَنْ» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا نَائِبُ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ «3» ، وَالْعَائِدُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَنْ يُضِلُّهُ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْفَرَّاءِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى أَنَّ مَعْنَى لَا يَهْدِي لَا يَهْتَدِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى «4» ، بِمَعْنَى يَهْتَدِي. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا غَيْرَ الْفَرَّاءِ، وَلَيْسَ بِمُتَّهَمٍ فِيمَا يَحْكِيهِ. قَالَ النَّحَّاسَ: حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْمُبَرِّدِ: كَأَنَّ مَعْنَى لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ وَسَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يَنْصُرُونَهُمْ عَلَى الْهِدَايَةِ لِمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ أَوْ يَنْصُرُونَهُمْ بِدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ عِنَادَ قُرَيْشٍ وَإِنْكَارَهُمْ لِلْبَعْثِ فَقَالَ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: جَاهِدِينَ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ عِبَادِهِ، زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَاجِزٌ عَنْ بَعْثِ الْأَمْوَاتِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا هَذَا إِثْبَاتٌ لِمَا بَعْدَ النَّفْيِ، أَيْ: بَلَى يَبْعَثُهُمْ، وَ «وَعْداً» مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَلَى وَهُوَ يَبْعَثُهُمْ لِأَنَّ الْبَعْثَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ وَعَدَ عِبَادَهُ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعَدَ الْبَعْثَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا لَا خلف فيه، وحقا صِفَةٌ لِوَعْدٍ، وَكَذَا «عَلَيْهِ» فَإِنَّهُ صِفَةٌ لِوَعْدٍ، أَيْ: كَائِنًا عَلَيْهِ، أَوْ نُصِبَ حَقًّا عَلَى المصدرية، أي: حق حقا

_ (1) . الأعراف: 30. (2) . يراجع في ذلك زاد المسير (4/ 446) . (3) . الأعراف: 186. (4) . يونس: 35.

وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ غَيْرُ عَسِيرٍ. وَقَوْلُهُ: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أَيْ: لِيُظْهِرَ لَهُمْ، وَهُوَ غَايَةٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَلَى مِنَ الْبَعْثِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ يَمُوتُ، وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ لِيُبَيِّنَ، أَيِ: الْأَمْرُ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَبَيَانُهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ كُتُبُ اللَّهِ وَقِيلَ: إِنَّ لِيُبَيِّنَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنا أَيْ: بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا لِيُبَيِّنَ، وَهُوَ بَعِيدٌ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ فِي جِدَالِهِمْ وَإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِقَوْلِهِمْ: لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ وَجُمْلَةُ إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْإِبْدَاءِ وَالْإِعَادَةِ بَعْدَ بَيَانِ سُهُولَةِ الْبَعْثِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَهُمْ بِسُهُولَةِ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَتَى أَرَادَ الشَّيْءَ كَانَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ «فَيَكُونَ» بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَنْ نَقُولَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى جَوَابِ كُنْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى: فَهُوَ يَكُونُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَوْقَعَ لَفْظَ الشَّيْءِ عَلَى الْمَعْلُومِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ وُجِدَ وَشُوهِدَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنْ مَعْنَى «لِشَيْءٍ» لِأَجْلِ شَيْءٍ، فَجَعَلَ اللَّامَ سَبَبِيَّةً وَقِيلَ: هِيَ لَامُ التَّبْلِيغِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: قُلْتُ له قم فقام، وإِنَّما قَوْلُنا مبتدأ وأَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ خَبَرُهُ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَنَّ وُجُودَهُ عِنْدَ إِرَادَتِهِ كَوُجُودِ الْمَأْمُورِيَّةِ عِنْدَ أَمْرِ الْآمِرِ الْمُطَاعِ إِذَا وَرَدَ عَلَى الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ قَوْلٌ وَلَا مَقُولٌ لَهُ، وَلَا أَمْرٌ وَلَا مَأْمُورٌ، حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَحَدُ مُحَالَيْنِ: إِمَّا خِطَابُ الْمَعْدُومِ، أَوْ تَحْصِيلٌ لِحَاصِلٍ. وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ قَالَ: بِالْمَوْتِ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ «2» وهو ملك الموت، وله رسل وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ وَذَاكُمْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ قَالَ: مَنْ يُضِلُّهُ اللَّهُ لَا يَهْدِيهِ أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دَيْنٌ، فَأَتَاهُ يَتَقَاضَاهُ فَكَانَ فِيمَا تَكَلَّمَ بِهِ: وَالَّذِي أَرْجُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ إِنَّهُ لِكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُ: إِنَّكَ لَتَزْعُمُ أَنَّكَ تُبْعَثُ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ، فَأَقْسَمَ بِاللَّهِ جَهْدَ يَمِينِهِ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْعُقَيْلِيِّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ قَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ «3» .... وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَبَّنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسُبَّنِي، وَكَذَّبَنِي

_ (1) . البقرة: 117. (2) . الأنفال: 50. (3) . كذا في الدر المنثور.

[سورة النحل (16) : الآيات 41 إلى 50]

وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَالَ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ وَقُلْتُ: بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَأَمَّا سَبُّهُ إِيَّايَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، وَقُلْتُ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا بِلَفْظٍ آخَرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ يقول: للناس عامة. [سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 50] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْهِجْرَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَهِيَ تَرْكُ الْأَهْلِ وَالْأَوْطَانِ، وَمَعْنَى هاجَرُوا فِي اللَّهِ فِي شَأْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَفِي رِضَاهُ، وَقِيلَ: فِي اللَّهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقِيلَ: «فِي» بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: لِلَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أَيْ: عُذِّبُوا وَأُهِينُوا، فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ عَذَّبُوا جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَالُوا مَا أَرَادُوا مِنْهُمْ، فَلَمَّا تَرَكُوهُمْ هَاجَرُوا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَعَمَّارٍ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَذَلِكَ يُخَالِفُ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ هاجَرُوا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ الْمَدَنِيَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي عُنْوَانِهَا، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَلَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ وَأَخْرَجُوهُمْ حَتَّى لَحِقَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالْحَبَشَةِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً. اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى هَذَا عَلَى أَقْوَالٍ فَقِيلَ: الْمُرَادُ نُزُولُهُمُ الْمَدِينَةَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الرِّزْقُ الْحَسَنُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقِيلَ: النَّصْرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ قَالَهُ الضَّحَّاكُ: وَقِيلَ: مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ فُتُوحِ الْبِلَادِ وَصَارَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ وَقِيلَ: مَا بَقِيَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الثَّنَاءِ وَصَارَ لِأَوْلَادِهِمْ مِنَ الشَّرَفِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَمَعْنَى لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مَبَاءَةً حَسَنَةً أَوْ تَبْوِئَةً حَسَنَةً، فَحَسَنَةٌ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَيْ: جَزَاءُ أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَعْلَمَهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُشَاهِدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً

كَبِيراً «1» . لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أَيْ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي يَعْلَمُونَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: لَوْ رَأَوْا ثَوَابَ الْآخِرَةِ وَعَايَنُوهُ لَعَلِمُوا أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ حَسَنَةِ الدُّنْيَا الَّذِينَ صَبَرُوا الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ، أَوِ الرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ» وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أَيْ: عَلَى رَبِّهِمْ خَاصَّةً يَتَوَكَّلُونَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ مُعْرِضِينَ عَمَّا سِوَاهُ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «نُوحِي» بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «يُوحَى» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى قُرَيْشٍ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا مِنَ الْبَشَرِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ هَذِهِ عَادَتُهُ وَسُنَّتُهُ أَنْ لَا يُرْسِلَ إِلَّا رِجَالًا مِنَ الْبَشَرِ يُوحِي إِلَيْهِمْ. وَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْجِبَائِيُّ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ بِوَحْيِهِ إِلَّا مَنْ هُوَ عَلَى صُورَةِ الرِّجَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صورة مُخْتَلِفَةٍ، وَلَمَّا كَانَ كُفَّارُ مَكَّةَ مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، صَرَفَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَيْ: فَاسْأَلُوا أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ إِنْ كنتم لا تعلمون فإنهم سيخبروكم أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا بَشَرًا، أَوِ اسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمُؤْمِنِيهِمْ كَمَا يُفِيدُهُ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَلَا يكتمونه وقيل: المعنى: فاسألوا أهل القرآن، وبِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ يتعلّق بأرسلنا، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ رِجَالًا، وأنكر الفرّاء ذلك، وقال: إن صلة مَا قَبْلَ إِلَّا لَا تَتَأَخَّرُ إِلَى مَا بَعْدَهَا، لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ مَجْمُوعُ مَا قَبْلَ إِلَّا مَعَ صِلَتِهِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: أَرْسَلْنَا إِلَّا رِجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِرْ هَذَا الْمَجْمُوعُ مَذْكُورًا بِتَمَامِهِ امْتَنَعَ إِدْخَالُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، أَيْ: أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَيَكُونُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَاذَا أَرْسَلَهُمْ؟ فَقَالَ: أرسلناهم بالبينات والزبر وقيل: متعلّق بتعلمون عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُهُ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ برجالا، أي: رجالا متلبسين بالبينات والزبر وقيل: بنوحي، أَيْ: نُوحِي إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بتقدير أعني، والباء زائدة، وأهل الذِّكْرِ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الزجّاج: اسألوا كل من يذكر بعلم، والبينات: الحجج والبراهين، والزّبر: الْكُتُبُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أَيِ: الْقُرْآنَ، ثُمَّ بَيَّنَ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنَ الْإِنْزَالِ، فَقَالَ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ جَمِيعًا مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا الذِّكْرِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَيْ: إِرَادَةَ أَنْ يَتَأَمَّلُوا وَيُعْمِلُوا أَفْكَارَهُمْ فَيَتَّعِظُوا أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ السَّيِّئَاتُ صِفَةً مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَكَرُوا الْمَكَرَاتِ السَّيِّئَاتِ، وَأَنْ تَكُونَ مَفْعُولَةً لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى الْعَمَلِ، أَيْ: عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ، أَوْ صِفَةً لِمَفْعُولٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَفَأَمِنَ الْمَاكِرُونَ الْعُقُوبَاتِ السَّيِّئَاتِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الجرّ،

_ (1) . الإنسان: 20.

أَيْ: مَكَرُوا بِالسَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ هُوَ مَفْعُولُ أَمِنَ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ مَفْعُولِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَفْعُولَهُ مَحْذُوفٌ، وَأَنَّ السَّيِّئَاتِ صِفَةٌ لِلْمَحْذُوفِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَمَكْرُ السَّيِّئَاتِ: سَعْيُهُمْ فِي إِيذَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيذَاءِ أَصْحَابِهِ عَلَى وَجْهِ الْخِفْيَةِ، وَاحْتِيَالُهُمْ فِي إِبْطَالِ الْإِسْلَامِ، وَكَيْدِ أَهْلِهِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ كَمَا خَسَفَ بِقَارُونَ، يُقَالُ: خُسِفَ الْمَكَانُ يُخْسَفُ خُسُوفًا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ، وَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ خُسُوفًا، أَيْ: غَابَ بِهِ فِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ «1» ، وَخُسِفَ هُوَ فِي الْأَرْضِ وَخُسِفَ بِهِ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ عَنْهُ كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: يُرِيدُ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُمْ أُهْلِكُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَمْ يَكُنْ فِي حُسْبَانِهِمْ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا فَقِيلَ: الْمُرَادُ فِي أَسْفَارِهِمْ وَمَتَاجِرِهِمْ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُهْلِكَهُمْ فِي السَّفَرِ كَمَا يُهْلِكُهُمْ فِي الْحَضَرِ، وَهُمْ لَا يَفُوتُونَهُ بِسَبَبِ ضَرْبِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَبُعْدِهِمْ عَنِ الْأَوْطَانِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ فِي حَالِ تَقَلُّبِهِمْ فِي قَضَاءِ أو طارهم بِوُجُودِ الْحِيَلِ، فَيَحُولُ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَقَاصِدِهِمْ وَحِيَلِهِمْ وَقِيلَ: فِي حَالِ تَقَلُّبِهِمْ فِي اللَّيْلِ عَلَى فُرُشِهِمْ، وَقِيلَ: فِي حَالِ إِقْبَالِهِمْ وَإِدْبَارِهِمْ، وَذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْقَلْبُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ «2» ، وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ «3» . فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ: بِفَائِتِينَ وَلَا مُمْتَنِعِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ أَيْ: حَالَ تَخَوُّفٍ وَتَوَقُّعٍ لِلْبَلَايَا بِأَنْ يَكُونُوا مُتَوَقِّعِينَ لِلْعَذَابِ حَذِرِينَ مِنْهُ غَيْرَ غَافِلِينَ عَنْهُ، فَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ: مَعْنَى «عَلَى تَخَوُّفٍ» : عَلَى تَنَقُّصٍ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، أَيْ: عَلَى تَنَقُّصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ حَتَّى أَهْلَكَهُمْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: عَلَى تَخَوُّفٍ، قَالَ: تَنَقُّصٍ إِمَّا بِقَتْلٍ أَوْ بِمَوْتٍ، يَعْنِي بِنَقْصٍ مِنْ أَطْرَافِهِمْ وَنَوَاحِيهِمْ يَأْخُذُهُمُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ حَتَّى يَأْتِيَ الْأَخْذُ عَلَى جَمِيعِهِمْ. قَالَ: وَالتَّخَوُّفُ التَّنَقُّصُ، يُقَالُ: هُوَ يَتَخَوَّفُ الْمَالَ أَيْ: يَتَنَقَّصُهُ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَطْرَافِهِ، انْتَهَى. يُقَالُ: تَخَوَّفَهُ الدَّهْرُ وَتَخَوَّنَهُ بِالْفَاءِ وَالنُّونِ: تَنَقَّصَهُ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: لا بل هو الشّوق من دار تخوّنها ... مَرًّا سَحَابٌ وَمَرًّا بَارِحٌ «4» تَرِبُ وَقَالَ لَبِيدٌ: ............... .. تخوّنها نُزُولِي وَارْتِحَالِي «5» أَيْ: تَنَقَّصَ لَحْمُهَا وَشَحْمُهَا. قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: التَّخَوُّفُ، بِالْفَاءِ، التَّنَقُّصُ لُغَةً لأزد شنوءة، وأنشد: تخوّف غدرهم مَالِي وَأُهْدِي ... سَلَاسِلَ فِي الْحُلُوقِ لَهَا صَلِيلُ

_ (1) . القصص: 81. (2) . آل عمران: 196. (3) . التوبة: 48. [.....] (4) . «البارح» : الريح الحارة في الصيف التي فيها تراب كثير. (5) . هذا عجز البيت، وصدره كما في اللسان: عذافرة تقمّص بالرّدافي.

وقيل: على تخوف: على تعجل، قَالَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَقِيلَ: عَلَى تَقْرِيعٍ بِمَا قَدَّمُوهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ: عَلَى تَخَوُّفٍ: أَنْ يُعَاقِبَ ويتجاوز، قاله قتادة فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ لا يعاجل، بل يمهل رأفة بكم ورحمة لكم مع استحقاقكم «1» لِلْعُقُوبَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا خَوَّفَ سُبْحَانَهُ الْمَاكِرِينَ بِمَا خَوَّفَ أَتْبَعَهُ ذِكْرَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ فِي تَدْبِيرِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَمَكَانِهِمَا، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَلَمْ يَرَوْا لِلْإِنْكَارِ، وَ «ما» مبهمة مفسرة بقوله: مِنْ شَيْءٍ، قرأ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ «تَرَوْا» بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى الذين مكروا السيئات. وقرأ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ تَتَفَيَّؤُا ظِلَالُهُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، أَيْ: يَمِيلُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَيَكُونُ أَوَّلَ النَّهَارِ عَلَى حَالٍ وَيَتَقَلَّصُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي آخِرِ النَّهَارِ عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَفَيُّؤُ الظِّلَالِ: رُجُوعُهَا بَعْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَالتَّفَيُّؤُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْعَشِيِّ وَمَا انْصَرَفَ عَنْهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَالَّذِي يَكُونُ بِالْغَدَاةِ هُوَ الظِّلُّ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أُخْبِرْتُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ رُؤْبَةَ قَالَ: كُلُّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَزَالَتْ عَنْهُ فَهُوَ فَيْءٌ، وَمَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ ظِلٌّ وَمَعْنَى مِنْ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ لَهُ ظِلٌّ، وَهِيَ الْأَجْسَامُ، فَهُوَ عام أريد به الخاص، وظلاله: جَمْعُ ظِلٍّ، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى مُفْرَدٍ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ أَيْ: عَنْ جِهَةِ أَيْمَانِهَا وَشَمَائِلِهَا، أَيْ: عَنْ جَانِبَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَحَّدَ الْيَمِينَ لِأَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَظْلَالِ، وَجَمَعَ الشَّمَائِلَ لِأَنَّهُ أَرَادَ كُلَّهَا، لِأَنَّ مَا خَلَقَ اللَّهُ لَفْظُهُ مُفْرَدٌ وَمَعْنَاهُ جَمْعٌ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَحَّدَ الْيَمِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمِيعُ إِيْجَازًا في اللفظ كقوله: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، وَدَلَّتِ الشَّمَائِلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَمْعُ وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ إِذَا ذَكَرَتْ صِيغَتَيْ جَمْعٍ عَبَّرَتْ عَنْ أَحَدِهِمَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «2» ، وَ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ «3» وقيل: المراد باليمين: النُّقْطَةُ الَّتِي هِيَ مَشْرِقُ الشَّمْسِ، وَأَنَّهَا وَاحِدَةٌ. والشمائل: عِبَارَةٌ عَنِ الِانْحِرَافِ فِي فَلَكِ الْإِظْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهَا عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْمَشْرِقِ بِالْيَمِينِ لِأَنَّ أَقْوَى جَانِبَيِ الْإِنْسَانِ يَمِينُهُ، وَمِنْهُ تَظْهَرُ الْحَرَكَةُ الْقَوِيَّةُ سُجَّداً لِلَّهِ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ الظِّلَالَ سُجَّدًا لِلَّهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَجْبُولَةٌ عَلَى الطَّاعَةِ. وَقَالَ أَيْضًا: سُجُودُ الْجِسْمِ انْقِيَادُهُ وَمَا يَرَى مِنْ أَثَرِ الصَّنْعَةِ وَهُمْ داخِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: خَاضِعُونَ صَاغِرُونَ، وَالدُّخُورُ: الصَّغَارُ وَالذُّلُّ، يُقَالُ: دَخَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ دَاخِرٌ، وَأَدْخَرَهُ اللَّهُ. قَالَ الشَّاعِرُ «4» : فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دَاخِرٌ فِي مُخَيَّسٍ ... وَمُنَجَحِرٌ فِي غَيْرِ أَرْضِكَ فِي جُحْرِ وَمُخَيَّسٌ: اسْمُ سِجْنٍ كَانَ بِالْعِرَاقِ. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ أي:

_ (1) . في المطبوع: (استحقاقهم) والصواب ما أثبتناه. (2) . الأنعام: 1. (3) . البقرة: 7. (4) . نسبه الجوهري للفرزدق.

لَهُ وَحْدَهُ يَخْضَعُ وَيَنْقَادُ لَا لِغَيْرِهِ مَا في السموات جَمِيعًا، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ دَابَّةٍ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ كَقَوْلِكَ مَا أَتَانِي مِنْ رَجُلٍ مِثْلُهُ، وَمَا أَتَانِي مِنَ الرِّجَالِ مَثَلُهُ. وَقَدْ دخل في عموم ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِمَا، وَإِنَّمَا خَصَّ الدَّابَّةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ انْقِيَادُ الْجَمَادَاتِ، وَعَطْفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا قَبْلَهُمْ تَشْرِيفًا لَهُمْ، وَتَعْظِيمًا لِدُخُولِهِمْ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ وَالْمُرَادُ الْمَلَائِكَةُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى قُرَيْشٍ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ يَسْجُدُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، أي: يسجد لله ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ جَمِيعًا لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ السُّجُودِ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ نَفْيِ اسْتِكْبَارِهِمْ، وَمِنْ آثار الخوف عدم الاستكبار، ومن فوقهم متعلق بيخافون عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: يَخَافُونَ عَذَابَ رَبِّهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، أَوْ يَكُونُ حَالًا مِنَ الرَّبِّ، أَيْ: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ حَالَ كَوْنِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ يَخَافُونَ الْمَلَائِكَةَ فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: يَخَافُونَ مَلَائِكَةَ رَبِّهِمْ كَائِنِينَ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا اقْتَضَى مِثْلَ هَذِهِ التأويلات البعيدة المحماة عَلَى مَذَاهِبَ قَدْ رَسَخَتْ فِي الْأَذْهَانِ، وَتَقَرَّرَتْ فِي الْقُلُوبِ، قِيلَ: وَهَذِهِ الْمَخَافَةُ هِيَ مَخَافَةُ الْإِجْلَالِ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ فَقَالَ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ خَوْفَ مُجِلِّينَ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ «1» ، وَقَوْلُهُ إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ «2» . وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ أَيْ: مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، أَوْ جَمِيعَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَحَمْلُ هَذِهِ الْجُمَلَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَوْلَى لِأَنَّ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ مَنْ يستكبر عن عباده، وَلَا يَخَافُهُ وَلَا يَفْعَلُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، كَالْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ الَّذِينَ لَا يَتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا قَالَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَاجَرُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ظُلْمِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ الْآيَةَ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ظَلَمَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، حَتَّى لَحِقَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ بَوَّأَهُمُ اللَّهُ الْمَدِينَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَعَلَهَا لَهُمْ دَارَ هِجْرَةٍ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْصَارًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ قَالَ: أَيْ وَاللَّهِ لَمَا يُصِيبُهُمُ اللَّهُ مِنْ جَنَّتِهِ وَنِعْمَتِهِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جرير الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً قَالَ: الْمَدِينَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَنَرْزُقَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا رِزْقًا حَسَنًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أبي حاتم

_ (1) . الأنعام: 61. (2) . الأعراف: 127.

[سورة النحل (16) : الآيات 51 إلى 62]

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا رَسُولًا أَنْكَرَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ الْآيَةَ، يَعْنِي: مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَنَفَرٍ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ قَالَ: الْآيَاتُ وَالزُّبُرِ قَالَ: الْكُتُبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ قَالَ: نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ وَقَوْمُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَيِ: الشِّرْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: تَكْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ، وَإِعْمَالُهُمْ بِالْمَعَاصِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ قَالَ: فِي اخْتِلَافِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي تَقَلُّبِهِمْ قَالَ: إِنْ شِئْتَ أَخَذْتُهُ فِي سَفَرِهِ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ يَقُولُ: عَلَى أَثَرِ مَوْتِ صَاحِبِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا عَلى تَخَوُّفٍ قَالَ: تَنَقُّصٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَقَالُوا: مَا نَرَى إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ تَنَقُّصِ مَا يُرَدِّدُهُ مِنَ الْآيَاتِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَى إِلَّا أَنَّهُ عَلَى مَا يَتَنَقَّصُونَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ عِنْدَ عُمَرَ فَلَقِيَ أَعْرَابِيًّا، فَقَالَ: يَا فُلَانُ، مَا فَعَلَ رَبُّكَ؟ قَالَ: قَدْ تَخَيَّفْتُهُ، يَعْنِي انْتَقَصْتُهُ، فَرَجَعَ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ قَالَ: يَأْخُذُهُمْ بِنَقْصِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس في قوله: يَتَفَيَّؤُا قَالَ: يَتَمَيَّلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ داخِرُونَ قَالَ: صَاغِرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ الْآيَةَ قَالَ: لَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ إِلَّا عَبَّدَهُ لَهُ طَائِعًا أَوْ كَارِهًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسْجُدُ مَنْ فِي السّموات طوعا، ومن في الأرض طوعا وكرها. [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 62] وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ السَّمَاوِيَّةَ وَالْأَرْضِيَّةَ مُنْقَادَةٌ لَهُ، خَاضِعَةٌ لِجَلَالِهِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ بِقَوْلِهِ: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ، ثُمَّ أَثْبَتَ أَنَّ الإلهية منحصرة في إله واحد وهو اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ التَّثْنِيَةَ فِي إِلَهَيْنِ قَدْ دَلَّتْ عَلَى الِاثْنَيْنِيَّةِ، وَالْإِفْرَادُ فِي إِلَهٌ قَدْ دَلَّ عَلَى الْوَحْدَةِ، فَمَا وَجْهُ وصف إلهين باثنين، ووصف إله بواحد؟ فَقِيلَ فِي الْجَوَابِ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَتَّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ إِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ إِلَهٌ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّكْرِيرَ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عَنِ اتِّخَاذِ الشَّرِيكِ وَقِيلَ: إِنَّ فَائِدَةَ زِيَادَةِ اثْنَيْنِ هِيَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّهْيَ رَاجِعٌ إِلَى التَّعَدُّدِ لَا إِلَى الْجِنْسِيَّةِ، وَفَائِدَةُ زِيَادَةِ وَاحِدٌ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ دُونَ الْوَاحِدِيَّةِ، مَعَ أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ لَهُ سُبْحَانَهُ مُسَلَّمَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا خِلَافُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْوَاحِدِيَّةِ، ثُمَّ نَقَلَ الْكَلَامَ سُبْحَانَهُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِزِيَادَةِ التَّرْهِيبِ، فَقَالَ: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ رَاهِبِينَ شَيْئًا فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ لَا غَيْرِي، وَقَدْ مَرَّ مِثْلُ هَذَا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ لَمَّا قَرَّرَ سُبْحَانَهُ وَحْدَانِيَّتَهُ، وَأَنَّهُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُخَصَّ بِالرَّهْبَةِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، ذَكَرَ أَنَّ الْكُلَّ فِي مِلْكِهِ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ فَقَالَ: وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَنْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِلَى آخِرِهِ، وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَيْ: ثَابِتًا وَاجِبًا دَائِمًا لَا يَزُولُ، وَالدِّينُ: هُوَ الطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: واصِباً معناه دائما، ومنه قول الدّؤلي: أَبْتَغِي الْحَمْدَ الْقَلِيلُ بَقَاؤُهُ ... بِذَمٍّ يَكُونُ الدَّهْرُ أَجْمَعَ وَاصِبَا أَيْ: دَائِمًا. وَرُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الْوَاصِبُ: الْخَالِصُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، ومنه قوله سبحانه: وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ «1» أَيْ: دَائِمٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: طَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ أَبَدًا. فَفَسَّرَ الْوَاصِبَ بِالْوَاجِبِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي تَفْسِيرِ الْوَاصِبِ: أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ يُطَاعُ إِلَّا انْقَطَعَ ذَلِكَ بِزَوَالٍ أَوْ بِهَلَكَةٍ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الطَّاعَةَ تَدُومُ لَهُ، فَفَسَّرَ الْوَاصِبَ بِالدَّائِمِ، وَإِذَا دَامَ الشَّيْءُ دَوَامًا لَا يَنْقَطِعُ فَقَدْ وَجَبَ وَثَبَتَ، يُقَالُ وَصَبَ الشَّيْءُ يَصِبُ وُصُوبًا فَهُوَ وَاصِبٌ إِذَا دَامَ، وَوَصَبَ الرَّجُلُ عَلَى الْأَمْرِ إِذَا وَاظَبَ عَلَيْهِ وَقِيلَ: الْوَصَبُ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ، أَيْ: يَجِبُ طَاعَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِنْ تَعِبَ الْعَبْدُ فِيهَا وَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِمَا فِي الْآيَةِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانَ الدِّينُ، أَيِ: الطَّاعَةُ وَاجِبًا لَهُ دَائِمًا لَا يَنْقَطِعُ كَانَ الْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ تَخْصِيصَ التَّقْوَى بِهِ وَعَدَمَ إِيقَاعِهَا لِغَيْرِهِ. ثُمَّ امْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا هُمْ مُتَقَلِّبُونَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ هُوَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ فَقَالَ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ أَيْ: مَا يُلَابِسُكُمْ مِنَ النِّعَمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا فَمِنَ اللَّهِ: أَيْ فَهِيَ مِنْهُ، فَتَكُونُ مَا شَرْطِيَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مُتَضَمِّنَةً مَعْنَى الشَّرْطِ، وبكم صلتها، ومن نِعْمَةٍ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ،

_ (1) . الصافات: 9.

أو بيان لما. وَقَوْلُهُ: فَمِنَ اللَّهِ الْخَبَرُ، وَعَلَى كَوْنِ مَا شَرْطِيَّةً يَكُونُ فِعْلُ الشَّرْطِ مَحْذُوفًا أَيْ: مَا يَكُنْ، وَالنِّعْمَةُ إِمَّا دِينِيَّةٌ وَهِيَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِذَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ، أَوْ بَدَنِيَّةٌ أَوْ خَارِجِيَّةٌ كَالسَّعَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ لَا حَصْرَ لَهَا، وَالْكُلُّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَشْكُرَ إِلَّا إِيَّاهُ، ثُمَّ بَيَّنَ تَلَوُّنَ الْإِنْسَانِ بَعْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي بَحْرِ النِّعَمِ فَقَالَ: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أَيْ: إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ، أَيَّ مَسٍّ، فَإِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ تَتَضَرَّعُونَ فِي كَشْفِهِ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، يُقَالُ: جأر يجأر جُؤَارًا: إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فِي تَضَرُّعٍ. قَالَ الْأَعْشَى «1» يَصِفُ بَقَرَةً: فَطَافَتْ ثَلَاثًا بَيْنَ يَوْمٍ وليلة ... وكان النّكير أن تضيف «2» وَتَجْأَرَا وَالضُّرُّ: الْمَرَضُ وَالْبَلَاءُ وَالْحَاجَةُ وَالْقَحْطُ، وَكُلُّ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْإِنْسَانُ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ أَيْ: إِذَا رَفَعَ عَنْكُمْ مَا نَزَلْ بِكُمْ مِنَ الضُّرِّ إِذا فَرِيقٌ أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ الذي رُفِعَ الضُّرَّ عَنْهُمْ يُشْرِكُونَ فَيَجْعَلُونَ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ مِنْ صَنَمٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَالْآيَةُ مَسُوقَةٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ فِعْلِ هَؤُلَاءِ حَيْثُ يَضَعُونَ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِكَشْفِ مَا نَزَلْ بِهِمْ مِنَ الضُّرِّ مَكَانَ الشُّكْرِ لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ وَيُونُسَ، وَيَأْتِي في سبحان «3» . قال الزجّاج: هذا خاص بمن وَكُفْرٍ. وَقَابَلَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُ بِالْجُحُودِ وَالْكُفْرِ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ «مِنْ» فِي «مِنْكُمْ» لِلتَّبْعِيضِ حَيْثُ كَانَ الْخِطَابُ لِلنَّاسِ جَمِيعًا، وَالْفَرِيقُ هُمُ الْكَفَرَةُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَى الْكُفَّارِ فمن لِلْبَيَانِ، وَاللَّامُ فِي لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ لَامُ كَيْ، أَيْ: لِكَيْ يَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ نعمة كشف الضرّ، وحتى كَأَنَّ هَذَا الْكُفْرَ مِنْهُمُ الْوَاقِعُ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ غَرَضٌ لَهُمْ وَمَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِهِمْ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْعُتُوِّ وَالْعِنَادِ لَيْسَ وَرَاءَهَا غَايَةٌ وَقِيلَ: اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ، يَعْنِي: مَا كَانَتْ عَاقِبَةُ تِلْكَ التَّضَرُّعَاتِ إِلَّا هَذَا الْكُفْرَ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَالتَّرْهِيبِ مُلْتَفِتًا مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ فَتَمَتَّعُوا بِمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ وَمَا يَحِلُّ بِكُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَمَا تَصِيرُونَ إِلَيْهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ قَبَائِحِ أَعْمَالِهِمْ فَقَالَ: وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ أَيْ: يَقَعُ مِنْهُمْ هَذَا الْجَعْلُ بَعْدَ مَا وَقَعَ مِنْهُمُ الْجُؤَارُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَمَا يَعْقُبُ كَشْفَهُ عَنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْإِشْرَاكِ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ مِنَ الْجَمَادَاتِ وَالشَّيَاطِينِ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ، أَيِ: الْكُفَّارُ، يَجْعَلُونَ لِلْأَصْنَامِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا لِكَوْنِهِمْ جَمَادَاتٍ، فَفَاعِلُ يَعْلَمُونَ عَلَى هَذَا هِيَ الْأَصْنَامُ، وَأَجْرَاهَا مَجْرَى الْعُقَلَاءِ فِي جَمْعِهَا بِالْوَاوِ وَالنُّونِ جَرْيًا عَلَى اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ فِيهَا. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: وَيَجْعَلُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَعْقِلُ شَيْئًا نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي رزقهم الله إياها

_ (1) . الذي في اللسان مادة «ضيف» أنه النابغة الجعدي. (2) . في المطبوع: تطيف، والتصحيح من اللسان وتفسير القرطبي (10/ 115) . «تضيف» : تشفق وتحذر. «النكير» : الإنكار. «تجأر» : تصيح. (3) . أي: في سورة الإسراء.

تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ هَذَا رُجُوعٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَهَذَا السُّؤَالُ سُؤَالُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ تَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ هذا نوع آخر من فضائحه وَقَبَائِحِهِمْ، وَقَدْ كَانَتْ خُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ تَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ سُبْحانَهُ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عَمَّا نَسَبَهُ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْجُفَاةُ الَّذِينَ لَا عُقُولَ لَهُمْ صَحِيحَةً وَلَا أَفْهَامَ مُسْتَقِيمَةً إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ «1» وَفِي هَذَا التَّنْزِيهِ تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ أَيْ: وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَهُ مِنَ الْبَنِينَ عَلَى أَنَّ «مَا» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَأَنْكَرَ النَّصْبَ الزَّجَّاجُ قَالَ: لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يَقُولُونَ جَعَلَ لَهُ كَذَا وَهُوَ يَعْنِي نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ جَعَلَ لِنَفْسِهِ كَذَا، فَلَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لَقَالَ وَلِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ. وَقَدْ أَجَازَ النَّصْبَ الْفَرَّاءُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ كَرَاهَتَهُمْ لِلْإِنَاثِ الَّتِي جَعَلُوهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى أَيْ: إِذَا أُخْبِرَ أَحَدُهُمْ بِوِلَادَةِ بِنْتٍ لَهُ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أَيْ: مُتَغَيِّرًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ السَّوَادَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْبَيَاضِ، بَلِ الْمُرَادُ الْكِنَايَةُ بِالسَّوَادِ عَنِ الِانْكِسَارِ وَالتَّغَيُّرِ بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْغَمِّ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ لَقِيَ مَكْرُوهًا قَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ غَمًّا وَحُزْنًا قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: بَلِ الْمُرَادُ سَوَادُ اللَّوْنِ حَقِيقَةً، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ بِالْوِجْدَانِ أَنَّ مَنْ غَضِبَ وَحَزَنَ وَاغْتَمَّ لَا يَحْصُلُ فِي لَوْنِهِ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّغَيُّرِ وَظُهُورِ الْكَآبَةِ وَالِانْكِسَارِ لَا السَّوَادُ الْحَقِيقِيُّ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ كَظِيمٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أي: ممتلئ مِنَ الْغَمِّ، مَأْخُوذٌ مِنِ الْكِظَامَةِ وَهُوَ سَدُّ فم البئر قاله عليّ ابن عِيسَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ «2» يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أَيْ: يَتَغَيَّبُ وَيَخْتَفِي مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيْ: مِنْ سُوءِ الْحُزْنِ وَالْعَارِ وَالْحَيَاءِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِسَبَبِ حُدُوثِ الْبِنْتِ لَهُ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَيْ: لَا يَزَالُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: وَهُوَ إِمْسَاكُ الْبِنْتِ الَّتِي بُشِّرَ بِهَا، أَوْ دَفْنُهَا فِي التُّرَابِ عَلى هُونٍ أَيْ: هَوَانٍ، وَكَذَا قَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: وَالْهُونُ الْهَوَانُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَكَذَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ الْبَلَاءُ وَالْمَشَقَّةُ، قَالَتِ الْخَنْسَاءُ: نُهِينُ النُّفُوسَ وَهَوْنُ النُّفُو ... سِ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ أَبْقَى لَهَا وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْهُونُ الْقَلِيلُ بِلُغَةِ تَمِيمٍ. وَحَكَى النَّحَّاسُ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ: «أَيُمْسِكُهُ عَلَى سُوءٍ» أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَيْ: يُخْفِيهِ فِي التُّرَابِ بِالْوَأْدِ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْعَرَبُ، فَلَا يَزَالُ الَّذِي بُشِّرَ بِحُدُوثِ الْأُنْثَى مُتَرَدِّدًا بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَالتَّذْكِيرُ فِي يُمْسِكُهُ وَيَدُسُّهُ مَعَ كَوْنِهِ عِبَارَةً عَنِ الْأُنْثَى لِرِعَايَةِ اللَّفْظِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ «أَمْ يَدُسُّهَا فِي التُّرَابِ» وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ أَيُمْسِكُهَا، وَقِيلَ: دَسُّهَا: إِخْفَاؤُهَا عَنِ النَّاسِ حَتَّى لَا تُعْرَفَ كَالْمَدْسُوسِ لِإِخْفَائِهِ عَنِ الْأَبْصَارِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ حَيْثُ أَضَافُوا الْبَنَاتِ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَضَافُوا الْبَنِينَ الْمَحْبُوبِينَ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «3» . لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْقَبَائِحِ

_ (1) . الفرقان: 44. (2) . أي: الآية: 84. [.....] (3) . النجم: 21 و 22.

الْفَظِيعَةِ مَثَلُ السَّوْءِ، أَيْ: صِفَةُ السَّوْءِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَقِيلَ: هُوَ وَصْفُهُمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَقِيلَ: هُوَ حَاجَتُهُمْ إِلَى الْوَلَدِ لِيَقُومَ مَقَامَهُمْ وَوَأْدُ الْبَنَاتِ لِدَفْعِ الْعَارِ وَخَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ وَقِيلَ: الْعَذَابُ وَالنَّارُ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ أَضْدَادُ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الْغِنَى الْكَامِلِ وَالْجُودِ الشَّامِلِ وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ، أَوِ التَّوْحِيدُ وَإِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ، أَوْ أَنَّهُ خَالِقٌ رَازِقٌ قَادِرٌ مُجَازٍ وَقِيلَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ «1» . وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ فَلَا يَضُرُّهُ نِسْبَتُهُمْ إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ. ثُمَّ لَمَّا حَكَى سُبْحَانَهُ عَنِ الْقَوْمِ عَظِيمَ كُفْرِهِمْ بَيَّنَ سِعَةَ كَرَمِهِ وَحِلْمِهِ حَيْثُ لَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِظُلْمِهِمْ، فَقَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الْكُفَّارُ أَوْ جَمِيعُ الْعُصَاةِ مَا تَرَكَ عَلَيْها أَيْ: عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا ذِكْرُ النَّاسِ وَذِكْرُ الدَّابَّةِ، فَإِنَّ الْجَمِيعَ مُسْتَقِرُّونَ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِالدَّابَّةِ الْكَافِرُ، وَقِيلَ: كُلُّ مَا دَبَّ وَقَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا كَيْفَ يَعُمُّ بِالْهَلَاكِ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ؟ وَأُجِيبَ بِإِهْلَاكِ الظَّالِمِ انْتِقَامًا مِنْهُ، وَإِهْلَاكُ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فَلِأَجْلِ تَوْفِيرِ أَجْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَبِشُؤْمِ ظُلْمِ الظالمين، ولله الحكمة البالغة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «2» ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «3» . وَفِي مَعْنَى هَذَا أَحَادِيثُ مِنْهَا مَا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى نِيَّاتِهِمْ» ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْجَيْشِ: «الَّذِينَ يُخْسَفُ بِهِمْ فِي الْبَيْدَاءِ، وَفِي آخِرِهِ: أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» وَقَدْ قَدَّمْنَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً الْآيَةَ تَحْقِيقًا حَقِيقًا بِالْمُرَاجَعَةِ لَهُ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مَعْلُومٌ عِنْدَهُ وَهُوَ مُنْتَهَى حَيَاتِهِمْ وَانْقِضَاءُ أَعْمَارِهِمْ أَوْ أَجَلُ عَذَابِهِمْ، وَفِي هَذَا التَّأْخِيرِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ مِنْهَا الْإِعْذَارُ إِلَيْهِمْ وَإِرْخَاءُ الْعِنَانِ مَعَهُمْ، وَمِنْهَا حُصُولُ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ الَّذِي سَمَّاهُ لَهُمْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ دُونِ تَقَدُّمٍ عَلَيْهِ وَلَا تَأَخُّرٍ عَنْهُ، وَالسَّاعَةُ الْمَدَّةُ الْقَلِيلَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا هَذَا وَتَحْقِيقُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعًا آخَرَ مِنْ جَهْلِهِمْ وَحُمْقِهِمْ فَقَالَ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ أَيْ: يَنْسِبُونَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مَا يَكْرَهُونَ نِسْبَتَهُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَنَاتِ، وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِمَا قَدْ تَقَدَّمَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ وَلِزِيَادَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ هَذَا مِنَ النَّوْعِ الْآخَرِ الَّذِي ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَبَائِحِهِمْ وَهُوَ، أَيْ: هَذَا الَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُهُمْ مِنَ الْكَذِبِ هُوَ قَوْلُهُمْ: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أَيِ: الْخَصْلَةُ الْحُسْنَى، أَوِ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَصِفُونَ أَنَّ لَهُمْ مَعَ قُبْحِ قَوْلِهِمْ مِنَ اللَّهِ الْجَزَاءَ الْحَسَنَ. قَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا وَالْفَرَّاءُ: أُبْدِلَ مِنْ قَوْلِهِ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب قوله أن لهم الحسنى، والكذب مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ تَصِفُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنِ: الْكُذُبُ بِرَفْعِ الْكَافِ وَالذَّالِ وَالْبَاءِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ للألسن وهو جمع كذوب، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ عَلَى هَذَا هُوَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ أَيْ: حَقًّا أَنَّ لَهُمْ مَكَانَ مَا جَعَلُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحُسْنَى النَّارَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ قال ابن الأعرابي

_ (1) . النور: 35. (2) . الأنبياء: 23. (3) . الأنفال: 25.

وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ: مَتْرُوكُونَ مَنْسِيُّونَ فِي النَّارِ، وَبِهِ قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ أَفْرَطْتُ فُلَانًا خَلْفِي: إِذَا خَلَّفْتُهُ وَنَسِيتُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: مُعَجَّلُونَ إِلَيْهَا مُقْدَّمُونَ فِي دُخُولِهَا مِنْ أَفَرَطْتُهُ، أَيْ: قَدَّمْتُهُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ، وَالْفَارِطُ هُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ إِلَى الْمَاءِ، وَالْفُرَّاطُ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي طَلَبِ الْمَاءِ، وَالْوُرَّادُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» أَيْ: مُتَقَدِّمُكُمْ. قَالَ الْقَطَامِيُّ: فَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا ... كَمَا تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ وَرْشٍ مُفْرَطُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَعْنَاهُ: مُسْرِفُونَ فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي يُقَالُ: أَفْرَطَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا أَرْبَى عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا قَالَ مِنَ الشَّرِّ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِّيُّ: مُفْرَطُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا أَيْ: مُضَيِّعُونَ أَمْرَ اللَّهِ، فَهُوَ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي الْوَاجِبِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «مُفْرَطُونَ» بِفَتْحِ الرَّاءِ مُخَفَّفًا، وَمَعْنَاهُ: مُقَدَّمُونَ إِلَى النَّارِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً قَالَ: الدِّينُ الْإِخْلَاصُ، وَوَاصِبًا دَائِمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ واصِباً قَالَ: دَائِمًا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ وَاجِبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أبي حاتم عن مجاهد تَجْئَرُونَ قَالَ: تَتَضَرَّعُونَ دُعَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: تَصِيحُونَ بِالدُّعَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قَالَ: وَعِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ الْآيَةَ قَالَ: يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ وَيَضُرُّهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ جَعَلُوا لِأَوْثَانِهِمْ وَشَيَاطِينِهِمْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَجَزَّءُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ جُزْءًا فَجَعَلُوهُ لِأَوْثَانِهِمْ وَشَيَاطِينِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ قَوْلُهُمْ: «هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا» «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ الْآيَةَ يَقُولُ: يَجْعَلُونَ لِيَ الْبَنَاتِ يَرْتَضُونَهُنَّ لِي وَلَا يَرْتَضُونَهُنَّ لِأَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وُلِدَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ جَارِيَةٌ أَمْسَكَهَا عَلَى هَوَانٍ أَوْ دَسَّهَا فِي التُّرَابِ وَهِيَ حَيَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ قَالَ: يَعْنِي بِهِ الْبَنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ قَالَ: يَئِدُ ابْنَتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ قَالَ: بِئْسَ مَا حَكَمُوا، يَقُولُ: شَيْءٌ لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ فَكَيْفَ يَرْضَوْنَهُ لِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى قال: يقول ليس كمثله شيء.

_ (1) . الأنعام: 136.

[سورة النحل (16) : الآيات 63 إلى 69]

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ قَالَ: مَا سَقَاهُمُ الْمَطَرَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَدْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ نُوحٍ، أَهْلَكَ اللَّهُ مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا مَا حَمَلَ فِي سَفِينَتِهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ذُنُوبُ ابْنِ آدَمَ قَتَلَتِ الْجُعْلَ فِي جُحْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ وَاللَّهِ، زَمَنَ غَرَقِ قَوْمِ نُوحٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ قَالَ: كَادَ الْجُعْلُ أَنْ يُعَذَّبَ فِي جُحْرِهِ بِذَنْبِ ابْنِ آدَمَ، ثُمَّ قَرَأَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَلَى وَاللَّهِ إِنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوتُ هُزَالًا فِي وَكْرِهَا مِنْ ظُلْمِ الظَّالِمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ قَالَ: يَجْعَلُونَ له الْبَنَاتِ وَيَكْرَهُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى قَالَ: قَوْلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ لَنَا الْبَنُونَ وَلَهُ الْبَنَاتُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ قَالَ: مَنْسِيُّونَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مُعَجَّلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. [سورة النحل (16) : الآيات 63 الى 69] تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مِثْلَ صَنِيعِ قُرَيْشٍ قَدْ وَقَعَ مِنْ سَائِرِ الأمم، فقال مسليا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ أَيْ: رُسُلًا فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ الْخَبِيثَةَ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمُ عِبَارَةً عَنْ زَمَانِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَهُوَ قَرِينُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمُ عِبَارَةً عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ لِلْحَالِ الْآتِيَةِ، وَيَكُونُ الْوَلِيُّ بِمَعْنَى النَّاصِرِ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ النَّاصِرِ عَنْهُمْ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ النُّصْرَةَ أَصْلًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَإِذَا كَانَ النَّاصِرُ مُنْحَصِرًا فِيهِ لَزِمَ أَنْ لَا نُصْرَةَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْيَوْمِ بَعْضَ زَمَانِ الدُّنْيَا، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُرَادَ الْبَعْضُ

الَّذِي قَدْ مَضَى، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّزْيِينُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَيَكُونُ عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ. الثَّانِي: أَنْ يُرَادَ الْبَعْضُ الْحَاضِرُ، وَهُوَ وَقْتُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَالْمُرَادُ تَزْيِينُ الشَّيْطَانِ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي وَلِيُّهُمُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، أَيْ: فَهُوَ وَلِيُّ هَؤُلَاءِ الْيَوْمَ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَهُوَ وَلِيُّ أَمْثَالِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَا هَلَكَ مَنْ هَلَكَ إِلَّا بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِزَاحَةِ الْعِلَّةِ مِنْهُمْ، فَقَالَ: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهَذَا خِطَابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد بالكتاب الْقُرْآنُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: مَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ لِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِعِلَّةِ التَّبْيِينِ لَهُمْ، أَيْ: لِلنَّاسِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وأحوال البعث وسائر الأحكام الشرعية، وَانتصاب هُدىً وَرَحْمَةً عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولٌ لَهُمَا مَعْطُوفَانِ عَلَى مَحَلِّ لِتُبَيِّنَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى اللَّامِ لِأَنَّهُمَا فِعْلَا فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ، بِخِلَافِ التَّبْيِينِ فَإِنَّهُ فِعْلُ الْمُخَاطَبِ لَا فِعْلُ الْمُنَزِّلِ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَيُصَدِّقُونَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ. ثُمَّ عَادَ سُبْحَانَهُ إِلَى تَقْرِيرِ وَجُودِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِذِكْرِ آيَاتِهِ الْعِظَامِ فَقَالَ: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً أَيْ: مِنَ السَّحَابِ، أو مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ كَمَا مَرَّ، أَيْ: نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَاءِ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أَيْ: أَحْيَاهَا بِالنَّبَاتِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ يَابِسَةً لَا حَيَاةَ بِهَا إِنَّ فِي ذلِكَ الْإِنْزَالِ وَالْإِحْيَاءِ لَآيَةً أَيْ: عَلَامَةً دَالَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعَلَى بَعْثِهِ لِلْخَلْقِ وَمُجَازَاتِهِمْ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَيَفْهَمُونَ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْعِبَرِ، ويتفكّرون في خلق السموات وَالْأَرْضِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً الْأَنْعَامُ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَيَدْخُلُ فِي الْغَنَمِ الْمَعِزُ، وَالْعِبْرَةُ أَصْلُهَا تَمْثِيلُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لِيُعْرَفَ حقيقته بطريق المشاكلة، ومنه: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ «1» . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْعِبْرَةُ فِي الْأَنْعَامِ تَسْخِيرُهَا لِأَرْبَابِهَا وَطَاعَتُهَا لَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعِبْرَةَ هِيَ قَوْلُهُ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ الْعِبْرَةِ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ نُسْقِيكُمْ بِفَتْحِ النُّونِ مِنْ سَقَى يَسْقِي. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ النُّونِ مِنْ أَسْقَى يَسْقِي، قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ. قَالَ لَبِيدٌ: سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ وَقُرِئَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَنْعَامِ، وَقُرِئَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى إِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُمَا ضَعِيفَتَانِ، وَجَمِيعُ الْقُرَّاءِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَالْفَتْحُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالضَّمُّ لُغَةُ حِمْيَرَ وَقِيلَ: إِنَّ بَيْنَ سَقَى وَأَسْقَى فَرْقًا، فَإِذَا كَانَ الشَّرَابُ مِنْ يَدِ السَّاقِي إِلَى فَمِ الْمَسْقِيِّ فَيُقَالُ سَقَيْتُهُ، وَإِنْ كَانَ بِمُجَرَّدِ عَرْضِهِ عَلَيْهِ وَتَهْيِئَتِهِ لَهُ قِيلَ أَسْقَاهُ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا فِي بُطُونِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْأَنْعَامِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَرَبُ تُخْبِرُ عَنِ الْأَنْعَامِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَمَّا كَانَ لَفْظُ الْجَمْعِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَيُقَالُ هُوَ الْأَنْعَامُ، وَهِيَ الْأَنْعَامُ جَازَ عَوْدُ الضَّمِيرِ بِالتَّذْكِيرِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ مِمَّا فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ عَلَى هَذَا عَائِدٌ إِلَى المذكور.

_ (1) . الحشر: 2.

قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ صَوَابٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا فَاشٍ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِثْلُ قَوْلِهِ لِلشَّمْسِ هذا رَبِّي «1» يَعْنِي هَذَا الشَّيْءَ الطَّالِعَ، وَكَذَلِكَ: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ «2» ، ثم قال: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ «3» ، وَلَمْ يَقُلْ جَاءَتْ لِأَنَّ الْمَعْنَى جَاءَ الشَّيْءُ الذي ذكرنا انتهى، ومن ذلك قوله: إِنَّها تَذْكِرَةٌ- فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ «4» ومثله قول الشاعر: مثل الفراخ نتفت حَوَاصِلُهُ وَلَمْ يَقُلْ حَوَاصِلُهَا. وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَطَابَ إِلْقَاحُ اللُّبَانِ وَبَرَدَ وَلَمْ يَقُلْ وَبَرُدَتْ. وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّ الْمَعْنَى مِمَّا فِي بُطُونِ بَعْضِهِ وَهِيَ الْإِنَاثُ لِأَنَّ الذُّكُورَ لَا أَلْبَانَ لَهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: النَّعَمُ وَالْأَنْعَامُ وَاحِدٌ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذِهِ نَعَمٌ وَارِدٌ فَرَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَى لَفْظِ النَّعَمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْأَنْعَامِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الزَّجَّاجِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ: إِنَّمَا يَرْجِعُ التَّذْكِيرُ إِلَى مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالتَّأْنِيثُ إِلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، فَذَكَّرَهُ هُنَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمْعِ وَأَنَّثَهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ الْفَرْثُ: الزِّبْلُ الَّذِي يَنْزِلُ إِلَى الْكَرِشِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ لَمْ يُسَمَّ فَرْثًا، يُقَالُ: أَفْرَثَتِ الْكَرِشُ إِذَا أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي تَأْكُلُهُ يَكُونُ مِنْهُ مَا فِي الْكَرِشِ، وَهُوَ الْفَرْثُ وَيَكُونُ مِنْهُ الدَّمُ، فَيَكُونُ أَسْفَلُهُ فَرْثًا، وَأَعْلَاهُ دَمًا، وَأَوْسَطُهُ لَبَناً فَيَجْرِي الدَّمُ فِي الْعُرُوقِ وَاللَّبَنُ فِي الضُّرُوعِ، وَيَبْقَى الْفَرْثُ كَمَا هُوَ خالِصاً يَعْنِي مِنْ حُمْرَةِ الدَّمِ وَقَذَارَةِ الْفَرْثِ بَعْدَ أَنْ جَمَعَهُمَا وِعَاءٌ وَاحِدٌ سائِغاً لِلشَّارِبِينَ أَيْ: لَذِيذًا هَنِيئًا لَا يُغَصُّ بِهِ مَنْ شَرِبَهُ، يُقَالُ: سَاغَ الشَّرَابُ يَسُوغُ سَوْغًا، أَيْ: سَهُلَ مَدْخَلُهُ فِي الْحَلْقِ وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: التَّقْدِيرُ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ، فحذف وَدَلَّ عَلَى حَذْفِهِ قَوْلُهُ مِنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَنْعَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ لَكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ لَعِبْرَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مِمَّا فِي بُطُونِهِ، أَيْ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ، وَيَجُوزُ أن يتعلق بمحذوف دلّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ: وَنَسْقِيكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً بَيَانًا لِلْإِسْقَاءِ وَكَشْفًا عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يتعلّق بتتخذون، تَقْدِيرُهُ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ ثَمَرٌ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا، وَيَكُونُ تَكْرِيرُ الظَّرْفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْهُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِكَ زِيدٌ فِي الدَّارِ فِيهَا، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ لِأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَوْ إِلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ وَهُوَ الْعَصِيرُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْ عَصِيرِ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ، وَالسَّكَرُ مَا يُسْكِرُ مِنَ الْخَمْرِ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ جَمِيعُ مَا يُؤْكَلُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ كَالثَّمَرِ وَالدِّبْسِ وَالزَّبِيبِ وَالْخَلِّ، وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَقِيلَ: إِنَّ السَّكَرَ الْخَلُّ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ الطَّعَامُ مِنَ الشَّجَرَتَيْنِ وَقِيلَ: السَّكَرُ الْعَصِيرُ الْحُلْوُ الْحَلَالُ، وَسُمِّيَ سَكَرًا لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ مُسْكِرًا إِذَا بَقِيَ، فَإِذَا بَلَغَ الْإِسْكَارَ حَرُمَ. وَالْقَوْلُ

_ (1) . الأنعام: 78. (2) . النمل: 35. (3) . النمل: 36. (4) . عبس: 11 و 12.

الْأَوَّلُ أَوْلَى وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقَدْ صَرَّحَ أَهْلُ اللُّغَةِ بِأَنَّ السَّكَرَ اسْمٌ لِلْخَمْرِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَبُو عُبَيْدَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: السَّكَرُ: الطَّعْمُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بِئْسَ الصِّحَابُ «1» وَبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهُمُ ... إِذَا جَرَى فِيهِمُ الْهَذْيُ «2» وَالسَّكَرُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَا أَنْشَدَهُ: جَعَلْتُ عَيْبَ الْأَكْرَمِينَ سَكَرًا أَيْ: جَعَلْتُ ذَمَّهُمْ طَعْمًا، وَرَجَّحَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: إِنَّ السَّكَرَ مَا يُطْعَمُ مِنَ الطَّعَامِ وَيَحِلُّ شُرْبُهُ مِنْ ثِمَارِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَهُوَ الرِّزْقُ الْحَسَنُ، فَاللَّفْظُ مُخْتَلِفٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، مثل: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ «3» . قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ هَذَا لَا يُعْرَفُ، وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ وَلَا حُجَّةَ فِي الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَصِفُ أَنَّهَا تَتَخَمَّرُ بِعُيُوبِ النَّاسِ، وَقَدْ حَمَلَ السَّكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا لَا يُسْكِرُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ وَعَلَى مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا يَمْتَنُّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا أَحَلَّهُ لَهُمْ لَا بِمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مَرْدُودٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى فَرْضِ تَأَخُّرِهِ عَنْ آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، اه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أَيْ: لَدَلَالَةً لِمَنْ يَسْتَعْمِلُ الْعَقْلَ وَيَعْمَلُ بِمَا يَقْتَضِيهِ عِنْدَ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةِ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْوَحْيِ وَأَنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ، وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ فِي الْقَلْبِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها «4» ، وَمِنْ ذَلِكَ إِلْهَامُ الْبَهَائِمِ لِفِعْلِ مَا يَنْفَعُهَا وَتَرْكِ مَا يَضُرُّهَا، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ إِلَى النَّحْلِ بِفَتْحِ الْحَاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَسُمِّيَ نَحْلًا لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَحَلَهُ الْعَسَلَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالنَّحْلُ وَالنَّحْلَةُ الدَّبْرُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أَيْ: بِأَنِ اتَّخِذِي، عَلَى أَنَّ «أَنِ» هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِأَنَّ فِي الْإِيحَاءِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَأُنِّثَ الضَّمِيرُ فِي اتَّخِذِي لِكَوْنِهِ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى أَوْ لِكَوْنِ النَّحْلِ جمعا، وأهل الحجاز يؤنّثون النحل ومِنَ فِي «مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً» وَكَذَا فِي مِنَ الشَّجَرِ وَكَذَا فِي مِمَّا يَعْرِشُونَ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: مَسَاكِنَ تُوَافِقُهَا وَتَلِيقُ بِهَا فِي كُوَى الْجِبَالِ وَتَجْوِيفِ الشَّجَرِ، وَفِي الْعُرُوشِ الَّتِي يُعَرِّشُهَا بَنُو آدم من الأجباح» وَالْحِيطَانِ وَغَيْرِهَا، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَكُونُ مِنَ الْخَشَبِ، يُقَالُ عَرَّشَ يُعَرِّشُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا. وَبِالضَّمِّ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ. وَقُرِئَ أَيْضًا بُيُوتًا بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّهَا تَأْكُلُ النَّوْرَ مِنَ الْأَشْجَارِ فَإِذَا أَكَلْتِهَا فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أَيِ: الطُّرُقَ الَّتِي فَهَّمَكِ اللَّهُ وَعَلَّمَكِ، وَأَضَافَهَا إِلَى الرَّبِّ لِأَنَّهُ خالقها

_ (1) . في تفسير القرطبي: الصّحاة. (2) . في تفسير القرطبي: المزّاء. (3) . يوسف: 86. (4) . الشمس: 7 و 8. [.....] (5) . جاء في القاموس: الجبح- يثلث-: خلية العسل، ج أجبح وأجباح.

وَمُلْهِمُ النَّحْلِ أَنْ تَسْلُكَهَا أَيِ ادْخُلِي طُرُقَ رَبِّكِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ فِي الْجِبَالِ وَخِلَالِ الشَّجَرِ، أَوِ اسْلُكِي مَا أَكَلْتِ فِي سُبُلِ رَبِّكِ، أَيْ: فِي مَسَالِكِهِ الَّتِي يُحِيلُ فِيهَا بِقُدْرَتِهِ النَّوْرَ عَسَلًا أَوْ إِذَا أَكَلْتِ الثِّمَارَ فِي الْأَمْكِنَةِ الْبَعِيدَةِ فَاسْلُكِي إِلَى بُيُوتِكِ رَاجِعَةً سُبُلَ رَبِّكِ لَا تَضِلِّينَ فِيهَا، وَانْتِصَابُ ذُلُلًا عَلَى الْحَالِ مِنَ السُّبُلِ، وَهِيَ جَمْعُ ذَلُولٍ أَيْ: مُذَلَّلَةً غَيْرَ مُتَوَعِّرَةٍ، وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ النَّحْلِ، يَعْنِي: مُطِيعَةً لِلتَّسْخِيرِ وَإِخْرَاجِ الْعَسَلِ مِنْ بُطُونِهَا، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَجُمْلَةُ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها مُسْتَأْنَفَةٌ عَدَلَ بِهِ عَنْ خِطَابِ النَّحْلِ، تَعْدِيدًا لِلنِّعَمِ، وتعجيبا لكل سامع، وتنبيها على العبرة، وَإِرْشَادًا إِلَى الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ هَذَا الحيوان الشبيه بالذباب، والمراد بال شَرابٌ فِي الْآيَةِ هُوَ الْعَسَلُ، وَمَعْنَى مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أَنَّ بَعْضَهُ أَبْيَضُ وَبَعْضَهُ أَحْمَرُ وَبَعْضَهُ أَزْرَقُ وَبَعْضَهُ أَصْفَرُ بِاخْتِلَافِ ذَوَاتِ النَّحْلِ وَأَلْوَانِهَا وَمَأْكُولَاتِهَا. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْعَسَلَ يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِ النَّحْلِ وَقِيلَ: مِنْ أَسْفَلِهَا وَقِيلَ: لَا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ رَاجِعٌ إِلَى الشَّرَابِ الْخَارِجِ مِنْ بُطُونِ النَّحْلِ وَهُوَ الْعَسَلُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ كَيْسَانَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ، وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ وَمُخَالَفَةِ الْمَرْجِعِ الْوَاضِحِ وَالسِّيَاقِ الْبَيِّنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ هَذَا الشِّفَاءُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْعَسَلِ عَامٌّ لِكُلِّ دَاءٍ أَوْ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الْعَسَلَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا يَكُونُ عَامًّا، وَتَنْكِيرُهُ إِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ فِيهِ شِفَاءً عَظِيمًا لِمَرَضٍ أَوْ أَمْرَاضٍ، لَا لِكُلِّ مَرَضٍ، فَإِنَّ تَنْكِيرَ التَّعْظِيمِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَالظَّاهِرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ التَّجْرِبَةِ وَمِنْ قَوَانِينِ عِلْمِ الطِّبِّ، أَنَّهُ إِذَا اسْتُعْمِلَ مُنْفَرِدًا كَانَ دَوَاءً لِأَمْرَاضٍ خَاصَّةٍ وَإِنْ خُلِطَ مَعَ غَيْرِهِ كَالْمَعَاجِينِ وَنَحْوِهَا كَانَ مَعَ مَا خُلِطَ بِهِ دَوَاءً لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَغْذِيَةِ وَأَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ، وَقَلِيلًا مَا يَجْتَمِعُ هَذَانِ الْأَمْرَانِ فِي غَيْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ أَمْرِ النِّحَلِ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أَيْ: يُعْمِلُونَ أَفْكَارَهُمْ عِنْدَ النَّظَرِ فِي صُنْعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَعَجَائِبِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَإِنَّ أَمْرَ النِّحَلِ مِنْ أَعْجَبِهَا وَأَغْرَبِهَا وَأَدَقِّهَا وَأَحْكَمِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً قَالَ: السَّكَرُ: مَا حَرُمَ مِنْ ثَمَرَتِهِمَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ: مَا حَلَّ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: السَّكَرُ: الْحَرَامُ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ: زَبِيبُهُ وَخَلُّهُ وَعِنَبُهُ وَمَنَافِعُهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: السَّكَرُ النَّبِيذُ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ الزَّبِيبُ، فَنَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: فحرّم الله بعد ذلك السكر منع تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَرِزْقاً حَسَناً فَهُوَ الْحَلَالُ مِنَ الْخَلِّ وَالزَّبِيبِ وَالنَّبِيذِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَأَقَرَّهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ حَلَالًا لِلْمُسْلِمِينَ. وأخرج الفريابي وابن أبي

[سورة النحل (16) : الآيات 70 إلى 74]

شيبة وابن حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ السَّكَرِ، فَقَالَ: الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: السَّكَرُ خَمْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ قَالَ: أَلْهَمَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا قَالَ: طُرُقًا لَا يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ذُلُلًا قَالَ: مُطِيعَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ذَلِيلَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ قَالَ: الْعَسَلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ الْعَسَلُ فِيهِ الشِّفَاءُ وَفِي الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ الْعَسَلَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ» . وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي كَوْنِ الْعَسَلُ شِفَاءً مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا، فَسَقَاهُ عَسَلًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَمَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، قَالَ: اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا فَذَهَبَ فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: مَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا، فذهب فسقاه عسلا فبرأ» «1» . [سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 74] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ أَحْوَالِ الْحَيَوَانِ وَمَا فِيهَا مِنْ عَجَائِبِ الصَّنْعَةِ الْبَاهِرَةِ، وَخَصَائِصِ الْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ، أَتْبَعَهُ بِعَجَائِبِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ، فَقَالَ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ يُقَالُ: رَذَلَ يَرْذُلُ رَذَالَةً، وَالْأَرْذَلُ وَالرَّذَالَةُ: أَرْدَأُ الشَّيْءِ وَأَوْضَعُهُ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُقَلَاءَ ضَبَطُوا مَرَاتِبَ عُمْرِ الْإِنْسَانِ فِي أَرْبَعٍ: أُولَاهَا سِنُّ النُّشُوِّ.

_ (1) . جاء في لسان العرب: أهل الحجاز يقولون: برأت من المرض برءا بالفتح، وسائر العرب يقولون: برئت من المرض.

وَثَانِيهَا: سِنُّ الْوُقُوفِ وَهُوَ سِنُّ الشَّبَابِ. وَثَالِثُهَا: سِنُّ الِانْحِطَاطِ الْيَسِيرِ، وَهُوَ سِنُّ الْكُهُولَةِ. وَرَابِعُهَا: سِنُّ الِانْحِطَاطِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ. قِيلَ: وَأَرْذَلُ الْعُمُرِ هُوَ عِنْدَ أَنْ يَصِيرَ الْإِنْسَانُ إِلَى الْخَرَفِ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ وَقِيلَ: خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: تِسْعُونَ سَنَةً، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ- ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ «1» . ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ رَدَّ مَنْ يَرُدُّهُ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ بِقَوْلِهِ: لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُ شَيْئاً مِنَ الْعِلْمِ لَا كَثِيرًا وَلَا قَلِيلًا، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ إِذَا كَانَ الْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا الْعَقْلُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لِئَلَّا يَعْلَمَ زِيَادَةً عَلَى عِلْمِهِ الَّذِي قَدْ حَصَلَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَتَقَلُّبَهُ فِي أَطْوَارِ الْعُمْرِ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ أَحْوَالِهِ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَجَعَلَكُمْ مُتَفَاوِتِينَ فِيهِ فَوَسَّعَ عَلَى بَعْضِ عِبَادِهِ حَتَّى جَعَلَ لَهُ مِنَ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً مِنْ بَنِي آدَمَ، وَضَيَّقَهُ عَلَى بَعْضِ عِبَادِهِ حَتَّى صَارَ لَا يَجِدُ الْقُوتَ إِلَّا بِسُؤَالِ النَّاسِ وَالتَّكَفُّفِ لَهُمْ، وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ تَقْصُرُ عُقُولُ الْعِبَادِ عَنْ تَعَقُّلِهَا وَالِاطِّلَاعِ عَلَى حَقِيقَةِ أَسْبَابِهَا، وَكَمَا جَعَلَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي الْمَالِ جَعَلَهُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَقُوَّةِ الْبَدَنِ وَضَعْفِهِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالصِّحَّةِ وَالسُّقْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْطَى الْمَوَالِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أَعْطَى مَمَالِيكَهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أَيْ: فَمَا الَّذِينَ فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِسَعَةِ الرِّزْقِ عَلَى غَيْرِهِمْ بِرَادِّي رِزْقِهِمُ الَّذِي رَزَقَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مِنَ الْمَمَالِيكِ فَهُمْ أَيِ: الْمَالِكُونَ وَالْمَمَالِيكُ فِيهِ أَيْ: فِي الرِّزْقِ سَواءٌ أَيْ: لَا يَرُدُّونَهُ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ يُسَاوُونَهُمْ، فَالْفَاءُ عَلَى هَذَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّسَاوِيَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى التَّرَادِّ، أَيْ: لَا يَرُدُّونَهُ عَلَيْهِمْ رَدًّا مُسْتَتْبِعًا لِلتَّسَاوِي، وَإِنَّمَا يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا، وَهَذَا مِثْلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، أَيْ: إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَبِيدَكُمْ مَعَكُمْ سَوَاءً وَلَا تَرْضَوْنَ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ عَبِيدِي مَعِي سَوَاءً وَالْحَالُ أَنَّ عَبِيدَكُمْ مُسَاوُونَ لَكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَالْمَخْلُوقِيَّةِ، فَلَمَّا لَمْ تَجْعَلُوا عَبِيدَكُمْ مُشَارِكِينَ لَكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ بَعْضَ عِبَادِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ شُرَكَاءَ لَهُ فَتَعْبُدُونَهُمْ مَعَهُ، أَوْ كَيْفَ تَجْعَلُونَ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ كَالْأَصْنَامِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ «2» . وَقِيلَ: إِنَّ الْفَاءَ فِي «فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ» بِمَعْنَى حَتَّى أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ حَيْثُ تَفْعَلُونَ مَا تَفْعَلُونَ مِنَ الشَّرَكِ، وَالنِّعْمَةُ هِيَ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْمَالِكِينَ مُفَضَّلِينَ عَلَى الْمَمَالِيكِ، وَقَدْ قُرِئَ يَجْحَدُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ: وَقِرَاءَةُ الْغَيْبَةِ أَوْلَى لِقُرْبِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خِطَابًا لَكَانَ ظَاهِرُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: يُشْرِكُونَ بِهِ فَيَجْحَدُونَ نِعْمَتَهُ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْخِطَابِ أَنَّ الْمَالِكِينَ لَيْسُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ، بَلْ أَنَا الَّذِي أَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاهُمْ فَلَا يَظُنُّوا أَنَّهُمْ يُعْطُونَهُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هُوَ رِزْقِي أُجْرِيهِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَهُمْ جَمِيعًا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لَا مَزِيَّةَ لَهُمْ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ، فَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ الْمُقَدَّرُ فِعْلًا يُنَاسِبُ هذا المعنى، كأن

_ (1) . التين: 4 و 5. (2) . الروم: 28.

يُقَالَ: لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ فَيَجْحَدُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْحَالَةَ الْأُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي النِّسَاءَ فَإِنَّهُ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ، أَوِ الْمَعْنَى: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْتَأْنِسُوا بِهَا، لِأَنَّ الْجِنْسَ يَأْنَسُ إِلَى جِنْسِهِ وَيَسْتَوْحِشُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْأُنْسَةِ يَقَعُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِلنَّسْلِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالزَّوَاجِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً الْحَفْدَةُ: جَمْعُ حَافِدٍ، يُقَالُ: حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْدًا وَحُفُودًا إِذَا أَسْرَعَ، فَكُلُّ مَنْ أَسْرَعَ فِي الْخِدْمَةِ فَهُوَ حَافِدٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْحَفْدُ: الْعَمَلُ وَالْخِدْمَةُ. قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: الْحَفَدَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْخَدَمُ، وَمِنْ ذلك قول الشاعر، وهو الأعشى: كلّفت مجهولها نوقا يمانية ... إذا الْحُدَاةُ عَلَى أَكْتَافِهَا «1» حَفَدُوا أَيِ: الْخَدَمُ وَالْأَعْوَانُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قِيلَ: الْحَفَدَةُ: أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ: الْأَخْتَانُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلْقَمَةُ وَأَبُو الضُّحَى وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : فَلَوْ أَنَّ نَفْسِي طَاوَعَتْنِي لَأَصْبَحَتْ ... لَهَا حَفَدٌ مِمَّا يُعَدُّ كَثِيرُ وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ عَلَيَّ أَبِيَّةٌ ... عَيُوفٌ لِأَصْهَارِ «3» اللِّئَامِ قَذُورُ وَقِيلَ: الْحَفَدَةُ الْأَصْهَارُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْخَتْنُ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ كَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَالْأَصْهَارُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، يُقَالُ: أَصْهَرُ فُلَانٌ إِلَى بَنِي فُلَانٍ وَصَاهَرَ وَقِيلَ: هُمْ أَوْلَادُ امْرَأَةِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ وَقِيلَ: الْأَوْلَادُ الَّذِينَ يَخْدِمُونَهُ وَقِيلَ: الْبَنَاتُ الْخَادِمَاتُ لِأَبِيهِنَّ. وَرَجَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِأَنَّ جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْأَزْوَاجِ بَنِينَ وَحَفَدَةً، فَالْحَفَدَةُ فِي الظَّاهِرِ مَعْطُوفُونَ عَلَى الْبَنِينَ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَجَعَلَ لَكُمْ حَفَدَةً، وَلَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الظَّاهِرِ أَنْ يُرَادَ بِالْبَنِينَ مَنْ لَا يَخْدِمُ، وَبِالْحَفَدَةِ مَنْ يَخْدِمُ الْأَبَ مِنْهُمْ، أَوْ يُرَادُ بِالْحَفَدَةِ الْبَنَاتُ فَقَطْ، وَلَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ إِلَّا إِذَا كَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ، وَمِنَ الْبَنِينِ حَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الَّتِي تستطيبونها وتستلذونها، ومن لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الطَّيِّبَاتِ لَا تَكُونُ مُجْتَمِعَةً إِلَّا فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ التَّوْبِيخِيِّ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ فَيُؤْمِنُونَ بِالْبَاطِلِ، وفي تقدّم فَبِالْباطِلِ عَلَى الْفِعْلِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِيمَانٌ إِلَّا بِهِ، وَالْبَاطِلُ هُوَ اعْتِقَادُهُمْ فِي أَصْنَامِهِمْ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ وَقِيلَ: الْبَاطِلُ مَا زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُؤْمِنُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ أَبُو بكر بالفوقية على الخطاب وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ أَيْ: مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا لَا يُحِيطُ بِهِ حَصْرٌ، وَفِي تَقْدِيمِ النِّعْمَةِ وَتَوْسِيطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ، لَا يَتَجَاوَزُهُ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ معطوف على

_ (1) . في تفسير القرطبي (10/ 143) : اكسائها. وهو جمع كسي، وهو مؤخّر العجز. (2) . هو جميل بن معمر. (3) . في البحر: لأصحاب.

يَكْفُرُونَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْإِنْكَارِ التَّوْبِيخِيِّ إِنْكَارًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَهِيَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَلِهَذَا قَالَ: مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ شَيْئًا بَدَلٌ مِنَ الرِّزْقِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِإِيقَاعِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ رِزْقًا مَصْدَرًا عَامِلًا فِي شَيْئًا، وَالْأَخْفَشُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلرِّزْقِ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُ أَيْ: لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْمِلْكِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ يَعْبُدُونَ مَعْبُودَاتٍ لَا تَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا أَيَّ رزق، ومن السموات وَالْأَرْضِ صِفَةٌ لِرِزْقٍ، أَيْ: كَائِنًا مِنْهُمَا، وَالضَّمِيرُ فِي وَلا يَسْتَطِيعُونَ رَاجِعٌ إِلَى مَا، وَجُمِعَ جَمْعَ الْعُقَلَاءِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ، وَالْفَائِدَةُ فِي نَفْيِ الِاسْتِطَاعَةِ عَنْهُمْ أَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا قَدْ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِاسْتِطَاعَةِ التَّمَلُّكِ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ وَلَا تَسْتَطِيعُ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي يَسْتَطِيعُونَ لِلْكُفَّارِ: أَيْ لَا يَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مَعَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً مُتَصَرِّفِينَ، فَكَيْفَ بِالْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا حَيَاةَ لَهَا وَلَا تَسْتَطِيعُ التَّصَرُّفَ؟ ثُمَّ نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ عَنْ أَنْ يُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ، فَقَالَ: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ فَإِنَّ ضَارِبَ الْمَثَلِ يُشَبِّهُ حَالًا بِحَالٍ وَقِصَّةً بِقِصَّةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ مَثَلًا لِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا مَثَلَ لَهُ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَعْبُدَهُ الْوَاحِدُ مِنَّا، فَكَانُوا يَتَوَسَّلُونَ إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْكَوَاكِبِ، كَمَا أَنَّ أَصَاغِرَ النَّاسِ يَخْدِمُونَ أَكَابِرَ حَضْرَةِ الْمَلِكِ، وَأُولَئِكَ الْأَكَابِرُ يَخْدِمُونَ الْمَلِكَ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَعَلَّلَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ يَعْلَمُ مَا عَلَيْكُمْ مِنَ الْعِبَادَةِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا فِي عِبَادَتِهَا مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَالتَّعَرُّضِ لِعَذَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَفِعْلُكُمْ هَذَا هُوَ عَنْ تَوَهُّمٍ فَاسِدٍ وَخَاطِرٍ بَاطِلٍ وَخَيَالٍ مُخْتَلٍّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كَيْفَ تُضْرَبُ الْأَمْثَالُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ قَالَ: خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُوَ الْخَرَفُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، ثُمَّ قَرَأَ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: الْعَالِمُ لَا يُخَرِّفُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ قَالَ: لَمْ يَكُونُوا لِيُشْرِكُوا عَبِيدَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ عَبِيدِي مَعِي فِي سُلْطَانِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ لِآلِهَةِ الْبَاطِلِ مَعَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً قَالَ: خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ خَلَقَ زَوْجَتَهُ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: بَنِينَ وَحَفَدَةً قَالَ: الْحَفَدَةُ الْأَخْتَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْحَفَدَةُ الْأَصْهَارُ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ قَالَ: الْحَفَدَةُ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْحَفَدَةُ بَنُو الْبَنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: بَنِينَ وَحَفَدَةً قال: من أعابك فقد

[سورة النحل (16) : الآيات 75 إلى 79]

حَفَدَكَ، أَمَا سَمِعْتَ الشَّاعِرَ يَقُولُ: حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوْلَهُنَّ وَأَسْلَمَتْ ... بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةُ الْأَجْمَالِ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْحَفَدَةُ بَنُو امْرَأَةِ الرَّجُلِ لَيْسُوا مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ قَالَ: الشِّرْكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: هو الشيطان وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ قَالَ: مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ قَالَ: هَذِهِ الْأَوْثَانُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا تَمْلِكُ لِمَنْ يَعْبُدُهَا رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَيْرًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ فَإِنَّهُ أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ يَعْنِي اتِّخَاذَهُمُ الْأَصْنَامَ، يَقُولُ: لَا تَجْعَلُوا مَعِي إِلَهًا غيري، فإنه لا إله غيري. [سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 79] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) قَوْلُهُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَيْ: بِالْمَعْلُومَاتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا كَيْفَ يَضْرِبُ الْأَمْثَالَ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، عَلَّمَهُمْ سُبْحَانَهُ كَيْفَ تُضْرَبُ الْأَمْثَالُ فَقَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أَيْ: ذَكَرَ شَيْئًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَبَايُنِ الْحَالِ بَيْنَ جَنَابِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَبَيْنَ مَا جَعَلُوهُ شَرِيكًا لَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ: عَبْداً مَمْلُوكاً وَالْمَثَلُ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ حَالَةٌ لِلْعَبْدِ عَارِضَةٌ لَهُ، وَهِيَ الْمَمْلُوكِيَّةُ وَالْعَجُزُ عَنِ التَّصَرُّفِ، فَقَوْلُهُ: عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ وَبَدَلٌ مِنْهُ، وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْحُرَّ مُشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لِأَنَّ الْمُكَاتِبَ وَالْمَأْذُونَ يَقْدِرَانِ عَلَى بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، فَهَذَا الْوَصْفُ لِتَمْيِيزِهِ عَنْهُمَا وَمَنْ رَزَقْناهُ مَنْ هِيَ الْمَوْصُولَةُ، وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى عَبْداً أَيْ: وَالَّذِي رَزَقْنَاهُ مِنَّا أَيْ: مِنْ جِهَتِنَا رِزْقاً حَسَناً مِنَ الْأَحْرَارِ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ الْأَمْوَالَ وَيَتَصَرَّفُونَ بِهَا كَيْفَ شاؤوا، والمراد يكون الرِّزْقِ حَسَنًا أَنَّهُ مِمَّا يَحْسُنُ فِي عُيُونِ النَّاسِ لِكَوْنِهِ رِزْقًا كَثِيرًا مُشْتَمِلًا عَلَى أَشْيَاءَ مُسْتَحْسَنَةٍ نَفِيسَةٍ تَرُوقُ النَّاظِرِينَ إِلَيْهَا، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ لِتَرْتِيبِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الرِّزْقِ، أَيْ: يُنْفِقُ مِنْهُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَيَصْرِفُ مِنْهُ إِلَى أَنْوَاعِ الْبِرِّ

وَالْمَعْرُوفِ، وَانْتِصَابُ سِرًّا وَجَهْراً عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يُنْفِقُ مِنْهُ فِي حَالِ السِّرِّ وَحَالِ الْجَهْرِ وَالْمُرَادُ بَيَانُ عُمُومِ الْإِنْفَاقِ لِلْأَوْقَاتِ، وَتَقْدِيمُ السِّرِّ عَلَى الْجَهْرِ مُشْعِرٌ بِفَضِيلَتِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الثَّوَابَ فِيهِ أَكْثَرُ وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ فِي وَمَنْ رَزَقْناهُ مَوْصُوفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَحُرًّا رَزَقْنَاهُ لِيُطَابِقَ عَبْدًا هَلْ يَسْتَوُونَ أَيِ: الْحُرُّ وَالْعَبْدُ الْمَوْصُوفَانِ بِالصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ لِمَكَانِ مَنْ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَقِيلَ: إِنَّهُ أُرِيدَ بِالْعَبْدِ وَالْمَوْصُولِ الذي هو عبادة عَنِ الْحُرِّ الْجِنْسُ، أَيْ: مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ مِنَ الْجِنْسَيْنِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: هَلْ يَسْتَوِي الْعَبِيدُ وَالْأَحْرَارُ الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ مَعَ كَوْنِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَخْلُوقَيْنِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبَشَرِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَهُمْ، فَكَيْفَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ شُرَكَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَيَجْعَلُونَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِبَادَةِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ؟ وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ كَمَا لَا يَسْتَوِي عِنْدَكُمْ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى شَيْءٍ وَرَجُلٌ حُرٌّ قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ منه، كذلك لا يستوي الربّ الخالق الرازق وَالْجَمَادَاتُ مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا وَهِيَ لَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْكَافِرُ الْمَحْرُومُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَالْآخَرُ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْغَرَضُ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الرُّتْبَةِ وَالشَّرَفِ وَقِيلَ: الْعَبْدُ هُوَ الصَّنَمُ، وَالثَّانِي عَابِدُ الصَّنَمِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ جَمَادٌ، وَالثَّانِيَ إِنْسَانٌ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَيِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كُلُّهُ لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ مِنِ الْعِبَادِ شَيْئًا مِنْهُ، فَكَيْفَ تَسْتَحِقُّ الْأَصْنَامُ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا نِعْمَةَ مِنْهَا أَصْلًا لَا بِالْأَصَالَةِ وَلَا بِالتَّوَسُّطِ وَقِيلَ: أَرَادَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ مِنْ نِعْمَةِ التَّوْحِيدِ وَقِيلَ: أَرَادَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْخِطَابُ إِمَّا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَثَلًا مُطَابِقًا لِلْغَرَضِ كَاشِفًا عَنِ الْمَقْصُودِ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَيْ: عَلَى قُوَّةِ هَذِهِ الْحُجَّةِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَعْبُدُوا مَنْ تَحِقُّ لَهُ الْعِبَادَةُ وَيَعْرِفُوا الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الْجَلِيلَةِ، وَنَفْيُ الْعِلْمِ عَنْهُمْ إِمَّا لِكَوْنِهِمْ مِنَ الْجَهْلِ بِمَنْزِلَةٍ لَا يَفْهَمُونَ بِسَبَبِهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، أَوْ هُمْ يَتْرُكُونَ الْحَقَّ عِنَادًا مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ فَكَانُوا كَمَنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَخَصَّ الْأَكْثَرَ بِنَفْيِ الْعِلْمِ إِمَّا لِكَوْنِهِ يُرِيدُ الْخَلْقَ جَمِيعًا، وَأَكْثَرُهُمُ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ ذَكَرَ الْأَكْثَرَ وَهُوَ يُرِيدُ الْكُلَّ، أَوِ الْمُرَادُ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْلَمُ وَلَا يَعْمَلُ بِمُوجَبِ الْعِلْمِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَثَلًا ثَانِيًا ضَرَبَهُ لِنَفْسِهِ، وَلِمَا يُفِيضُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَلِلْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ أَمْوَاتٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ فَقَالَ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أَيْ: مَثَلًا آخَرَ أَوْضَحَ مِمَّا قَبْلَهُ وأظهر منه، ورَجُلَيْنِ بَدَلٌ مِنْ مَثَلٍ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، وَالْأَبْكَمُ: الْعَيِيُّ الْمُفْحَمُ وَقِيلَ: هُوَ الْأَقْطَعُ اللِّسَانِ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْكَلَامَ، وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، ثُمَّ وَصَفَ الْأَبْكَمَ فَقَالَ: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ لِعَدَمِ فَهْمِهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى النُّطْقِ، وَمَعْنَى كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ ثَقِيلٌ عَلَى وَلِيِّهِ وَقَرَابَتِهِ وَعِيَالٌ عَلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ وَيَعُولُهُ وَوَبَالٌ عَلَى إِخْوَانِهِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْيَتِيمُ كَلًّا لِثِقَلِهِ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَكُولٌ لِمَالِ الْكَلِّ قَبْلَ شَبَابِهِ ... إِذَا كَانَ عَظْمُ الْكَلِّ غَيْرَ شَدِيدِ وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِقَامَةِ مَصَالِحِ نَفْسِهِ بَعْدَ ذِكْرِ عَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى شَيْءٍ مُطْلَقًا. ثُمَّ وَصَفَهُ بِصِفَةٍ

رَابِعَةٍ فَقَالَ: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ أَيْ: إِذَا وَجَّهَهُ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ قَطُّ لِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ وَلَا يَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «أَيْنَمَا يُوَجَّهْ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «أَيْنَمَا تَوَجَّهَ» عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي هَلْ يَسْتَوِي هُوَ فِي نَفْسِهِ مَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الَّتِي اتَّصَفَ بِهَا وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أَيْ: يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْعَدْلِ مَعَ كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ يَنْطِقُ بِمَا يُرِيدُ النُّطْقَ بِهِ وَيَفْهَمُ، وَيَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْأَشْيَاءِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ عَلَى دِينٍ قَوِيمٍ وَسِيرَةٍ صَالِحَةٍ لَيْسَ فِيهِ مَيْلٌ إِلَى أَحَدِ جَانِبَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، قَابَلَ أَوْصَافَ الْأَوَّلِ بِهَذَيْنَ الْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِلْآخَرِ لِأَنَّ حَاصِلَ أَوْصَافِ الْأَوَّلِ عَدَمُ اسْتِحْقَاقِهِ لِشَيْءٍ، وَحَاصِلُ وَصْفَيْ هَذَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَكْمَلَ اسْتِحْقَاقٍ، وَالْمَقْصُودُ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ تَسَاوِي هَذَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى امْتِنَاعِ التَّسَاوِي بَيْنَهُ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ مَا يَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لَهُ. وَلَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ الْمَثَلَيْنِ مَدَحَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، وَالْمُرَادُ عَلِمَ مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ فِيهِمَا، أَوْ أَرَادَ بِغَيْبِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ عِلْمَهُ غَائِبٌ عَنِ الْعِبَادِ، وَمَعْنَى الْإِضَافَةِ إِلَيْهِمَا التَّعَلُّقُ بِهِمَا. وَالْمَعْنَى: التَّوْبِيخُ لِلْمُشْرِكِينَ وَالتَّقْرِيعُ لَهُمْ، أَيْ: أَنَّ الْعِبَادَةَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ لَا مَنْ كَانَ جَاهِلًا عَاجِزًا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُمَارَاةُ مِنَ الْغُيُوبِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اللَّمْحُ النَّظَرُ بِسُرْعَةٍ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ زَمَانٍ تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْحَدَقَةُ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ وَكُلُّ زَمَانٍ قَابِلٌ لِلتَّجْزِئَةِ، وَلِذَا قَالَ: أَوْ هُوَ أَيْ: أَمْرُهُمَا أَقْرَبُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ فِي غَايَةِ الصِّدْقِ لِأَنَّ مُدَّةَ مَا بَيْنَ الْخِطَابِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ مُتَنَاهِيَةٌ، وَمِنْهَا إِلَى الْأَبَدِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَلَا نِسْبَةَ لِلْمُتَنَاهِي إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي أَوْ يُقَالُ: إِنَّ السَّاعَةَ لَمَّا كَانَتْ آتِيَةً وَلَا بُدَّ جُعِلَتْ مِنَ الْقُرْبِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يُرِدْ أَنَّ السَّاعَةَ تَأْتِي فِي لَمْحِ الْبَصَرِ، وَإِنَّمَا وَصَفَ سُرْعَةَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا، لِأَنَّهُ يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: هِيَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً- وَنَراهُ قَرِيباً «1» . وَلَفْظُ أَوْ فِي: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ لَيْسَ لِلشَّكِّ بَلْ لِلتَّمْثِيلِ وَقِيلَ: دَخَلَتْ لِشَكِّ الْمُخَاطَبِ، وَقِيلَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ بَلْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَجِيءُ السَّاعَةِ بِسُرْعَةٍ مِنْ جُمْلَةِ مَقْدُورَاتِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ حَالَةً أُخْرَى لِلْإِنْسَانِ دَالَّةٌ عَلَى غَايَةِ قُدْرَتِهِ وَنِهَايَةِ رَأْفَتِهِ فَقَالَ: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَهَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً مُنْتَظِمٌ مَعَهُ فِي سِلْكِ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ أَيْ: أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ أَطْفَالًا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِشَيْءٍ، وَجُمْلَةُ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، وَقِيلَ: لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِمَّا قَضَى بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَقِيلَ: لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ مَنَافِعِكُمْ. وَالْأَوْلَى التَّعْمِيمُ لِتَشْمَلَ الْآيَةُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَغَيْرَهَا اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ شَيْئًا نَكِرَةٌ وَاقِعَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ «إِمِّهَاتِكُمْ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ- هُنَا- وَفِي النُّورِ وَالزُّمَرِ وَالنَّجْمِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الهمزة وفتح الميم

_ (1) . المعارج: 6 و 7.

وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أَيْ: رَكَّبَ فِيكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَخْرَجَكُمْ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَأْخِيرِ هَذَا الْجَعْلِ عَنِ الْإِخْرَاجِ لِمَا أَنَّ مَدْلُولَ الْوَاوِ هُوَ مُطْلَقُ الْجَمْعِ. وَالْمَعْنَى: جَعَلَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِتُحَصِّلُوا بِهَا الْعِلْمَ الَّذِي كَانَ مَسْلُوبًا عَنْكُمْ عِنْدَ إِخْرَاجِكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ، وَتَعْمَلُوا بِمُوجَبِ ذَلِكَ الْعِلْمِ مِنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَعِبَادَتِهِ وَالْقِيَامِ بحقوقه، والأفئدة: جَمْعُ فُؤَادٍ، وَهُوَ وَسَطُ الْقَلْبِ، مُنَزَّلٌ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَلْبِ مِنَ الصَّدْرِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْوَجْهَ فِي إِفْرَادِ السَّمْعِ وَجَمْعِ الْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ، وَهُوَ أَنَّ إِفْرَادَ السَّمْعِ لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا فِي الْأَصْلِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ: لِكَيْ تَصْرِفُوا كُلَّ آلَةٍ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَعْرِفُونَ مِقْدَارَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ فَتَشْكُرُونَهُ، أَوْ أَنَّ هَذَا الصَّرْفَ هُوَ نَفْسُ الشُّكْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ أَيْ: أَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهَا مُسَخَّرَاتٍ، أَيُّ: مُذَلَّلَاتٍ لِلطَّيَرَانِ بِمَا خَلَقَ الله لها من الأجنحة وسائر الأسباب المؤاتية لِذَلِكَ كَرِقَّةِ قَوَامِ الْهَوَاءِ، وَإِلْهَامِهَا بَسْطَ الْجَنَاحِ وَقَبْضَهُ كَمَا يَفْعَلُ السَّابِحُ فِي الْمَاءِ فِي جَوِّ السَّماءِ أَيْ: فِي الْهَوَاءِ الْمُتَبَاعِدِ مِنَ الْأَرْضِ فِي سَمْتِ الْعُلُوِّ، وَإِضَافَتِهِ إِلَى السَّمَاءِ لِكَوْنِهِ فِي جَانِبِهَا مَا يُمْسِكُهُنَّ فِي الْجَوِّ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ، فَإِنَّ ثِقَلَ أَجْسَامِهَا وَرِقَّةَ قَوَامِ الْهَوَاءِ يَقْتَضِيَانِ سُقُوطَهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ مِنْ فَوْقِهَا، وَلَا اعْتَمَدَتْ عَلَى شَيْءٍ تَحْتَهَا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ «أَلَمْ تَرَوْا» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَيْ: إِنَّ فِي ذَلِكَ التَّسْخِيرِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ لِآيَاتٍ ظَاهِرَاتٍ تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً الْآيَةَ. قَالَ: يَعْنِي الْكَافِرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً الْآيَةَ قَالَ: يَعْنِي الْمُؤْمِنَ، وَهَذَا الْمَثَلُ فِي النَّفَقَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ قَالَ: كُلُّ هَذَا مَثَلُ إِلَهِ الْحَقِّ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي الْمَثَلِ الْأَوَّلِ يَعْنِي بِذَلِكَ الْآلِهَةَ الَّتِي لَا تَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ يَنْفَعُهَا وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً قَالَ: عَلَانِيَةُ، الَّذِي يُنْفِقُ سِرًّا وَجَهْرًا لِلَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وعبده، وفي هِشَامِ بْنِ عَمْرٍو، وَهُوَ الَّذِي يُنْفِقُ سِرًّا وَجَهْرًا، وَفِي عَبْدَةَ أَبِي الْجَوْزَاءِ الَّذِي كَانَ يَنْهَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ الْآيَةَ قَالَ: يَعْنِي بِالْأَبْكَمِ الَّذِي: هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ الْكَافِرُ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْمُؤْمِنُ، وَهَذَا الْمَثَلُ فِي الْأَعْمَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ الْآيَةَ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَمَوْلًى له كافر، وهو أسيد

[سورة النحل (16) : الآيات 80 إلى 83]

ابن أَبِي الْعِيصِ كَانَ يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ عُثْمَانُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَيَكْفُلُهُ وَيَكْفِيهِ الْمُؤْنَةَ، وَكَانَ الْآخَرُ يَنْهَاهُ عَنِ الصَّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ قَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: كَلٌّ قَالَ: الْكَلُّ: الْعِيَالُ، كَانُوا إِذَا ارْتَحَلُوا حَمَلُوهُ عَلَى بَعِيرٍ ذَلُولٍ، وَجَعَلُوا مَعَهُ نَفَرًا يُمْسِكُونَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ عَنَاءٌ وَعَذَابٌ وَعِيَالٌ عَلَيْهِمْ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَعْنِي نَفْسَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ هُوَ أَنْ يَقُولَ: كُنْ فَهُوَ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ فَالسَّاعَةُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هِيَ أَقْرَبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ قَالَ: مِنَ الرَّحِمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فِي جَوِّ السَّماءِ أَيْ: فِي كبد السماء. [سورة النحل (16) : الآيات 80 الى 83] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) قَوْلُهُ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَهَذَا الْمَذْكُورُ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْ تَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالسَّكَنُ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَسْكُونٍ، أَيْ: تَسْكُنُونَ فِيهَا وَتَهْدَأُ جَوَارِحُكُمْ مِنَ الْحَرَكَةِ، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَ الْعَبْدَ مُضْطَرِبًا دَائِمًا كَالْأَفْلَاكِ، وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُ سَاكِنًا أَبَدًا كَالْأَرْضِ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بُيُوتَ الْمُدُنِ، وَهِيَ الَّتِي لِلْإِقَامَةِ الطَّوِيلَةِ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ بُيُوتِ الْبَادِيَةِ وَالرِّحْلَةِ، أَيْ: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْأَنْطَاعُ وَالْأُدُمُ بُيُوتًا كَالْخِيَامِ وَالْقِبَابِ تَسْتَخِفُّونَها أَيْ: يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا فِي الْأَسْفَارِ وَغَيْرِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَالظَّعْنُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا، وَقُرِئَ بِهِمَا، سَيْرُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ لِلِانْتِجَاعِ، وَالتَّحَوُّلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: ظَعَنَ الَّذِينَ فِرَاقُهُمْ أَتَوَقَّعُ ... وَجَرَى بِبَيْنِهِمُ الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ وَالظَّعْنُ: الْهَوْدَجُ أَيْضًا. وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً مَعْطُوفٌ عَلَى جَعَلَ أَيْ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَصْوَافِ الْأَنْعَامِ وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَالْأَنْعَامُ تَعُمُّ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْأَصْوَافُ لِلْغَنَمِ، وَالْأَوْبَارُ لِلْإِبِلِ، وَالْأَشْعَارُ لِلْمَعْزِ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنَمِ، فَيَكُونُ ذِكْرُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى وَجْهِ التَّنْوِيعِ

كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِوَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي الْإِبِلَ، وَنَوْعَيِ الْغَنَمِ، وَالْأَثَاثُ مَتَاعُ الْبَيْتِ، وَأَصْلُهُ الْكَثْرَةُ وَالِاجْتِمَاعُ، وَمِنْهُ شِعْرٌ أَثِيثٌ: أَيْ كَثِيرٌ مُجْتَمِعٌ، قَالَ الشَّاعِرُ «1» : وَفَرْعٌ يُزِينُ الْمَتْنَ أَسْوَدُ فَاحِمٍ ... أَثِيثٌ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ الْمُتَعَثْكِلِ «2» قَالَ الْخَلِيلُ: أَثَاثًا، أَيْ: مُنْضَمًّا بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، مِنْ أَثَّ إِذَا أَكْثَرَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لَهُ، وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ بِأَنْوَاعِ التَّمَتُّعِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ: إِنَّ الْأَثَاثَ الْمَالُ أَجْمَعُ: الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ وَالْعَبِيدُ وَالْمَتَاعُ، يَكُونُ عَطْفُ الْمَتَاعِ عَلَى الْأَثَاثِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَقِيلَ: إِنَّ الْأَثَاثَ مَا يَكْتَسِي بِهِ الْإِنْسَانُ وَيَسْتَعْمِلُهُ مِنَ الْغِطَاءِ وَالْوِطَاءِ، وَالْمَتَاعُ: مَا يُفْرَشُ فِي الْمَنَازِلِ وَيُتَزَيَّنُ بِهِ، وَمَعْنَى إِلى حِينٍ إلى أن تقضوا أو طاركم مِنْهُ، أَوْ إِلَى أَنْ يَبْلَى وَيَفْنَى، أَوْ إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ إِلَى الْقِيَامَةِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ خِيَامٌ، أَوْ أَبْنِيَةٌ يَسْتَظِلُّ بِهَا لِفَقْرٍ، أَوْ لِعَارِضٍ آخَرَ فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَسْتَظِلَّ بِشَجَرٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ غَمَامٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا أَيْ: أَشْيَاءَ تَسْتَظِلُّونَ بِهَا كَالْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الظِّلَالَ تَعُمُّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُظِلُّ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى رُكْنٍ يَأْوِي إِلَيْهِ فِي نُزُولِهِ، وَإِلَى مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ آفَاتِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَهِيَ جَمْعُ كِنٍّ، وَهُوَ مَا يُسْتَكَنُّ بِهِ مِنَ الْمَطَرِ، وَهِيَ هنا الغيران في الجبال، وجعلها اللَّهُ سُبْحَانَهُ عُدَّةً لِلْخَلْقِ يَأْوُونَ إِلَيْهَا، وَيَتَحَصَّنُونَ بِهَا، وَيَعْتَزِلُونَ عَنِ الْخَلْقِ فِيهَا: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ جَمْعُ سِرْبَالٍ، وَهِيَ الْقُمْصَانُ وَالثِّيَابُ مِنَ الصوف والقطن والكتان وغيرهما. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا لَبِسْتَهُ فَهُوَ سِرْبَالٌ، وَمَعْنَى تَقِيكُمُ الْحَرَّ تَدْفَعُ عَنْكُمْ ضَرَرَ الْحَرِّ، وَخَصَّ الْحَرَّ وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَرْدَ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ لِأَنَّ مَا وَقَى مِنَ الْحَرِّ وَقَى مِنَ الْبَرْدِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْحَرِّ بِالذِّكْرِ أَنَّ الْوِقَايَةَ مِنْهُ كَانَتْ أَهَمَّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْوِقَايَةِ مِنَ الْبَرْدِ لِغَلَبَةِ الْحَرِّ فِي بِلَادِهِمْ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ وَهِيَ الدُّرُوعُ وَالْجَوَاشِنُ يَتَّقُونَ بِهَا الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ وَالرَّمْيَ. والمعنى: أنها تقيم البأس الذي يصل من بعضهم إِلَى بَعْضٍ فِي الْحَرْبِ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْإِتْمَامِ الْبَالِغِ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ مَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِصُنُوفِ النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا وَبِغَيْرِهَا، وَهُوَ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ سَيُتِمُّ لَهُمْ نِعْمَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ إرادة أن تسلموا، إن مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ النِّعَمِ لَمْ يَسَعْهُ إِلَّا الْإِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِلْحَقِّ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ «تَتِمُّ نِعْمَتُهُ» بِتَاءَيْنِ فَوْقِيَّتَيْنِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ نِعْمَتُهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ تُسْلِمُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّامِ مِنَ السلامة من الْجِرَاحِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ مِنَ الْإِسْلَامِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالِاخْتِيَارُ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ مِنَ السَّلَامَةِ مِنَ الْجِرَاحِ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، أَيْ: لَعَلَّكُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ تُخْلِصُونَ لِلَّهِ الرُّبُوبِيَّةَ، وَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ، وَإِفْرَادُ النِّعْمَةِ،

_ (1) . هو امرؤ القيس. (2) . «الفرع» : الشعر التام. «المتن» : ما عن يمين الصلب وشماله من العصب واللحم. «الفاحم» : الشديد السواد. «القنو» : العذق وهو الشمراخ. «المتعثكل» : الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته.

هُنَا، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمَصْدَرُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَيْ: إِنْ تَوَلَّوْا عَنْكَ وَلَمْ يَقْبَلُوا مَا جِئْتَ بِهِ فَقَدْ تَمَهَّدَ «1» عُذْرُكَ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ لِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ إِلَيْهِمُ الْمُبِينُ، أَيِ: الْوَاضِحُ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَصَرَفَ الْخِطَابَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً لَهُ، وَجُمْلَةُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ تَوَلِّيهِمْ، أَيْ: هُمْ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ الَّتِي عَدَّدَهَا، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا بِمَا يَقَعُ مِنْ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَبِأَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ، حَيْثُ يَقُولُونَ هِيَ مِنَ اللَّهِ وَلَكِنَّهَا بِشَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ، وَحَيْثُ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ وَرِثُوا تِلْكَ النِّعَمَ مِنْ آبَائِهِمْ، وَأَيْضًا كَوْنِهِمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ النِّعَمَ فِي مَرْضَاةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَفِي وُجُوهِ الْخَيْرِ الَّتِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِصَرْفِهَا فِيهَا وَقِيلَ: نِعْمَةُ اللَّهِ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ ثُمَّ يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أَيِ: الْجَاحِدُونَ لِنِعَمِ اللَّهِ أَوِ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ، وَعَبَّرَ هُنَا بِالْأَكْثَرِ عَنِ الْكُلِّ، أَوْ أَرَادَ بِالْأَكْثَرِ الْعُقَلَاءَ دُونَ الْأَطْفَالِ وَنَحْوِهِمْ، أَوْ أَرَادَ كُفْرَ الْجُحُودِ وَلَمْ يَكُنْ كُفْرُ كُلِّهِمْ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ كُفْرُ بَعْضِهِمْ كُفْرَ جَهْلٍ، وَكُفْرُ بَعْضِهِمْ بِسَبَبِ تكذيب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِاللَّهِ وَعَدَمِ الْجَحْدِ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ «2» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ سَكَنًا قَالَ: تَسْكُنُونَ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ قَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً وَهِيَ خِيَامُ الْعَرَبِ تَسْتَخِفُّونَها يَقُولُ: فِي الْحَمْلِ وَمَتاعاً يَقُولُ بَلَاغًا إِلى حِينٍ قَالَ: إِلَى الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ قَالَ: بَعْضُ بُيُوتِ السَّيَّارَةِ بُنْيَانُهُ فِي سَاعَةٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وَأَوْبارِها قَالَ: الْإِبِلُ وَأَشْعارِها قَالَ الْغَنَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَثاثاً قَالَ: الْأَثَاثُ: الْمَتَاعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْأَثَاثُ: الْمَالُ وَمَتاعاً إِلى حِينٍ يَقُولُ: تَنْتَفِعُونَ بِهِ إِلَى حِينٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا قَالَ: مِنَ الشَّجَرِ وَمِنْ غَيْرِهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً قال: غيران يُسْكَنُ فِيهَا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ قَالَ: مِنَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ مِنَ الْحَدِيدِ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ وَلِذَلِكَ هَذِهِ السُّورَةُ تُسَمَّى سُورَةُ النِّعَمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ قَالَ: يَعْنِي الثِّيَابَ، وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ قَالَ: يَعْنِي الدُّرُوعَ وَالسِّلَاحَ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ يعني من الجراحات، وكان ابن عباس يقرؤها تسلمون كما قدّمنا، وإسناده ضعيف.

_ (1) . «تمهّد» : قبل. (2) . النمل: 14.

[سورة النحل (16) : الآيات 84 إلى 90]

[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 90] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ عَرَفُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ أَنْكَرُوهَا، وَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَافِرُونَ أَتْبَعَهُ بِأَصْنَافِ وَعِيدِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أَيْ: وَاذْكُرْ يَوْمَ نَبْعَثُ، أَوْ يَوْمَ نَبْعَثُ وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَشَهِيدُ كُلِّ أُمَّةٍ نَبِيُّهَا يَشْهَدُ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، وَعَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْجُحُودِ وَالتَّكْذِيبِ ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ: فِي الِاعْتِذَارِ، إِذْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ وَلَا عُذْرَ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، أَوْ فِي كَثْرَةِ الْكَلَامِ، أَوْ فِي الرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا، وَإِيرَادُ ثُمَّ هَاهُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ابْتِلَاءَهُمْ بِالْمَنْعِ عَنِ الِاعْتِذَارِ الْمُنْبِئِ عَنِ الْإِقْنَاطِ الْكُلِّيِّ أَشَدُّ مِنِ ابْتِلَائِهِمْ بِشَهَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لِأَنَّ الْعِتَابَ إِنَّمَا يُطْلَبُ لِأَجْلِ الْعَوْدِ إِلَى الرِّضَا، فَإِذَا كَانَ عَلَى عَزْمِ السُّخْطِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْعِتَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُسْتَرْضَوْنَ أَيْ: لَا يُكَلَّفُونَ أَنْ يُرْضُوا رَبَّهُمْ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ، وَلَا يُتْرَكُونَ إِلَى رُجُوعِ الدُّنْيَا فَيَتُوبُونَ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْعَتَبِ وَهُوَ الْمُوجَدُ، يُقَالُ عَتَبَ عَلَيْهِ يَعْتِبُ إِذَا وَجِدَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفَاضَ عَلَيْهِ مَا عَتَبَ فِيهِ عَلَيْهِ قِيلَ عَاتَبَهُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَسَرَّتِهِ قِيلَ أَعْتَبَهُ، وَالِاسْمُ الْعُتْبَى، وَهُوَ رُجُوعُ الْمَعْتُوبِ عَلَيْهِ إِلَى مَا يُرْضِي الْعَاتِبَ قَالَهُ الْهَرَوِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: فَإِنْ كُنْتُ مَظْلُومًا فَعَبْدًا ظَلَمْتَهُ ... وَإِنْ كُنْتُ ذَا عُتْبَى فَمِثْلُكَ يَعْتِبُ وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ أَيْ: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا الْعَذَابَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِشِرْكِهِمْ، وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ فَلا يُخَفَّفُ ذَلِكَ الْعَذَابُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أَيْ: وَلَا هُمْ يُمْهَلُونَ لِيَتُوبُوا إِذْ لَا تَوْبَةَ هُنَالِكَ وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ أَيْ: أَصْنَامَهُمْ وَأَوْثَانَهُمُ الَّتِي عَبَدُوهَا، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لِيُقَالَ لَهُمْ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ أَيِ: الَّذِينَ كُنَّا نَعْبُدُهُمْ مِنْ دُونِكَ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: مَقْصُودُ الْمُشْرِكِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ إِحَالَةُ الذَّنْبِ عَلَى تِلْكَ الْأَصْنَامِ تَعَلُّلًا بِذَلِكَ وَاسْتِرْوَاحًا مَعَ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّ الْغَرِيقَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَا تَقَعُ يَدُهُ عَلَيْهِ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ

أَيْ: أَلْقَى أُولَئِكَ الْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ وَالشَّيَاطِينُ وَنَحْوُهُمْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أَيْ: قَالُوا لَهُمْ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ لَكَاذِبُونَ فِيمَا تَزْعُمُونَ مِنْ إِحَالَةِ الذَّنْبِ عَلَيْنَا، الَّذِي هُوَ مَقْصُودُكُمْ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَشَارُوا إِلَى الْأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الذين كنا ندعوا مِنْ دُونِكَ، وَقَدْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي ذَلِكَ، فَكَيْفَ كَذَّبَتْهُمُ الْأَصْنَامُ وَنَحْوُهَا؟ فَالْجَوَابُ بِأَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا: هَؤُلَاءِ شُرَكَاءُ اللَّهِ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، فَكَذَّبَتْهُمُ الْأَصْنَامُ فِي دَعْوَى هَذِهِ الشَّرِكَةِ وَالْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَقْدِرُ عَلَى النُّطْقِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُنْطِقُهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ لِتَخْجِيلِ الْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخِهِمْ، وَهَذَا كَمَا قالت الملائكة: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ «1» يَعْنُونَ أَنَّ الْجِنَّ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا رَاضِينَ بِعِبَادَتِهِمْ لَهُمْ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أَيْ: أَلْقَى الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الِاسْتِسْلَامَ وَالِانْقِيَادَ لِعَذَابِهِ وَالْخُضُوعَ لِعِزَّتِهِ، وَقِيلَ: اسْتَسْلَمَ الْعَابِدُ وَالْمَعْبُودُ وَانْقَادُوا لِحُكْمِهِ فِيهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ: ضَاعَ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ شُرَكَاءَ وَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ مِنْ شَفَاعَتِهِمْ لَهُمْ، وَأَنَّ عِبَادَتَهُمْ لَهُمْ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَصَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَهِيَ طَرِيقُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ بِأَنْ مَنَعُوهُمْ مِنْ سُلُوكِهَا وَحَمَلُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: الصَّدُّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْأَوْلَى الْعُمُومُ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَنَعُوا هَذَا الصُّنْعَ بِقَوْلِهِ: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ أَيْ: زَادَهُمُ اللَّهُ عَذَابًا لِأَجْلِ الْإِضْلَالِ لِغَيْرِهِمْ فَوْقَ الْعَذَابِ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ لِأَجْلِ ضَلَالِهِمْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: زِدْنَا الْقَادَةَ عَذَابًا فَوْقَ عَذَابِ أَتْبَاعِهِمْ، أَيْ: أَشَدَّ مِنْهُ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ هِيَ إِخْرَاجُهُمْ مِنَ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ أَيْ: نَبِيًّا يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، إِتْمَامًا لِلْحُجَّةِ وَقَطْعًا لِلْمَعْذِرَةِ، وَهَذَا تَكْرِيرٌ لِمَا سَبَقَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَجِئْنا بِكَ يَا مُحَمَّدُ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ أَيْ: تَشْهَدُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَمِ وَتَشْهَدُ لَهُمْ، وَقِيلَ: عَلَى أُمَّتِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أَيِ: الْقُرْآنَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ قَدْ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ أَيْ: بَيَانًا لَهُ، وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْمَصَادِرِ التِّلْقَاءُ، وَلَمْ يَأْتِ غَيْرُهُمَا، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «2» ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّ فِيهِ الْبَيَانَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالْإِحَالَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا عَلَى السُّنَّةِ، وَأَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَطَاعَتِهِ كَمَا فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ ومثله معه» . وَهُدىً لِلْعِبَادِ وَرَحْمَةً لَهُمْ وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ، أَوْ يَكُونُ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ وَالْبُشْرَى خَاصَّةً بِهِمْ، لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ ذَكَرَ عَقِبَهُ آيَةً جَامِعَةً لِأُصُولِ التَّكْلِيفِ كُلِّهَا تَصْدِيقًا لِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، فَقِيلَ: الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَقِيلَ: الْعَدْلُ الْفَرْضُ، وَالْإِحْسَانُ النَّافِلَةُ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ اسْتِوَاءُ الْعَلَانِيَةِ وَالسَّرِيرَةِ، والإحسان أن تكون

_ (1) . سبأ: 41. (2) . الأنعام: 38. [.....]

السَّرِيرَةُ أَفْضَلَ مِنَ الْعَلَانِيَةِ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ الْإِنْصَافُ، وَالْإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ. وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْعَدْلِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فَمَعْنَى أَمْرِهِ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ أَنْ يَكُونَ عِبَادُهُ فِي الدِّينِ عَلَى حَالَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ لَيْسَتْ بِمَائِلَةٍ إِلَى جَانِبِ الْإِفْرَاطِ وَهُوَ الْغُلُوُّ الْمَذْمُومُ فِي الدِّينِ، وَلَا إِلَى جَانِبِ التَّفْرِيطِ وَهُوَ الْإِخْلَالُ بِشَيْءٍ مِمَّا هُوَ مِنَ الدِّينِ وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَمَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّهُ التَّفَضُّلُ بِمَا لَمْ يَجِبْ كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَمِنَ الْإِحْسَانِ فِعْلُ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِمَّا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ الْإِحْسَانَ بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ الْعَبْدُ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «وَالْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِحْسَانِ شَرْعًا وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أَيْ: إِعْطَاءِ الْقَرَابَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَتُهُمْ، وَفِي الْآيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى صِلَةِ الْأَقَارِبِ وَتَرْغِيبٌ فِي التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ إِنْ كَانَ إِعْطَاءُ الْأَقَارِبِ قَدْ دَخَلَ تَحْتَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَقِيلَ: مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْوَاجِبِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ «1» . وَإِنَّمَا خَصَّ ذَوِي الْقُرْبَى لِأَنَّ حَقَّهُمْ آكِدُ، فَإِنَّ الرَّحِمَ قَدِ اشْتَقَّ اللَّهُ اسْمَهَا مِنِ اسْمِهِ، وَجَعَلَ صِلَتَهَا مِنْ صِلَتِهِ وَقَطِيعَتَهَا مِنْ قَطِيعَتِهِ وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ هِيَ الْخَصْلَةُ الْمُتَزَايِدَةُ فِي الْقُبْحِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَقِيلَ: هِيَ الزِّنَا، وَقِيلَ: الْبُخْلُ وَالْمُنْكَرِ مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَهُوَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَقِيلَ: هُوَ الشِّرْكُ وَأما الْبَغْيِ فَقِيلَ: هُوَ الْكِبْرُ، وَقِيلَ: الظُّلْمُ، وَقِيلَ: الْحِقْدُ، وَقِيلَ: التَّعَدِّي، وَحَقِيقَتُهُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فَيَشْمَلُ هَذِهِ الْمَذْكُورَةَ وَيَنْدَرِجُ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ تَحْتَ الْمُنْكَرِ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ اهْتِمَامًا بِهِ لِشِدَّةِ ضَرَرِهِ وَوَبَالِ عَاقِبَتِهِ، وَهُوَ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تَرْجِعُ عَلَى فَاعِلِهَا لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «2» ، وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ خَتَمَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ: يَعِظُكُمْ بِمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، فَإِنَّهَا كَافِيَةٌ فِي بَابِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ إِرَادَةَ أَنْ تَتَذَكَّرُوا مَا يَنْبَغِي تَذَكُّرُهُ فَتَتَّعِظُوا بِمَا وَعَظَكُمُ اللَّهُ بِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً قَالَ: شَهِيدُهَا نَبِيُّهَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ، قَالَ اللَّهُ: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَاضَتْ عَيْنَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ قَالَ: حَدَّثُوهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ قَالَ: اسْتَسْلَمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ قَالَ: زِيدُوا عَقَارِبَ لَهَا أَنْيَابٌ كَالنَّخْلِ الطِّوَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ عَنِ الْبَرَاءِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ، فقال: عقارب أمثال

_ (1) . الإسراء: 26. (2) . يونس: 23.

النَّخْلِ الطِّوَالِ يَنْهَشُونَهُمْ فِي جَهَنَّمَ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ قَالَ: خَمْسَةُ أَنْهَارٍ مِنْ نَارٍ صَبَّهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ يُعَذَّبُونَ بِبَعْضِهَا بِاللَّيْلِ، وَبِبَعْضِهَا بِالنَّهَارِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الزِّيَادَةُ خَمْسَةُ أَنْهَارٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ على رؤوس أَهْلِ النَّارِ: ثَلَاثَةُ أَنْهَارٍ عَلَى مِقْدَارِ اللَّيْلِ، ونهران على مقدار النهار» فذلك قَوْلُهُ: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي هَذَا الْكِتَابِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ عِلْمَنَا يَقْصُرُ عَمَّا بُيِّنَ لَنَا فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَرَأَ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ الضُّرَيْسِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: من أراد العلم فليتنوّر الْقُرْآنَ، فَإِنَّ فِيهِ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا إِذْ شَخَصَ بَصَرُهُ فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ السُّورَةِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الْآيَةَ» . وَفِي إِسْنَادِهِ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: إِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُطَوَّلًا أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَسَّنَ ابْنُ كَثِيرٍ إِسْنَادَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَاوَرْدِيُّ وَابْنُ السَّكَنِ وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لما بلغت أكثم ابن صَيْفِيٍّ حَكِيمَ الْعَرَبِ قَالَ: إِنِّي أَرَاهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَيَنْهَى عَنْ مَلَائِمِهَا، ثُمَّ قَالَ لقومه: كونوا في هذا الأمر رؤوسا، وَلَا تَكُونُوا فِيهِ أَذْنَابًا، وَكُونُوا فِيهِ أَوَّلًا وَلَا تَكُونُوا فِيهِ آخِرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى قَالَ: إِعْطَاءُ ذَوِي الْأَرْحَامِ الْحَقَّ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ قَالَ: الزِّنَا وَالْمُنْكَرِ قَالَ: الشِّرْكُ وَالْبَغْيِ قَالَ: الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ يَعِظُكُمْ قَالَ: يُوصِيكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي الصَّلَاةِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ قَالَ: أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ «1» ، وَأَجْمَعُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ الْآيَةُ الَّتِي فِي النَّحْلِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَأَكْثَرُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَفْوِيضًا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً- وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «2» ، وأشدّ آية في كتاب الله رجاء: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «3» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ إِلَى آخِرِهَا ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَمَعَ لَكُمُ الْخَيْرَ كُلَّهُ والشرّ كله في آية واحدة، فو الله مَا تَرَكَ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا جَمَعَهُ، وَلَا تَرَكَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ وَالْبَغْيُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا جَمَعَهُ. وأخرج البخاري

_ (1) . البقرة: 255. (2) . الطلاق: 2 و 3. (3) . الزمر: 53.

[سورة النحل (16) : الآيات 91 إلى 96]

فِي تَارِيخِهِ، مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِقَوْمٍ يَتَحَدَّثُونَ فَقَالَ: فِيمَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَتَذَاكَرُ الْمُرُوءَةَ، فقال: أو ما كَفَاكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ إِذْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ فَالْعَدْلُ الْإِنْصَافُ، وَالْإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ، فَمَا بَقِيَ بَعْدَ هذا؟. [سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 96] وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (96) خَصَّ سُبْحَانَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْمُورَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ فَقَالَ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ عَهْدٍ يَقَعُ مِنَ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ عَهْدِ الْبَيْعَةِ وَغَيْرِهِ، وَخَصَّ هَذَا الْعَهْدَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْعَهْدِ الْكَائِنِ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ خِلَافُ مَا يُفِيدُهُ الْعَهْدُ الْمُضَافُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ عُهُودِ اللَّهِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ السَّبَبَ خَاصٌّ بِعَهْدٍ مِنَ الْعُهُودِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِقَصْرِهِ عَلَى السَّبَبِ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْيَمِينِ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِذِكْرِ الْوَفَاءِ بِالْأَيْمَانِ بَعْدَهُ حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها أَيْ: بَعْدَ تَشْدِيدِهَا وَتَغْلِيظِهَا وَتَوْثِيقِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ اخْتِصَاصَ النَّهْيِ عَنِ النَّقْضِ بِالْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ، لَا بِغَيْرِهَا مِمَّا لَا تَأْكِيدَ فِيهِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ النَّقْضِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، وَلَكِنْ فِي نَقْضِ الْيَمِينِ الْمُؤَكَّدَةِ مِنَ الْإِثْمِ فَوْقَ الْإِثْمِ الَّذِي فِي نَقْضِ مَا لَمْ يُوَكَّدْ مِنْهَا، يُقَالُ وَكَّدَ وَأَكَّدَ تَوْكِيدًا وَتَأْكِيدًا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَصْلُ الْوَاوُ وَالْهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنْهَا، وَهَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ بِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» حَتَّى بَالَغَ فِي ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي» وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُخَصُّ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْعُمُومِ يَمِينُ اللَّغْوِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ «1» ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ بِالتَّوْكِيدِ هُنَا لِإِخْرَاجِ أَيْمَانِ اللَّغْوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى الْأَيْمَانِ فِي الْبَقَرَةِ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أَيْ: شَهِيدًا، وَقِيلَ: حَافِظًا، وَقِيلَ: ضَامِنًا، وقيل:

_ (1) . البقرة: 225.

رَقِيبًا لِأَنَّ الْكَفِيلَ يُرَاعِي حَالَ الْمَكْفُولِ بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ تَوْكِيدَ الْيَمِينِ هُوَ حَلِفُ الْإِنْسَانِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِرَارًا. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ التَّوْكِيدَ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ حَلَفَ وَاحِدَةً فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ فَيُجَازِيكُمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَفِيهِ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ. ثُمَّ أَكَّدَ وُجُوبَ الْوَفَاءِ وَتَحْرِيمَ النَّقْضِ فَقَالَ: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها أَيْ: لَا تَكُونُوا فِيمَا تَصْنَعُونَ مِنَ النَّقْضِ بَعْدَ التَّوْكِيدِ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا، أَيْ: مَا غَزَلَتْهُ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِبْرَامِ الْغَزَلِ وَإِحْكَامِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِنَقَضَتْ أَنْكاثاً جَمْعُ نِكْثٍ بِكَسْرِ النُّونِ، مَا يُنْكَثُ فَتْلُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: انْتَصَبَ أَنْكَاثًا عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ مَعْنَى نَقَضَتْ نَكَثَتْ وَرُدَّ بِأَنَّ أَنْكَاثًا لَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ جَمْعٌ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ كَمَا تَقُولُ كَسَرْتُهُ أَقْطَاعًا وَأَجْزَاءً، أَيْ: جَعَلْتُهُ أَقْطَاعًا وَأَجْزَاءً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ مِثْلَ امْرَأَةٍ غَزَلَتْ غَزْلًا وَأَحْكَمَتْهُ ثُمَّ جَعَلَتْهُ أَنْكَاثًا، وَجُمْلَةُ تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالدَّخَلُ الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَهُوَ دَخَلٌ. وَقِيلَ: الدَّخَلُ مَا أُدْخِلَ فِي الشَّيْءِ عَلَى فَسَادِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: غشا ودغلا أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ أَيْ بِأَنْ تَكُونَ جَمَاعَةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ جَمَاعَةٍ أَيْ: أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْهَا وَأَوْفَرُ مَالًا. يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا كَثُرَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى لَا تَغْدِرُوا بِقَوْمٍ لِقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِكُمْ أَوْ لِقِلَّتِكُمْ وَكَثْرَتِهِمْ وَقَدْ عَزَّرْتُمُوهُمْ بِالْأَيْمَانِ. قِيلَ: وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ إِذَا رَأَوْا شَوْكَةً فِي أَعَادِي حُلَفَائِهِمْ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ وَحَالَفُوا أَعْدَاءَهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغْتَرُّوا بِكَثْرَةِ قُرَيْشٍ وَسَعَةِ أَمْوَالِهِمْ فَيَنْقُضُوا بَيْعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أَيْ: يَخْتَبِرُكُمْ بِكَوْنِكُمْ أَكْثَرَ وَأَوْفَرَ لِيَنْظُرَ هَلْ تَتَمَسَّكُونَ بِحَبَلِ الْوَفَاءِ أَمْ تَنْقُضُونَ اغْتِرَارًا بِالْكَثْرَةِ؟ فَالضَّمِيرُ فِي «بِهِ» رَاجِعٌ إِلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ أَيْ: إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِتِلْكَ الْكَثْرَةِ لِيَعْلَمَ مَا تَصْنَعُونَ، أَوْ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِمَا يَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَيُوَضِّحُ الْحَقَّ وَالْمُحِقِّينَ وَيَرْفَعُ دَرَجَاتِهِمْ، وَيُبَيِّنُ الْبَاطِلَ وَالْمُبْطِلِينَ فَيُنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ وَتَحْذِيرٌ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَالرُّكُونِ إِلَى الْبَاطِلِ، أَوْ يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا كُنْتُمْ تَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ عَلَى الْوَفَاءِ أَوْ عَلَى الْإِيمَانِ فَقَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً مُتَّفِقَةً عَلَى الْحَقِّ وَلكِنْ بِحُكْمِ الْإِلَهِيَّةِ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ عَدْلًا مِنْهُ فِيهِمْ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بِتَوْفِيقِهِ إياهم فضلا منه عليهم: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» ، ولهذا قال: وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا، وَاللَّامُ فِي. «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ» ، وَفِي «وَلَتُسْأَلُنَّ» هُمَا الْمُوَطِّئَتَانِ لِلْقَسَمِ. ثُمَّ لَمَّا نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ عَنْ نَقْضِ مُطْلَقِ الْأَيْمَانِ نَهَاهُمْ عَنْ نَقْضِ أَيْمَانٍ مَخْصُوصَةٍ فَقَالَ: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ وَهِيَ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَهَذَا فِي نَهْيِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَنُصْرَةِ الدِّينِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التخصيص بما في قوله:

_ (1) . الأنبياء: 23.

فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها مِنَ الْمُبَالَغَةِ، وَبِمَا فِي قَوْلِهِ: وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا تَكْرِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَمَعْنَى «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا» فَتَزِلُّ قَدَمُ مَنِ اتَّخَذَ يَمِينَهُ دَخَلًا عَنْ مَحَجَّةِ الْحَقِّ بَعْدَ ثُبُوتِهَا عَلَيْهَا وَرُسُوخِهَا فِيهَا. قِيلَ: وَأَفْرَدَ الْقَدَمَ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ زَلَلَ قَدَمٍ وَاحِدٍ أَيُّ قَدَمٍ كَانْتْ عَزَّتْ أَوْ هَانَتْ مَحْذُورٌ عَظِيمٌ، فَكَيْفَ بِأَقْدَامٍ كَثِيرَةٍ؟ وَهَذَا اسْتِعَارَةٌ لِلْمُسْتَقِيمِ الْحَالِ يَقَعُ فِي شَرٍّ عَظِيمٍ وَيَسْقُطُ فِيهِ لِأَنَّ الْقَدَمَ إِذَا زَلَّتْ نَقَلَتِ الْإِنْسَانَ مِنْ حَالِ خَيْرٍ إِلَى حَالِ شَرٍّ، وَيُقَالُ لِمَنْ أَخْطَأَ فِي شَيْءٍ: زَلَّتْ بِهِ قَدَمُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا «2» وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا ... وَذِبْيَانُ قَدْ زَلَّتْ بِأَقْدَامِهَا النَّعْلُ وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ أَيْ: تَذُوقُوا الْعَذَابَ السَّيِّئَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: بِسَبَبِ صُدُودِكُمْ أَنْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، أَوْ بِسَبَبِ صَدِّكُمْ لِغَيْرِكُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ مَنْ نَقَضَ الْبَيْعَةَ وَارْتَدَّ اقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ فَكَانَ فِعْلُهُ سُنَّةً سَيِّئَةً عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أَيْ: مُتَبَالِغٌ فِي الْعِظَمِ، وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَا قَبْلَهُ عَذَابَ الدُّنْيَا. ثُمَّ نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ عَنِ الْمَيْلِ إِلَى عَرَضِ الدُّنْيَا وَالرُّجُوعِ عَنِ الْعَهْدِ لِأَجْلِهِ فَقَالَ: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أَيْ: لَا تَأْخُذُوا فِي مُقَابَلَةِ عَهْدِكُمْ عِوَضًا يَسِيرًا حَقِيرًا، وَكُلُّ عَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَإِنْ كَانَ فِي الصُّورَةِ كَثِيرًا فَهُوَ لِكَوْنِهِ ذَاهِبًا زَائِلًا يَسِيرٌ، وَلِهَذَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ تَقْلِيلِ عَرَضِ الدُّنْيَا خَيْرِيَّةَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: مَا عِنْدَهُ مِنَ النَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْغَنَائِمِ وَالرِّزْقِ الْوَاسِعِ، وَمَا عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يَنْقَطِعُ هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، ثُمَّ عَلَّلَ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا وَأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى حَقَارَةِ عَرَضِ الدُّنْيَا وَخَيْرِيَّةِ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَمَعْلُومٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ مَا يَنْفَدُ وَيَزُولُ، وَإِنْ بَلَغَ فِي الْكَثْرَةِ إِلَى أَيِّ مَبْلَغٍ فَهُوَ حَقِيرٌ يَسِيرٌ، وَمَا كَانَ يَبْقَى وَلَا يَزُولُ فَهُوَ كَثِيرٌ جَلِيلٌ، أَمَّا نَعِيمِ الْآخِرَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا نَعِيِمُ الدُّنْيَا الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ زَائِلًا، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَّصِلًا بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فِي حُكْمِ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ، أَيْ: لَنَجْزِيَنَّهُمْ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى مَا نَالَهُمْ مِنْ مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ وَجِهَادِ الْكَافِرِينَ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا يَنَالُهُمْ مِنْهُمْ مِنَ الْإِيذَاءِ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الطَّاعَاتِ. قِيلَ: وَإِنَّمَا خَصَّ أَحْسَنَ أَعْمَالِهِمْ، لِأَنَّ مَا عَدَاهُ وَهُوَ الْحَسَنُ مُبَاحٌ، وَالْجَزَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الطَّاعَةِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ بِجَزَاءٍ أَشْرَفَ وَأَوْفَرَ مِنْ عَمَلِهِمْ، كَقَوْلِهِ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «3»

_ (1) . هو زهير بن أبي سلمى. (2) . في اللسان: الأحلاف. (3) . الأنعام: 160.

[سورة النحل (16) : الآيات 97 إلى 105]

أَوْ لَنَجْزِيَنَّهُمْ بِحَسَبِ أَحْسَنِ أَفْرَادِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى مَعْنَى لَنُعْطِيَنَّهُمْ بِمُقَابَلَةِ الْفَرْدِ الْأَدْنَى مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَذْكُورَةِ مَا نُعْطِيهِمْ بِمُقَابَلَةِ الْفَرْدِ الْأَعْلَى مِنْهَا مِنَ الْجَزَاءِ الْجَزِيلِ، لَا أَنَّا نُعْطِي الْأَجْرَ بِحَسَبِ أَفْرَادِهَا الْمُتَفَاوِتَةِ فِي مَرَاتِبِ الْحَسَنِ بِأَنْ نَجْزِيَ الْحَسَنَ مِنْهَا بِالْأَجْرِ الْحَسَنِ، وَالْأَحْسَنَ بِالْأَحْسَنِ، كَذَا قِيلَ. قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ كَثِيرٍ «لَنَجْزِيَنَّ» بِالنُّونِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن مزيد بْنِ جَابِرٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيْعَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ مَنْ أَسْلَمَ بَايَعَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ الْآيَةَ فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ قِلَّةُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَكَثْرَةُ الْمُشْرِكِينَ أَنْ تَنْقُضُوا الْبَيْعَةَ الَّتِي بَايَعْتُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها يَقُولُ: بَعْدَ تَغْلِيظِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَعِيدَةَ الْأَسْدِيَّةَ كَانَتْ تَجْمَعُ الشَّعْرَ وَاللِّيفَ، فَنَزَلَتْ فِيهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ مِثْلَهُ، وَفِي الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا أَنَّهَا كَانَتْ مَجْنُونَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ بِمَكَّةَ تُسَمَّى خَرْقَاءُ مَكَّةَ، كَانَتْ تَغْزِلُ، فَإِذَا أَبْرَمَتْ غَزْلَهَا نَقَضَتْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ مَعْنَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ قَالَ: نَاسٌ أَكْثَرُ مِنْ نَاسٍ. وَأَخْرَجُوا عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانُوا يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ فَيَجِدُونَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَعَزَّ فَيَنْقُضُونَ حِلْفَ هَؤُلَاءِ، وَيُحَالِفُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَعَزُّ، فَنُهُوا عَنْ ذلك. [سورة النحل (16) : الآيات 97 الى 105] مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) هَذَا شُرُوعٌ فِي تَرْغِيبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَتَعْمِيمٌ لِلْوَعْدِ وَمَعْنَى مَنْ عَمِلَ صالِحاً مَنْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا أَيَّ عَمَلٍ كَانَ، وَزِيَادَةُ التَّمْيِيزِ بِذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مَعَ كَوْنِ لَفْظِ مَنْ شَامِلًا لهما لقصد

التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَقْرِيرِ الْوَعْدِ وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَ «مَنْ» ظَاهِرٌ فِي الذُّكُورِ، فَكَانَ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بَيَانٌ لِشُمُولِهِ لِلنَّوْعَيْنِ وَجُمْلَةُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، جَعَلَ سُبْحَانَهُ الْإِيمَانَ قَيْدًا فِي الْجَزَاءِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ عَمَلَ الْكَافِرِ لَا اعْتِدَادَ بِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «1» ، ثم ذكر سبحانه الْجَزَاءَ لِمَنْ عَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فَقَالَ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ بِمَاذَا تَكُونُ؟ فَقِيلَ: بِالرِّزْقِ الْحَلَالِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: بِالْقَنَاعَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ وَهْبٍ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: بِالتَّوْفِيقِ إِلَى الطَّاعَةِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ حَيَاةُ الْجَنَّةِ، رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَطِيبُ الْحَيَاةُ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ السَّعَادَةُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هِيَ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: هِيَ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: هِيَ أَنْ يُنْزَعَ عَنِ الْعَبْدِ تَدْبِيرُ نَفْسِهِ وَيُرَدُّ تَدْبِيرُهُ إِلَى الْحَقِّ. وَقِيلَ: هِيَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الْخَلْقِ وَالِافْتِقَارُ إِلَى الْحَقِّ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ هِيَ فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ حَيَاةَ الْآخِرَةِ قَدْ ذُكِرَتْ بِقَوْلِهِ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا تَفْسِيرَ الْجَزَاءِ بِالْأَحْسَنِ، وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي لَنُحْيِيَنَّهُ، وَجَمَعَهُ فِي وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَعَلَى مَعْنَاهُ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْجَزَاءَ عَلَيْهِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الِاسْتِعَاذَةِ الَّتِي تَخْلُصُ بِهَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ عَنِ الْوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَقَالَ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ والفاء لترتيب الاستعاذة على الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «2» ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا أَخَذْتَ فِي قِرَاءَتِهِ فَاسْتَعِذْ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ: مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ اسْتَعِذْ بَعْدَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَمِثْلُهُ: إِذَا أَكَلْتَ فَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا إِجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ سِيرِينَ وَدَاوُدَ وَمَالِكٍ وَحَمْزَةَ مِنَ الْقُرَّاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الِاسْتِعَاذَةُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، ذَهَبُوا إِلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ وَمَعْنَى فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ: اسْأَلْهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعِيذَكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، أَيْ: مِنْ وَسَاوِسِهِ، وَتَخْصِيصُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ بَيْنِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ إِرَادَتِهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهَا لِسَائِرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عِنْدَ إِرَادَتِهَا أَهَمُّ، لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِهَا عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ كَانَتْ عِنْدَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ أَوْلَى، كَذَا قِيلَ. وَتَوْجِيهُ الْخِطَابَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ بِفِعْلِ الِاسْتِعَاذَةِ لِأَنَّهُ إِذَا أُمِرَ بِهَا لِدَفْعِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ مَعَ عِصْمَتِهِ، فَكَيْفَ بِسَائِرِ أُمَّتِهِ؟ وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ لِلنَّدْبِ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْوُجُوبُ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ لِلشَّأْنِ أَوْ لِلشَّيْطَانِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ تَسَلُّطٌ عَلَى إِغْوَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا السُّلْطَانَ بِالْحُجَّةِ. وقالوا: المعنى ليس

_ (1) . الفرقان: 23. (2) . النحل: 89.

لَهُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي إِغْوَائِهِمْ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الضَّلَالَةِ وَمَعْنَى وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يُفَوِّضُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ يَمْنَعَانِ الشَّيْطَانَ مِنْ وَسْوَسَتِهِ لَهُمْ، وَإِنْ وَسْوَسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ وَسْوَسَتُهُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَهَؤُلَاءِ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالتَّوَكُّلِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ إِبْلِيسُ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، وَقَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «1» ، ثُمَّ حَصَرَ سُبْحَانَهُ سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ: إِنَّما سُلْطانُهُ أَيْ: تَسَلُّطُهُ عَلَى الْإِغْوَاءِ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ أَيْ: يَتَّخِذُونَهُ وَلِيًّا وَيُطِيعُونَهُ فِي وَسَاوِسِهِ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ الضَّمِيرُ فِي بِهِ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيِ: الَّذِينَ هُمْ بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ، وَقِيلَ: يَرْجِعُ إِلَى الشَّيْطَانِ وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ أَجْلِهِ وَبِسَبَبِ وَسْوَسَتِهِ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ هَذَا شُرُوعٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِي حِكَايَةٍ شِبْهُ كُفْرِيَّةٍ وَدَفْعِهَا، وَمَعْنَى التَّبْدِيلِ: رَفْعُ الشَّيْءِ مَعَ وَضْعِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ، وَتَبْدِيلُ الْآيَةِ رَفْعُهَا بِأُخْرَى غَيْرِهَا، وَهُوَ نَسْخُهَا بِآيَةٍ سِوَاهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي النَّسْخِ فِي الْبَقَرَةِ قالُوا أَيْ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْجَاهِلُونَ لِلْحِكْمَةِ فِي النَّسْخِ إِنَّما أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مُفْتَرٍ أَيْ: كَاذِبٌ مُخْتَلِقٌ عَلَى اللَّهِ مُتَقَوِّلٌ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يَقُلْ، حَيْثُ تَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَرَكَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَرَكَ بِخِلَافِهِ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يُفِيدُ جَهْلَهُمْ فَقَالَ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ أَصْلًا، أَوْ لَا يَعْلَمُونَ بِالْحِكْمَةِ فِي النَّسْخِ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَصَالِحِ الَّتِي يَعْلَمُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَقَدْ يَكُونُ فِي شَرْعِ هَذَا الشَّيْءِ مَصْلَحَةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتٍ، ثُمَّ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي شَرْعِ غَيْرِهِ، وَلَوِ انْكَشَفَ الْغِطَاءُ لِهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ لَعَرَفُوا أَنَّ ذَلِكَ وَجْهُ الصَّوَابِ وَمَنْهَجُ الْعَدْلِ وَالرِّفْقِ وَاللُّطْفِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَى حِكْمَةِ النَّسْخِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَرَاهُ فَقَالَ: قُلْ نَزَّلَهُ أَيِ: الْقُرْآنَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْآيَةِ رُوحُ الْقُدُسِ أَيْ جِبْرِيلُ، وَالْقُدْسُ التَّطْهِيرُ وَالْمَعْنَى: نَزَّلَهُ الرُّوحُ الْمُطَهَّرُ مِنْ أَدْنَاسِ الْبَشَرِيَّةِ، فَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الموصوف إِلَى الصِّفَةِ مِنْ رَبِّكَ أَيِ: ابْتِدَاءُ تَنْزِيلِهِ من عنده سبحانه، وبِالْحَقِّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ مُتَلَبِّسًا بِكَوْنِهِ حَقًّا ثَابِتًا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الْإِيمَانِ، فَيَقُولُونَ: كُلٌّ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَلِأَنَّهُمْ أَيْضًا إِذَا عَرَفُوا مَا فِي النَّسْخِ مِنَ الْمَصَالِحِ ثَبَتَتْ أَقْدَامُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَرَسَخَتْ عَقَائِدُهُمْ. وَقُرِئَ لِيُثَبِّتَ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمَا مَعْطُوفَانِ عَلَى مَحَلِّ لِيُثَبِّتَ، أَيْ: تَثْبِيتًا لَهُمْ وَهِدَايَةً وَبِشَارَةً، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِحُصُولِ أَضْدَادِ هَذِهِ الْخِصَالِ لِغَيْرِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شُبْهَةً أُخْرَى مَنْ شُبَهِهِمْ فَقَالَ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ، أَيْ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا الْقُرْآنَ بَشَرٌ مِنْ بَنِي آدَمَ غَيْرُ مَلَكٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْبَشَرِ الَّذِي زَعَمُوا عَلَيْهِ مَا زَعَمُوا، فَقِيلَ هُوَ غُلَامُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَاسْمُهُ جَبْرٌ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَكَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ إِذَا سَمِعُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارَ الْقُرُونِ الْأُولَى مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا، قَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ جَبْرٌ. وَقِيلَ: اسْمُهُ يَعِيشُ، عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ الْأَعْجَمِيَّةَ. وَقِيلَ: غُلَامٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَقِيلَ: هما غلامان اسم أحدهما

_ (1) . الحجر: 42.

يسار، واسم الآخر جبر، وكانا صيقلين «1» يَعْمَلَانِ السُّيُوفَ. وَكَانَا يَقْرَآنِ كِتَابًا لَهُمْ، وَقِيلَ: كَانَا يَقْرَآنِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَقِيلَ: عَنَوْا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ. وَقِيلَ: عَنَوْا نَصْرَانِيًّا بِمَكَّةَ اسْمُهُ بَلْعَامُ، وَكَانَ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ. وَقِيلَ: عَنَوْا رَجُلًا نَصْرَانِيًّا كَانَ اسْمُهُ أَبَا مَيْسَرَةَ يَتَكَلَّمُ بِالرُّومِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ اسْمُهُ عَدَّاسٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ غَيْرُ مُتَنَاقِضَةٍ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ جَمِيعًا يُعَلِّمُونَهُ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ سَلْمَانُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَهُوَ إِنَّمَا أَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ. ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا فَقَالَ: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ الْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ، يُقَالُ: لَحَدَ وَأَلْحَدَ أَيْ: مَالَ عَنِ الْقَصْدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَلْحَدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُمَا بِضَمِّ الْيَاءِ وكسر الحاء، أي: لسان الذين يَمِيلُونَ إِلَيْهِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُعَلِّمُكَ أَعْجَمِيٌّ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَعْجَمُ وَامْرَأَةٌ عَجْمَاءُ أَيْ: لَا يُفْصِحَانِ، وَالْعُجْمَةُ: الْإِخْفَاءُ، وَهِيَ ضِدُّ الْبَيَانِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ لُغَتَهُمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهَا أَعْجَمِيًّا. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَعْجَمُ الَّذِي فِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْأَعْجَمِيُّ: هُوَ الْعَجَمِيُّ الَّذِي أَصْلُهُ مِنَ الْعَجَمِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْعَجَمِيُّ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْعَجَمِ الَّذِي لَا يُفْصِحُ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنَ الْعَجَمِ، وَكَذَلِكَ الْأَعْجَمُ، وَالْأَعْجَمِيُّ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْعَجَمِ وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَسَمَّاهُ لِسَانًا لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِلْقَصِيدَةِ وَالْبَيْتِ لِسَانًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لِسَانَ الشَّرِّ تُهْدِيهَا إِلَيْنَا ... وَخُنْتَ وَمَا حَسِبْتُكَ أَنْ تَخُونَا أَوْ أَرَادَ بِاللِّسَانِ الْبَلَاغَةَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَهَذَا الْقُرْآنُ ذُو بَلَاغَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَبَيَانٍ وَاضِحٍ، فَكَيْفَ تَزْعُمُونَ أَنَّ بَشَرًا يُعَلِّمُهُ مِنَ الْعَجَمِ. وَقَدْ عَجَزْتُمْ أَنْتُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ، وَأَنْتُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَرِجَالُ الْفَصَاحَةِ وَقَادَةُ الْبَلَاغَةِ وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ مُسْتَأْنَفَتَانِ سِيقَتَا لِإِبْطَالِ طَعْنِهِمْ وَدَفْعِ كَذِبِهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ جَوَابَهُمْ وَبَّخَهُمْ وَهَدَّدَهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِهَا لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ سَبِيلُ النَّجَاةِ هِدَايَةً مُوَصِّلَةً إِلَى الْمَطْلُوبِ لِمَا عَلِمَ مِنْ شَقَاوَتِهِمْ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ أَلِيمٌ بِسَبَبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّهِ. ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ نِسْبَةُ الِافْتِرَاءِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ فَكَيْفَ يَقَعُ الِافْتِرَاءُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ رَأْسُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا، وَالدَّاعِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهَا، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ هُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، فَهُمُ الْمُفْتَرُونَ لِلْكَذِبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ إِذَا رَأَوُا الْآيَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ كَذَّبُوا بِهَا هَؤُلَاءِ أَكْذَبُ الْكَذَبَةِ، ثُمَّ سَمَّاهُمُ الكاذبين، فقال: وَأُولئِكَ أَيِ: الْمُتَّصِفُونَ بِذَلِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ أَيْ: إِنَّ الْكَذِبَ نَعْتٌ لَازِمٌ لَهُمْ وَعَادَةٌ مِنْ عَادَاتِهِمْ فَهُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْكَذِبِ، إِذْ لَا كَذِبَ أَعْظَمُ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ فَقَالَ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ الرِّزْقُ الْحَلَالُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِذَا صَارَ

_ (1) . الصيقل: الصقّال وهو من صناعته صقل السيوف. [.....]

[سورة النحل (16) : الآيات 106 إلى 111]

إِلَى رَبِّهِ جَازَاهُ بِأَحْسَنِ مَا كَانَ يَعْمَلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْكَسْبُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَأَخْرَجَ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَمْثَالِ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْقَنَاعَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقُنُوعُ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقَتْنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا، وَقَنِعَ بِهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الِاسْتِعَاذَةُ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ قِرَاءَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وَقَدْ وَرَدَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ التِّلَاوَةِ مَا لَعَلَّنَا قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ يَقُولُ: سُلْطَانُ الشَّيْطَانِ عَلَى مَنْ تَوَلَّى الشَّيْطَانَ وَعَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا «1» قَالَ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بالكفار، فأمر بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَارَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ قَالَ: هُوَ كَقَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ بِمَكَّةَ قَيِّنًا اسْمُهُ بَلْعَامُ، وَكَانَ أَعْجَمِيًّا، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَلْعَامُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْهُ فِي الْآيَةِ. قَالَ: قَالُوا إِنَّمَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا عَبْدُ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَهُوَ صَاحِبُ الْكُتُبِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: كَانَ لَنَا عَبْدَانِ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ التَّمْرِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا يَسَارٌ وَالْآخَرُ جَبْرٌ، وَكَانَا يَصْنَعَانِ السُّيُوفَ بِمَكَّةَ، وَكَانَا يَقْرَآنِ الْإِنْجِيلَ، فَرُبَّمَا مَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا يَقْرَآنِ فَيَقِفُ وَيَسْتَمِعُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّمَا يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا، فَنَزَلَتْ هذه الآية.

_ (1) . النحل: 110. (2) . البقرة: 106. [سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 111] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)

قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي إِعْرَابِهِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ، إِمَّا مِنْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ مَنْ كَفَرَ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمُ الْمُكْرَهَ فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حُكْمِ الِافْتِرَاءِ. ثُمَّ قَالَ: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أَيِ: اعْتَقَدَهُ، وَطَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَإِمَّا مِنَ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ: أُولئِكَ، أو من الخبر الذي هو: الْكاذِبُونَ، وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ مَنْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرَهُ مَحْذُوفٌ اكْتُفِيَ مِنْهُ بِخَبَرِ من الثانية، كقولك: من يأتنا من يحسن نُكْرِمْهُ وَقِيلَ: هُوَ، أَيْ مَنْ 106 فِي مَنْ كَفَرَ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ، وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ جَوَابَ مَنْ شَرَحَ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْأَخْفَشِ، وَإِنَّمَا خَالَفَهُ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الشَّرْطِ عَلَى مَنْ وَالْجَوَابُ عَلَى خَبَرِهَا فَكَأَنَّهُ قِيلَ عَلَى هَذَا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، وَإِنَّمَا صَحَّ اسْتِثْنَاءُ الْمُكْرَهِ مِنَ الْكَافِرِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مَا لَا يَظْهَرُ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِ لَوْلَا الْإِكْرَاهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْلَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ كَفَرَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَا تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكُفْرِ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَ الْكُفْرَ كَانَ مُرْتَدًّا فِي الظَّاهِرِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ، وَلَا يَرِثُ أَبَاهُ إِنْ مَاتَ مُسْلِمًا، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ، مَدْفُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَسَحْنُونٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي الْقَوْلِ، وَأَمَّا فِي الْفِعْلِ فَلَا رُخْصَةَ، مِثْلُ أَنْ يُكْرَهَ عَلَى السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَيَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِيمَنْ أُكْرِهَ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَلَا دَلِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْقَاصِرِينَ لِلْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ وَخُصُوصُ السَّبَبِ لَا اعْتِبَارَ بِهِ مَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَجُمْلَةُ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُسْتَثْنَى، أَيْ: إِلَّا مَنْ كَفَرَ بِإِكْرَاهٍ، وَالْحَالُ أَنَّ قَلْبَهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَقِيدَتُهُ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ وَهُوَ الْجَمْعُ لِلْمُرْتَدِّينَ بَيْنَ غَضَبِ اللَّهِ وَعَظِيمِ عَذَابِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، أَوْ إِلَى الْوَعِيدِ بِالْغَضَبِ وَالْعَذَابِ، وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: ذَلِكَ بِسَبَبِ تَأْثِيرِهِمْ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ معطوف على: بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا، أَيْ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا، وَبِأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ أَيِ: الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْمَوَاعِظَ وَلَا سَمِعُوهَا. وَلَا أَبْصَرُوا الْآيَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْحَقِّ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ الطَّبْعِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ أَثْبَتَ لَهُمْ صِفَةَ نَقْصٍ غَيْرَ الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقَالَ: وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ

يُفِيدُ أَنَّهُمْ مُتَنَاهُونَ فِي الْغَفْلَةِ، إِذْ لَا غَفْلَةَ أَعْظَمُ مِنْ غَفْلَتِهِمْ هَذِهِ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْخُسْرَانِ الْبَالِغُونَ إِلَى غَايَةٍ مِنْهُ لَيْسَ فَوْقَهَا غَايَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي مَعْنَى: لَا جَرَمَ، فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا مَا هُوَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَخَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ خَبَرِ إِنَّ رَبَّكَ الْمُتَأَخِّرَةِ عَلَيْهِ وَقِيلَ: الْخَبَرُ هُوَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا أَيْ: إِنَّ رَبَّكَ لَهُمْ بِالْوَلَايَةِ وَالنُّصْرَةِ لَا عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ بُعْدٌ وَقِيلَ: إِنَّ خَبَرَهَا هُوَ قَوْلُهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنَّ رَبَّكَ الثَّانِيَةَ تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى. قال في الكشاف: ثم ها هنا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَبَاعُدِ حَالِ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي الَّذِينَ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ عَنْ حَالِ أُولَئِكَ، وَهُمْ عَمَّارٌ وَأَصْحَابُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ «1» ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا أَيْ: فَتَنَهُمُ الْكُفَّارُ بِتَعْذِيبِهِمْ لَهُمْ لِيَرْجِعُوا فِي الْكُفْرِ، وَقُرِئَ فَتَنُوا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أي: اللذين فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَعَذَّبُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَصَبَرُوا عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَعَلَى مَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ فَتَنُوا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ، أَيْ: إِنَّ رَبَّكَ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ فَتَنُوا مَنْ أَسْلَمَ وَعَذَّبُوهُمْ ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُونِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهِينَ وَصُدُورُهُمْ غَيْرُ مُنْشَرِحَةٍ لِلْكُفْرِ إِذَا صَلَحَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَجَاهَدُوا فِي اللَّهِ، وَصَبَرُوا عَلَى الْمَكَارِهِ، لَغَفُورٌ لَهُمْ رَحِيمٌ بِهِمْ وَأَمَّا إِذَا كَانَ سَبَبُ الْآيَةِ هَذِهِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْمَفْتُونَ فِي دِينِهِ بِالرِّدَّةِ إِذَا أَسْلَمَ وَجَاهَدَ وَصَبَرَ فَاللَّهُ غَفُورٌ لَهُ رَحِيمٌ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي بَعْدِهَا يَرْجِعُ إِلَى الْفِتْنَةِ أَوْ إِلَى الْمُهَاجَرَةِ وَالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ، أَوْ إِلَى الْجَمِيعِ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها قَالَ الزَّجَّاجُ: يَوْمَ تَأْتِي مُنْتَصِبٌ بِقَوْلِهِ «رَحِيمٌ» ، أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، أَوْ ذَكِّرْهُمْ، أَوْ أَنْذِرْهُمْ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ إِضَافَةُ ضَمِيرِ النَّفْسِ إِلَى النَّفْسِ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْأُولَى جُمْلَةُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَبِالنَّفْسِ الثَّانِيَةِ الذَّاتُ، فَكَأَنْ قِيلَ: يَوْمَ يَأْتِي كُلُّ إِنْسَانٍ يُجَادِلُ عَنْ ذَاتِهِ لَا يُهِمُّهُ غَيْرُهَا، وَمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ عَنْهَا الِاعْتِذَارُ عَنْهَا، فَهُوَ مُجَادِلٌ وَمُخَاصِمٌ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَتَفَرَّغُ لِغَيْرِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: تَفَرَّقُوا عَنِّي، فَمَنْ كَانَتْ بِهِ قُوَّةٌ فَلْيَتَأَخَّرْ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ، وَمَنْ لَمْ تَكُنْ بِهِ قُوَّةٌ فَلْيَذْهَبْ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِي قَدِ اسْتَقَرَّتْ بِيَ الْأَرْضُ فَالْحَقُوا بِي، فَأَصْبَحَ بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ وَخَبَّابٌ وَعَمَّارٌ وَجَارِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ أَسْلَمَتْ، فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَأَبُو جَهْلٍ، فَعَرَضُوا عَلَى بِلَالٍ أَنْ يَكْفُرَ فَأَبَى، فَجَعَلُوا يَضَعُونَ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ فِي الشَّمْسِ ثُمَّ يُلْبِسُونَهَا إِيَّاهُ، فَإِذَا أَلْبَسُوهَا إِيَّاهُ قَالَ: أَحَدٌ أَحَدٌ وَأَمَّا خَبَّابٌ فَجَعَلُوا يَجُرُّونَهُ فِي الشَّوْكِ وَأَمَّا عَمَّارٌ فَقَالَ لَهُمْ كَلِمَةً أَعْجَبَتْهُمْ تَقِيَّةً وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَوَتَدَ لَهَا أَبُو جَهْلٍ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، ثُمَّ مَدَّهَا فَأَدْخَلَ الْحَرْبَةَ فِي قُبُلِهَا حَتَّى قَتَلَهَا، ثُمَّ خَلَّوْا عَنْ بِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَعَمَّارٍ فَلَحِقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَاشْتَدَّ عَلَى عَمَّارٍ الَّذِي كَانَ تَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ كَانَ قلبك حين قلت

_ (1) . هو عبد الله بن سعد بن أبي السرح.

[سورة النحل (16) : الآيات 112 إلى 119]

الذي قلت؟ كان مُنْشَرِحًا بِالَّذِي قُلْتَ أَمْ لَا؟ قَالَ: لَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَتَرَكُوهُ، فَلَمَّا أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما وَرَاءَكَ؟ قَالَ: شَرٌّ مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، قَالَ: كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، قَالَ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ، فَنَزَلَتْ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ قَالَ: ذَاكَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي سُورَةِ النَّحْلِ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ نَسَخَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا الْآيَةَ قَالَ: وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَأَجَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا فِيمَنْ كَانَ يُفْتَنُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأخرج ابن مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِالْإِسْلَامِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا الْآيَةَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا فَاخْرُجُوا، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ فَنَجَا مَنْ نَجَا، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُيُونًا لِمُسَيْلِمَةَ أَخَذُوا رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَوْهُ بِهِمَا، فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي أَصَمُّ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَرْسَلَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَمَّا صَاحِبُكَ فَمَضَى عَلَى إِيمَانِهِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَأَخَذْتَ بِالرُّخْصَةِ. وهو مرسل. [سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 119] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

قَوْلُهُ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ضَرَبَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى جَعَلَ حَتَّى تَكُونَ قرية المفعول الأوّل ومثلا الْمَفْعُولَ الثَّانِي، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ قَرْيَةً لِئَلَّا يَقَعُ الْفَصْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صِفَاتِهَا. وَقَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَرَبَ عَلَى بَابِهِ غَيْرَ مضمن ويكون مثلا مفعوله الأوّل وقرية بَدَلًا مِنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَلِ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْقَرْيَةِ قَرْيَةٌ مُعَيَّنَةٌ، أَوِ الْمُرَادُ قَرْيَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ كُلُّ قَوْمٍ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَأَبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ؟ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى الْأَوَّلِ وَصَرَّحُوا بِأَنَّهَا مَكَّةُ، وَذَلِكَ لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ» ، فَابْتُلُوا بِالْقَحْطِ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ. وَالثَّانِي أَرْجَحُ لِأَنَّ تَنْكِيرَ قَرْيَةٍ يُفِيدُ ذَلِكَ، وَمَكَّةُ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ الْبَدَلِيِّ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَأَيْضًا يَكُونُ الْوَعِيدُ أَبْلَغَ، وَالْمَثَلُ أَكْمَلَ، وَغَيْرُ مَكَّةَ مِثْلُهَا، وَعَلَى فَرْضِ إِرَادَتِهَا فَفِي الْمَثَلِ إِنْذَارٌ لِغَيْرِهَا مِنْ مِثْلِ عَاقِبَتِهَا، ثُمَّ وَصَفَ الْقَرْيَةَ بِأَنَّهَا كانَتْ آمِنَةً غَيْرَ خَائِفَةٍ مُطْمَئِنَّةً غَيْرَ مُنْزَعِجَةٍ، أَيْ: لَا يَخَافُ أَهْلُهَا وَلَا يَنْزَعِجُونَ يَأْتِيها رِزْقُها أَيْ: مَا يَرْتَزِقُ بِهِ أَهْلُهَا رَغَداً وَاسِعًا مِنْ كُلِّ مَكانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يُجْلَبُ مَا فِيهَا إِلَيْهَا فَكَفَرَتْ أَيْ: كَفَرَ أَهْلُهَا بِأَنْعُمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَالْأَنْعُمُ جَمْعُ نِعْمَةٍ كَالْأَشُدِّ جَمْعُ شِدَّةٍ، وَقِيلَ: جَمْعُ نُعْمَى، مِثْلُ بُؤْسَى وَأَبْؤُسٌ، وَهَذَا الْكُفْرُ مِنْهُمْ هُوَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَكْذِيبُ رُسُلِهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ أَيْ: أَذَاقَ أَهْلَهَا لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ سُمِّيَ ذَلِكَ لِبَاسًا لِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْهُزَالِ وَشُحُوبَةِ اللَّوْنِ وَسُوءِ الْحَالِ مَا هُوَ كَاللِّبَاسِ، فَاسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُهُ وَأُوقِعَ عَلَيْهِ الْإِذَاقَةُ، وَأَصْلُهَا الذَّوْقُ بِالْفَمِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ لِمُطْلَقِ الِاتِّصَالِ مَعَ إِنْبَائِهَا بِشِدَّةِ الْإِصَابَةِ لِمَا فِيهَا مِنِ اجْتِمَاعِ الْإِدْرَاكَيْنِ: إِدْرَاكُ اللَّمْسِ، وَالذَّوْقِ. رُوِيَ أَنَّ ابْنَ الرَّاوَنْدِيِّ الزِّنْدِيقَ قَالَ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ إِمَامِ اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ: هَلْ يُذَاقُ اللِّبَاسُ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَا بَأْسَ أَيُّهَا النَّسْنَاسُ، هَبْ أَنَّ مُحَمَّدًا مَا كَانَ نَبِيًّا، أَمَا كَانَ عَرَبِيًّا؟ كَأَنَّهُ طَعَنَ فِي الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُنَاسِبَ أَنْ يُقَالَ: فَكَسَاهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ أَوْ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ طَعْمَ الْجُوعِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَقَدْ أَجَابَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَجْرِيدِ الِاسْتِعَارَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَعَارَ اللِّبَاسَ لِمَا غَشِيَ الْإِنْسَانَ مِنْ بَعْضِ الْحَوَادِثِ كَالْجُوعِ وَالْخَوْفِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ اشْتِمَالَ اللِّبَاسِ عَلَى اللَّابِسِ، ثُمَّ ذُكِرَ الْوَصْفُ مُلَائِمًا لِلْمُسْتَعَارِ لَهُ وَهُوَ الْجُوعُ وَالْخَوْفُ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الذَّوْقِ عَلَى إِدْرَاكِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْحَقِيقَةِ، فَيَقُولُونَ: ذَاقَ فُلَانٌ الْبُؤْسَ وَالضُّرَّ وَأَذَاقَهُ غَيْرُهُ، فَكَانَتِ الِاسْتِعَارَةُ مجرّدة، ولو قال فكساها كانت مرشحة. وقيل: وَتَرْشِيحُ الِاسْتِعَارَةِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحْسَنًا مِنْ جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ، إِلَّا أَنَّ لِلتَّجْرِيدِ تَرْجِيحًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رُوعِيَ جَانِبُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ، فَازْدَادَ الْكَلَامُ وُضُوحًا، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ بِالْفَمِ، ثُمَّ قَدْ يُسْتَعَارُ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ التَّعَرُّفِ وَالِاخْتِبَارِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعِمْتُهَا ... وَسِيقَ إِلَيْنَا عَذْبُهَا وَعَذَابُهَا

وَقَرَأَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو عَمْرٍو فِيمَا رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الْوَارِثِ بِنَصْبِ الْخَوْفِ عَطْفًا عَلَى لباس، وقرأ الباقون بالخفض عَطْفًا عَلَى الْجُوعِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كُلُّ الصِّفَاتِ أُجْرِيَتْ عَلَى الْقَرْيَةِ إِلَّا قَوْلَهُ: يَصْنَعُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَقِيقَةِ أَهْلُهَا وَلَقَدْ جاءَهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ رَسُولٌ مِنْهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَعْرِفُونَ نَسَبَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِمَا فِيهِ نَفْعُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ ضُرُّهُمْ فَكَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ النَّازِلُ بِهِمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ فِي حَالِ أَخْذِ الْعَذَابِ لَهُمْ ظالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِإِيقَاعِهَا فِي الْعَذَابِ الْأَبَدِيِّ وَلِغَيْرِهِمْ بِالْإِضْرَارِ بِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ تَمَامِ الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ هُنَا هُوَ الْجُوعُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَقِيلَ: الْقَتْلُ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ لَمَّا وَعَظَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِهَا، وَجَاءَ بِالْفَاءِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُتَسَبِّبٌ عَنْ تَرْكِ الْكُفْرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَمَّا آمَنْتُمْ وَتَرَكْتُمُ الْكُفْرَ فَكُلُوا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ وَهُوَ الْغَنِيمَةُ وَاتْرُكُوا الْخَبَائِثَ وهو الميتة والدم وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ وَاعْرِفُوا حَقَّهَا إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ وَلَا تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، أَوْ إِنْ صَحَّ زَعْمُكُمْ أَنَّكُمْ تَقْصِدُونَ بِعِبَادَةِ الْآلِهَةِ الَّتِي زَعَمْتُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: إِنَّ الْفَاءَ فِي فَكُلُوا دَاخِلَةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ لِأَنَّ الْأَكْلَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الشُّكْرِ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ قَطْعًا لِلْأَعْذَارِ وَإِزَالَةً لِلشُّبْهَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الرُّخْصَةَ فِي تَنَاوُلِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ فَقَالَ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى جَمِيعِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ هُنَا مُسْتَوْفًى. ثُمَّ زَيَّفَ طَرِيقَةَ الْكُفَّارِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَفِي النُّقْصَانِ عَنْهَا كَتَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَقَالَ: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ: مَا هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ وَانْتِصَابُ الْكَذِبَ بلا تَقُولُوا، أَيْ: لَا تَقُولُوا الْكَذِبَ لِأَجْلِ وَصْفِ أَلْسِنَتِكُمْ، وَمَعْنَاهُ: لَا تُحَرِّمُوا وَلَا تُحَلِّلُوا لِأَجْلِ قَوْلٍ تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، ويجوز أن تكون ما موصولة والكذب منتصب بتصف، أَيْ: لَا تَقُولُوا لِلَّذِي تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ فِيهِ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ فَحَذَفَ لَفْظَةَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بَدَلًا مِنَ الْكَذِبَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ فَتَقُولُ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، أَوْ قَائِلَةٌ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ الْكَذِبَ أَيْضًا بتصف وَتَكُونُ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: لَا تَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ. وَقُرِئَ الْكُذُبُ بِضَمِّ الْكَافِ وَالذَّالِ وَالْبَاءِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْأَلْسِنَةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذال والباء نعتا لما. وَقِيلَ: عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَا، أَيْ: وَلَا تَقُولُوا الْكَذِبَ الَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَاللَّامُ فِي لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ لَا لَامُ الْعَرْضِ، أَيْ: فَيَتَعَقَّبُ ذَلِكَ افْتِرَاؤُكُمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَإِسْنَادُ ذَلِكَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أَيَّ افْتِرَاءٍ كَانَ لَا يُفْلِحُونَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَلَاحِ وَهُوَ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ وَارْتِفَاعُ مَتاعٌ قَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: مَتَاعُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ،

أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يُرَدُّونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ خَصَّ مُحَرَّمَاتِ الْيَهُودِ بِالذِّكْرِ فَقَالَ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا أَيْ: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ بِقَوْلِنَا: حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما «1» الآية، ومِنْ قَبْلُ متعلّق بقصصنا أو بحرمنا وَما ظَلَمْناهُمْ بِذَلِكَ التَّحْرِيمِ بَلْ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حَيْثُ فَعَلُوا أَسْبَابَ ذَلِكَ فَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ عُقُوبَةً لَهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمُخَالَفَةَ أَمْرِهِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ وَحُصُولِ الْمَغْفِرَةِ فَقَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ أَيْ: مُتَلَبِّسِينَ بِجَهَالَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ مِنْ بَعْدِ عَمَلِهِمْ لِلسُّوءِ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ فَإِنَّ ثُمَّ قَدْ دَلَّتْ عَلَى الْبَعْدِيَّةِ فَأَكَّدَهَا بِزِيَادَةِ ذِكْرِ الْبَعْدِيَّةِ وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمُ الَّتِي كَانَ فِيهَا فَسَادٌ بِالسُّوءِ الَّذِي عَمِلُوهُ، ثُمَّ كَرَّرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أَيْ: مِنْ بَعْدِ التَّوْبَةِ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ كَثِيرُ الْغُفْرَانِ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً قَالَ: يَعْنِي مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطِيَّةَ فِي الْآيَةِ مِثْلَهُ وَزَادَ فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: الْقَرْيَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً هِيَ: يَثْرِبُ. قُلْتُ: وَلَا أَدْرِي أَيَّ دَلِيلٍ دَلَّهُ عَلَى هَذَا التَّعْيِينِ، وَلَا أَيَّ قَرِينَةٍ قَامَتْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَتَى كَفَرَتْ دَارُ الْهِجْرَةِ وَمَسْكَنُ الْأَنْصَارِ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، وَأَيَّ وَقْتٍ أَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَهِيَ الَّتِي تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ. وَصَحَّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ الْآيَةَ قَالَ: فِي الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَلَمْ أَزَلْ أَخَافُ الْفُتْيَا إِلَى يَوْمِي هَذَا. قُلْتُ: صَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ بِعُمُومِ لَفْظِهَا فُتْيَا مَنْ أَفْتَى بِخِلَافِ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْثِرِينَ لِلرَّأْيِ الْمُقَدِّمِينَ لَهُ عَلَى الرِّوَايَةِ، أَوِ الْجَاهِلِينَ لِعِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالْمُقَلِّدَةِ، وَإِنَّهُمْ لَحَقِيقُونَ بِأَنْ يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم، فَإِنَّهُمْ أَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، فَهُمْ وَمَنْ يَسْتَفْتِيهِمْ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: كَبَهِيمَةٍ عَمْيَاءَ قَادَ زِمَامَهَا ... أَعْمَى عَلَى عِوَجِ الطَّرِيقِ الْجَائِرِ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَسَى رَجُلٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِكَذَا أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: كَذَبْتَ أَوْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ كَذَا أَوْ أَحَلَّ كَذَا، فَيَقُولُ اللَّهُ له: كذبت. وأخرج ابن

_ (1) . الأنعام: 146.

[سورة النحل (16) : الآيات 120 إلى 128]

جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ قَالَ: فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَقَالَ حَيْثُ يَقُولُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا إِلَى قوله: وَإِنَّا لَصادِقُونَ «1» [سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 128] إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ دَفْعِ شُبَهِ الْمُشْرِكِينَ وَإِبْطَالِ مَطَاعِنِهِمْ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَهُوَ قُدْوَةُ كَثِيرٍ مِنَ النَّبِيِّينَ، ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْعَالِمِ أُمَّةٌ، وَالْأُمَّةُ: الرَّجُلُ الْجَامِعُ لِلْخَيْرِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: أَيْ: مُعَلِّمًا لِلْخَيْرِ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى كَوْنِ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً أَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِلْخَيْرِ، أَوْ جَامِعًا لِخِصَالِ الْخَيْرِ، أَوْ عَالِمًا بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَقِيلَ: أُمَّةً بِمَعْنَى مَأْمُومٍ، أَيْ: يَؤُمُّهُ النَّاسُ لِيَأْخُذُوا مِنْهُ الْخَيْرَ، كَمَا قال سبحانه: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «2» . وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعَانِي الْقُنُوتِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالْحَنِيفُ: الْمَائِلُ عَنِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ إِلَى دِينِ الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْأَنْعَامِ وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ كَمَا تَزْعُمُهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِهِمُ الْبَاطِلِ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَمْعُ الْقِلَّةِ، فَهُوَ شَاكِرٌ لِمَا كَثُرَ مِنْهَا بِالْأَوْلَى اجْتَباهُ أَيِ: اخْتَارَهُ لِلنُّبُوَّةِ، وَاخْتَصَّهُ بِهَا وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ وَدِينُ الْحَقِّ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أَيْ: خصلة حسنة أو حالة حسنة، وقيل: هي الْوَلَدُ الصَّالِحُ، وَقِيلَ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ مِنَّا عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ، وَقِيلَ: هِيَ أَنَّهُ يَتَوَلَّاهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ مَا آتَاهُ اللَّهُ شَامِلًا لِذَلِكَ كُلِّهِ وَلِمَا عَدَاهُ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ حَسْبَمَا وَقَعَ مِنْهُ السُّؤَالُ لِرَبِّهِ حَيْثُ قَالَ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ- وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ- وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ «3» . ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَتِكَ وَسُمُوِّ مَنْزِلَتِكَ وَكَوْنِكَ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وَأَصْلُ الْمِلَّةِ: اسْمٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ من أنبيائه، قيل: وَالْمُرَادُ هُنَا اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي التَّوْحِيدِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ. وقال ابن جرير:

_ (1) . الأنعام: 146. (2) . البقرة: 124. (3) . الشعراء: 83- 85.

فِي التَّبَرِّي مِنَ الْأَوْثَانِ وَالتَّدَيُّنِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ: فِي مَنَاسِكِ الْحِجِّ وَقِيلَ: فِي الْأُصُولِ دُونَ الْفُرُوعِ وَقِيلَ: فِي جَمِيعِ شَرِيعَتِهِ إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ مَعَ كَوْنِهِ سَيِّدَهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «1» ، وَانْتِصَابُ حَنِيفاً عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَجَازَ مَجِيءُ الْحَالِ مِنْهُ لِأَنَّ الْمِلَّةَ كَالْجُزْءِ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ الْحَالَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ جَائِزٌ، إِذَا كَانَ يَقْتَضِي الْمُضَافُ الْعَمَلَ فِي الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ جُزْءًا مِنْهُ، أَوْ كَالْجُزْءِ وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِمَا سَبَقَ لِلنُّكْتَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ: إِنَّمَا جُعِلَ وَبَالُ السَّبْتِ، وَهُوَ الْمَسْخُ، عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، أَوْ إِنَّمَا جُعِلَ فَرْضُ تَعْظِيمِ السَّبْتِ وَتَرْكِ الصَّيْدِ فِيهِ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَا عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الِاخْتِلَافِ الْكَائِنِ بَيْنَهُمْ فِي السَّبْتِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ مُوسَى أَمَرَهُمْ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَعَيَّنَهُ لَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِفَضِيلَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَخَالَفُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّ السَّبْتَ أَفْضَلُ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: دَعْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُمْ بِتَعْظِيمِ يَوْمٍ فِي الْأُسْبُوعِ، فَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمْ فِيهِ، فَعَيَّنَتِ الْيَهُودُ السَّبْتَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَغَ فِيهِ مِنَ الْخَلْقِ، وَعَيَّنَتِ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ لِأَنَّ اللَّهَ بَدَأَ فِيهِ الْخَلْقَ، فَأَلْزَمَ اللَّهُ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَعَيَّنَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكِلَهُمْ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ فَضْلًا مِنْهُ وَنِعْمَةً. وَوَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ السَّبْتَ مِنْ شَرَائِعِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ السَّبْتَ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أَيْ: بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَيُجَازِي كُلًّا فِيهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ ثَوَابًا وَعِقَابًا، كَمَا وَقَعَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْمَسْخِ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَالتَّنْجِيَةِ لِأُخْرَى، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يَدْعُوَ أُمَّتَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِلتَّعْمِيمِ لِكَوْنِهِ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ بِالْحِكْمَةِ أَيْ: بِالْمَقَالَةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّحِيحَةِ، قِيلَ: وَهِيَ الْحُجَجُ الْقَطْعِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلْيَقِينِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَهِيَ الْمَقَالَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَسْتَحْسِنُهَا السَّامِعُ، وَتَكُونُ فِي نَفْسِهَا حَسَنَةً بِاعْتِبَارِ انْتِفَاعِ السَّامِعِ بِهَا. قِيلَ: وَهِيَ الْحُجَجُ الظَّنِّيَّةُ الْإِقْنَاعِيَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّصْدِيقِ بِمُقَدَّمَاتٍ مَقْبُولَةٍ، قِيلَ: وَلَيْسَ لِلدَّعْوَةِ إِلَّا هَاتَانِ الطَّرِيقَتَانِ، وَلَكِنَّ الدَّاعِيَ قَدْ يَحْتَاجُ مَعَ الْخَصْمِ الْأَلَدِّ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْجَدَلِ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ: بِالطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ طُرُقِ الْمُجَادَلَةِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْمُجَادَلَةِ الْحَسَنَةِ لِكَوْنِ الدَّاعِي مُحِقَّا وَغَرَضُهُ صَحِيحًا، وَكَانَ خَصْمُهُ مُبْطِلًا وَغَرَضُهُ فَاسِدًا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ لَمَّا حَثَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الدَّعْوَةِ بِالطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ بَيَّنَ أَنَّ الرُّشْدَ وَالْهِدَايَةَ لَيْسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِلَيْهِ تَعَالَى، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ أَيْ: هُوَ الْعَالِمُ بِمَنْ يَضِلُّ وَمَنْ يَهْتَدِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أَيْ: بِمَنْ يُبْصِرُ الْحَقَّ فَيَقْصِدُهُ غَيْرَ مُتَعَنِّتٍ، وَإِنَّمَا شَرَعَ لَكَ الدَّعْوَةَ وَأَمَرَكَ بِهَا قَطْعًا لِلْمَعْذِرَةِ وَتَتْمِيمًا لِلْحُجَّةِ وَإِزَاحَةً لِلشُّبْهَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ غَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَةُ تَتَضَمَّنُ تَكْلِيفَ

_ (1) . الأنعام: 90.

الْمَدْعُوِّينَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ فَإِنْ أَبَوْا قُوتِلُوا، أَمَرَ الدَّاعِي بِأَنْ يَعْدِلَ فِي الْعُقُوبَةِ فَقَالَ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ أَيْ: أَرَدْتُمُ الْمُعَاقَبَةَ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ أَيْ: بِمِثْلِ مَا فُعِلَ بِكُمْ لَا تُجَاوِزُوا ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ أُصِيبَ بِظُلَامَةٍ أَنْ لَا يَنَالَ مِنْ ظَالِمِهِ إِذَا تَمَكَّنَ إِلَّا مِثْلَ ظُلَامَتِهِ لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا صَوَابٌ لِأَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ لَهَا سَبَبًا خَاصًّا كَمَا سَيَأْتِي، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَعُمُومُهُ يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ، وَسَمَّى سُبْحَانَهُ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْبَادِئِ بِالشَّرِّ عُقُوبَةً، مَعَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ لَيْسَتْ إِلَّا فِعْلَ الثَّانِي وَهُوَ الْمُجَازِي لِلْمُشَاكَلَةِ، وَهِيَ بَابٌ مَعْرُوفٌ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. ثُمَّ حَثَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَفْوِ فَقَالَ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ أَيْ: لَئِنْ صَبَرْتُمْ عَنِ الْمُعَاقَبَةِ بِالْمَثَلِ فَالصَّبْرُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الِانْتِصَافِ، وَوُضِعَ الصَّابِرِينَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، ثَنَاءً مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ صَابِرُونَ عَلَى الشَّدَائِدِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ لِأَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي الصَّبْرِ عَنِ الْمُعَاقَبَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَى الصَّابِرِينَ عَلَى الْعُمُومِ وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِالصَّبْرِ فَقَالَ: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ مِنْ صُنُوفِ الْأَذَى وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ: بِتَوْفِيقِهِ وَتَثْبِيتِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَشْيَاءِ، أَيْ: وَمَا صَبْرُكَ مَصْحُوبًا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ لَكَ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ نَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ فَقَالَ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أَيْ: عَلَى الْكَافِرِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ، أَوْ لَا تَحْزَنْ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الضَّادِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِهَا. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هُمَا سَوَاءٌ، يَعْنِي الْمَفْتُوحَ وَالْمَكْسُورَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّيْقُ بِالْفَتْحِ مَا ضَاقَ عَنْهُ صَدْرُكَ، وَالضِّيقُ بِالْكَسْرِ مَا يَكُونُ فِي الَّذِي يَتَّسِعُ مِثْلُ الدَّارِ وَالثَّوْبِ، وَكَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَقْلُوبِ لِأَنَّ الضِّيقَ وَصْفٌ لِلْإِنْسَانِ يَكُونُ فِيهِ وَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ وَصْفَ الضِّيقِ بِالْعِظَمِ حَتَّى صَارَ كَالشَّيْءِ الْمُحِيطِ بِالْإِنْسَانِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ وَمَعْنَى مِمَّا يَمْكُرُونَ مِنْ مَكْرِهِمْ لَكَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ. ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ بِآيَةٍ جَامِعَةٍ لِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيِ: اتَّقَوُا الْمَعَاصِيَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ بِتَأْدِيَةِ الطَّاعَاتِ وَالْقِيَامِ بِمَا أُمِرُوا بِهَا مِنْهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوُا الزِّيَادَةَ فِي الْعُقُوبَةِ، وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فِي أَصْلِ الِانْتِقَامِ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَالثَّانِي إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَقِيلَ: الَّذِينَ اتَّقَوْا إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأُمَّةِ مَا هِيَ؟ فَقَالَ: الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، قَالُوا: فَمَا الْقَانِتُ؟ قَالَ: الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ قَالَ: كَانَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مِنْ قَوْمِهِ أَحَدٌ عَلَى الْإِسْلَامِ غَيْرَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ. وأخرج ابن المنذر عند فِي قَوْلِهِ: كانَ أُمَّةً قَالَ: إِمَامًا فِي الْخَيْرِ قانِتاً قَالَ: مُطِيعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عبد

تَشْهَدُ لَهُ أُمَّةٌ إِلَّا قَبِلَ اللَّهُ شَهَادَتَهُمْ» ، وَالْأُمَّةُ: الرَّجُلُ فَمَا فَوْقَهُ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً وَالْأُمَّةُ: الرَّجُلُ فَمَا فَوْقَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: صَلَّى جِبْرِيلُ بِإِبْرَاهِيمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِعَرَفَاتٍ، ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ دَفَعَ بِهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ بِهِ كَأَسْرَعِ مَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ وَقَفَ بِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ كَأَبْطَإِ مَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَفَعَ بِهِ، ثُمَّ رَمَى الْجَمْرَةَ ثُمَّ ذَبَحَ ثُمَّ حَلَقَ ثُمَّ أَفَاضَ بِهِ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ: أَرَادَ الْجُمُعَةَ فَأَخَذُوا السَّبْتَ مَكَانَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وسعيد ابن جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: بِاسْتِحْلَالِهِمْ إِيَّاهُ رَأَى مُوسَى رَجُلًا يَحْمِلُ حَطَبًا يَوْمَ السَّبْتِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ: يَعْنِي الْجُمُعَةَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَالنَّاسُ فِيهِ لَنَا تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَالَ: أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ إِيَّاكَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمَسْنَدِ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي الْفَوَائِدِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ مِنْهُمْ حَمْزَةُ فَمَثَّلُوا بِهِمْ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَصْبِرُ وَلَا نُعَاقِبُ، كُفُّوا عَنِ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ، فَنَظَرَ إِلَى مَنْظَرٍ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ قَطُّ كَانَ أَوْجَعَ لِقَلْبِهِ مِنْهُ، وَنَظَرَ إِلَيْهِ قَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، فَإِنَّكَ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ وَصُولًا لِلرَّحِمِ، فَعُولًا لِلْخَيْرِ، وَلَوْلَا حُزْنُ مَنْ بَعْدِكَ عَلَيْكَ لَسَرَّنِي أَنْ أَتْرُكَكَ حَتَّى يَحْشُرَكَ اللَّهُ مِنْ أَرْوَاحٍ شَتَّى، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ» فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْلِ وَإِنْ عاقَبْتُمْ الْآيَةَ، فَكَفَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَمْسَكَ عَنِ الَّذِي أَرَادَ وَصَبَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا حِينَ أَمْرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ، ثُمَّ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ وَانْسِلَاخُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَهَذَا مَنْسُوخٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ قَالَ: اتَّقَوْا فِيمَا حرّم عليهم، وأحسنوا فيما افترض عليهم.

سورة الإسراء

سورة الإسراء آياتها مائة وإحدى عشرة آية، وهي مكية إلا ثلاث آيات: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ نَزَلَتْ حِينَ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ، وَحِينَ قَالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَتْ هَذِهِ بِأَرْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلُهُ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَزَادَ مُقَاتِلٌ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ: إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَّلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي «1» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ كُلَّ لَيْلَةٍ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالزُّمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا عَبْدُ اللَّهِ الْفَجْرَ فَقَرَأَ السُّورَتَيْنِ الْآخِرَةُ مِنْهُمَا بَنُو إِسْرَائِيلَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) قَوْلُهُ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا هُوَ مَصْدَرُ سَبَّحَ، يُقَالُ سَبَّحَ يُسَبِّحُ تَسْبِيحًا وَسُبْحَانًا، مِثْلُ كَفَّرَ الْيَمِينَ تَكْفِيرًا وَكُفْرَانًا، وَمَعْنَاهُ: التَّنْزِيهُ وَالْبَرَاءَةُ لِلَّهِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ [من معناه] «2» لَا مِنْ لَفْظِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أُنَزِّهُ اللَّهَ تَنْزِيهًا، فوقع سبحان مَكَانَ تَنْزِيهًا، فَهُوَ عَلَى هَذَا مِثْلُ قَعَدَ الْقُرْفُصَاءَ وَاشْتَمَلَ الصَّمَّاءَ «3» وَقِيلَ: هُوَ عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ كَعُثْمَانَ لِلرَّجُلِ، وَانْتِصَابُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مَتْرُوكٍ إِظْهَارُهُ تَقْدِيرُهُ أُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانَ، ثُمَّ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْفِعْلِ وَسَدَّ مَسَدَّهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا «4» طَرَفًا مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِسُبْحَانَ. وَالْإِسْرَاءُ قِيلَ: هو سير الليل، يقال: سرى وأسرى

_ (1) . العتاق: هو كل ما بلغ الغاية في الجودة. والتلاد: يريد أن هذه السور من أول ما تعلم من القرآن، وأن لهنّ فضلا لما فيهن من القصص وأخبار الأنبياء والأمم. (2) . من تفسير القرطبي (10/ 204) . (3) . هو أن يردّ الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن، فيغطيهما جميعا. (4) . البقرة: 32.

كَسَقَى وَأَسْقَى لُغَتَانِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الشَّاعِرُ «1» في قوله: حيّ النّضيرة ربّة الْخِدْرِ ... أَسْرَتْ إِلَيَّ وَلَمْ تَكُنْ تُسْرِي وَقِيلَ: هُوَ سَيْرُ أَوَّلِ اللَّيْلِ خَاصَّةً، وَإِذَا كَانَ الْإِسْرَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي اللَّيْلِ فَلَا بُدَّ لِلتَّصْرِيحِ بِذِكْرِ اللَّيْلِ بَعْدَهُ مِنْ فَائِدَةٍ، فَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَيْلًا تَقْلِيلَ مُدَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَأَنَّهُ أَسْرَى بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ مَسَافَةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَوَجْهُ دَلَالَةِ لَيْلًا عَلَى تَقْلِيلِ الْمُدَّةِ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْكِيرِ الدَّالِّ عَلَى الْبَعْضِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْتَ سَرَيْتُ اللَّيْلَ فَإِنَّهُ يُفِيدُ اسْتِيعَابَ السَّيْرِ لَهُ جَمِيعًا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ عَلَى إِفَادَةِ لَيْلًا لِلْبَعْضِيَّةِ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةَ «مِنَ اللَّيْلِ» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا سَيَّرَ عَبْدَهُ يَعْنِي مُحَمَّدًا لَيْلًا، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَعْنَى أَسْرَى مَعْنَى سَيَّرَ فَيَكُونُ لِلتَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ فَائِدَةٌ، وَقَالَ بِعَبْدِهِ وَلَمْ يَقُلْ بِنَبِيِّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ بِمُحَمَّدٍ تَشْرِيفًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: لَوْ كَانَ غَيْرُ هَذَا الِاسْمِ أَشْرَفَ مِنْهُ لَسَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ وَالْحَالَةِ الْعَلِيَّةِ: لَا تَدْعُنِي إِلَّا بياعبدها ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي ادِّعَاءً بِأَسْمَاءٍ نَبْزًا فِي قَبَائِلِهَا ... كَأَنَّ أَسْمَاءً أَضْحَتْ بَعْضَ أَسْمَائِي مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي الْمَسْجِدَ نَفْسَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دَارِ أُمِّ هَانِئٍ، فَحَمَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ على مكة أو الحرم لِإِحَاطَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ لِأَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْغَايَةَ الَّتِي أَسْرَى بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا فَقَالَ: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَسُمِّيَ الْأَقْصَى لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ وَرَاءَهُ مَسْجِدٌ، ثُمَّ وَصَفَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بِقَوْلِهِ: الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ بِالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِبَرَكَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي بَارَكْنَا بَعْدَ قَوْلِهِ أَسْرَى الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ الَّتِي أَسْرَى بِهِ لِأَجْلِهَا فَقَالَ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أَيْ: مَا أَرَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا قَطْعُ هَذِهِ الْمَسَافَةِ الطَّوِيلَةِ فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ السَّمِيعُ بِكُلِّ مسموع، ومن جملة ذلك قول رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَصِيرُ بِكُلِّ مُبْصَرٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ ذَاتُ رَسُولِهِ وَأَفْعَالُهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ رُوحِهِ أَوْ بِرُوحِهِ فَقَطْ؟ فَذَهَبَ مُعْظَمُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ إِلَى الْأَوَّلِ. وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ عَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَحَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالُوا: كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ يَقَظَةً إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِلَى السَّمَاءِ بِالرُّوحِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ بِقَوْلِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَجَعَلَهُ غَايَةً لِلْإِسْرَاءِ بِذَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَعَ بِذَاتِهِ لَذَكَرَهُ، وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ

_ (1) . هُوَ حسان بن ثابت.

هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ مِنْ أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً إِلَى بيت المقدس، ثم إلى السموات، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ وَصَرْفِ هَذَا النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ وَمَا يُمَاثِلُهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ، وَلَا مُقْتَضًى لِذَلِكَ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْتِبْعَادِ وَتَحْكِيمُ مَحْضِ الْعُقُولِ الْقَاصِرَةِ عَنْ فَهْمِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَنَّهُ لَا يستحيل عليه سبحانه شيء، ولو كان مُجَرَّدَ رُؤْيَا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بِالرُّوحِ فَقَطْ، وَأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ لَمْ يَقَعِ التَّكْذِيبُ مِنَ الْكَفَرَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِخْبَارِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ حَتَّى ارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِمَّنْ لَمْ يَشْرَحْ بِالْإِيمَانِ صَدْرًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى فِي نَوْمِهِ مَا هُوَ مُسْتَبْعَدٌ، بَلْ مَا هُوَ مُحَالٌ وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ وَأَمَّا التَّمَسُّكُ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّ هَذَا الْإِسْرَاءَ إِنَّمَا كَانَ بِالرُّوحِ عَلَى سَبِيلِ الرُّؤْيَا بِقَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ «1» فَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الرُّؤْيَا هُوَ هَذَا الْإِسْرَاءُ، فَالتَّصْرِيحُ الْوَاقِعُ هُنَا بِقَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وَالتَّصْرِيحُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْكَثِيرَةِ بِأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ لَا تَقْصُرُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا الْوَاقِعَةِ فِي الْآيَةِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ لِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ رُؤْيَا، وَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُ هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ركب البراق؟ وكيف يصحّ وصف الروح بالركوب؟ وهكذا كيف يَصِحُّ حَمْلُ هَذَا الْإِسْرَاءِ عَلَى الرُّؤْيَا مَعَ تَصْرِيحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ كَانَ عند ما أُسَرِيَ بِهِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ؟. وَقَدِ اخْتُلِفَ أَيْضًا فِي تَارِيخِ الْإِسْرَاءِ، فَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ. وَرُوِيَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِأَعْوَامٍ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ خَدِيجَةَ صَلَّتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مَاتَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِثَلَاثٍ، وَقِيلَ: بِأَرْبَعٍ، وَلَمْ تُفْرَضِ الصَّلَاةُ إِلَّا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: أُسْرِيَ بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وَعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي تَارِيخِهِ: كَانَ الْإِسْرَاءُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ قَالَ بِمِثْلِ هَذَا. وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ بِسَبْعَةِ أَعْوَامٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ بِخَمْسِ سِنِينَ. وَرَوَى يُونُسُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ. وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أَيِ: التَّوْرَاةَ، قِيلَ: وَالْمَعْنَى: كَرَّمْنَا مُحَمَّدًا بِالْمِعْرَاجِ وَأَكْرَمْنَا مُوسَى بِالْكِتَابِ وَجَعَلْناهُ أَيْ: ذَلِكَ الْكِتَابَ، وَقِيلَ: مُوسَى هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ يَهْتَدُونَ بِهِ أَلَّا تَتَّخِذُوا. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: لِئَلَّا يَتَّخِذُوا. وَالْمَعْنَى: آتَيْنَاهُ الْكِتَابَ لِهِدَايَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِئَلَّا يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: كَفِيلًا بِأُمُورِهِمْ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَافِيًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَيْ: مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ وَقِيلَ: شَرِيكًا، وَمَعْنَى الْوَكِيلِ فِي اللُّغَةِ: مَنْ تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نَصْبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوِ النِّدَاءِ، ذَكَّرَهُمْ سُبْحَانَهُ إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ فِي ضِمْنِ إِنْجَاءِ آبَائِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ، وَيَجُوزُ أن يكون المفعول الأوّل لقوله أَلَّا تَتَّخِذُوا أَيْ: لَا تَتَّخِذُوا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ مِنْ دُونِي وَكِيلًا، كَقَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً «2» . وَقُرِئَ بالرفع

_ (1) . الإسراء: 60. [.....] (2) . آل عمران: 80.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 إلى 11]

عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ تَتَّخِذُوا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِفَتْحِ الذَّالِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِكَسْرِهَا، وَالْمُرَادُ بِالذَّرِّيَّةِ هُنَا جَمِيعُ مَنْ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ، وَقِيلَ: مُوسَى وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقِرَاءَةِ النَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ وَالنَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَالرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ وَعَلَى الْخَبَرِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورِينَ، وَأَمَّا عَلَى جَعْلِ النَّصْبِ عَلَى أَنَّ ذُرِّيَّةَ هِيَ الْمَفْعُولُ الأوّل لقوله: أَلَّا تَتَّخِذُوا فَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الذُّرِّيَّةِ بِجَمِيعِ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَنِي آدَمَ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً أَيْ: نُوحًا، وَصَفَهُ اللَّهُ بِكَثْرَةِ الشُّكْرِ، وَجَعَلَهُ كَالْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهُ إِيذَانًا بِكَوْنِ الشُّكْرِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْخَيْرِ، وَمِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ، حَثًّا لِذُرِّيَّتِهِ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مهاجرته بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ قَالَ: أَنْبَتْنَا حَوْلَهُ الشَّجَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: جَعَلَهُ اللَّهُ هُدًى يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا قَالَ: شَرِيكًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ قَالَ: هُوَ عَلَى النِّدَاءِ: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ مَا كَانَ مَعَ نُوحٍ إِلَّا أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ: حَامٌ، وَسَامٌ، وَيَافِثُ، وَكُوشٌ، فَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ انْتَسَلُوا هَذَا الْخَلْقَ» . وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أَطَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ كَثِيرٍ وَالسُّيُوطِيِّ وَغَيْرِهِمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِسْرَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَهَكَذَا أَطَالُوا بِذِكْرِ فَضَائِلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَهُوَ مَبْحَثٌ آخَرُ، وَالْمَقْصُودُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَذِكْرُ أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَبَيَانُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلَةٌ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حاجة. [سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 11] وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)

قَوْلُهُ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أَيْ: أَعْلَمْنَا وَأَخْبَرْنَا، أَوْ حَكَمْنَا وَأَتْمَمْنَا وَأَصْلُ الْقَضَاءِ: الْإِحْكَامُ لِلشَّيْءِ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ وَقِيلَ: أَوْحَيْنَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ لَقَالَ: قَضَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى حَكَمْنَا لَقَالَ: عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى أَتْمَمْنَا: لِقَالٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: التَّوْرَاةُ، وَيَكُونُ إِنْزَالُهَا عَلَى نَبِيِّهِمْ مُوسَى كَإِنْزَالِهَا عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ قَوْمَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «فِي الْكُتُبِ» . وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَفْسَدُوا فَسَدُوا فِي نُفُوسِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ: مُخَالَفَةُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: أَرْضُ الشَّامِ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ: أَرْضُ مِصْرَ، وَاللَّامُ فِي لَتُفْسِدُنَّ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: أَوْ أَجْرَى الْقَضَاءَ الْمَبْتُوتَ مَجْرَى الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَقْسَمْنَا لَتُفْسِدُنَّ وَانْتِصَابُ مَرَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَصْدَرٌ عَمِلَ فِيهِ مَا هُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَالْمَرَّةُ الْأُولَى قَتْلُ شِعْيَاءَ، أَوْ حَبْسُ أَرْمِيَاءَ، أَوْ مُخَالَفَةُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَالثَّانِيَةُ قَتْلُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَالْعَزْمُ عَلَى قَتْلِ عِيسَى وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً هَذِهِ اللَّامُ كَاللَّامِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: لَتَسْتَكْبِرُنَّ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَتَسْتَعْلُنَّ عَلَى النَّاسِ بِالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ مُجَاوِزِينَ لِلْحَدِّ فِي ذَلِكَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أَيْ: أُولَى الْمَرَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أَيْ: قُوَّةٍ فِي الْحُرُوبِ وَبَطْشٍ عِنْدَ اللقاء. قيل: هُوَ بُخْتَنَصَّرُ وَجُنُودُهُ، وَقِيلَ: جَالُوتُ، وَقِيلَ: جُنْدٌ مِنْ فَارِسَ، وَقِيلَ: جُنْدٌ مِنْ بَابِلَ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أَيْ: عَاثُوا وَتَرَدَّدُوا، يُقَالُ: جَاسُوا وهاسوا وداسوا بمعنى، ذكره ابن عزيز والقتبي. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ طَافُوا خِلَالَ الدِّيَارِ هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَمْ يَقْتُلُوهُ؟ قَالَ: وَالْجَوْسُ: طَلَبُ الشَّيْءِ بِاسْتِقْصَاءٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجَوْسُ مَصْدَرُ قَوْلِكَ جَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ أَيْ: تَخَلَّلُوهَا كَمَا يَجُوسُ الرَّجُلُ لِلْأَخْبَارِ أَيْ: يَطْلُبُهَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ: ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَى جَاسُوا طَافُوا بَيْنَ الدِّيَارِ يَطْلُبُونَهُمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ ذَاهِبِينَ وَجَائِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ قَتَلُوهُمْ بَيْنَ بُيُوتِهِمْ، وَأَنْشَدَ لِحَسَّانَ: وَمِنَّا الَّذِي لَاقَى بِسَيْفِ مُحَمَّدٍ ... فَجَاسَ بِهِ الْأَعْدَاءَ عَرْضَ الْعَسَاكِرِ وَقَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَاهُ نَزَلُوا، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَجُسْنَا دِيَارَهُمْ عُنْوَةً ... وَأُبْنَا بِسَادَاتِهِمْ مُوَثَّقِينَا وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «فَحَاسُوا» بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْحَوْسُ وَالْجَوْسُ وَالْعَوْسُ والهوس: الطوف بالليل. وقيل: الطَّوْفُ بِاللَّيْلِ هُوَ الْجَوَسَانُ مُحَرَّكًا، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقُرِئَ «خَلَلَ الدِّيَارِ» وَمَعْنَاهُ مَعْنَى خِلَالَ وَهُوَ وَسَطُ الدِّيَارِ وَكانَ ذَلِكَ وَعْداً مَفْعُولًا أَيْ: كَائِنًا لَا مَحَالَةَ ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أَيِ: الدَّوْلَةَ وَالْغَلَبَةَ وَالرَّجْعَةَ وَذَلِكَ عِنْدَ تَوْبَتِهِمْ. قِيلَ: وَذَلِكَ حِينَ قَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ، وَقِيلَ: حِينَ

قُتِلَ بُخْتَنَصَّرُ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ بَعْدَ نَهْبِ أَمْوَالِكُمْ وَسَبْيِ أَبْنَائِكُمْ حَتَّى عَادَ أَمْرُكُمْ كَمَا كَانَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النَّفِيرُ الْعَدَدُ مِنَ الرِّجَالِ فَالْمَعْنَى: أَكْثَرُ رِجَالًا مِنْ عَدُوِّكُمْ. وَالنَّفِيرُ: مَنْ يَنْفِرُ مَعَ الرَّجُلِ مِنْ عَشِيرَتِهِ، يُقَالُ: نَفِيرٌ وَنَافِرٌ مِثْلُ قَدِيرٌ وَقَادِرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّفِيرُ جَمْعَ نَفَرٍ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَيْ: أَفْعَالَكُمْ وَأَقْوَالَكُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لِأَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَيْكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ أَفْعَالَكُمْ وَأَقْوَالَكُمْ فَأَوْقَعْتُمُوهَا لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُمْ فَلَها أَيْ: فَعَلَيْهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ................ فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ «1» أَيْ: عَلَى الْيَدَيْنِ وَعَلَى الْفَمِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، أَيْ: فَإِلَيْهَا تَرْجِعُ الْإِسَاءَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أَيْ: إِلَيْهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَلَهَا الْجَزَاءُ أَوِ الْعِقَابُ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: فَلَهَا رَبٌّ يَغْفِرُ الْإِسَاءَةَ. وَهَذَا الْخِطَابُ قِيلَ: هُوَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُلَابِثِينَ لِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَقِيلَ: لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْكَائِنِينَ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَاهُ: إِعْلَامُهُمْ مَا حَلَّ بِسَلَفِهِمْ فَلْيَرْتَقِبُوا مِثْلَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أَيْ: حَضَرَ وَقْتُ مَا وُعِدُوا مِنْ عُقُوبَةِ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ، وَالْمَرَّةُ الْآخِرَةُ هِيَ قَتْلُهُمْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا كَمَا سَبَقَ، وَقِصَّةُ قَتْلِهِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْإِنْجِيلِ وَاسْمُهُ فِيهِ يُوحَنَّا، قَتَلَهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ بِسَبَبِ امْرَأَةٍ حَمَلَتْهُ عَلَى قَتْلِهِ، وَاسْمُ الْمَلِكِ لَاخْتَ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هِيرُدُوسْ، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بَعَثْنَاهُمْ لِدَلَالَةِ جَوَابِ إِذَا الْأُولَى عَلَيْهِ، ولِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: لِيَفْعَلُوا بِكُمْ مَا يَسُوءُ وُجُوهَكُمْ حَتَّى تَظْهَرَ عَلَيْكُمْ آثَارُ الْمُسَاءَةِ وَتَتَبَيَّنَ فِي وُجُوهِكُمُ الْكَآبَةُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ السَّادَةُ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ «لِنَسُوءَ» بِالنُّونِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ «لِنَسُوءَنَّ» بِنُونِ التَّأْكِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ «لِيَسُوءَ» بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْإِفْرَادِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ شَيْءٍ كَسَرْتَهُ وفتنه فَقَدْ تَبَّرْتَهُ، وَالضَّمِيرُ لِلَّهِ أَوِ الْوَعْدِ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ مَعْطُوفٌ عَلَى لِيَسُوءُوا كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا أَيْ: يُدَمِّرُوا وَيُهْلِكُوا، وَقَالَ قُطْرُبٌ: يَهْدِمُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَا النَّاسُ إِلَّا عَامِلَانِ فَعَامِلٌ ... يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِثْبَاتِ وَاوٍ بَعْدَهَا عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ عِبَادٌ لَنَا مَا عَلَوْا أَيْ: مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِكُمْ أَوْ مُدَّةَ عُلُوِّهِمْ تَتْبِيراً أَيْ: تَدْمِيرًا، ذُكِرَ الْمَصْدَرُ إِزَالَةً لِلشَّكِّ وَتَحْقِيقًا لِلْخَبَرِ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ انْتِقَامِهِ مِنْكُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَإِنْ عُدْتُمْ لِلثَّالِثَةِ عُدْنا إِلَى عُقُوبَتِكُمْ. قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: ثُمَّ إنهم عادوا إلا مَا لَا يَنْبَغِي، وَهُوَ تَكْذِيبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلّم وكتمان ما ورد في

_ (1) . وصدره: وهتكت بالرمح الطويل إهانة. والبيت لربيعة بن مكدم.

بَعْثِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَعَادَ اللَّهُ إِلَى عُقُوبَتِهِمْ عَلَى أَيْدِي الْعَرَبِ، فَجَرَى عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَخَيْبَرَ مَا جَرَى مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْإِجْلَاءِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً وَهُوَ الْمَحْبِسُ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مَحْبُوسُونَ فِي جَهَنَّمَ لَا يَتَخَلَّصُونَ عَنْهَا أَبَدًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: حَصَرَهُ يَحْصُرُهُ حَصْرًا ضَيَّقَ عَلَيْهِ وَأَحَاطَ بِهِ، وَقِيلَ: فِرَاشًا وَمِهَادًا، وَأَرَادَ عَلَى هَذَا بِالْحَصِيرِ الْحَصِيرَ الَّذِي يَفْرِشُهُ النَّاسُ إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ يَعْنِي الْقُرْآنُ يَهْدِي النَّاسَ الطَّرِيقَةَ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الطُّرُقِ وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ، فَالَّتِي هِيَ أَقْوَمُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَهِيَ الطَّرِيقُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِلْحَالِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْحَالَاتِ، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يَبَشُّرُ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ مِنَ التَّبْشِيرِ أَيْ: يُبَشِّرُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعْدِ بِالْخَيْرِ آجِلًا وَعَاجِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَى عَمَلِهَا الْقُرْآنُ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً أَيْ: بِأَنَّ لَهُمْ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَأَحْكَامِهَا الْمُبَيَّنَةِ فِي الْقُرْآنِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يُبَشِّرُ بِتَقْدِيرِ يُخْبِرُ، أَيْ: وَيُخْبِرُ بِأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَقِيلَ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَيُرَادُ بِالتَّبْشِيرِ مُطْلَقُ الْإِخْبَارِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ مُشْتَمِلًا عَلَى تَبْشِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِبِشَارَتَيْنِ: الْأُولَى: مَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَالثَّانِيَةُ: مَا لِأَعْدَائِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْجِنْسُ لِوُقُوعِ هَذَا الدُّعَاءِ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ عِنْدَ الضَّجَرِ بِمَا لَا يُحِبُّ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أَيْ: مِثْلَ دُعَائِهِ لِرَبِّهِ بِالْخَيْرِ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِهِ كَطَلَبِ الْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالشَّرِّ هَلَكَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَجِبْ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً، وَمِثْلُ ذَلِكَ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ «1» وَقَدْ تَقَدَّمَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ هُوَ الْكَافِرُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِالشَّرِّ، وَهُوَ استعجال العذاب دعاءه بِالْخَيْرِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2» . وَقِيلَ: هو أَنْ يَدْعُوَ فِي طَلَبِ الْمَحْظُورِ كَدُعَائِهِ فِي طَلَبِ الْمُبَاحِ، وَحُذِفَتِ الْوَاوُ مِنْ وَيَدَعُ الْإِنْسَانُ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ لِعَدَمِ التَّلَفُّظِ بِهَا لِوُقُوعِ اللَّامِ السَّاكِنَةِ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «3» ، وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ «4» ، وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ «5» وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أَيْ: مَطْبُوعًا عَلَى الْعَجَلَةِ، وَمِنْ عَجَلَتِهِ أَنَّهُ يَسْأَلُ الشَّرَّ كَمَا يَسْأَلُ الْخَيْرَ وَقِيلَ: إِشَارَتُهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ نَهَضَ قَبْلَ أَنْ تَكْمُلَ فِيهِ الرُّوحُ، وَالْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ هُوَ الْأَوَّلُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: أَعْلَمْنَاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: أَخْبَرْنَاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أيضا قضينا

_ (1) . يونس: 11. (2) . الأنفال: 32. (3) . العلق: 18. (4) . الشورى: 24. (5) . النساء: 146.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 12 إلى 17]

إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: قَضَيْنَا عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ قَالَ: الْأُولَى قَتْلُ زَكَرِيَّا، وَالْآخِرَةُ قَتْلُ يَحْيَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ الْفَسَادِ قَتْلَ زَكَرِيَّا، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ النَّبَطِ، ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَجَهَّزُوا فغزوا النبط فأصابوا منهم، فذلك قوله: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْأُولَى جَالُوتَ، وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُخْرَى بُخْتَنَصَّرَ، فَعَادُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فَجاسُوا قَالَ: فَمَشَوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: تَتْبِيراً تَدْمِيرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ قَالَ: كَانَتِ الرَّحْمَةُ الَّتِي وَعَدَهُمْ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قَالَ: فَعَادُوا فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي تَعْيِينِ الْوَاقِعِ مِنْهُمْ فِي الْمَرَّتَيْنِ، وَفِي تَعْيِينِ مَنْ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً قَالَ: سِجْنًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ. قَالَ: مَعْنَى حَصِيراً جَعَلَ اللَّهُ مَأْوَاهُمْ فِيهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: حَصِيراً قَالَ: فِرَاشًا وَمِهَادًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ قَالَ: لِلَّتِي هِيَ أَصْوَبُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَتْلُو كَثِيرًا إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ بِالتَّخْفِيفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ يَعْنِي قَوْلَ الْإِنْسَانِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ وَاغَضَبْ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا قَالَ: ضَجِرًا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى سَرَّاءَ وَلَا ضَرَّاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ آدَمَ رَأْسُهُ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ وَهُوَ يُخْلَقُ وَبَقِيَتْ رِجْلَاهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ قَالَ: يَا رَبِّ أَعْجِلْ قَبْلَ اللَّيْلِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 12 الى 17] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)

لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ وَالتَّوْحِيدِ أَكَّدَهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ عَجَائِبِ صُنْعِهِ وَبَدَائِعِ خَلْقِهِ، فَقَالَ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ وَذَلِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْإِظْلَامِ وَالْإِنَارَةِ مَعَ تَعَاقُبِهِمَا وَسَائِرِ مَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي تَحَارُ فِي وَصْفِهَا الْأَفْهَامُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمَا آيَتَيْنِ أَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ، وَقَدَّمَ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أَيْ: طَمَسْنَا نُورَهَا، وَقَدْ كَانَ الْقَمَرُ كَالشَّمْسِ فِي الْإِنَارَةِ وَالضَّوْءِ. قِيلَ: وَمِنْ آثَارِ الْمَحْوِ السَّوَادُ الَّذِي يُرَى فِي الْقَمَرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَحْوِهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَهَا مَمْحُوَّةَ الضَّوْءِ مَطْمُوسَةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَحَاهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أَيْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ شَمْسَهُ مُضِيئَةً تُبْصَرُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَالْكِسَائِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَبْصَرَ النَّهَارُ إِذَا صَارَ بِحَالَةٍ يُبْصَرُ بِهَا وَقِيلَ: مُبْصَرَةٌ لِلنَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ أَبْصَرَهُ فَبَصَرَ. فَالْأَوَّلُ وَصْفٌ لَهَا بِحَالِ أَهْلِهَا، وَالثَّانِي وَصْفٌ لَهَا بِحَالِ نَفْسِهَا، وَإِضَافَةُ آيَةً إِلَى اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ: فَمَحَوْنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ وَالْآيَةَ الَّتِي هِيَ النَّهَارُ كَقَوْلِهِمْ نَفْسُ الشَّيْءِ وَذَاتُهُ لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: لِتَتَوَصَّلُوا بِبَيَاضِ النَّهَارِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي وُجُوهِ الْمَعَاشِ، وَاللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أَيْ: جَعَلْنَاهَا لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: رِزْقًا، إِذْ غَالِبُ تَحْصِيلِ الْأَرْزَاقِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ يَكُونُ بِالنَّهَارِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا السُّكُونَ فِي اللَّيْلِ اكْتِفَاءً بِمَا قَالَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً «1» ، ثُمَّ ذَكَرَ مَصْلَحَةً أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْجَعْلِ فَقَالَ: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَهَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، أَعْنِي مَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لَا بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ كَالْأَوَّلِ، إِذْ لَا يَكُونُ عِلْمُ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، إِلَّا بِاخْتِلَافِ الْجَدِيدَيْنِ «2» وَمَعْرِفَةِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَدَدِ وَالْحِسَابِ أَنَّ الْعَدَدَ إِحْصَاءُ مَا لَهُ كَمِّيَّةٌ بِتَكْرِيرِ أَمْثَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يتحصّل منه شيء، والحساب إحصاء ماله كَمِّيَّةٌ بِتَكْرِيرِ أَمْثَالِهِ مِنْ حَيْثُ يَتَحَصَّلُ بِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا حَدٌّ مُعَيَّنٌ مِنْهُ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ فَالسَّنَةُ مَثَلًا إِنْ وَقَعَ النَّظَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ عَدَدِ أَيَّامِهَا فَذَلِكَ هُوَ الْعَدَدُ وَإِنْ وَقَعَ النَّظَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقِهَا وَتَحَصُّلِهَا مِنْ عِدَّةِ أَشْهُرٍ، قَدْ يَحْصُلُ كُلَّ شَهْرٍ مِنْ عِدَّةِ أَيَّامٍ، قَدْ يَحْصُلُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عِدَّةِ سَاعَاتٍ، قَدْ تَحَصَّلَتْ كُلَّ سَاعَةٍ مِنْ عِدَّةِ دَقَائِقَ، فَذَلِكَ هُوَ الْحِسَابُ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أَيْ: كُلَّ مَا تَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ بَيَّنَّاهُ تَبْيِينًا وَاضِحًا لَا يَلْتَبِسُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَنْزَاحُ الْعِلَلُ وَتَزُولُ الْأَعْذَارُ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ «3» ، وَلِهَذَا قَالَ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الطَّائِرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَظُّ، وَيُقَالُ لَهُ الْبَخْتُ، فَالطَّائِرُ مَا وَقَعَ لِلشَّخْصِ فِي الْأَزَلِ بِمَا هُوَ نَصِيبُهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعَمَلِ وَالْعُمْرِ وَالرِّزْقِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، كَأَنَّ طَائِرًا يَطِيرُ إِلَيْهِ مِنْ وَكْرِ الْأَزَلِ وَظُلُمَاتِ عَالَمِ الْغَيْبِ طَيَرَانًا لَا نِهَايَةَ لَهُ ولا غاية إلى أن انتهى إِلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ مِنْ غَيْرِ خَلَاصٍ وَلَا مَنَاصٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلِمَ الْمُطِيعَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَالْعَاصِيَ، فَكَتَبَ مَا عَلِمَهُ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَقَضَى سَعَادَةَ مَنْ عَلِمَهُ مُطِيعًا وَشَقَاوَةَ مَنْ عَلِمَهُ عَاصِيًا، فَطَارَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ عِنْدَ خَلْقِهِ وَإِنْشَائِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أَيْ: مَا طَارَ لَهُ في علم الله، وفي عنقه

_ (1) . يونس: 67. (2) . الجديدان والأجدّان: الليل والنهار. (3) . الأنفال: 42.

عِبَارَةٌ عَنِ اللُّزُومِ كَلُزُومِ الْقِلَادَةِ الْعُنُقَ مِنْ بَيْنِ مَا يُلْبَسُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذِكْرُ الْعُنُقِ عِبَارَةٌ عَنِ اللُّزُومِ كَلُزُومِ الْقِلَادَةِ الْعُنُقَ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ «وَيَخْرُجُ» بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ وَبِالرَّاءِ المضمومة على معنى: ويخرج له الطائر، وكتابا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يخرج له الطَّائِرُ فَيَصِيرُ كِتَابًا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «يُخْرِجُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ: أَيْ يُخْرِجُ الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السّميقع. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ «يُخْرَجُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: وَيُخْرَجُ لَهُ الطَّائِرُ كِتَابًا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «وَنُخْرِجُ» بِالنُّونِ عَلَى أَنَّ الْمُخْرِجَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَكِتَابًا مَفْعُولٌ بِهِ، وَاحْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلْزَمْناهُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ عَامِرٍ يُلَقَّاهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، وَإِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ يَلْقاهُ مَنْشُوراً تَعْجِيلًا لِلْبُشْرَى بِالْحَسَنَةِ وَلِلتَّوْبِيخِ عَلَى السَّيِّئَةِ اقْرَأْ كِتابَكَ أَيْ: نَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ كِتَابَكَ، أَوْ قَائِلِينَ لَهُ، قِيلَ: يَقْرَأُ ذَلِكَ الْكِتَابَ مَنْ كَانَ قَارِئًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا. كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً الْبَاءُ في بِنَفْسِكَ زائدة وحَسِيباً تَمْيِيزٌ أَيْ: حَاسِبًا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: ضَرِيبُ الْقِدَاحِ بِمَعْنَى ضَارِبِهَا، وَصَرِيمٌ بِمَعْنَى صَارِمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْكَافِي، ثُمَّ وُضِعَ مَوْضِعَ الشَّهِيدِ فَعُدِّيَ بِعَلَى، وَالنَّفْسُ بِمَعْنَى الشَّخْصِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ كَالشَّرِيكِ وَالْجَلِيسِ. مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ثَوَابَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَعِقَابَ ضِدِّهِ يَخْتَصَّانِ بفاعلهما لا يتعدان مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَمَنِ اهْتَدَى بِفِعْلِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّمَا تَعُودُ مَنْفَعَةُ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أَيْ: فَإِنَّ وَبَالَ ضَلَالِهِ وَاقِعٌ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُجَاوِزُهَا، فَكُلُّ أَحَدٍ مُحَاسَبٌ عَنْ نَفْسِهِ، مَجْزِيٌّ بِطَاعَتِهِ، مُعَاقَبٌ بِمَعْصِيَتِهِ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْكَلَامَ بِأَبْلَغِ تَأْكِيدٍ فَقَالَ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَالْوِزْرُ: الْإِثْمُ، يُقَالُ: وَزَرَ يَزِرُ وِزْرًا وَوَزْرَةً. أَيْ: إِثْمًا، وَالْجَمْعُ أَوْزَارُ، وَالْوِزْرُ: الثِّقَلُ. وَمِنْهُ: يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «1» أَيْ: أَثْقَالَ ذُنُوبِهِمْ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةٌ لِلْوِزْرِ وِزْرَ نَفْسٍ أُخْرَى حَتَّى تَخَلُصَ الْأُخْرَى عَنْ وِزْرِهَا وَتُؤْخَذَ بِهِ الْأُولَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْآثِمَ وَالْمُذْنِبَ لَا يُؤَاخَذُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ اخْتِصَاصَ الْمُهْتَدِي بِهِدَايَتِهِ وَالضَّالِّ بِضَلَالِهِ، وَعَدَمَ مُؤَاخَذَةِ الْإِنْسَانِ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ عِبَادَهُ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ رُسُلِهِ، وَإِنْزَالِ كُتُبِهِ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُمْ سُدًى، وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُنَا هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا لَا عَذَابُ الْآخِرَةِ وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى أَمَرْنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ النَّهْيِ، وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَأْمُورِ بِهِ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ الطَّاعَةُ وَالْخَيْرُ. وقال في الكشاف: معناه أمرناهم

_ (1) . الأنعام: 31.

بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا، وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا وَتَبِعَهُ الْمُقْتَدُونَ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُوَ وَمَنْ تَابَعَهُ مُعَارَضٌ بِمِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ يَفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُنَافِيَةٌ لِلْأَمْرِ مُنَاقِضَةٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ أَمَرْتُهُ فَفَسَقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْفِسْقِ، لِأَنَّ الْفِسْقَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَوْنُهُ فِسْقًا يُنَافِي كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ وَيُنَاقِضُهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى أَمَرْنا مُتْرَفِيها أَكْثَرْنَا فُسَّاقَهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَمَرَ الْقَوْمَ إِذَا كَثُرُوا، وَأَمَرَهُمُ اللَّهُ إِذَا أَكْثَرَهُمْ. وَقَدْ قَرَأَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ أَمَرْنا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ مُسَلَّطِينَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ «آمَرْنَا» بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ، أَيْ: أَكْثَرْنَا جَبَابِرَتَهَا وَأُمَرَاءَهَا، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: آمِرْتُهُ بِالْمَدِّ وَأَمِرْتُهُ لُغَتَانِ بِمَعْنَى كَثْرَتِهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ» أَيْ: كَثِيرَةُ النِّتَاجِ وَالنَّسْلِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَزِيزٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ «أَمِرْنَا» بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى مَعْنَى فَعَلْنَا، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَكْثَرْنَا. وَحَكَى نَحْوَهُ أَبُو زَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَنْكَرَهُ الْكِسَائِيُّ وَقَالَ: لَا يُقَالُ مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَّا آمَرْنَا بِالْمَدِّ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: أَمِرَ مَالُهُ- بِالْكَسْرِ- أَيْ: كَثُرَ، وَأَمِرَ الْقَوْمُ: أَيْ كَثِرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: إِنْ يَغْبِطُوا يَهْبِطُوا وَإِنْ أَمِرُوا ... يوما يصيروا للهلك والنّكد «1» وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَرْنا مِنَ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ مَا قَدَّمْنَا فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَمَعْنَى مُتْرَفِيها الْمُنَعَّمُونَ الَّذِينَ قَدْ أَبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ وَسَعَةُ الْعَيْشِ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ فِي تَفْسِيرِ الْمُتْرَفِينَ: إِنَّهُمُ الْجَبَّارُونَ الْمُتَسَلِّطُونَ والملوك الجائرون، قالوا: وَإِنَّمَا خُصُّوا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ أَتْبَاعٌ لهم، ومعنى فَفَسَقُوا فِيها خَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ، وَتَمَرَّدُوا فِي كُفْرِهِمْ لِأَنَّ الْفُسُوقَ الْخُرُوجُ إِلَى مَا هُوَ أَفْحَشُ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ أَيْ: ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ بَعْدَ ظُهُورِ فِسْقِهِمْ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً أَيْ: تَدْمِيرًا عَظِيمًا لَا يُوقَفُ عَلَى كُنْهِهِ لِشِدَّتِهِ وَعِظَمِ مَوْقِعِهِ وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ أَمْرِنَا بِأَنَّهُ مَجَازٌ عَنِ الْأَمْرِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى الْفِسْقِ، وَهُوَ إِدْرَارُ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ الْمُرَادَ بِأَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَنَّهُ قُرْبُ إِهْلَاكِ قَرْيَةٍ، وَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِدُونِ مُلْجِئٍ إِلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ عَادَتُهُ الْجَارِيَةُ مَعَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، فَقَالَ: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ أَيْ: كَثِيرًا مَا أَهْلَكْنَا مِنْهُمْ، فَ «كَمْ» مَفْعُولُ «أَهْلَكْنَا» ، وَ «مِنَ الْقُرُونِ» بَيَانٌ لِ «كَمْ» وَتَمْيِيزٌ لَهُ، أَيْ: كَمْ مِنْ قَوْمٍ كَفَرُوا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ كَعَادٍ وَثَمُودَ، فَحَلَّ بِهِمُ الْبَوَارُ، وَنَزَلَ بِهِمْ سَوْطُ الْعَذَابِ، وَفِيهِ تَخْوِيفٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ. ثُمَّ خَاطَبَ رَسُولَهُ بِمَا هُوَ رَدْعٌ لِلنَّاسِ كَافَّةً فَقَالَ: وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا يَجُوزُ إِدْخَالُ الْبَاءِ فِي الْمَرْفُوعِ إِذَا كَانَ يُمْدَحُ بِهِ صَاحِبُهُ أَوْ يُذَمُّ بِهِ، كَقَوْلِكَ: كَفَاكَ، وَأَكْرِمْ بِهِ رَجُلًا، وَطَابَ بِطَعَامِكَ طَعَامًا، وَلَا يُقَالُ قَامَ بِأَخِيكَ وَأَنْتَ تُرِيدُ قَامَ أَخُوكَ. وَفِي الْآيَةِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ، وَتَخْوِيفٌ شَدِيدٌ لِأَهْلِ

_ (1) . في المطبوع: يوما يكن للهلاك والفند. والمثبت من الديوان ص (160) . «يهبطوا» - هنا-: يموتوا.

الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْعِلْمَ التَّامَّ وَالْخِبْرَةَ الْكَامِلَةَ وَالْبَصِيرَةَ النَّافِذَةَ تَقْتَضِي إِيصَالَ الْجَزَاءِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَلَا يُنَافِيهِ مَزِيدُ التَّفَضُّلِ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ خَبِيرًا بَصِيرًا أَنَّهُ مُحِيطٌ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ فَقَالَ: كَانَا شَمْسَيْنِ، قَالَ اللَّهُ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ فَالسَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتَ هُوَ الْمَحْوُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى هَذَا بِأَطْوَلَ مِنْهُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ قَالَ: هُوَ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً قَالَ: مُنِيرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ: جَعَلَ لَكُمْ سَبْحًا طَوِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَصَّلْناهُ قَالَ: بَيَّنَّاهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «طَائِرُ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي عُنُقِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابن عباس فِي قَوْلِهِ: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قَالَ: سَعَادَتُهُ وَشَقَاوَتُهُ، وَمَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ وَعَلَيْهِ، لازمه أينما كَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: طائِرَهُ قَالَ: كِتَابَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَمَلُهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً قَالَ: هُوَ عَمَلُهُ الَّذِي أُحْصِيَ عَلَيْهِ، فَأُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُتِبَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فَقَرَأَهُ مَنْشُورًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: اقْرَأْ كِتابَكَ قَالَ: سَيَقْرَأُ يَوْمَئِذٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «التَّمْهِيدِ» عَنِ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى قَالَ: سَأَلَتْ خَدِيجَةُ «1» عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فقال: «هم مع آبَائِهِمْ» ، ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَ مَا اسْتَحْكَمَ الْإِسْلَامُ، فَنَزَلَتْ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فَقَالَ: «هُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ، أَوْ قَالَ، فِي الْجَنَّةِ» . قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ فِي الْبَيَاتِ مِنْ ذَرَارِي الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: «هُمْ مِنْهُمْ» «2» وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَبَحْثٌ طَوِيلٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ غَالِبَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةَ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ نَقَلَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سريع

_ (1) . يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (2) . «البيات» : أن يغار على المشركين بالليل حيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي. «هم منهم» : أي في الحكم، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية- أي بالأرجل-، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم، جاز قتلهم. [.....]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 إلى 24]

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ ... ثُمَّ قَالَ: فَيَأْخُذُ اللَّهُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا أَنِ ادْخُلُوا النار، قال: فو الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا» وإسناده عند أحمد هكذا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فذكره نَحْوَهُ، وَجَعَلَ مَكَانَ الْأَحْمَقِ الْمَعْتُوهَ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْمَمْسُوحِ عَقْلًا، وَبِالْهَالِكِ فِي الْفَتْرَةِ، وَبِالْهَالِكِ صَغِيرًا» فَذَكَرَ مَعْنَاهُ مُطَوَّلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها قَالَ: بِطَاعَةِ اللَّهِ فَعَصَوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي الْآيَةِ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها بِحَقٍّ فَخَالَفُوهُ، فَحَقَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ التَّدْمِيرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْهُ فِي الآية قال: سلطنا شرارها فَعَصَوْا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها «1» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: قَدْ أَمِرَ بَنُو فلان. [سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 24] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) قَوْلُهُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ هَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا سَلَفَ مِنْ جُمْلَةِ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ وَمِنْ جُمْلَةِ مَنِ اهْتَدى وَالْمُرَادُ بِالْعَاجِلَةِ: الْمَنْفَعَةُ الْعَاجِلَةُ أَوِ الدَّارُ الْعَاجِلَةُ. وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ أَوْ بِأَعْمَالِ الْآخِرَةِ ذَلِكَ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْكَفَرَةُ والفسقة والمراؤون وَالْمُنَافِقُونَ عَجَّلْنا لَهُ أَيْ: عَجَّلْنَا لِذَلِكَ الْمُرِيدِ فِيها أَيْ: فِي تِلْكَ الْعَاجِلَةِ، ثُمَّ قَيَّدَ الْمُعَجَّلَ بِقَيْدَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: مَا نَشاءُ أَيْ: مَا يَشَاءُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَعْجِيلَهُ لَهُ مِنْهَا، لَا مَا يَشَاؤُهُ ذَلِكَ الْمُرِيدُ، وَلِهَذَا تَرَى كثيرا من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون

_ (1) . الأنعام: 123.

من الدُّنْيَا مَا لَا يَنَالُونَ، وَيَتَمَنَّوْنَ مَا لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ وَالْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: لِمَنْ نُرِيدُ أَيْ: لِمَنْ نُرِيدُ التَّعْجِيلَ لَهُ مِنْهُمْ مَا اقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُنَا، وَجُمْلَةُ لِمَنْ نُرِيدُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَهُ بِإِعَادَةِ الْجَارِ بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى «مَنْ» وَهُوَ لِلْعُمُومِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُقَيِّدُ الْآيَاتِ الْمُطْلَقَةَ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها «1» . مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ «2» . وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قُرِئَ «مَا يَشَاءُ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَلَا نَدْرِي مَنْ قَرَأَ بِذَلِكَ مِنْ أهل الشواذّ، وعلى هذه القراءة قيل: الضَّمِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: مَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالنُّونِ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ عَجَّلْنَا وَمَا بَعْدَهُ وَهُوَ لِمَنْ نُرِيدُ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ: لِمَنْ نُرِيدُ أَيْ: عَجَّلْنَا لَهُ مَا يَشَاؤُهُ، لَكِنْ بِحَسَبِ إِرَادَتِنَا فَلَا يَحْصُلُ لِمَنْ أَرَادَ الْعَاجِلَةَ مَا يَشَاؤُهُ إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَمِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الطِّلْبَةِ الْفَارِغَةِ الَّتِي لَا تَأْثِيرَ لَهَا إِلَّا بِالْقَيْدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَذَابُ الْآخِرَةِ الدَّائِمُ، وَلِهَذَا قَالَ: ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ أَيْ: جَعَلْنَا لَهُ بِسَبَبِ تَرْكِهِ لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ وَإِخْلَاصِهِ عَنِ الشَّوَائِبِ عَذَابَ جَهَنَّمَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ يَصْلاها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَدْخُلُهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً أَيْ: مَطْرُودًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مُبْعَدًا عَنْهَا، فَهَذِهِ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ، فَأَيْنَ حَالُ هَذَا الشَّقِيِّ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ؟ فَإِنَّهُ يَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ وَأَرَادَهُ بِلَا هَلَعٍ مِنْهُ وَلَا جَزَعٍ، مَعَ سُكُونِ نَفْسِهِ وَاطْمِئْنَانِ قَلْبِهِ وَثِقَتِهِ بِرَبِّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَامِلٌ لِلْآخِرَةِ مُنْتَظِرٌ لِلْجَزَاءِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَلِهَذَا قَالَ: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ أَيْ: أَرَادَ بِأَعْمَالِهِ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها أي: السعي الحقيق بِهَا اللَّائِقَ بِطَالِبِهَا، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَتَرْكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ خَالِصًا لِلَّهِ غَيْرَ مَشُوبٍ، وَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى الْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ مِنْ دُونِ ابْتِدَاعٍ وَلَا هَوًى وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ إِيمَانًا صَحِيحًا، لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «3» وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ إِلَى الْمُرِيدِينَ لِلْآخِرَةِ السَّاعِينَ لَهَا سَعْيَهَا وَخَبَرُهُ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً عِنْدَ الله، أي: مقبولا غير مردود وقيل: مضاعفا إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، فَقَدِ اعْتَبَرَ سُبْحَانَهُ فِي كَوْنِ السَّعْيُ مَشْكُورًا أُمُورًا ثَلَاثَةً: الْأَوَّلُ: إِرَادَةُ الْآخِرَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَسْعَى لَهَا السَّعْيَ الَّذِي يَحِقُّ لَهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَمَالَ رَأْفَتِهِ وَشُمُولَ رَحْمَتِهِ، فَقَالَ: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ التَّنْوِينُ فِي كُلًّا عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نُمِدُّ، أَيْ: نَزِيدُهُ مِنْ عَطَائِنَا عَلَى تَلَاحُقٍ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، نَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارَ وَأَهْلَ الطَّاعَةِ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ، لَا تُؤَثِّرُ مَعْصِيَةُ الْعَاصِي فِي قَطْعِ رِزْقِهِ، وَمَا بِهِ الْإِمْدَادُ: هُوَ مَا عَجَّلَهُ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، وَمَا أَنْعَمَ بِهِ فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى عَلَى مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذلك بمحض التفضل، وهو متعلق بنمدّ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أَيْ: مَمْنُوعًا، يُقَالُ: حَظَرَهُ يَحْظُرُهُ حَظْرًا مَنَعَهُ، وَكُلُّ مَا حَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ شَيْءٍ فَقَدْ حَظَرَهُ عَلَيْكَ، وهؤُلاءِ

_ (1) . الشورى: 20. (2) . هود: 15. (3) . المائدة: 27.

بَدَلٌ مِنْ كُلًّا وهؤُلاءِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْبَدَلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُعْطِيَ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ وَأَنَّهُ يَرْزُقُهُمَا جَمِيعًا الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ: هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا مَرَّ مِنَ الْإِمْدَادِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ وَالْمَعْنَى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا فِي الْعَطَايَا الْعَاجِلَةِ بَعْضَ الْعِبَادِ عَلَى بَعْضٍ، فَمِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، وَقَوِيٍّ وَضَعِيفٍ، وَصَحِيحٍ وَمَرِيضٍ وَعَاقِلٍ وَأَحْمَقَ وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ تَقْصُرُ الْعُقُولُ عَنْ إِدْرَاكِهَا وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا وَذَلِكَ لِأَنَّ نِسْبَةَ التفاضل في درجات الْآخِرَةُ أَكْبَرَ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرَ تَفْضِيلًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يَدْخُلُونَ النَّارَ فَتَظْهَرُ فَضِيلَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْآخِرَةِ وَدَرَجَاتِهَا فَوْقَ التَّفَاضُلِ فِي الدُّنْيَا وَمَرَاتِبِ أَهْلِهَا فِيهَا مِنْ بَسْطٍ وَقَبْضٍ وَنَحْوِهِمَا. ثُمَّ لَمَّا أَجْمَلَ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَ الْبِرِّ فِي قَوْلِهِ: وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ أَخَذَ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ مُبْتَدِئًا بِأَشْرَفِهَا الَّذِي هُوَ التَّوْحِيدُ فَقَالَ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ تَهْيِيجًا وَإِلْهَابًا، أَوْ لِكُلِّ مُتَأَهِّلٍ لَهُ صَالِحٍ لِتَوْجِيهِهِ إِلَيْهِ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ لَا تَجْعَلْ، وَانْتِصَابُ تَقْعُدَ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَكُنُ مِنْكَ جَعْلٌ فَقُعُودٌ وَمَعْنَى تَقْعُدُ تَصِيرُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: شَحَذَ الشَّفْرَةَ حَتَّى قَعَدَتْ كَأَنَّهَا خَرِبَةٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْقُعُودِ الْمُقَابِلِ لِلْقِيَامِ وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ، فَإِنَّ السَّعْيَ فِيهِ إِنَّمَا يَتَأَتَّى بِالْقِيَامِ، وَالْعَجْزُ عَنْهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ قَاعِدًا عَنِ الطَّلَبِ وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَذْمُومِ الْمَخْذُولِ أَنْ يَقْعُدَ نَادِمًا مُفَكِّرًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ، فَالْقُعُودُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ، وَانْتِصَابُ مَذْمُوماً مَخْذُولًا عَلَى خَبَرِيَّةِ تَقْعُدَ أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فَتَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الذَّمِّ لَكَ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ مَلَائِكَتِهِ، وَمِنْ صَالِحِي عِبَادِهِ، وَالْخِذْلَانِ لَكَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، أَوْ حَالَ كَوْنِكَ جَامِعًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ مَا هُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ أَتْبَعَهُ سَائِرَ الشَّعَائِرِ وَالشَّرَائِعِ فَقَالَ: وَقَضى رَبُّكَ أَيْ: أَمَرَ أمرا جزما، وحكما قطعا، وحتما مبرما أَلَّا تَعْبُدُوا أَيْ: بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا، فَتَكُونُ أَنْ نَاصِبَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً وَلَا نَهْيَ. وَقُرِئَ وَوَصَّى رَبُّكَ أَيْ: وَصَّى عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أَيْ: وَقَضَى بِأَنْ تُحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، أَوْ وَأَحْسِنُوا بِهِمَا إِحْسَانًا، وَلَا يَجُوزُ أن يتعلّق بالوالدين بإحسانا، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ. قِيلَ: وَوَجْهُ ذِكْرِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي وُجُودِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَهُمَا، وَفِي جَعْلِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْأَبَوَيْنِ قَرِينًا لِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ مِنَ الْإِعْلَانِ بِتَأَكُّدِ حَقِّهِمَا وَالْعِنَايَةِ بِشَأْنِهِمَا مَا لَا يَخْفَى، وَهَكَذَا جَعَلَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى شُكْرَهُمَا مُقْتَرِنًا بِشُكْرِهِ فَقَالَ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ «1» ، ثُمَّ خَصَّ سُبْحَانَهُ حَالَةَ الْكِبَرِ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا إِلَى الْبِرِّ مِنَ الْوَلَدِ أَحْوَجَ مِنْ غَيْرِهَا فَقَالَ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما إِمَّا مُرَكَّبَةٌ مِنْ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ وَمَا الْإِبْهَامِيَّةِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الشَّرْطِ، ثُمَّ أُدْخِلَتْ نُونُ التَّوْكِيدِ فِي الْفِعْلِ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ مِمَّا سَيَقَعُ الْبَتَّةَ عَادَةً «2» . قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّ الشَّرْطَ يُشْبِهُ النهي من

_ (1) . لقمان: 14. (2) . قال الرازي في تفسيره: المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما ألا يقع.

حَيْثُ الْجَزْمِ وَعَدَمِ الثُّبُوتِ، فَلِهَذَا صَحَّ دُخُولُ النُّونِ الْمُؤَكِّدَةِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يَبْلُغَانِ» قَالَ الْفَرَّاءُ: ثَنّىَ لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ قَدْ ذُكِرَا قَبْلَهُ فَصَارَ الْفِعْلُ عَلَى عَدَدِهِمَا، ثُمَّ قَالَ: أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ يَبْلُغَنَّ فَأَحَدُهُمَا فَاعِلٌ بِالِاسْتِقْلَالِ وَقَوْلُهُ: أَوْ كِلاهُما فَاعِلٌ أَيْضًا لَكِنْ لَا بِالِاسْتِقْلَالِ بَلْ بِتَبَعِيَّةِ الْعَطْفِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَلَى قِرَاءَةِ «يَبْلُغَانِ» بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ فِي الْفِعْلِ وَيَكُونُ كِلَاهُمَا عَطْفًا عَلَى الْبَدَلِ، وَلَا يَصِحُّ جَعْلُ كِلَاهُمَا تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ لِاسْتِلْزَامِ الْعَطْفِ الْمُشَارَكَةَ، وَمَعْنَى عِنْدَكَ فِي كَنَفِكَ وكفالتك، وتوحيد الضمير في عندك وَلَا تَقُلْ وَمَا بَعْدَهُمَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ مَنْهِيٌّ بِمَا فِيهِ النَّهْيُ، وَمَأْمُورٌ بِمَا فِيهِ الْأَمْرُ، وَمَعْنَى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ لَا تَقُلْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَالَتَيِ الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ فَقَطْ وَفِي أُفٍّ لُغَاتٌ: ضَمُّ الْهَمْزَةِ مَعَ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْفَاءِ، وَبِالتَّنْوِينِ وَعَدَمِهِ، وَبِكَسْرِ الهمز والفاء بلا تنوين، وأفّي مُمَالًا «1» ، وَأُفَّهْ بِالْهَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ يَتَأَفَّفُ مِنْ رِيحٍ وَجَدَهَا، أَيْ: يَقُولُ أُفٌّ أُفٌّ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْأُفُّ: وَسَخُ الْأُذُنِ، والتّف: وَسَخُ الْأَظْفَارِ، يُقَالُ ذَلِكَ عِنْدَ اسْتِقْذَارِ الشَّيْءِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتَعْمَلُوهُ فِي كُلِّ مَا يَتَأَذَّوْنَ بِهِ. وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أن الأف الضجر، وقال القتبي: أَصْلُهُ أَنَّهُ إِذَا سَقَطَ عَلَيْهِ تُرَابٌ وَنَحْوُهُ نَفَخَ فِيهِ لِيُزِيلَهُ، فَالصَّوْتُ الْحَاصِلُ عِنْدَ تِلْكَ النَّفْخَةِ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: أُفٌّ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فَذَكَرُوهُ عِنْدَ كُلِّ مَكْرُوهٍ يَصِلُ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ النَّتَنُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العلاء: الأف وسخ بين الأظفار والتّف قُلَامَتُهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ يُنْبِئُ عَنِ التَّضَجُّرِ وَالِاسْتِثْقَالِ، أَوْ صَوْتٌ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ، فَنُهِيَ الْوَلَدُ عَنْ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّضَجُّرِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوِ الِاسْتِثْقَالِ لَهُمَا، وَبِهَذَا النَّهْيِ يُفْهَمُ النَّهْيُ عَنْ سَائِرِ مَا يُؤْذِيهِمَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ أَوْ بِلَحْنِهِ كَمَا هُوَ مُتَقَرِّرٌ فِي الْأُصُولِ وَلا تَنْهَرْهُما النَّهْرُ: الزَّجْرُ وَالْغِلْظَةُ، يُقَالُ: نَهَرَهُ وَانْتَهَرَهُ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ يَزْجُرُهُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَا تُكَلِّمْهُمَا ضَجِرًا صَائِحًا فِي وُجُوهِهِمَا وَقُلْ لَهُما بَدَلَ التَّأْفِيفِ وَالنَّهْرِ قَوْلًا كَرِيماً أَيْ: لَيِّنًا لَطِيفًا أَحْسَنَ مَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ مِنْ لُطْفِ الْقَوْلِ وَكَرَامَتِهِ مَعَ التَّأَدُّبِ وَالْحَيَاءِ وَالِاحْتِشَامِ وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي مَعْنَى خَفْضِ الْجَنَاحِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ ضَمَّ فِرَاخَهُ إِلَيْهِ لِلتَّرْبِيَةِ خَفَضَ لَهَا جَنَاحَهُ، فَلِهَذَا صَارَ خَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِلْوَلَدِ: اكْفُلْ وَالِدَيْكَ بِأَنْ تَضُمَّهُمَا إِلَى نَفْسِكَ كَمَا فَعَلَا ذَلِكَ بِكَ فِي حَالِ صِغَرِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ الطَّيَرَانَ وَالِارْتِفَاعَ نَشَرَ جَنَاحَهُ، وَإِذَا أَرَادَ النُّزُولَ خَفَضَ جَنَاحَهُ، فَصَارَ خَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنِ التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ الِارْتِفَاعِ. وَفِي إِضَافَةِ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَإِضَافَةِ حَاتِمٍ إِلَى الْجُودِ فِي قَوْلِكَ حَاتِمُ الْجُودِ، فَالْأَصْلُ فِيهِ الْجَنَاحُ الذَّلِيلُ، وَالثَّانِي: سُلُوكُ سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، كَأَنَّهُ تَخَيَّلَ لِلذُّلِّ جَنَاحًا، ثُمَّ أَثْبَتَ لِذَلِكَ الْجَنَاحِ خَفْضًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الذُّلِّ بِضَمِّ الذَّالِ مِنْ ذَلَّ يَذِلُّ ذُلًّا وَذِلَّةً وَمَذَلَّةً فَهُوَ ذَلِيلٌ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِكَسْرِ الذَّالِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَاصِمٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ دابة ذلول بيّنة الذُّلِّ أَيْ: مُنْقَادَةٌ سَهْلَةٌ لَا صُعُوبَةَ فِيهَا، ومن الرَّحْمَةِ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ فرط الشفقة والعطف

_ (1) . قراءة على الإمالة.

عَلَيْهِمَا لِكِبَرِهِمَا وَافْتِقَارِهِمَا الْيَوْمَ لِمَنْ كَانَ أَفْقَرَ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِمَا بِالْأَمْسِ، ثُمَّ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَلَا تَكْتَفِ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي لَا دوام لها وَلكن قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: رَحْمَةً مِثْلَ تَرْبِيَتِهِمَا لِي أَوْ مِثْلَ رَحْمَتِهِمَا لِي وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ رَحْمَةً مِثْلَ الرَّحْمَةِ بَلِ الْكَافَ لِاقْتِرَانِهِمَا فِي الْوُجُودِ فَلْتَقَعْ هَذِهِ كَمَا وَقَعَتْ تِلْكَ. وَالتَّرْبِيَةُ: التَّنْمِيَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: لِأَجْلِ تَرْبِيَتِهِمَا لِي كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ «1» وَلَقَدْ بَالَغَ سُبْحَانَهُ فِي التَّوْصِيَةِ بِالْوَالِدَيْنِ مُبَالَغَةً تَقْشَعِرُّ لَهَا جُلُودُ أَهْلِ الْعُقُوقِ، وَتَقِفُ عِنْدَهَا شُعُورُهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ قَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ذَاكَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: كُلًّا نُمِدُّ الآية قال: كل يَرْزُقُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الآية قال: يرزق مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا وَيُرْزَقُ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: مَحْظُوراً مَمْنُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَفِعَ فِي الدُّنْيَا دَرَجَةً فَارْتَفَعَ بِهَا إِلَّا وَضَعَهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ دَرَجَةً أَكْبَرَ مِنْهَا وَأَطْوَلَ، ثم قرأ: أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ زَاذَانَ عَنْ سَلْمَانَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَوْنَ أَهْلَ عِلِّيِّينَ كَمَا يَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَذْمُوماً يَقُولُ: مَلُومًا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: وَوَصَّى رَبُّكَ، مَكَانَ وَقَضى، وقال: التزقت الواو والصاد وأنتم تقرؤونها «وَقَضى رَبُّكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ مَنِيعٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْهُ أَيْضًا مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَلَوْ نَزَلَتْ عَلَى الْقَضَاءِ مَا أَشْرَكَ بِهِ أَحَدٌ. وَأَقُولُ: إِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا لَوْ كَانَ الْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ مِنَ الْأَمْرِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ مَعَانِي مُطْلَقِ الْقَضَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ «2» ، وَقَوْلِهِ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ «3» فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ «4» وَلَكِنَّهُ- هَاهُنَا- بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي الْقَضَاءِ، وَالْأَمْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ بِجَمِيعِ مَا أَوْجَبَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ إِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ وَتَوْحِيدُهُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَقَعَ الشِّرْكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ مَعَانِي مُطْلَقِ الْقَضَاءِ مَعَانٍ أُخَرُ غَيْرُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ كَالْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، وَمِنْهُ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ «5» . وَبِمَعْنَى الْإِرَادَةِ كَقَوْلِهِ: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «6» . وَبِمَعْنَى الْعَهْدِ كَقَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ «7» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:

_ (1) . البقرة: 198. (2) . يوسف: 41. (3) . البقرة: 200. (4) . النساء: 103. (5) . فصلت: 12. (6) . البقرة: 117. (7) . القصص: 44. [.....]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 25 إلى 33]

وَقَضى رَبُّكَ قَالَ: أَمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: عَهِدَ رَبُّكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً يَقُولُ: بِرًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فيما تُمِيطُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَذَى: الْخَلَاءِ وَالْبَوْلِ، كَمَا كَانَا لَا يَقُولَانِهِ فِيمَا كَانَا يُمِيطَانِ عَنْكَ من الخلاء والبول. وأخرج الديلمي عن الحسن بْنِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «لَوْ عَلِمَ اللَّهُ شَيْئًا مِنَ الْعُقُوقِ أَدْنَى مِنْ أُفٍّ لَحَرَّمَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً قَالَ: إِذَا دَعَوَاكَ فَقُلْ لَبَّيْكُمَا وَسَعْدَيْكُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَوْلًا لَيِّنًا سَهْلًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ قَالَ: يَلِينُ لَهُمَا حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: اخْضَعْ لِوَالِدَيْكَ كَمَا يَخْضَعُ الْعَبْدُ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ الْغَلِيظِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى «1» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ نَحْوَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ في كتب الحديث. [سورة الإسراء (17) : الآيات 25 الى 33] رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) قَوْلُهُ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أَيْ: بِمَا فِي ضَمَائِرِكُمْ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَعَدَمِهِ فِي كُلِّ الطَّاعَاتِ، وَمِنَ التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي فَرُطَ مِنْكُمْ أَوِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ مَا فِي النَّفْسِ مِنَ الْبِرِّ وَالْعُقُوقِ انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِمَا يَجِبُ لِلْأَبَوَيْنِ مِنَ الْبِرِّ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْأَوْلَادِ مِنَ الْعُقُوقِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَلَا تُخَصِّصُهُ دَلَالَةُ السِّيَاقِ وَلَا تُقَيِّدُهُ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قَاصِدِينَ الصَّلَاحَ، وَالتَّوْبَةَ مِنَ الذَّنْبِ وَالْإِخْلَاصَ لِلطَّاعَةِ فَلَا يَضُرُّكُمْ مَا وَقَعَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي تُبْتُمْ عَنْهُ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً أَيِ: الرَّجَّاعِينَ عَنِ الذُّنُوبِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَعَنْ عَدَمِ الْإِخْلَاصِ إِلَى مَحْضِ الْإِخْلَاصِ غَفُورًا لِمَا فَرُطَ مِنْهُمْ من قول

_ (1) . التوبة: 113.

أَوْ فِعْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ رَجَعَ اللَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ التَّوْصِيَةَ بِغَيْرِ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْأَقَارِبِ بَعْدَ التَّوْصِيَةِ بِهِمَا فَقَالَ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْخِطَابُ إِمَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهْيِيجًا وَإِلْهَابًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ وَالْمُرَادُ بِذِي الْقُرْبَى ذُو الْقَرَابَةِ، وَحَقُّهُمْ هُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، وَكَرَّرَ التَّوْصِيَةَ فِيهَا، وَالْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْقَرَابَةِ، أَوْ لِبَعْضِهِمْ كَالْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَالْأَوْلَادُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ مَعْرُوفٌ، وَالَّذِي يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وُجُوبُ صِلَتِهِمْ بِمَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ الْقُدْرَةُ وَحَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَالْمِسْكِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى «ذَا الْقُرْبَى» وَفِي هَذَا الْعَطْفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ الْحَقُّ الْمَالِيُّ وَابْنَ السَّبِيلِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمِسْكِينَ، وَالْمَعْنَى: وَآتِ مَنِ اتَّصَفَ بِالْمَسْكَنَةِ، أَوْ بِكَوْنِهِ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ حَقَّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي التَّوْبَةِ، وَالْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِمَا بِمَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ الْقُدْرَةُ مِنْ صَدَقَةِ النَّفْلِ، أَوْ مِمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ لَهُمَا مِنْ صَدَقَةِ الْفَرْضِ، فَإِنَّهُمَا مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي هِيَ مَصْرِفُ الزَّكَاةِ. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ هَاهُنَا نَهَى عَنِ التَّبْذِيرِ فَقَالَ: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً التَّبْذِيرُ: تَفْرِيقُ الْمَالِ، كَمَا يُفَرَّقُ الْبِذْرُ كَيْفَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِمَوَاقِعِهِ، وَهُوَ الْإِسْرَافُ الْمَذْمُومُ لِمُجَاوَزَتِهِ لِلْحَدِّ الْمُسْتَحْسَنِ شَرْعًا فِي الْإِنْفَاقِ، أَوْ هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّبْذِيرُ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَلَا تَبْذِيرَ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ حِكَايَتِهِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ هَذَا: وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: التَّبْذِيرُ: هُوَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ حَقِّهِ، وَوَضْعُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَهُوَ الْإِسْرَافُ، وَهُوَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالْأُخُوَّةِ الْمُمَاثَلَةُ التَّامَّةُ، وَتَجَنُّبُ مُمَاثَلَةِ الشَّيْطَانِ وَلَوْ فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ خِصَالِهِ وَاجِبٌ، فَكَيْفَ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ الْمُمَاثَلَةِ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ فَقَدْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَاقْتَدَى بِهِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أَيْ: كَثِيرَ الْكُفْرَانِ، عَظِيمَ التَّمَرُّدِ عَنِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ مَعَ كُفْرِهِ لَا يَعْمَلُ إِلَّا شَرًّا، وَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِعَمَلِ الشَّرِّ، وَلَا يُوَسْوِسُ إِلَّا بِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَسْجِيلٌ عَلَى الْمُبَذِّرِينَ بِمُمَاثَلَةِ الشَّيَاطِينِ، ثُمَّ التَّسْجِيلُ عَلَى جِنْسِ الشَّيْطَانِ بِأَنَّهُ كَفُورٌ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُبَذِّرَ مُمَاثِلٌ لِلشَّيْطَانِ، وَكُلُّ مُمَاثِلٍ لِلشَّيْطَانِ لَهُ حُكْمُ الشَّيْطَانِ، وَكُلُّ شَيْطَانٍ كَفُورٌ، فَالْمُبَذِّرُ كَفُورٌ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ قَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ أَصْلَ إِمَّا هَذِهِ مُرَكَّبٌ مِنْ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ وما الْإِبْهَامِيَّةِ، وَأَنَّ دُخُولَ نُونِ التَّأْكِيدِ عَلَى الشَّرْطِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلنَّهْيِ، أَيْ: إِنْ أَعْرَضْتَ عَنْ ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ لِأَمْرٍ اضْطَرَّكَ إِلَى ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ أَيْ: لِفَقْدِ رِزْقٍ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّهُ أَقَامَ الْمُسَبَّبَ الَّذِي هُوَ ابْتِغَاءُ رَحْمَةِ اللَّهِ مَقَامَ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ فَقْدُ الرِّزْقِ لِأَنَّ فَاقِدَ الرِّزْقِ مُبْتَغٍ لَهُ وَالْمَعْنَى: وَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُمْ لِفَقْدِ رِزْقٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُو أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أَيْ: قَوْلًا سَهْلًا لَيِّنًا كَالْوَعْدِ الْجَمِيلِ أَوِ الِاعْتِذَارِ الْمَقْبُولِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يَسَّرْتُ لَهُ الْقَوْلَ أَيْ لَيَّنْتُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى الْآيَةِ إِنْ تُعْرِضْ عَنِ السَّائِلِ إِضَاقَةً وَإِعْسَارًا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا عِدْهُمْ عِدَةً حَسَنَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِكَ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هنا الإعراض

بِالْوَجْهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَأْدِيبٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ إِذَا سَأَلَهُمْ سَائِلٌ مَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ كَيْفَ يَقُولُونَ وَبِمَا يَرُدُّونَ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ: إِنْ لَا يَكُنْ وَرِقٌ يَوْمًا أَجُودُ بِهَا ... لِلسَّائِلِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ لَا يعدم السائلون الخير من خلقي ... إمّا نوالي وإما حسن مردودي لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَدَبَ الْمَنْعِ بَعْدَ النَّهْيِ عن التذيير بَيَّنَ أَدَبَ الْإِنْفَاقِ فَقَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ وَهَذَا النَّهْيُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُكَلَّفٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضًا لِأُمَّتِهِ وَتَعْلِيمًا لَهُمْ، أَوِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ لِلْإِنْسَانِ بِأَنْ يُمْسِكَ إِمْسَاكًا يَصِيرُ بِهِ مُضَيِّقًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَهْلِهِ، وَلَا يُوَسِّعُ فِي الْإِنْفَاقِ تَوْسِيعًا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بِهِ مُسْرِفًا، فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ جَانِبَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. وَيَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ التَّوَسُّطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهِ: وَلَا تَكُ فِيهَا مُفْرِطًا أَوْ مُفَرِّطًا ... كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ وَقَدْ مَثَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ الشَّحِيحِ بِحَالِ مَنْ كَانَتْ يَدُهُ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ التَّصَرُّفَ بِهَا، وَمَثَّلَ حَالَ مَنْ يُجَاوِزُ الْحَدَّ فِي التَّصَرُّفِ بِحَالِ مَنْ يَبْسُطُ يَدَهُ بَسْطًا لَا يَتَعَلَّقُ بِسَبَبِهِ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا تَقْبِضُ الْأَيْدِيَ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا التَّصْوِيرِ مُبَالِغَةٌ بَلِيغَةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ غَائِلَةَ الطَّرَفَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا فَقَالَ: فَتَقْعُدَ مَلُوماً عِنْدَ النَّاسِ بِسَبَبِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّحِّ مَحْسُوراً بِسَبَبِ مَا فَعَلْتَهُ مِنَ الْإِسْرَافِ، أَيْ: مُنْقَطِعًا عَنِ الْمَقَاصِدِ بِسَبَبِ الْفَقْرِ، وَالْمَحْسُورُ فِي الْأَصْلِ: الْمُنْقَطِعُ عَنِ السَّيْرِ، مِنْ حَسَرَهُ السَّفَرُ إِذَا بَلَغَ مِنْهُ، وَالْبَعِيرُ الْحَسِيرُ: هُوَ الَّذِي ذَهَبَتْ قُوَّتُهُ فَلَا انْبِعَاثَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ «1» ، أَيْ: كَلَيْلٌ مُنْقَطِعٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نَادِمًا عَلَى مَا سَلَفَ، فَجَعَلَهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنَ الْحَسْرَةِ الَّتِي هِيَ النَّدَامَةُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مِنَ الْحَسْرَةِ حَسْرَانٌ، وَلَا يُقَالُ مَحْسُورٌ إِلَّا لِلْمَلُومِ ثُمَّ سَلَّى رَسُولَهُ والمؤمنين بأن الذين يرهقهم من الإضافة لَيْسَ لِهَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنْ لِمَشِيئَةِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أَيْ: يُوَسِّعُهُ عَلَى بَعْضٍ وَيُضَيِّقُهُ عَلَى بَعْضٍ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، لَا لِكَوْنِ مَنْ وَسَّعَ لَهُ رِزْقُهُ مُكَرَّمًا عِنْدَهُ، وَمَنْ ضَيَّقَهُ عَلَيْهِ هَائِنًا لَدَيْهِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ الْبَسْطَ وَالْقَبْضَ إِنَّمَا هُمَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي لَا تَفْنَى خَزَائِنُهُ، فَأَمَّا عِبَادُهُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتَصِدُوا، ثُمَّ عَلَّلَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْبَسْطِ لِلْبَعْضِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَى الْبَعْضِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أَيْ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ، فَهُوَ الْخَبِيرُ بِأَحْوَالِهِمُ، الْبَصِيرُ بِكَيْفِيَّةِ تَدْبِيرِهِمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْمُتَكَفِّلُ بِأَرْزَاقِ عِبَادِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهَا: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أَمْلَقَ الرَّجُلُ: لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْمَلَقَاتُ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْعِظَامُ الْمُلْسُ. قَالَ الْهُذَلِيُّ يصف صائدا: أتيح لها أقيدر ذو حشيف ... إذا سامت على الملقات ساما

_ (1) . الملك: 4.

الأقيدر: تصغير الأقدر وهو الرجل القصير، والحشيف مِنَ الثِّيَابِ: الْخَلِقُ، وَسَامَتْ: مَرَّتْ، وَيُقَالُ: أَمْلَقَ إِذَا افْتَقَرَ وَسَلَبَ الدَّهْرُ مَا بِيَدِهِ. قَالَ أَوْسٌ: ............... .... وَأَمْلَقُ مَا عِنْدِي خُطُوبٌ تِنْبَلُ «1» نَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَ الْفَقْرِ حَتَّى يَبْلُغُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ الْأَوْلَادِ لَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّازِقُ لِعِبَادِهِ، يَرْزُقُ الْأَبْنَاءَ كَمَا يَرْزُقُ الْآبَاءَ فَقَالَ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ وَلَسْتُمْ لَهُمْ بِرَازِقِينَ حَتَّى تَصْنَعُوا بِهِمْ هَذَا الصُّنْعَ، وَقَدْ مَرَّ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَنْعَامِ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَبِالْهَمْزِ الْمَقْصُورِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، خَطَأً، بِفَتْحِ الخاء والطاء والقصر في الهمز، يقال: خطىء في ذنبه خطأ إدا أَثِمَ، وَأَخْطَأَ: إِذَا سَلَكَ سَبِيلَ خَطَأٍ عَامِدًا أو غير عامد. قال الأزهري: خطىء يخطأ خِطَئًا مِثْلُ أَثِمَ يَأْثَمُ إِثْمًا إِذَا تَعَمَّدَ الخطأ، وأخطأ: إذا لم يتعمّد، إخطاء وخطأ، قال الشاعر: دعيني إنما خطئي وصوبي ... عليّ وإنّ ما أهلكت مال «2» وَالْخَطَأُ الِاسْمُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَخْطَاءِ، وَفِيهِ لُغَتَانِ الْقَصْرُ، وَهُوَ الْجَيِّدُ، وَالْمَدُّ وَهُوَ قَلِيلٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَمَدِّ الْهَمْزِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا أَعْرِفُ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهًا، وَكَذَلِكَ جَعَلَهَا أَبُو حَاتِمٍ غَلَطًا. وَقَرَأَ الحسن «خطىّ» بفتح الخاء والطاء منوّنة من غير همزة. وَلَمَّا نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ الْمُسْتَدْعِي لِإِفْنَاءِ النَّسْلِ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا الْمُفْضِي إِلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ فَقَالَ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى وَفِي النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهِ بِمُبَاشَرَةِ مُقَدَّمَاتِهِ نَهْيٌ عَنْهُ بِالْأَوْلَى، فَإِنَّ الْوَسِيلَةَ إِلَى الشَّيْءِ إِذَا كَانَتْ حَرَامًا كَانَ المتوسل إليه حراما بفحوى الخطاب، والزنى فِيهِ لُغَتَانِ: الْمَدُّ، وَالْقَصْرُ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ كَمَا ... كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ ثُمَّ عَلَّلَ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أَيْ: قَبِيحًا مُتَبَالِغًا فِي الْقُبْحِ مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ وَساءَ سَبِيلًا أَيْ: بِئْسَ طَرِيقًا طَرِيقُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى النَّارِ، وَلَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي تَقْبِيحِهِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ النَّهْيِ عَنِ الْقَتْلِ لِخُصُوصِ الْأَوْلَادِ وَعَنِ النَّهْيِ عَنِ الزِّنَا الَّذِي يُفْضِي إِلَى مَا يُفْضِي إِلَيْهِ قَتْلُ الْأَوْلَادِ مِنِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ وَعَدَمِ اسْتِقْرَارِهَا، نَهَى عَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ الْمَعْصُومَةِ عَلَى الْعُمُومِ فَقَالَ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ والمراد بالتي

_ (1) . وصدره: لما رأيت العدم قيد نائلي. (2) . في المطبوع: دَعِينِي إِنَّمَا خَطَّاءً وَصَدًّا ... عَلِيَّ وَإِنَّمَا أَهْلَكْتُ مالي والمثبت من اللسان والشعر والشعراء لابن قتيبة.

حَرَّمَ اللَّهُ الَّتِي جَعَلَهَا مَعْصُومَةً بِعِصْمَةِ الدِّينِ أَوْ عِصْمَةِ الْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ هُوَ مَا يُبَاحُ بِهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ الْمَعْصُومَةِ فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ كَالرِّدَّةِ وَالزِّنَا مِنَ الْمُحْصَنِ، وَكَالْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ عَمْدًا عُدْوَانًا وَمَا يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، أَيْ: لَا تَقْتُلُوهَا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَّا بِسَبَبِ مُتَلَبِّسٍ بِالْحَقِّ، أَوْ إِلَّا مُتَلَبِّسِينَ بِالْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي الْأَنْعَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ بَعْضِ الْمَقْتُولِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أَيْ: لَا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُسَوِّغَةِ لِقَتْلِهِ شَرْعًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أَيْ: لِمَنْ يَلِي أَمْرَهُ مَنْ وَرَثَتِهِ إِنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ، أَوْ مِمَّنْ لَهُ سُلْطَانٌ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ، وَالسُّلْطَانُ: التَّسَلُّطُ عَلَى الْقَاتِلِ إِنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ إِبَاحَةَ الْقِصَاصِ لِمَنْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِدَمِ الْمَقْتُولِ، أَوْ مَا هُوَ عِوَضٌ عَنِ الْقِصَاصِ نَهَاهُ عَنْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فَقَالَ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ أَيْ: لَا يُجَاوِزْ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ فَيَقْتُلْ بِالْوَاحِدِ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةً، أَوْ يُمَثِّلْ بِالْقَاتِلِ، أَوْ يُعَذِّبْهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَا يُسْرِفْ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أي: الولي، وقرأ حمز وَالْكِسَائِيُّ تُسْرِفْ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْقَاتِلِ الْأَوَّلِ، وَنَهْيٌ لَهُ عَنِ الْقَتْلِ، أَيْ: فَلَا تُسْرِفُ أَيُّهَا الْقَاتِلُ بِالْقَتْلِ فَإِنَّ عَلَيْكَ الْقِصَاصَ مَعَ مَا عَلَيْكَ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ وَلَعْنَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ: لَا تَقْتُلْ يَا مُحَمَّدُ غَيْرَ الْقَاتِلِ وَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ بَعْدَكَ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «وَلَا تُسْرِفُوا» ثُمَّ عَلَّلَ النَّهْيَ عَنِ السَّرَفِ فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً أَيْ: مُؤَيَّدًا مُعَانًا، يَعْنِي الْوَلِيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ نَصَرَهُ بِإِثْبَاتِ الْقِصَاصِ لَهُ بِمَا أَبْرَزَهُ مِنَ الْحُجَجِ، وَأَوْضَحَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَرَ أَهْلَ الْوِلَايَاتِ بِمَعُونَتِهِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الْمَقْتُولِ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ نَصَرَهُ بِوَلِيِّهِ، قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قَالَ: تَكُونُ الْبَادِرَةُ مِنَ الْوَلَدِ إِلَى الْوَالِدِ، فَقَالَ اللَّهُ: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ إِنْ تَكُنِ النِّيَّةُ صَادِقَةً فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً لِلْبَادِرَةِ الَّتِي بَدَرَتْ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً قَالَ: الرَّجَّاعِينَ إِلَى الْخَيْرِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَهَنَّادٌ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: الرَّجَّاعِينَ مِنَ الذَّنْبِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَمِنَ السَّيِّئَاتِ إِلَى الْحَسَنَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لِلْأَوَّابِينَ قَالَ: لِلْمُطِيعِينَ الْمُحْسِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ قَالَ: لِلتَّوَّابِينَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ قَالَ: أَمَرَهُ بِأَحَقِّ الْحُقُوقِ، وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَصْنَعُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ، وَكَيْفَ يَصْنَعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَقَالَ: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها قال: إذا سألوك وليس عندك شيء انتظرت رِزْقًا مِنَ اللَّهِ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً يقول: إِنْ شَاءَ اللَّهُ يَكُونُ شِبْهَ الْعِدَةِ. قَالَ سُفْيَانُ: وَالْعِدَةُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ أَنْ تَصِلَ ذَا الْقَرَابَةِ وَتُطْعِمَ الْمِسْكِينَ وَتُحْسِنَ إِلَى ابْنِ السَّبِيلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا قَرَأْتَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ؟ قَالَ:

وَإِنَّكُمْ لَلْقَرَابَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُؤْتَى حَقُّهُمْ. قَالَ: نَعَمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ. قَالَ: وَالْقُرْبَى قُرْبَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَقُولُ: لَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يُفِيدُ هَذَا التَّخْصِيصَ، وَلَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ، وَمَعْنَى النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ وَاضِحٌ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ مَعَ كُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَمْرُ كُلِّ مُكَلَّفٍ مُتَمَكِّنٍ مِنْ صِلَةِ قَرَابَتِهِ بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ حَقَّهُمْ، وَهُوَ الصِّلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيضِ لِأُمَّتِهِ فَالْأَمْرُ فِيهِ كَالْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لَهُ مِنْ دُونِ تَعْرِيضٍ، فَأُمَّتُهُ أُسْوَتُهُ، فَالْأَمْرُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى حَقَّهُ أَمْرٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أُمَّتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَيْسَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَمَا بَعْدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً- إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ذُو مَالٍ كَثِيرٍ وَذُو أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَحَاضِرَةٍ، فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ أُنْفِقُ وَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: تُخْرِجُ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ، وَتَصِلُ أَقَارِبَكَ، وَتَعْرِفُ حَقَّ السَّائِلِ وَالْجَارِ وَالْمِسْكِينِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْلِلْ لِي؟ قَالَ: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا. قَالَ: حَسْبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ فَأَعْطَاهَا فَدَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ فَدَكَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا مَا لَفْظُهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ لَوْ صَحَّ إِسْنَادُهُ، لَأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَفْدَكُ إِنَّمَا فُتِحَتْ مَعَ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَكَيْفَ يَلْتَئِمُ هَذَا مَعَ هَذَا؟ انْتَهَى. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً قَالَ: التَّبْذِيرُ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ نَتَحَدَّثُ أَنَّ التَّبْذِيرَ النَّفَقَةُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ الْمَالَ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا أَنْفَقْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَبْذِيرٍ وَمَا تَصَدَّقْتَ فَلَكَ، وَمَا أَنْفَقْتَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَذَلِكَ حَظُّ الشَّيْطَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً قَالَ: الْعِدَةُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَيَّارِ أَبِي الْحَكَمِ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرٌّ مِنَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ مِعْطَاءً كَرِيمًا، فَقَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالُوا: إِنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْأَلُهُ، فَوَجَدُوهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ قَالَ: مَحْبُوسَةً وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً يَلُومُكَ النَّاسُ مَحْسُوراً لَيْسَ بِيَدِكَ شَيْءٌ.

أَقُولُ: وَلَا أَدْرِي كَيْفَ هَذَا؟ فَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ عَرَبٌ يَقْصِدُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُحْمَلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْعِرَاقِ وَلَا مِمَّا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، عَلَى أَنَّ فَتْحَ الْعِرَاقِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو «بَعَثَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنِهَا فَقَالَتْ: قُلْ لَهُ اكْسُنِي ثَوْبًا. فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، فَقَالَتْ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ اكْسُنِي قَمِيصَكَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَنَزَعَ قَمِيصَهُ فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ، فَنَزَلَتْ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ لِعَائِشَةَ وَضَرَبَ بِيَدِهِ: أَنْفِقِي مَا عَلَى ظَهْرِ كَفِّي، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ. قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً الْآيَةَ» وَيَقْدَحُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِعَائِشَةَ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْبُخْلَ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا فِي النَّفَقَةِ يَقُولُ: لَا تَجْعَلْهَا مغلولة لا تبسطها بِخَيْرٍ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، يَعْنِي التَّبْذِيرَ فَتَقْعُدَ مَلُوماً، يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ مَالِهِ مَحْسُوراً ذَهَبَ مَالُهُ كُلُّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ قَالَ: يَنْظُرُ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْغِنَى خَيْرًا لَهُ أَغْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ الْفَقْرُ خَيْرًا لَهُ أَفْقَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ قَالَ: مَخَافَةَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: خِطْأً قَالَ: خَطِيئَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى قَالَ: يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَكُنْ حُدُودٌ، فَجَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْحُدُودُ فِي سُورَةِ النُّورِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبيّ ابن كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ: «وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كان فاحشة ومقتا وَسَاءَ سَبِيلًا إِلَّا مَنْ تَابَ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا» فَذُكِرَ لِعُمَرَ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: أَخَذْتُهَا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ، وَلَيْسَ لَكَ عَمَلٌ إِلَّا الصَّفْقَ بِالْبَقِيعِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّرْهِيبِ عَنْ فَاحِشَةِ الزِّنَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الْآيَةَ قَالَ: هَذَا بِمَكَّةَ وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَهُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَغْتَالُونَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُ: مَنْ قَتَلَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ قَتْلُهُ إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ تَقْتُلُوا لَهُ أَبًا أَوْ أَخًا أَوْ وَاحِدًا مِنْ عَشِيرَتِهِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، فَلَا تَقْتُلُوا إِلَّا قَاتِلَكُمْ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ براءة، وقبل أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً يَقُولُ: لَا تَقْتُلْ غَيْرَ قَاتِلِكَ، وَهِيَ الْيَوْمُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا إِلَّا قَاتِلَهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمِ: أَنَّ النَّاسَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ مِنَ الْقَوْمِ رَجُلًا لَمْ يَرْضَوْا حَتَّى يَقْتُلُوا بِهِ رَجُلًا شَرِيفًا، إِذَا كَانَ قَاتِلُهُمْ غَيْرَ شَرِيفٍ، لَمْ يَقْتُلُوا قَاتِلَهُمْ وَقَتَلُوا غَيْرَهُ، فَوُعِظُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ إِلَى قَوْلِهِ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً قَالَ: بَيِّنَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْزَلَهَا يَطْلُبُهَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ الْقَوْدُ أَوِ الْعَقْلُ، وَذَلِكَ السُّلْطَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ قَالَ: لَا يُكْثِرْ فِي الْقَتْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ أَيْضًا: لَا يَقْتُلْ إِلَّا قَاتِلَ رحمه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 34 إلى 41]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 34 الى 41] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنْ إِتْلَافِ النُّفُوسِ أَتْبَعَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ إِتْلَافِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ أَهَمَّهَا بِالْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ مَالُ الْيَتِيمِ، فَقَالَ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ وَالنَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهِ مُبَالَغَةٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ لَهُ وَإِتْلَافِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قُرْبَانِهِ، لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيَ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ فِيمَا يُصْلِحُهُ وَيُفْسِدُهُ، بَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَفْعَلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَا يُصْلِحُهُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ مُبَاشَرَتَهُ، فَقَالَ: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ: إِلَّا بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْخِصَالِ، وَهِيَ حِفْظُهُ وَطَلَبُ الرِّبْحِ فِيهِ وَالسَّعْيُ فِيمَا يَزِيدُ بِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْغَايَةَ الَّتِي لِلنَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ فَقَالَ: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أَيْ: لَا تَقْرَبُوهُ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ الْيَتِيمُ أَشُدَّهُ، فَإِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ كَانَ لَكُمْ أَنْ تَدْفَعُوهُ إِلَيْهِ، أَوْ تَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِإِذْنِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى فِي الْأَنْعَامِ. وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فَهُوَ مِنَ الْعَهْدِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَمَا بَيْنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ. وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ: هُوَ الْقِيَامُ بِحِفْظِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَالْقَانُونِ الْمَرْضِيِّ، إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى جَوَازِ النَّقْضِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي: مسؤولا عنه، فالمسؤول هُنَا هُوَ صَاحِبُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَهْدَ يُسْأَلُ تَبْكِيتًا لِنَاقِضِهِ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ أَيْ: أَتِمُّوا الْكَيْلَ وَلَا تُخْسِرُوهُ وَقْتَ كَيْلِكُمْ لِلنَّاسِ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِيزَانُ الْعَدْلِ، أَيْ مِيزَانٌ كَانَ مِنْ مَوَازِينِ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا، وَفِيهِ لُغَتَانِ: ضَمُّ الْقَافِ، وَكَسْرُهَا. وَقِيلَ: هُوَ الْقَبَّانُ الْمُسَمَّى بِالْقَرْسَطُونِ وَقِيلَ: هُوَ الْعَدْلُ نَفْسُهُ، وَهِيَ لُغَةُ الرُّومِ وَقِيلَ: لُغَةٌ سُرْيَانِيَّةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْقُسْطَاسِ بِضَمِّ الْقَافِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ خَيْرٌ أَيْ: خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ يَتَأَثَّرُ عَنْهُ حُسْنُ الذِّكْرِ وَتَرْغِيبِ النَّاسِ فِي مُعَامَلَةِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَيْ: أَحْسَنُ عَاقِبَةً، مِنْ آلَ إِذَا رَجَعَ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِإِصْلَاحِ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ فَقَالَ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أَيْ: لَا تَتَّبِعْ مَا لَا تَعْلَمُ، مِنْ قَوْلِكَ: قَفَوْتُ فُلَانًا إِذَا اتَّبَعْتَ أَثَرَهُ، وَمِنْهُ قَافِيَةُ الشِّعْرِ لِأَنَّهَا تَقْفُو كُلَّ بَيْتٍ، وَمِنْهُ الْقَبِيلَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْقَافَةِ لِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ آثَارَ أَقْدَامِ النَّاسِ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: قفا وقاف مثل عتا وعات. قَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ: قَفَا وَقَافَ، مِثْلُ جَذَبَ وَجَبَذَ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَ: تَقُفْ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ الْفَرَّاءُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَهِيَ لُغَةٌ

لِبَعْضِ الْعَرَبِ، وَأَنْكَرَهَا أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ مَا لَا يَعْلَمُ أَوْ يَعْمَلُ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ، وَقَدْ جَعَلَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ خَاصَّةً بِأُمُورٍ فَقِيلَ: لَا تَذُمَّ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وَقِيلَ: هِيَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ، وَقِيلَ: هِيَ في القذف. وقال القتبي: مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَتَّبِعِ الْحَدْسَ وَالظُّنُونَ، وَهَذَا صَوَابٌ، فَإِنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا هُوَ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ مُسْتَنَدٍ قَطْعِيًّا كَانَ أَوْ ظَنِّيًّا، قَالَ أَبُو السُّعُودِ فِي تَفْسِيرِهِ: وَاسْتِعْمَالُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يُنْكَرُ شُيُوعُهُ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَلَكِنَّهَا عَامَّةٌ مُخَصَّصَةٌ بِالْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ، كَالْعَمَلِ بِالْعَامِّ، وَبِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ، وَفِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا تُخْرَجُ مِنْ عُمُومِهَا وَمِنْ عُمُومِ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ، فَالْعَمَلُ بِالرَّأْيِ فِي مَسَائِلِ الشَّرْعِ إِنْ كَانَ لِعَدَمِ وُجُودِ الدَّلِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ قَاضِيًا: «بِمَ تَقْضِي؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي» وَهُوَ حَدِيثٌ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي بَحْثٍ مُفْرَدٍ. وَأَمَّا التَّوَثُّبُ عَلَى الرَّأْيِ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ- وَلَكِنَّهُ قَصْرُ صَاحِبِ الرَّأْيِ عَنِ الْبَحْثِ فَجَاءَ بِرَأْيِهِ- فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَا النَّهْيِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، لِأَنَّهُ مَحْضُ رَأْيٍ فِي شَرْعِ اللَّهِ، وَبِالنَّاسِ عَنْهُ غِنًى بِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبِسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، عَلَى أَنَّ التَّرْخِيصَ فِي الرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لِلْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْعَمَلُ بِهِ وَيُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ مَسَائِلِ الشَّرْعِ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَكَ أَتَمَّ اتِّضَاحٍ، وَيَظْهَرُ لَكَ أَكْمَلَ ظُهُورٍ أَنَّ هَذِهِ الْآرَاءَ الْمُدَوَّنَةَ فِي الْكُتُبِ الْفُرُوعِيَّةِ لَيْسَتْ مِنَ الشَّرْعِ فِي شَيْءٍ، وَالْعَامِلُ بِهَا عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَالْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَكْثِرُ مِنَ الرَّأْيِ قَدْ قَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَالْمُقَلِّدُ الْمِسْكِينُ الْعَامِلُ بِرَأْيِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ قَدْ عَمِلَ بِمَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا لِمَنْ قَلَّدَهُ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِالْعَقَائِدِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بعلم بِقَوْلِهِ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا إِشَارَةٌ إِلَى الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَأُجْرِيَتْ مَجْرَى الْعُقَلَاءِ لما كانت مسؤولة عَنْ أَحْوَالِهَا شَاهِدَةً عَلَى أَصْحَابِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَمَّا يَعْقِلُ وَعَمًّا لَا يَعْقِلُ بِأُولَئِكَ، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ مُسْتَدِلًّا عَلَى جَوَازِ هَذَا قَوْلَ الشَّاعِرِ «1» : ذَمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ، وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ عَلَى هَذَا الْخَطَأِ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ. وَالضَّمِيرُ فِي كان من قوله: كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا يَرْجِعُ إِلَى كُلُّ، وَكَذَا الضَّمِيرُ فِي عَنْهُ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي كَانَ يَعُودُ إِلَى الْقَافِي الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْفُ. وَقَوْلُهُ: عَنْهُ في محل رفع لإسناد مسؤولا إِلَيْهِ، وَرَدَ بِمَا حَكَاهُ النَّحَّاسُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْدِيمِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ جَارَّا أَوْ مَجْرُورًا. قِيلَ: وَالْأَوْلَى

_ (1) . هو جرير.

أن يقال إنه فاعل مسؤولا الْمَحْذُوفُ، وَالْمَذْكُورُ مُفَسِّرٌ لَهُ. وَمَعْنَى سُؤَالِ هَذِهِ الْجَوَارِحِ أَنَّهُ يَسْأَلُ صَاحِبَهَا عَمَّا اسْتَعْمَلَهَا فِيهِ لأنها آلات، والمستعمل لها هُوَ الرُّوحُ الْإِنْسَانِيُّ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَهَا فِي الْخَيْرِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهَا فِي الشَّرِّ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُنْطِقُ الْأَعْضَاءَ هَذِهِ عِنْدَ سُؤَالِهَا فَتُخْبِرُ عَمَّا فَعَلَهُ صَاحِبُهَا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً الْمَرَحُ: قِيلَ هُوَ شِدَّةُ الْفَرَحِ، وَقِيلَ: التَّكَبُّرُ فِي الْمَشْيِ، وَقِيلَ: تَجَاوُزُ الْإِنْسَانِ قَدْرَهُ، وَقِيلَ: الْخُيَلَاءُ فِي الْمَشْيِ، وَقِيلَ: الْبَطَرُ وَالْأَشَرُ، وَقِيلَ: النَّشَاطُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْخُيَلَاءُ وَالْفَخْرُ، قَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مُخْتَالًا فَخُورًا، وَذَكَرَ الْأَرْضَ مَعَ أَنَّ الْمَشْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَيْهَا أَوْ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَيْهَا تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا، وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ: وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ إِلَّا تَوَاضُعًا ... فَكَمْ تَحْتَهَا قَوْمٌ هُمْ مِنْكَ أَرْفَعُ وَإِنْ كُنْتَ فِي عِزٍّ وَحِرْزٍ وَمَنَعَةٍ ... فَكَمْ مَاتَ مِنْ قَوْمٍ هُمْ مِنْكَ أَمْنَعُ وَالْمَرَحُ مَصْدَرٌ وَقَعَ حَالًا، أَيْ: ذَا مَرَحٍ، وَفِي وَضْعِ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الصِّفَةِ نَوْعُ تَأْكِيدٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَرَحاً بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَحَكَى يَعْقُوبُ عَنْ جَمَاعَةٍ كَسْرَهَا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ فَقَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ يُقَالُ خَرَقَ الثَّوْبَ، أَيْ: شَقَّهُ، وَخَرَقَ الْأَرْضَ قَطَعَهَا، وَالْخَرْقُ: الْوَاسِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ بِمَشْيِكَ عَلَيْهَا تَكَبُّرًا، وَفِيهِ تَهَكُّمٌ بِالْمُخْتَالِ الْمُتَكَبِّرِ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أَيْ: وَلَنْ تَبْلُغَ قُدْرَتُكَ إِلَى أَنْ تُطَاوِلَ الْجِبَالَ حَتَّى يَكُونَ عَظْمُ جُثَّتِكَ حَامِلًا لَكَ عَلَى الْكِبَرِ وَالِاخْتِيَالِ، فَلَا قُوَّةَ لَكَ حَتَّى تَخْرِقَ الْأَرْضَ بِالْمَشْيِ عَلَيْهَا، وَلَا عِظَمَ فِي بَدَنِكَ حَتَّى تُطَاوِلَ الْجِبَالَ، فَمَا الْحَامِلُ لَكَ عَلَى مَا أنت فيه؟ وطولا مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ تَمْيِيزٌ أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِخَرْقِ الْأَرْضِ نَقْبُهَا لَا قَطْعُهَا بِالْمَسَافَةِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: خَرَقَهَا: قَطَعَهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَبْيَنُ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَرْقِ، وَهُوَ الْفَتْحَةُ الْوَاسِعَةُ وَيُقَالُ: فُلَانٌ أَخْرَقُ مِنْ فُلَانٍ، أَيْ: أَكْثَرُ سَفَرًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كُلُّ ذلِكَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، أَوْ إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ فَقَطْ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَقْفُ- وَلا تَمْشِ قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَمَسْرُوقٌ سَيِّئُهُ عَلَى إِضَافَةِ سَيِّئٍ إِلَى الضَّمِيرِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُهُ: مَكْرُوهاً فَإِنَّ السَّيِّئَ هُوَ الْمَكْرُوهُ، وَيُؤَيِّدُهَا أَيْضًا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: «كَانَ سَيِّئَاتُهُ» ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو «سَيِّئَةً» عَلَى أَنَّهَا وَاحِدَةُ السَّيِّئَاتِ، وَانْتِصَابُهَا عَلَى خَبَرِيَّةِ كَانَ، وَيَكُونُ مَكْرُوهاً صِفَةً لِسَيِّئَةٍ عَلَى الْمَعْنَى، فَإِنَّهَا بِمَعْنَى سَيِّئًا، أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ سَيِّئَةٍ وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ لِكَانَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ كُلُّ، وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْبَدَلَ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ بِغَيْرِ هَذَا مِمَّا فِيهِ تَعَسُّفٌ لَا يَخْفَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْإِضَافَةُ أحسن لأن ما تقدّم من الآيات فيها سَيِّئٌ وَحَسَنٌ، فَسَيِّئُهُ الْمَكْرُوهُ وَيُقَوِّي ذَلِكَ التَّذْكِيرُ فِي الْمَكْرُوهِ قَالَ: وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّنْوِينِ جَعَلَ كُلُّ ذلِكَ إِحَاطَةً بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ دُونَ الْحَسَنِ، الْمَعْنَى: كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَانَ سَيِّئَةً وَكَانَ مَكْرُوهًا، قَالَ: وَالْمَكْرُوهُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بَدَلٌ مِنَ السَّيِّئَةِ وَلَيْسَ بِنَعْتٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمَكْرُوهِ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يُبْغِضُهُ وَلَا يَرْضَاهُ، لَا أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ مُطْلَقًا لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ وَاقِعَةٌ بِإِرَادَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَذَكَرَ مُطْلَقَ الْكَرَاهَةِ مَعَ أَنَّ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا هُوَ

مِنَ الْكَبَائِرِ إِشْعَارًا بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُ تَعَالَى يُوجِبُ انْزِجَارَ السَّامِعِ وَاجْتِنَابُهُ لِذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْخِصَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا هُوَ حَسَنٌ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَمَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْإِضَافَةِ تَكُونُ الْإِشَارَةُ بقوله: كُلُّ ذلِكَ إلى جميع الخصال حسنها ومكروهها، ثم الإخبار بأن ما هو سيئ من هذه الأشياء وهو المنهي عنه مكروه عند الله، وعلى قراءة الإفراد من دون إضافة تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَنْهِيَّاتِ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ عَنْ هذه المنهيات بأنها سيئة مكروهة عند الله ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَجْعَلْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، وَتَرْتَقِي إِلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ تَكْلِيفًا، مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ أَيْ: مِنْ جِنْسِهِ أَوْ بَعْضٍ مِنْهُ، وَسُمِّيَ حِكْمَةً لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُحْكَمٌ، وَهُوَ مَا عَلَّمَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ أَوْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الْفَسَادُ. وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته، ومِنَ الْحِكْمَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا، أَيْ: كَائِنًا مِنَ الْحِكْمَةِ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الْمَوْصُولِ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِأَوْحَى وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنِ الشِّرْكِ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ رَأَسُ خِصَالِ الدِّينِ وَعُمْدَتُهُ. قِيلَ: وَقَدْ رَاعَى سُبْحَانَهُ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ دَقِيقَةً «1» فَرَتَّبَ عَلَى الْأَوَّلِ كَوْنَهُ مَذْمُومًا مَخْذُولًا، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حَالِ الشِّرْكِ فِي الدُّنْيَا، وَرَتَّبَ عَلَى الثَّانِي أَنَّهُ يُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَفِي الْقُعُودِ هُنَاكَ، وَالْإِلْقَاءُ هُنَا، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا صُورَةَ اخْتِيَارٍ بِخِلَافِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَلُومِ وَالْمَدْحُورِ. أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْفَاكُمْ خَصَّكُمْ، وَقَالَ الْفَضْلُ: أَخْلَصَكُمْ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَفِيهِ تَوْبِيخٌ شَدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ بَالِغٌ لِمَا كَانَ يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَنَظَائِرِهِ مِمَّا قَدْ كَرَّرْنَاهُ. إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِأَنَّ لَهُمُ الذُّكُورَ وَلِلَّهِ الْإِنَاثُ قَوْلًا عَظِيماً بَالِغًا فِي الْعِظَمِ والجرأة عَلَى اللَّهِ إِلَى مَكَانٍ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ أَيْ: بَيَّنَّا ضُرُوبَ الْقَوْلِ فِيهِ مِنَ الْأَمْثَالِ وَغَيْرِهَا، أَوْ كَرَّرْنَا فِيهِ وَقِيلَ: فِي زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا هَذَا الْقُرْآنَ، وَالتَّصْرِيفُ فِي الْأَصْلِ: صَرْفُ الشَّيْءِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ وَقِيلَ: مَعْنَى التَّصْرِيفِ الْمُغَايِرَةُ، أَيْ: غَايَرْنَا بَيْنَ الْمَوَاعِظِ لِيَتَذَكَّرُوا وَيَعْتَبِرُوا، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ صَرَّفْنا بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالتَّخْفِيفِ، ثُمَّ عَلَّلَ تَعَالَى ذَلِكَ فَقَالَ: لِيَذَّكَّرُوا أَيْ: لِيَتَّعِظُوا وَيَتَدَبَّرُوا بِعُقُولِهِمْ وَيَتَفَكَّرُوا فِيهِ حَتَّى يَقِفُوا عَلَى بُطْلَانِ مَا يَقُولُونَهُ. قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «لِيَذْكُرُوا» مُخَفَّفًا، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٌ لِمَا تُفِيدُهُ مِنْ مَعْنَى التَّكْثِيرِ، وَجُمْلَةُ وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ هَذَا التَّصْرِيفَ وَالتَّذْكِيرَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا تَبَاعُدًا عَنِ الْحَقِّ وَغَفْلَةً عَنِ النَّظَرِ فِي الصَّوَابِ لِأَنَّهُمْ قَدِ اعْتَقَدُوا فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ حِيلَةٌ وَسِحْرٌ وَكِهَانَةٌ وَشِعْرٌ، وَهُمْ لَا يَنْزِعُونَ عَنْ هَذِهِ الْغِوَايَةِ وَلَا وَازِعَ لَهُمْ يَزَعُهُمْ إِلَى الْهِدَايَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ قَالَ: كَانُوا لَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي مَالٍ

_ (1) . أي: مسألة دقيقة.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 42 إلى 48]

وَلَا مَأْكَلٍ وَلَا مَرْكَبٍ حَتَّى نَزَلَتْ: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا قَالَ: يَسْأَلُ اللَّهُ نَاقِضَ الْعَهْدِ عَنْ نَقْضِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسْأَلُ عَهْدَهُ مَنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ يَعْنِي لِغَيْرِكُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ يَعْنِي الْمِيزَانَ، وَبِلُغَةِ الرُّومِ: الْمِيزَانُ: الْقِسْطَاسُ ذلِكَ خَيْرٌ يَعْنِي وَفَاءَ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ خَيْرٌ مِنَ النُّقْصَانِ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا عَاقِبَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْقِسْطَاسُ: الْعَدْلُ، بِالرُّومِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْقِسْطَاسُ: الْقَبَّانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الحديث. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْفُ قَالَ: لَا تَقُلْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: لا ترم أحدا لما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْآيَةِ قَالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا يَقُولُ: سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَفُؤَادُهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكَذَلِكَ كَانَ أَمْ لَا؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً قَالَ: لَا تَمْشِ فَخْرًا وَكِبْرًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَبْلُغُ بِكَ الْجِبَالَ وَلَا أَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ بِفَخْرِكَ وَكِبْرِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ التَّوْرَاةَ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ تَلَا وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَدْحُوراً قَالَ: مطرودا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 42 الى 48] قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) قَوْلُهُ: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ يَقُولُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ للقائلين بأن مع الله آلهة أخرى، وإِذاً جواب عن مقالتهم الباطلة وجزاء للو لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سَبِيلًا طَرِيقًا لِلْمُغَالَبَةِ وَالْمُمَانَعَةِ، كَمَا تَفْعَلُ الْمُلُوكُ مَعَ بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُصَاوَلَةِ وَقِيلَ: معناه: إذا لابتغت الآلهة إلى الله القربة والزّلفى عنده، لأنهم دونه، والمشركون

_ (1) . البقرة: 220.

إِنَّمَا اعْتَقَدُوا أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ. وَالظَّاهِرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَمِثْلُ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» . ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ، فَقَالَ: سُبْحانَهُ وَالتَّسْبِيحُ: التَّنْزِيهُ، وقد تقدّم. وَتَعالى متباعد عَمَّا يَقُولُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الشَّنِيعَةِ وَالْفِرْيَةِ الْعَظِيمَةِ عُلُوًّا أَيْ: تَعَالِيًا، وَلَكِنَّهُ وَضَعَ الْعُلُوَّ مَوْضِعَ التَّعَالِي كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «2» . ثُمَّ وَصَفَ الْعُلُوَّ بِالْكِبَرِ مُبَالَغَةً فِي النَّزَاهَةِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ الْمُطْلَقِ وَالْفَقِيرِ الْمُطْلَقِ، مُبَايَنَةً لَا تُعْقَلُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ جَلَالَةَ مُلْكِهِ وَعَظَمَةَ سُلْطَانِهِ فَقَالَ: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قُرِئَ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ فِي يُسَبِّحُ وَبِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَالَ: فِيهِنَّ بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ لِإِسْنَادِهِ إِلَيْهَا التَّسْبِيحَ الَّذِي هُوَ فِعْلُ العقلاء، وقد أخبر سبحانه عن السموات وَالْأَرْضِ بِأَنَّهَا تُسَبِّحُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ فِيهَا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّذِينَ لَهُمْ عُقُولٌ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَعْقِلُ، ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ تَعْمِيمًا وَتَأْكِيدًا فَقَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فَشَمَلَ كُلَّ مَا يُسَمَّى شَيْئًا كَائِنًا مَا كَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَمَنْ فِيهِنَّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ، وَيُحْمَلُ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ عَلَى مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْعُمُومِ هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ، وَحَمَلُوا التَّسْبِيحَ عَلَى تَسْبِيحِ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ وَيُدِلُّ غَيْرَهُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ قَادِرٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هَذَا التَّسْبِيحُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَالْعُمُومُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ الْمَخْلُوقَاتِ تُسَبِّحُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ هَذَا التَّسْبِيحُ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّنْزِيهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَشَرُ لَا يَسْمَعُونَ ذَلِكَ وَلَا يَفْهَمُونَهُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ تَسْبِيحَ الدَّلَالَةِ لَكَانَ أَمْرًا مَفْهُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ لَا تَفْقَهُونَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنِ الِاعْتِبَارِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ بِالْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ دُونَ الْجَمَادَاتِ، وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالْأَجْسَامِ النَّامِيَةِ فَيَدْخُلُ النَّبَاتَاتُ، كَمَا رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عن عكرمة والحسن، وخصّا تَسْبِيحَ النَّبَاتَاتِ بِوَقْتِ نُمُوِّهَا لَا بَعْدَ قَطْعِهَا، وَقَدِ اسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ» وَفِيهِ «ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ اثْنَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» وَيُؤَيِّدُ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «3» وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «4» ، وَقَوْلُهُ: وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا «5» وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ، وَهُمْ يَأْكُلُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَكَذَا حَدِيثُ حَنِينِ الْجِذْعِ، وَحَدِيثُ «أَنَّ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، وَكُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ «وَمِنْ ذَلِكَ تَسْبِيحُ الْحَصَى فِي كَفِّهِ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُدَافَعَةُ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْعَادَاتِ لَيْسَ دَأْبَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَيُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ، وَمَعْنَى إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ إِلَّا يُسَبِّحُ مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. قَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ تُسَبِّحُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً فَمِنْ حِلْمِهِ الْإِمْهَالُ لَكُمْ، وَعَدَمُ إِنْزَالِ عُقُوبَتِهِ عَلَيْكُمْ، وَمِنْ مَغْفِرَتِهِ لَكُمْ

_ (1) . الأنبياء: 22. (2) . نوح: 17. (3) . ص: 18. (4) . البقرة: 74. (5) . مريم: 90.

أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ مَنْ تَابَ مِنْكُمْ. وَلَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ بَعْضٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَمَا يَقَعُ مِنْ سَامِعِيهِ فَقَالَ: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً جَعَلْنَا بَيْنَكَ يَا مُحَمَّدُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا، أَيْ: إِنَّهُمْ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ قِرَاءَتِكَ وَتَغَافُلِهِمْ عَنْكَ كَمَنَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ يَمُرُّونَ بِكَ وَلَا يَرَوْنَكَ. ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَمَعْنَى مَسْتُورًا سَاتِرٌ. قَالَ الْأَخْفَشُ: أَرَادَ سَاتِرًا، وَالْفَاعِلُ قَدْ يَكُونُ فِي لَفْظِ الْمَفْعُولِ كَمَا تَقُولُ: إِنَّكَ لَمَشْئُومٌ وَمَيْمُونٌ، وَإِنَّمَا هو شائم ويا من وَقِيلَ: مَعْنَى مَسْتُورًا ذَا سِتْرٍ، كَقَوْلِهِمْ سَيْلٌ مُفْعَمٌ: أَيْ ذُو إِفْعَامٍ، وَقِيلَ: هُوَ حِجَابٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ فَهُوَ مَسْتُورٌ عَنْهَا، وَقِيلَ: حِجَابٌ مِنْ دُونِهِ حِجَابٌ فَهُوَ مَسْتُورٌ بِغَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحِجَابِ الْمَسْتُورُ الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً الْأَكِنَّةُ: جَمْعُ كِنَانٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْأَنْعَامِ، وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةٌ لِمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ «1» وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «2» وأَنْ يَفْقَهُوهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَوْ لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ، أَيْ: يَفْهَمُوا مَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْحِكَمِ وَالْمَعَانِي وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أَيْ: صَمَمًا وَثَقَلًا، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَسْمَعُوهُ. وَمِنْ قَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَذْكُرَ آلِهَتُهُمْ كَمَا يَذْكُرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا سَمِعُوا ذِكْرَ اللَّهِ دُونَ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ نَفَرُوا عَنِ الْمَجْلِسِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أَيْ: وَاحِدًا غَيْرَ مَشْفُوعٍ بِذِكْرِ آلِهَتِهِمْ، فَهُوَ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً هُوَ مَصْدَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: هَرَبُوا نُفُورًا، أَوْ نَفَرُوا نُفُورًا وَقِيلَ: جَمْعُ نَافِرٍ كَقَاعِدٍ وَقُعُودٍ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ: أَيْ: وَلَّوْا نَافِرِينَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أَيْ: يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ مُتَلَبِّسِينَ بِهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِكَ وَبِالْقُرْآنِ وَاللَّغْوِ فِي ذِكْرِكَ لِرَبِّكَ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَالظَّرْفُ فِي إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ مُتَعَلِّقٍ بِأَعْلَمَ، أَيْ: نَحْنُ أَعْلَمُ وَقْتَ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِلْوَعِيدِ، وَقَوْلُهُ: وَإِذْ هُمْ نَجْوى مُتَعَلِّقٌ بِأَعْلَمَ أَيْضًا، أَيْ: وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقْتَ تَنَاجِيهِمْ، وَقَدْ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ بَيْنَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، يَقُولُ: بَدَلٌ مِنْ إِذْ هُمْ نَجْوى. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أَيْ: يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِينَ عِنْدَ تَنَاجِيهِمْ: مَا تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا سُحِرَ فَاخْتَلَطَ عَقْلُهُ وَزَالَ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمَسْحُورُ: الذَّاهِبُ الْعَقْلِ الَّذِي أُفْسِدَ مِنْ قَوْلِهِمْ طَعَامٌ مَسْحُورٌ إِذَا أُفْسِدَ عَمَلُهُ، وَأَرْضٌ مَسْحُورَةٌ: أَصَابَهَا مِنَ الْمَطَرِ أَكْثَرُ مِمَّا يَنْبَغِي فَأَفْسَدَهَا. وَقِيلَ: الْمَسْحُورُ: الْمَخْدُوعُ لِأَنَّ السِّحْرَ حِيلَةٌ وَخَدِيعَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَلَّمُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، وَكَانُوا يَخْدَعُونَهُ بِذَلِكَ التَّعْلِيمِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى مَسْحُورًا أَنَّ لَهُ سَحْرًا أَيْ: رِئَةً، فَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَهُوَ مِثْلُكُمْ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلْجَبَانِ: قَدِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مَسْحُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَرَانَا موضعين لأمر غيب «3» ... ونسحر بالطّعام وبالشّراب

_ (1) . البقرة: 88. (2) . فصلت: 5. [.....] (3) . «موضعين» : مسرعين. «لأمر غيب» : أي للموت المغيّب.

أَيْ: نُغَذِّي وَنُعَلِّلُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا أَدْرِي مَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُسْتَكْرَهِ مَعَ أَنَّ السَّلَفَ فَسَّرُوهُ بِالْوُجُوهِ الْوَاضِحَةِ. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أَيْ: قَالُوا تَارَةً إِنَّكَ كَاهِنٌ، وَتَارَةً سَاحِرٌ، وَتَارَةً شَاعِرٌ، وَتَارَةً مَجْنُونٌ فَضَلُّوا عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إِلَى الْهُدَى، أَوْ إِلَى الطَّعْنِ الَّذِي تَقْبَلُهُ الْعُقُولُ وَيَقَعُ التَّصْدِيقُ لَهُ لَا أَصْلَ الطَّعْنِ، فَقَدْ فَعَلُوا مِنْهُ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَقِيلَ: لَا يَسْتَطِيعُونَ مَخْرَجًا لِتَنَاقُضِ كَلَامِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: سَاحِرٌ مَجْنُونٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا قَالَ: عَلَى أَنْ يُزِيلُوا مُلْكَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَانَ جِبْرِيلُ عن يمينه وميكائيل عن يساره، فطارا به حتى بلغ السّموات الْعُلَى، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: سَمِعْتُ تَسْبِيحًا مِنَ «1» السّموات العلى مع تسبيح كثير، سبحت السّموات الْعُلَى مِنْ ذِي الْمَهَابَةِ، مُشْفِقَاتٍ لِذِي الْعُلُوِّ بِمَا عَلَا، سُبْحَانَ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ سَمِعَ هِدَّةً فَقَالَ: أطّت السماء وحقّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا فِيهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ سَاجِدٍ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ نُوحٌ ابْنَهُ؟ إِنَّ نُوحًا قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ آمُرُكَ أَنْ تَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَإِنَّهَا صَلَاةُ الْخَلَائِقِ، وَتَسْبِيحُ الْخَلْقِ، وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ سَبَّحَ تَسْبِيحَةً إِلَّا سَبَّحَ مَا خلق الله من شيء» قَالَ اللَّهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادُهُ فِيهِ ضَعْفٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: مِنْ أَجْلِ نَمْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ وَقَالَ: نَقِيقُهَا تَسْبِيحٌ» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قَالَ: الزَّرْعُ يُسَبِّحُ وَأَجْرُهُ لِصَاحِبِهِ، وَالثَّوْبُ يُسَبِّحُ، ويقول الوسخ: إن كنت مؤمنا فاغسلني إذا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ إِلَّا الْكَلْبَ وَالْحِمَارَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مَسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَتَى أَبُو بَكْرٍ بِغُرَابٍ وَافِرِ الْجَنَاحَيْنِ، فَجَعَلَ يَنْشُرُ جَنَاحَيْهِ وَيَقُولُ: مَا صِيدَ مِنْ صَيْدٍ وَلَا عُضِدَ مِنْ شَجَرَةٍ إِلَّا بِمَا ضَيَّعَتْ مِنَ التسبيح. وأخرج أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: أَتَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فذكره من قوله غير مرفوع. وأخرج أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حديث أبي هريرة بنحوه. وأخرج

_ (1) . في الحلية (2/ 7) : في.

ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِمَعْنَى بَعْضِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِمَعْنَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رُهْمٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّوْرَاةِ كَقَدْرِ أَلْفِ آيَةٍ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قَالَ: فِي التَّوْرَاةِ تُسَبِّحُ لَهُ الْجِبَالُ، وَيُسَبِّحُ لَهُ الشَّجَرُ، وَيُسَبِّحُ لَهُ كَذَا، وَيُسَبِّحُ لَهُ كَذَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّى دَاوُدُ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ سُرُورًا «1» ، فَنَادَتْهُ ضُفْدَعَةٌ: يَا دَاوُدُ كُنْتُ أَدْأَبَ مِنْكَ، قد أغفيت إغفاء. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ فِي مِحْرَابِهِ فَأَبْصَرَ دُودَةً صَغِيرَةً فَفَكَّرَ فِي خَلْقِهَا وَقَالَ: مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِخَلْقِ هَذِهِ؟ فَأَنْطَقَهَا اللَّهُ فَقَالَتْ: يَا دَاوُدُ أَتُعْجِبُكَ نَفْسُكَ؟ لَأَنَا عَلَى قَدْرِ مَا آتَانِي اللَّهُ أَذْكَرُ لِلَّهِ وَأَشْكَرُ لَهُ مِنْكَ عَلَى مَا آتَاكَ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ وَرِوَايَاتٌ عَنِ السَّلَفِ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِتَسْبِيحِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ «2» ، وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا أَبَيْنَا ... وَدِينَهُ قَلَيْنَا وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَقَدْ أَقْبَلَتْ هَذِهِ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي، وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ سَيِّدِهَا. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً قَالَ: الْحِجَابُ الْمَسْتُورُ أَكِنَّةٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنْ يَفْقَهُوهُ وَأَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابن أبي حاتم عن زهير ابن مُحَمَّدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ سَمِعُوا قِرَاءَتَهُ وَلَا يَرَوْنَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً قَالَ: الشَّيَاطِينُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ قَالَ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ ابن المغيرة والعاص بن وائل.

_ (1) . في الدر المنثور (5/ 93) : غرورا. (2) . «فهر» : حجر ملء الكف.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 إلى 55]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 55] وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكَايَةِ شُبَهِ الْقَوْمِ فِي النُّبُوَّاتِ حَكَى شُبْهَتَهُمْ فِي أَمْرِ الْمَعَادِ، فَقَالَ: وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً وَالِاسْتِفْهَامُ لِلِاسْتِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ. وَتَقْرِيرُ الشُّبْهَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ جَفَّتْ عِظَامُهُ وَتَنَاثَرَتْ وَتَفَرَّقَتْ فِي جَوَانِبِ الْعَالَمِ، وَاخْتَلَطَتْ بِسَائِطُهَا بِأَمْثَالِهَا مِنَ الْعَنَاصِرِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ بَعْدَ ذَلِكَ اجْتِمَاعُهَا بِأَعْيَانِهَا، ثُمَّ عَوْدُ الْحَيَاةِ إِلَى ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ؟ فَأَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بِأَنَّ إِعَادَةَ بَدَنِ الْمَيِّتِ إِلَى حَالِ الْحَيَاةِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ، وَلَوْ فَرَضْتُمْ أَنَّ بَدَنَهُ قَدْ صَارَ أَبْعَدَ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَاةِ وَمِنْ رُطُوبَةِ الْحَيِّ كَالْحِجَارَةِ وَالْحَدِيدِ، فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَتَطْمَعُ فِيَّ وَأَنَا ابْنُ فُلَانٍ، فَيَقُولُ: كُنِ ابْنَ السُّلْطَانِ أَوِ ابْنَ مَنْ شِئْتَ، فَسَأَطْلُبُ مِنْكَ حَقِّي. وَالرُّفَاتُ: مَا تَكَسَّرَ وَبَلِيَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَالْفُتَاتِ وَالْحُطَامِ وَالرُّضَاضِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ، تَقُولُ مِنْهُ: رَفَتَ الشَّيْءُ رَفْتًا، أَيْ: حُطِّمَ فَهُوَ مَرْفُوتٌ. وَقِيلَ الرُّفَاتُ: الْغُبَارُ، وَقِيلَ: التُّرَابُ أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً كَرَّرَ الِاسْتِفْهَامَ الدَّالَّ عَلَى الِاسْتِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا، وَالْعَامِلُ فِي إِذَا هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَمَبْعُوثُونَ، لَا هُوَ نَفْسُهُ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِنَّ وَالْهَمْزَةِ وَاللَّامِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً ورفاتا نبعث أإنا لَمَبْعُوثُونَ، وَانْتِصَابُ خَلْقًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ مِنْ غَيْرِ لفظه، أو على الحال، أي: مخلوقين، وجديدا صِفَةٌ لَهُ قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً- أَوْ خَلْقاً آخَرَ مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ إِنْ عَجِبْتُمْ مِنْ إِنْشَاءِ اللَّهِ لَكُمْ عِظَامًا وَلَحْمًا فَكُونُوا أَنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى ذَلِكَ، وقال علي ابن عِيسَى: مَعْنَاهُ إِنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حديدا لم تفوتوا الله عزّ وجلّ إذا أرادكم. إلا أنه خرج مخرج الأمر لأنه أبلغ في الإلزام وقيل: معناه: لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَأَعَادَكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ وَلَأَمَاتَكُمْ ثُمَّ أَحْيَاكُمْ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِخَالِقِهِمْ وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ، فَقِيلَ لَهُمُ: اسْتَشْعِرُوا أَنْ تَكُونُوا مَا شِئْتُمْ، فَلَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَبُعِثْتُمْ كَمَا خُلِقْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَرَّرْنَا جَوَابَ الشُّبْهَةِ قَبْلَ هَذَا أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أَيْ: يَعْظُمُ عِنْدَكُمْ مِمَّا هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْحَدِيدِ مُبَايَنَةً لِلْحَيَاةِ فَإِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ لا محالة، وقيل: المراد به السموات وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ لِعِظَمِهَا فِي النُّفُوسِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ من الصحابة وَالتَّابِعِينَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَوْتُ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَكْبَرُ فِي نَفْسِ ابْنِ آدَمَ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كُنْتُمُ الْمَوْتَ لَأَمَاتَكُمُ اللَّهُ ثُمَّ بَعَثَكُمْ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنَ الْبُعْدِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ التَّرَقِّي مِنَ الْحِجَارَةِ إِلَى الْحَدِيدِ، ثُمَّ مِنَ الْحَدِيدِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ فِي صُدُورِ الْقَوْمِ مِنْهُ، وَالْمَوْتُ

نَفْسُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَعْقِلُ وَيَحُسُّ حَتَّى يَقَعَ التَّرَقِّي مِنَ الْحَدِيدِ إِلَيْهِ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا إِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا، أَوْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا مَعَ مَا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَيْ: يُعِيدُكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاخْتَرَعَكُمْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ خَلْقِكُمْ مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ وَلَا صُورَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أَيْ: يُحَرِّكُونَهَا اسْتِهْزَاءً، يُقَالُ: نَغَضَ رَأْسُهُ يَنْغُضُ وَيُنْغِضُ نَغْضًا وَنُغُوضًا، أَيْ: تَحَرَّكَ، وَأَنْغَضَ رَأْسَهُ حَرَّكَهُ كَالْمُتَعَجِّبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: أَنَغَضَ نَحْوِي رَأَسَهُ وَأَقْنَعَا وَقَوْلُ الرَّاجِزِ الْآخَرِ: وَنَغَضَتْ مِنْ هَرَمٍ أَسْنَانُهَا وَقَالَ آخَرُ: لَمَّا رَأَتْنِي أَنْغَضَتْ لِي رَأْسَهَا «1» وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ أَيِ: الْبَعْثُ وَالْإِعَادَةُ، اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ وَسُخْرِيَةً قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أَيْ: هُوَ قَرِيبٌ لِأَنَّ عَسَى فِي كَلَامِ اللَّهِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، وَمِثْلُهُ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «2» وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ الظَّرْفُ مُنْتَصِبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيِ: اذْكُرْ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ قَرِيبًا، أَوِ التَّقْدِيرُ: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ كَانَ مَا كَانَ، الدُّعَاءُ: النِّدَاءُ إِلَى الْمَحْشَرِ بِكَلَامٍ يَسْمَعُهُ الْخَلَائِقُ وَقِيلَ: هُوَ الصَّيْحَةُ الَّتِي تَسْمَعُونَهَا، فَتَكُونُ دَاعِيَةً لَهُمْ إِلَى الِاجْتِمَاعِ فِي أَرْضِ الْمَحْشَرِ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أَيْ: مُنْقَادِينَ لَهُ، حَامِدِينَ لِمَا فَعَلَهُ بِكُمْ، فَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَتَسْتَجِيبُونَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ هُنَا الْبَعْثُ وَبِالِاسْتِجَابَةِ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ، فَالْمَعْنَى: يَوْمَ يَبْعَثُكُمْ فَتُبْعَثُونَ مُنْقَادِينَ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: تَظُنُّونَ عِنْدَ الْبَعْثِ أَنَّكُمْ مَا لَبِثْتُمْ فِي قُبُورِكُمْ إِلَّا زَمَنًا قَلِيلًا وَقِيلَ: بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَذَابَ يُكَفُّ عَنِ الْمُعَذَّبِينَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ عَامًا يَنَامُونَ فِيهَا، فلذلك: قالُوا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «3» ، وَقِيلَ: إِنَّ الدُّنْيَا تَحَقَّرَتْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَقَلَّتْ حِينَ رَأَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِعِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ عِنْدَ مُحَاوَرَتِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْكَلَامِ الْحَسَنِ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «4» وَقَوْلِهِ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً «5» لِأَنَّ الْمُخَاشَنَةَ لَهُمْ رُبَّمَا تُنَفِّرُهُمْ عَنِ الْإِجَابَةِ أَوْ تُؤَدِّي إِلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «6» وَهَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ السَّيْفِ وَقِيلَ: المعنى:

_ (1) . في تفسير القرطبي (10/ 275) : الرأسا. (2) . الأحزاب: 63. (3) . يس: 52. (4) . العنكبوت: 46. (5) . طه: 44. (6) . الأنعام: 108.

قُلْ لَهُمْ يَأْمُرُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَيَنْهَوْا عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خَاصَّةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى كَمَا يَشْهَدُ بِهِ السَّبَبُ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أَيْ: بِالْفَسَادِ وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْإِغْرَاءِ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: يُقَالُ: نَزَغَ بَيْنَنَا، أَيْ: أَفْسَدَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: النَّزْغُ: الْإِغْرَاءُ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً أَيْ: مُتَظَاهِرًا بِالْعَدَاوَةِ مُكَاشِفًا بِهَا، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ قِيلَ: هَذَا خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالْمَعْنَى: إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم أو يميتكم عَلَى الشِّرْكِ فَيُعَذِّبْكُمْ وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بِأَنْ يَحْفَظَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بِتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْكُمْ وقيل: إن هذا تفسير لكلمة «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أَيْ: مَا وَكَّلْنَاكَ فِي مَنْعِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَقَسْرِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَقِيلَ: مَا جَعَلْنَاكَ كَفِيلًا لَهُمْ تُؤْخَذُ بِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ذَكَرْتُ أَبَا أَرْوَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي ... بِرَدِّ الْأُمُورِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ أَيْ: كَفِيلٌ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَعْلَمُ بِهِمْ ذَاتًا وَحَالًا وَاسْتِحْقَاقًا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ لأن هذا يشمل كل ما في السموات وَالْأَرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَذَاكَ خَاصٌّ بِبَنِي آدَمَ أَوْ بِبَعْضِهِمْ، وَهَذَا كَالتَّوْطِئَةِ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ أَيْ: أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ عَنْ عِلْمٍ مِنْهُ بِمَنْ هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً وَبِمَنْ دُونَهُ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ مَزِيدَ الْخُصُوصِيَّةِ بِتَكْثِيرِ فَضَائِلِهِ وَفَوَاضِلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ. وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَمُوسَى كَلِيمًا، وَجَعَلَ عِيسَى كَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ، وَجَعَلَ لِسُلَيْمَانَ مُلْكًا عَظِيمًا، وَغَفَرَ لِمُحَمَّدٍ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَجَعَلَهُ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَفْعٌ لِمَا كَانَ يُنْكِرُهُ الْكُفَّارُ مِمَّا يَحْكِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ارْتِفَاعِ دَرَجَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا فَضَّلَ بِهِ دَاوُدَ، فَقَالَ: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أَيْ: كِتَابًا مَزْبُورًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: فَلَا تُنْكِرُوا تَفْضِيلَ مُحَمَّدٍ وَإِعْطَاءَهُ الْقُرْآنَ فَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ دَاوُدَ زَبُورًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَرُفاتاً قَالَ: غُبَارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَرُفاتاً قَالَ: تُرَابًا، وَفِي قَوْلِهِ: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً قَالَ: مَا شِئْتُمْ فَكُونُوا، فَسَيُعِيدُكُمُ اللَّهُ كَمَا كُنْتُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قَالَ: الْمَوْتُ، لَوْ كنتم موتى لَأَحْيَيْتُكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخُ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ ابن أَحْمَدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ: قَالَ: فَكُونُوا الْمَوْتَ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّ الْمَوْتَ سَيَمُوتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابن عباس في قوله: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ قَالَ: سَيُحَرِّكُونَهَا اسْتِهْزَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قَالَ: الْإِعَادَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:

[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 إلى 60]

فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ قَالَ: بِأَمْرِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قَتَادَةَ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ قَالَ: بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: فِي الدُّنْيَا تَحَاقَرَتِ الدُّنْيَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَلَّتْ حِينَ عَايَنُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يعفوا عَنِ السَّيِّئَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يَقُولُ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَزْغُ الشَّيْطَانِ: تَحْرِيشُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً قَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ دُعَاءٌ عُلِّمَهُ دَاوُدُ وَتَحْمِيدٌ وَتَمْجِيدٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَيْسَ فِيهِ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ وَلَا فَرَائِضُ وَلَا حُدُودٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: الزَّبُورُ: ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَدُعَاءٌ وَتَسْبِيحٌ. قُلْتُ: الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ، فَإِنَّا وَقَفْنَا عَلَى الزَّبُورِ فَوَجَدْنَاهُ خُطَبًا يَخْطُبُهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُخَاطِبُ بِهَا رَبَّهُ سُبْحَانَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ الْكَنِيسَةَ، وَجُمْلَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ خُطْبَةً، كُلُّ خُطْبَةٍ تُسَمَّى مَزْمُورًا بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى وَسُكُونِ الزَّايِ وَضَمَّ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ وَآخِرُهُ رَاءٌ، فَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْخُطَبِ يَشْكُو دَاوُدُ إِلَى رَبِّهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَيَسْتَنْصِرُهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي بَعْضِهَا يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُمَجِّدُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَالْغَلَبَةِ لَهُمْ، وَكَانَ عِنْدَ الْخُطْبَةِ يَضْرِبُ بِالْقِيثَارَةِ، وَهِيَ آلَةٌ مِنْ آلَاتِ الْمَلَاهِي. وَقَدْ ذَكَرَ السيوطي في «الدرّ المنثور» ها هنا رِوَايَاتٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ أَلْفَاظًا وَقَفُوا عَلَيْهَا فِي الزَّبُورِ لَيْسَ لَهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَقَدْ أَغْنَى عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا مَا اشتمل عليه القرآن من المواعظ والزواجر. [سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 60] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) قَوْلُهُ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ هَذَا رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ تَمَاثِيلَ عَلَى أَنَّهَا صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ عِيسَى وَمَرْيَمَ وَعُزَيْرٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ آلِهَةٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالَّذِينَ زَعَمْتُمْ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ عِنْدَهُمْ نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا خُصِّصَتِ الْآيَةُ بِمَنْ ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ: يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِالْجَمَادَاتِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ، وَالْمَعْبُودُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ الضُّرِّ، وَعَلَى تَحْوِيلِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ

هَذِهِ الَّتِي تَزْعُمُونَهَا آلِهَةٌ لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ عَدَمَ اقْتِدَارِهِمْ بِبَيَانِ غَايَةِ افْتِقَارِهِمْ إِلَى اللَّهِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ فَأُولَئِكَ مُبْتَدَأٌ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ صِفَتُهُ، وَضَمِيرُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَدْعُونَهُمْ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَدْعُونَ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، أَيِ: الَّذِينَ يَدْعُونَ عِبَادَهُ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، وَيَكُونُ يَبْتَغُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ تَدْعُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ وَلَا خِلَافَ فِي يَبْتَغُونَ أَنَّهُ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْوَسِيلَةُ الْقُرْبَةُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ: أَيْ يَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ مَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي رَبِّهِمْ يَعُودُ إِلَى الْعَابِدِينَ أَوِ الْمَعْبُودِينَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ بِالْوَسِيلَةِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَبْتَغُونَ، أَيْ: يَبْتَغِي مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ تَعَالَى الْوَسِيلَةَ، فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ؟ وَقِيلَ: إِنَّ يَبْتَغُونَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى يحرصون، أي: يحرصون أيهم أقرب إليه سُبْحَانَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ كَمَا يَرْجُوهَا غَيْرُهُمْ وَيَخافُونَ عَذابَهُ كَمَا يَخَافُهُ غَيْرُهُمْ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً تعليل قوله: يَخافُونَ عَذابَهُ أَيْ: إِنَّ عَذَابَهُ سُبْحَانَهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَحْذَرَهُ الْعِبَادُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَآلَ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا فَقَالَ: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ إن نافية، ومن لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ: مَا مِنْ قَرْيَةٍ، أَيُّ قَرْيَةٍ كَانَتْ مِنْ قُرَى الْكُفَّارِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ مَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ إِلَّا سَيُهْلَكُونَ إِمَّا بِمَوْتٍ وَإِمَّا بِعَذَابٍ يَسْتَأْصِلُهُمْ، فَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ أَهْلُهَا، وَإِنَّمَا قِيلَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْقُرَى الْكَافِرَةِ، بَلْ يَعُمُّ كُلَّ قَرْيَةٍ لِانْقِضَاءِ عُمْرِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: الْإِهْلَاكُ لِلصَّالِحَةِ وَالتَّعْذِيبُ لِلطَّالِحَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ «1» . كانَ ذلِكَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَالتَّعْذِيبِ فِي الْكِتابِ أَيِ: اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَسْطُوراً أَيْ: مَكْتُوبًا، وَالسَّطْرُ الْخَطُّ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، وَالسَّطْرُ بِالتَّحْرِيكِ مِثْلُهُ. قَالَ جَرِيرٌ: مَنْ شَاءَ بَايَعْتُهُ مَالِي وَخِلْعَتَهُ ... مَا تُكْمِلُ التَّيْمُ فِي دِيوَانِهَا سطرا والخلعة بِضَمِّ الْخَاءِ خِيَارُ الْمَالِ، وَالسَّطْرُ: جَمْعُ أَسْطَارٍ، وَجَمْعُ السَّطْرِ بِالسُّكُونِ أَسْطُرٌ. وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمْ جِبَالَ مَكَّةَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ كَانَ مَا سَأَلَ قَوْمُكَ، وَلَكِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يُمْهَلُوا، وَإِنْ شِئْتَ اسْتَأْنَيْتَ بِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى: وَمَا مَنَعَنَا مِنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوهَا إِلَّا تَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ، فَإِنْ أَرْسَلْنَاهَا وَكَذَّبَ بِهَا هَؤُلَاءِ عُوجِلُوا وَلَمْ يُمْهَلُوا كَمَا هُوَ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي عِبَادِهِ، فَالْمَنْعُ مُسْتَعَارٌ لِلتَّرْكِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَشْيَاءِ، أَيْ: مَا تَرَكْنَا إِرْسَالَهَا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا تَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ، فَإِنْ كَذَّبَ بِهَا هَؤُلَاءِ كَمَا كَذَّبَ بِهَا أُولَئِكَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ

_ (1) . القصص: 59.

بِهِمْ، وَ «أَنْ» الْأُولَى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بإيقاع المنع عليها، وأن الثانية في محل رفع، والباء في الآيات زَائِدَةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا هُوَ أَنَّ الِاقْتِرَاحَ مَعَ التَّكْذِيبِ مُوجِبٌ لِلْهَلَاكِ الْكُلِّيِّ وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ، وَقَدْ عَزَمْنَا عَلَى أَنْ نُؤَخِّرَ أَمْرَ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ وَنَحْوَهِمْ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ، فَلَا يُؤْمِنُونَ الْبَتَّةَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنْ أُولَئِكَ، فَيَكُونُ إِرْسَالُ الْآيَاتِ ضَائِعًا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَشْهَدَ عَلَى مَا ذُكِرَ بِقِصَّةِ صَالِحٍ وَنَاقَتِهِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مَا اقْتَرَحُوا مِنَ النَّاقَةِ وَصِفَتِهَا الَّتِي قَدْ بُيِّنَتْ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، وَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ مَا اقْتَرَحُوا فَلَمْ يُؤْمِنُوا اسْتُؤْصِلُوا بِالْعَذَابِ، وَإِنَّمَا خُصَّ قَوْمُ صَالِحٍ بِالِاسْتِشْهَادِ لِأَنَّ آثَارَ إِهْلَاكِهِمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَرِيبَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَمْثَالِهِمْ يُبْصِرُهَا صَادِرُهُمْ وَوَارِدُهُمْ، فَقَالَ: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً أَيْ: ذَاتَ إِبْصَارٍ يُدْرِكُهَا النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أَوْ أُسْنِدَ إِلَيْهَا حَالُ مَنْ يُشَاهِدُهَا مَجَازًا، أَوْ أَنَّهَا جَعَلَتْهُمْ ذَوِي إِبْصَارٍ، مِنْ أَبْصَرَهُ جَعَلَهُ بَصِيرًا. وَقُرِئَ عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ. وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالصَّادِ وَانْتِصَابُهَا عَلَى الْحَالِ. وَقُرِئَ بِرَفْعِهَا عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، أَيْ: فَكَذَّبُوهَا وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ. وَمَعْنَى فَظَلَمُوا بِها فَظَلَمُوا بِتَكْذِيبِهَا أَوْ عَلَى تَضْمِينِ ظَلَمُوا مَعْنَى جَحَدُوا أَوْ كَفَرُوا، أَيْ: فَجَحَدُوا بِهَا أَوْ كَفَرُوا بِهَا ظَالِمِينَ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ أَوِ الْجَحْدِ وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعِبَرُ وَالْمُعْجِزَاتُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ مِنْ دَلَائِلِ الْإِنْذَارِ تَخْوِيفًا لِلْمُكَذِّبِينَ الثَّانِي: أَنَّهَا آيَاتُ الِانْتِقَامِ تَخْوِيفًا مِنَ الْمَعَاصِي الثَّالِثُ: تَقَلُّبُ الْأَحْوَالِ مِنْ صِغَرٍ إِلَى شَبَابٍ ثُمَّ إِلَى تَكَهُّلٍ ثُمَّ إِلَى شَيْبٍ لِيَعْتَبِرَ الْإِنْسَانُ بِتَقَلُّبِ أَحْوَالِهِ فَيَخَافُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ الرَّابِعُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ الْخَامِسُ: الْمَوْتُ الذَّرِيعُ وَالْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ أَنْ تُفَسَّرَ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ، أَيْ: لَا نُرْسِلُ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةَ إِلَّا تَخْوِيفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، فَإِنْ لَمْ يَخَافُوا وَقَعَ عَلَيْهِمْ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ ظَلَمُوا بِهَا، أَيْ: فَظَلَمُوا بِهَا وَلَمْ يَخَافُوا، وَالْحَالُ أَنَّ مَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَتِهَا إِلَّا تَخْوِيفًا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ إِلَّا تَخْوِيفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ. وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ عَلَى رَسُولِهِ لِلصَّارِفِ الْمَذْكُورِ قَوَّى قَلْبَهُ بِوَعْدِ النَّصْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَقَالَ: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لَكَ، أَيْ: أَنَّهُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِمَّا يُرِيدُهُ بِهِمْ لِإِحَاطَتِهِ لَهُمْ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ أَهْلُ مَكَّةَ، وَإِحَاطَتُهُ بِهِمْ إِهْلَاكُهُ إِيَّاهُمْ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ سَيُهْلِكُهُمْ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَذَلِكَ كَمَا وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْفَتْحِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَقْتُلُوهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ إِنْزَالَ الْآيَاتِ يَتَضَمَّنُ التَّخْوِيفَ ضَمَّ إِلَيْهِ ذِكْرَ آيَةِ الْإِسْرَاءِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَجْهًا آخَرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، وَكَانَتِ الْفِتْنَةُ ارْتِدَادَ قَوْمٍ كَانُوا أَسْلَمُوا حِينَ أَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ، وَقِيلَ: كَانَتْ رُؤْيَا نَوْمٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ فَافْتَتَنَ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا فتح الله مكة نزل قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ

الرُّؤْيا بِالْحَقِ «1» وَقَدْ تُعُقِّبَ هَذَا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالرُّؤْيَا الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ أَنَّهُ رَأَى بَنِي مَرْوَانَ يَنْزَوْنَ «2» عَلَى مِنْبَرِهِ نَزْوَ الْقِرَدَةِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَقِيلَ: إِنَّمَا هِيَ الدُّنْيَا أَعْطَوْهَا فَسُرِّيَ عَنْهُ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، فَإِنَّهُ لَا فِتْنَةَ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الرُّؤْيَا إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالنَّاسِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، وَيُرَادُ بِالْفِتْنَةِ مَا حَصَلَ مِنَ الْمَسَاءَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَخْبَرَ النَّاسَ بِهَا فَافْتَتَنُوا. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَاهُ فِي الْمَنَامِ مَصَارِعَ قُرَيْشٍ، حتى قال: «والله لكأني أنظر مَصَارِعِ الْقَوْمِ» وَهُوَ يُومِئُ إِلَى الْأَرْضِ وَيَقُولُ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ» ، فَلَمَّا سمعت قُرَيْشُ ذَلِكَ جَعَلُوا رُؤْيَاهُ سُخْرِيَةً. وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ عَطْفٌ عَلَى الرُّؤْيَا، قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، وَالْمُرَادُ بِلَعْنِهَا لَعْنُ آكِلِهَا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ- طَعامُ الْأَثِيمِ «3» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِكُلِّ طَعَامٍ مَكْرُوهٍ مَلْعُونٌ، وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ فِيهَا أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَغَيْرَهُ قَالُوا: زَعَمَ صَاحِبُكُمْ أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ تَحْرِقُ الْحَجَرَ، ثُمَّ يَقُولُ يَنْبُتُ فِيهَا الشَّجَرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ أَمَرَ جَارِيَةً فَأَحْضَرَتْ تَمْرًا وَزُبْدًا وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: تَزَقَّمُوا. وَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: كَثَّرَ اللَّهُ مِنَ الزَّقُّومِ فِي دَارِكُمْ فَإِنَّهُ التَّمْرُ بِالزُّبْدِ بِلُغَةِ الْيَمَنِ. وَقِيلَ: إِنَّ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ هِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي تَلْتَوِي عَلَى الشَّجَرِ فَتَقْتُلُهَا، وَهِيَ شَجَرَةُ الْكُشُوثُ، وَقِيلَ: هِيَ الشَّيْطَانُ، وَقِيلَ: الْيَهُودُ، وَقِيلَ: بَنُو أُمَيَّةَ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أَيْ: نُخَوِّفُهُمْ بِالْآيَاتِ فَمَا يَزِيدُهُمُ التَّخْوِيفُ إِلَّا طُغْيَانًا مُتَجَاوِزًا لِلْحَدِّ، مُتَمَادِيًا غَايَةَ التَّمَادِي، فَمَا يُفِيدُهُمْ إِرْسَالُ الْآيَاتِ إِلَّا الزِّيَادَةَ فِي الْكُفْرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَفْعَلُ بِهِمْ مَا فَعَلْنَاهُ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَلَكِنَّا قَدْ قَضَيْنَا بِتَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا قَالَ: كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ، وَتَمَسَّكَ الْإِنْسِيُّونَ بِعِبَادَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ كِلَاهُمَا، يَعْنِي الْفِعْلَيْنِ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا. وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَعُزَيْرٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: هُمْ عِيسَى، وَعُزَيْرٌ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، قَالُوا: وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ: الْقُرْبُ مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ: يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ فِي قَوْلِهِ: كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً قَالَ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مكة

_ (1) . الفتح: 27. (2) . «ينزون» : يتحرّكون. (3) . الدخان: 43 و 44. [.....]

النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمُ الْجِبَالَ فَيَزْرَعُوا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْتَأْنِيَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ نُؤْتِيَهُمُ الَّذِي سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا أُهْلِكُوا كَمَا أَهْلَكْتُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، قَالَ: لَا، بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّاسُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: لَوْ جِئْتَنَا بِآيَةٍ كَمَا جَاءَ بِهَا صَالِحٌ وَالنَّبِيُّونَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شِئْتُمْ دَعَوْتُ اللَّهَ فَأَنْزَلَهَا عَلَيْكُمْ، فَإِنْ عَصَيْتُمْ هَلَكْتُمْ، فَقَالُوا: لَا نُرِيدُهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً قَالَ: الْمَوْتُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُوَ الْمَوْتُ الذَّرِيعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ قَالَ: عَصَمَكَ مِنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: فَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الْآيَةَ قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَيْسَتْ بِرُؤْيَا مَنَامٍ. وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. وَأَخْرَجَ أَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ أَصْبَحَ يُحَدِّثُ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، فَطَلَبُوا مِنْهُ آيَةً فَوَصَفَ لَهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَذَكَرَ لَهُمْ قِصَّةَ الْعِيرِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: هَذَا سَاحِرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي فُلَانٍ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ نَزْوَ الْقِرَدَةِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَمَا اسْتَجْمَعَ ضَاحِكًا حَتَّى مَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ إِسْنَادَهُ: وَهَذَا السَّنَدُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ رِجَالِ السَّنَدِ مُحَمَّدَ بن الحسن بن زبالة وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ وَلَدَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَلَى الْمَنَابِرِ كَأَنَّهُمُ الْقِرَدَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ» : يَعْنِي الْحَكَمَ وَوَلَدَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مَنَابِرِ الْأَرْضِ، وَسَيَمْلِكُونَكُمْ، فَتَجِدُونَهُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ، وَاهْتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ نَحْوَهُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَبِيكَ وَجَدِّكَ: «إِنَّكُمُ الشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ فِي الْقُرْآنِ» وَفِي هَذَا نَكَارَةٌ لِقَوْلِهَا: يَقُولُ لِأَبِيكَ وَجَدِّكَ، وَلَعَلَّ جَدَّ مَرْوَانَ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ النُّبُوَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَنَّهُ دَخْلَ مَكَّةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، فَسَارَ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 إلى 65]

الْأَجَلِ فَرَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ نَاسٌ: قَدْ رُدَّ، وَقَدْ كَانَ حَدَّثَنَا أَنَّهُ سَيَدْخُلُهَا فَكَانَتْ رَجْعَتُهُ فِتْنَتَهُمْ، وَقَدْ تَعَارَضَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، فَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَالرَّاجِحُ كَثْرَةً وَصِحَّةً هُوَ كَوْنُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةَ الْإِسْرَاءِ فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ كَثِيرٍ إِجْمَاعَ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى ذَلِكَ فِي الرُّؤْيَا، وَفِي تَفْسِيرِ الشَّجَرَةِ وَأَنَّهَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِغَيْرِهِمْ مَعَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهِلٍ لَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ تَخْوِيفًا لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَلْ تَدْرُونَ مَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ الَّتِي يُخَوِّفُكُمْ بِهَا مُحَمَّدٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: عَجْوَةُ يَثْرِبَ بِالزُّبْدِ. وَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَمْكَنَّا مِنْهَا لَنَزْقُمَنَّهَا تَزَقُّمًا، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ- طَعامُ الْأَثِيمِ «1» ، وَأَنْزَلَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ قال: ملعونة لأنه قال: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ والشياطين ملعونون. [سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَلِيَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَمِحْنَةٍ شَدِيدَةٍ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا كَذَلِكَ، حَتَّى أَنَّ هَذِهِ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ سَنَّهَا إِبْلِيسُ اللَّعِينُ، وَأَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، ذَكَرَ هَاهُنَا مَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ فَقَالَ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ هَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ: فِي الْبَقَرَةِ، وَالْأَعْرَافِ، وَالْحِجْرِ، وَهَذِهِ السُّورَةِ، وَالْكَهْفِ، وَطَه، وَص، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا مَبْسُوطًا، فَلْنَقْتَصِرْ هَاهُنَا عَلَى تَفْسِيرِ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ، فَقَوْلُهُ: طِيناً مُنْتَصِبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنْ طِينٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لِمَنْ خَلَقْتُهُ طِينًا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ أَرَأَيْتَكَ أَيْ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الَّذِي فَضَّلْتَهُ عَلَيَّ لِمَ فَضَّلْتَهُ؟ وَقَدْ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «2» فَحُذِفَ هَذَا لِلْعِلْمِ بِهِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أَيْ: لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُهُ مِنِ احْتِنَاكِ الْجَرَادِ الزَّرْعَ، وَهُوَ أَنْ تَسْتَأْصِلَهُ بِأَحْنَاكِهَا وَتُفْسِدَهُ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ سُمِّيَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الشَّيْءِ وَأَخْذُهُ كُلَّهُ احْتِنَاكًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَأَسُوقَنَّهُمْ حَيْثُ شِئْتُ، وَأَقُودَنَّهُمْ حَيْثُ أَرَدْتُ، مِنْ قَوْلِهِمْ حَنَّكْتُ الْفَرَسَ أُحَنِّكُهُ حَنْكًا إِذَا جَعَلْتَ فِي فِيهِ الرَّسَنَ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَنْسَبُ بمعنى هذه الآية، ومنه قول الشاعر:

_ (1) . الدخان: 43 و 44. (2) . الأعراف: 12.

أَشْكُو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أَجْحَفَتْ ... جَهْدًا إِلَى جهد بنا وأضعفت واحتنكت أموالنا واجتلفت أَيِ: اسْتَأْصَلَتْ أَمْوَالَنَا. وَاللَّامُ فِي لَئِنْ أَخَّرْتَنِ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّعِينُ هَذَا الْقَسَمَ عَلَى أَنَّهُ سَيَفْعَلُ بِذُرِّيَّةِ آدَمَ مَا ذَكَرَهُ لِعِلْمٍ قَدْ سَبَقَ إِلَيْهِ مِنْ سَمْعٍ اسْتَرَقَهُ، أَوْ قَالَهُ لِمَا ظَنَّهُ مِنْ قُوَّةِ نُفُوذِ كَيْدِهِ فِي بَنِي آدَمَ، وَأَنَّهُ يَجْرِي مِنْهُمْ فِي مَجَارِي الدَّمِ، وَأَنَّهُمْ بِحَيْثُ يَرُوجُ عِنْدَهُمْ كَيْدُهُ، وَتَنْفَقُ لَدَيْهِمْ وَسْوَسَتُهُ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ، وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا وَفِي مَعْنَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «1» فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَهُ هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى الظَّنِّ وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «2» ، وَقِيلَ: عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ طَبْعِ الْبَشَرِ لِمَا رُكِّبَ فِيهِمْ مِنَ الشَّهَوَاتِ، أَوْ ظَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَسَوَسَ لِآدَمَ فَقَبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِدْ لَهُ عَزْمًا، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَيْ: أَطَاعَكَ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أَيْ: إِبْلِيسَ وَمَنْ أَطَاعَهُ جَزاءً مَوْفُوراً أَيْ: وَافِرًا مُكَمَّلًا، يُقَالُ: وَفَرْتُهُ أَفِرُهُ وَفْرًا، وَوَفَرَ الْمَالُ بِنَفْسِهِ يَفِرُ وُفُورًا، فَهُوَ وَافِرٌ، فَهُوَ مَصْدَرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ ... يَفِرْهُ ومن لا يتّقي الشَّتْمَ يُشْتَمِ ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ الْإِمْهَالَ لِإِبْلِيسَ اللَّعِينِ فَقَالَ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أَيِ: اسْتَزْعِجْ وَاسْتَخِفَّ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْ بَنِي آدَمَ، يُقَالُ: أَفَزَّهُ وَاسْتَفَزَّهُ، أَيْ: أَزْعَجَهُ وَاسْتَخَفَّهُ، وَالْمَعْنَى: اسْتَخِفَّهُمْ بِصَوْتِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْغِنَاءُ وَاللَّهْوُ وَاللَّعِبُ وَالْمَزَامِيرُ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَجْلِبْ مِنَ الْجَلَبَةِ وَالصِّيَاحِ، أَيْ: صِحْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ اجْمَعْ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مَكَايِدِكَ، فَالْإِجْلَابُ: الْجَمْعُ، وَالْبَاءُ فِي بِخَيْلِكَ زَائِدَةٌ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْإِجْلَابُ الْإِعَانَةُ، وَالْخَيْلُ تَقَعُ عَلَى الْفُرْسَانِ كَقَوْلِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي» ، وَتَقَعُ عَلَى الأفراس، والرجل بسكون الجيم: جمع رجل، كَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ، وَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ وَقَرَأَ حَفْصٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ رَجِلَ وَرَجُلَ، بِمَعْنَى رَاجِلٍ، فَالْخَيْلُ وَالرَّجْلُ كِنَايَةٌ عَنْ جَمِيعِ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ، أَوِ الْمُرَادُ كُلُّ رَاكِبٍ وَرَاجِلٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أَمَّا الْمُشَارَكَةُ فِي الْأَمْوَالِ، فَهِيَ: كُلُّ تَصَرُّفٍ فِيهَا يُخَالِفُ وَجْهَ الشَّرْعِ، سَوَاءٌ كَانَ أَخْذًا مِنْ غَيْرِ حَقٍّ، أَوْ وَضْعًا فِي غَيْرِ حَقٍّ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا، وَمِنْ ذَلِكَ تَبْتِيكُ آذَانِ الْأَنْعَامِ وَجَعْلُهَا بَحِيرَةً وَسَائِبَةً، وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْأَوْلَادِ دَعْوَى الْوَلَدِ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، وَتَحْصِيلُهُ بِالزِّنَا وَتَسْمِيَتُهُمْ بِعَبْدِ اللَّاتَ وَعَبْدِ الْعُزَّى، وَالْإِسَاءَةُ فِي تَرْبِيَتِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَأْلَفُونَ فِيهِ خِصَالَ الشَّرِّ وَأَفْعَالَ السُّوءِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا قَتَلُوا مِنْ أَوْلَادِهِمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ، وَوَأْدُ الْبَنَاتِ وَتَصْيِيرُ أَوْلَادِهِمْ عَلَى الْمِلَّةِ الْكُفْرِيَّةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مُشَارَكَةُ الشَّيْطَانِ لِلْمُجَامِعِ إِذَا لَمْ يُسَمِّ، ثُمَّ قَالَ: وَعِدْهُمْ قال الفراء:

_ (1) . سبأ: 20. (2) . البقرة: 30.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 إلى 70]

قل لهم لا جنة لا نَارٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَعَدَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُبَعَثُونَ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أَيْ: بَاطِلًا، وَأَصْلُ الْغُرُورِ تَزْيِينُ الْخَطَأِ بِمَا يُوهِمُ الصَّوَابَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَعِدْهُمُ النُّصْرَةَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ لِلشَّيْطَانِ مِنْ بَابِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَقِيلَ: هِيَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ وَبِمَنْ تَبِعَهُ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ يَعْنِي عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ أَنَّ إِضَافَةَ الْعِبَادِ إِلَيْهِ يُرَادُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ لِمَا فِي الْإِضَافَةِ مِنَ التَّشْرِيفِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ جَمِيعُ الْعِبَادِ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الموضع: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «1» ، وَالْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ: التَّسَلُّطُ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ، فَهُوَ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُمْ كَيْدَ الشَّيْطَانِ، وَيَعْصِمُهُمْ مِنْ إِغْوَائِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ إِبْلِيسُ: إِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ ومن طِينٍ، خُلِقَ ضَعِيفًا وَإِنِّي خُلِقْتُ مِنْ نَارٍ، وَالنَّارُ تُحْرِقُ كُلَّ شَيْءٍ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا فَصَدَّقَ ظَنَّهُ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ قَالَ: لَأَسْتَوْلِيَنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ قَالَ: لَأَحْتَوِيَنَّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَأُضِلَّنَّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَوْفُوراً قَالَ: وَافِرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قَالَ: صَوْتُهُ كُلُّ دَاعٍ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ قَالَ: كُلُّ رَاكِبٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَجِلِكَ قَالَ: كُلُّ رَاجِلٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ قَالَ: كُلُّ مَالٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالْأَوْلادِ قَالَ: كُلُّ مَا قَتَلُوا مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَأَتَوْا فِيهِمُ الْحَرَامَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُّ خَيْلٍ تَسِيرُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكُلُّ مَالٍ أُخِذَ بِغَيْرِ حَقِّهِ، وَكُلُّ وَلَدِ زِنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْأَمْوالِ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنْ أَنْعَامِهِمْ وَالْأَوْلادِ أَوْلَادُ الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْأَمْوالِ: الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالْأَوْلادِ سمّوا عبد الحارث وعبد شمس. [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)

_ (1) . الحجر: 42.

قَوْلُهُ: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ الْإِزْجَاءُ: السَّوْقُ وَالْإِجْرَاءُ وَالتَّسْيِيرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً «1» ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سائل بني أسد ما هذه الصّوت؟ وَقَوْلُ الْآخَرُ: عُوَّذَا تُزَجِّي خَلْفَهَا أَطْفَالَهَا وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُسَيِّرُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ بِالرِّيحِ، وَالْفُلْكُ هَاهُنَا جَمْعٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَالْبَحْرُ: هُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ عَذْبًا كَانَ أَوْ مَالِحًا، وَقَدْ غَلَبَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْمَشْهُورِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أَيْ: مِنْ رِزْقِهِ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ أَوْ مِنَ الرِّبْحِ بِالتِّجَارَةِ، ومن زَائِدَةٌ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ أَحَدًا، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ، أَيْ: كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا فَهَدَاكُمْ إِلَى مَصَالِحِ دُنْيَاكُمْ وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ يَعْنِي خَوْفَ الْغَرَقِ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ مِنَ الْآلِهَةِ وَذَهَبَ عَنْ خَوَاطِرِكُمْ، وَلَمْ يُوجَدْ لِإِغَاثَتِكُمْ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ صَنَمٍ، أَوْ جِنٍّ، أَوْ مَلَكٍ، أَوْ بَشَرٍ إِلَّا إِيَّاهُ وَحْدَهُ فَإِنَّكُمْ تَعْقِدُونَ رَجَاءَكُمْ بِرَحْمَتِهِ وَإِغَاثَتِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ فِي أَصْنَامِهِمْ وَسَائِرِ مَعْبُودَاتِهِمْ أَنَّهَا نَافِعَةٌ لَهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْلَمُ بِالْفِطْرَةِ عِلْمًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُدَافَعَتِهِ أَنَّ الْأَصْنَامَ وَنَحْوَهَا لَا فِعْلَ لَهَا. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَرَجَعْتُمْ إِلَى دُعَاءِ أَصْنَامِكُمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهَا وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أَيْ: كَثِيرَ الْكُفْرَانِ لِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ يَتَمَسَّكُونَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَفِي الرَّخَاءِ يُعْرِضُونَ عَنْهُ. ثُمَّ أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ سُوءَ مُعَامَلَتِهِمْ قَائِلًا: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَنَجَوْتُمْ فَأَمِنْتُمْ فَحَمَلَكُمْ ذَلِكَ عَلَى الْإِعْرَاضِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أنه قادر على هلاكهم فِي الْبَرِّ وَإِنْ سَلِمُوا مِنَ الْبَحْرِ. وَالْخَسْفُ: أَنْ تَنْهَارَ الْأَرْضُ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: بِئْرٌ خَسِيفٌ، إِذَا انْهَدَمَ أَصْلُهَا، وَعَيْنٌ خَاسِفٌ، أَيْ: غَائِرَةٌ حَدَقَتُهَا فِي الرَّأْسِ، وَخَسَفَتْ عَيْنُ الْمَاءِ: إِذَا غَارَ مَاؤُهَا، وَخَسَفَتِ الشَّمْسُ: إِذَا غَابَتْ عَنِ الأرض، وجانب الْبَرِّ: نَاحِيَةُ الْأَرْضِ، وَسَمَّاهُ جَانِبًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَعْدَ الْخَسْفِ جَانِبًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْبَحْرَ جَانِبٌ مِنَ الْأَرْضِ وَالْبَرَّ جَانِبٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَسَاحِلُهُ جَانِبُ الْبَرِّ، فَكَانُوا فِيهِ آمِنِينَ مِنْ مَخَاوِفِ الْبَحْرِ، فَحَذَّرَهُمْ مَا أَمِنُوهُ مِنَ الْبَرِّ كَمَا حَذَّرَهُمْ مَا خَافُوهُ مِنَ الْبَحْرِ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً قَالَ أبو عبيدة والقتبي: الْحَاصِبُ: التُّرَابُ الَّذِي فِيهِ حَصْبَاءُ، فَالْحَاصِبُ ذُو الْحَصْبَاءِ كَاللَّابِنِ وَالتَّامِرِ وَقِيلَ: الْحَاصِبُ حِجَارَةٌ مِنَ السماء تحصبهم كما فعل بقوم لوط

_ (1) . النور: 43. (2) . هو رويشد بن كثير الطائي. «ما هذه الصوت» : ما هذه القصة التي تتأدّى إليّ عنكم.

وَيُقَالُ لِلسَّحَابَةِ الَّتِي تَرْمِي بِالْبَرَدِ حَاصِبٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: مُسْتَقْبِلِينَ جِبَالَ «1» الشَّامِ تَضْرِبُنَا ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورُ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَيْ: حَافِظًا وَنَصِيرًا يَمْنَعُكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى أَيْ: فِي الْبَحْرِ مَرَّةً أُخْرَى بِأَنْ يُقَوِّيَ دَوَاعِيَكُمْ وَيُوَفِّرَ حَوَائِجَكُمْ إِلَى رُكُوبِهِ، وَجَاءَ بفي وَلَمْ يَقُلْ إِلَى الْبَحْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْرَارِهِمْ فِيهِ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ الْقَاصِفُ: الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَكْسِرُ بِشِدَّةٍ، مِنْ قَصَفَ الشَّيْءَ يَقْصِفُهُ، أَيْ: كَسَرَهُ بِشِدَّةٍ، وَالْقَصْفُ: الْكَسْرُ، أَوْ هُوَ الرِّيحُ الَّتِي لَهَا قَصِيفٌ، أَيْ: صَوْتٌ شَدِيدٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: رَعْدٌ قَاصِفٌ، أَيْ: شَدِيدُ الصَّوْتِ فَيُغْرِقَكُمْ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَرُوَيْسٌ وَمُجَاهِدٌ فَتُغْرِقَكُمْ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ الرِّيحُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ وَرْدَانَ فَيُغَرِّقَكُمْ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالتَّشْدِيدِ فِي الرَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا: الرِّيَاحِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالنُّونِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِي جَمِيعِهَا أَيْضًا، وَالْبَاءُ فِي بِمَا كَفَرْتُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ: بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً أَيْ: ثَائِرًا يُطَالِبُنَا بِمَا فَعَلْنَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تَجِدُوا مَنْ يَتْبَعُنَا بِإِنْكَارِ مَا نَزَلَ بِكُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ مِنَ الثَّأْرِ، وَكَذَا يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ طَلَبَ بِثَأْرٍ أَوْ غَيْرِهِ: تَبِيعٌ وَتَابِعٌ وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ هَذَا إِجْمَالٌ لِذِكْرِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى بَنِي آدَمَ، أَيْ: كَرَّمْنَاهُمْ جَمِيعًا، وَهَذِهِ الْكَرَامَةُ يَدْخُلُ تَحْتَهَا خَلْقُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الْحَسَنَةِ وَتَخْصِيصُهُمْ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجَدُ لِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ مِثْلُهُ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ هَذَا التَّكْرِيمَ هُوَ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِأَيْدِيهِمْ، وَسَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ تَأْكُلُ بِالْفَمِ، وَكَذَا حَكَاهُ النَّحَّاسُ. وَقِيلَ: مَيَّزَهُمْ بِالنُّطْقِ وَالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ، وَقِيلَ: أَكْرَمَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَكْرَمَهُمْ بِتَسْلِيطِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ وَتَسْخِيرِ سَائِرِ الْخَلْقِ لَهُمْ، وَقِيلَ: بِالْكَلَامِ وَالْخَطِّ وَالْفَهْمِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ التَّكْرِيمِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَأَعْظَمُ خِصَالِ التَّكْرِيمِ الْعَقْلُ، فَإِنَّ بِهِ تَسَلَّطُوا عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَمَيَّزُوا بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَتَوَسَّعُوا فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، وَكَسَبُوا الْأَمْوَالَ الَّتِي تَسَبَّبُوا بِهَا إِلَى تَحْصِيلِ أُمُورٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْحَيَوَانُ، وَبِهِ قَدَرُوا عَلَى تَحْصِيلِ الْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَمْنَعُهُمْ مِمَّا يَخَافُونَ، وَعَلَى تَحْصِيلِ الْأَكْسِيَةِ الَّتِي تَقِيهِمُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَقِيلَ: تَكْرِيمُهُمْ هُوَ أَنْ جَعَلَ محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ هَذَا تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ التَّكْرِيمِ، حَمَلَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي الْبَرِّ عَلَى الدَّوَابِّ، وَفِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ، وَقِيلَ: حَمَّلْنَاهُمْ فِيهِمَا حَيْثُ لَمْ نَخْسِفْ بِهِمْ وَلَمْ نُغْرِقْهُمْ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَيْ: لَذِيذِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَسَائِرِ مَا يَسْتَلِذُّونَهُ وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا أَجْمَلَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْكَثِيرَ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنْوَاعَهُ، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ بَنِي آدَمَ فَضَّلَهُمْ سُبْحَانَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْكَثِيرَ هُنَا بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، وَهُوَ تَعَسُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. وَقَدْ شُغِلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ تَكُنْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ، وَهُوَ مَسْأَلَةُ تَفْضِيلِ الملائكة على

_ (1) . في تفسير القرطبي (10/ 292) : شمال.

الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ مُفْضِلُو الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ لِمَا عَرَفْتَ مِنْ إِجْمَالِ الْكَثِيرِ وَعَدَمِ تَبْيِينِهِ، وَالتَّعَصُّبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ بَعْضَ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى تَفْسِيرِ الْكَثِيرِ هُنَا بِالْجَمِيعِ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ التَّفْضِيلُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَتَمَسَّكَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا دَلَالَةَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنَ الْقَلِيلِ الْخَارِجِ عَنْ هَذَا الْكَثِيرِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْكَثِيرِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ بَنِي آدَمَ، بَلْ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ مُفَضَّلًا عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْإِنْسَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ، وَالتَّأْكِيدُ بِقَوْلِهِ: تَفْضِيلًا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ هَذَا التَّفْضِيلِ وَأَنَّهُ بِمَكَانٍ مَكِينٍ، فَعَلَى بَنِي آدَمَ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ بِالشُّكْرِ، وَيَحْذَرُوا مِنْ كُفْرَانِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُزْجِي قَالَ: يُجْرِي. وَأَخْرَجُوا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يُسَيِّرُهَا فِي الْبَحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حاصِباً قَالَ: مَطَرُ الْحِجَارَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ قَالَ: الَّتِي تُغْرِقُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: الْقَاصِفُ وَالْعَاصِفُ فِي الْبَحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قاصِفاً قَالَ: عَاصِفًا، وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً قَالَ: نَصِيرًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنِ ابْنِ آدَمَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ؟ قَالَ: وَلَا الْمَلَائِكَةُ، الْمَلَائِكَةُ مَجْبُورُونَ بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ» . وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ مَلَائِكَتِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ أَعْطَيْتَ بَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبِسُونَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَلَا نَأْكُلُ وَلَا نَشْرَبُ وَلَا نَلْهُو، فَكَمَا جَعَلْتَ لَهُمُ الدُّنْيَا فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ، قَالَ: لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي كَمَنْ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ» . وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ. وَإِسْنَادُ الطَّبَرَانِيِّ هَكَذَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أبو غسان محمد بن مطرف، عن صفوان بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قَالَ: جَعَلْنَاهُمْ يَأْكُلُونَ بِأَيْدِيهِمْ وسائر الخلق

[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 إلى 77]

يَأْكُلُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «الكرامة: الأكل بالأصابع» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 77] يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) قَوْلُهُ: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وهو منصوب على معنى اذكر يوم ندعوا. وقرئ يدعوا بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَيُدْعَى عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْبَاءُ فِي بِإِمَامِهِمْ لِلْإِلْصَاقِ، كَمَا تَقُولُ: أَدْعُوكَ بِاسْمِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ، وَالتَّقْدِيرُ: نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ مُتَلَبِّسِينَ بِإِمَامِهِمْ، أَيْ يُدْعَوْنَ وَإِمَامُهُمْ فِيهِمْ، نَحْوَ رَكْبٍ بِجُنُودِهِ، وَالْأَوَّلُ أُولَى. وَالْإِمَامُ فِي اللُّغَةِ: كُلُّ مَا يُؤْتَمُّ بِهِ مِنْ نَبِيٍّ، أَوْ مُقَدَّمٍ فِي الدِّينِ، أَوْ كِتَابٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ المفسرون في تعيين الإمام الذي يدعى كُلُّ أُنَاسٍ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّهُ كِتَابُ كُلِّ إِنْسَانٍ الَّذِي فِيهِ عَمَلُهُ، أَيْ: يُدْعَى كُلُّ إِنْسَانٍ بِكِتَابِ عَمَلِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ الْآيَةَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْإِمَامُ: هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِمْ، فَيُدْعَى أَهْلُ التَّوْرَاةِ بِالتَّوْرَاةِ، وَأَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِالْإِنْجِيلِ، وَأَهْلُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ التَّوْرَاةِ، يَا أَهْلَ الْإِنْجِيلِ، يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: إِمَامُهُمْ نَبِيُّهُمْ، فَيُقَالُ: هَاتُوا مُتَّبِعِي إِبْرَاهِيمَ، هَاتُوا مُتَّبِعِي مُوسَى، هَاتُوا مُتَّبِعِي عِيسَى، هَاتُوا مُتَّبِعِي مُحَمَّدٍ، وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمُرَادُ بِالْإِمَامِ إِمَامُ عَصْرِهِمْ، فَيُدْعَى أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ بِإِمَامِهِمْ الَّذِي كَانُوا يَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِ وَيَنْتَهُونَ بِنَهْيِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: الْمُرَادُ بِإِمَامِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، فَيُقَالُ مَثَلًا: أَيْنَ الْمُجَاهِدُونَ؟ أَيْنَ الصَّابِرُونَ؟ أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ أَيْنَ الْمُصَلُّونَ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُرَادُ بِإِمَامِهِمْ صَاحِبُ مَذْهَبِهِمْ، فَيُقَالُ مَثَلًا: أَيْنَ التَّابِعُونَ لِلْعَالِمِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ؟ وَهَذَا مِنَ الْبُعْدِ بِمَكَانٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: بِإِمامِهِمْ بِأُمَّهَاتِهِمْ، عَلَى أَنَّ إِمَامَ جَمْعُ أُمٍّ كَخُفٍّ وَخِفَافٍ، وَهَذَا بِعِيدٌ جِدًّا. وَقِيلَ: الْإِمَامُ هُوَ كُلُّ خُلُقٍ يَظْهَرُ مِنَ الْإِنْسَانِ حَسَنٍ كَالْعِلْمِ وَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ، أَوْ قَبِيحٍ كَأَضْدَادِهَا، فَالدَّاعِي إِلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ خُلُقٌ بَاطِنٌ هُوَ كَالْإِمَامِ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ مِنْ أُولَئِكَ الْمَدْعُوِينَ، وَتَخْصِيصُ الْيَمِينِ بِالذِّكْرِ لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّبْشِيرِ فَأُولئِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ. قِيلَ: وَوَجْهُ الْجَمْعِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى شَأْنٍ جَلِيلٍ، أَوِ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ قِرَاءَتَهُمْ

لِكُتُبِهِمْ تَكُونُ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ لَا عَلَى وجه الانفراد يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ الَّذِي أُوتُوهُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِهِمْ قَدْرَ فَتِيلٍ، وَهُوَ الْقِشْرَةُ الَّتِي فِي شِقِّ النَّوَاةِ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَقَلِّ شَيْءٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابَ الشِّمَالِ تَصْرِيحًا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَالِهِمُ الْقَبِيحِ فَقَالَ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى أَيْ مَنْ كَانَ مِنَ الْمَدْعُوِينَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَعْمَى: أَيْ فَاقِدَ الْبَصِيرَةِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عَمَى الْبَصَرِ كَقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً وَفِي هَذَا زِيَادَةُ الْعُقُوبَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ عَمَى الْقَلْبِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآخِرَةِ عَمَلُ الْآخِرَةِ، أَيْ: فَهُوَ فِي عَمَلِ، أَوْ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ أَعْمَى وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ عَمِي عَنِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ عَنْ نِعَمِ الْآخِرَةِ أَعْمَى وَقِيلَ: مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا الَّتِي تُقْبَلُ فِيهَا التَّوْبَةُ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي لَا تَوْبَةَ فِيهَا أَعْمَى وَقِيلَ: مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَعْمَى عَنْ حُجَجِ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَيْ: أَشَدُّ عَمًى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ إِذْ لَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي عَمَى الْعَيْنِ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: لِأَنَّهُ خَلَقَهُ بِمَنْزِلَةِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، فَلَا يُقَالُ مَا أَعْمَاهُ كَمَا لَا يُقَالُ مَا أَيْدَاهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: لَا يقال فيه ذلك لأنه أكثر من [ثلاثة] «1» أَحْرُفٍ. وَقَدْ حَكَى الْفَرَّاءُ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَا أَسْوَدَ شَعَرَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَمَّا الْمُلُوكُ فَأَنْتَ الْيَوْمَ أَلْأَمُهُمْ ... لُؤْمًا وَأَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ وَالْبَحْثُ مُسْتَوْفًي فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ أَعْمى بِالْإِمَالَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَرَأَهُمَا أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ إِمَالَةٍ، وَأَمَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي. وَأَضَلُّ سَبِيلًا يَعْنِي أَنَّ هَذَا أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَعْمَى لِكَوْنِهِ لَا يَجِدُ طَرِيقًا إِلَى الْهِدَايَةِ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى فَقَدْ يَهْتَدِي فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ لَمَّا عَدَّدَ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَقْسَامَ النِّعَمِ عَلَى بَنِي آدَمَ أَرْدَفَهُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّحْذِيرِ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِوَسَاوِسِ الْأَشْقِيَاءِ، فَقَالَ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ وَالْمَعْنَى: وَإِنَّ الشَّأْنَ قَارَبُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَاتِنِينَ، وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ: الِاخْتِبَارُ، وَمِنْهُ فَتَنَ الصَّائِغُ الذَّهَبَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَنْ أَزَالَ الشَّيْءَ عَنْ حَدِّهِ وَجِهَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِعْطَائِهِمْ مَا سَأَلُوهُ مُخَالَفَةً لِحُكْمِ الْقُرْآنِ، وَافْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ تَبْدِيلِ الْوَعْدِ بِالْوَعِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ لِتَتَقَوَّلَ عَلَيْنَا غَيْرَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِمَّا اقْتَرَحَهُ عَلَيْكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أَيْ: لَوِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا لَهُمْ، أَيْ: وَالَوْكَ وَصَافَوْكَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَلَّةِ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ عَلَى الْحَقِّ وَعَصَمْنَاكَ عَنْ مُوَافَقَتِهِمْ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ لَقَارَبْتَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِمْ أَدْنَى مَيْلٍ، وَالرُّكُونُ: هُوَ الْمَيْلُ

_ (1) . من تفسير القرطبي (10/ 299) .

الْيَسِيرُ، وَلِهَذَا قَالَ: شَيْئاً قَلِيلًا لَكِنْ أَدْرَكَتْهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْعِصْمَةُ فَمَنَعَتْهُ مِنْ أَنْ يَقْرُبَ مِنْ أَدْنَى مَرَاتِبِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ، فَضْلًا عَنْ نَفْسِ الرُّكُونِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَا هَمَّ بِإِجَابَتِهِمْ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِنْ كَادُوا لَيُخْبِرُونِ عَنْكَ بِأَنَّكَ مِلْتَ إِلَى قَوْلِهِمْ، فَنُسِبَ فِعْلُهُمْ إِلَيْهِ مَجَازًا وَاتِّسَاعًا، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: كِدْتَ تَقْتُلُ نَفْسَكَ، أَيْ: كَادَ النَّاسُ يَقْتُلُونَكَ بِسَبَبِ مَا فَعَلْتَ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الَمَهَدَوِيُّ. ثُمَّ تَوَعَّدَهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ الْوَعِيدِ، فَقَالَ: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أَيْ: لَوْ قَارَبْتَ أَنْ تَرْكَنَ إِلَيْهِمْ، أَيْ: مِثْلَيْ مَا يُعَذَّبُ بِهِ غَيْرُكَ مِمَّنْ يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ فِي الدَّارَيْنِ، وَالْمَعْنَى: عَذَابًا ضِعْفًا فِي الْحَيَاةِ وَعَذَابًا ضِعْفًا فِي الْمَمَاتِ، أَيْ: مُضَاعَفًا، ثُمَّ حُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ وَأُضِيفَتْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ خطأ العظيم عظيم كما قال سبحانه: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ «1» وَضِعْفُ الشَّيْءِ: مِثْلَاهُ، وَقَدْ يَكُونُ الضِّعْفُ النَّصِيبَ كقوله: لِكُلٍّ ضِعْفٌ «2» أَيْ: نَصِيبٌ. قَالَ الرَّازِيُّ: حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّكَ لَوْ مَكَّنْتَ خَوَاطِرَ الشَّيْطَانِ مِنْ قَلْبِكَ، وَعَقَدْتَ عَلَى الرُّكُونِ هَمَّكَ، لَاسْتَحْقَقْتَ تَضْعِيفَ الْعَذَابِ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَصَارَ عَذَابُكَ مِثْلَيْ عَذَابِ الْمُشْرِكِ فِي الدُّنْيَا وَمِثْلَيْ عَذَابِهِ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يَنْصُرُكَ فَيَدْفَعُ عَنْكَ هَذَا الْعَذَابَ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْبَ مِنَ الْفِتْنَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ فِيهَا، وَالتَّهْدِيدَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْآيَةِ طَعْنٌ فِي الْعِصْمَةِ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ الْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ أَنَّهُمْ قَارَبُوا أَنْ يُزْعِجُوكَ مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ لِتَخْرُجَ عَنْهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، بَلْ مَنَعَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ حتى هاجر بأمر ربه بعد أَنْ هَمُّوا بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أُطْلِقَ الْإِخْرَاجُ عَلَى إِرَادَةِ الْإِخْرَاجِ تَجْوِيزًا وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا مَعْطُوفٌ عَلَى لَيَسْتَفِزُّونَكَ، أَيْ: لَا يَبْقُونَ بَعْدَ إِخْرَاجِكَ إِلَّا زَمَنًا قَلِيلًا، ثُمَّ عُوقِبُوا عُقُوبَةً تَسْتَأْصِلُهُمْ جَمِيعًا. وَقَرَأَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ لَا يُلَبَّثُوا بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَقُرِئَ لَا يَلْبَثُوا بِالنَّصْبِ عَلَى إِعْمَالِ إذن على أن الجملة معطوف عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنْ كادُوا لَا عَلَى الْخَبَرِ فَقَطْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَأَبُو عَمْرٍو خَلْفَكَ وَمَعْنَاهُ بَعْدَكَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خِلافَكَ وَمَعْنَاهُ أَيْضًا بَعْدَكَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: خِلَافَكَ بِمَعْنَى مُخَالَفَتِكَ، وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ لِقَوْلِهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ «3» وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِلَافَ بِمَعْنَى بَعْدَ قَوْلُ الشَّاعِرِ «4» : عَفَتِ الدِّيَارُ خِلَافَهَا «5» فَكَأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا يُقَالُ: شَطَبَتِ الْمَرْأَةُ الْجَرِيدَ إذا شقّته لتعمل منه الحصر. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ثُمَّ تُلْقِيهِ الشَّاطِبَةُ إِلَى المنقّية سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا سُنَّةَ مُنْتَصِبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: سَنَّ اللَّهُ سُنَّةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ يُعَذَّبُونَ كَسُنَّةِ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا، فَلَمَّا سَقَطَ الْخَافِضُ عَمَلَ الْفِعْلُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: سُنَّتُنَا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَقُولُ إِنَّ سُنَّتَنَا هَذِهِ السُّنَّةَ فِيمَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا أَخْرَجُوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتلوه

_ (1) . الأحزاب: 30. (2) . الأعراف: 38. (3) . التوبة: 81. (4) . هو الحارث بن خالد المخزومي. (5) . كذا في مجاز القرآن لأبي عبيدة (1/ 387) ، وابن جرير (15/ 133) وفي تفسير القرطبي: خلافهم. [.....]

أَنْ يَنْزِلَ الْعَذَابُ بِهِمْ وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أَيْ: مَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ لَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ تَحْوِيلِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قَالَ: إِمَامُ هُدًى وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَبِيُّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: بِكِتَابِ أَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلَيٍّ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُدْعَى كُلُّ قَوْمٍ بِإِمَامِ زَمَانِهِمْ، وَكِتَابِ رَبِّهِمْ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قَالَ: «يُدْعَى أَحَدُهُمْ فَيُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ سِتِّينَ ذِرَاعًا وَيَبْيَضُّ وَجْهُهُ، وَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ يَتَلَأْلَأُ، فَيَنْطَلِقُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَرَوْنَهُ مِنْ بَعِيدٍ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ائْتِنَا بِهَذَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي هَذَا، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ فَيَقُولُ: أَبْشِرُوا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلُ هَذَا وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ سِتِّينَ ذِرَاعًا عَلَى صورة آدم، ويلبس تاجا من نار فَيَرَاهُ أَصْحَابُهُ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، اللَّهُمَّ لَا تَأْتِنَا بِهَذَا، قَالَ: فَيَأْتِيهِمْ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اخْزِهِ، فَيَقُولُ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلَ هَذَا» . قَالَ الْبَزَّارُ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: لَا يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى يَقُولُ: مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَعْمَى عَمَّا يَرَى مِنْ قُدْرَتِي مِنْ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالنَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَأَشْبَاهِ هَذَا فَهُوَ عَمَّا وَصَفْتُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَرَهُ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا يَقُولُ: أَبْعَدُ حُجَّةً. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ نَحْوَ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا يَقُولُ: مَنْ عَمِيَ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: «إِنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَرِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: تَعَالَ فَتَمْسَحْ «1» آلِهَتَنَا وَنَدْخُلْ مَعَكَ فِي دِينِكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ فِرَاقُ قَوْمِهِ وَيُحِبُّ إِسْلَامَهُمْ، فَرَقَّ لَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إِلَى قَوْلِهِ: نَصِيراً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ باذان عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُكَ تَسْتَلِمُهُ حتى تستلم آلهتنا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا عَلَيَّ لَوْ فَعَلْتُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مِنِّي خِلَافَهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ «أَنَّ قُرَيْشًا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ: إِنْ كُنْتَ أُرْسِلْتَ إِلَيْنَا فَاطْرُدِ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ مِنْ سِقَاطِ النَّاسِ وَمَوَالِيهِمْ لِنَكُونَ نَحْنُ أَصْحَابَكَ، فَرَكَنَ إِلَيْهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قال: أنزل الله وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «2» فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآية

_ (1) . في الدر المنثور (5/ 318) : فاستلم. (2) . النجم: 1.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 إلى 85]

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى «1» فَأَلْقَى عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُمْ لَتُرْتَجَى، فَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنَ السُّورَةِ وَسَجَدَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الْآيَةَ، فَمَا زَالَ مَهْمُومًا مَغْمُومًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى «2» الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ ثَقِيفًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَجِّلْنَا سَنَةً حَتَّى يُهْدَى لِآلِهَتِنَا، فَإِذَا قَبَضْنَا الَّذِي يُهْدَى لِلْآلِهَةِ أَحْرَزْنَاهُ ثُمَّ أَسْلَمْنَا وَكَسَّرْنَا الْآلِهَةَ، فَهَمَّ أَنْ يُؤَجِّلَهُمْ، فَنَزَلَتْ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ يَعْنِي ضِعْفَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قال المشركون للنبي صلّى الله عليه وسلّم: كانت الأنبياء تسكن الشام، فمالك وَالْمَدِينَةِ؟ فَهَمَّ أَنْ يُشَخِصَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حَضْرَمِيٍّ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ الرحمن ابن غَنْمٍ أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَالْحَقْ بِالشَّامِ، فَإِنَّ الشَّامَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَأَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ، فَصَدَّقَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَا قَالُوا، فَتَحَرَّى غَزْوَةَ تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ، فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَا خُتِمَتِ السُّورَةُ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ إِلَى قَوْلِهِ: تَحْوِيلًا فَأَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ: فِيهَا مَحْيَاكَ وَفِيهَا مَمَاتُكَ وَمِنْهَا تُبْعَثُ، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: سَلْ رَبَّكَ فَإِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مَسْأَلَةً، فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَسْأَلَ؟ قال: قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً فَهَؤُلَاءِ نَزَلْنَ عَلَيْهِ فِي رَجَعَتِهِ مِنْ تَبُوكَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لَمْ يَغْزُ تَبُوكَ عَنْ قَوْلِ الْيَهُودِ، وَإِنَّمَا غَزَاهَا امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ «3» وَغَزَاهَا لِيَقْتَصَّ وَيَنْتَقِمَ مِمَّنْ قَتَلَ أَهْلَ مُؤْتَةَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ قَالَ: هَمَّ أَهْلُ مَكَّةَ بِإِخْرَاجِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ وَقَدْ فَعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يَلْبَثُوا بَعْدَهُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الرُّسُلِ إِذَا فَعَلَ بِهِمْ قَوْمُهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ: يَعْنِي بِالْقَلِيلِ يَوْمَ أَخْذِهِمْ بِبَدْرٍ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْقَلِيلَ الَّذِينَ لَبِثُوا بَعْدَهُ.

_ (1) . النجم: 19. (2) . الحج: 52. (3) . التوبة: 123. [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 85] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)

لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْمَعَادَ وَالْجَزَاءَ أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ أَشْرَفِ الطَّاعَاتِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ، فَقَالَ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْمُرَادُ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَةُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الدُّلُوكِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ زَوَالُ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ، قَالَهُ عُمَرُ وَابْنُهُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو بَرْزَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبِيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: دُلُوكُ الشَّمْسِ مِنْ لَدُنْ زَوَالِهَا إِلَى غروبها. قال الأزهري: معنى الدُّلُوكِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الزَّوَالُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلشَّمْسِ إِذَا زَالَتْ نِصْفَ النَّهَارِ: دَالِكَةٌ، وَقِيلَ لَهَا إِذَا أَفَلَتْ: دَالِكَةٌ لِأَنَّهَا فِي الْحَالَتَيْنِ زَائِلَةٌ. قَالَ: وَالْقَوْلُ عِنْدِي أَنَّهُ زَوَالُهَا نِصْفَ النَّهَارِ لِتَكُونَ الْآيَةُ جَامِعَةً لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالْمَعْنَى: أَقِمِ الصَّلَاةَ مِنْ وَقْتِ دُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ فَيَدْخُلُ فِيهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَصَلَاتَا غَسَقِ اللَّيْلِ، وَهُمَا الْعِشَاءَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ هَذِهِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ. وَقَالَ أَبُو عُبِيدٍ: دُلُوكُهَا غُرُوبُهَا، وَدَلَكَتْ بِرَاحٍ: يَعْنِي الشَّمْسَ، أَيْ: غَابَتْ، وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ عَلَى هَذَا قَوْلَ الشَّاعِرِ: هذا مقام قدمي رباح ... ذبّب حَتَّى دَلَكَتْ بَرَاحْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّمْسِ «1» عَلَى وَزْنِ حَذَامٍ وَقَطَامٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: مَصَابِيحٌ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي تَقُودُهَا ... نُجُومٌ ولا بالآفات الدَّوَالِكِ أَيِ: الْغَوَارِبِ، وَغَسَقُ اللَّيْلِ: اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: يُقَالُ: غَسَقَ اللَّيْلُ وَأَغْسَقَ إِذَا أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْغَسَقُ سواد الليل. قال ابن قيس الرُّقَيَّاتِ: إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا ... وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ وَالْأَرَقَا وَقِيلَ: غَسَقُ اللَّيْلِ: مَغِيبُ الشَّفَقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: ظَلَّتْ تَجُودُ يَدَاهَا وَهِيَ لَاهِيَةٌ ... حَتَّى إِذَا جَعْجَعَ «2» الْإِظْلَامُ وَالْغَسَقُ وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ السَّيَلَانِ، يُقَالُ: غَسَقَتْ إِذَا سَالَتْ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ غَسَقَ اللَّيْلُ وَأَغْسَقَ، وَظَلِمَ وَأَظْلَمَ، ودجا وَأَدْجَى، وَغَبِشَ وَأَغْبَشَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْغَايَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ يَتَمَادَى وَقْتُهَا مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حنيفة، وجوّزه مالك

_ (1) . في حاشية القرطبي (10/ 303) : والصواب: من أسماء النساء. (2) . في تفسير القرطبي (10/ 304) : جنح.

وَالشَّافِعِيُّ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْيِينِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، فَيَجِبُ حَمْلُ مُجْمَلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ انْتِصَابُ قُرْآنَ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى الصَّلَاةِ أَيْ: وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْبَصْرِيُّونَ: انْتِصَابُهُ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيْ: فَعَلَيْكَ قُرْآنَ الْفَجْرِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِقُرْآنِ الْفَجْرِ صَلَاةُ الصُّبْحِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِي هَذِهِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ حَتَّى سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ قُرْآنًا، وَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: الْخَارِجَةِ مِنْ مَخْرَجٍ حَسَنٍ وَقُرْآنٍ مَعَهَا، وَوَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَقَدْ حَرَّرْتُهُ فِي مُؤَلَّفَاتِي تَحْرِيرًا مُجَوَّدًا. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أَيْ: تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَبِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: قُمْ بَعْضَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيْكَ بَعْضَ اللَّيْلِ فَبِعِيدٌ جِدًّا، وَالتَّهَجُّدُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْهُجُودِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ لِأَنَّهُ يُقَالُ هَجَدَ الرَّجُلُ: إِذَا نَامَ، وَهَجَدَ إِذَا سَهِرَ، فَمِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي السَّهَرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا زَارَتْ وَأَهْلُ مِنًى هُجُودُ ... فَلَيْتَ خَيَالَهَا بِمِنًى يَعُودُ يَعْنِي مُنْتَبِهِينَ، ومن استعماله في النوم قول الآخر: أَلَا طَرَقَتْنَا وَالرِّفَاقُ هُجُودُ ... فَبَاتَتْ بِعِلَّاتِ «1» النَّوَالِ تَجُودُ يَعْنِي نِيَامًا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْهُجُودُ فِي الْأَصْلِ هُوَ النَّوْمُ بِاللَّيْلِ، وَلَكِنْ جَاءَ التَّفَعُّلُ فيه لأجل التجنب، ومنه تأثم تتحرّج أَيْ: تَجَنَّبَ الْإِثْمَ وَالْحَرَجَ، فَالْمُتَهَجِّدُ مَنْ تَجَنَّبَ الْهُجُودَ، فَقَامَ بِاللَّيْلِ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الْمُتَهَجِّدُ الْقَائِمُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ، هَكَذَا حَكَى عَنْهُ الْوَاحِدِيُّ، فَقَيَّدَ التَّهَجُّدَ بِالْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ فَقَالُوا: التَّهَجُّدُ بَعْدَ النَّوْمِ. قَالَ اللَّيْثُ: تَهَجَّدَ إِذَا اسْتَيْقَظَ لِلصَّلَاةِ نافِلَةً لَكَ مَعْنَى النَّافِلَةِ فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَصْلِ، فَالْمَعْنَى أنها للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَافِلَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَالْأَمْرُ بِالتَّهَجُّدِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبَ لَكِنَّ التَّصْرِيحَ بِكَوْنِهِ نَافِلَةً قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ لِلْأَمْرِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّافِلَةِ هُنَا أَنَّهَا فَرِيضَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ في حقه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَيَدْفَعُ ذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ النَّافِلَةِ وَقِيلَ: كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً فِي حَقِّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا عَلَيْهِ فَرِيضَةٌ، وَلِأُمَّتِهِ تَطَوُّعٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كَانَتْ زِيَادَةً لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَاصَّةً لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، لَا لِلْكَفَّارَاتِ، لِأَنَّهُ غُفِرَ لَهُ مِنْ ذَنْبِهِ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَلَيْسَ لَنَا بِنَافِلَةٍ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِنَا إِنَّمَا نَعْمَلُ لِكَفَّارَتِهَا، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كان خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ

_ (1) . أي ما يتعلّل به.

فَالْأَمْرُ لَهُ أَمْرٌ لِأُمَّتِهِ، فَهُوَ شَرْعٌ عَامٌّ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، وَالتَّصْرِيحُ بِكَوْنِهِ نَافِلَةً يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، فَالتَّهَجُّدُ مِنَ اللَّيْلِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَمَشْرُوعٌ لِكُلَّ مُكَلَّفٍ. ثُمَّ وَعَدَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى إِقَامَةِ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فَقَالَ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قَدْ ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ عَسَى مِنَ الْكَرِيمِ إِطْمَاعٌ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، وَانْتِصَابُ مَقَامًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَوْ بِتَضْمِينِ الْبَعْثِ مَعْنَى الْإِقَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ أَيْ: يَبْعَثَكَ ذَا مَقَامٍ مَحْمُودٍ وَمَعْنَى كَوْنِ الْمَقَامِ مَحْمُودًا أَنَّهُ يَحْمَدُهُ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ الْمَقَامُ الَّذِي يَقُومُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِلشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ لِيُرِيحَهُمْ رَبُّهُمْ سُبْحَانَهُ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَإِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ إِعْطَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِوَاءَ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهِ قَائِمًا مَقَامَ الشَّفَاعَةِ وَبِيَدِهِ لِوَاءُ الْحَمْدِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُجْلِسُ محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَعَهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ. وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَهُوَ عِنْدَنَا مُتَّهَمٌ، مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَتَحَدِّثُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مُجَاهِدٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ بِالتَّأْوِيلِ فَإِنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ مَهْجُورَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي فِي تَأْوِيلِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ- إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» قَالَ: مَعْنَاهُ تَنْتَظِرُ الثَّوَابَ، وَلَيْسَ مِنَ النَّظَرِ، انْتَهَى. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُنَافٍ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِإِمْكَانِ أَنْ يُقْعِدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَقْعَدَ وَيَشْفَعَ تِلْكَ الشَّفَاعَةَ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَقَامٍ يَجْلِبُ الْحَمْدَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَالْمُقْتَدُونَ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْوَارِدَةَ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ مُتَوَاتِرَةٌ، فَالْمَصِيرُ إِلَيْهَا مُتَعَيِّنٌ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ عُمُومٌ فِي اللَّفْظِ حَتَّى يُقَالَ: الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا يَجْلِبُ الْحَمْدَ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُعَبَّرُ عَنِ الْعَامِّ بِلَفْظِ الْمُطْلَقِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي ذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ هُنَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الشَّفَاعَةُ، وَهِيَ نَوْعٌ وَاحِدٌ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ يَعْنِي لَفْظَ الْمَقَامِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعُمُومِ الْبَدَلِيِّ وَالْعُمُومِ الشُّمُولِيِّ مَعْرُوفٌ، فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهِ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وقرأ الْجُمْهُورُ مُدْخَلَ صِدْقٍ ومُخْرَجَ صِدْقٍ بِضَمِّ الْمِيمَيْنِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ بِفَتْحِهِمَا، وَهُمَا مَصْدَرَانِ بِمَعْنَى الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ، وَالْإِضَافَةُ إِلَى الصِّدْقِ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ نَحْوَ حَاتِمُ الْجُودِ أَيْ: إِدْخَالًا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يُسَمَّى إِدْخَالًا، وَلَا يَرَى فِيهِ مَا يَكْرَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَإِضَافَتُهُمَا إِلَى الصِّدْقِ مَدْحٌ لَهُمَا، وَكُلُّ شَيْءٍ أَضَفْتَهُ إِلَى الصِّدْقِ فَهُوَ مَدْحٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، يُرِيدُ إِدْخَالَ الْمَدِينَةِ وَالْإِخْرَاجَ مِنْ مَكَّةَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَمِتْنِي إِمَاتَةَ صِدْقٍ وَابْعَثْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَبْعَثَ صِدْقٍ وَقِيلَ المعنى:

_ (1) . القيامة: 22- 23.

أَدْخِلْنِي فِيمَا أَمَرْتَنِي بِهِ، وَأَخْرِجْنِي مِمَّا نَهَيْتَنِي عَنْهُ وَقِيلَ: إِدْخَالُهُ مَوْضِعَ الْأَمْنِ وَإِخْرَاجُهُ مِنْ بَيْنِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِدْخَالُ عِزٍّ وَإِخْرَاجُ نَصْرٍ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَدْخِلْنِي في الأمر الذي أكرمتني به من النبوّة مدخل صدق، وأخرجني منه إذا أمتني مخرج صدق وقيل: أَدْخِلْنِي الْقَبْرَ عِنْدَ الْمَوْتِ مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْنِي مِنْهُ عِنْدَ الْبَعْثِ مُخْرَجَ صِدْقٍ وَقِيلَ: أَدْخِلْنِي حَيْثُمَا أَدْخَلْتَنِي بِالصِّدْقِ وَأَخْرِجْنِي بِالصِّدْقِ وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا تَتَنَاوَلُهُ مِنَ الْأُمُورِ فَهِيَ دُعَاءٌ، وَمَعْنَاهَا: رَبِّ أَصْلِحْ لِي وِرْدِي فِي كُلِّ الْأُمُورِ وَصَدْرِيِ عَنْهَا وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أَيْ: حُجَّةً ظَاهِرَةً قَاهِرَةً تَنْصُرُنِي بِهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَالَفَنِي، وَقِيلَ: اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ مُلْكًا وَعِزًّا قويّا، وكأنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَسَأَلَ سُلْطَانًا نَصِيرًا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ الْأَرْجَحُ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْحَقِّ مِنْ قَهْرٍ لِمَنْ عَادَاهُ وَنَاوَأَهُ، وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ «1» . وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ» أَيْ: لَيَمْنَعُ بِالسُّلْطَانِ عَنِ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْآثَامِ مَا لَا يَمْنَعُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الْأَكِيدِ وَالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، انْتَهَى. وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ الْمُرَادُ بِالْحَقِّ الْإِسْلَامُ، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: الْجِهَادُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ وَعَلَى مَا هُوَ حَقٌّ كَائِنًا مَا كَانَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ الشِّرْكُ وَقِيلَ: الشَّيْطَانُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كُلِّ مَا يُقَابِلُ الْحَقَّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ بَاطِلٍ وَبَاطِلٍ. وَمَعْنَى زَهَقَ: بَطَلَ وَاضْمَحَلَّ، وَمِنْهُ زُهُوقُ النَّفْسِ وَهُوَ بُطْلَانُهَا إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أَيْ: إِنَّ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ يَبْطُلُ وَلَا يَثْبُتُ، وَالْحَقُّ ثَابِتٌ دَائِمًا وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ نُنَزِّلُ بِالنُّونِ «2» . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ والتخفيف، ورواها المروزي عن حفص، ومن لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَقِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِاسْتِلْزَامِهِ أَنَّ بَعْضَهُ لَا شِفَاءَ فِيهِ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّ الْمُبَعَّضَ هُوَ إِنْزَالُهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ في معنى كونه شفاء على القولين الْأَوَّلُ: أَنَّهُ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ بِزَوَالِ الْجَهْلِ عَنْهَا وَذَهَابِ الرَّيْبِ وَكَشْفِ الْغِطَاءِ عَنِ الْأُمُورِ الدَّالَّةِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ الظَّاهِرَةِ بِالرُّقَى وَالتَّعَوُّذِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الشِّفَاءِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ بَابِ عُمُومِ الْمَجَازِ، أَوْ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلِمَا فِي تِلَاوَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِرَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَغْفِرَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى «3» . ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَ مَا فِيهِ لِمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمَضَرَّةِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أَيْ: وَلَا يَزِيدُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ أَوْ كُلُّ بَعْضٍ مِنْهُ الظَّالِمِينَ الذي وضعوا التكذيب موضع

_ (1) . الحديد: 25. (2) . (قوله بالنون) ، صوابه: بالنون والتشديد للزاي. (3) . فصلت: 44.

التَّصْدِيقِ، وَالشَّكَّ وَالِارْتِيَابَ مَوْضِعَ الْيَقِينِ وَالِاطْمِئْنَانِ إِلَّا خَساراً أَيْ: هَلَاكًا لِأَنَّ سَمَاعَ الْقُرْآنِ يَغِيظُهُمْ وَيَحْنِقُهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى زِيَادَةِ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ تَمَرُّدًا وَعِنَادًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُهْلَكُونَ وَقِيلَ: الْخَسَارُ: النَّقْصُ، كقوله: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «1» ثُمَّ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى فَتْحِ بَعْضِ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الطَّبَائِعِ الْمَذْمُومَةِ فَقَالَ: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَيْ: عَلَى هَذَا الْجِنْسِ بِالنِّعَمِ الَّتِي تُوجِبُ الشُّكْرَ كَالصِّحَّةِ وَالْغِنَى أَعْرَضَ عَنِ الشُّكْرِ لِلَّهِ وَالذِّكْرِ لَهُ وَنَأى بِجانِبِهِ النَّأْيُ: الْبُعْدُ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْإِعْرَاضِ، لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَرْضَ وَجْهِهِ، أَيْ: نَاحِيَتِهِ، وَالنَّأْيُ بِالْجَانِبِ أَنْ يَلْوِيَ عَنْهُ عِطْفَهُ وَيُوَلِّيَهُ ظَهْرَهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِعْرَاضِ هُنَا الْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلْوَى وَالْمِحْنَةِ بِهِ، وَيُرَادُ بِالنَّأْيِ بِجَانِبِهِ التَّكَبُّرُ وَالْبُعْدُ بِنَفْسِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ النِّعَمِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذكوان وأبو جعفر «ناء» مثل باغ بتأخير الهمزة على القلب، وقرأ حمزة «نئي» بِإِمَالَةِ الْفَتْحَتَيْنِ، وَوَافَقَهُ الْكِسَائِيُّ، وَأَمَالَ شُعْبَةُ وَالسُّوسِيُّ الْهَمْزَةَ فَقَطْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ كانَ يَؤُساً شَدِيدَ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ فَازَ بِالْمَطْلُوبِ الدُّنْيَوِيِّ، وَظَفِرَ بِالْمَقْصُودِ نَسِيَ الْمَعْبُودَ، وَإِنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْأَسَفُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْقُنُوطُ، وَكِلْتَا الْخَصْلَتَيْنِ قَبِيحَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَلَا يُنَافِي مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ «2» وَنَظَائِرَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ شَأْنُ بَعْضٍ آخَرَ مِنْهُمْ غَيْرِ الْبَعْضِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَقَدْ يَكُونُ مَعَ شِدَّةِ يَأْسِهِ وَكَثْرَةِ قُنُوطِهِ كَثِيرَ الدُّعَاءِ بِلِسَانِهِ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ الشَّاكِلَةُ قَالَ الْفَرَّاءُ: الطَّرِيقَةُ، وَقِيلَ: النَّاحِيَةُ، وَقِيلَ: الطَّبِيعَةُ، وَقِيلَ: الدِّينُ، وَقِيلَ: النِّيَّةُ، وَقِيلَ: الْجِبِلَّةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشَّكْلِ، يُقَالُ: لَسْتَ عَلَى شَكْلِي وَلَا عَلَى شَاكِلَتِي، وَالشَّكْلُ: هُوَ الْمِثْلُ وَالنَّظِيرُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَعْمَلُ عَلَى مَا يُشَاكِلُ أَخْلَاقَهُ الَّتِي أَلِفَهَا، وَهَذَا ذَمٌّ لِلْكَافِرِ وَمَدْحٌ لِلْمُؤْمِنِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لَكُمُ الْعَالِمُ بِمَا جُبِلْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الطَّبَائِعِ وَمَا تَبَايَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الطَّرَائِقِ، فَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي لَا يُعْرِضُ عِنْدَ النِّعْمَةِ وَلَا يَيْأَسُ عِنْدَ الْمِحْنَةِ، وَبَيْنَ الْكَافِرِ الَّذِي شَأْنُهُ الْبَطَرُ لِلنِّعَمِ وَالْقُنُوطُ عِنْدَ النِّقَمِ. ثُمَّ لَمَّا انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ الْإِنْسَانِ وَمَا جُبِلَ عَلَيْهِ، ذَكَرَ سُبْحَانَهُ سُؤَالَ السَّائِلِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الروح فقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرُّوحِ المسؤول عَنْهُ، فَقِيلَ: هُوَ الرُّوحُ الْمُدَبِّرُ لِلْبَدَنِ الَّذِي تَكُونُ بِهِ حَيَاتُهُ، وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الرُّوحُ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ الْإِنْسَانُ لَمْ يُخْبِرِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يُعْطِ عِلْمَهُ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ، فَقَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أَيْ: إنكم لا تعملونه، وقيل: الروح المسؤول عَنْهُ جِبْرِيلُ، وَقِيلَ: عِيسَى، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَظِيمُ الْخَلْقِ، وَقِيلَ: خَلْقٌ كَخَلْقِ بَنِي آدَمَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا فَائِدَةَ فِي إِيرَادِهِ، وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَانُ السَّائِلِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ أَهَمُّ وَأَقْدَمُ مِنْ مَعْرِفَةِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، ثم

_ (1) . التوبة: 125. (2) . فصلت: 51. [.....]

أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَى السَّائِلِينِ لَهُ عَنِ الرُّوحِ فَقَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي مِنْ بَيَانِيَّةٌ، وَالْأَمْرُ الشَّأْنُ، وَالْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ: هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يُعْلِمُ بِهَا عِبَادَهُ وَقِيلَ: مَعْنَى مِنْ أَمْرِ رَبِّي مِنْ وَحْيِهِ وَكَلَامِهِ لَا مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَزْجُرُ الْخَائِضِينَ فِي شَأْنِ الرُّوحِ الْمُتَكَلِّفِينَ لِبَيَانِ مَا هَيْئَتُهُ وَإِيضَاحِ حَقِيقَتِهِ أَبْلَغَ زَجْرٍ، وَيَرْدَعُهُمْ أَعْظَمَ رَدْعٍ، وَقَدْ أَطَالُوا الْمَقَالَ فِي هَذَا الْبَحْثِ بِمَا لَا يَتِمُّ لَهُ الْمَقَامُ، وَغَالِبُهُ بَلْ كُلُّهُ مِنَ الْفُضُولِ الَّذِي لَا يَأْتِي بِنَفْعٍ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا. وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الرُّوحِ بَلَغَتْ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ومائة قَوْلٍ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْفُضُولِ الْفَارِغِ وَالتَّعَبِ الْعَاطِلِ عَنِ النَّفْعِ، بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ، وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَنْبِيَاءَهُ، وَلَا أَذِنَ لَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ وَلَا الْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، فَضْلًا عَنْ أُمَمِهِمُ المقتدين بهم، فيا لله الْعَجَبَ حَيْثُ تَبْلُغُ أَقْوَالُ أَهْلِ الْفُضُولِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ وَلَا بَعْضَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا أَذِنَ اللَّهُ بِالْكَلَامِ فِيهِ، وَلَمْ يَسْتَأْثِرْ بِعِلْمِهِ. ثُمَّ خَتَمَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: أَنَّ عِلْمَكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ اللَّهُ، لَيْسَ إِلَّا الْمِقْدَارُ الْقَلِيلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ أُوتِيَ حَظًّا مِنَ الْعِلْمِ وَافِرًا، بَلْ عِلْمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَيْسَ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا كَمَا يَأْخُذُ الطَّائِرُ فِي مِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دُلُوكِ الشَّمْسِ غُرُوبِهَا، تَقُولُ الْعَرَبُ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ: دَلَكَتِ الشَّمْسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن عَلِيٍّ قَالَ: دُلُوكُهَا: غُرُوبُهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ لِزَوَالِ الشَّمْسِ، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «دُلْوُكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا» وَضَعَّفَ السُّيُوطِيُّ إِسْنَادَهُ. وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَنْ قَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ قَالَ: «دُلُوكُ الشَّمْسِ زِيَاغُهَا بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دُلُوكُهَا: زَوَالُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ قَالَ: إِذَا فَاءَ الْفَيْءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ لِدُلُوِكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ تَلَا أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مردويه من حديث أنس نحوه، مما يُسْتَشْهَدُ بِهِ عَلَى أَنَّ الدُّلُوكَ الزَّوَالُ وَسَطَ النَّهَارِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ دَعَوْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ يُطْعَمُونَ عِنْدِي، ثُمَّ خَرَجُوا حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اخْرُجْ يَا أَبَا بَكْرٍ فَهَذَا حِينَ دَلَكَتِ الشَّمْسُ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَلَكِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ سَهْلِ بْنِ بَكَّارٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنِ الأسود بن قيس عن نبيح العنزي عَنْ جَابِرٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عن

ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ قَالَ: إِلَى الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: غَسَقِ اللَّيْلِ اجْتِمَاعِ اللَّيْلِ وَظُلْمَتِهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: غَسَقِ اللَّيْلِ بُدُوِّ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ عَنْ بَطْنِ السَّمَاءِ، وَغَسَقُ اللَّيْلِ غُرُوبُ الشَّمْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ قَالَ: صَلَاةُ الصُّبْحِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً قَالَ: «تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ تَجْتَمِعُ فِيهَا» ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «تَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرَ» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً قَالَ: «تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: نافِلَةً لَكَ يَعْنِي خاصة للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، أُمِرَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَكُتُبَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَهُنَّ لَكَمَ سُنَّةٌ: الْوِتْرُ، وَالسِّوَاكُ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ أَبِي أُمَامَةَ فِي قَوْلِهِ: نافِلَةً لَكَ قَالَ: كانت للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَافِلَةً وَلَكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي لَفْظٍ: إِنَّمَا كَانَتِ النَّافِلَةُ خَاصَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وَسُئِلَ عَنْهُ، قَالَ: «هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي أَشْفَعُ فِيهِ لِأُمَّتِي» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ، وَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ كُلَّ أُمَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا، يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ يَوْمُ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا. وَأَخْرَجَ عَنْهُ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا، وَمَنْ رَامَ الِاسْتِيفَاءَ نَظَرَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي الْأُمَّهَاتِ «1» وَغَيْرِهَا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قَالَ: يُجْلِسُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِبْرِيلَ وَيَشْفَعُ لِأُمَّتِهِ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قَالَ: يُجْلِسُنِي مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ» وَيَنْبَغِي الْكَشْفُ عن إسناد هذين الحديثين.

_ (1) . الصواب أن يقول: الأمّات.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 إلى 93]

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْآيَةَ قَالَ: أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ مَكَّةَ مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَأَدْخَلَهُ الْمَدِينَةَ مُدْخَلَ صِدْقٍ. قَالَ: وَعَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَسَأَلَ سُلْطَانًا نَصِيرًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ وَلِإِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ عِزَّةٌ مِنَ اللَّهِ جَعَلَهَا بَيْنَ أَظْهُرِ عِبَادِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَكَلَ شَدِيدُهُمْ ضَعِيفَهُمْ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: وَاللَّهِ لَمَا يَزَعُ اللَّهُ بِالسُّلْطَانِ أَعْظَمُ مِمَّا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ نُصْبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَنَأى بِجانِبِهِ قَالَ: تَبَاعَدَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كانَ يَؤُساً قَالَ: قَنُوطًا، وَفِي قَوْلِهِ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ قَالَ: عَلَى نَاحِيَتِهِ. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: عَلى شاكِلَتِهِ عَلَى نِيَّتِهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِرَبِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا الرُّوحُ؟ فَمَا زَالَ مُتَّكِئًا عَلَى الْعَسِيبِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إليه، فقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلْيَهُودِ أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ هَذَا الرَّجُلَ، قَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قَالُوا: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا، أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً «2» . وفي الباب أحاديث وآثار.

_ (1) . سبأ: 49. (2) . الكهف: 109. [سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 93] وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)

لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا بَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَلِيلَ لَفَعَلَ، فَقَالَ: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَاللَّامُ هي الموطئة، ولنذهبن جَوَابُ الْقَسَمِ سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَوْ شِئْنَا لَمَحَوْنَاهُ مِنَ الْقُلُوبِ وَمِنَ الْكُتُبِ حَتَّى لَا يُوجَدَ لَهُ أَثَرٌ، انْتَهَى. وَعَبَّرَ عَنِ الْقُرْآنِ بِالْمَوْصُولِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ أَيْ: بِالْقُرْآنِ عَلَيْنا وَكِيلًا أَيْ: لَا تَجِدُ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْنَا فِي رَدِّ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ ذَهَبْنَا بِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَمَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يَرْحَمَكَ رَبُّكَ فَلَا نَذْهَبُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ منقطعا فمعناه لكن لا يشأ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، أَوْ لَكِنَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ تَرَكَتْهُ غَيْرَ مَذْهُوبٍ بِهِ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً حَيْثُ جَعَلَكَ رَسُولًا وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَصَيَّرَكَ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ، وَأَعْطَاكَ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ. ثُمَّ احْتَجَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ مِنْ كَمَالِ الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَجَزَالَةِ اللَّفْظِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أَظْهَرَ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِأَنْ يَقُولَ لَا يَأْتُونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ مُعَيَّنٌ، وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمُرَادَ نَفِيُ الْمِثْلِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ، وَهُوَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ، وَسَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، ثُمَّ أَوْضَحَ سُبْحَانَهُ عَجْزَهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَصَدِّي لَهَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ، أَوْ كَانَ الْمُتَصَدِّرُ بِهَا الْمَجْمُوعَ بِالْمُظَاهَرَةِ فَقَالَ: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أَيْ: عَوْنًا وَنَصِيرًا، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ردّ لِمَا قَالَهُ الْكُفَّارُ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا «1» وَإِكْذَابٌ لَهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْكُفَّارَ مَعَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعَدَمِ إِيمَانِهِمْ، فَقَالَ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أَيْ: رَدَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهِ بِكُلِّ مَثَلٍ يُوجِبُ الِاعْتِبَارَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَأَقَاصِيصِ الْأَوَّلِينَ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْقِيَامَةِ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً يَعْنِي مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ جَحَدُوا وَأَنْكَرُوا كَوْنَ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَاقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، وَأَظْهَرَ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ حَيْثُ قَالَ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ تَوْكِيدًا أَوْ تَوْضِيحًا، وَلَمَّا كَانَ أَبَى مُؤَوَّلًا بِالنَّفْيِ، أَيْ: مَا قَبِلَ أَوْ لَمْ يَرْضَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَّا كُفُوراً وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أَيْ: قَالَ رُؤَسَاءُ مَكَّةَ كَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابني ربيعة

_ (1) . الأنفال: 31.

وَأَبِي سُفْيَانَ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، ثُمَّ عَلَّقُوا نَفْيَ إِيمَانِهِمْ بِغَايَةٍ طَلَبُوهَا فَقَالُوا: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ «حَتَّى تَفْجُرَ» مُخَفَّفًا مِثْلَ تَقْتُلَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أَنَّهَا مُشَدَّدَةٌ، وَوَجَّهَ ذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ بِأَنَّ الْأُولَى بَعْدَهَا يَنْبُوعٌ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَالثَّانِيَةَ بَعْدَهَا الْأَنْهَارُ وَهِيَ جَمْعٌ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْيَنْبُوعَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فِي اللَّفْظِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، فَإِنَّ الْيَنْبُوعَ الْعُيُونُ الَّتِي لَا تَنْضُبُ. وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْيَنْبُوعَ عَيْنُ الْمَاءِ وَالْجَمْعُ الْيَنَابِيعُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْعَيْنِ يَنْبُوعٌ إِذَا كَانَتْ غَزِيرَةً مِنْ شَأْنِهَا النُّبُوعُ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، وَالْيَاءُ زَائِدَةٌ كَيَعْبُوبٍ مَنْ عَبَّ الْمَاءَ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ أَيْ: بُسْتَانٌ تَسْتُرُ أَشْجَارُهُ أَرْضَهُ. وَالْمَعْنَى: هَبْ أَنَّكَ لَا تُفَجِّرُ الْأَنْهَارَ لِأَجْلِنَا فَفَجِّرْهَا مِنْ أَجْلِكَ بِأَنْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أَيْ: تُجْرِيهَا بِقُوَّةٍ خِلالَها تَفْجِيراً أَيْ: وَسَطَهَا تَفْجِيرًا كَثِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً قَرَأَ مُجَاهِدٌ أَوْ تُسْقِطَ مُسْنَدًا إِلَى السَّمَاءِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُ أَوْ تُسْقِطَ عَلَى الْخِطَابِ، أَيْ: أَوْ تُسْقِطَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ السَّمَاءَ. وَالْكِسَفُ بِفَتْحِ السِّينِ جَمْعُ كِسْفَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ، وَالْكِسْفَةُ: الْقِطْعَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ كِسَفاً بِإِسْكَانِ السِّينِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: مَنْ قَرَأَ بِإِسْكَانِ السِّينِ جَعَلَهُ وَاحِدًا وَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِهَا جَعَلَهُ جَمْعًا. قَالَ الَمَهَدَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قِرَاءَةِ السُّكُونِ جَمْعَ كِسْفَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكِسْفَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَعْطِنِي كِسْفَةً مِنْ ثَوْبِكَ، وَالْجَمْعُ كِسَفٌ وَكُسُفٌ، وَيُقَالُ: الْكِسَفُ وَالْكِسْفَةُ وَاحِدٌ، وَانْتِصَابُ كِسَفًا عَلَى الْحَالِ، وَالْكَافُ فِي كَمَا زَعَمْتَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِسْقَاطًا مُمَاثِلًا لِمَا زَعَمْتَ، يَعْنُونَ بِذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ «1» . قَالَ أَبُو عَلِيِّ: الْكِسْفُ: بِالسُّكُونِ الشَّيْءُ الْمَقْطُوعُ، كَالطَّحْنِ لِلْمَطْحُونِ، وَاشْتِقَاقُهُ عَلَى مَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ مِنْ كَسَفْتُ الثَّوْبَ كِسَفًا إِذَا قَطَعْتَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنْ كَسَفْتُ الشَّيْءَ إِذَا غَطَّيْتَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوْ تُسْقِطَهَا طَبَقًا عَلَيْنَا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَبِيلًا فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: مُعَايَنَةً، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فَقَالَ: إِذَا حَمَلْتَهُ عَلَى الْمُعَايَنَةِ كَانَ الْقَبِيلُ مَصْدَرًا كَالنَّكِيرِ وَالنَّذِيرِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَفِيلًا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَقِيلَ: شَهِيدًا، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ الْقَبِيلَةِ، أَيْ: تَأْتِي بِأَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلَةً قَبِيلَةً، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ، وَقِيلَ: ضِمْنًا، وَقِيلَ: مُقَابِلًا كَالْعَشِيرِ وَالْمُعَاشِرِ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَيْ: مِنْ ذَهَبٍ، وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَصْلُهُ الزِّينَةُ، وَالْمُزَخْرَفُ: الْمُزَيَّنُ، وَزَخَارِفُ الْمَاءِ: طَرَائِقُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الزِّينَةُ، فَرَجَعَ إِلَى الأصل مَعْنَى الزُّخْرُفِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زِينَةٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أَيْ: تَصْعَدُ فِي مَعَارِجِهَا، يُقَالُ: رَقَيْتُ فِي السُّلَّمِ إِذَا صَعِدْتَ وَارْتَقَيْتَ مِثْلُهُ. وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أَيْ: لِأَجْلِ رُقِيِّكَ، وَهُوَ مَصْدَرٌ نَحْوَ مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا وَهَوَى يَهْوِي هَوِيًّا حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أَيْ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ كِتَابًا يصدقك ويدل على نبوّتك نقرؤه جميعا، أو يقرؤه

_ (1) . سبأ: 9.

كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: كِتَابًا مِنَ اللَّهِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا كَمَا فِي قَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً «1» فأمر سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُفِيدُ التَّعَجُّبَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَالتَّنْزِيهَ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَنِ اقْتِرَاحَاتِهِمُ الْقَبِيحَةِ فَقَالَ: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي أَيْ: تَنْزِيهًا لِلَّهِ عَنْ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ شَيْءٍ. وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَالشَّامِ «قَالَ سُبْحَانَ رَبِّي» يَعْنِي النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً مِنَ الْبَشَرِ لَا مَلَكًا حَتَّى أَصْعَدَ السَّمَاءَ رَسُولًا مَأْمُورًا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِبْلَاغِكُمْ، فَهَلْ سَمِعْتُمْ أَيُّهَا الْمُقْتَرِحُونَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّ بَشَرًا قَدَرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا؟ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنِّي أَطْلُبُ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى يُظْهِرَهَا عَلَى يَدَيَّ، فَالرَّسُولُ إِذَا أَتَى بِمُعْجِزَةٍ وَاحِدَةٍ كَفَاهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ بِهَا يَتَبَيَّنُ صِدْقُهُ، وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ، وَأَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ لَيْسَ لِي أَنْ أَتَحَكَّمَ عَلَى رَبِّي بِمَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ، وَلَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَلَوْ لَزِمَتْنِي الْإِجَابَةُ لِكُلِّ مُتَعَنِّتٍ لَاقْتَرَحَ كُلُّ مُعَانِدٍ فِي كُلِّ وَقْتِ اقْتِرَاحَاتٍ، وَطَلَبَ لِنَفْسِهِ إِظْهَارَ آيَاتٍ، فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَتَنَزَّهَ عَنْ تَعَنُّتَاتِهِمْ، وَتَقَدَّسَ عَنِ اقْتِرَاحَاتِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَيُرْفَعُ، قِيلَ: كَيْفَ يُرْفَعُ وَقَدْ أَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِنَا وَأَثْبَتْنَاهُ فِي الْمَصَاحِفِ؟ قَالَ: يُسْرَى عَلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُتْرَكُ مِنْهُ آيَةٌ فِي قَلْبٍ وَلَا مُصْحَفٍ إِلَّا رُفِعَتْ، فَتُصْبِحُونَ وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ قَرَأَ: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو نَحْوَهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محمود بن سيحان ونعيمان بن أحي «2» وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَسَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، فَقَالُوا: أَخْبِرْنَا يَا مُحَمَّدُ بِهَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ أَحَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّا لَا نَرَاهُ مُتَنَاسِقًا كَمَا تَنَاسَقُ التَّوْرَاةُ؟ فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ إنكم لتعرفونه أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالُوا: إِنَّا نَجِيئُكَ بِمِثْلِ مَا تَأْتِي بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ» الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَرَجُلًا مِنْ بَنِي عبد الدار وأبا البختري أخا بني أسيد والأسود ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَزَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ وَأُمِّيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَالْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ وَنُبَيْهًا وَمُنَبِّهًا ابْنَيِ الْحَجَّاجِ السَّهْمِيَّيْنِ اجْتَمَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ وَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ، وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ وَتَعَنَّتُوهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إِلَى قَوْلِهِ: بَشَراً رَسُولًا. وإسناده عند

_ (1) . المدثر: 52. (2) . كذا في الدر المنثور. وفي ابن جرير: عمر بن أضا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 إلى 100]

ابْنِ جَرِيرٍ هَكَذَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، قَدِمَ مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ، فَفِيهِ هَذَا الرَّجُلُ الْمَجْهُولُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يَنْبُوعاً قَالَ: عُيُونًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْيَنْبُوعُ هُوَ النَّهْرُ الَّذِي يَجْرِي مِنَ الْعَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ يَقُولُ: ضَيْعَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ كِسَفاً قَالَ: قِطَعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: قَبِيلًا قَالَ: عِيَانًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا: مِنْ زُخْرُفٍ قَالَ: مِنْ ذَهَبٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ مَا الزُّخْرُفُ؟ حَتَّى سَمِعْتُهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كِتاباً نَقْرَؤُهُ قَالَ: مِنْ رَبِّ العالمين إلى فلان بن فُلَانٍ. يُصْبِحُ عِنْدَ كُلِّ رَجُلٍ صَحِيفَةٌ عِنْدَ رأسه موضوعة يقرؤها. [سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 100] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى، قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ التَّعَرُّضُ لِإِيرَادِهَا وَرَدِّهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَقَالَ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا الْمُرَادُ النَّاسُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ، أَيْ: ما منعهم الإيمان بالقرآن والنبوّة محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِمَنَعَ وَمَعْنَى إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أَنَّهُ جَاءَهُمُ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ ظَرْفٌ لِمَنَعَ أَوْ يُؤْمِنُوا، أَيْ: مَا مَنَعَهُمْ وَقْتَ مَجِيءِ الْهُدَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَيْ: مَا مَنَعَهُمْ إِلَّا قَوْلُهُمْ، فَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ مَنَعَ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا لِلْإِنْكَارِ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ بَشَرًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ الشَّامِلَ لَهُمْ، وَهُوَ إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ، هُوَ الَّذِي مَنَعَهُمْ عَنِ

الْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ وَبِالرَّسُولِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَوْلِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مُجَرَّدُ قَوْلٍ قَالُوهُ بِأَفْوَاهِهِمْ، ثم أمر رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ هَذِهِ، فَقَالَ: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أَيْ: لَوْ وُجِدَ وَثَبَتَ أَنَّ فِي الْأَرْضِ بَدَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ الْبَشَرِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ عَلَى الْأَقْدَامِ كَمَا يَمْشِي الْإِنْسُ مُطَمْئِنِّينَ مُسْتَقِرِّينَ فِيهَا سَاكِنِينَ بِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مُطْمَئِنِّينَ: مُسْتَوْطِنِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ السُّكُونُ، فَالْمُرَادُ هَاهُنَا الْمَقَامُ وَالِاسْتِيطَانُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ سَكَنَ الْبَلَدَ فُلَانٌ إِذَا أَقَامَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا مُتَقَّلِبًا فِي حَاجَاتِهِ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا حَتَّى يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَفِيهِ إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الرُّسُلَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اعْتَبَرَ فِي تَنْزِيلِ الرَّسُولِ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: كَوْنُ سُكَّانِ الْأَرْضِ مَلَائِكَةً. وَالثَّانِي: كَوْنُهُمْ مَاشِينَ عَلَى الْأَقْدَامِ غَيْرَ قَادِرِينَ عَلَى الطَّيَرَانِ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، إِذْ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ لَطَارُوا إِلَيْهَا، وَسَمِعُوا مِنْ أَهْلِهَا مَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ وَسَمَاعُهُ، فَلَا يَكُونُ فِي بَعْثَةِ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ فَائِدَةٌ. وَانْتِصَابُ بشرا وملكا على أنهما مفعولان للفعلين، ورسولا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَصْفٌ لَهُمَا. وَجَوَّزَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ رَسُولًا فِيهِمَا وَقَوَّاهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْكَارَ يَتَوَجَّهُ إِلَى الرَّسُولِ الْمُتَّصِفِ بِالْبَشَرِيَّةِ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ، فَيَلْزَمُ بِحُكْمِ التَّقَابُلِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ كَذَلِكَ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ، فَقَالَ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ جِهَتِكَ كَفَى بِاللَّهِ وَحْدَهُ شَهِيدًا عَلَى إِبْلَاغِي إِلَيْكُمْ مَا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ أُمُورِ الرِّسَالَةِ، وَقَالَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَنَا، تَحْقِيقًا لِلْمُفَارَقَةِ الْكُلِّيَّةِ وَقِيلَ: إِنَّ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَى النَّبِيِّ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ عَلَى الصِّدْقِ، ثُمَّ عَلَّلَ كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ شَهِيدًا كَافِيًا بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أَيْ: عَالِمًا بِجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ مُحِيطًا بِظَوَاهِرِهَا وَبَوَاطِنِهَا بَصِيرًا بِمَا كَانَ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ مُسْتَنِدَانِ إِلَى مَشِيئَتِهِ فَقَالَ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ أَيْ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي إِلَى الْحَقِّ أَوْ إِلَى كُلِّ مَطْلُوبٍ وَمَنْ يُضْلِلْ أَيْ: يُرِدْ إِضْلَالَهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ يَعْنِي اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيَهْدُونَهُمْ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي أَضَلَّهُمُ اللَّهُ عَنْهُ أو إلى طريق النجاة، وقوله: فَهُوَ الْمُهْتَدِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَقَوْلُهُ: فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ إِمَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ هَذَا الْحَشْرُ عَلَى الْوُجُوهِ فِيهِ وَجْهَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسْرَاعِ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: قَدْ مَرَّ الْقَوْمُ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِذَا أَسْرَعُوا. الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُسْحَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ حَقِيقَةً كَمَا يُفْعَلُ فِي الدُّنْيَا بِمَنْ يُبَالَغُ فِي إِهَانَتِهِ وَتَعْذِيبِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «1» ، وَلِمَا صَحَّ فِي السُّنَّةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَمَحَلُّ عَلَى وُجُوهِهِمْ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ المفعول وعُمْياً مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ وَبُكْماً وَصُمًّا مَعْطُوفَانِ عَلَيْهِ، وَالْأَبْكَمُ: الَّذِي لَا يَنْطِقُ، وَالْأَصَمُّ: الَّذِي لَا يَسْمَعُ، وَهَذِهِ هَيْئَةٌ يُبْعَثُونَ عَلَيْهَا فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ، وَأَشْنَعِ مَنْظَرٍ، قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُمْ بَيْنَ عَمَى الْبَصَرِ وَعَدَمِ النُّطْقِ وَعَدَمِ السَّمْعِ مَعَ كَوْنِهِمْ مَسْحُوبِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، ثُمَّ مِنْ وراء ذلك

_ (1) . القمر: 48.

مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أَيْ: الْمَكَانُ الَّذِي يَأْوُونَ إِلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً أَيْ: كُلَّمَا سَكَنَ لَهَبُهَا، يُقَالُ: خَبَتِ النَّارُ تَخْبُو خَبْوًا: إِذَا خَمَدَتْ وَسَكَنَ لَهَبُهَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمَعْنَى زِدْناهُمْ سَعِيراً تَسَعُّرًا، وَهُوَ التَّلَهُّبُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ فِي خَبْوِ النَّارِ تَخْفِيفًا لِعَذَابِ أَهْلِهَا، فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ «1» ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِعَدَمِ التَّخْفِيفِ أَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ زَمَانٌ مَحْسُوسٌ بَيْنَ الْخَبْوِ وَالتَّسَعُّرِ وَقِيلَ: إِنَّهَا تَخْبُو مِنْ غَيْرِ تَخْفِيفٍ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ذلِكَ أَيْ: الْعَذَابُ جَزاؤُهُمْ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَاسْتَحَقُّوهُ عِنْدَهُ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِهَا فَلَمْ يُصَدِّقُوا بِالْآيَاتِ التَّنْزِيلِيَّةِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ جزاؤهم، وبأنهم كَفَرُوا خَبَرٌ آخَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُمْ مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ المبتدأ الأوّل وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تفسير الآية في هذه السورة، وخلقا في قوله: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ أَوْ حَالٌ، أَيْ: مَخْلُوقِينَ. فَجَاءَ سُبْحَانَهُ بِحُجَّةٍ تَدْفَعُهُمْ عَنِ الْإِنْكَارِ وَتَرُدُّهُمْ عَنِ الْجُحُودِ. فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أَيْ: مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ هَذَا، فَهُوَ عَلَى إِعَادَةِ مَا هُوَ أَدْوَنُ مِنْهُ أَقْدَرُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِفْنَائِهِمْ وَإِيجَادِ غَيْرِهِمْ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْخَلْقُ بِمَعْنَى الْإِعَادَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَجُمْلَةُ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ عطف على أو لم يَرَوْا، وَالْمَعْنَى: قَدْ عَلِمُوا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَنَّ من قدر على خلق السموات وَالْأَرْضِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ أَمْثَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَشَدِّ خَلْقًا مِنْهُنَّ كَمَا قَالَ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «2» . وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقِيَامَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: أو لم يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً أَيْ: أَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا جُحُودًا، وَفِيهِ وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ طَلَبُ إِجْرَاءِ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي أَرَاضِيهِمْ لِتَتَّسِعَ مَعَايِشُهُمْ، بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَا يَقْنَعُونَ، بَلْ يَبْقُونَ عَلَى بُخْلِهِمْ وَشُحِّهِمْ، فَقَالَ: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أَنْتُمْ مُرْتَفَعٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: لَوْ تَمْلِكُونَ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ مُبْدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ وَهُوَ الْوَاوُ، وَخَزَائِنُ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ: هِيَ خَزَائِنُ الْأَرْزَاقِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَهَمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوا خَزَائِنَ الْأَرْزَاقِ لَأَمْسَكُوا شُحًّا وَبُخْلًا، وَهُوَ خَشْيَةُ الْإِنْفَاقِ، أَيْ: خَشْيَةُ أَنْ يُنْفِقُوا فَيَفْتَقِرُوا، وَفِي حَذْفِ الْفِعْلِ الَّذِي ارْتَفَعَ بِهِ أَنْتُمْ، وَإِيرَادِ الْكَلَامِ فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالشُّحِّ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَنْفَقَ وَأَصْرَمَ وَأَعْدَمَ وَأَقْتَرَ بِمَعْنَى قَلَّ مَالُهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ قَلِّ الْمَالِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أَيْ: بَخِيلًا مُضَيِّقًا عَلَيْهِ. يُقَالُ: قَتَرَ عَلَى عِيَالِهِ يَقْتُرُ وَيُقَتِّرُ قَتْرًا وَقُتُورًا: ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أَيْ: قَلِيلَ الْمَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي وصفه بالشحّ، لأن الإنسان ليس

_ (1) . البقرة: 162. (2) . النازعات: 27.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 إلى 109]

بِقَلِيلِ الْمَالِ عَلَى الْعُمُومِ. بَلْ بَعْضُهُمْ كَثِيرُ الْمَالِ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ جَمِيعَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ قَلِيلُ الْمَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَزَائِنِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَدْ أَخْرَجَ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مُشَاةً، وَصِنْفٌ رُكْبَانًا، وَصِنْفٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ» ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ قَالَ: يَعْنِي أَنَّهُمْ وَقُودُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كُلَّما خَبَتْ قَالَ: سَكَنَتْ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلَّمَا أَحْرَقَتْهُمْ سَعَرَتْهُمْ حَطَبًا، فَإِذَا أَحْرَقَتْهُمْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ شَيْءٌ صَارَتْ جَمْرًا تَتَوَهَّجُ فَذَلِكَ خَبْوُهَا، فَإِذَا بُدِّلُوا خَلْقًا جَدِيدًا عَاوَدَتْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي قَالَ: الرِّزْقُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ قَالَ: إِذًا مَا أَطْعَمْتُمْ أَحَدًا شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ قَالَ: الْفَقْرُ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً قَالَ: بَخِيلًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ قَالَ: خَشْيَةَ الْفَاقَةِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً قال: بخيلا ممسكا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 109] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ أَيْ: عَلَامَاتٍ دَالَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ. قِيلَ: وَوَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الْمَذْكُورَةَ كَأَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِتِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، بَلْ أَقْوَى مِنْهَا، فَلَيْسَ عَدَمُ الِاسْتِجَابَةِ لِمَا طَلَبُوهُ مِنَ الْآيَاتِ إِلَّا لِعَدَمِ الْمَصْلَحَةِ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْآيَاتُ التِّسْعُ: هِيَ الطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالسِّنِينَ، وَنَقْصُ الثَّمَرَاتِ. وَجَعَلَ الْحَسَنُ مَكَانَ السِّنِينَ وَنَقْصِ الثَّمَرَاتِ: الْبَحْرَ وَالْجَبَلَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: هِيَ

الْخَمْسُ الَّتِي فِي الْأَعْرَافِ، وَالْبَحْرُ، وَالْعَصَا، وَالْحَجَرُ، وَالطَّمْسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ مُسْتَوْفًى، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عسال في تعداد هذه الآيات التسع. فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ نَهِيكٍ «فسئل» عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ: سَأَلَ مُوسَى فِرْعَوْنَ أَنْ يُخَلِّيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُطْلِقَ سَبِيلَهُمْ وَيُرْسِلَهُمْ مَعَهُ، وقرأ الآخرون فَسْئَلْ عَلَى الْأَمْرِ، أَيْ: سَلْهُمْ يَا مُحَمَّدُ حِينَ جاءَهُمْ مُوسَى، وَالسُّؤَالُ سُؤَالُ اسْتِشْهَادٍ لِمَزِيدِ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْإِيقَانِ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ إِذَا تَضَافَرَتْ كَانَ ذَلِكَ أقوى، والمسؤولون مُؤْمِنُو بَنِي إِسْرَائِيلَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وأصحابه فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً الْفَاءُ هِيَ الْفَصِيحَةُ، أَيْ فَأَظْهَرَ مُوسَى عِنْدَ فِرْعَوْنَ مَا آتَيْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَبَلَّغَهُ مَا أُرْسِلَ بِهِ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ. المسحور: الَّذِي سُحِرَ فَخُولِطَ عَقْلُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ بِمَعْنَى السَّاحِرِ، فَوُضِعَ الْمَفْعُولُ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ، فَ قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ يَعْنِي الْآيَاتِ الَّتِي أَظْهَرَهَا، وَأَنْزَلَ بِمَعْنَى أَوْجَدَ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ أَيْ: دَلَالَاتٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَانْتِصَابُ بَصَائِرَ عَلَى الْحَالِ. قَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ عَلِمْتَ عَلَى أَنَّهَا لِمُوسَى، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى الْخِطَابِ لِفِرْعَوْنَ. وَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَلِمَهُ مُوسَى. وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «1» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَأْخُوذُ بِهِ عِنْدَنَا فَتْحُ التَّاءِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِلْمَعْنَى، لِأَنَّ مُوسَى لَا يَقُولُ عَلِمْتُ أَنَا وَهُوَ الدَّاعِي، وَرُوِيَ نَحْوُ هذا عن الزجاج وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَالثُّبُورُ: الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ. قَالَ الْكُمَيْتُ: وَرَأَتْ قَضَاعَةُ فِي الْأَيَا ... مِنْ رَأْيٍ مَثْبُورٍ وَثَابِرِ أَيْ: مَخْسُورٍ وَخَاسِرٍ، وَقِيلَ: الْمَثْبُورُ: الْمَلْعُونُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : يَا قومنا لا تروموا حربنا سَفِهًا ... إِنَّ السَّفَاهَ وَإِنَّ الْبَغْيَ مَثْبُورُ أَيْ: ملعون، وقيل: الْمَثْبُورُ: نَاقِصُ الْعَقْلِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَمْنُوعُ مِنَ الْخَيْرِ، يُقَالُ: مَا ثَبَرَكَ عَنْ كَذَا مَا مَنَعَكَ مِنْهُ، حَكَاهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَقِيلَ: الْمَسْحُورُ فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أَيْ: أَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُوسَى وَيُزْعِجَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ بِإِبْعَادِهِمْ عَنْهَا، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَعَلَى هَذَا يُرَادُ بِالْأَرْضِ مُطْلَقُ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا مَعْنَى الِاسْتِفْزَازِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً فَوَقَعَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الْهَلَاكُ بِالْغَرَقِ، وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِغْرَاقِهِ وَمَنْ مَعَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ هُنَا: أَرْضُ مِصْرَ الَّتِي أَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنْهَا فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أَيْ: الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْقِيَامَةُ، أَوِ الْكَرَّةِ الْآخِرَةِ، أَوِ السَّاعَةِ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اللَّفِيفُ مَا اجْتَمَعَ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، يُقَالُ: جَاءَ الْقَوْمُ بِلَفِّهِمْ وَلَفِيفِهِمْ، أي: بأخلاطهم، فالمراد هنا

_ (1) . النمل: 14. (2) . هو: أبان بن تغلب.

جِئْنَا بِكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ مُخْتَلِطِينَ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ، قَدِ اخْتَلَطَ الْمُؤْمِنُ بِالْكَافِرِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: اللَّفِيفُ جَمْعٌ وَلَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِثْلُ الْجَمْعِ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَمَعْنَى بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أَوْحَيْنَاهُ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ وَمَعْنَى وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أَنَّهُ نَزَلَ وَفِيهِ الحق، وقيل: الباء في «وَبِالْحَقِّ» الْأَوَّلُ بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ: مَعَ الْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ، كَقَوْلِهِمْ: رَكِبَ الْأَمِيرُ بِسَيْفِهِ، أَيْ: مَعَ سَيْفِهِ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أَيْ: بِمُحَمَّدٍ كَمَا تَقُولُ نَزَلْتُ بِزَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْبَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى مَعَ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَبِالْحَقِّ قَدَّرْنَا أَنْ يَنْزِلَ وَكَذَلِكَ نَزَلَ، أَوْ مَا أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا مُحْفُوظًا، وَمَا نَزَلَ عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا مَحْفُوظًا من تخليط الشياطين، والتقديم في الموضعين للتخصص وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً أَيْ: مُبَشِّرًا لِمَنْ أَطَاعَ بِالْجَنَّةِ وَنَذِيرًا مُخَوِّفًا لِمَنْ عَصَى بِالنَّارِ وَقُرْآناً فَرَقْناهُ انْتِصَابُ قُرْآنًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، قَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالشَّعْبِيُّ فَرَقْناهُ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَا جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَرَقْنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: بَيَّنَّاهُ وَأَوْضَحْنَاهُ، وَفَرَقْنَا فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَرَقَهُ فِي التَّنْزِيلِ لِيَفْهَمَهُ النَّاسُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التَّخْفِيفُ أَعْجَبُ إِلَيَّ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ بَيَّنَّاهُ، وَلَيْسَ لِلتَّشْدِيدِ مَعْنًى إِلَّا أَنَّهُ نَزَلَ مُتَفَرِّقًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فَرَقْتُ مُخَفَّفًا بَيْنَ الْكَلَامِ، وَفَرَّقْتُ مُشَدَّدًا بَيْنَ الْأَجْسَامِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْعِلَّةَ لِقَوْلِهِ: فَرَقْنَاهُ، فَقَالَ: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أَيْ: عَلَى تَطَاوُلٍ فِي الْمُدَّةِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، أَوْ أَنْزَلْنَاهُ آيَةً آيَةً، وَسُورَةً سُورَةً. وَمَعْنَاهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مُكْثٍ، أَيْ: عَلَى تَرَسُّلٍ وَتَمَهُّلٍ فِي التِّلَاوَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الْفَهْمِ وَأَسْهَلُ لِلْحِفْظِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى ضَمِّ الْمِيمِ فِي مُكْثٍ إِلَّا ابْنَ مُحَيْصِنٍ فَإِنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنْزَلْنَاهُ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَلَوْ أَخَذُوا بِجَمِيعِ الْفَرَائِضِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَنَفَرُوا وَلَمْ يَطِيقُوا قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْكَافِرِينَ الْمُقْتَرِحِينَ لِلْآيَاتِ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا، فَسَوَاءٌ إِيمَانُكُمْ بِهِ وَامْتِنَاعُكُمْ عَنْهُ لَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ وَلَا يُنْقِصُهُ. وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَاحْتِقَارِهِمْ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أَيْ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ قَرَءُوا الْكُتُبَ السَّابِقَةَ قَبْلَ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَعَرَفُوا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ وَأَمَارَاتِ النبوّة كزيد ابن عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ أَيِ: الْقُرْآنُ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً أَيْ: يَسْقُطُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ سَاجِدِينَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْخُرُورَ، وَهُوَ السُّقُوطُ بِكَوْنِهِ لِلْأَذْقَانِ، أَيْ: عَلَيْهَا، لِأَنَّ الذَّقَنَ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ، أَوَّلُ مَا يُحَاذِي الْأَرْضَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ الذَّقَنَ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ، وَكَمَا يَبْتَدِئُ الْإِنْسَانُ بِالْخُرُورِ لِلسُّجُودِ، فَأَوَّلُ مَا يُحَاذِي الْأَرْضَ بِهِ مِنْ وَجْهِهِ الذَّقَنُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَعْفِيرُ اللِّحْيَةِ فِي التُّرَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَايَةُ الْخُضُوعِ، وَإِيثَارُ اللَّامِ فِي الْأَذْقَانِ عَلَى الدلالة عَلَى الِاخْتِصَاصِ، فَكَأَنَّهُمْ خَصُّوا أَذْقَانَهُمْ بِالْخُرُورِ، أَوْ خَصُّوا الْخُرُورَ بِأَذْقَانِهِمْ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِهِ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى الْقُرْآنِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَاصِلُهَا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الَّذِينَ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ وَلَا مَعْرِفَةَ بِكُتُبِ اللَّهِ وَلَا بِأَنْبِيَائِهِ، فَلَا تُبَالِ

بِذَلِكَ، فَقَدْ آمَنَ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَخَشَعُوا لَهُ وَخَضَعُوا عِنْدَ تِلَاوَتِهِ عَلَيْهِمْ خُضُوعًا ظَهَرَ أَثَرُهُ الْبَالِغُ بِكَوْنِهِمْ يَخِرُّونَ عَلَى أَذْقَانِهِمْ سُجَّدًا لِلَّهِ وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا أَيْ: يَقُولُونَ فِي سُجُودِهِمْ تَنْزِيهًا لِرَبِّنَا عَمَّا يَقُولُهُ الْجَاهِلُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ أَوْ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ خَلْفِ وَعْدِهِ إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا إِنْ هَذِهِ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ خَرُّوا لِأَذْقَانِهِمْ بَاكِينَ فَقَالَ: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَكَرَّرَ ذِكْرَ الْخُرُورِ لِلْأَذْقَانِ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَنْزِيهِهِ، وَالثَّانِي لِلْبُكَاءِ بِتَأْثِيرِ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ فِي قُلُوبِهِمْ وَمَزِيدِ خُشُوعِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: وَيَزِيدُهُمْ أَيْ: سَمَاعُ الْقُرْآنِ، أَوِ الْقُرْآنُ بِسَمَاعِهِمْ لَهُ خُشُوعاً أَيْ: لِينَ قَلْبٍ وَرُطُوبَةَ عَيْنٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تِسْعَ آياتٍ فَذَكَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: يَدُهُ، وَعَصَاهُ وَلِسَانُهُ، وَالْبَحْرُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ قَانِعٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ: «أَنَّ يَهُودِيَّيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ نَسْأَلْهُ، فَأَتَيَاهُ فَسَأَلَاهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَقَالَ: لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تُسْرِفُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى سُلْطَانٍ فَيَقْتُلْهُ، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَقْذِفُوا مُحَصَّنَةً. أَوْ قَالَ: لَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ- شَكَّ شُعْبَةُ- وَعَلَيْكُمْ يَا يَهُودُ خَاصَّةً أَنَّ لَا تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ، فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيُّ اللَّهِ، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تُسْلِمَا؟ قالا: إن داود دعا الله أن يزاد فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ أَسْلَمْنَا أَنْ يَقْتُلَنَا الْيَهُودُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي «ذَمِّ الْغَضَبِ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أنه سئل عن قوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قَالَ: مُخَالِفًا، وَقَالَ: الْأَنْبِيَاءُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ تَلْعَنَ أَوْ تَسُبَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَثْبُوراً قَالَ: مَلْعُونًا. وَأَخْرَجَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْأَلْقَابِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: قَلِيلُ الْعَقْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا لَفِيفًا قَالَ: جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ «وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ» مُثَقَلًا قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ رَمَضَانَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا أَحْدَثُوا شَيْئًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ جَوَابًا، فَفَرَّقَهُ اللَّهُ فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فَرَقْناهُ قَالَ: فَصَلْنَاهُ عَلَى مُكْثٍ بِأَمَدٍ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَقُولُ: لِلْوُجُوهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قال: كتابهم.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 إلى 111]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعَلِّمَ عِبَادَهُ كَيْفِيَّةَ الدُّعَاءِ وَالْخُشُوعِ فَقَالَ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي جَوَازِ الْإِطْلَاقِ وَحُسْنِ الدُّعَاءِ بِهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التَّنْوِينُ فِي «أيّا» عوض عن المضاف إليه، وما مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ الْإِبْهَامِ فِي أَيًّا، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُسَمَّى، وَكَانَ أَصْلُ الْكَلَامِ: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَهُوَ حَسَنٌ، فَوَضَعَ مَوْضِعَهُ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى لِلْمُبَالَغَةِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا إِذَا حَسُنَتْ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا حَسُنَ هَذَانِ الِاسْمَانِ، وَمَعْنَى حُسْنِ الْأَسْمَاءِ اسْتِقْلَالُهَا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا النَّيْسَابُورِيُّ وَتَبِعَهُ أَبُو السُّعُودِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ دُعَاءَهُمُ اللَّهَ وَدُعَاءَهُمُ الرَّحْمَنَ يَرْجِعَانِ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَبِهِ يَتَّضِحُ الْمُرَادُ مِنْهَا، ثُمَّ ذَكَرَ كَيْفِيَّةً أُخْرَى لِلدُّعَاءِ فَقَالَ: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها أَيْ: بِقِرَاءَةِ صَلَاتِكِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ مِنْ نُعُوتِ الصَّوْتِ، لَا مِنْ نُعُوتِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ، يُقَالُ: خَفَتَ صَوْتُهُ خُفُوتًا إِذَا انْقَطَعَ كَلَامُهُ وَضَعُفَ وَسَكَنَ، وَخَفَتَ الزَّرْعُ إِذَا ذَبُلَ، وَخَافَتَ الرَّجُلُ بِقِرَاءَتِهِ: إِذَا لَمْ يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ كُلِّهَا وَلَا تُخَافِتْ بِهَا كُلِّهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ أَيْ: الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهَا بِالْفِعْلَيْنِ سَبِيلًا أَيْ: طَرِيقًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَا تَكُنْ مَجْهُورَةً وَلَا مُخَافَتًا بِهَا، وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي يَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُخَافَتَةِ بِقِرَاءَةِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، وَالْأَمْرُ بِجَعْلِ الْبَعْضِ مِنْهَا مَجْهُورًا بِهِ، وَهُوَ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالْمُخَافَتَةُ بِصَلَاةِ النَّهَارِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً «1» وَلَمَّا أَمَرَ أَنْ لَا يُذْكَرَ وَلَا يُنَادَى إِلَّا بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى نَبَّهَ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْحَمْدِ لَهُ، فَقَالَ: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كَمَا تَقُولُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أَيْ: مُشَارِكٌ لَهُ فِي مُلْكِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ كَمَا تَزْعُمُهُ الثَّنَوِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ مِنَ الْفِرَقِ الْقَائِلِينَ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أَيْ: لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُوَالَاةِ أَحَدٍ لِذُلٍّ يَلْحَقُهُ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَنْتَصِرَ بِغَيْرِهِ، وَفِي التَّعَرُّضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَمْدِ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْحَمْدِ مَنْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ، لِأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِيجَادِ وَإِفَاضَةِ النِّعَمِ لِكَوْنِ الْوَلَدِ مَجْبَنَةً وَمَبْخَلَةً، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ الْأَبِ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَالْمُحْدَثُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى كَمَالِ الْإِنْعَامِ، وَالشَّرِكَةُ فِي الْمُلْكِ إِنَّمَا تُتَصَوَّرُ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِهِ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ عاجز، عَنْ تَمَامِ مَا هُوَ لَهُ، فَضْلًا عَنْ تمام مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا الشَّرِكَةُ مُوجِبَةٌ لِلتَّنَازُعِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، فَقَدْ يَمْنَعُهُ الشَّرِيكُ مِنْ إِفَاضَةِ الخير إلى أوليائه، ومؤدية

_ (1) . الأعراف: 55.

إِلَى الْفَسَادِ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» وَالْمُحْتَاجُ إِلَى وَلِيٍّ يَمْنَعُهُ مِنَ الذُّلِّ وَيَنْصُرُهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ إِذْلَالَهُ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أَيْ: عَظِّمْهُ تَعْظِيمًا وَصِفْهُ بِأَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: يَا أَللَّهُ يَا رَحْمَنُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ يَنْهَانَا أَنْ نَدْعُوَ إِلَهَيْنِ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَهَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ لَهُمْ كَاهِنٌ بِالْيَمَامَةِ يسمونه الرحمن، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَكْحُولٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَهَجَّدُ بِمَكَّةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ، فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ يَدْعُو اللَّيْلَةَ الرَّحْمَنَ الَّذِي بِالْيَمَنِ، وَكَانَ رَجُلٌ بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ رَحْمَنُ، فَنَزَلَتْ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ طَرِيقِ نَهْشَلِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهُ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا إِلَى آخَرِ الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ أَمَانٌ مِنَ السَّرَقِ» وَإِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَاهَا حَيْثُ أَخَذَ مَضْجَعَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَارِقٌ فَجَمَعَ مَا فِي الْبَيْتِ وَحَمَلَهُ، وَالرَّجُلُ لَيْسَ بِنَائِمٍ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَابِ فَوَجَدَ الْبَابَ مَرْدُودًا، فَوَضَعَ الْكَارَةَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَضَحِكَ صَاحِبُ الدَّارِ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي حَصَّنْتُ بَيْتِي. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ الْآيَةَ قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مُتَوَارٍ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أَيْ: بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ، فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ وَلا تُخافِتْ بِها عَنْ أَصْحَابِكَ، فَلَا تُسْمِعَهُمُ الْقُرْآنَ حَتَّى يَأْخُذُوهُ عَنْكَ وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا يَقُولُ: بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ بِمَكَّةَ فَيُؤْذَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ مُسَيْلَمَةُ الْكَذَّابُ قَدْ سُمِّيَ الرَّحْمَنَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى فَجَهَرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَذْكُرُ إِلَهَ الْيَمَامَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِذَا قَرَأَ خَفَضَ، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا قَرَأَ جَهَرَ، فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا أُنَاجِي رَبِّي، وَقَدْ عَرَفَ حَاجَتِي وَقِيلَ: لِعُمَرَ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: أَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَأُوقِظُ الْوَسْنَانَ، فَلَمَّا نَزَلَ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: ارْفَعْ شَيْئًا، وَقِيلَ لِعُمَرَ: اخْفِضْ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها

_ (1) . الأنبياء: 22. [.....]

فِي الدُّعَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ عَنْهَا قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي التَّشَهُّدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَنِيعٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَقَالَتِ الْعَرَبُ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا، هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَقَالَ الصَّابِئُونَ وَالْمَجُوسُ: لَوْلَا أَوْلِيَاءُ الله لذلّ، فأنزل الله هذه الآية: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ قَالَ: لَمْ يُحَالِفْ أَحَدًا وَلَمْ يَبْتَغِ نَصْرَ أَحَدٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «آيَةُ الْعِزِّ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الْآيَةَ كُلَّهَا» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَرَجْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُهُ فِي يَدِي، فَأَتَى عَلَيَّ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: أَيْ فُلَانُ مَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: السُّقْمُ وَالضُّرُّ، قَالَ: أَلَا أُعْلِمُكَ كَلِمَاتٍ تُذْهِبُ عَنْكَ السُّقْمَ وَالضُّرَّ؟ تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً إلى آخر الْآيَةِ، فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حسنت حاله فقال: ممّ؟ قَالَ: لَمْ أَزَلْ أَقُولُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي عَلَّمْتَنِي» . وَفِي لَفْظٍ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ ذَلِكَ أَبَا هُرَيْرَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي مَتْنِهِ نَكَارَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُ أَهْلَهُ هَذِهِ الْآيَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً إلى آخرها الصغير مِنْ أَهْلِهِ وَالْكَبِيرِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ الْغُلَامَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ إِذَا أَفْصَحَ سَبْعَ مَرَّاتٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً إِلَى آخَرِ السُّورَةِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي «عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ» مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.

سورة الكهف

سورة الكهف قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ. وَرُوِيَ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى قَوْلِهِ: جُرُزاً وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ انْتَهَى. وَمِنَ الْقَائِلِينَ إِنَّهَا مَكِّيَّةُ جَمِيعُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ عَنْهُ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مَنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: «قَرَأَ رَجُلٌ سُورَةَ الْكَهْفِ وَفِي الدَّارِ دَابَّةٌ، فَجَعَلَتْ تَنْفِرُ، فَنَظَرَ فَإِذَا ضَبَابَةٌ أَوْ سَحَابَةٌ قَدْ غَشِيَتْهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اقْرَأْ فُلَانٌ، فَإِنَّ السَّكِينَةَ نَزَلَتْ لِلْقُرْآنِ» وَهَذَا الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ كَمَا بَيَّنَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» وَفِي قِرَاءَةِ الْعَشْرِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ مِنْ آخِرِهَا أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْكَهْفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهُوَ مَعْصُومٌ إِلَى ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ تَكُونُ، فَإِنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ عُصِمَ مِنْهُ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَانَتْ لَهُ نُورًا مِنْ مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا ثُمَّ خَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يَضُرُّهُ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ» . وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي السُّنَنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَطَعَ لَهُ نُورٌ مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، يُضِيءُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَغُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِسُورَةٍ مَلَأَ عَظَمَتُهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلِكَاتِبِهَا مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَمَنْ قَرَأَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيَّنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَنْ قَرَأَ الْخَمْسَ الْأَوَاخِرَ مِنْهَا عِنْدَ نَوْمِهِ بَعَثَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ اللَّيْلِ شَاءَ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: سُورَةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيْتُ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْكَهْفِ لَا يَدْخُلُهُ شَيْطَانٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ، وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ كِفَايَةٌ مُغَنِيَةٌ.

[سورة الكهف (18) : الآيات 1 إلى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) عَلَّمَ عِبَادَهُ كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ عَلَى إِفَاضَةِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَوَصْفُهُ بِالْمَوْصُولِ يُشْعِرُ بِعِلِّيَّةِ مَا فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ لِمَا قَبْلَهُ، وَوَجْهُ كَوْنِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، نِعْمَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوْنُهُ اطَّلَعَ بِوَاسِطَتِهِ عَلَى أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ، وَأَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى كَيْفِيَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَعَبَّدَهُ اللَّهُ وَتَعَبَّدَ أُمَّتَهُ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْعِبَادُ كَانَ إِنْزَالُ الْكِتَابِ عَلَى نَبِيِّهِمْ نِعْمَةً لَهُمْ لِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي النَّبِيِّ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْعِوَجِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِلَالِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، والعوج بِالْكَسْرِ فِي الْمَعَانِي، وَبِالْفَتْحِ فِي الْأَعْيَانِ كَذَا قِيلَ: وَيَرِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً «1» يَعْنِي الْجِبَالَ، وَهِيَ مِنَ الْأَعْيَانِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا اخْتِلَافًا كَمَا قَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «2» . وَالْقَيِّمُ: الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا مَيْلَ فِيهِ، أَوِ الْقَيِّمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، أَوِ الْقَيِّمُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ تَأْكِيدًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ نَفْيُ الْعِوَجِ، فَرُبَّ مُسْتَقِيمٍ فِي الظَّاهِرِ لَا يَخْلُو عَنْ أَدْنَى عِوَجٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَانْتِصَابُ قَيِّمًا بِمُضْمَرٍ، أَيْ: جَعَلَهُ قَيِّمًا، وَمَنَعَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْكِتَابِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْزَلَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، فَجَاعِلُهُ حَالًا من الكتاب فاصل بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: هُمَا حَالَانِ مُتَوَالِيَانِ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ جُمْلَةٌ وَالثَّانِي مُفْرَدٌ، وَهَذَا صَوَابٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَمْ يَكُنْ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ بَلِ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَلَا فَصْلَ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ قَيِّماً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، ثُمَّ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُفَصِّلَ مَا أَجْمَلَهُ فِي قَوْلِهِ قَيِّمًا فَقَالَ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً وَحُذِفَ الْمُنْذَرُ لِلْعِلْمِ بِهِ مَعَ قَصْدِ التَّعْمِيمِ، وَالْمَعْنَى لِيُنْذِرَ الْكَافِرِينَ. وَالْبَأْسُ الْعَذَابُ، وَمَعْنَى مِنْ لَدُنْهُ صَادِرًا مِنْ لَدُنْهُ نَازِلًا مِنْ عِنْدِهِ. رَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ مِنْ لَدُنِهِ بِإِشْمَامِ الدَّالِ الضَّمَّةَ، وَبِكَسْرِ النُّونِ وَالْهَاءِ. وَهِيَ لُغَةُ الْكِلَابِيِّينَ. وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ فَتَحَ اللَّامَ وَضَمَّ الدَّالِ وَسُكُونَ النُّونِ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ قُرِئَ يُبَشِّرُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَأُجْرِيَ الْمَوْصُولُ على موصوفه الْمَذْكُورِ، لِأَنَّ مَدَارَ قَبُولِ الْأَعْمَالِ هُوَ الْإِيمَانُ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً

_ (1) . طه: 107. (2) . النساء: 82.

وَهُوَ الْجَنَّةُ حَالَ كَوْنِهِمْ ماكِثِينَ فِيهِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْأَجْرِ أَبَداً أَيْ: مُكْثًا دَائِمًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَتَقْدِيمُ الْإِنْذَارِ عَلَى التَّبْشِيرِ لِإِظْهَارِ كَمَالِ الْعِنَايَةِ بِزَجْرِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ كَرَّرَ الْإِنْذَارَ وَذَكَرَ الْمُنْذَرَ لِخُصُوصِهِ وَحَذَفَ الْمُنْذَرَ بِهِ، وَهُوَ الْبَأْسُ الشَّدِيدُ، لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فَقَالَ: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَبَعْضُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا قَضِيَّةً كُلِّيَّةً، وَهِيَ إِنْذَارُ عُمُومِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا قَضِيَّةً خَاصَّةً هِيَ بَعْضُ جُزْئِيَّاتِ تِلْكَ الْكُلِّيَّةِ، تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهَا أَعْظَمَ جُزْئِيَّاتِ تِلْكَ الْكُلِّيَّةِ. فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ نِسْبَةَ الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أَيْ: بِالْوَلَدِ، أَوِ اتِّخَاذِ اللَّهِ إياه، ومن مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْمَعْنَى: مَا لَهُمْ بِذَلِكَ عِلْمٌ أَصْلًا وَلا لِآبائِهِمْ عِلْمٌ، بَلْ كَانُوا فِي زَعْمِهِمْ هَذَا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَقَلَّدَهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ فَضَلُّوا جَمِيعًا كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ انْتِصَابُ كَلِمَةً عَلَى التَّمْيِيزِ، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَبُرَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَبُرَتْ مَقَالَتُهُمْ كَلِمَةً، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ هِيَ قَوْلُهُمْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. ثُمَّ وَصَفَ الْكَلِمَةَ بِقَوْلِهِ: تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَفَائِدَةُ هَذَا الْوَصْفِ اسْتِعْظَامُ اجْتِرَائِهِمْ عَلَى التَّفَوُّهِ بِهَا، وَالْخَارِجُ مِنَ الْفَمِ وَإِنْ كَانَ هُوَ مُجَرَّدَ الْهَوَى، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ كَيْفِيَّاتٍ قَائِمَةً بِالْهَوَى أَسْنَدَ إِلَى الْحَالِ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِ الْمَحَلِّ. ثُمَّ زَادَ فِي تَقْبِيحِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أَيْ: مَا يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا لَا مَجَالَ لِلصِّدْقِ فِيهِ بِحَالٍ، ثُمَّ سلّى رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: الْبَخْعُ: الْجُهْدُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: بَخَعْتُ الْأَرْضَ بِالزِّرَاعَةِ إِذَا جَعَلْتَهَا ضَعِيفَةً بِسَبَبِ مُتَابَعَةِ الْحِرَاثَةِ، وَبَخَعَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ إِذَا نَهَكَهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ مُهْلِكُ نَفْسَكَ، وَمِنْهُ قول ذي الرمّة: ألا أيّهذا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ «1» ............... ...... فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَعَلَّكَ مُجْهِدٌ نَفْسَكَ أَوْ مُضْعِفُهَا أَوْ مُهْلِكُهَا عَلى آثارِهِمْ عَلَى فِرَاقِهِمْ وَمِنْ بَعْدِ تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَيْ: الْقُرْآنِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. وَقُرِئَ بِفَتْحِ أَنْ: أَيْ لِأَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا أَسَفاً أَيْ غَيْظًا وَحُزْنًا وَهُوَ مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ. وَالْمَعْنَى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ زِينَةً لَهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتِ وَالْجَمَادِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «2» وَانْتِصَابُ زِينَةً عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَعَلَ، وَاللَّامُ فِي لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مُتَعَلِّقَةٌ بِجَعَلْنَا، وَهِيَ إِمَّا لِلْغَرَضِ أَوْ لِلْعَاقِبَةِ، وَالْمُرَادُ بِالِابْتِلَاءِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةً لَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةُ مِنْ غَيْرِهِ لَكَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيُّهُمْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ إِلَّا أَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: لِنَمْتَحِنَ أَهَذَا أَحْسَنُ عَمَلًا أَمْ ذَاكَ؟ قَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهُمْ أَزْهَدُ، وَقَالَ مقاتل: أيّهم أصلح

_ (1) . وعجزه: لشيء نحته عن يديك المقادر. (2) . البقرة: 29.

فيما أوتي من المال، ثُمَّ أَعْلَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مُبِيدٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ وَمُفْنِيهِ، فَقَالَ: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً أَيْ: لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا مِنْ هَذِهِ الزِّينَةِ عِنْدَ تَنَاهِي عُمْرِ الدُّنْيَا صَعِيدًا تُرَابًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّعِيدُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْجُرُزُ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نبات فيها، ومن قولهم: امرأة جرزا إذا كانت أكولا، وسيفا جرازا إِذَا كَانَ مُسْتَأْصِلًا، وَجَرُزَ الْجَرَادُ وَالشَّاةُ وَالْإِبِلُ الْأَرْضَ إِذَا أَكَلَتْ مَا عَلَيْهَا. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: طَوَى النَّحْزُ وَالْإِجْرَازُ مَا فِي بُطُونِهَا «1» ............... وَمَعْنَى النَّظَمِ: لَا تَحْزَنْ يَا مُحَمَّدُ مِمَّا وَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنَ التَّكْذِيبِ فَإِنَّا قَدْ جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لِاخْتِبَارِ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّا لَمُذْهِبُونَ ذَلِكَ عِنْدَ انْقِضَاءِ عُمْرِ الدُّنْيَا فَمُجَازُوهُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ الْآيَةَ قَالَ: أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَدْلًا قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً مُلْتَبِسًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَيِّماً قَالَ: مُسْتَقِيمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ مِنْ لَدُنْهُ أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ حَسَناً يَعْنِيَ الْجَنَّةَ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اجْتَمَعَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهْلٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُمِّيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وأبو البختري فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَبُرَ عَلَيْهِ مَا يَرَى مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ، وَإِنْكَارِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ النَّصِيحَةِ، فَأَحْزَنَهُ حُزْنًا شَدِيدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ باخِعٌ نَفْسَكَ يَقُولُ: قَاتِلٌ نَفْسَكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَسَفاً قَالَ: جَزَعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ أَسَفاً قَالَ: حُزْنًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها قَالَ: الرِّجَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِنْ قَوْلِهِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نَصْرٍ السَّجْزِيُّ فِي الْإِبَانَةِ، مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْعُلَمَاءُ زِينَةُ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُمُ الرِّجَالُ الْعُبَّادُ الْعُمَّالُ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَقُلْتُ: مَا مَعْنَى ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَقْلًا وَأَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَأَسْرَعُكُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ

_ (1) . وعجزه: فما بقيت إلا الضلوع الجراشع. «النحز» : الضرب والدفع. «الجراشع» : الغلاظ، واحدها جرشع.

[سورة الكهف (18) : الآيات 9 إلى 16]

ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لِيَخْتَبِرَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قَالَ: أَيُّهُمْ أَتَمُّ عَقْلًا. وَأَخْرَجَ عَنِ الْحَسَنِ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قَالَ: أَشَدُّهُمْ لِلدُّنْيَا تَرْكًا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: أَزْهَدُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً قَالَ: يُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ وَيُبِيدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الصَّعِيدُ: التُّرَابُ وَالْجِبَالُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يعني بالجرز الخراب. [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 16] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتَ «أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَبِبَلْ وَحْدَهَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَحَسِبْتَ، أَوْ: بَلْ حَسِبْتَ، وَمَعْنَاهَا الِانْتِقَالُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ آخَرَ، لَا لِإِبْطَالِ الْأَوَّلِ وَالْإِضْرَابِ عَنْهُ كَمَا هُوَ مَعْنَى بَلْ فِي الْأَصْلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا تَعَجَّبُوا مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَسَأَلُوا عَنْهَا الرَّسُولَ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: بَلْ أَظْنَنْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَجَبًا مِنْ آيَاتِنَا فَقَطْ؟ لَا تَحْسَبْ ذَلِكَ فَإِنَّ آيَاتِنَا كُلَّهَا عَجَبٌ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى جَعْلِ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِلِابْتِلَاءِ، ثُمَّ جَعْلِ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، لَا تَسْتَبْعِدْ قُدْرَتَهُ وَحِفْظَهُ وَرَحْمَتَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِصَّتُهُمْ خَارِقَةً لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ آيات الله سبحانه كذلك وفوق ذلك. وعَجَباً مُنْتَصِبَةٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، أَيْ ذَاتَ عَجَبٍ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ بِالْعَجَبِ مُبَالَغَةً، وَ «مِنْ آياتِنا» في محل نصب على الحال، وإِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ ظَرْفٌ لِحَسِبْتَ أَوْ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ اذْكُرْ، أَيْ: صَارُوا إِلَيْهِ وَجَعَلُوهُ مَأْوَاهُمْ، وَالْفِتْيَةُ هُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ، وَالْكَهْفُ: هُوَ الْغَارُ الْوَاسِعُ فِي الْجَبَلِ. فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا سُمِّيَ غَارًا، وَالرَّقِيمُ قَالَ كَعْبٌ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهُ اسْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَصْحَابُ الْكَهْفِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّهُ لَوْحٌ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ رَصَاصٍ رُقِمَتْ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ جُعِلَ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُرْوَى أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ رَقِيمًا لِأَنَّ أَسْمَاءَهُمْ كَانَتْ مَرْقُومَةً فِيهِ. وَالرَّقْمُ: الْكِتَابَةُ. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ فِي أُرْجُوزَةٍ له: ومستقرّ المصحف المرقّم وَقِيلَ: إِنَّ الرَّقِيمَ اسْمُ كَلْبِهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ الْوَادِي الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَقِيلَ: اسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي فِيهِ الْغَارُ.

قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ لَيْسَتْ بِعَجِيبَةٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أَعْجَبُ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي: من عندك، ومن ابتدائية متعلقة بآتنا، أو لمحذوف وَقَعَ حَالًا، وَالتَّنْوِينُ فِي رَحْمَةً إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَتَقْدِيمُ مِنْ لَدُنْكَ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ: رَحْمَةً مُخْتَصَّةً بِأَنَّهَا مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِكَ، وَهِيَ الْمَغْفِرَةُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأَمْنُ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَالرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أَيْ: أَصْلِحْ لَنَا، مِنْ قَوْلِكَ هَيَّأْتُ الْأَمْرَ فَتَهَيَّأَ، وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِمُ الْأَمْرُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وهو مفارقتهم للكفار، والرشد نقيض الضلال، ومن لِلِابْتِدَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّجْرِيدِ كَمَا فِي قَوْلِكَ رَأَيْتُ مِنْكَ رَشَدًا: وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمَا فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَمْنَاهُمْ. والمعنى: سددنا آذانهم بالنوم الغالب عن سَمَاعِ الْأَصْوَاتِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمِ الْحِجَابَ تَشْبِيهًا لِلْإِنَامَةِ الثَّقِيلَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُصُولِ الْأَصْوَاتِ إِلَى الْآذَانِ بِضَرْبِ الْحِجَابِ عَلَيْهَا، وفِي الْكَهْفِ ظَرْفٌ لِضَرَبْنَا، وَانْتِصَابُ سِنِينَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وعَدَداً صِفَةٌ لِسِنِينَ أَيْ: ذَوَاتَ عَدَدٍ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أَوْ بِمَعْنَى مَعْدُودَةً عَلَى أَنَّهُ لِمَعْنَى الْمَفْعُولُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ وَصْفِ السِّنِينَ بِالْعَدَدِ الْكَثْرَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الشَّيْءَ إِذَا قَلَّ فُهِمَ مِقْدَارُ عَدَدِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْعَدَدِ، وَإِنْ كَثُرَ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يُعَدَّ، وَقِيلَ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّقْلِيلُ لِأَنَّ الْكَثِيرَ قَلِيلٌ عِنْدَ اللَّهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «1» . ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أَيْ: أَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ تِلْكَ النَّوْمَةِ لِنَعْلَمَ أَيْ: لِيَظْهَرَ مَعْلُومُنَا، وَقُرِئَ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا للفاعل على طريقة الالتفات، وأَيُّ الْحِزْبَيْنِ مُبْتَدَأٌ مُعَلَّقٌ عَنْهُ الْعِلْمُ لِمَا فِي أَيُّ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ، وَخَبَرُهُ أَحْصى وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الَّذِي جُعِلَ عِلَّةً لِلْبَعْثِ هُوَ الِاخْتِبَارُ مَجَازًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى بَعَثْنَاهُمْ لِنُعَامِلَهُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَخْتَبِرُهُمْ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ظُهُورُ مَعْلُومِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحِزْبَيْنِ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ. وَمَعْنَى أَحْصَى: أَضْبَطَ. وَكَأَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْكَهْفِ، فَبَعَثَهُمُ اللَّهُ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَيَظْهَرَ مَنْ ضَبَطَ الحساب ممن لم يضبطه، وما فِي لِما لَبِثُوا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: أَحْصَى لِلُبْثِهِمْ، وقيل: اللام زائدة، وما: بمعنى الذي، وأَمَداً تَمْيِيزٌ، وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ، وَقِيلَ: إِنَّ أَحْصَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ، وَمَا وَرَدَ مِنَ الشَّاذِّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ: أَفْلَسُ مِنِ ابْنِ الْمُذَلَّقِ «2» ، وَأَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ مِنَ الْمَزِيدِ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَابْنِ عُصْفُورٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحِزْبَيْنِ هُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ اخْتَلَفُوا بَعْدَ انْتِبَاهِهِمْ كَمْ لَبِثُوا، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ حِزْبٌ وَأَصْحَابَهُمْ حِزْبٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ هَذَا شُرُوعٌ فِي تَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ أي: نحن نخبرك بِالْحَقِّ، أَيْ: قَصَصْنَاهُ بِالْحَقِّ، أَوْ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ أي: أحداث شبان، وآمَنُوا بِرَبِّهِمْ صِفَةٌ لِفِتْيَةٍ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ،

_ (1) . الحج: 47. (2) . ابن المذلق: من عبد شمس، لم يكن يجد بيت ليلة، ولا أبوه، ولا أجداده، فقيل: أفلس من ابن المذلّق.

والفتية جمع قلّة، وزِدْناهُمْ هُدىً بِالتَّثْبِيتِ وَالتَّوْفِيقِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَيْ: قَوَّيْنَاهَا بِالصَّبْرِ عَلَى هَجْرِ الْأَهْلِ وَالْأَوْطَانِ، وَفِرَاقِ الْخِلَّانِ وَالْأَخْدَانِ إِذْ قامُوا الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِرَبَطْنَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذَا الْقِيَامِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا وَرَاءَ الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ هُوَ أَكْبَرُ الْقَوْمِ: إِنِّي لَأَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا، إِنَّ رَبِّي رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَالُوا: وَنَحْنُ أَيْضًا كَذَلِكَ نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا، فَقَامُوا جَمِيعًا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ كَانَ لَهُمْ مَلِكٌ جَبَّارٌ يُقَالُ لَهُ دِقْيَانُوسُ، وَكَانَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ الطَّوَاغِيتِ، فَثَبَّتَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ وَعَصَمَهُمْ حَتَّى قَامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ: إِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عند قيامهم من النوم لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أَيْ: لَنْ نَعْبُدَ مَعْبُودًا آخَرَ غَيْرَ اللَّهِ لَا اشْتِرَاكًا وَلَا اسْتِقْلَالًا لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أَيْ: قَوْلًا ذَا شَطَطٍ، أَوْ قَوْلًا هُوَ نَفْسُ الشَّطَطِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ بِالْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ وَاللَّامُ هِيَ الْمُوطِئَةُ لِلْقَسَمِ، والشطط: الغلو ومجاوزة الحد. قال أعشى بني قَيْسٍ: أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفَتْلُ هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً هَؤُلَاءِ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ اتَّخَذُوا، وَقَوْمُنَا عَطْفُ بَيَانٍ، وَفِي هَذَا الْإِخْبَارِ مَعْنَى للإنكار، وَفِي الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ تَحْقِيرٌ لَهُمْ لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أَيْ: هَلَّا يَأْتُونَ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ تَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَزَعَمَ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا فِي الْعِبَادَةِ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ أَيْ: فَارَقْتُمُوهُمْ وَتَنَحَّيْتُمْ عَنْهُمْ جَانِبًا، أَيْ: عَنِ الْعَابِدِينَ لِلْأَصْنَامِ، وَقَوْلُهُ: وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، و «ما» موصولة أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَاعْتَزَلْتُمْ مَعْبُودَهُمْ أَوِ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا إِلَّا الأصنام، أو متّصل على تقدير أنهم أشركوها فِي الْعِبَادَةِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: هُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِهِ، أَيْ: إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمُ اعْتِزَالًا اعْتِقَادِيًا، فَاعْتَزِلُوهُمُ اعْتِزَالًا جُسْمَانِيًّا، وَإِذَا أَرَدْتُمُ اعْتِزَالَهُمْ فَافْعَلُوا ذَلِكَ بِالِالْتِجَاءِ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيْ: يَبْسُطْ وَيُوَسِّعْ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً أَيْ: يُسَهِّلْ وَيُيَسِّرْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ بِصَدَدِهِ مِرفَقاً الْمِرْفَقُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا، مَأْخُوذٌ مِنْ الِارْتِفَاقِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَقِيلَ: فَتْحُ الْمِيمِ أَقْيَسُ، وَكَسْرُهَا أَكْثَرُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ عَلَى كَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْأَمْرِ، وَمِنْ مِرْفَقِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ تَفْتَحُ الْعَرَبُ الْمِيمَ فِيهِمَا، فَهُمَا لُغَتَانِ، وَكَأَنَّ الَّذِينَ فَتَحُوا أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمِرْفَقِ مِنَ الْأَمْرِ، وَالْمِرْفَقِ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْكَسْرُ فِي مِرْفَقِ الْيَدِ، وَقِيلَ: الْمِرْفَقُ بِالْكَسْرِ مَا ارْتَفَقْتَ بِهِ، وَالْمَرْفَقُ: بِالْفَتْحِ الْأَمْرُ الرَّافِقُ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يَرْتَفِقُونَ بِهِ وَيَنْتَفِعُونَ بِحُصُولِهِ، وَالتَّقْدِيمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّقِيمُ: الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ قَالَ: الرَّقِيمُ: وَادٍ دُونَ فِلَسْطِينَ قَرِيبٌ مِنْ أَيْلَةَ. وَالرَّاوِيَانِ

[سورة الكهف (18) : الآيات 17 إلى 20]

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضَعِيفَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا الرَّقِيمُ الْكِتَابُ أَمْ بُنْيَانٌ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى قَالَ: وَسَأَلْتُ كَعْبًا فَقَالَ: اسْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: الرَّقِيمُ: الْكَلْبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً يَقُولُ: الَّذِي آتَيْتُكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ يَقُولُ: أَرْقَدْنَاهُمْ ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ مِنْ قَوْمِ الْفِتْيَةِ، أَهْلِ الْهُدَى، وَأَهْلِ الضَّلَالَةِ أَحْصى لِما لَبِثُوا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَتَبُوا الْيَوْمَ الَّذِي خَرَجُوا فِيهِ وَالشَّهْرَ وَالسَّنَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: وَزِدْناهُمْ هُدىً قَالَ: إِخْلَاصًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قَالَ: بِالْإِيمَانِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً قَالَ: كَذِبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: جَوْرًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ قَالَ: كَانَ قَوْمُ الْفِتْيَةِ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ آلِهَةً شَتَّى، فَاعْتَزَلَتِ الْفِتْيَةُ عِبَادَةَ تِلْكَ الْآلِهَةِ وَلَمْ تَعْتَزِلْ عِبَادَةَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الآي قَالَ: هِيَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَا يعبدون من دون الله، فهذا تفسيرها. [سورة الكهف (18) : الآيات 17 الى 20] وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) قَوْلُهُ: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ، بَعْدَ مَا أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ تَتَزاوَرُ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِحَذْفِ تَاءِ التَّفَاعُلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «تَزْوَرُّ» قَالَ الْأَخْفَشُ: لَا يُوضَعُ الْازْوِرَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِنَّمَا يُقَالُ هُوَ مُزْوَرٌّ عَنِّي، أَيْ: مُنْقَبِضٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَإِدْغَامِ تَاءِ التَّفَاعُلِ فِيهِ بَعْدَ تَسْكِينِهَا، وَتَزَاوَرَ مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّوَرِ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْمَيْلُ، وَمِنْهُ زَارَهُ إِذَا مَالَ إِلَيْهِ، وَالزَّوَرُ: الْمَيْلُ، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تميل وتتنحّى عَنْ كَهْفِهِمْ، قال الرّاجز الكليبي: جدب المندّى عَنْ هَوَانَا أَزْوَرُ أَيْ: مَائِلٌ ذاتَ الْيَمِينِ أَيْ: نَاحِيَةِ الْيَمِينِ، وَهِيَ الْجِهَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْيَمِينِ، وَانْتِصَابُ ذَاتَ عَلَى الظَّرْفِ،

وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ الْقَرْضُ: الْقَطْعُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: تَعْدِلُ عَنْهُمْ وَتَتْرُكُهُمْ، قَرَضْتُ الْمَكَانَ: عَدَلْتَ عَنْهُ، تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: هَلْ وَرَدْتَ مَكَانَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: إِنَّمَا قَرَضْتُهُ: إِذَا مَرَّ بِهِ وَتَجَاوَزَ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ مَالَتْ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ أَيْ: يَمِينِ الْكَهْفِ، وَإِذَا غَرَبَتْ تَمُرُّ ذاتَ الشِّمالِ أَيْ: شِمَالِ الْكَهْفِ لَا تُصِيبُهُ. بَلْ تَعْدِلُ عَنْ سِمَتِهِ إِلَى الْجِهَتَيْنِ، وَالْفَجْوَةُ: الْمَكَانُ الْمُتَّسِعُ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ فِي مَكَانٍ مُنْفَتِحٍ انْفِتَاحًا وَاسِعًا فِي ظِلِّ جَمِيعِ نَهَارِهِمْ، لَا تُصِيبُهُمُ الشَّمْسُ فِي طُلُوعِهَا وَلَا فِي غُرُوبِهَا لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَجَبَهَا عَنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَابَ ذَلِكَ الْكَهْفِ كَانَ مَفْتُوحًا إِلَى جَانِبِ الشِّمَالِ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ كَانَتْ عَنْ يَمِينِ الْكَهْفِ، وَإِذَا غَرَبَتْ كَانَتْ عَنْ يَسَارِهِ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ فَإِنَّ صَرْفَ الشَّمْسِ عَنْهُمْ مَعَ تَوَجُّهِ الْفَجْوَةِ إِلَى مَكَانٍ تَصِلُ إِلَيْهِ عَادَةً أَنْسَبُ بِمَعْنَى كَوْنِهَا آيَةً، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا إِطْلَاقُ الْفَجْوَةِ وَعَدَمُ تَقْيِيدِهَا بِكَوْنِهَا إِلَى جِهَةِ كَذَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَجْوَةَ الْمَكَانُ الْوَاسِعُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلْبَسْتَ قَوْمَكَ مَخْزَاةً وَمَنْقَصَةً ... حتى أبيحوا وحلّوا فجوة الدّار ثم أثنى سبحانه عليه بِقَوْلِهِ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ أَيْ: إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ الْمُهْتَدِ الَّذِي ظَفِرَ بِالْهُدَى، وَأَصَابَ الرُّشْدَ وَالْفَلَاحَ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً أَيْ: نَاصِرًا يَهْدِيهِ إِلَى الْحَقِّ كَدِقْيَانُوسَ وَأَصْحَابِهِ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ طَرَفًا آخَرَ مِنْ غَرَائِبِ أَحْوَالِهِمْ، فَقَالَ: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً جَمْعُ يَقِظٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا وَهُمْ رُقُودٌ أَيْ: نِيَامٌ، وَهُوَ جَمْعُ رَاقِدٍ، كَقُعُودٍ فِي قَاعِدٍ. قِيلَ: وَسَبَبُ هَذَا الْحُسْبَانِ أَنَّ عُيُونَهُمْ كَانَتْ مُفَتَّحَةً وَهُمْ نِيَامٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِكَثْرَةِ تَقَلُّبِهِمْ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أَيْ: نُقَلِّبُهُمْ فِي رَقْدَتِهِمْ إِلَى الْجِهَتَيْنِ لِئَلَّا تَأْكُلَ الْأَرْضُ أَجْسَادَهُمْ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَعْمَلُ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هَرَبُوا مِنْ مَلِكِهِمْ لَيْلًا، فَمَرُّوا براع معه كلب فتبعهم. والوصيد، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ فِنَاءُ الْبَابِ، وَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَقِيلَ: الْعَتَبَةُ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْكَهْفَ لَا يَكُونُ لَهُ عَتَبَةٌ وَلَا بَابٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْكَلْبَ مَوْضِعُ الْعَتَبَةَ مِنَ الْبَيْتِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً قَالَ الزَّجَّاجُ: فِرَارًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِمَعْنَى التَّوْلِيَةِ، وَالْفِرَارُ: الْهَرَبُ. وَلَمُلِئْتَ قُرِئَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِهَا مِنْهُمْ رُعْباً قُرِئَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا، أَيْ: خَوْفًا يَمْلَأُ الصَّدْرَ، وَانْتِصَابُ رُعْبًا عَلَى التَّمْيِيزِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَسَبَبُ الرُّعْبِ الْهَيْبَةُ الَّتِي أَلْبَسَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا وقيل: طول أظفارهم وشعور هم وَعِظَمُ أَجْرَامِهِمْ وَوَحْشَةُ مَكَانِهِمْ، وَيَدْفَعُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا مِنْ حَالِهِمْ شَيْئًا، وَلَا وَجَدُوا مِنْ أَظْفَارِهِمْ وَشُعُورِهِمْ مَا يدلّ على طول المدّة وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، أَيْ: وَكَمَا فَعَلْنَا بِهِمْ مَا فَعَلْنَا مِنَ الْكَرَامَاتِ بَعَثْنَاهُمْ مِنْ نَوْمِهِمْ، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِمَاتَةِ وَالْبَعْثِ جَمِيعًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَمْرَ الَّذِي لِأَجْلِهِ بعثهم فقال: لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أَيْ: لِيَقَعَ التَّسَاؤُلُ بَيْنَهُمْ وَالِاخْتِلَافُ وَالتَّنَازُعُ فِي مُدَّةِ اللُّبْثِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ من

انْكِشَافِ الْحَالِ وَظُهُورِ الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى عِلَّةِ التَّسَاؤُلِ لَا يَنْفِي غَيْرَهَا، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ لِاسْتِتْبَاعِهِ لِسَائِرِ الْآثَارِ، وَجُمْلَةُ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ التَّسَاؤُلِ، أَيْ: كَمْ مُدَّةُ لُبْثِكُمْ فِي النَّوْمِ؟ قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا فِي أَنْفُسِهِمْ غَيْرَ مَا يَعْهَدُونَهُ فِي الْعَادَةِ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ مَنْ سَأَلَ مِنْهُمْ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمْ دَخَلُوا الْكَهْفَ غُدْوَةً، وَبَعَثَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آخِرَ النَّهَارِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا يَوْمًا، فَلَمَّا رَأَوُا الشَّمْسَ قَالُوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنَ النَّهَارِ، وَقَدْ مَرَّ مِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ فِي قِصَّةِ عُزَيْرٍ فِي الْبَقَرَةِ: قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ، أَيْ: قَالَ الْبَعْضُ الْآخَرُ هَذَا الْقَوْلَ، إِمَّا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ إِلْهَامًا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: أَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ مُدَّةَ لُبْثِكُمْ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَعْرَضُوا عَنِ التَّحَاوُرِ فِي مُدَّةِ اللُّبْثِ، وَأَخَذُوا فِي شَيْءٍ آخَرَ، كَأَنَّهُ قَالَ الْقَائِلُ مِنْهُمْ: اتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ، وَخُذُوا فِي شَيْءٍ آخَرَ مِمَّا يُهِمُّكُمْ، وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْوَرِقُ الْفِضَّةُ مَضْرُوبَةٌ أَوْ غَيْرُ مَضْرُوبَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِسُكُونِهَا، وَقُرِئَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. وَفِي حَمْلِهِمْ لِهَذِهِ الْوَرِقِ مَعَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِمْسَاكَ بَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ، والمدينة دَقْسْوسُ، وَهِيَ مَدِينَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، وَيُقَالُ لَهَا الْيَوْمَ طَرَسُوسُ، كَذَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أَيْ: يَنْظُرْ أَيَّ أَهْلِهَا أَطْيَبَ طَعَامًا، وَأَحَلَّ مَكْسَبًا، أَوْ أَرْخَصَ سِعْرًا وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى الْأَطْعِمَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا فِي الْمَقَامِ، كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ طِبْتَ أَبًا عَلَى أَنَّ الْأَبَ هُوَ زَيْدٌ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى حِلِّ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانُوا كُفَّارًا، وَفِيهِمْ قَوْمٌ يُخْفُونَ إِيمَانَهُمْ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الطَّعَامَ يَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الطَّعَامِ وَلْيَتَلَطَّفْ أَيْ: يُدَقِّقِ النَّظَرَ حَتَّى لَا يُعْرَفَ أَوْ لَا يغبن، والأوّل أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أَيْ: لَا يَفْعَلَنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الشُّعُورِ وَيَتَسَبَّبُ لَهُ، فَهَذَا النَّهْيُ يَتَضَمَّنُ التَّأْكِيدَ لِلْأَمْرِ بِالتَّلَطُّفِ. ثُمَّ عَلَّلَ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أَيْ: يَطَّلِعُوا عَلَيْكُمْ وَيَعْلَمُوا بِمَكَانِكُمْ، يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَرْجُمُوكُمْ يَقْتُلُوكُمْ بِالرَّجْمِ، وَهَذِهِ الْقَتْلَةُ هِيَ أَخْبَثُ قَتْلَةٍ، وكان ذلك عَادَةً لَهُمْ، وَلِهَذَا خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ مَا يَقَعُ بِهِ الْقَتْلُ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أَيْ: يَرُدُّوكُمْ إِلَى مِلَّتِهِمُ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَهْدِيَكُمُ اللَّهُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْعَوْدِ هُنَا الصَّيْرُورَةُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى مِلَّتِهِمْ، وَإِيثَارُ كَلِمَةِ فِي عَلَى كَلِمَةِ إِلَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً فِي إِذًا مَعْنَى الشَّرْطِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ رَجَعْتُمْ إِلَى دِينِهِمْ فَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تَتَزاوَرُ قَالَ: تَمِيلُ، وَفِي قَوْلِهِ: تَقْرِضُهُمْ قَالَ: تَذَرُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: تَقْرِضُهُمْ قَالَ: تَتْرُكُهُمْ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ قَالَ: الْمَكَانُ الدَّاخِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: الْفَجْوَةُ: الْخَلْوَةُ مِنَ الْأَرْضِ، وَيَعْنِي بِالْخَلْوَةِ: النَّاحِيَةَ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ

[سورة الكهف (18) : الآيات 21 إلى 26]

وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُهُمْ الْآيَةَ قَالَ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ عَلَى ذِي الْجَنْبِ الْيَمِينِ، وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ عَلَى ذِي الْجَنْبِ الشِّمَالِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَيْ لَا تَأْكُلَ الْأَرْضُ لُحُومَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ اسْمَ كَلْبِهِمْ قطمور. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: اسْمُهُ قِطْمِيرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِالْوَصِيدِ قَالَ: بِالْفِنَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: بِالْبَابِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَزْكى طَعاماً قَالَ: أَحَلُّ ذَبِيحَةً، وَكَانُوا يَذْبَحُونَ لِلطَّوَاغِيتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَزْكى طَعاماً: يَعْنِي أَطْهَرَ لأنهم كانوا يذبحون للطّواغيت. [سورة الكهف (18) : الآيات 21 الى 26] وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أَيْ: وَكَمَا أَنَمْنَاهُمْ وَبَعَثْنَاهُمْ، أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ أَيْ أَطْلَعْنَا النَّاسَ عَلَيْهِمْ، وَسَمَّى الْإِعْلَامَ إِعْثَارًا لِأَنَّ مَنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ شَيْءٍ فَعَثَرَ بِهِ نَظَرَ إِلَيْهِ وَعَرَفَهُ، فَكَانَ الْإِعْثَارُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ: لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أَعْثَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنَّ وَعَدَ اللَّهِ بِالْبَعْثِ حَقٌّ. قِيلَ: وَكَانَ مَلِكُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، فَأَرَاهُ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. قِيلَ: وَسَبَبُ الْإِعْثَارِ عَلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي بَعَثُوهُ بِالْوَرِقِ، وَكَانَتْ مِنْ ضَرْبَةِ «1» دِقْيَانُوسَ، إِلَى السُّوقِ، لَمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ السُّوقِ اتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ وَجَدَ كَنْزًا، فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ وَجَدْتَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ؟ قَالَ: بِعْتُ بِهَا أَمْسَ شَيْئًا مِنَ التَّمْرِ، فَعَرَفَ الْمَلِكُ صِدْقَهُ، ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَرَكِبَ الْمَلِكُ وَرَكِبَ أَصْحَابُهُ مَعَهُ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الْكَهْفِ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها أَيْ: وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْقِيَامَةَ لَا شَكَّ فِي حُصُولِهَا، فَإِنَّ مَنْ شَاهَدَ حَالَ أَهْلِ الْكَهْفِ عَلِمَ صِحَّةَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْثَرْنَا، أَيْ: أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ وَقْتَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَعْثَرَهُمُ اللَّهُ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ وَقِيلَ: فِي أَمْرِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فِي

_ (1) . ضرب الدرهم: سكّه وطبعه.

قَدْرِ مُكْثِهِمْ، وَفِي عَدَدِهِمْ، وَفِيمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَ أَنِ اطَّلَعُوا عَلَيْهِمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا وَقَفُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ أَمَاتَ اللَّهُ الْفِتْيَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا يَسْتُرُهُمْ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ حَاكِيًا لِقَوْلِ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهِمْ وَفِي عَدَدِهِمْ، وَفِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ، وَفِي نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهِمْ، قَالُوا ذَلِكَ تَفْوِيضًا لِلْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، رَدًّا لِقَوْلِ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهِمْ أَيْ: دَعُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ التَّنَازُعِ، فَإِنِّي أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْكُمْ وَقِيلَ: إِنَّ الظَّرْفَ فِي إِذْ يَتَنازَعُونَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ اذْكُرْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْإِعْثَارَ لَيْسَ فِي زَمَنِ التَّنَازُعِ بَلْ قَبْلَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مَا زَالُوا مُتَنَازِعِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، مُنْذُ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ إِلَى وَقْتِ الْإِعْثَارِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ خَبَرَهُمْ كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ الغار، كتبه بعض المعاصرون لَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُخْفُونَ إِيمَانَهُمْ كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ذِكْرُ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ يُشْعِرُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ هُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ السُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ مِنَ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى أَمْرِ مَنْ عَدَاهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهُمْ غَلَبَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلْمُؤْمِنِينَ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُمْ ثَلَاثَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ سَبْعَةٌ، هُمُ الْمُتَنَازِعُونَ فِي عَدَدِهِمْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا قَالُوا جَمِيعَ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِكَذَا، وَبَعْضُهُمْ بِكَذَا، وَبَعْضُهُمْ بِكَذَا ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ أَيْ: هُمْ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ، وَجُمْلَةُ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ كَلْبِهِمْ جَاعِلَهُمْ أَرْبَعَةً بِانْضِمَامِهِ إِلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَا قَبْلَهُ، وَانْتِصَابُ رَجْماً بِالْغَيْبِ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: رَاجِمِينَ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: يَرْجُمُونَ رَجْمًا، وَالرَّجْمُ بِالْغَيْبِ: هُوَ الْقَوْلُ بِالظَّنِّ وَالْحَدْسِ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ، وَالْمَوْصُوفُونَ بِالرَّجْمِ بِالْغَيْبِ هُمْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ الْقَائِلَيْنِ بِأَنَّهُمْ ثَلَاثَةٌ، وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّهُمْ خَمْسَةٌ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ كَأَنَّ قَوْلَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ بِدَلَالَةِ عَدَمِ إِدْخَالِهِمْ فِي سِلْكِ الرَّاجِمِينَ بِالْغَيْبِ. قِيلَ: وَإِظْهَارُ الْوَاوِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُرَادَةٌ فِي الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَوْلُهُ: رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَسَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، جُمْلَتَانِ اسْتُغْنِيَ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ فِيهِمَا بِمَا تَضَمَّنَتَا مِنْ ذِكْرِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ ثَلَاثَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ ثَلَاثَةٌ، هَكَذَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ فِي دُخُولِ الْوَاوِ فِي وَثَامِنُهُمْ وَإِخْرَاجِهَا مِنَ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: هِيَ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا وَاوُ الثَّمَانِيَةِ، وَإِنَّ ذِكْرَهُ مُتَدَاوَلٌ عَلَى أَلْسُنِ الْعَرَبِ إِذَا وَصَلُوا إِلَى الثَّمَانِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وقوله: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي عَدَدِهِمْ بِمَا يَقْطَعُ التَّنَازُعَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُخْتَلِفُونَ، ثُمَّ أَثْبَتَ عِلْمَ ذَلِكَ لِقَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: مَا يَعْلَمُهُمْ أَيْ: يَعْلَمُ ذَوَاتِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَدَدِهِمْ، أَوْ مَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجِدَالِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَقَالَ: فَلا تُمارِ

فِيهِمْ الْمِرَاءُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَالُ: يُقَالُ مَارَى يُمَارِي مُمَارَاةً وَمِرَاءً، أَيْ: جَادَلَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ مِنَ الْمِرَاءِ مَا كَانَ ظَاهِرًا وَاضِحًا فَقَالَ: إِلَّا مِراءً ظاهِراً أَيْ: غَيْرَ مُتَعَمَّقٍ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَقُصَّ عَلَيْهِمْ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَحَسْبُ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: هُوَ أَنْ لَا يُكَذِّبَهُمْ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، بَلْ يَقُولُ هَذَا التَّعْيِينُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ، ثُمَّ نَهَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الِاسْتِفْتَاءِ فِي شَأْنِهِمْ فَقَالَ: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً أَيْ: لَا تَسْتَفْتِ فِي شَأْنِهِمْ مِنَ الْخَائِضِينَ فِيهِمْ أَحْدًا مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْمُفْتِيَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنَ الْمُسْتَفْتِي، وَهَاهُنَا الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَلَا سِيَّمَا فِي وَاقِعَةِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَفِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ مَا يُغْنِيكَ عَنْ سُؤَالِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً أَيْ: لِأَجْلِ شَيْءٍ تَعْزِمُ عَلَيْهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْغَدِ، وَلَمْ يُرِدِ الْغَدَ بِعَيْنِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْغَدُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَمَّا سَأَلَتِ الْيَهُودُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ خَبَرِ الْفِتْيَةِ فَقَالَ: أُخْبِرُكُمْ غَدًا، وَلَمْ يَقِلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَاحْتَبَسَ الْوَحْيُ عَنْهُ حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَأْمُرُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ يَقُولُ: إِذَا قُلْتَ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، فَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: لَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَضْمَرَ الْقَوْلَ وَلَمَّا حَذَفَ تَقُولُ نَقْلَ شَاءَ إِلَى لَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ، قِيلَ: وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، أَيْ: لَا تَقُولَنَّ ذَلِكَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، إِلَّا حَالَ مُلَابَسَتِهِ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَهُوَ أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَّا وَقْتَ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقُولَهُ مُطْلَقًا وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ جَارٍ مَجْرَى التَّأْبِيدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَقُولَنَّهُ أَبَدًا كَقَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1» لِأَنَّ عَوْدَهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ مِمَّا لَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَيْ: فَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ إِلْحَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ فِي مَوَاضِعِهَا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَاذْكُرْ رَبَّكَ بالاستغفار إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ مِنْ هَذَا هُوَ نَبَأُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ عَسَى أَنْ يُوَفِّقَنِي رَبِّي لِشَيْءٍ أَقْرَبَ مِنْ هَذَا النَّبَأِ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِي. قَالَ الزَّجَّاجُ: عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات عَلَى النُّبُوَّةِ مَا يَكُونُ أَقْرَبَ فِي الرَّشَدِ، وَأَدَلَّ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ حَيْثُ آتَاهُ مِنْ عِلْمِ غُيُوبِ الْمُرْسَلِينَ وَخَبَرِهِمْ مَا كَانَ أَوْضَحَ فِي الْحُجَّةِ، وَأَقْرَبَ إِلَى الرَّشَدِ مَنْ خَبَرِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ أَيْ: عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي عِنْدَ هَذَا النِّسْيَانِ لِشَيْءٍ آخَرَ بَدَلَ هَذَا الْمَنْسِيِّ، وَأَقْرَبَ مِنْهُ رَشَدًا وَأَدْنَى مِنْهُ خَيْرًا وَمَنْفَعَةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ مِائَةٍ وَنَصْبِ سِنِينَ، فَيَكُونُ سِنِينَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ وَالْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، والتقدير سنين ثلاثمائة. وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِإِضَافَةِ مِائَةٍ إِلَى سِنِينَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ سِنِينَ تَمْيِيزًا عَلَى وَضْعِ الْجَمْعِ مَوْضِعَ الْوَاحِدِ فِي التَّمْيِيزِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا «2» . قال الفراء: ومن العرب من يضع

_ (1) . الأعراف: 89. (2) . الكهف: 103.

سِنِينَ مَوْضِعَ سَنَةٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هَذِهِ الْأَعْدَادُ الَّتِي تُضَافُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى الآحاد نحو ثلاثمائة رَجُلٍ وَثَوْبٍ قَدْ تُضَافُ إِلَى الْمَجْمُوعِ، وَفِي مصحف عبد الله «ثلاثمائة سَنَةٍ» . وَقَالَ الْأَخْفَشُ: لَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَقُولُ مائة سنين. وقرأ الضحّاك «ثلاثمائة سُنُونَ» بِالْوَاوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «تِسْعًا» بِكَسْرِ التَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِهَا، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اخْتَلَفُوا فِيمَا مَضَى لَهُمْ مِنَ الْمُدَّةِ بَعْدَ الْإِعْثَارِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ لَبِثُوا ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ هَذِهِ الْمُدَّةَ فِي كَوْنِهِمْ نِيَامًا، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر، فأمر اللَّهُ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَقَوْلُهُ عَلَى هَذَا لَبِثُوا الْأَوَّلُ يُرِيدُ فِي يَوْمِ الْكَهْفِ، وَلَبِثُوا الثَّانِي يُرِيدُ بَعْدَ الْإِعْثَارِ عَلَيْهِمْ إِلَى مُدَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَوْ إِلَى أَنْ مَاتُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَازْدَادُوا تِسْعاً لَمْ يَدْرِ النَّاسُ أَهْيَ سَاعَاتٌ أَمْ أَيَّامٌ أَمْ جُمَعٌ أَمْ شُهُورٌ أَمْ أَعْوَامٌ، وَاخْتَلَفَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِرَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ فِي التِّسْعِ، فَهِيَ عَلَى هَذَا مُبْهَمَةٌ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَفْهُومِ بِحَسَبِ لُغَتِهِمْ أَنَّ التِّسْعَ أَعْوَامٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ العدد في هذه الْكَلَامِ لِلسِّنِينَ لَا لِلشُّهُورِ وَلَا لِلْأَيَّامِ وَلَا لِلسَّاعَاتِ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَتِسْعُ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الزَّجَّاجِ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيبِ. ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ اخْتِصَاصَهُ بِعِلْمِ مَا لَبِثُوا بِقَوْلِهِ: لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: مَا خَفِيَ فِيهِمَا وَغَابَ مِنْ أَحْوَالِهِمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، ثُمَّ زَادَ فِي الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ فَجَاءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ إِدْرَاكِهِ لِلْمُبْصَرَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ، فَقَالَ: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ فَأَفَادَ هَذَا التَّعَجُّبُ عَلَى أَنَّ شَأْنَهُ سُبْحَانَهُ فِي عِلْمِهِ بِالْمُبْصَرَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ خَارِجٌ عَمَّا عَلَيْهِ إِدْرَاكُ الْمُدْرِكِينَ، وَأَنَّهُ يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ الْغَائِبُ وَالْحَاضِرُ، وَالْخَفِيُّ وَالظَّاهِرُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَاللَّطِيفُ وَالْكَثِيفُ، وَكَأَنَّ أَصْلَهُ مَا أَبْصَرَهُ وَمَا أَسْمَعَهُ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ لِلْإِنْشَاءِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَخَالَفَهُ الْأَخْفَشُ، وَالْبَحْثُ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ الضمير لأهل السموات وَالْأَرْضِ، وَقِيلَ: لِأَهْلِ الْكَهْفِ، وَقِيلَ: لِمُعَاصِرِي مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ، أَيْ: مَا لَهُمْ مِنْ مُوَالٍ يُوَالِيهِمْ أَوْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ أَوْ يَنْصُرُهُمْ، وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِغَايَةِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّ الْكُلَّ تَحْتَ قَهْرِهِ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً قرأ الجمهور برفع الكاف في يشرك عَلَى الْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم أن يجعل الله شَرِيكًا فِي حُكْمِهِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْجَزْمِ. قَالَ يَعْقُوبُ: لَا أَعْرِفُ وَجْهَهَا، وَالْمُرَادُ بِحُكْمِ اللَّهِ: مَا يَقْضِيهِ، أَوْ عِلْمُ الْغَيْبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيَدْخُلُ عِلْمُ الْغَيْبِ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَإِنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ جُمْلَةِ قَضَائِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ قَالَ: أَطْلَعْنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ قَالَ: الْأُمَرَاءُ، أَوْ قَالَ: السَّلَاطِينُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ قَالَ: الْيَهُودُ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ قَالَ: النَّصَارَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: رَجْماً بِالْغَيْبِ قَالَ:

قَذْفًا بِالظَّنِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ قَالَ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ، كَانُوا سَبْعَةً. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، فِي قَوْلِهِ: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ قال: أنا من أُولَئِكَ الْقَلِيلِ، كَانُوا سَبْعَةً، ثُمَّ ذَكَرَ أَسْمَاءَهُمْ. وَحَكَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ، ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا تُمارِ فِيهِمْ يَقُولُ: حَسْبُكَ مَا قَصَصْتُ عَلَيْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً قَالَ: الْيَهُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ الْآيَةَ قَالَ: إِذَا نَسِيتَ أَنْ تَقُولَ لِشَيْءٍ إِنِّي أَفْعَلُهُ فَنَسِيتَ أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُلْ إِذَا ذَكَرْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَرَى الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، ثُمَّ قَرَأَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هِيَ خَاصَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَثْنِيَ إِلَّا فِي صِلَةِ يَمِينٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ مَوْصُولٍ فَلَا حِنْثَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مَوْصُولٍ فَهُوَ حَانِثٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، وَفِي رِوَايَةٍ: تِسْعِينَ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ فَلَمْ يَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عِكْرِمَةَ إِذا نَسِيتَ قَالَ: إِذَا غَضِبْتَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ الْحَسَنِ إِذا نَسِيتَ قَالَ: إِذَا لَمْ تَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفَسِّرُ الْآيَةَ يَرَى أَنَّهَا كَذَلِكَ فَيَهْوِي أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ تَلَا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: كَمْ لَبِثَ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: ثَلَاثَمِائَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ، قَالَ: لَوْ كَانُوا لَبِثُوا كَذَلِكَ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وَلَكِنَّهُ حَكَى مَقَالَةَ الْقَوْمِ فَقَالَ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: رَجْماً بِالْغَيْبِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ قَالَ: سَيَقُولُونَ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن قَتَادَةَ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالُوا: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الْآيَةَ: يَعْنِي إِنَّمَا قَالَهُ النَّاسُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّامًا أَمْ أَشْهُرًا أَمْ سِنِينَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ بِدُونِ ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ قَالَ: الله يقوله.

[سورة الكهف (18) : الآيات 27 إلى 31]

[سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 31] وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) قَوْلُهُ: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى تِلَاوَةِ الْكِتَابِ الْمُوحَى إِلَيْهِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاتْلُ وَاتَّبِعْ، أَمْرًا مِنَ التِّلْوِ، لَا من التلاوة، ومِنْ كِتابِ رَبِّكَ بَيَانٌ لِلَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أَيْ: لَا قَادِرَ عَلَى تَبْدِيلِهَا وَتَغْيِيرِهَا، وَإِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ وَحْدَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ فَلَا مُبَدِّلَ لَهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَا مُبَدِّلَ لِحُكْمِ كَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً الْمُلْتَحَدُ: الْمُلْتَجَأُ، وَأَصْلُ اللَّحْدِ: الْمَيْلُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَنْ تَجِدَ مَعْدِلًا عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَتْبَعِ الْقُرْآنَ وَتَتْلُهُ، وَتَعْمَلْ بِأَحْكَامِهِ لَنْ تَجِدَ مَعْدِلًا تَعْدِلُ إِلَيْهِ وَمَكَانًا تَمِيلُ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ آخِرُ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي نَوْعٍ آخَرَ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ نهيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ طَرْدِ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ «1» وَأَمَرَهُ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا بِأَنْ يَحْبِسَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ، فَصَبْرُ النَّفْسِ هُوَ حَبْسُهَا، وَذِكْرُ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ كِنَايَةٌ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ. وَقِيلَ: فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ عَامِرٍ «بِالْغَدْوَةِ» بِالْوَاوِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ مَكْتُوبَةٌ بِالْوَاوِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ لِكَتْبِهِمُ الْحَيَاةَ وَالصَّلَاةَ بِالْوَاوِ، وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَقُولُ الْغَدْوَةَ، وَمَعْنَى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِدُعَائِهِمْ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ لِأَحْوَالِهِمْ، فَقَالَ: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أَيْ: لَا تَتَجَاوَزْ عَيْنَاكَ إِلَى غَيْرِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ لَا تَصْرِفْ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تَصْرِفْ بَصَرَكَ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَالزِّينَةِ، وَاسْتِعْمَالُهُ بِ «عَنْ» لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى النُّبُوِّ، مِنْ عَدَوْتُهُ عَنِ الْأَمْرِ، أَيْ: صَرَفْتُهُ مِنْهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَحْتَقِرْهُمْ عَيْنَاكَ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: مُجَالَسَةَ أَهْلِ الشَّرَفِ وَالْغِنَى، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ مُرِيدًا لِذَلِكَ، هَذَا إِذَا كَانَ فَاعِلُ تُرِيدُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا يَعُودُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، فَالتَّقْدِيرُ: مُرِيدَةً زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِسْنَادُ الإرادة إلى العينين مجاز، وتوحيد

_ (1) . الأنعام: 52.

الضمير للتلازم كقول الشاعر: لمن زحلوقة زلّ ... بِهَا الْعَيْنَانِ تَنْهَلُّ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا أَيْ: جَعَلْنَاهُ غَافِلًا بِالْخَتْمِ عَلَيْهِ، نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَاعَةِ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ غَافِلًا عَنْ ذِكْرِهِ، كَأُولَئِكَ الَّذِينَ طَلَبُوا مِنْهُ أن ينحّي الفقراء عن مجلسه، فإنهم طالبو تَنْحِيَةَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَعَ هَذَا فَهُمْ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَآثَرَهُ عَلَى الْحَقِّ، فَاخْتَارَ الشِّرْكَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً أَيْ: مُتَجَاوِزًا عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ فَرْطٌ إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا لِلْخَيْلِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا مِنَ الْإِفْرَاطِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ التَّفْرِيطِ، وَهُوَ التَّقْصِيرُ وَالتَّضْيِيعُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ قَدَّمَ الْعَجْزَ فِي أَمْرِهِ أَضَاعَهُ وَأَهْلَكَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقُولُهُ لِأُولَئِكَ الْغَافِلِينَ، فَقَالَ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ، وَأُمِرْتَ بِتِلَاوَتِهِ، هُوَ الْحَقُّ الْكَائِنُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ، لَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ حَتَّى يُمْكِنَ فِيهِ التَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ الصَّبْرُ مَعَ الْفُقَرَاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ: الَّذِي أَتَيْتُكُمْ بِهِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ يَعْنِي لَمْ آتِكُمْ بِهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي إِنَّمَا أَتَيْتُكُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ قِيلَ: هُوَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا قَبْلَهَا عَلَى مَا بَعْدَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، وَبَعْدَ أَنْ تَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ مَنْ شَاءَ أَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَيُصَدِّقَكَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَكْفُرَ بِهِ وَيُكَذِّبَكَ فَلْيَكْفُرْ. ثُمَّ أَكَّدَ الْوَعِيدَ وَشَدَّدَهُ فَقَالَ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أَيْ: أَعْدَدْنَا وَهَيَّأْنَا لِلظَّالِمِينَ الَّذِينَ اخْتَارُوا الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَالْجَحْدَ لَهُ وَالْإِنْكَارَ لِأَنْبِيَائِهِ نَارًا عَظِيمَةً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أَيِ: اشْتَمَلَ عَلَيْهِمْ. وَالسُّرَادِقُ: وَاحِدُ السُّرَادِقَاتِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهِيَ الَّتِي تُمَدُّ فَوْقَ صَحْنِ الدَّارِ، وَكُلُّ بَيْتٍ مِنْ كُرْسُفٍ «1» فَهُوَ سُرَادِقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ: يَا حَكَمُ بْنَ المنذر بن الجارود ... سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ وَقَالَ الشَّاعِرُ: هُوَ الْمُدْخِلُ النُّعْمَانَ بَيْتًا سَمَاؤُهُ ... صُدُورُ الْفُيُولِ بَعْدَ بيت مسردق يقوله سلامة بْنُ جَنْدَلٍ لَمَّا قَتَلَ مَلِكُ الْفُرْسِ مَلِكَ الْعَرَبِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ تَحْتَ أَرْجُلِ الْفِيَلَةِ. وقال ابن الأعرابي: سرادقها: سورها. وقال القتبي: السُّرَادِقُ: الْحُجْرَةُ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْفُسْطَاطِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَحَاطَ بِالْكُفَّارِ سُرَادِقُ النَّارِ عَلَى تَشْبِيهِ مَا يُحِيطُ بِهِمْ مِنَ النَّارِ بِالسُّرَادِقِ الْمُحِيطِ بِمَنْ فِيهِ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا مِنْ حَرِّ النَّارِ يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ وَهُوَ الْحَدِيدُ الْمُذَابُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُمْ يُغَاثُونَ بِمَاءٍ كَالرَّصَاصِ الْمُذَابِ أَوِ الصُّفْرِ، وَقِيلَ: هُوَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: هُوَ كُلُّ مَا أُذِيبَ مِنْ جواهر الأرض من

_ (1) . «الكرسف» : القطن.

حَدِيدٍ وَرَصَاصٍ وَنُحَاسٍ. وَقِيلَ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْقَطِرَانِ. ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي يُغَاثُونَ بِهِ بِأَنَّهُ يَشْوِي الْوُجُوهَ إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِمْ صَارَتْ وُجُوهُهُمْ مَشْوِيَّةً لِحَرَارَتِهِ بِئْسَ الشَّرابُ شَرَابُهُمْ هَذَا وَساءَتْ النَّارُ مُرْتَفَقاً مُتَّكَأً، يُقَالُ ارْتَفَقْتُ: أَيِ: اتَّكَأْتُ، وَأَصْلُ الِارْتِفَاقِ نَصْبُ الْمِرْفَقِ، وَيُقَالُ: ارْتَفَقَ الرَّجُلُ: إِذَا نَامَ عَلَى مِرْفَقِهِ، وَقَالَ القتبي: هُوَ الْمَجْلِسُ، وَقِيلَ: الْمُجْتَمَعُ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ هَذَا شُرُوعٌ فِي وَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ وَعِيدِ الْكَافِرِينَ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْحَقِّ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا هَذَا خَبَرُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَنْ أَحْسَنَ مِنْهُمْ عَمَلًا، وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْأَجْرِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ خَبَرَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَتَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّا لَا نُضِيعُ اعْتِرَاضًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَفِي كَيْفِيَّةِ جَرْيِ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهَا يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَسَاوِرَ جَمْعُ أَسْوِرَةٍ، وَأَسْوِرَةٌ جَمْعُ سِوَارٍ، وَهِيَ زِينَةٌ تُلْبَسُ فِي الزَّنْدِ مِنَ الْيَدِ، وَهِيَ مِنْ زِينَةِ الْمُلُوكِ، قِيلَ: يُحَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ منهم ثلاثة أساور واحد من فضة واحد من لؤلؤ واحد مَنْ ذَهَبٍ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهَا جَمِيعَهَا مِنْ ذَهَبٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْآيَاتِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ أخرى: أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ «1» ، ولقوله في آية أخرى وَلُؤْلُؤاً «2» ومن فِي قَوْلِهِ مِنْ أَسَاوِرَ لِلِابْتِدَاءِ، وَفِي مِنْ ذَهَبٍ لِلْبَيَانِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ يَحْلَوْنَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ، يُقَالُ: حَلِيَتِ الْمَرْأَةُ تَحْلَى، فَهِيَ حَالِيَةٌ إِذَا لَبِسَتِ الْحَلْيَ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ قَالَ الْكِسَائِيُّ: السُّنْدُسُ الرَّقِيقُ وَاحِدُهُ سُنْدُسَةٌ، وَالْإِسْتَبْرَقُ: مَا ثَخُنَ، وَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَقِيلَ: الْإِسْتَبْرَقُ هُوَ الدِّيبَاجُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: ............... .. وَإِسْتَبْرَقُ الدِّيبَاجِ طَوْرًا لِبَاسُهَا «3» وقيل: هو المنسوج بالذهب. قال القتبي: هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَتَصْغِيرُهُ أُبَيْرِقٌ، وَخُصَّ الْأَخْضَرُ لِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلْبَصَرِ، وَلِكَوْنِهِ أَحْسَنَ الْأَلْوَانِ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَرَائِكُ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ، وَهِيَ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَقِيلَ: هِيَ أَسِرَّةٌ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَأَصْلُ اتَّكَأَ اوْتَكَأَ، وَأَصْلُ مُتَّكِئِينَ مُوْتَكِئِينَ، وَالِاتِّكَاءُ: التَّحَامُلُ عَلَى الشَّيْءِ نِعْمَ الثَّوابُ ذَلِكَ الذي أثابهم الله. وَحَسُنَتْ تِلْكَ الْأَرَائِكُ مُرْتَفَقاً أَيْ: مُتَّكَأً، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: مُلْتَحَداً قَالَ: مُلْتَجَأً. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: جَاءَتِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ جَلَسْتَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ، وَتَغَيَّبْتَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَأَرْوَاحِ جِبَابِهِمْ، يَعْنُونَ سَلْمَانَ وَأَبَا ذَرٍّ وَفُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَتْ عَلَيْهِمْ جباب الصوف، جالسناك وحادثناك وأخذنا

_ (1) . الإنسان: 21. (2) . الحج: 23، وفاطر: 33. [.....] (3) . وصدره: تراهنّ يلبسن المشاعر مرّة.

عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا زَادَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَلْمَانَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يَلْتَمِسُهُمْ، حَتَّى أَصَابَهُمْ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَمَرَنِي أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَ رِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، مَعَكُمُ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَعْضِ أَبْيَاتِهِ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُمْ فَوَجَدَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ مِنْهُمْ ثَائِرُ الرأس وجاف الْجِلْدِ وَذُو الثَّوْبِ الْخَلَقِ، فَلَمَّا رَآهُمْ جَلَسَ مَعَهُمْ وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْحِجْرِ أَوْ سُورَةَ الْكَهْفِ فَسَكَتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ» وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي قَوْلِهِ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ الْآيَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى أَمْرٍ كَرِهَهُ اللَّهُ مِنْ طَرْدِ الْفُقَرَاءِ عَنْهُ وَتَقْرِيبِ صَنَادِيدِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، يَعْنِي مَنْ خَتَمْنَا عَلَى قَلْبِهِ يَعْنِي التَّوْحِيدَ وَاتَّبَعَ هَواهُ يَعْنِي الشِّرْكَ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً يَعْنِي فُرُطًا فِي أَمْرِ اللَّهِ وَجَهَالَةً بِاللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: دَخَلَ عُيَيْنَةُ بْنُ حصن عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَعِنْدَهُ سَلْمَانُ عَلَيْهِ جبة صوف، فثار مِنْهُ رِيحُ الْعَرَقِ فِي الصُّوفِ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: يَا مُحَمَّدُ إِذَا نَحْنُ أَتَيْنَاكَ فَأَخْرِجْ هَذَا وضرباءه من عندك لا يؤذونا، فَإِذَا خَرَجْنَا فَأَنْتَ وَهُمْ أَعْلَمُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ الْآيَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ «1» عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم: اطرد هؤلاء لا يجترءون عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ نَسِيتُ اسْمَهُمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً قَالَ: ضَيَاعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَقُلِ الْحَقُّ قَالَ: هُوَ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ

_ (1) . الأنعام: 52.

يَقُولُ: مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْإِيمَانَ آمَنَ، وَمَنْ شَاءَ لَهُ الْكُفْرَ كَفَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: فِي الآية هذه تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها قَالَ: حَائِطٌ مِنْ نَارٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِسُرَادِقِ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ، كَثَافَةُ كُلِّ جِدَارٍ مِنْهَا مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عن يعلى بن أمية قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «إن البحر هو من جهنم، ثم تلا ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها» . وأخرج أحمد وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: بِماءٍ كَالْمُهْلِ قَالَ: «كَعَكَرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قُرِّبَ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَالْمُهْلِ قَالَ: أَسْوَدُ كَعَكَرِ الزَّيْتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطِيَّةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُهْلِ فَقَالَ: مَاءٌ غَلِيظٌ كَدُرْدِيِّ الزَّيْتِ. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُهْلِ، فَدَعَا بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَأَذَابَهُ، فَلَمَّا ذَابَ قَالَ: هَذَا أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْمُهْلِ الَّذِي هُوَ شَرَابُ أَهْلِ النَّارِ وَلَوْنُهُ لَوْنُ السَّمَاءِ، غَيْرَ أَنَّ شَرَابَ أَهْلِ النَّارِ أَشَدُّ حَرًّا مِنْ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: هل تدرون ما المهل؟ مهل الزَّيْتِ، يَعْنِي آخِرَهُ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً قَالَ: مُجْتَمَعًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ تُنْبِتُ السُّنْدُسَ مِنْهُ يَكُونُ ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْإِسْتَبْرَقُ: الدِّيبَاجُ الْغَلِيظُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَّكِئُ الْمُتَّكَأَ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا يَتَحَوَّلُ مِنْهُ وَلَا يَمَلُّهُ، يَأْتِيهِ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ وَلَذَّتْ عَيْنُهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَرَائِكُ: السُّرُرُ فِي جَوْفِ الْحِجَالِ، عَلَيْهَا الْفَرْشُ مَنْضُودٌ فِي السَّمَاءِ فَرْسَخٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْهُ قَالَ: لَا تَكُونُ أَرِيكَةً حَتَّى يَكُونَ السَّرِيرُ فِي الْحَجَلَةِ «3» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَرَائِكِ فَقَالَ: هِيَ الْحِجَالُ على السرر.

_ (1) . التكوير: 29. (2) . أي: الزيت العكر. (3) . الحجلة: ساتر كالقبة يتخذ للعروس، يزين بالثياب والستور (ج: حجل، حجال) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 32 إلى 44]

[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) قَوْلُهُ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ هَذَا الْمَثَلُ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِمَنْ يَتَعَزَّزُ بِالدُّنْيَا وَيَسْتَنْكِفُ عَنْ مُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ فَهُوَ عَلَى هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الرَّجُلَيْنِ هَلْ هُمَا مُقَدَّرَانِ أَوْ مُحَقَّقَانِ؟ فَقَالَ بِالْأَوَّلِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بِالْآخَرِ بَعْضٌ آخَرُ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِمَا فَقِيلَ: هُمَا أَخَوَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقِيلَ: هُمَا أَخَوَانِ مَخْزُومِيَّانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنٌ، وَالْآخَرُ كَافِرٌ وَقِيلَ: هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ «1» وَانْتِصَابُ مَثَلًا وَرَجُلَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولَا اضْرِبْ، قِيلَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ هو الكافر، ومِنْ أَعْنابٍ بَيَانٌ لِمَا فِي الْجَنَّتَيْنِ، أَيْ: مِنْ كُرُومٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ الْحَفُّ: الْإِحَاطَةُ، وَمِنْهُ: حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «2» وَيُقَالُ: حَفَّ الْقَوْمُ بِفُلَانٍ يَحِفُّونَ حَفًّا، أَيْ: أَطَافُوا بِهِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَجَعَلْنَا النَّخْلَ مُطِيفًا بِالْجَنَّتَيْنِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِمَا وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً أَيْ: بَيْنَ الْجَنَّتَيْنِ، وَهُوَ وَسَطُهُمَا، لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَامِعًا لِلْأَقْوَاتِ وَالْفَوَاكِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْجَنَّتَيْنِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَانَتْ تُؤَدِّي حَمْلَهَا وَمَا فِيهَا، فَقَالَ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها أَخْبَرَ عَنْ كِلْتَا بِآتَتْ، لِأَنَّ لَفْظَهُ مُفْرَدٌ، فَرَاعَى جَانِبَ اللَّفْظِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ كِلْتَا وَكِلَا اسْمٌ مُفْرَدٌ غَيْرُ مُثَنًّى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مُثَنًّى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كُلٍّ فَخُفِّفَتِ اللَّامُ وَزِيدَتِ الْأَلِفُ لِلتَّثْنِيَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: أَلِفُ كِلْتَا لِلتَّأْنِيثِ، وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنْ لَامِ الْفِعْلِ، وَهِيَ وَاوٌ، والأصل كلو، وقال أبو عمرو: التاء ملحقة. وأكلهما: هو ثمرهما، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ صَارَ صَالِحًا لِلْأَكْلِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «كُلُّ الْجَنَّتَيْنِ آتَى أُكُلَهُ» وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أَيْ: لَمْ تَنْقُصْ مِنْ أُكُلِهَا شَيْئًا، يُقَالُ: ظَلَمَهُ حَقَّهُ، أَيْ: نَقَصَهُ، وَوَصَفَ الْجَنَّتَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمَا عَلَى خِلَافِ مَا يُعْتَادُ فِي سَائِرِ الْبَسَاتِينِ فَإِنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَكْثُرُ في عام، وتقلّ

_ (1) . الصافات: 51. (2) . الزمر: 75.

فِي عَامٍ وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أَيْ: أَجْرَيْنَا وَشَقَقْنَا وَسَطَ الْجَنَّتَيْنِ نَهَرًا لِيَسْقِيَهُمَا دَائِمًا مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، وَقُرِئَ «فَجَّرْنَا» بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَبِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْأَصْلِ وَكانَ لَهُ أَيْ: لِصَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ ثَمَرٌ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «ثَمَرٌ» بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ، وَكَذَلِكَ قَرَءُوا فِي قَوْلِهِ: أُحِيطَ بِثَمَرِهِ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الثَّاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهِمَا جَمِيعًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الثَّمَرَةُ وَاحِدَةُ الثَّمَرِ، وَجَمْعُ الثَّمَرِ ثِمَارٌ مِثْلَ جَبَلٍ وَجِبَالٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَمْعُ الثِّمَارِ ثُمُرٌ، مِثْلَ كِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَجَمْعُ الثُّمُرِ أَثْمَارٌ، مِثْلَ عُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ، وَقِيلَ: الثَّمَرُ جَمِيعُ الْمَالِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: هو الذهب والفضة خالصة فَقالَ لِصاحِبِهِ أَيْ: قَالَ صَاحِبُ الْجَنَّتَيْنِ الْكَافِرُ لِصَاحِبِهِ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَيْ: وَالْكَافِرُ يُحَاوِرُ الْمُؤْمِنَ، وَالْمَعْنَى: يُرَاجِعُهُ الْكَلَامَ وَيُجَاوِبُهُ، وَالْمُحَاوَرَةُ: الْمُرَاجَعَةُ، وَالتَّحَاوُرُ: التَّجَاوُبُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً النَّفَرُ: الرَّهْطُ، وَهُوَ مَا دُونُ الْعَشْرَةِ، وَأَرَادَ هَاهُنَا الْأَتْبَاعَ وَالْخَدَمَ وَالْأَوْلَادَ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أَيْ دَخَلَ الْكَافِرُ جَنَّةَ نَفْسِهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ بِيَدِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، فَأَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ يَطُوفُ بِهِ فِيهَا، وَيُرِيهِ عَجَائِبَهَا، وَإِفْرَادُ الْجَنَّةِ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنَّ وَجْهَهُ كَوْنُهُ لَمْ يُدْخِلْ أَخَاهُ إِلَّا وَاحِدَةً مِنْهُمَا، أَوْ لِكَوْنِهِمَا لَمَّا اتَّصَلَا كَانَا كَوَاحِدَةٍ، أَوْ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي وَاحِدَةٍ، ثُمَّ وَاحِدَةٍ أَوْ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِذِكْرِهِمَا، وَمَا أَبْعَدَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّهُ وَحَّدَ الْجَنَّةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُؤْمِنُونَ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَذَلِكَ الْكَافِرُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ بِكُفْرِهِ وَعُجْبِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً أَيْ: قَالَ الْكَافِرُ لِفَرْطِ غَفْلَتِهِ وَطُولِ أَمَلِهِ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَفْنَى هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي تُشَاهِدُهَا وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أَنْكَرَ الْبَعْثَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ لِفَنَاءِ جَنَّتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَخْبَرَ أَخَاهُ بِكُفْرِهِ بِفَنَاءِ الدُّنْيَا وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً اللَّامُ هِيَ الْمُوطِئَةُ لِلْقَسَمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا كَمَا زَعَمَ صَاحِبُهُ، وَاللَّامُ فِي «لَأَجِدَنَّ» جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالشَّرْطِ، أَيْ: لَأَجِدَنَّ يَوْمَئِذٍ خَيْرًا مِنْ هَذِهِ الْجَنَّةِ، فِي مَصَاحِفِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ خَيْرًا منهما وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ «خَيْراً مِنْها» على الإفراد، ومُنْقَلَباً مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: مَرْجِعًا وَعَاقِبَةً، قَالَ هَذَا قِيَاسًا لِلْغَائِبِ عَلَى الْحَاضِرِ، وَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ غَنِيًّا فِي الدُّنْيَا، سَيَكُونُ غَنِيًّا فِي الْأُخْرَى، اغْتِرَارًا مِنْهُ بِمَا صَارَ فِيهِ مِنَ الْغِنَى الَّذِي هُوَ اسْتِدْرَاجٌ لَهُ مِنَ اللَّهِ قالَ لَهُ صاحِبُهُ أَيْ: قَالَ لِلْكَافِرِ صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ حَالَ مُحَاوَرَتِهِ لَهُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ مَا قَالَهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ بِقَوْلِكَ: مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَقَالَ: خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ أَيْ: جَعَلَ أَصْلَ خَلْقِكَ مِنْ تُرَابٍ حَيْثُ خَلَقَ أَبَاكَ آدَمَ مِنْهُ، وَهُوَ أَصْلُكَ، وَأَصْلُ الْبَشَرِ فَلِكُلِّ فَرْدٍ حَظٌّ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا بِاللَّهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَلَمْ يَقْصِدْ أَنَّ الْكُفْرَ حَدَثَ لَهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وَهِيَ الْمَادَّةُ الْقَرِيبَةُ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أَيْ: صَيَّرَكَ إِنْسَانًا ذَكَرًا وَعَدَّلَ أَعْضَاءَكَ وَكَمَّلَكَ، وَفِي هَذَا تَلْوِيحٌ بِالدَّلِيلِ عَلَى الْبَعْثِ، وَأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَانْتِصَابُ رَجُلًا عَلَى الْحَالِ أَوِ التَّمْيِيزِ لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي كَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ بَعْدَ لَكِنَّ الْمُشَدَّدَةِ. وَأَصَلُهُ لَكِنَّ أَنَا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى النُّونِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا فَصَارَ لَكِنَّنَا، ثُمَّ

اسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ النُّونَيْنِ فَسُكِّنَتِ الْأُولَى وَأُدْغِمَتِ الثَّانِيَةُ، وَضَمِيرُ هُوَ لِلشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرُهُ وَالْمَجْمُوعُ خَبَرُ أَنَا، وَالرَّاجِعُ يَاءُ الضَّمِيرِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَكِنَّ أَنَا الشَّأْنُ اللَّهُ رَبِّي. قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: إِثْبَاتُ أَلِفِ أَنَا فِي الْوَصْلِ ضَعِيفٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالْمَازِنِيِّ أَنَّ الْأَصْلَ لَكِنَّ أَنَا، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَدَّمْنَا. وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّ الْأَصْلَ لَكِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي أَنَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِثْبَاتُ الْأَلِفِ فِي لَكِنَّا فِي الْإِدْرَاجِ جَيِّدٌ لِأَنَّهَا قَدْ حذفت الألف من أنا فجاؤوا بِهَا عِوَضًا، قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «لَكِنَّ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي» وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ والمسيّبي عن نافع، وورش عَنْ يَعْقُوبَ «لكِنَّا» فِي حَالِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ مَعًا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَنَا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميدا فَإِنِّي قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: فكيف أنا وانتحال «1» القوافي ... بعد الشَّيْبِ يَكْفِي ذَاكَ عَارَا وَلَا خِلَافَ فِي إِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ «لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي» ، ثُمَّ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ الشِّرْكَ بِاللَّهِ، فَقَالَ: وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَخَاهُ كَانَ مُشْرِكًا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ يَلُومُهُ فَقَالَ: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَوْلَا للتحضيض: أي: هلا قلت عند ما دَخَلْتَهَا هَذَا الْقَوْلَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: مَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَيْ: هَلَّا قُلْتَ حِينَ دَخَلْتَهَا الْأَمْرُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَائِنٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا شَرْطِيَّةً وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ شَاءَ اللَّهُ كَانَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ: هَلَّا قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، تَحْضِيضًا لَهُ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهَا وَمَا فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ أَبْقَاهَا وَإِنْ شَاءَ أَفْنَاهَا، وَعَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ، وَأَنَّ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ عِمَارَتِهَا إِنَّمَا هُوَ بِمَعُونَةِ اللَّهِ لَا بِقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَقْوَى أَحَدٌ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ مُلْكٍ وَنِعْمَةٍ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ لَمَّا عَلَّمَهُ الْإِيمَانَ وَتَفْوِيضَ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَجَابَهُ عَلَى افْتِخَارِهِ بِالْمَالِ وَالنَّفَرِ فَقَالَ: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً المفعول الأوّل ياء الضمير، وأنا ضمير فصل، وأقلّ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلرُّؤْيَةِ إِنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً، وَإِنْ جُعِلَتْ بَصَرِيَّةً كَانَ انْتِصَابُ أَقَلَّ عَلَى الْحَالِ، ويجوز أن يكون أنا تأكيد لِيَاءِ الضَّمِيرِ، وَانْتِصَابُ مَالًا وَوَلَدًا عَلَى التَّمْيِيزِ فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، أَيْ: إِنْ تَرَنِي أَفْقَرَ مِنْكَ، فَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَرْزُقَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَنَّةً خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ فِي الدُّنْيَا أَوْ في الآخرة أو في فِيهِمَا وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً أَيْ: وَيُرْسِلُ عَلَى جَنَّتِكَ حُسْبَانًا، وَالْحُسْبَانُ مَصْدَرٌ، بِمَعْنَى الْحِسَابِ كَالْغُفْرَانِ أي: مقدار قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَوَقَعَ فِي حِسَابِهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِتَخْرِيبِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُسْبَانُ مِنَ الْحِسَابِ أَيْ: يُرْسِلُ عَلَيْهَا عَذَابَ الْحِسَابِ، وَهُوَ حِسَابُ مَا كَسَبَتْ يَدَاكَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: حُسْبَانًا أَيْ: مَرَامِيَ مِنَ السَّماءِ وَاحِدُهَا حُسْبَانَةٌ، وَكَذَا قال أبو عبيدة والقتبي. وقال ابن الأعرابي: الحسبانة: السّحابة،

_ (1) . في المطبوع: وألحان.

وَالْحُسْبَانَةُ: الْوِسَادَةُ، وَالْحُسْبَانَةُ: الصَّاعِقَةُ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْحُسْبَانُ سِهَامٌ يَرْمِي بِهَا الرَّجُلُ فِي جَوْفِ قَصَبَةٍ تُنْزَعُ فِي قَوْسٍ، ثُمَّ يَرْمِي بِعِشْرِينَ مِنْهَا دُفْعَةً وَالْمَعْنَى: يُرْسِلُ عَلَيْهَا مَرَامِيَ مِنْ عَذَابِهِ إِمَّا بَرْدٌ، وَإِمَّا حِجَارَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا يَشَاءُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَمِنْهُ قول زِيَادٍ الْكِلَابِيِّ: أَصَابَ الْأَرْضَ حُسْبَانٌ، أَيْ: جَرَادٌ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَيْ: فَتُصْبِحَ جَنَّةُ الْكَافِرِ بَعْدَ إِرْسَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهَا حُسْبَانًا صَعِيدًا، أَيْ: أَرْضًا لَا نَبَاتَ بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تحقيقه، زلقا: أي: تزلّ فِيهَا الْأَقْدَامُ لِمَلَاسَتِهَا، يُقَالُ: مَكَانٌ زَلَقٌ بِالتَّحْرِيكِ: أَيْ دَحْضٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَوْلِكَ: زَلَقَتْ رِجْلُهُ تَزْلَقُ زَلَقًا، وَأَزْلَقَهَا غَيْرُهُ، وَالْمَزْلَقَةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ قَدَمٌ، وَكَذَا الزَّلَّاقَةُ، وَصَفَ الصَّعِيدَ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً، أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَفْعُولُ، وَجُمْلَةُ أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْغَوْرُ: الْغَائِرُ. وَصَفَ الْمَاءَ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَصِيرُ عَادِمَةً لِلْمَاءِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ وَاجِدَةً لَهُ، وَكَانَ خِلَالَهَا ذَلِكَ النَّهْرُ يَسْقِيهَا دَائِمًا، وَيَجِيءُ الْغَوْرُ بِمَعْنَى الْغُرُوبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ: هَلِ الدَّهْرُ إِلَّا لَيْلَةٌ وَنَهَارُهَا ... وَإِلَّا طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ غِيَارُهَا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً أَيْ: لَنْ تَسْتَطِيعَ طَلَبَ الْمَاءِ الْغَائِرِ فَضْلًا عَنْ وُجُودِهِ وَرَدِّهِ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ بِحِيلَةٍ مِنَ الْحِيَلِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ طَلَبَ غَيْرِهِ عِوَضًا عَنْهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ وُقُوعِ مَا رَجَاهُ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَتَوَقَّعَهُ مِنْ إِهْلَاكِ جَنَّةِ الْكَافِرِ، فَقَالَ: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ قَدْ قَدَّمْنَا اخْتِلَافَ الْقُرَّاءِ فِي هَذَا الْحَرْفِ وَتَفْسِيرِهِ، وَأَصْلُ الْإِحَاطَةِ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَدُوِّ بِالشَّخْصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «1» وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إِهْلَاكِهِ وَإِفْنَائِهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ فَوَقْعَ مَا تَوَقَّعَهُ الْمُؤْمِنُ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ أَيْ: يَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّدَمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ فَأَصْبَحَ يَنْدَمُ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها أَيْ: فِي عِمَارَتِهَا وَإِصْلَاحِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: يُقَلِّبُ مُلْكَهُ فَلَا يَرَى فِيهِ عِوَضَ مَا أَنْفَقَ لِأَنَّ الْمُلْكَ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْيَدِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فِي يَدِهِ مَالٌ، وَهُوَ بِعِيدٌ جِدًّا، وَجُمْلَةُ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ تِلْكَ الْجَنَّةَ سَاقِطَةٌ عَلَى دَعَائِمِهَا الَّتِي تَعْمِدُ بِهَا الْكُرُومَ، أَوْ سَاقِطٌ بَعْضُ تِلْكَ الْجَنَّةِ عَلَى بَعْضٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ خَوَتِ النُّجُومُ تَخْوَى إِذَا سَقَطَتْ وَلَمْ تُمْطِرْ فِي نَوْئِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا «2» قيل: وتخصيص ماله عُرُوشٌ بِالذِّكْرِ دُونَ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَأَيْضًا إِهْلَاكُهَا مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِ إِهْلَاكِ الْبَاقِي، وجملة وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً مَعْطُوفَةٌ عَلَى يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ، أَيْ: وَهُوَ يَقُولُ تَمَنَّى عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ لهلاك جنته بأنه لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ حَتَّى تَسْلَمَ جَنَّتُهُ مِنَ الْهَلَاكِ، أَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لَا لِمَا فَاتَهُ مِنَ الْغَرَضِ الدُّنْيَوِيِّ، بَلْ لِقَصْدِ التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَالنَّدَمِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِئَةٌ اسْمُ كَانَ وله خبرها، وينصرونه صِفَةٌ لِفِئَةٍ، أَيْ: فِئَةٌ نَاصِرَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ يَنْصُرُونَهُ الْخَبَرَ، وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ سِيبَوَيْهِ وَرَجَّحَ الثَّانِيَ الْمُبَرِّدُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «3» وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِرْقَةٌ وَجَمَاعَةٌ يلتجئ

_ (1) . يوسف: 66. (2) . النمل: 52. (3) . الإخلاص: 4.

إِلَيْهَا وَيَنْتَصِرُ بِهَا، وَلَا نَفَعَهُ النَّفَرُ الَّذِينَ افْتَخَرَ بِهِمْ فِيمَا سَبَقَ وَما كانَ فِي نَفْسِهِ مُنْتَصِراً أَيْ: مُمْتَنِعًا بِقُوَّتِهِ عَنْ إِهْلَاكِ اللَّهِ لِجَنَّتِهِ، وَانْتِقَامِهِ مِنْهُ هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ «الْحَقُّ» بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلْوَلَايَةِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ «الْحَقِّ» بِالْجَرِّ نَعْتًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالتَّوْكِيدِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا لَكَ حَقًّا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْوِلَايَةُ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَالْمَعْنَى هُنَالِكَ: أَيْ: في ذلك المقام النصر لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ: الْوِلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُنَالِكَ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أَيْ: هُوَ سُبْحَانَهُ خَيْرٌ ثَوَابًا لِأَوْلِيَائِهِ فِي الدنيا والآخرة وَخَيْرٌ عُقْباً أي: عاقبة، وقرأ الْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ «عُقْبًا» بِسُكُونِ الْقَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَهَمَّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ: هُوَ خير عاقبة لمن رجاه وآمن به، يقال هَذَا عَاقِبَةُ أَمْرِ فُلَانٍ، وَعُقْبَاهُ: أَيْ: أُخْرَاهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ قَالَ: الْجَنَّةُ هِيَ الْبُسْتَانُ، فَكَانَ لَهُ بُسْتَانٌ وَاحِدٌ وَجِدَارٌ واحد، وكان بينهما نهر، فلذلك كانتا جَنَّتَيْنِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ جَنَّةً مِنْ قِبَلِ الْجِدَارِ الذي يليها. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أبي عمرو الشيباني قال: نهر أبي فرطس نَهْرُ الْجَنَّتَيْنِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَهُوَ نَهْرٌ مَشْهُورٌ بِالرَّمَلَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً قَالَ: لَمْ تَنْقُصْ، كُلُّ شَجَرِ الْجَنَّةِ أَطْعَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ يَقُولُ: مَالٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ بِالضَّمِّ، وَقَالَ: هِيَ أَنْوَاعُ الْمَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ قَالَ: ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يَقُولُ: كَفُورٌ لِنِعْمَةِ رَبِّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم كلمات أقولهنّ عند الكرب: «الله اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» . وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيِّ عَمَّنْ ذَكَرَهُ قَالَ: «طَلَبَ مُوسَى مِنْ رَبِّهِ حَاجَةً فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا حَاجَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي أَطْلُبُ حَاجَتِي مُنْذُ كَذَا وَكَذَا أُعْطِيتُهَا الْآنَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا مُوسَى، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْجَحُ مَا طُلِبَتْ بِهِ الْحَوَائِجُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِلَّا دَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ آفَةٍ حَتَّى تَأْتِيَهُ مَنِيَّتُهُ، وَقَرَأَ: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» وَفِي إِسْنَادِهِ عِيسَى بْنُ عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزَدِيُّ: عِيسَى بْنُ عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ أَنَسٍ لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ لِي نَبِيُّ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ تَحْتَ الْعَرْشِ؟ قَلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْ تَقُولَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ

[سورة الكهف (18) : الآيات 45 إلى 46]

مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ عَنِ السَّلَفِ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً قَالَ: مِثْلَ الْجُرُزِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: حُسْباناً مِنَ السَّماءِ قَالَ: عَذَابًا فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَيْ: قَدْ حُصِدَ مَا فِيهَا فَلَمْ يُتْرَكْ فِيهَا شَيْءٌ أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أَيْ: ذَاهِبًا قَدْ غَارَ فِي الْأَرْضِ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ قَالَ: يُصَفِّقُ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها متلهّفا على ما فاته. [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) ثُمَّ ضَرَبَ سُبْحَانَهُ مَثَلًا آخَرَ لِجَبَابِرَةِ قُرَيْشٍ فَقَالَ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيِ: اذْكُرْ لَهُمْ مَا يُشْبِهُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فِي حُسْنِهَا وَنَضَارَتِهَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهَا لِئَلَّا يَرْكَنُوا إِلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَثَلُ فِي سُورَةِ يُونُسَ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَثَلَ فَقَالَ: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِقَوْلِهِ: اضْرِبْ عَلَى جَعْلِهِ بِمَعْنَى صَيِّرْ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أَيِ: اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ نَبَاتُ الْأَرْضِ حَتَّى اسْتَوَى وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ النَّبَاتَ اخْتَلَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ حِينِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْمَاءُ لِأَنَّ النَّبَاتَ إِنَّمَا يَخْتَلِطُ وَيَكْثُرُ بِالْمَطَرِ، فَتَكُونُ الْبَاءُ فِي «بِهِ» سَبَبِيَّةً فَأَصْبَحَ النَّبَاتُ هَشِيماً الْهَشِيمُ: الْكَسِيرُ، وَهُوَ مِنَ النَّبَاتِ مَا تَكَسَّرَ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ وَتَفَتَّتَ، وَرَجُلٌ هَشِيمٌ: ضَعِيفُ الْبَدَنِ، وَتَهَشَّمَ عَلَيْهِ فُلَانٌ: إِذَا تَعَطَّفَ، وَاهْتَشَمَ مَا فِي ضَرْعِ النَّاقَةِ: إِذَا احْتَلَبَهُ، وَهَشَّمَ الثَّرِيدَ: كَسَّرَهُ وَثَرَدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الزَّبْعَرِيِّ: عَمْرُو الَّذِي «1» هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ تَذْرُوهُ الرِّياحُ تُفَرِّقُهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: تَذْرُوهُ: تَنْسِفُهُ، وَقَالَ ابْنُ كِيسَانَ: تَذْهَبُ بِهِ وَتَجِيءُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ «تَذْرِيهِ الرِّيحُ» ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ «تَذْرِيهِ» يُقَالُ: ذَرَتْهُ الرِّيحُ تَذْرُوهُ، وَأَذْرَتْهُ تُذْرِيهِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ: أَذْرَيْتُ الرَّجُلَ عَنْ فَرَسِهِ، أَيْ: قَلَبْتُهُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أَيْ: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يُحْيِيهِ وَيُفْنِيهِ بِقُدْرَتِهِ لَا يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا هَذَا رَدٌّ عَلَى الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِالْمَالِ وَالْغِنَى وَالْأَبْنَاءِ فَأَخْبَرَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ فِي الدُّنْيَا لَا مِمَّا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ «2» وَقَالَ: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ «3» وَلِهَذَا عَقَّبَ هَذِهِ الزِّينَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ بِقَوْلِهِ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أَيْ: أَعْمَالُ الْخَيْرِ، وَهِيَ مَا كَانَ يفعله فقراء المسلمين من الطاعات

_ (1) . عمرو العلا في اللسان مادة «هشم» ، وتفسير القرطبي (10/ 413) : العلا. (2) . التغابن: 15. (3) . التغابن: 14. [.....]

خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أَيْ: أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الزِّينَةِ بِالْمَالِ وَالْبَنِينِ ثَوَابًا، وَأَكْثَرُ عَائِدَةً وَمَنْفَعَةً لِأَهْلِهَا وَخَيْرٌ أَمَلًا أَيْ: أَفْضَلُ أَمَلًا، يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِأَهْلِهَا مِنَ الْأَمَلِ أَفْضَلُ مِمَّا يُؤَمِّلُهُ أَهْلُ الْمَالِ وَالْبَنِينَ لِأَنَّهُمْ يَنَالُونَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ يُؤَمِّلُهُ هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءُ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ فِي زِينَةِ الدُّنْيَا خَيْرٌ حَتَّى تُفَضَّلَ عَلَيْهَا الْآخِرَةُ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ خَرَجَ مَخْرَجَ قَوْلِهِ تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «1» ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ كُلُّ عَمَلِ خَيْرٍ، فَلَا وَجْهَ لِقَصْرِهَا عَلَى الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ بعض «2» ، وَلَا لِقَصْرِهَا عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ كَمَا قَالَهُ بَعْضٌ آخَرُ، وَلَا عَلَى مَا كَانَ يَفْعَلُهُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّ تَفْسِيرَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ فِي الْأَحَادِيثِ بِمَا سَيَأْتِي لَا يُنَافِي إِطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى مَا هُوَ عَمَلٌ صَالِحٌ مِنْ غَيْرِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ قَالَ: الْمالُ وَالْبَنُونَ حَرْثُ الدُّنْيَا، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ حَرْثُ الْآخِرَةِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا اللَّهُ لِأَقْوَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ شَاهِينَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُبَيِّ هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «خُذُوا جُنَّتَكُمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ عَدُوٍّ قَدْ حَضَرَ؟ قَالَ: بَلْ جُنَّتُكُمْ مِنَ النَّارِ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُقَدِّمَاتٍ مُعَقِّبَاتٍ وَمُجَنِّبَاتٍ، وَهِيَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ منصور وأحمد وابن مردويه عن النعمان ابن بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا وَإِنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَزَادَ التَّكْبِيرَ وَسَمَّاهُنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَزَادَتْ «وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فَذَكَرَ نَحْوَهُ دُونَ الْحَوْقَلَةِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ جُنَادَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ نَحْوَهُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهَا الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهَا الْمُرَادَّةَ فِي الْآيَةِ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لا فائدة

_ (1) . الفرقان: 24. (2) . أي بعض المفسّرين.

[سورة الكهف (18) : الآيات 47 إلى 53]

فِي ذِكْرِهَا هُنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ من الباقيات الصالحات. [سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 53] وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ قَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ تُسَيَّرُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَرَفْعِ الْجِبَالِ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ «تَسِيرُ» بِفَتْحِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّ الْجِبَالَ فَاعِلٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «نُسَيِّرُ» بِالنُّونِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَالْجِبَالَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَيُنَاسِبُ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى قوله تعالى: وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ «1» ، وَيُنَاسِبُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً «2» ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّالِثَةَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنَّهَا الْمُنَاسِبَةُ لِقَوْلِهِ: وَحَشَرْناهُمْ. قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: التَّقْدِيرُ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ، وَمَعْنَى تَسْيِيرِ الْجِبَالِ إِزَالَتُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا وَتَسْيِيرُهَا كَمَا تَسِيرُ السَّحَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «3» ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ جَعَلَهَا اللَّهُ كَمَا قَالَ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا- فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا «4» . والخطاب في قوله: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلرُّؤْيَةِ، وَمَعْنَى بُرُوزِهَا: ظُهُورُهَا وَزَوَالُ مَا يَسْتُرُهَا مِنَ الْجِبَالِ وَالشَّجَرِ وَالْبُنْيَانِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِبُرُوزِهَا بُرُوزُ مَا فِيهَا مِنَ الْكُنُوزِ وَالْأَمْوَاتِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ «5» ، وقال: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «6» ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزًا مَا فِي جَوْفِهَا وَحَشَرْناهُمْ أَيْ: الْخَلَائِقَ، وَمَعْنَى الْحَشْرِ: الْجَمْعُ أَيْ: جَمَعْنَاهُمْ إِلَى الْمَوْقِفِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً فَلَمْ نَتْرُكْ مِنْهُمْ أَحَدًا، يُقَالُ: غَادَرَهُ وَأَغْدَرَهُ إِذَا تَرَكَهُ، قَالَ عنترة:

_ (1) . التكوير: 3. (2) . الطور: 10. (3) . النمل: 88. (4) . الواقعة: 5- 6. (5) . الانشقاق: 4. (6) . الزلزلة: 2.

غَادَرْتُهُ مُتَعَفِّرًا أَوْصَالُهُ ... وَالْقَوْمُ بَيْنَ مُجَرَّحٍ وَمُجَنْدَلِ «1» أَيْ: تَرَكْتُهُ، وَمِنْهُ الْغَدْرُ لِأَنَّ الْغَادِرَ تَرَكَ الْوَفَاءَ لِلْمَغْدُورِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْغَدِيرُ غَدِيرًا لِأَنَّ الْمَاءَ ذَهَبَ وَتَرَكَهُ، وَمِنْهُ غَدَائِرُ الْمَرْأَةِ لأنها تجعلها خلفها عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا انْتِصَابُ صَفًّا عَلَى الْحَالِ، أي: مصفوفين كل أمة وزمرة صفا وَقِيلَ: عُرِضُوا صَفًّا وَاحَدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا «2» أَيْ: جَمِيعًا وَقِيلَ: قِيَامًا. وَفِي الْآيَةِ تَشْبِيهُ حَالِهِمْ بِحَالِ الْجَيْشِ الَّذِي يُعْرَضُ عَلَى السُّلْطَانِ قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: قُلْنَا لَهُمْ لَقَدْ جِئْتُمُونَا، وَالْكَافُ فِي كَمَا خَلَقْنَاكُمْ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أي: مجيئا كائنا كمجيئكم عند ما خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَوْ كَائِنَيْنِ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَيْ: حُفَاةً عُرَاةً غُرُلًّا، كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: بَعَثْنَاكُمْ وَأَعَدْنَاكُمْ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَقَدْ جئتمونا معناه بعثناكم لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً هَذَا إِضْرَابٌ وَانْتِقَالٌ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ، أَيْ: زَعَمْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَنْ تُبْعَثُوا، وَأَنْ لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا نُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَنُنْجِزُ مَا وَعَدْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْعَذَابِ، وَجُمْلَةُ وَوُضِعَ الْكِتابُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى عُرِضُوا، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ، وَأَفْرَدَهُ لِكَوْنِ التَّعْرِيفِ فِيهِ لِلْجِنْسِ، وَالْوَضْعُ إِمَّا حسّي بأن توضع صَحِيفَةُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي يَدِهِ: السَّعِيدُ فِي يَمِينِهِ، وَالشَّقِيُّ فِي شِمَالِهِ أَوْ فِي الْمِيزَانِ. وَإِمَّا عَقْلِيٌّ: أَيْ: أَظْهَرَ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ بِالْحِسَابِ الْكَائِنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أَيْ: خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِمَّا فِي الْكِتَابِ الْمَوْضُوعِ لِمَا يَتَعَقَّبُ ذَلِكَ مِنْ الِافْتِضَاحِ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ، والمجازاة بالعذاب الأليم وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا يَدْعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْوَيْلِ لِوُقُوعِهِمْ فِي الْهَلَاكِ، وَمَعْنَى هَذَا النِّدَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي الْمَائِدَةِ مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ لَهُ لَا يَتْرُكُ مَعْصِيَةً صَغِيرَةً وَلَا مَعْصِيَةً كَبِيرَةً إِلَّا حَوَاهَا وَضَبَطَهَا وَأَثْبَتَهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ، أَوْ وَجَدُوا جَزَاءَ مَا عَمِلُوا حاضِراً مَكْتُوبًا مُثْبَتًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً أَيْ: لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَلَا يُنْقِصُ فَاعِلَ الطَّاعَةِ مِنْ أَجْرِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَادَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى أَرْبَابِ الْخُيَلَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَذَكَرَ قِصَّةَ آدَمَ وَاسْتِكْبَارَ إِبْلِيسَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ أَيْ: وَاذْكُرْ وَقْتَ قَوْلِنَا لَهُمُ اسْجُدُوا سُجُودَ تَحِيَّةٍ وَتَكْرِيمٍ، كَمَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ فَسَجَدُوا طَاعَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَامْتِثَالًا لِطَلَبِهِ السُّجُودَ إِلَّا إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَلَمْ يَسْجُدْ، وَجُمْلَةُ كانَ مِنَ الْجِنِّ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ سَبَبِ عِصْيَانِهِ وَأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَلِهَذَا عَصَى، وَمَعْنَى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ عَنْ قِشْرِهَا لِخُرُوجِهَا مِنْهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمَعْنَى: أَتَاهُ الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب

_ (1) . في الديوان: مجدّل. «المتعفر» : اللاصق بالعفر وهو التراب. (2) . طه: 64.

الفسق أمر ربه. كما تقول: أطعمته عَنْ جُوعٍ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ قَوْلُ قُطْرُبٍ: أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ: أَيْ فَسَقَ عَنْ تَرْكِ أَمْرِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَجَّبَ مِنْ حَالِ مَنْ أَطَاعَ إِبْلِيسَ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعُقَيْبَ مَا وُجِدَ مِنْهُ مِنَ الْإِبَاءِ وَالْفِسْقِ تَتَّخِذُونَهُ وَتَتَّخِذُونَ ذُرِّيَّتَهُ، أَيْ: أَوْلَادَهُ وَقِيلَ: أَتْبَاعُهُ- مَجَازًا- أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي فَتُطِيعُونَهُمْ بَدَلَ طَاعَتِي، وَتَسْتَبْدِلُونَهُمْ بِي، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ، أَيْ: إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ لَكُمْ عَدُوٌّ أَيْ: أَعْدَاءٌ، وَأَفْرَدَهُ لِكَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ، أَوْ لِتَشْبِيهِهِ بِالْمَصَادِرِ، كَمَا في قوله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي «1» ، وقوله: هُمُ الْعَدُوُّ «2» أَيْ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ هَذَا الصُّنْعَ وَتَسْتَبْدِلُونَ بِمَنْ خَلَقَكُمْ وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِجَمِيعِ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ؟ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ قَطُّ، بَلْ هُوَ عَدُوٌّ لَكُمْ يَتَرَقَّبُ حُصُولَ مَا يَضُرُّكُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أَيْ: الْوَاضِعِينَ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمُسْتَبْدِلِينَ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، فَبِئْسَ ذَلِكَ الْبَدَلُ الَّذِي اسْتَبْدَلُوهُ بَدَلًا عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الضَّمِيرَ لِلشُّرَكَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لو كانوا شركاء لي في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم لكانوا شاهدين خلق ذلك مشركين لِي فِيهِ، وَلَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ وَلَا أَشْهَدْتُهُمْ إِيَّاهُ أَنَا فَلَيْسُوا لِي بِشُرَكَاءَ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِانْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ الْمُسَاوِي عَلَى انْتِفَاءِ اللَّازِمِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ الْتَمَسُوا طَرْدَ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا شُرَكَاءَ لِي فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ بِدَلِيلِ أَنِّي مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السموات والأرض وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ما اعْتَضَدْتُ بِهِمْ بَلْ هُمْ كَسَائِرِ الْخَلْقِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ جَاهِلُونَ بِمَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ فِي الْأَزَلِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُشَاهِدِينَ خَلْقَ الْعَالَمِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَحْكُمُوا بِحُسْنِ حَالِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَوْلَى لِمَا يَلْزَمُ فِي الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِنْ تَفْكِيكِ الضَّمِيرَيْنِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلِاتِّخَاذِ الْمَذْكُورِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ «مَا أَشْهَدْنَاهُمْ» ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «مَا أَشْهَدْتُهُمْ» ، وَيُؤَيِّدُهُ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَالْعَضُدُ يُسْتَعْمَلُ كَثِيًرًا فِي مَعْنَى الْعَوْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَضُدَ قِوَامُ الْيَدِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ «3» أَيْ: سَنُعِينُكَ وَنُقَوِّيكَ بِهِ، وَيُقَالُ: أَعَضَدْتُ بِفُلَانٍ إِذَا اسْتَعَنْتَ بِهِ، وَذَكَرَ الْعَضُدَ عَلَى جِهَةِ الْمَثَلِ، وَخَصَّ الْمُضِلِّينَ بِالذِّكْرِ لِزِيَادَةِ الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ. وَالْمَعْنَى: مَا اسْتَعَنْتُ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِهِمْ وَلَا شَاوَرْتُهُمْ، وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الشَّيَاطِينَ أَوِ الْكَافِرِينَ أَعْوَانًا، وَوَحَّدَ الْعَضُدَ لِمُوَافَقَةِ الْفَوَاصِلِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْجَحْدَرِيُّ «وَمَا كُنْتَ» بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: وَمَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ مُتَّخِذًا لَهُمْ عَضُدًا، وَلَا صَحَّ لَكَ ذَلِكَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ، وَفِي عَضُدَ لُغَاتٌ ثَمَانٍ أَفْصَحُهَا فَتْحُ الْعَيْنِ وَضَمُّ الضَّادِ، وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «عُضُدًا» بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالضَّادِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ، وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الضَّادِ، وَقَرَأَ عِيسَى بن عُمَرَ بِفَتْحِهِمَا، وَلُغَةُ تَمِيمٍ فَتْحُ الْعَيْنِ وَسُكُونُ الضاد. ثم عاد سبحانه إِلَى تَرْهِيبِهِمْ بِأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «نَقُولُ» بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ أَيِ: اذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْكُفَّارِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وتقريعا: نادوا

_ (1) . الشعراء: 77. (2) . المنافقون: 4. (3) . القصص: 35.

شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ يَنْفَعُونَكُمْ وَيَشْفَعُونَ لَكُمْ، وَأَضَافَهُمْ سُبْحَانَهُ إِلَى نَفْسِهِ جَرْيًا عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُشْرِكُونَ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَدَعَوْهُمْ أَيْ: فَعَلُوْا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ دُعَاءِ الشُّرَكَاءِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ إِذْ ذَاكَ، أَيْ: لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ مُجَرَّدُ الِاسْتِجَابَةِ لَهُمْ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْفَعُوهُمْ أَوْ يَدْفَعُوا عَنْهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً أَيْ: جَعَلْنَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ مَنْ جَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ مَوْبِقًا، ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ اسْمُ وَادٍ عَمِيقٍ، فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ تَعَالَى بَيْنَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كُلُّ حَاجِزٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَهُوَ مَوْبِقٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَوْبِقُ: الْمُهْلِكُ. وَالْمَعْنَى: جَعَلْنَا تَوَاصُلَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُهْلِكًا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، يُقَالُ: وَبِقَ يَوْبَقُ فَهُوَ وَبَقٌ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ فِي الْمَصَادِرِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَبِقَ يَبِقُ وُبُوقًا فَهُوَ وَابِقٌ، وَالْمُرَادُ بِالْمُهْلِكِ عَلَى هَذَا هُوَ عَذَابُ النَّارِ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ مِنْ جملة من زعموا أنهم شركاء الله الْمَلَائِكَةَ وَعُزَيْرَ وَالْمَسِيحَ، فَالْمَوْبِقُ هُوَ الْمَكَانُ الْحَائِلُ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَوْبِقُ هُنَا الْمَوْعِدُ لِلْهَلَاكِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي اللُّغَةِ أَوْبَقَهُ بِمَعْنَى أَهْلَكَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَمَنْ يَشْتَرِي حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ ... يَصُنْ عِرْضَهُ عَنْ كُلِّ شَنْعَاءَ مَوْبِقِ وَلَكِنَّ الْمُنَاسِبَ لِمَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها الْمُجْرِمُونَ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى زِيَادَةِ الذَّمِّ لَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الْمُسَجَّلِ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَالظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ. وَالْمُوَاقَعَةُ: الْمُخَالَطَةُ بِالْوُقُوعِ فِيهَا وَقِيلَ: إِنِ الْكُفَّارَ يَرَوْنَ النَّارَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَيَظُنُّونَ ذَلِكَ ظَنًّا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أَيْ: مَعْدِلًا يَعْدِلُونَ إِلَيْهِ، أَوِ انْصِرَافًا لِأَنَّ النَّارَ قَدْ أَحَاطَتْ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَصْرِفُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي ينصرف إليه. وقال القتبي: أي معدلا ينصرفون إليه، وقيل: ملجأ يلجئون إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ فِي الْجَمِيعِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهَا بِنَاءٌ وَلَا شَجَرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً قَالَ: الصَّغِيرَةُ: التَّبَسُّمُ، وَالْكَبِيرَةُ: الضَّحِكُ. وَزَادَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الصَّغِيرَةُ: التَّبَسُّمُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَبِيرَةُ: الْقَهْقَهَةُ بِذَلِكَ. وَأَقُولُ: صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ نَكِرَتَانِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ كُلُّ ذَنْبٍ يَتَّصِفُ بِصِغَرٍ، وَكُلُّ ذَنْبٍ يَتَّصِفُ بِالْكِبَرِ، فَلَا يَبْقَى مِنَ الذُّنُوبِ شَيْءٌ إِلَّا أَحْصَاهُ اللَّهُ، وَمَا كَانَ مِنَ الذُّنُوبِ مُلْتَبِسًا بَيْنَ كَوْنِهِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، فَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلَةً يقال لم الْجِنُّ فَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْهُمْ، وَكَانَ يُوَسْوِسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَعَصَى فَسَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَمَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كانَ مِنَ الْجِنِّ قَالَ: كان خازن الجنان، فسمي بالجنّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا: قَالَ إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ أَشْرَفِ الْمَلَائِكَةِ وَأَكْرَمِهِمْ قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ أَقْوَامًا زَعَمُوا أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، إِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصَّلُ الْإِنْسِ. وَأَخْرَجَ

[سورة الكهف (18) : الآيات 54 إلى 59]

ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ: يَقُولُ: مَا أَشْهَدْتُ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمْ مَعِي هَذَا وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً قَالَ: الشَّيَاطِينُ عَضُدًا، قَالَ: وَلَا اتَّخَذْتُهُمْ عَضُدًا عَلَى شَيْءٍ عَضَّدُونِي عَلَيْهِ فَأَعَانُونِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً يَقُولُ: مُهْلِكًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَهَنَّادٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: هُوَ وَادٍ عَمِيقٌ فِي النَّارِ فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَأَهْلِ الضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها قَالَ: علموا. [سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ افْتِخَارَ الْكَفَرَةِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، وَأَجَابَهُمْ عن ذلك وضرب لهم الأمثال الْوَاضِحَةَ، حَكَى بَعْضَ أَهْوَالِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا أَيْ: كَرَّرْنَا وَرَدَّدْنَا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ أَيْ: لِأَجْلِهِمْ وَلِرِعَايَةِ مَصْلَحَتِهِمْ وَمَنْفَعَتِهِمْ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْأَمْثَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وحين لَمْ يَتْرُكِ الْكُفَّارُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ، خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الكافر، واستدل على أن المراد الكفار بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ وَأَنَّ هَذَا النَّوْعَ أَكْثَرُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَأَتَّى مِنْهَا الْجِدَالُ جَدَلًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ لَيْلًا، فَقَالَ: أَلَا تُصَلِّيَانِ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ وَلَمْ يُرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَضْرِبُ فَخْذَهُ وَيَقُولُ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» . وَانْتِصَابُ جَدَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ. وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَكَرْنَا أَنَّ «أَنْ» الْأُولَى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَالثَّانِيَةَ فِي

مَحَلِّ رَفْعٍ، وَالْهُدَى الْقُرْآنُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ- هُنَا- هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَالْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مَا مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِلَّا طَلَبُ إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ، أَوِ انْتِظَارُ إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ، وَزَادَ الِاسْتِغْفَارَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ هُنَا مَا فَرَطَ مِنْهُمْ مَنِ الذُّنُوبِ الَّتِي من جملتها جدالهم بالباطل، وسنة الْأَوَّلِينَ هُوَ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا عُذِّبُوا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: سُنَّتُهُمُ هُوَ قَوْلُهُمْ: إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «1» الْآيَةَ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ أَيْ: عَذَابُ الْآخِرَةِ قُبُلًا قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ قُبُلًا جَمْعُ قَبِيْلٍ أَيْ: مُتَفَرِّقًا يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا، وَقِيلَ: عِيَانًا، وَقِيلَ: فَجْأَةً. وَيُنَاسِبُ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَعَاصِمٍ وَالْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ وَخَلَفٍ قُبُلًا بِضَمَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ جَمْعُ قَبَيْلٍ، نَحْوُ سَبِيلٍ وَسُبُلٍ، وَالْمُرَادُ أَصْنَافُ الْعَذَابِ وَيُنَاسِبُ التَّفْسِيرَ الثَّانِيَ أَيْ عِيَانًا، قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ: أَيْ: مُقَابَلَةً وَمُعَايَنَةً، وَقُرِئَ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَوْ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ مُسْتَقْبَلًا، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ. فَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ عَذَابِ الدُّنْيَا الْمُسْتَأْصِلِ لَهُمْ، أَوْ عِنْدَ إِتْيَانِ أَصْنَافِ عَذَابِ الْآخِرَةِ أَوْ مُعَايَنَتِهِ وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ مِنْ رُسُلِنَا إِلَى الْأُمَمِ إِلَّا حَالَ كَوْنِهِمْ مُبَشِّرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمُنْذِرِينَ لِلْكَافِرِينَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أَيْ: لِيُزِيلُوا بِالْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ الْحَقَّ وَيُبْطِلُوهُ. وَأَصْلُ الدَّحْضِ الزَّلَقُ يُقَالُ دَحَضَتْ رِجْلُهُ: أَيْ: زَلِقَتْ تَدْحَضُ دَحْضًا، وَدَحَضَتِ الشَّمْسُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ زَالَتْ، وَدَحَضَتْ حُجَّتُهُ دُحُوضًا: بَطَلَتْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ: أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْوَفَاءَ فَهِبْتَهُ ... وَحِدْتَ كَمَا حَادَ الْبَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ وَمِنْ مُجَادَلَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِالْبَاطِلِ قَوْلُهُمْ لِلرُّسُلِ: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا «2» ، وَنَحْوَ ذَلِكَ: وَاتَّخَذُوا آياتِي أَيْ: الْقُرْآنَ وَما أُنْذِرُوا بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ هُزُواً أَيْ: لَعِبًا وَبَاطِلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ لِنَفْسِهِ مِمَّنْ وُعِظَ بِآيَاتِ رَبِّهِ التَّنْزِيلِيَّةِ أَوِ التَّكْوِينِيَّةِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا، فَتَهَاوَنَ بِهَا وَأَعْرَضَ عَنْ قَبُولِهَا، وَلَمْ يَتَدَبَّرْهَا حَقَّ التَّدَبُّرِ، وَيَتَفَكَّرْ فِيهَا حَقَّ التَّفَكُّرِ وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، فَلَمْ يَتُبْ عَنْهَا. قِيلَ: وَالنِّسْيَانُ هُنَا بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ أَيْ: أَغْطِيَةً. وَالْأَكِنَّةُ: جَمْعُ كِنَانٍ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِإِعْرَاضِهِمْ وَنِسْيَانِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أَيْ: وَجَعَلْنَا فِي آذَانِهِمْ ثِقَلًا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِمَاعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ، وَصَاحِبُ الرَّحْمَةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا أَيْ: بِسَبَبِ مَا كَسَبُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْكُفْرُ وَالْمُجَادَلَةُ والإعراض

_ (1) . الأنفال: 32. [.....] (2) . يس: 15.

[سورة الكهف (18) : الآيات 60 إلى 70]

لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ بَلْ جُعِلَ لَهُمْ مَوْعِدٌ أَيْ: أَجَلٌ مُقَدَّرٌ لِعَذَابِهِمْ، قِيلَ: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي: ملجأ يلجئون إليه. وقال أبو عبيدة: منجى، وَقِيلَ: مَحِيصًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لا وَأَلَتْ نَفْسُكِ خَلِيَّتِهَا ... لِلْعَامِرِيِّينَ وَلَمْ تُكْلَمِ وَقَالَ الْأَعْشَى: وَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ الْبَيْتِ غَفْلَتَهُ ... وَقَدْ يُحَاذِرُ مِنِّي ثَمَّ مَا يَئِلُ أَيْ: مَا يَنْجُو. وَتِلْكَ الْقُرى أَيْ: قُرَى عَادٍ وَثَمُودٍ وَأَمْثَالُهَا أَهْلَكْناهُمْ هَذَا خَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْقُرَى صِفَتُهُ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: أَهْلُ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا أَيْ: وَقْتَ وُقُوعِ الظُّلْمِ مِنْهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أَيْ: وقتا معينا، وقرأ أبو بكر عن عَاصِمٌ «مَهْلَكِهِمْ» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ، وَهُوَ مَصْدَرُ هلك، وأجاز الكسائي والفراء وكسر اللَّامِ وَفَتْحَ الْمِيمِ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ حَفْصٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَهْلِكٌ اسْمٌ لِلزَّمَانِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِوَقْتِ مَهْلِكِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ قَالَ: عُقُوبَةُ الْأَوَّلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي قَوْلِهِ: قُبُلًا قَالَ: جَهَارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فَجْأَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ قَالَ: نَسِيَ مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ الْكَثِيرَةِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِما كَسَبُوا يَقُولُ: بِمَا عَمِلُوا. وَأَخْرَجَ ابن أبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ قَالَ: الْمَوْعِدُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَوْئِلًا قَالَ: مَلْجَأً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَوْئِلًا قال: محرزا. [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 70] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)

الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ اذْكُرْ. قِيلَ: وَوَجْهُ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقَالُوا: إِنْ أَخْبَرَكُمْ فَهُوَ نَبِيٌّ وَإِلَّا فَلَا. ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ مُوسَى وَالْخَضِرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مُوسَى الْمَذْكُورَ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ- لَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا تَقُولُهُ- مِنْهُمْ نَوْفٌ الَبِكَالِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ ابْنَ عِمْرَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ مِيشَى بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَكَانَ نَبِيًّا قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَدْ رَدَّهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِفَتَاهُ هُنَا هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهُ فِي الْمَائِدَةِ، وَفِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مُوسَى هُوَ ابْنُ مِيشَى قَالَ: إِنَّ هَذَا الْفَتَى لَمْ يَكُنْ هو يوشع ابن نُونٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ فَتَى مُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ مُلَازِمًا لَهُ يَأْخُذُ عَنْهُ الْعِلْمَ وَيَخْدِمُهُ، وَمَعْنَى لَا أَبْرَحُ لَا أَزَالُ، وَمِنْهُ قوله: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ «1» . وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَبْرَحُ مَا أَدَامَ اللَّهُ قَوْمِي ... بِحَمْدِ اللَّهِ مُنْتَطِقًا مُجِيدَا وَبَرِحَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى زَالَ فَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ، وَخَبَرُهُ هُنَا مَحْذُوفٌ اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا أَبْرَحُ بِمَعْنَى لَا أَزَالُ، وَقَدْ حُذِفَ الْخَبَرُ لِدَلَالَةِ حَالِ السَّفَرِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى أَبْلُغَ غَايَةٌ مَضْرُوبَةٌ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ ذِي غَايَةٍ، فَالْمَعْنَى: لَا أَزَالُ أَسِيرُ إِلَى أَنْ أَبْلُغَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ لَا يَبْرَحُ مَسِيرِي حَتَّى أَبْلُغَ وَقِيلَ: مَعْنَى لَا أَبْرَحُ: لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَرِحَ التام، بمعنى زال يزال، ومجمع الْبَحْرَيْنِ مُلْتَقَاهُمَا. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ بَحْرُ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَقِيلَ: بَحْرُ الْأُرْدُنِّ وَبَحْرُ الْقُلْزُمِ، وَقِيلَ: مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَ طَنْجَةَ، وَقِيلَ: بِإِفْرِيقِيَّةَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ مُوسَى وَالْخَضِرُ، وَهُوَ مِنَ الضَّعْفِ بِمَكَانٍ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا يَصِحُّ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أَيْ: أَسِيرُ زَمَانًا طَوِيلًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحُقْبُ بِالضَّمِّ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الَّذِي يَعَرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْحُقْبَ وَالْحُقْبَةَ زَمَانٌ مِنَ الدَّهْرِ مُبْهَمٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ، كَمَا أَنَّ رَهْطًا وَقَوْمًا مِنْهُمْ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ. وَسَبَبُ هَذِهِ الْعَزِيمَةِ عَلَى السَّيْرِ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ مُوسَى مَنْ أَعْلَمُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ أَعْلَمَ مِنْكَ عَبْدٌ لِي عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ فَلَمَّا بَلَغا أَيْ: مُوسَى وَفَتَاهُ مَجْمَعَ بَيْنِهِما أَيْ: بَيْنِ الْبَحْرِينِ، وَأُضِيفَ مَجْمَعُ إِلَى الظَّرْفِ تَوَسُّعًا، وَقِيلَ: الْبَيْنُ: بِمَعْنَى الِافْتِرَاقِ، أَيِ: الْبَحْرَانِ الْمُفْتَرِقَانِ يَجْتَمِعَانِ هُنَاكَ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِمُوسَى وَالْخَضِرِ، أَيْ: وَصَلَا الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ اجْتِمَاعُ شَمْلِهِمَا، وَيَكُونُ الْبَيْنُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْوَصْلِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى نَسِيا حُوتَهُما قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إنهما تزوّدا حوتا مملّحا في زنبيل، وكان يُصِيبَانِ مِنْهُ عِنْدَ حَاجَتِهِمَا إِلَى الطَّعَامِ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فُقْدَانَهُ أَمَارَةً لَهُمَا عَلَى وجدان المطلوب. والمعنى أنهما نسيا تفقّد أَمْرِهِ، وَقِيلَ: الَّذِي نَسِيَ إِنَّمَا هُوَ فَتَى مُوسَى لِأَنَّهُ وَكَّلَ أَمْرَ الْحُوتِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُ إِذَا فَقَدَهُ، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَضَعَ فَتَاهُ الْمِكْتَلَ الَّذِي فِيهِ الحوت فأحياه الله،

_ (1) . طه: 91.

فَتَحَرَّكَ وَاضْطَرَبَ فِي الْمِكْتَلِ، ثُمَّ انْسَرَبَ فِي الْبَحْرِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً انْتِصَابُ سَرَبًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لاتخذ، أَيِ: اتَّخَذَ سَبِيلًا سَرَبًا، وَالسَّرَبُ: النَّفَقُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْأَرْضِ لِلضَّبِّ وَنَحْوِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمْسَكَ جَرْيَةَ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي انْسَرَبَ فِيهِ الْحُوتُ، فَصَارَ كَالطَّاقِ، فَشَبَّهَ مَسْلَكِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ مَعَ بَقَائِهِ وَانْجِيَابِ الْمَاءِ عَنْهُ بِالسَّرَبِ الَّذِي هُوَ الْكُوَّةُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمَّا وَقَعَ فِي الْمَاءِ جَمَدَ مَذْهَبُهُ فِي الْبَحْرِ فَكَانَ كَالسَّرَبِ، فَلَمَّا جَاوَزَا ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَتْ عِنْدَهُ الصَّخْرَةُ وَذَهَبَ الْحُوتُ فِيهِ انْطَلَقَا، فَأَصَابَهُمَا مَا يُصِيبُ الْمُسَافِرَ مِنَ النَّصَبِ وَالْكَلَالِ، وَلَمْ يَجِدَا النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَا الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْخَضِرُ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: فَلَمَّا جاوَزا أَيْ: مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ الَّذِي جُعِلَ مَوْعِدًا لِلْمُلَاقَاةِ قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا وهو ما يأكل بِالْغَدَاةِ، وَأَرَادَ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْحُوتِ الَّذِي حَمَلَاهُ مَعَهُمَا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً أَيْ: تَعَبًا وَإِعْيَاءً، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ سَفَرِنَا هَذَا إِلَى السَّفَرِ الْكَائِنِ مِنْهُمَا بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَجِدَا النَّصَبَ إِلَّا فِي ذَلِكَ دُونَ مَا قَبْلَهُ قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أَيْ: قَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ تَعْجِيبُهُ لِمُوسَى مِمَّا وَقَعَ لَهُ مِنَ النِّسْيَانِ هُنَاكَ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ الْأَمْرِ مِمَّا لَا يُنْسَى لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ الْبَاهِرَةِ، وَمَفْعُولُ أَرَأَيْتَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَ مَا دَهَانِي، أَوْ نَابَنِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ. وَتِلْكَ الصَّخْرَةُ كَانَتْ عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ الَّذِي هُوَ الْمَوْعِدُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا دُونَ أَنْ يَذْكُرَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ لِكَوْنِهَا مُتَضَمِّنَةً لِزِيَادَةِ تَعْيِينِ الْمَكَانِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمَعُ مَكَانًا مُتَّسِعًا يَتَنَاوَلُ مَكَانَ الصَّخْرَةِ وَغَيْرَهُ، وَأَوْقَعَ النِّسْيَانَ عَلَى الْحُوتِ دُونَ الْغَدَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْغَدَاءَ الْمَطْلُوبَ هُوَ ذَلِكَ الْحُوتُ الَّذِي جَعَلَاهُ زَادًا لَهُمَا، وَأَمَارَةً لِوَجَدَانِ مَطْلُوبِهِمَا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ النِّسْيَانِ، فَقَالَ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ بما يقع منه من الوسوسة، وأَنْ أَذْكُرَهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَنْسَانِيهِ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: «وَمَا أَنْسَانِيهِ أَنْ أَذْكُرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ» . وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً انْتِصَابُ عَجَبًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي كَمَا مَرَّ فِي سَرَبًا، وَالظَّرْفُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ يُوشَعَ، أَخْبَرَ مُوسَى أَنَّ الْحُوتَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ عَجَبًا لِلنَّاسِ، وَمَوْضِعُ التَّعَجُّبِ أَنْ يَحْيَا حُوتٌ قَدْ مَاتَ وَأُكِلَ شِقُّهُ، ثُمَّ يَثِبُ إِلَى الْبَحْرِ، وَيَبْقَى أَثَرُ جَرْيَتِهِ فِي الْمَاءِ لَا يَمْحُو أَثَرَهَا جَرَيَانُ مَاءِ الْبَحْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِبَيَانِ طَرَفٍ آخَرَ مِنْ أَمْرِ الْحُوتِ، فَيَكُونُ مَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ اعْتِرَاضًا قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ أَيْ: قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتَ مِنْ فَقْدِ الْحُوتِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هُوَ الَّذِي كُنَّا نَطْلُبُهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي نُرِيدُهُ هُوَ هُنَالِكَ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أَيْ: رَجَعَا عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي جَاءَا مِنْهَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا لِئَلَّا يُخْطِئَا طَرِيقَهُمَا، وَانْتِصَابُ قَصَصًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: قَاصِّينَ أَوْ مُقْتَصِّينَ، وَالْقَصَصُ فِي اللُّغَةِ: اتِّبَاعُ الْأَثَرِ فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا هُوَ الْخَضِرُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَخَالَفَ فِي ذلك ما لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ لَيْسَ هُوَ الْخَضِرَ بَلْ عَالِمٌ آخَرُ، قِيلَ: سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ، قِيلَ: وَاسْمُهُ بَلِيَا بْنُ مِلْكَانَ، ثُمَّ وَصَفَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: آتَيْناهُ

رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا قِيلَ: الرَّحْمَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: النِّعْمَةُ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وَهُوَ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ مِنْ لَدُنَّا تَفْخِيمٌ لِشَأْنِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَتَعْظِيمٌ لَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِيمَا فَعَلَ مُوسَى وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالرِّحْلَةِ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ طَلَبَ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ نِهَايَتَهُ، وَأَنْ يَتَوَاضَعَ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ. ثُمَّ قَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا مَا دَارَ بَيْنَ مُوسَى وَالْخَضِرِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا فَقَالَ: قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً فِي هَذَا السُّؤَالِ مُلَاطَفَةٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي حُسْنِ الْأَدَبِ لِأَنَّهُ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ عَلَى أَنْ يُعْلِّمَهُ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ. وَالرُّشْدُ: الْوُقُوفُ عَلَى الْخَيْرِ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتُعَلِّمَنِي، أَيْ: عِلْمًا ذَا رُشْدٍ أَرْشُدُ بِهِ، وَقُرِئَ «رَشَدًا» بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْبُخْلِ وَالْبَخَلِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ الْمُتَعَلِّمَ تَبَعٌ لِلْعَالِمِ وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الْمَرَاتِبُ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى، فَقَدْ يَأْخُذُ الْفَاضِلُ عَنِ الْفَاضِلِ، وَقَدْ يَأْخُذُ الْفَاضِلُ عَنِ الْمَفْضُولِ إِذَا اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِعِلْمٍ لَا يَعْلَمُهُ الْآخَرُ، فَقَدْ كَانَ عِلْمُ مُوسَى عِلْمَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقَضَاءِ بِظَاهِرِهَا، وَكَانَ عِلْمُ الْخَضِرِ عِلْمَ بَعْضِ الْغَيْبِ وَمَعْرِفَةِ الْبَوَاطِنِ قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أَيْ: قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: إِنَّكَ لَا تُطِيقُ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى مَا تَرَاهُ مِنْ عِلْمِي لِأَنَّ الظَّوَاهِرَ الَّتِي هِيَ عِلْمُكَ لَا تُوَافِقُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ مُشِيرًا إِلَى عِلَّةِ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَقَالَ: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً أَيْ: كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى عِلْمٍ ظَاهِرُهُ مُنْكَرٌ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ، وَمِثْلُكَ مَعَ كَوْنِكَ صَاحِبَ شَرْعٍ لَا يَسُوغُ لَهُ السكوت على منكر والإقرار عليه، وخبرا مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرَكَ، وَالْخُبْرُ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، وَالْخَبِيرُ بِالْأُمُورِ: هُوَ الْعَالِمُ بِخَفَايَاهَا، وَبِمَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاخْتِبَارِ مِنْهَا قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً أَيْ: قَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ: سَتَجِدُنِي صَابِرًا مَعَكَ، مُلْتَزِمًا طَاعَتَكَ وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً فَجُمْلَةُ وَلَا أَعْصِي مَعْطُوفَةٌ عَلَى صَابِرًا، فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ شَامِلًا لِلصَّبْرِ وَنَفِيِ الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمَشِيئَةِ مُخْتَصٌّ بِالصَّبْرِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ لَا يَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ فِيهِ، وَنَفْيُ الْمَعْصِيَةِ مَعْزُومٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الصَّبْرَ، وَنَفْيَ الْمَعْصِيَةِ مُتَّفِقَانِ في كون كل واحد منهما معزوم عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَفِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَدْرِي كَيْفَ حَالُهُ فِيهِ فِي المستقبل. قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تُشَاهِدُهُ مِنْ أَفْعَالِي الْمُخَالِفَةِ لِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أَيْ: حَتَّى أَكُونَ أَنَا الْمُبْتَدِئَ لَكَ بِذِكْرِهِ، وَبَيَانِ وجهه وما يؤول إليه، وهذه الجمل المعنونة بقال وَقَالَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا جَوَابَاتٌ عَنْ سُؤَالَاتٍ مُقَدَّرَةٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ يَنْشَأُ السُّؤَالُ عَنْهَا مِمَّا قَبْلَهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْخَضِرُ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَنُسِئَ لَهُ فِي أَجْلِهِ، حَتَّى يُكَذِّبَ الدَّجَّالَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءٌ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ

فِي قَوْلِهِ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. قَالَ: بَحْرُ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمَا نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ إِفْرِيقِيَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: طَنْجَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً قَالَ: سَبْعِينَ خَرِيفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: دَهْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: نَسِيا حُوتَهُما قَالَ: كَانَ مَمْلُوحًا مَشْقُوقَ الْبَطْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً قَالَ: أَثَرُهُ يَابِسٌ فِي الْبَحْرِ كَأَنَّهُ فِي حَجَرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قَالَ: عَوْدُهُمَا عَلَى بَدْئِهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا قَالَ: أَعْطَيْنَاهُ الْهُدَى وَالنُّبُوَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدْ رُوِيَتْ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَأَتَمُّهَا وَأَكْمَلُهَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنَّهَا اخْتَلَفَتْ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ، وَكُلُّهَا مَرْوِيَّةٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ، وَبَعْضُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَبَعْضُهَا فِي أَحَدِهِمَا، وَبَعْضُهَا خَارِجٌ عَنْهُمَا. وَقَدْ رُوِيَتْ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَمِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ عِنْدَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْخَطِيبِ وَابْنِ عَسَاكِرَ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي هِيَ أَتَمُّ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَفِي ذَلِكَ مَا يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ، وَهِيَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الَبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذِبَ عَدُوُّ اللَّهِ. حَدَّثَنَا أُبِيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ. ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يوشع بن نون، حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، حَتَّى إِذَا كَانَا مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا فَقَالَ مُوسَى: ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قَالَ سُفْيَانُ: يَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّ تِلْكَ الصَّخْرَةَ عِنْدَهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ لَا يُصِيبُ مَاؤُهَا مَيْتًا إِلَّا عَاشَ، قَالَ: وَكَانَ الْحُوتُ قَدْ أُكِلَ مِنْهُ، فَلَمَّا قُطِّرَ عَلَيْهِ الْمَاءُ عَاشَ، قَالَ: فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسْجًى بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَيْتُكَ

[سورة الكهف (18) : الآيات 71 إلى 82]

لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ عَلَّمَكَ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ قَالَ مُوسَى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَقَالَ له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً؟ قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، قالَ: لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَكَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ الَّذِي وَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً- قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى. قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً- فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قال: مائل، فقال خضر بِيَدِهِ هَكَذَا فَأَقَامَهُ، فَ قالَ مُوسَى: قَوْمٌ آتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلِمَ يُضَيِّفُونَا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً- قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: «وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا» وَكَانَ يَقْرَأُ: «وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنِينَ» وَبَقِيَّةُ رِوَايَاتِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الْأَلْفَاظُ فِي بَعْضِهَا، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِطَالَةِ بذكرها، وكذلك روايات غير سعيد عنه. [سورة الكهف (18) : الآيات 71 الى 82] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)

قَوْلُهُ: فَانْطَلَقا أَيْ: مُوسَى وَالْخَضِرُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يَطْلُبَانِ السَّفِينَةَ، فَمَرَّتْ بِهِمْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَحَمَلُوهُمْ حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قِيلَ: قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا، وَقِيلَ: لَوْحَيْنِ مِمَّا يَلِي الْمَاءَ، وَقِيلَ: خَرَقَ جِدَارَ السَّفِينَةِ لِيَعِيبَهَا، وَلَا يَتَسَارَعُ الْغَرَقُ إِلَى أَهْلِهَا قالَ مُوسَى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أَيْ: لَقَدْ أَتَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، يُقَالُ: أَمِرَ الْأَمْرُ إِذَا كَبُرَ، وَالْأَمْرُ: الِاسْمُ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَمْرُ: الدَّاهِيَةُ الْعَظِيمَةُ وَأَنْشَدَ: قَدْ لَقِيَ الْأَقْرَانُ مِنِّي نُكْرًا ... داهية دهياء إدّا «1» إمرا وقال القتبي: الْأَمْرُ: الْعَجَبُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَمِرَ أَمْرُهُ يَأْمُرُ إِذَا اشْتَدَّ، وَالِاسْمُ الْأَمْرُ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ لِيَغْرَقَ أَهْلُهَا بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَرَفْعِ أَهْلِهَا عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ الْمَضْمُومَةِ وَنَصْبِ أَهْلِهَا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ قالَ أَيْ: الْخَضِرُ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أَذْكَرَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ لَهُ سَابِقًا: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ف قالَ لَهُ مُوسَى لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِنِسْيَانِي أَوْ مَوْصُولَةً، أَيْ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِالَّذِي نسيته، وهو قول الخضر: فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فَالنِّسْيَانُ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ مُوسَى نَسِيَ ذَلِكَ، أَوْ بِمَعْنَى التَّرْكِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَمْ يَنْسَ مَا قَالَهُ لَهُ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً قَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَرْهَقْتُهُ عُسْرًا: إِذَا كَلَّفْتَهُ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى عَامِلْنِي بِالْيُسْرِ لَا بِالْعُسْرِ. وَقُرِئَ عُسُرًا بِضَمَّتَيْنِ فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ أَيْ: الْخَضِرُ، وَلَفْظُ الْغُلَامِ يَتَنَاوَلُ الشَّابَّ الْبَالِغَ كَمَا يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ، قِيلَ: كَانَ الْغُلَامُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَاقْتَلَعَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ قالَ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأُوَيْسٌ بِأَلِفٍ بَعْدَ الزَّايِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ اسْمُ فَاعِلٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ دُونِ أَلِفٍ، الزَّاكِيَةُ: الْبَرِيئَةُ مِنَ الذُّنُوبِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الزَّاكِيَةُ: الَّتِي لَمْ تُذْنِبْ، وَالزَّكِيَّةُ: الَّتِي أَذْنَبَتْ ثُمَّ تَابَتْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الزَّاكِيَةُ وَالزَّكِيَّةُ لُغَتَانِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الزَّاكِيَةُ وَالزَّكِيَّةُ مِثْلُ الْقَاسِيَةِ وَالْقَسِيَّةِ، وَمَعْنَى بِغَيْرِ نَفْسٍ بِغَيْرِ قَتْلِ نَفْسٍ مُحَرَّمَةٍ حَتَّى يَكُونَ قَتْلُ هَذِهِ قِصَاصًا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أَيْ: فَظِيعًا مُنْكَرًا لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ. قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْكَرُ مِنَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِ الْقَتْلِ لَا يُمَكِنُ تَدَارُكُهُ، بِخِلَافِ نَزْعِ اللَّوْحِ مِنَ السَّفِينَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بِإِرْجَاعِهِ وَقِيلَ: النُّكْرُ أَقَلُّ مِنَ الْإِمْرِ لِأَنَّ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَهْوَنُ مِنْ إِغْرَاقِ أَهْلِ السَّفِينَةِ. قِيلَ: اسْتَبْعَدَ مُوسَى أَنْ يَقْتُلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَلَمْ يَتَأَوَّلْ للخضر بأنه يحلّ القتل بأسباب أخرى قالَ الْخَضِرُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً زَادَ هُنَا لَفْظَ لَكَ لِأَنَّ سَبَبَ الْعِتَابِ أَكْثَرُ، وَمُوجِبَهُ أَقْوَى وَقِيلَ: زَادَ لَفْظُ لَكَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ كَمَا تَقُولُ لمن توبّخه:

_ (1) . في المطبوع: وأمرا، والمثبت من مجاز القرآن (1/ 409) وتفسير القرطبي (11/ 19) .

لَكَ أَقُولُ وَإِيَّاكَ أَعْنِي قالَ مُوسَى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، أَوْ بَعْدَ هَذِهِ النَّفْسِ الْمَقْتُولَةِ فَلا تُصاحِبْنِي أَيْ: لَا تَجْعَلْنِي صَاحِبًا لَكَ، نَهَاهُ عَنْ مُصَاحَبَتِهِ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى التَّعَلُّمِ لِظُهُورِ عُذْرِهِ، وَلِذَا قَالَ: قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً يُرِيدُ أَنَّكَ قَدْ أَعْذَرْتَ حَيْثُ خَالَفْتُكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا كَلَامُ نَادِمٍ شَدِيدِ النَّدَامَةِ، اضْطَرَّهُ الْحَالُ إِلَى الِاعْتِرَافِ وَسُلُوكِ سَبِيلِ الْإِنْصَافِ. قَرَأَ الْأَعْرَجُ تَصْحَبَنِّي بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُصاحِبْنِي وَقَرَأَ يَعْقُوبُ تُصْحِبْنِي بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَرَوَاهَا سَهْلٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَتْرُكْنِي أَصْحَبُكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَدُنِّي بِضَمِّ الدَّالِ إِلَّا أَنَّ نَافِعًا وَعَاصِمًا خَفَّفَا النُّونَ، وَشَدَّدَهَا الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ لَدُنِّي بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الدَّالِ. قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَهِيَ غَلَطٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا التَّغْلِيطُ لَعَلَّهُ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ الْعَرَبِيَّةِ فَصَحِيحَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عُذْراً بِسُكُونِ الذَّالِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِضَمِّ الذَّالِ. وَحَكَى الدَّانِيُّ أَنَّ أُبَيًّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا، بِإِضَافَةِ الْعُذْرِ إِلَى نَفْسِهِ فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ قِيلَ: هِيَ أَيْلَةُ، وَقِيلَ: أَنْطَاكِيَةُ، وَقِيلَ: بَرْقَةُ، وَقِيلَ: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى أَذْرَبِيجَانَ، وَقِيلَ: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الرُّومِ اسْتَطْعَما أَهْلَها هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لقرية، وَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، أَوْ لِكَرَاهَةِ اجْتِمَاعِ الضَّمِيرَيْنِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْكُلْفَةِ، أَوْ لِزِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِإِظْهَارِهِمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما أَيْ: أَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمَا مَا هُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ مِنْ ضِيَافَتِهِمَا، فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ السُّؤَالِ وَحِلِّ الْكُدْيَةِ «1» فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً بَيِّنًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ: فَإِنْ رُدِدْتُ فَمَا فِي الرَّدِّ مَنْقَصَةٌ ... عَلِيَّ قَدْ رُدَّ مُوسَى قَبْلُ وَالْخَضِرُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ تَحْرِيمُ السُّؤَالِ بِمَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْكَثِيرَةِ فَوَجَدا فِيها أَيْ: فِي الْقَرْيَةِ جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ إِسْنَادُ الْإِرَادَةِ إِلَى الْجِدَارِ مَجَازٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْجِدَارُ لَا يُرِيدُ إِرَادَةً حَقِيقِيَّةً إِلَّا أَنَّ هَيْئَةَ السُّقُوطِ قَدْ ظَهَرَتْ فِيهِ كَمَا تَظْهَرُ أَفْعَالُ الْمُرِيدِينَ الْقَاصِدِينَ فَوُصِفَ بالإرادة، ومنه قول الرّاعي: في مهمه فلقت به هاماتها ... فلق الْفُؤُوسِ إِذَا أَرَدْنَ نُصُولَا وَمَعْنَى الِانْقِضَاضِ: السُّقُوطُ بِسُرْعَةٍ، يُقَالُ: انْقَضَّ الْحَائِطُ إِذَا وَقَعَ، وَانْقَضَّ الطَّائِرُ: إِذَا هَوَى مِنْ طَيَرَانِهِ فَسَقَطَ عَلَى شَيْءٍ، وَمَعْنَى فَأَقَامَهُ: فَسَوَّاهُ لِأَنَّهُ وَجَدَهُ مَائِلًا فَرَدَّهُ كَمَا كَانَ، وَقِيلَ: نَقَضَهُ وَبَنَاهُ، وَقِيلَ: أَقَامَهُ بِعَمُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ مَسَحَهُ بِيَدِهِ قالَ مُوسَى لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أَيْ: عَلَى إِقَامَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ، تَحْرِيضًا مِنْ مُوسَى لِلْخَضِرِ عَلَى أَخْذِ الْأَجْرِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ لَوْ شِئْتَ لَمْ تُقِمْهُ حَتَّى يُقْرُونَا فَهُوَ الْأَجْرُ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْيَزِيدِيُّ وَالْحَسَنُ «لَتَخَذْتَ» يُقَالُ: تَخَذَ فُلَانٌ يَتْخَذُ تَخْذًا مِثْلُ اتَّخَذَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ لَاتَّخَذْتَ قالَ الْخَضِرُ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ

_ (1) . «الكدية» : تكفّف الناس والاستجداء.

عَلَى إِضَافَةِ فِرَاقُ إِلَى الظَّرْفِ اتِّسَاعًا، أَيْ: هَذَا الْكَلَامُ وَالْإِنْكَارُ مِنْكَ عَلَى تَرْكِ الْأَجْرِ هُوَ الْمُفَرِّقُ بَيْنَنَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى هَذَا فِرَاقُ بَيْنِنَا، أَيْ: هَذَا فِرَاقُ اتِّصَالِنَا، وَكَرَّرَ بَيْنَ تَأْكِيدًا، وَلَمَّا قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى بِهَذَا أَخَذَ فِي بَيَانِ الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ بِسَبَبِهِ تِلْكَ الْأَفْعَالَ الَّتِي أَنْكَرَهَا مُوسَى فَقَالَ: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً وَالتَّأْوِيلُ: رُجُوعُ الشَّيْءِ إِلَى مَآلِهِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْبَيَانِ لَهُ فَقَالَ: أَمَّا السَّفِينَةُ يَعْنِي الَّتِي خَرَقَهَا فَكانَتْ لِمَساكِينَ لِضُعَفَاءَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ مَنْ أَرَادَ ظُلْمَهُمْ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ غَيْرَ تِلْكَ السَّفِينَةِ يكرونها من الذي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ وَيَأْخُذُونَ الْأُجْرَةَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أَيْ: أَجْعَلَهَا ذَاتَ عَيْبٍ بِنَزْعِ مَا نَزَعْتُهُ مِنْهَا وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ قال المفسرون: يعني أمامهم، ووراء يَكُونُ بِمَعْنَى أَمَامَ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ «1» وَقِيلَ: أَرَادَ خَلْفَهُمْ، وَكَانَ طَرِيقُهُمْ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ بِأَنَّهُ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ لَا مَعِيبَةٍ، وَقَدْ قُرِئَ بِزِيَادَةِ «صَالِحَةٍ» رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ بِتَشْدِيدِ السِّينِ مِنْ مَسَاكِينَ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا، فَقِيلَ: هُمْ مَلَّاحُو السَّفِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَسَّاكَ هُوَ الَّذِي يُمْسِكُ السَّفِينَةَ، وَالْأَظْهَرُ قِرَاءَةٌ الْجُمْهُورِ: بِالتَّخْفِيفِ وَأَمَّا الْغُلامُ يَعْنِي الَّذِي قَتَلَهُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ هُوَ كَذَلِكَ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما أَيْ: يُرْهِقَ الْغُلَامُ أَبَوَيْهِ، يُقَالُ: رَهَقَهُ، أَيْ: غَشِيَهُ، وَأَرْهَقَهُ: أَغَشَاهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ خَشِينَا أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أن يتبعاه في دينه، وهو الكفر، وطُغْياناً مَفْعُولُ يُرْهِقَهُمَا وَكُفْراً مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَ الْوَالِدَيْنِ طُغْيَانًا عَلَيْهِمَا وَكُفْرًا لِنِعْمَتِهِمَا بِعُقُوقِهِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَخَشِينَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَيَكُونَ الْمَعْنَى: كَرِهْنَا كَرَاهَةَ مَنْ خَشِيَ سُوءَ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ فَغَيَّرَهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْخَضِرِ. وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَتْلَ الْخَضِرِ لِهَذَا الْغُلَامِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ بَالِغًا، وَقَدِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِكُفْرِهِ، وَقِيلَ: كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ لِذَلِكَ، وَيَكُونُ مَعْنَى فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً: أَنَّ الْخَضِرَ خَافَ عَلَى الْأَبَوَيْنِ أَنْ يَذُبَّا عَنْهُ وَيَتَعَصَّبَا لَهُ فَيَقَعَا فِي الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ وَالِارْتِدَادِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي قَتْلِ الْخَضِرِ لَهُ إِذَا كَانَ بَالِغًا كَافِرًا، أَوْ قَاطِعًا لِلطَّرِيقِ، هَذَا فِيمَا تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْخَضِرِ شَرِيعَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تُسَوِّغُ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْغُلَامُ صَبِيًّا غَيْرَ بَالِغٍ، فَقِيلَ: إِنَّ الْخَضِرَ عَلِمَ بِإِعْلَامِ اللَّهِ لَهُ أَنَّهُ لَوْ صَارَ بَالِغًا لَكَانَ كَافِرًا يَتَسَبَّبُ عَنْ كُفْرِهِ إِضْلَالُ أَبَوَيْهِ وَكُفْرُهُمَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ يَأْبَاهُ، فَإِنَّ قَتْلَ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَلَا قَدْ جَرَى عَلَيْهِ قَلَمُ التَّكْلِيفِ لِخَشْيَةِ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَا يَجُوزُ بِهِ قَتْلُهُ لَا يَحِلُّ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ حَلَّ فِي شَرِيعَةٍ أُخْرَى، فَلَا إِشْكَالَ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْخَضِرَ كَانَ نَبِيًّا فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَالْمَعْنَى: أَرَدْنَا أَنْ يَرْزُقَهُمَا اللَّهُ بَدَلَ هَذَا الْوَلَدِ وَلَدًا خَيْرًا مِنْهُ زَكاةً أَيْ: دِينًا وَصَلَاحًا

_ (1) . إبراهيم: 17.

وَطَهَارَةً مِنَ الذُّنُوبِ وَأَقْرَبَ رُحْماً قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ كَثِيرِ وَابْنُ عَامِرٍ رُحْماً بِضَمِّ الْحَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا، وَمَعْنَى الرحم: الرحمة، يقال: رحمه الله رحمة ورحمي، وَالْأَلِفُ لِلتَّأْنِيثِ وَأَمَّا الْجِدارُ يَعْنِي الَّذِي أَصْلَحَهُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ هِيَ الْقَرْيَةُ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا، وَفِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَدِينَةِ عَلَى الْقَرْيَةِ لُغَةً وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قِيلَ: كَانَ مَالًا جَسِيمًا كَمَا يُفِيدُهُ اسْمُ الْكَنْزِ، إِذْ هُوَ الْمَالُ الْمَجْمُوعُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْكَنْزَ إِذَا أُفْرِدَ فَمَعْنَاهُ الْمَالُ الْمَدْفُونُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالًا قِيلَ: كَنْزُ عِلْمٍ وَكَنْزُ فَهْمٍ وَقِيلَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ وَقِيلَ: صُحُفٌ مَكْتُوبَةٌ وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَكَانَ صَلَاحُهُ مُقْتَضِيًا لِرِعَايَةِ وَلَدَيْهِ وَحِفْظِ مَالِهِمَا، قِيلَ: هُوَ الَّذِي دَفَنَهُ، وَقِيلَ هُوَ الْأَبُ السَّابِعُ مِنْ عِنْدِ الدَّافِنِ لَهُ، وَقِيلَ الْعَاشِرُ فَأَرادَ رَبُّكَ أَيْ: مَالِكُكَ وَمُدَبِّرُ أَمْرِكَ، وَأَضَافَ الرَّبَّ إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى تَشْرِيفًا لَهُ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أَيْ: كَمَالَهُمَا وَتَمَامَ نُمُوِّهِمَا وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجِدَارُ، وَلَوِ انْقَضَّ لَخَرَجَ الْكَنْزُ مِنْ تَحْتِهِ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لَهُمَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مَرْحُومَيْنِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أَيْ: عَنِ اجْتِهَادِي وَرَأْيِي، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، فَقَدْ عَلِمَ بِقَوْلِهِ: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ الْخَضِرُ عَنْ أَمْرِ نَفْسِهِ ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَيْ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ تلك البيانات الَّتِي بَيَّنْتُهَا لَكَ وَأَوْضَحْتُ وُجُوهَهَا تَأْوِيلُ مَا ضَاقَ صَبْرُكَ عَنْهُ وَلَمْ تُطِقِ السُّكُوتَ عَلَيْهِ وَمَعْنَى التَّأْوِيلِ هُنَا هُوَ الْمَآلُ الَّذِي آلَتْ إِلَيْهِ تِلْكَ الْأُمُورُ، وَهُوَ اتِّضَاحُ مَا كَانَ مُشْتَبِهًا عَلَى مُوسَى وَظُهُورِ وَجْهِهِ، وَحُذِفَ التَّاءُ مِنْ تَسْطِعْ تَخْفِيفًا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً يَقُولُ: نُكْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِمْراً فقال: عَجَبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ قَالَ: لَمْ يَنْسَ، وَلَكِنَّهَا مَنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ الْخَضِرُ عَبْدًا لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ، إِلَّا مَنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِيَّاهُ، فَلَمْ يَرَهُ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا مُوسَى، وَلَوْ رَآهُ الْقَوْمُ لَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَبَيْنَ قَتْلِ الْغُلَامِ. وَأَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنَدُهُ إِلَّا قَوْلَهُ: وَلَوْ رَآهُ الْقَوْمُ إِلَخْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لِمَا ذَكَرَهُ، أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ أَهْلُ السَّفِينَةِ وَأَهْلُ الْغُلَامِ، لَا لِكَوْنِهِ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ، بَلْ لِكَوْنِهِ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعِهِمْ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَيُمْكِنُ أَنَّ أَهَلَ السَّفِينَةِ وَأَهْلَ الْغُلَامِ قَدْ عَرَفُوهُ وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُ الْأَنْبِيَاءُ، فَسَلَّمُوا لِأَمْرِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: نَفْساً زَكِيَّةً قَالَ: مُسْلِمَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمْ تَبْلُغِ الْخَطَايَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: شَيْئاً نُكْراً قَالَ: النُّكْرُ: أَنْكَرُ مِنَ الْعَجَبِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنْ كُنْتَ الْخَضِرَ تَعْرِفُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ فَاقْتُلْهُمْ. وَزَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى

عَنْهُ: وَلَكِنَّكَ لَا تَعْلَمُ، قَدْ نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِمْ فَاعْتَزِلْهُمْ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا، وَلَوْ أَدْرَكَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً مُثَقَّلَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: أَنْ يُضَيِّفُوهُما مُشَدَّدَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَهَدَمَهُ، ثُمَّ قَعَدَ يَبْنِيهِ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا أَنَّهُ مَسَحَهُ بِيَدِهِ أَوْلَى. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً مُخَفَّفَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى، لَوْ صَبَرَ لَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِ، وَلَكِنْ قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ قَالَ: كَتَبَ عُثْمَانُ «وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: «وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ «فَخَافَ رَبُّكَ أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خَيْراً مِنْهُ زَكاةً قَالَ: دِينًا وَأَقْرَبَ رُحْماً قَالَ: مَوَدَّةً، فَأُبْدِلَا جَارِيَةً وَلَدَتْ نَبِيًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قَالَ: كَانَ الْكَنْزُ لِمَنْ قَبْلَنَا وَحُرِّمَ عَلَيْنَا، وَحُرِّمَتِ الْغَنِيمَةُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا وَأُحِلَّتْ لَنَا، فَلَا يَعْجَبَنَّ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: فَمَا شَأْنُ الْكَنْزِ؟ أُحِلَّ لِمَنْ قَبْلَنَا وَحُرِّمَ عَلَيْنَا؟ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِلُّ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ، وَهِيَ السُّنَنُ وَالْفَرَائِضُ، يُحِلُّ لِأُمَّةٍ وَيُحْرِّمُ عَلَى أُخْرَى. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وصححه، وابن مردويه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قَالَ: «ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قَالَ: أُحِلَّتْ لَهُمُ الْكُنُوزُ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الْغَنَائِمُ، وَأُحِلَّتْ لَنَا الْغَنَائِمُ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْكُنُوزُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ قَالَ: إِنَّ الْكَنْزَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ مُصْمَتٌ فِيهِ: عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ نَصِبَ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ ذَكَرَ النَّارَ ثُمَّ ضَحِكَ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ ذَكَرَ الْمَوْتَ ثُمَّ غَفَلَ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَفِي نَحْوِ هَذَا رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِذِكْرِهَا فَائِدَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَالْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي

[سورة الكهف (18) : الآيات 83 إلى 91]

قَوْلِهِ: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قَالَ: حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُصْلِحُ بِصَلَاحِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَأَهْلَ دُوَيْرَتِهِ وَأَهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى مَا دَامَ فِيهِمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بِصَلَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَيَحْفَظُهُ فِي دُوَيْرَتِهِ، وَالدُّوَيْرَاتِ حَوْلَهُ، فَمَا يَزَالُونَ فِي سِتْرٍ مِنَ اللَّهِ وَعَافِيَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عِمَارَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ نَسْمَعْ لِفَتَى مُوسَى بِذِكْرٍ وَقَدْ كَانَ مَعَهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال: إِنَّهُ شَرِبَ مِنَ الْمَاءِ فَخُلِّدَ، فَأَخَذَهُ الْعَالِمُ فَطَابَقَ بِهِ سَفِينَةً ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهَا لَتَمُوجُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، الْحَسَنُ مَتْرُوكٌ، وأبوه غير معروف. [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 91] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) لَمَّا أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ سُؤَالَيْنِ مِنْ سُؤَالَاتِ الْيَهُودِ، وَانْتَهَى الْكَلَامُ إِلَى حَيْثُ انْتَهَى شَرْعَ سُبْحَانَهُ فِي السُّؤَالِ الثَّالِثِ وَالْجَوَابِ عَنْهُ، فَالْمُرَادُ بِالسَّائِلِينَ هُنَا هُمُ الْيَهُودُ. وَاخْتَلَفُوا فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَقِيلَ: هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلْقُوسَ الَّذِي مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا الْيُونَانِيُّ بَانِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مصر، اسمه مرزبان بن مردبة الْيُونَانِيُّ، مِنْ وَلَدِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَلِكٌ اسْمُهُ هُرْمُسُ، وَقِيلَ: مَلِكٌ اسْمُهُ هَرْدِيسُ، وَقِيلَ: شَابٌ مِنَ الرُّومِ، وَقِيلَ: كَانَ نَبِيًّا، وَقِيلَ: كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاكِ، وَقِيلَ: مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ أَوْلَادِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ السُّهَيْلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ عِلْمِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُمَا اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْآخَرُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: هُوَ أَبُو كَرِبٍ الْحِمْيَرِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَرَجَّحَ الرَّازِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، قَالَ: لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ مُلْكُهُ مِنَ السِّعَةِ وَالْقُوَّةِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا التَّنْزِيلُ إِنَّمَا هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ الْيُونَانِيُّ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ كُتُبُ التَّارِيخِ، قَالَ: فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ، قَالَ: وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ كَانَ تِلْمِيذًا لِأَرِسْطَاطَالِيسَ الْحَكِيمِ، وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَتَعْظِيمُ اللَّهِ إِيَّاهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِأَنَّ مَذْهَبَ أَرِسْطَاطَالِيسَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: قُلْتُ: لَيْسَ كُلُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ بَاطِلًا فَلَعَلَّهُ أَخَذَ مِنْهُمْ مَا صَفَا وَتَرَكَ مَا كَدُرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَجَّحَ ابْنُ كَثِيرٍ مَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُمَا اثْنَانِ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ طَافَ بِالْبَيْتِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ مَا بَنَاهُ وَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، وَكَانَ وَزِيرَهُ الْخَضِرُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الْإِسْكَنْدَرُ الْمَقْدُونِيُّ الْيُونَانِيُّ، وَكَانَ وزيره

الْفَيْلَسُوفُ الْمَشْهُورُ أَرِسْطَاطَالِيسُ، وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ فَكَانَ فِي زَمَنِ الْخَلِيلِ، هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ رَاوِيًا لَهُ عَنِ الْأَزْرَقِيِّ وَغَيْرِهِ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ ذكرنا طرفا صالحا من أَخْبَارِهِ فِي كِتَابِ «الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ» بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَحَكَى أَبُو السُّعُودِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا بَيَّنَّا هَذَا يَعْنِي أَنَّهُمَا اثْنَانِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ هُوَ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ، فَيَقَعُ بِذَلِكَ خَطَأٌ كَبِيرٌ وَفَسَادٌ كَثِيرٌ، كَيْفَ لَا، وَالْأَوَّلُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا مُؤْمِنًا، وَمَلِكًا عَادِلًا، وَوَزِيرُهُ الْخَضِرُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ كَانَ كَافِرًا، وَوَزِيرُهُ أَرِسْطَاطَالِيسُ الْفَيْلَسُوفُ، وَكَانَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الزَّمَانِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ؟ انْتَهَى. قُلْتُ: لَعَلَّهُ ذَكَرَ هَذَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ سَابِقًا، وَسَمَّاهُ بِالْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ كُتُبِ التَّارِيخِ هُوَ أَنَّهُمَا اثْنَانِ كَمَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَالْأَزْرَقِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمْ، لَا كَمَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وَادَّعَى أَنَّهُ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ كُتُبُ التَّوَارِيخِ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ هَلْ هُوَ نَبِيٌّ أَمْ لَا؟ وَسَيَأْتِي مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ آخِرَ هَذَا الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهُ سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْأَزْهَرِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، لِأَنَّهُ بَلَغَ قَرْنَ الشَّمْسِ مِنْ مَطْلَعِهَا، وَقَرْنَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ ضَفِيرَتَانِ مِنْ شَعَرٍ، وَالضَّفَائِرُ تُسَمَّى قُرُونًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا ... شُرْبَ النَّزِيفِ «2» بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ وَالْحَشْرَجُ: مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ وَقِيلَ: إِنَّهُ رَأَى فِي أَوَّلِ مُلْكِهِ كَأَنَّهُ قَابِضٌ عَلَى قَرْنَيِ الشَّمْسِ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ وَقِيلَ: كَانَ لَهُ قَرْنَانِ تَحْتَ عِمَامَتِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ دَعَا إِلَى اللَّهِ فَشَجَّهُ قَوْمُهُ عَلَى قَرْنِهِ، ثُمَّ دَعَا إلى الله فشجوه على قرنه الآخر وقيل: إِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَرِيمُ الطَّرَفَيْنِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ شَرَفٍ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ انْقَرَضَ فِي وَقْتِهِ قَرْنَانِ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ حَيُّ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا قَاتَلَ قَاتَلَ بِيَدَيْهِ وَرِكَابَيْهِ جَمِيعًا وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أُعْطِيَ عِلْمَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ دَخَلَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَلَكَ فَارِسَ وَالرُّومَ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَلَكَ الرُّومَ وَالتُّرْكَ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كان لتاجه قرنان. قوله: قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً أَيْ: سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ أَيُّهَا السَّائِلُونَ مِنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ خَبَرًا، وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ الْمَتْلُوِّ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ سَيَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْهُ ذِكْرًا، فَقَالَ: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أَيْ: أَقْدَرْنَاهُ بِمَا مَهَّدْنَا لَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَجَعَلْنَا لَهُ مُكْنَةً وَقُدْرَةً عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ الْمَسِيرَ فِي مَوَاضِعِهَا، وَذَلَّلَ لَهُ طُرُقَهَا حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْهَا أَيْنَ شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ؟ وَمِنْ جُمْلَةِ تَمْكِينِهِ فِيهَا أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ سَوَاءً فِي الْإِضَاءَةِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَطْلُوبِهِ سَبَباً أَيْ: طَرِيقًا يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَا يُرِيدُهُ فَأَتْبَعَ سَبَباً مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَالْمَعْنَى طَرِيقًا تُؤَدِّيهِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَأَتْبَعَ سببا من

_ (1) . هو عمر بن أبي ربيعة. (2) . «النزيف» : المحموم الذي منع من الماء.

الْأَسْبَابِ الَّتِي أُوتِيَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أُوتِيَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَعَ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ الَّتِي أُوتِيَ سَبَبًا فِي الْمَسِيرِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَقِيلَ: أَتْبَعَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا يَتَسَبَّبُ بِهِ إِلَى مَا يُرِيدُ وَقِيلَ: بَلَاغًا إِلَى حَيْثُ أَرَادَ وَقِيلَ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ، وَقِيلَ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَسْتَعِينُ بِهِ الْمُلُوكُ مِنْ فَتْحِ الْمَدَائِنِ وَقَهْرِ الْأَعْدَاءِ. وَأَصْلُ السَّبَبِ الْحَبْلُ، فَاسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَأَتْبَعَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَبُو عَمْرٍو بِوَصْلِهَا. قَالَ الْأَخْفَشُ: تَبِعْتُهُ وَأَتْبَعْتُهُ بِمَعْنًى، مِثْلُ رَدَفْتُهُ وَأَرْدَفْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ «1» . قَالَ النَّحَّاسُ: وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: لِأَنَّهَا مِنَ السَّيْرِ. وَحَكَى هُوَ والأصمعي أنه يقال: تبعه واتّبعه إِذَا سَارَ وَلَمْ يَلْحَقْهُ، وَأَتْبَعَهُ إِذَا لَحِقَهُ. قال أبو عبيدة: ومثله: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ «2» .. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنَ الْفَرْقِ وَإِنْ كَانَ الأصمعي قد حكاه فلا يقبل إلا بعلّة أَوْ دَلِيلٍ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَحِقُوهُمْ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ لما خرج موسى وأصحابه من البحر وحصر فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ فِي الْبَحْرِ انْطَبَقَ عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ. وَالْحَقُّ فِي هَذَا أَنْ تَبِعَ وَاتَّبَعَ وَأَتْبَعَ لُغَاتٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى السَّيْرِ حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أَيْ: نِهَايَةَ الْأَرْضِ مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ لِأَنَّ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ النِّهَايَةِ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ الْمُضِيُّ فِيهِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ حَامِيَةٍ: أَيْ حَارَّةٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ حَمِئَةٍ أَيْ: كَثِيرَةِ الْحَمْأَةِ، وَهِيَ الطِّينَةُ السَّوْدَاءُ، تَقُولُ: حَمَأْتُ الْبِئْرَ حَمْأً بِالتَّسْكِينِ إِذَا نَزَعْتَ حَمْأَتَهَا، وحمئت البئر حمأ بِالتَّحْرِيكِ كَثُرَتْ حَمْأَتُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَامِيَةً مِنَ الْحَمْأَةِ، فَخُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ وَقُلِبَتْ يَاءً، وَقَدْ يُجْمَعُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَيُقَالُ كَانَتْ حَارَّةً وَذَاتَ حَمْأَةٍ. قِيلَ: وَلَعَلَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا بَلَغَ سَاحِلَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ رَآهَا كَذَلِكَ فِي نَظَرِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُمَكِّنَهُ اللَّهُ مِنْ عُبُورِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْعَيْنِ الَّتِي تَغْرُبُ فِيهَا الشَّمْسُ «3» ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ هَذَا بَعْدَ أَنْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ، وَمَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ وَالْبَحْرُ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَمُجَرَّدُ الِاسْتِبْعَادِ لَا يُوجِبُ حَمْلَ الْقُرْآنِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً الضَّمِيرُ فِي عِنْدَهَا إِمَّا لِلْعَيْنِ أَوْ لِلشَّمْسِ. قِيلَ: هُمْ قَوْمٌ لِبَاسُهُمْ جُلُودُ الْوَحْشِ، وَكَانُوا كُفَّارًا، فَخَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُمْ، فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أَيْ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَهُمْ بِالْقَتْلِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ أَمْرًا ذَا حُسْنٍ، أَوْ أَمْرًا حُسْنًا، مُبَالَغَةً بِجَعْلِ الْمَصْدَرِ صِفَةً لِلْأَمْرِ، وَالْمُرَادُ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَتَعْلِيمُهُمُ الشَّرَائِعَ. قالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مُخْتَارًا لِلدَّعْوَةِ الَّتِي هِيَ الشِّقُّ الْأَخِيرُ مِنَ التَّرْدِيدِ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ وَلَمْ يَقْبَلْ دَعْوَتِي فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بِالْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فِي الْآخِرَةِ فَيُعَذِّبُهُ فِيهَا عَذاباً نُكْراً أَيْ: مُنْكَرًا فَظِيعًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَرَدَّ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ نَبِيٌّ فَيُخَاطَبُ بِهَذَا، فَكَيْفَ يَقُولُ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ وَكَيْفَ يَقُولُ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ فَيُخَاطِبُهُ بِالنُّونِ، قَالَ: وَالتَّقْدِيرُ قُلْنَا يَا مُحَمَّدُ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَلْزَمُ لِجَوَازِ أَنْ يكون الله عزّ وجلّ خاطبه

_ (1) . الحجر: 18. (2) . الشعراء: 60. (3) . القول الأول هو السديد الذي يتطابق مع الحقيقة العلمية.

عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ فِي وَقْتِهِ، وَكَأَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ خَاطَبَ أُولَئِكَ الْقَوْمَ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطِبًا لِلنَّبِيِّ الَّذِي خَاطَبَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ، أَوْ خَاطَبَ قَوْمَهُ الَّذِينَ وَصَلَ بِهِمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: أَنْ فِي قَوْلِهِ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَوْ رُفِعَتْ لَكَانَ صَوَابًا بِمَعْنَى فَأَمَّا هُوَ، كَقَوْلِ الشاعر: فسيرا فَإِمَّا حَاجَةٌ تَقْضِيَانِهَا ... وَإِمَّا مَقِيلٌ صَالِحٌ وَصَدِيقُ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ دَعْوَتِي وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ فَلَهُ جَزاءً بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ: جَزَاءٌ الْخَصْلَةُ الْحُسْنَى عِنْدَ اللَّهِ، أَوِ الْفَعْلَةُ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّةُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَإِضَافَةُ الْجَزَاءِ إِلَى الْحُسْنَى الَّتِي هِيَ الْجَنَّةُ كَإِضَافَةِ حَقِّ الْيَقِينِ وَدَارِ الْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَزَاءُ مِنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، أَيْ: أُعْطِيهِ وَأَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ سَائِرُ الْكُوفِيِّينَ فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى بِنَصْبِ جَزَاءً وَتَنْوِينِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: انْتِصَابُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مَجْزِيًّا بِهَا جَزَاءً، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ بِنَصْبِ جَزاءً مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ عَلَى حَذْفِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِهِ خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ حَذْفِ تَنْوِينٍ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقُرِئَ بِرَفْعِ جَزَاءٌ مُنَوَّنًا عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْحُسْنَى بَدَلٌ مِنْهُ وَالْخَبَرُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أَيْ: مِمَّا نَأْمُرُ بِهِ قَوْلًا ذَا يُسْرٍ لَيْسَ بِالصَّعْبِ الشَّاقِّ، أَوْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ مُبَالَغَةً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أَيْ: طَرِيقًا آخَرَ غَيْرَ الطَّرِيقِ الْأُولَى، وَهِيَ الَّتِي رَجَعَ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، وَسَارَ فِيهَا إِلَى الْمَشْرِقِ حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أَيِ: الْمَوْضِعَ الَّذِي تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوَّلًا مِنْ مَعْمُورِ الأرض، مكان طلوع، لِعَدَمِ الْمَانِعِ شَرْعًا وَلَا عَقْلًا مِنْ وُصُولِهِ إِلَيْهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً يَسْتُرُهُمْ، لَا مِنَ الْبُيُوتِ وَلَا مِنَ اللِّبَاسِ، بَلْ هُمْ حُفَاةٌ عُرَاةٌ لَا يَأْوُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِمَارَةِ. قِيلَ: لِأَنَّهُمْ بِأَرْضٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهَا الْبِنَاءُ كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أَيْ: كَذَلِكَ أَمْرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَتْبَعَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ حَتَّى بَلَغَ، وَقَدْ عَلِمْنَا حِينَ مَلَّكْنَاهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِذَلِكَ الْمُلْكِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ سِتْرًا مِثْلَ ذَلِكَ السِّتْرِ الَّذِي جَعَلْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَالثِّيَابِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: كَذَلِكَ بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ مِثْلَ مَا بَلَغَ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: كَذَلِكَ تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَبِيلِ الَّذِي تَغْرُبُ عَلَيْهِمْ، فَقَضَى فِي هَؤُلَاءِ كَمَا قَضَى فِي أُولَئِكَ مِنْ تَعْذِيبِ الظَّالِمِينَ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْإِحَاطَةِ بِمَا لَدَيْهِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، كَمَا قُلْنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ إِنَّمَا تَذْكُرُ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيِّينَ، إِنَّكَ سَمِعْتَ ذِكْرَهُمْ مِنَّا، فَأَخْبِرْنَا عَنْ نَبِيٍّ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ إِلَّا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالُوا: ذُو الْقَرْنَيْنِ، قَالَ: مَا بَلَغَنِي عَنْهُ شَيْءٌ، فَخَرَجُوا فَرِحِينَ قَدْ غَلَبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَبْلُغُوا بَابَ الْبَيْتِ حَتَّى نَزَلَ جبريل بهؤلاء الآيات وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ

وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ كَانَ نَبِيًّا أَمْ لَا؟ وَمَا أَدْرِي أَذُو الْقَرْنَيْنِ كَانَ نَبِيًّا أَمْ لَا؟ وَمَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا؟» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنَبِيٌّ هُوَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يقول: «هو عبد ناصح الله فَنَصَحَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي «فُتُوحِ مِصْرَ» ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي السُّنَّةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ: أَنَبِيًّا كَانَ أَمْ مَلِكًا؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَا مَلِكًا، وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا أَحَبَّ اللَّهَ فَأَحَبَّهُ اللَّهُ، وَنَصَحَ لِلَّهِ فَنَصَحَهُ اللَّهُ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ، ثُمَّ أَحْيَاهُ اللَّهُ لِجِهَادِهِمْ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ الْآخَرِ فَمَاتَ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ لِجِهَادِهِمْ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، وَإِنَّ فِيكُمْ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: ذُو الْقَرْنَيْنِ نبيّ. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأحوص بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ: «هُوَ مَلِكٌ مَسَحَ الْأَرْضَ بِالْأَسْبَابِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي «فُتُوحِ مِصْرَ» ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ في العظمة، عن خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الْكُلَاعِيِّ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ «الْأَضْدَادِ» ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُنَادِي بِمِنًى: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ عمر: ها أنتم قد سمعتم بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فَمَا بَالُكُمْ وَأَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ؟ وَفِي الْبَابِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا يُغْنِي عَنْهُ مَا قَدْ أَوْرَدْنَاهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي «فُتُوحِ مِصْرَ» ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ حَدِيثًا يَتَضَمَّنُ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا جَاءُوا لَهُ ابْتِدَاءً، وَكَانَ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ أَنَّهُ كَانَ شَابًّا مِنَ الرُّومِ، وَأَنَّهُ بَنَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَأَنَّهُ عَلَا بِهِ مَلَكٌ فِي السَّمَاءِ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّدِّ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي مَتْنِهِ نَكَارَةٌ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ جَرِيرٍ وَالْأُمَوِيِّ فِي مَغَازِيهِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَالْعَجَبُ أن أبا زرعة الرازي مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِهِ «دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» انْتَهَى. وَقَدْ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ السُّيُوطِيُّ فِي «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» ، وَسَاقَ أَيْضًا خَبَرًا طَوِيلًا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالشِّيرَازِيِّ فِي الْأَلْقَابِ وَأَبِي الشَّيْخِ، وَفِيهِ أَشْيَاءُ مُنْكَرَةٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ خَبَرًا طَوِيلًا عَنْ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَنَحْوَهَا مَنْقُولَةٌ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِأَنْ لَا نُصَدِّقَهُمْ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ إِلَيْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً قَالَ: عِلْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنْتَ تَقُولُ: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ يَرْبِطُ خَيْلَهُ بِالثُّرَيَّا، قَالَ لَهُ كَعْبٌ: إِنْ كُنْتُ قُلْتُ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طريق عثمان بن حاضر «1» أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بن أبي

_ (1) . في المطبوع: عثمان بن أبي حاضر، قال ابن حجر في التقريب (2/ 7) : وهو وهم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 92 إلى 98]

سُفْيَانَ قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ «تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ» قَالَ ابْنُ عباس: فقلت لمعاوية ما نقرؤها إلا حَمِئَةٍ فسأل معاوية عبد بْنَ عَمْرٍو كَيْفَ تَقْرَؤُهَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَمَا قَرَأْتَهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ: فِي بَيْتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تَجِدُ الشَّمْسَ تَغْرُبُ فِي التَّوْرَاةِ؟ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: سَلْ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهَا، وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ فِي مَاءٍ وَطِينٍ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلى المغرب. قال ابن حاضر: لو أني عند كما أَيَّدْتُكَ بِكَلَامٍ تَزْدَادُ بِهِ بَصِيرَةً فِي حَمِئَةٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: فِيمَا نَأْثِرُ قَوْلُ تُبَّعٍ فِيمَا ذَكَرَ بِهِ ذَا الْقَرْنَيْنِ فِي كَلَفِهِ بِالْعِلْمِ وَاتِّبَاعِهِ إِيَّاهُ: قَدْ كان ذو القرنين عمرو مسلما ... ملكا تذلّ له الملوك وتحسد فَأَتَى الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي ... أَسْبَابَ مُلْكٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدٍ فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا ... في عين ذي خلب وثأط حرمد فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا الْخَلَبُ؟ قُلْتُ: الطِّينُ بِكَلَامِهِمْ، قَالَ: فَمَا الثَّاطُ؟ قُلْتُ: الْحَمْأَةُ. قَالَ: فما الحرمد؟ قُلْتُ: الْأَسْوَدُ فَدَعَا ابْنُ عَبَّاسٍ غُلَامًا فَقَالَ: اكْتُبْ مَا يَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أن النبي كَانَ يَقْرَأُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مثله. [سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 98] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ سَفَرَ ذِي الْقَرْنَيْنِ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ نَاحِيَةُ الْقُطْرِ الشَّمَالِيِّ بَعْدَ تَهْيِئَةِ أَسْبَابِهِ، فَقَالَ: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أَيْ: طَرِيقًا ثَالِثًا مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَيَحْيَى الْيَزِيدِيُّ وَأَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: السَّدُّ إِنْ كَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَهُوَ بِضَمِّ السِّينِ حَتَّى يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ: هُوَ مِمَّا فَعَلَهُ اللَّهُ وَخَلَقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ الْعِبَادِ فَهُوَ بالفتح حتى يكون حدثا. وقال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كُلُّ مَا قَابَلَكَ فَسَدَّ مَا وَرَاءَهُ فَهُوَ سَدٌّ وَسُدُّ نَحْوُ الضَّعْفِ وَالضُّعْفِ، وَالْفَقْرِ وَالْفُقْرِ، وَالسَّدَّانِ هُمَا جَبَلَانِ مِنْ قِبَلِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَانْتِصَابُ بَيْنَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ كَمَا ارْتَفَعَ بِالْفَاعِلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «1» . وَقِيلَ: مَوْضِعُ بَيْنَ السَّدَّيْنِ هُوَ مُنْقَطَعُ أَرْضِ التُّرْكِ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ لَا جَبَلَا أَرْمِينِيَّةَ وأذربيجان.

_ (1) . الأنعام: 94.

وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي «تَارِيخِهِ» أَنَّ صَاحِبَ أَذْرَبِيجَانَ أَيَّامَ فَتْحِهَا وَجَّهَ إِنْسَانًا مِنْ نَاحِيَةِ الْجُزُرِ فَشَاهَدَهُ، وَوَصَفَ أَنَّهُ بُنْيَانٌ رَفِيعٌ وَرَاءَ خندق وثيق منيع، ووَجَدَ مِنْ دُونِهِما أَيْ: مِنْ وَرَائِهِمَا مَجَازًا عَنْهُمَا، وَقِيلَ: أَمَامَهُمَا قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُفْقِهُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ مِنْ أَفْقَهَ إِذَا أَبَانَ، أَيْ: لَا يُبَيِّنُونَ لِغَيْرِهِمْ كَلَامًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ، أَيْ: لَا يَفْهَمُونَ كَلَامَ غَيْرِهِمْ، وَالْقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَمَعْنَاهُمَا لَا يَفْهَمُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ وَلَا يُفْهِمُونَ غَيْرَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ لُغَةِ أَنْفُسِهِمْ قالُوا أَيْ: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ لَا يُفْهِمُونَ قَوْلًا، قِيلَ: إِنَّ فَهْمَ ذِي الْقَرْنَيْنِ لِكَلَامِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لِتُرْجُمَانِهِمْ، فَقَالَ لِذِي القرنين بما قالوا له: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اسْمَانِ عَجَمِيَّانِ بِدَلِيلِ مَنْعِ صَرْفِهِمَا، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُ. وَقِيلَ: مُشْتَقَّانِ مِنْ أَجَّ الظَّلِيمُ فِي مَشْيِهِ إِذَا هَرْوَلَ، وتأججت النار إذا تلهبت، قرأهما الجمهور غير هَمْزٍ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِالْهَمْزِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَجْهُ هَمْزِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَصْلٌ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ هَمَزَتْ حُرُوفًا لَا يُعْرَفُ للهمز فيها أصل كقولهم: كبأثت وَرَثَأَتْ وَاسْتَشْأَتْ الرِّيحُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَرَبِيَّيْنِ، فَمَنْ هَمَزَ فَهُوَ عَلَى وَزْنِ يَفْعُولٍ مِثْلَ يَرْبُوعٍ، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ فَقَلَبَهَا أَلِفًا مِثْلَ رَاسٍ. وَأَمَّا مَأْجُوجُ، فَهُوَ مَفْعُولُ مِنْ أَجَّ، وَالْكَلِمَتَانِ مَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ فِي الِاشْتِقَاقِ. قَالَ: وَتُرِكَ الصَّرْفُ فِيهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا عَرَبِيَّيْنِ لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّعْرِيفِ كَأَنَّهُ اسْمٌ لِلْقَبِيلَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِمْ فَقِيلَ: هُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ يَأْجُوجُ مِنَ التُّرْكِ وَمَأْجُوجُ من الجيل وَالدَّيْلَمِ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: احْتَلَمَ آدَمُ فَاخْتَلَطَ مَاؤُهُ بِالتُّرَابِ فَخُلِقُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَحْتَلِمُونَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ، كَذَلِكَ قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي صِفَتِهِمْ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَصِفُهُمْ بِصِغَرِ الْجُثَثِ وَقِصَرِ الْقَامَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِفُهُمْ بِكِبَرِ الْجُثَثِ وَطُولِ الْقَامَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ مَخَالِبُ كَمَخَالِبِ السِّبَاعِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ صِنْفًا يَفْتَرِشُ إِحْدَى أُذُنَيْهِ وَيَلْتَحِفُ بِالْأُخْرَى، وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَخْبَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، فَقِيلَ: هُوَ أَكْلُ بَنِي آدَمَ، وَقِيلَ: هُوَ الظُّلْمُ وَالْغَشْمُ وَالْقَتْلُ وَسَائِرُ وُجُوهِ الْإِفْسَادِ وَقِيلَ: كَانُوا يَخْرُجُونَ إِلَى أَرْضِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ شَكَوْهُمْ إِلَى ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي أَيَّامِ الرَّبِيعِ فَلَا يَدَعُونَ فِيهَا شَيْئًا أَخْضَرَ إِلَّا أَكَلُوهُ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مِنْ بَابِ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَقُرِئَ خَرَاجًا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْخَرَاجُ يَقَعُ عَلَى الضَّرِيبَةِ، وَيَقَعُ عَلَى مَالِ الْفَيْءِ، وَيَقَعُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَعَلَى الْغَلَّةِ. وَالْخَرَاجُ أَيْضًا: اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَرَائِضِ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْخَرْجُ الْمَصْدَرُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْخَرْجُ الْجِزْيَةُ، وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ: الْخَرْجُ مَا يُخْرِجُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ مَالِهِ، وَالْخَرَاجُ: مَا يَجْبِيهِ السُّلْطَانُ وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا أَيْ: رَدْمًا حَاجِزًا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. وَقُرِئَ سَدًّا بِفَتْحِ السِّينِ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: الضَّمُّ هُوَ الِاسْمُ، وَالْفَتْحُ الْمَصْدَرُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْفَتْحُ وَالضَّمُّ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي

إِسْحَاقَ: مَا رَأَتْهُ عَيْنَاكَ فَهُوَ سُدٌّ بِالضَّمِّ، وَمَا لَا تَرَى فَهُوَ سَدٌّ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ مَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ وَبِالضَّمِّ فِي السَّدَّيْنِ قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي أَيْ: قَالَ لَهُمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ: مَا بَسَطَهُ اللَّهُ لِي مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ خَيْرٌ مِنْ خَرْجِكُمْ، ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمُ الْمُعَاوَنَةَ لَهُ فَقَالَ: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَيْ: بِرِجَالٍ مِنْكُمْ يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ، أَوْ أَعِينُونِي بِآلَاتِ الْبِنَاءِ، أَوْ بِمَجْمُوعِهِمَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: بِعَمَلٍ تَعْمَلُونَهُ مَعِي. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ «مَا مَكَّنَنِي» بِنُونَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً هَذَا جَوَابُ الْأَمْرِ، وَالرَّدْمُ: مَا جُعِلَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَتَّصِلَ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: يُقَالُ رَدَمْتُ الثُّلْمَةَ أَرْدِمُهَا بِالْكَسْرِ رَدْمًا، أَيْ: سَدَدْتُهَا، وَالرَّدْمُ أَيْضًا الِاسْمُ، وَهُوَ السَّدُّ، وَقِيلَ: الرَّدْمُ أَبْلَغُ مِنَ السَّدِّ، إِذِ السَّدُّ كُلُّ مَا يُسَدُّ بِهِ، وَالرَّدْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ نَحْوِهِمَا حَتَّى يَقُومَ مِنْ ذَلِكَ حِجَابٌ مَنِيعٌ، وَمِنْهُ رَدَمَ ثَوْبَهُ: إِذَا رَقَعَهُ بِرِقَاعٍ مُتَكَاثِفَةٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدِّمِ «1» ............... ........ أَيْ: مِنْ قَوْلٍ يَرْكَبُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أي: أعطوني وناولوني، وزبر الْحَدِيدِ جَمْعُ زُبْرَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ. قَالَ الْخَلِيلُ: الزُّبْرَةُ مِنَ الْحَدِيدِ الْقِطْعَةُ الضَّخْمَةُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: معنى آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ايتوني بِهَا، فَلَمَّا أُلْقِيَتِ الْيَاءُ زِيدَتْ أَلِفًا، وَعَلَى هَذَا فَانْتِصَابُ زُبُرَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ وَالصَّدَفَانِ: جَانِبَا الْجَبَلِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ لِجَانِبَيِ الْجَبَلِ صَدَفَانِ إِذَا تَحَاذَيَا لِتَصَادُفِهِمَا، أَيْ: تَلَاقِيهِمَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ والهروي. قال الشاعر: كلا الصّدفين ينفذه سِنَاهَا ... تُوقِدُ مِثْلَ مِصْبَاحِ الظَّلَامِ وَقَدْ يُقَالُ لِكُلِّ بِنَاءٍ عَظِيمٍ مُرْتَفِعٍ صَدَفٌ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ الصَّدَفَيْنِ بِفَتْحِ الصَّادِ وَالدَّالِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَالْيَزِيدِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الصَّادِ وَالدَّالِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الدَّالِ. وَقَرَأَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّ الدَّالِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ لِأَنَّهَا أَشْهَرُ اللُّغَاتِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ زُبَرَ الْحَدِيدِ، فَجَعَلَ بيني بِهَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ حَتَّى سَاوَاهُمَا قالَ انْفُخُوا أَيْ: قَالَ لِلْعَمَلَةِ «2» : انْفُخُوا عَلَى هَذِهِ الزُّبَرِ بِالْكِيرَانِ حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا أَيْ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَنْفُوخَ فِيهِ، وَهُوَ الزُّبَرُ نَارًا: أَيْ كَالنَّارِ فِي حَرِّهَا وَإِسْنَادُ الْجَعْلِ إِلَى ذِي الْقَرْنَيْنِ مَجَازٌ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ بِالنَّفْخِ. قِيلَ: كَانَ يَأْمُرُ بِوَضْعِ طَاقَةٍ مِنَ الزُّبَرِ وَالْحِجَارَةِ ثُمَّ يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى يتحمّى، وَالْحَدِيدُ إِذَا أُوقِدَ عَلَيْهِ صَارَ كَالنَّارِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالنُّحَاسِ الْمُذَابِ فَيُفْرِغُهُ عَلَى تِلْكَ الطَّاقَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْقِطْرُ النُّحَاسُ الذَّائِبُ، وَالْإِفْرَاغُ: الصَّبُّ، وَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْقِطْرُ الْحَدِيدُ الْمُذَابُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْهُمُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هُوَ الرَّصَاصُ الْمُذَابُ فَمَا اسْطاعُوا أَصْلُهُ اسْتَطَاعُوا، فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْمُتَقَارِبَانِ، وَهُمَا التاء والطاء خففوا

_ (1) . وعجزه: أم هل عرفت الدّار بعد توهّم. (2) . أي العمّال. [.....]

بِالْحَذْفِ. قَالَ ابْنُ السِّكِيتِ: يُقَالُ مَا أَسْتَطِيعُ، وَمَا أَسْطِيعُ، وَمَا أَسْتِيعُ. وَبِالتَّخْفِيفِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ فَمَا اسْطاعُوا بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ كَأَنَّهُ أَرَادَ اسْتَطَاعُوا فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الطَّاءِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةُ الْوَجْهِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ فَمَا اسْتَطَاعُوا عَلَى الْأَصْلِ، وَمَعْنَى أَنْ يَظْهَرُوهُ أَنْ يَعْلُوهُ أَيْ فَمَا اسْتَطَاعَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أَنْ يَعْلُوا عَلَى ذَلِكَ الرَّدْمِ لِارْتِفَاعِهِ وَمَلَاسَتِهِ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً يُقَالُ نَقَبْتُ الْحَائِطَ: إِذَا خَرَقْتَ فِيهِ خَرْقًا فَخَلَصَ إِلَى مَا وَرَاءَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا قَدَرُوا أَنْ يَعْلُوا عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِهِ وَانْمِلَاسِهِ، وَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَنْقُبُوهُ مِنْ أَسْفَلِهِ لِشِدَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أَيْ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مُشِيرًا إِلَى السَّدِّ: هَذَا السَّدُّ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، أَيْ: أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَجَاوِزِينَ لِلسَّدِّ ولمن خلفهم ممن يخشى عليه مَعَرَّتَهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ السَّدُّ وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى التَّمْكِينِ مِنْ بِنَائِهِ فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي أَيْ: أَجَلُ رَبِّي أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَهُ دَكَّاءَ أَيْ: مُسْتَوِيًا بِالْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا «1» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَيْ: مُسْتَوِيًا، يُقَالُ نَاقَةٌ دَكَّاءٌ: إذا ذهب سنامها. وقال القتبي: أَيْ: جَعَلَهُ مَدْكُوكًا مُلْصَقًا بِالْأَرْضِ. وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: قطعا متكسرا. قال الشاعر: هل غير غاد دَكَّ غَارًا فَانْهَدَمَ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: دَكَكْتُهُ، أَيْ: دَقَقْتَهُ. وَمَنْ قَرَأَ دَكَّاءً بِالْمَدِّ وَهُوَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أَرَادَ التَّشْبِيهَ بِالنَّاقَةِ الدَّكَّاءِ، وَهِيَ الَّتِي لَا سَنَامَ لَهَا، أَيْ: مِثْلُ دَكَّاءٍ لِأَنَّ السَّدَّ مُذَكَّرٌ فَلَا يُوصَفُ بِدَكَّاءٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ دَكًّا بِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَمَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْحَالِ، أَيْ: مَدْكُوكًا وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أَيْ: وَعْدُهُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، أَوِ الْوَعْدُ الْمَعْهُودُ حَقًّا ثَابِتًا لَا يَتَخَلَّفُ، وَهَذَا آخِرُ قَوْلِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قَالَ: الْجَبَلَيْنِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالَ: التُّرْكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ شِبْرٌ وَشِبْرَانِ وَأَطْوَلُهُمْ ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ آدَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ وَلَوْ أُرْسِلُوا لَأَفْسَدُوا عَلَى النَّاسِ مَعَايِشَهُمْ، وَلَا يَمُوتُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا، وَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِمْ ثَلَاثَ أُمَمٍ: تَاوِيلُ، وَتَارِيسُ، وَمَنْسَكُ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: «أَنَّهُ لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

_ (1) . الفجر: 21.

[سورة الكهف (18) : الآيات 99 إلى 108]

«إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَفْتَحُونَهُ غَدًا، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ أَشَدَّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ، وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ حَفَرُوا، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَفْتَحُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَسْتَثْنِي، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيَسْتَقُونَ الْمِيَاهَ، وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً بِالدِّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا مَنْ فِي السَّمَاءِ قَسْرًا وَعُلُوًّا، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَهْلِكُونَ» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فو الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمَنُ وَتَبْطَرُ وَتَشْكُرُ شُكْرًا مِنْ لُحُومِهِمْ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ قَالَتِ: «اسْتَيْقَظَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ، وَحَلَّقَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» . وَأَخْرَجَا نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قَوْلِهِ: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً قَالَ: أَجْرًا عَظِيمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: رَدْماً قَالَ: هُوَ كَأَشَدِّ الْحِجَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: زُبَرَ الْحَدِيدِ قَالَ: قِطَعُ الْحَدِيدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ. قَالَ: الْجَبَلَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن مجاهد قال: رؤوس الْجَبَلَيْنِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قِطْراً قَالَ: النُّحَاسُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ قَالَ: أَنْ يَرْتَقُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَنْ يَعْلُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ دَكَّاءَ قَالَ: لَا أَدْرِي الْجَبَلَيْنِ يعني به أم بينهما. [سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 108] وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قَوْلُهُ: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ كَلَامِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَالضَّمِيرُ فِي بَعْضِهِمْ لِيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أَيْ: تَرَكْنَا بَعْضَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَوْمَ مَجِيءِ الْوَعْدِ، أَوْ يَوْمَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ آخَرَ مِنْهُمْ، يُقَالُ: مَاجَ النَّاسُ إِذَا دَخَلَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ حَيَارَى كَمَوْجِ الْمَاءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَضْطَرِبُونَ وَيَخْتَلِطُونَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بَعْضِهِمْ لِلْخَلْقِ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ: وَجَعَلْنَا

بَعْضَ الْخَلْقِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَتَرَكْنَا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَوْمَ كَمَالِ السَّدِّ وَتَمَامِ عِمَارَتِهِ بَعْضُهُمْ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فِي الْأَنْعَامِ، قِيلَ: هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً فَإِنَّ الْفَاءَ تُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّفْخَةَ الْأُولَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا ذِكْرُ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ. وَالْمَعْنَى: جَمَعْنَا الْخَلَائِقَ بعد تلاشي أبدانهم ومصيرهم تُرَابًا جَمْعًا تَامًّا عَلَى أَكْمَلِ صِفَةٍ وَأَبْدَعِ هَيْئَةٍ وَأَعْجَبِ أُسْلُوبٍ وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الْمُرَادُ بِالْعَرْضِ هُنَا الْإِظْهَارُ، أَيْ: أَظْهَرْنَا لَهُمْ جَهَنَّمَ حَتَّى شَاهَدُوهَا يَوْمَ جَمْعِنَا لَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ عَظِيمٌ لِمَا يَحْصُلُ مَعَهُمْ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا مِنَ الْفَزَعِ وَالرَّوْعَةِ. ثُمَّ وَصَفَ الْكَافِرِينَ الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي أَيْ: كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي غِطَاءٍ وَهُوَ مَا غَطَّى الشَّيْءَ وَسَتَرَهُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ عَنْ ذِكْرِي عَنْ سَبَبِ ذِكْرِي، وَهُوَ الْآيَاتُ الَّتِي يُشَاهِدُهَا مَنْ لَهُ تَفَكُّرٌ وَاعْتِبَارٌ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّمْجِيدِ، فَأَطْلَقَ الْمُسَبَّبَ عَلَى السَّبَبِ، أَوْ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَأَمُّلِ مَعَانِيهِ وَتَدَبُّرِ فَوَائِدِهِ. ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْعَمَى عَنِ الدَّلَائِلِ التَّكْوِينِيَّةِ أَوِ التَّنْزِيلِيَةِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا، أَرَادَ أَنْ يَصِفَهُمْ بِالصَّمَمِ عَنِ اسْتِمَاعِ الْحَقِّ فَقَالَ: وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ لِمَا فِيهِ الْحَقُّ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قَالَ وَكَانُوا صُمًّا لَأَنَّ الْأَصَمَّ قَدْ يَسْتَطِيعُ السَّمْعَ إِذَا صِيحَ بِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِي ذِكْرِ غِطَاءِ الْأَعْيُنِ وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ السَّمَاعِ تَمْثِيلٌ لِتَعَامِيهِمْ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ بِالْأَبْصَارِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْحُسْبَانُ هُنَا بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، كَنَظَائِرِهِ. وَالْمَعْنَى: أَفَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِمَا عَبَدُوهُ مَعَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ اللَّهِ، وَتَمَرُّدِهِمْ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَمَعْنَى أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَيْ: يَتَّخِذُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَسِيحُ وَالشَّيَاطِينُ أَوْلِياءَ أَيْ: مَعْبُودِينَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَيَحْسَبُونَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ ذَلِكَ، وَقُرِئَ أَفَحَسِبَ بِسُكُونِ السِّينِ، وَمَعْنَاهُ أَكَافِيهِمْ وَمُحْسِبُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِيهِمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا حَسِبُوا إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أَيْ: هَيَّأْنَاهَا لَهُمْ نُزُلًا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ عِنْدَ وُرُودِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: النُّزُلُ: الْمَأْوَى وَالْمَنْزِلُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي يُعَدُّ لِلضَّيْفِ، فَيَكُونُ تَهْكُّمًا بِهِمْ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَهَنَّمَ مُعَدَّةٌ لَهُمْ عِنْدَنَا كَمَا يُعَدُّ النُّزُلُ لِلضَّيْفِ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا انْتِصَابُ أَعْمَالًا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْجَمْعُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِرَادَةِ الْأَنْوَاعِ مِنْهَا، وَمَحَلُّ الْمَوْصُولِ وَهُوَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الفعل عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِضَلَالِ السَّعْيِ بُطْلَانُهُ وَضَيَاعُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الذَّمِّ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْأَخْسَرِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ أَيْضًا هُوَ أُولَئِكَ وَمَا بَعْدَهُ، وَأَوَّلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ هُوَ أَوْلَاهَا، وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ

_ (1) . آلِ عمران: 21.

فَاعِلِ ضَلَّ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ فِي ذَلِكَ مُنْتَفِعُونَ بِآثَارِهِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ مُسْتَأْنَفَةً مَسُوقَةً لِتَكْمِيلِ الْخُسْرَانِ وَبَيَانِ سَبَبِهِ، هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الأوّل الراجح لا على الوجوه الآخرة، فَإِنَّهَا هِيَ الْجَوَابُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ: كُفْرُهُمْ بِدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ مِنَ الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةِ وَالتَّنْزِيلِيَّةِ، وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِلِقَائِهِ: كُفْرُهُمْ بِالْبَعْثِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أَيْ: الَّتِي عَمِلُوهَا مِمَّا يَظُنُّونَهُ حَسَنًا، وَهُوَ خُسْرَانٌ وَضَلَالٌ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أَيْ: لَا يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَنَا قَدْرٌ وَلَا نَعْبَأُ بِهِمْ، وَقِيلَ: لَا يُقَامُ لَهُمْ مِيزَانٌ تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَهَؤُلَاءِ لَا حَسَنَاتٍ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرَبُ تَقُولُ مَا لِفُلَانٍ عِنْدَنَا وَزْنٌ، أَيْ: قَدْرٌ لِخِسَّتِهِ، وَيُوصَفُ الرَّجُلُ بِأَنَّهُ لَا وَزْنَ لَهُ لِخِفَّتِهِ، وَسُرْعَةِ طَيْشِهِ، وَقِلَّةِ تَثَبُّتِهِ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرٌ وَلَا مَنْزِلَةٌ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ يُقِيمُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ: فَلَا يُقِيمُ اللَّهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ وَمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فَقَالَ: ذلِكَ أَيْ: الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ جَزَاؤُهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: جَهَنَّمُ عَطْفَ بَيَانٍ لِلْجَزَاءِ، أَوْ جُمْلَةُ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ مُبْتَدَأٌ وخبر الجملة خَبَرُ ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ ضَمُّوا إِلَى الْكُفْرِ اتِّخَاذَ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّخَاذَ رُسُلِهِ هُزُوًا، فَالْبَاءُ فِي بِما كَفَرُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ هُزُوًا أَنَّهُمْ مَهْزُوءٌ بِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، فَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ، وَقِيلَ: الْخَوَارِجُ، وَقِيلَ: الرُّهْبَانُ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ لِكُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذَا الْوَعِيدِ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْوَعْدَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَهُمَا حَتَّى كَانُوا عَلَى ضِدِّ صِفَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ كانَتْ لَهُمْ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: كَانَتْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ كَانَتْ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْفِرْدَوْسُ فِيمَا سَمِعْتُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ وَالْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْعِنَبُ. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْفِرْدَوْسَ الْبُسْتَانُ بِاللُّغَةِ الرُّومِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ النُّزُلِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَالْمَعْنَى: كَانَتْ لَهُمْ ثِمَارُ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا مُعَدًّا لَهُمْ مُبَالَغَةً فِي إِكْرَامِهِمْ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْحِوَلُ مَصْدَرٌ، أَيْ: لَا يَطْلُبُونَ تَحَوُّلًا عَنْهَا إِذْ هِيَ أَعْزُ مِنْ أَنْ يَطْلُبُوا غَيْرَهَا، أَوْ تَشْتَاقَ أَنْفُسُهُمْ إِلَى سِوَاهَا. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ: الْحِوَلُ اسْمٌ بِمَعْنَى التَّحَوُّلِ يَقُومُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ الْحِوَلَ التَّحْوِيلُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ الْآيَةَ قَالَ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً قَالَ: لَا يَعْقِلُونَ سَمْعًا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال أبو عبيد بِجَزْمِ السِّينِ وَضَمِّ الْبَاءِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ

[سورة الكهف (18) : الآيات 109 إلى 110]

وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأما النصارى فكذبوا بِالْجَنَّةِ وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ، وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ «1» ، وَكَانَ سَعْدٌ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ والفريابي وسعيد ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الْحَرُورِيَّةُ هُمْ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَالْحَرُورِيَّةُ: قَوْمٌ زَاغُوا فَأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي خميصة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ ابن أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا إِنَّهُمُ الرُّهْبَانُ الَّذِينَ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي السَّوَارِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَسَأَلَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ فَقَالَ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا قَالَ: فَجَرَةُ قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا قَالَ: لَا أَظُنُّ إِلَّا أَنَّ الْخَوَارِجَ مِنْهُمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَقَالَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهَا سُرَّةُ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْفِرْدَوْسِ يَسْمَعُونَ أَطِيطَ الْعَرْشِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً، وَمِنْ فَوْقِهَا يَكُونُ الْعَرْشُ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الْأَرْبَعَةُ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ» ، وَالْأَحَادِيثُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْفِرْدَوْسُ بُسْتَانٌ بِالرُّومِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُوَ الْكَرْمُ بِالنَّبَطِيَّةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ كَعْبًا عَنِ الْفِرْدَوْسِ قَالَ: هِيَ جَنَّاتُ الْأَعْنَابِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا قال: متحوّلا. [سورة الكهف (18) : الآيات 109 الى 110] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

_ (1) . البقرة: 27.

لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ نَبَّهَ عَلَى كَمَالِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُمِّيَ الْمِدَادُ مِدَادًا لِإِمْدَادِهِ الْكَاتِبَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَمَجِيءِ الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ، وَيُقَالُ لِلزَّيْتِ الَّذِي يُوقَدُ بِهِ السِّرَاجُ مِدَادٌ، وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ هُنَا الْجِنْسُ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كُتِبَتْ كَلِمَاتُ عِلْمِ اللَّهِ وحكمته، وفرض أن جنس البحر مدادا لَهَا لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ نُفُودِ الْكَلِمَاتِ، وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِ الْبَحْرِ مِدَادًا لَنَفِدَ أَيْضًا، وَقِيلَ فِي بَيَانِ الْمَعْنَى: لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِلْقَلَمِ وَالْقَلَمُ يَكْتُبُ لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَقَوْلُهُ: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً كَلَامٌ مِنْ جِهَتِهِ سُبْحَانَهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كانَ وَفِيهِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ وَتَأْكِيدٍ، وَالْوَاوُ لِعَطْفِ مَا بَعْدَهُ عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ مَدْلُولٍ عَلَيْهَا بِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُهُ لَوْ لم يجيء بمثله مدادا وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، وَالْمَدَدُ الزِّيَادَةُ وَقِيلَ: عَنَى سُبْحَانَهُ بِالْكَلِمَاتِ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ وَلَا مُنْتَهًى، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَقَدْ عَبَّرَتِ الْعَرَبُ عَنِ الْفَرْدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، قَالَ الْأَعْشَى: وَوَجْهٌ نَقِيُّ اللَّوْنِ صَافٍ يُزَيِّنُهُ ... مَعَ الْجِيدِ لُبَّاتٌ لَهَا وَمَعَاصِمُ فَعَبَّرَ بِاللُّبَّاتِ عَنِ اللُّبَّةِ. قَالَ الْجِبَائِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِهِ قَدْ تَنْفَدُ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَا ثَبَتَ عَدَمُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِ تِلْكَ الصِّفَةِ الْأَزَلِيَّةِ وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ: إِنَّ نَفَادَ شَيْءٍ قَبْلَ نَفَادِ شَيْءٍ آخَرَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفَادِ الشَّيْءِ الْآخَرِ، وَلَا عَلَى عَدَمِ نَفَادِهِ، فَلَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا كَثْرَةُ كَلِمَاتِ اللَّهِ بِحَيْثُ لَا تَضْبِطُهَا عُقُولُ الْبَشَرِ أَمَّا أَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ، أَوْ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآيَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَابِعَةٌ لِمَعْلُومَاتِهِ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَالْكَلِمَاتُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مِدَادًا وَهِيَ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مَدَداً وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَسْلُكَ مَسْلَكَ التَّوَاضُعِ، فَقَالَ: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَيْ: إِنَّ حَالِي مَقْصُورٌ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ لَا يَتَخَطَّاهَا إِلَى الْمَلَكِيَّةِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ لَا يَدَّعِي الْإِحَاطَةَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ امْتَازَ عَنْهُمْ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: يُوحى إِلَيَّ وَكَفَى بِهَذَا الْوَصْفِ فَارِقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْبَشَرِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَفِي هَذَا إِرْشَادٌ إِلَى التَّوْحِيدِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّوْحِيدِ فَقَالَ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الرجاء توقع وصول الْخَيْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمَعْنَى، مَنْ كَانَ لَهُ هَذَا الرَّجَاءُ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَهُوَ مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ عَمَلُ خَيْرٍ يُثَابُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ سَوَاءٌ كَانَ صَالِحًا، أَوْ طَالِحًا، حَيَوَانًا أَوْ جَمَادًا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا يُرَائِي بِعَمَلِهِ أَحَدًا. وَأَقُولُ: إِنَّ دُخُولَ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى دُخُولِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ الَّذِي هُوَ الرِّيَاءُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِ هَذَا الْخَفِيِّ تَحْتَهَا، إِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِهِ هُوَ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لِكَلِماتِ رَبِّي يَقُولُ: عِلْمُ رَبِّيَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ يَنْفَدُ مَاءُ الْبَحْرِ قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ كَلَامُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَقِفُ الْمَوَاقِفَ أَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ جُنْدُبُ بْنُ زُهَيْرٍ إِذَا صَلَّى أَوْ صَامَ أَوْ تَصَدَّقَ فَذُكِرَ بِخَيْرٍ ارْتَاحَ لَهُ، فَزَادَ فِي ذَلِكَ لِقَالَةِ النَّاسِ فَلَا يُرِيدُ بِهِ اللَّهُ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْتِقُ وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى، وَأَتَصَدَّقُ وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى، فَنَزَلَتْ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ» وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَهُ هَنَّادٌ فِي الزُّهْدِ عَنْهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: لَا أَجْرَ لَهُ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَعَادَ الرَّجُلُ فَقَالَ: لَا أَجْرَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْإِخْلَاصِ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الرِّيَاءَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَيْضًا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، ثُمَّ قَرَأَ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ شَدَّادٍ أَيْضًا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي، مَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا فَإِنَّ عَمَلَهُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَهُ أنا عنه غنيّ» . وأخرج أحمد والحكيم والترمذي، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيخِ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي لِمَكَانِ رَجُلٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ، قُلْتُ: أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا، وَلَكِنْ يُرَاءُونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ؟ قَالَ: يُصْبِحُ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ وَيُوَاقِعُ شَهْوَتَهُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ جَرِيرٍ

وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ» وَفِي لَفْظٍ: «فَمَنْ أَشْرَكَ بِي أَحَدًا فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ» ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الرِّيَاءِ وَأَنَّهُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُهُ، وَقَدِ اسْتَوْفَاهَا صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، بَلِ الشِّرْكُ الْجَلِيُّ يَدْخُلُ تَحْتَهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُوَ الرِّيَاءُ كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضَائِلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِخُصُوصِهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي حَكِيمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا خَاتِمَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ لَكَفَتْهُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالشِّيرَازِيُّ فِي الْأَلْقَابِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنِ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ، كَانَ لَهُ نُورٌ مِنْ عَدَنِ أَبْيَنَ إِلَى مَكَّةَ حَشْوُهُ الْمَلَائِكَةُ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: غَرِيبٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَنْ حَفِظَ خَاتِمَةَ الْكَهْفِ كَانَ لَهُ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ لَدُنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ وَقَالَ: إِنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا أَثَرٌ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ آخِرُ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْكَهْفُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ، وَلَعَلَّ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا مَا يَنْسَخُهَا وَلَا يُغِيِّرُ حُكْمَهَا، بَلْ هِيَ مُثْبَتَةٌ مُحْكَمَةٌ، فَاشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ فَرَوَى بِالْمَعْنَى على ما فهمه.

سورة مريم

سورة مريم أَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ بِمَكَّةَ سُورَةُ كهيعص. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ مَرْيَمَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ قَالَ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ اللَّهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ كهيعص فَبَكَى النَّجَاشِيُّ حَتَّى أخضل لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ القصّة بطولها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) قَوْلُهُ: كهيعص قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ هَذِهِ الْحُرُوفَ مُقَطَّعَةً، وَوَصَلَهَا الْبَاقُونَ، وَأَمَالَ أبو عمرو الهاء وفتح الياء، وَعَكَسَ ذَلِكَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ، وَأَمَالَهُمَا جَمِيعًا الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَخَلَفٌ، وَقَرَأَهُمَا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَفَتْحَهُمَا الْبَاقُونَ. وَعَنْ خَارِجَةَ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَضُمُّ كَافَ، وَحَكَى عَنْ غَيْرِهِ أنه كان بضم هَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ ضَمُّ الْكَافِ وَلَا الْهَاءِ وَلَا الْيَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَحْسَنِ مَا فِي هَذَا، وَالْإِمَالَةُ جَائِزَةٌ فِي هَا وَفِي يَا، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ جَمَاعَةٌ. وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِهَا أَنَّهُ كَانَ يُشِمُّ الرَّفْعَ فَقَطْ. وَأَظْهَرَ الدَّالَ مِنْ هِجَاءَ: صَادْ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أبي عبيد وَأَدْغَمَهَا الْبَاقُونَ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ التَّفْخِيمَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْإِمَالَةَ فَرْعٌ عَنْهُ، فَمَنْ قَرَأَ بِتَفْخِيمِ الْهَاءِ وَالْيَاءِ فَقَدْ عَمِلَ بِالْأَصْلِ، وَمَنْ أَمَالَهُمَا فَقَدْ عَمِلَ بِالْفَرْعِ، وَمَنْ أَمَالَ أَحَدَهُمَا وَفَخَّمَ الْآخَرَ فَقَدْ عَمِلَ بِالْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمَحِلِّ هَذِهِ الْفَاتِحَةِ إِنْ جُعِلَتِ اسْمًا لِلسُّورَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهَا مَا بَعْدَهَا، قَالَهُ الفرّاء. واعترضه

الزَّجَّاجُ فَقَالَ: هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ كهيعص لَيْسَ هُوَ مِمَّا أَنْبَأَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَنْ زَكَرِيَّا، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ وَعَمَّا بُشِّرَ بِهِ، وَلَيْسَ كهيعص مِنْ قِصَّتِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، فَقَوْلُهُ: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ. وَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكَ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ. قال الزجّاج: ذكر مرتفع بالمضمر، وَالْمَعَنَى: هَذَا الَّذِي نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا يَعْنِي إِجَابَتَهُ إِيَّاهُ حِينَ دَعَاهُ وَسَأَلَهُ الْوَلَدَ، وَانْتِصَابُ عَبْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِلرَّحْمَةِ قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: لِلذِّكْرِ. وَمَعْنَى ذِكْرِ الرَّحْمَةِ بُلُوغُهَا وَإِصَابَتُهَا، كَمَا يُقَالُ: ذَكَرَنِي مَعْرُوفُ فُلَانٍ، أَيْ: بَلَغَنِي. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ ذِكْرُ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ «عَبْدُهُ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَفَاعِلُ الذِّكْرِ هُوَ عَبْدُهُ، وَزَكَرِيَّا عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَقَرَأَ الْكَلْبِيُّ ذَكَرَ عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ عَبَدُهُ، وَقَرَأَ ابْنُ مَعْمَرٍ عَلَى الْأَمْرِ، وَتَكُونُ الرَّحْمَةُ عَلَى هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ زَكَرِيَّا، لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ رَحْمَةٌ لِأُمَّتِهِ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ رَحْمَةِ، وَقِيلَ: ذِكْرُ، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ زَكَرِيَّا. وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ كَوْنِ نِدَائِهِ هَذَا خَفِيًّا، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ، وَقِيلَ: أَخْفَاهُ لِئَلَّا يُلَامَ عَلَى طَلَبِهِ لِلْوَلَدِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَلِكَوْنِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: أَخْفَاهُ مَخَافَةً مِنْ قَوْمِهِ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ قَدْ صَارَ ضَعِيفًا، هَرِمًا، لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجَهْرِ قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: نَادَى رَبَّهُ، يُقَالُ: وَهَنَ يَهِنُ وَهْنًا إِذَا ضَعُفَ، فَهُوَ وَاهِنٌ، وَقُرِئَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، أَرَادَ أَنَّ عِظَامَهُ فَتَرَتْ وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَذَكَرَ الْعَظْمَ لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ، وَبِهِ قِوَامُهُ، وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ، فَإِذَا وَهَنَ تَدَاعَى وَتَسَاقَطَتْ قُوَّتُهُ، وَلِأَنَّ أَشَدَّ مَا فِي الْإِنْسَانِ صُلْبُهُ، فَإِذَا وَهَنَ كَانَ مَا وَرَاءَهُ أَوْهَنَ، وَوَحَّدَ العظم قصدا إِلَى الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِشُمُولِ الْوَهَنِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعِظَامِ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِإِدْغَامِ السِّينِ فِي الشِّينِ، وَالْبَاقُونَ بِعَدَمِهِ، وَالِاشْتِعَالُ فِي الْأَصْلِ: انْتِشَارُ شُعَاعِ النَّارِ، فَشَبَّهَ بِهِ انْتِشَارَ بَيَاضِ شَعَرِ الرَّأْسِ فِي سَوَادِهِ بِجَامِعِ الْبَيَاضِ وَالْإِنَارَةِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ، بِأَنْ حَذَفَ الْمُشَبَّهَ بِهِ وَأَدَاةَ التَّشْبِيهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مِنْ أَبْدَعِ الِاسْتِعَارَاتِ وَأَحْسَنِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ لِلشَّيْبِ إِذَا كَثُرَ جِدًّا قد اشتعل رأس فلان، وأنشد للبيد: إن تَرِي رَأْسِي أَمْسَى وَاضِحًا ... سُلِّطَ الشَّيْبُ عَلَيْهِ فَاشْتَعَلَ وَانْتِصَابُ شَيْبًا عَلَى التَّمْيِيزِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ مَعْنًى اشْتَعَلَ: شَابَ. قَالَ النَّحَّاسُ: قَوْلُ الْأَخْفَشِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فَعَلَ، وَالْمَصْدَرِيَّةُ أَظْهَرُ فِيمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْأَصْلُ اشْتَعَلَ شَيْبُ رَأْسِي، فَأُسْنِدَ الِاشْتِعَالُ إِلَى الرَّأْسِ لِإِفَادَةِ الشُّمُولِ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أَيْ: لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ خَائِبًا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، بَلْ كُلَّمَا دَعَوْتُكَ اسْتَجَبْتَ لِي. قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَجْمَعَ فِي دُعَائِهِ بَيْنَ الْخُضُوعِ، وَذِكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَ زَكَرِيَّا هَاهُنَا، فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً غَايَةَ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ وَإِظْهَارِ الضَّعْفِ وَالْقُصُورِ عَنْ نَيْلِ مَطَالِبِهِ، وَبُلُوغِ مَآرِبِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ذِكْرُ مَا عَوَّدَهُ اللَّهُ مِنَ الْإِنْعَامِ

عَلَيْهِ بِإِجَابَةِ أَدْعِيَتِهِ، يُقَالُ: شَقِيَ بِكَذَا، أَيْ: تَعِبَ فِيهِ، وَلَمْ يُحَصِّلْ مَقْصُودَهُ مِنْهُ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي قَرَأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَأَبُوهُ عَلِيٌّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ «خَفَّتِ» بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ وَفَاعِلُهُ الْمَوالِيَ أَيْ: قَلُّوا وَعَجَزُوا عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الدِّينِ بَعْدِي، أو انقطعوا بالموت، مأخوذا من خفت القوم إذا ارتحلوا، وهذه قراءة شَاذَّةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «خِفْتُ» بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ ضمير يعود إلى زكريا، ومفعوله الموالي، ومن وَرَائِي مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ لَا بِخِفْتُ، وَتَقْدِيرُهُ: خِفْتُ فِعْلَ الْمَوَالِي مِنْ بَعْدِي. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَرائِي بِالْهَمْزِ وَالْمَدِّ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْهَمْزِ وَالْمَدِّ وَفَتْحِ الْيَاءِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قرأ بالقصر مفتوح الياء، مثل عصاي، والموالي هُنَا: هُمُ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ يَرِثُونَ وَسَائِرُ الْعَصَبَاتِ مِنْ بَنِي الْعَمِّ وَنَحْوِهُمْ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي هَؤُلَاءِ مَوَالِيَ، قَالَ الشَّاعِرُ «1» : مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا ... لَا تَنْشُرُوا «2» بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا قِيلَ: الْمَوَالِي النَّاصِرُونَ لَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْمَخَافَةِ مِنْ زَكَرِيَّا لِمَوَالِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَقِيلَ: خَافَ أَنْ يَرِثُوا مَالَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَرِثَهُ وَلَدُهُ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمْ كَانُوا مُهْمِلِينَ لِأَمْرِ الدِّينِ، فَخَافَ أَنْ يَضِيعَ الدِّينُ بِمَوْتِهِ، فَطَلَبَ وَلِيًّا يَقُومُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرَّثُونَ، وَهُمْ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَعْتَنُوا بِأُمُورِ الدُّنْيَا، فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا وِرَاثَةَ الْمَالِ، بَلِ الْمُرَادُ وِرَاثَةُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْقِيَامُ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَقَدْ ثبت عن نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «نَحْنُ مَعَاشِرُ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرَّثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» . وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً الْعَاقِرُ: هِيَ الَّتِي لَا تَلِدُ لِكِبَرِ سِنِّهَا، وَالَّتِي لَا تَلِدُ أَيْضًا لِغَيْرِ كِبَرٍ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَا يَلِدُ عاقر أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ: لَبِئْسَ الْفَتَى إِنْ كُنْتَ أَعْوَرَ عَاقِرَا «3» ............... ..... قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ اسْمُ امْرَأَتِهِ أَشَاعَ بِنْتَ فَاقُودَ بْنِ مَيْلَ، وَهِيَ أُخْتُ حَنَّةَ، وَحَنَّةُ هِيَ أمّ مريم. وقال القتبي: هي أشاع بنت عمران، فعلى القول يَكُونُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا ابْنَ خَالَةِ أُمِّ عِيسَى، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونَانِ ابْنَيْ خَالَةٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أَيْ: أَعْطِنِي مِنْ فَضْلِكَ وَلِيًّا، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِطَلَبِ الْوَلَدِ لِمَا عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ صَارَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ فِي حَالَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهَا حُدُوثُ الْوَلَدِ بَيْنَهُمَا وَحُصُولُهُ مِنْهُمَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ ابْنَ بِضْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: بَلْ أَرَادَ بالوليّ الذي طلبه هو الولد، ولا مانع من سؤال من كَانَ مِثْلَهُ لِمَا هُوَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ يُكْرِمُ رُسُلَهُ بِمَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قَرَأَ أهل الحرمين والحسن وعاصم

_ (1) . هو الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لهب. (2) . في تفسير القرطبي (11/ 78) : لا تنبشوا. (3) . وعجزه: جبانا فما عذري لدى كلّ محضر.

وحمزة وابن محيصن واليزيدي ويحيى بن المبارك «1» بِالرَّفْعِ فِي الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِلْوَلِيِّ وَلَيْسَا بِجَوَابٍ لِلدُّعَاءِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْجَزْمِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا جَوَابٌ لِلدُّعَاءِ. وَرَجَّحَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: هِيَ أَصْوَبُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ طَلَبَ وَلِيًّا هَذِهِ صِفَتُهُ فَقَالَ: هَبْ لِي الَّذِي يَكُونُ وَارِثِي. وَرَجَّحَ ذَلِكَ النَّحَّاسُ وَقَالَ: لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْمُجَازَاةِ، تَقُولُ: أَطِعِ اللَّهَ يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، أَيْ: إِنْ تُطِعْهُ يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، وَكَيْفَ يُخْبِرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا، أَعْنِي كَوْنَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلِيًّا يَرِثُهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَالْوِرَاثَةُ هُنَا هِيَ وِرَاثَةُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ عَلَى مَا هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا سَلَفَ. وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ يَعْقُوبَ الْمَذْكُورَ هُنَا هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ يَعْقُوبُ بن ماهان أخو عمران بن ماهان، وبه قال الكلبي ومقاتل، وآل يَعْقُوبَ هُمْ خَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَؤُولُ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ لِلْقَرَابَةِ أَوِ الصُّحْبَةِ أَوِ الْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَنْبِيَاءُ وَمُلُوكٌ، وَقُرِئَ: يَرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ يَرِثُنِي. وَقُرِئَ وَأَرِثُ آلَ يَعْقُوبَ أَيْ: أَنَا. وقرئ أو يرث آل يعقوب بلفظ التخيير على أن المخيّر فاعل وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ فِي غَايَةِ الشُّذُوذِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أَيْ: مَرْضِيًّا فِي أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَقِيلَ: رَاضِيًا بِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ، وَقِيلَ: رَجُلًا صَالِحًا تَرْضَى عَنْهُ، وَقِيلَ: نَبِيًّا كَمَا جَعَلْتَ آباءه أنبياء يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى قَالَ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا النِّدَاءَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْمَلَائِكَةِ، لقوله في آل عمران: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ «2» ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: فَاسْتَجَابَ لَهُ دُعَاءَهُ، فقال: يا زكريا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ بيحيى وزكريا. قَالَ الزَّجَّاجُ: سُمِّيَ يَحْيَى لِأَنَّهُ حَيِيَ بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي أُوتِيَهَا لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ لَمْ نُسَمِّ أَحَدًا قَبْلَهُ يَحْيَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مِثْلًا وَلَا نَظِيرًا، فيكون على هذا مأخوذ مِنَ الْمُسَامَاةِ أَوِ السُّمُوِّ، وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَفْضِيلَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَمْ تَلِدْ عَاقِرٌ مِثْلَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَفِي إِخْبَارِهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَهُ أَحَدٌ فَضِيلَةٌ لَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى تَسْمِيَتَهُ بِهِ، وَلَمْ يَكِلْهَا إِلَى الْأَبَوَيْنِ. وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ تَسْمِيَتَهُ بِاسْمٍ لَمْ يُوضَعْ لِغَيْرِهِ يُفِيدُ تَشْرِيفَهُ وَتَعْظِيمَهُ قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي: كيف أو من أين يكون لِي غُلَامٌ؟ وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارَ، بَلِ التَّعَجُّبَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، حَيْثُ يُخْرِجُ وَلَدًا مِنِ امْرَأَةٍ عَاقِرٍ وَشَيْخٍ كَبِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا يُقَالُ: عَتَا الشَّيْخُ يَعْتُو عِتِيًّا إِذَا انْتَهَى سِنُّهُ وَكَبُرَ، وَشَيْخٌ عَاتٍ إِذَا صَارَ إلى حال اليبس والجفاف، والأصل عتوّ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ فَأَبْدَلُوهُ يَاءً لِكَوْنِهَا أَخَفَّ، وَمِثْلُ مَا فِي الْآيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّمَا يُعْذَرُ الْوَلِيدُ وَلَا يُعْ ... ذَرُ مَنْ كَانَ فِي الزَّمَانِ عِتِيَّا وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَالْأَعْمَشُ عِتِيًّا بِكَسْرِ العين، وقرأ الباقون بضم

_ (1) . قوله: (واليزيدي ويحيى بن المبارك) ، الصواب: ويحيى بن المبارك اليزيدي. (2) . آل عمران: 39.

الْعَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَمَحَلُّ جُمْلَةِ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَمَحَلُّ جُمْلَةِ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا النَّصْبُ أَيْضًا عَلَى الْحَالِ، وَكِلَا الْجُمْلَتَيْنِ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِبْعَادِ وَالتَّعَجُّبِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أَيْ: كَيْفَ يَحْصُلُ بَيْنَنَا وَلَدٌ الْآنَ، وَقَدْ كَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا لَمْ تَلِدْ فِي شَبَابِهَا وَشَبَابِي، وَهِيَ الْآنَ عَجُوزٌ، وَأَنَا شَيْخٌ هَرِمٌ؟ ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ الْمُشْعِرِ بِالتَّعَجُّبِ وَالِاسْتِبْعَادِ بِقَوْلِهِ: قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ الْكَافُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، أَيْ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِ زَكَرِيَّا، ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: قالَ رَبُّكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ النَّصْبَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: قَالَ قَوْلًا مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ بذلك إِلَى مُبْهَمٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَأَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ مُسْتَأْنَفَةً مَسُوقَةً لِإِزَالَةِ اسْتِبْعَادِ زَكَرِيَّا بَعْدَ تَقْرِيرِهِ، أَيْ: قَالَ هُوَ مَعَ بُعْدِهِ عِنْدَكَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَهُوَ فَيْعَلٌ مِنْ هَانَ الشَّيْءُ يَهُونُ إِذَا لَمْ يَصْعُبْ وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الْمُرَادِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: خَلْقُهُ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: فَخَلْقُ الْوَلَدِ لَكَ كَخَلْقِكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُ ابْتِدَاءً وَأَوْجَدَهُ مِنَ الْعَدَمِ الْمَحْضِ، فَإِيجَادُ الْوَلَدِ لَهُ بِطْرِيقِ التَّوَالُدِ الْمُعْتَادِ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ وَأَسْهَلُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْسِبْ ذَلِكَ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَوْنِهِ الْمَخْلُوقَ مِنَ الْعَدَمِ حَقِيقَةً بِأَنْ يَقُولَ: وَقَدْ خَلَقْتُ أَبَاكَ آدَمَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ لَهُ حَظٌّ مِنْ إِنْشَاءِ آدَمَ مِنَ الْعَدَمِ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةَ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَقَرَأَ سَائِرُ الْكُوفِيِّينَ وَقَدْ خَلَقْنَاكَ مِنْ قَبْلُ قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ عَلَامَةً تدلني على وقوع المسؤول وَتَحَقُّقِهِ وَحُصُولِ الْحَبَلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ تَعْرِيفُهُ وَقْتَ الْعُلُوقِ حَيْثُ كَانَتِ الْبِشَارَةُ مُطْلَقَةً عَنْ تَعْيِينِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَهُ تَاقَتْ إِلَى سُرْعَةِ الْأَمْرِ، فَسَأَلَ اللَّهَ آيَةً يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى قُرْبِ مَا منّ به عليه، وقيل: طلب آية تدله عَلَى أَنَّ الْبُشْرَى مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا مِنَ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ أَوْهَمَهُ بِذَلِكَ، كَذَا قال الضحاك والسدّي، وهو بعيد جدّا قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ مُسْتَوْفًى، وَانْتِصَابُ «سَوِيًّا» عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: آيَتُكَ أَنْ لَا تَقْدِرَ عَلَى الْكَلَامِ وَالْحَالُ أنك سويّ الخلق ليس بك آفة تَمْنَعُكَ مِنْهُ، وَقَدْ دَلَّ بِذِكْرِ اللَّيَالِي هُنَا وَالْأَيَّامِ فِي آلِ عِمْرَانَ أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ وَهُوَ مُصَلَّاهُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَرْبِ، كَأَنَّ مُلَازِمَهُ يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ وَقِيلَ: مِنَ الْحَرَبِ مُحَرَّكًا، كَأَنَّ مُلَازِمَهُ يَلْقَى حَرَبًا وَتَعَبًا وَنَصَبًا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا قِيلَ: مَعْنَى أَوْحَى: أَوْمَأَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: إِلَّا رَمْزاً وَقِيلَ: كَتَبَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالْقُرَظِيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ مُنَبِّهٍ، وَبِالثَّانِي قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَحْيُ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: سِوَى الْأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا ... بَقِيَّةُ وَحْيٍ فِي بُطُونِ الصَّحَائِفِ وَقَالَ عنترة:

كَوَحْيِ صَحَائِفَ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى ... فَأَهْدَاهَا لِأَعْجَمَ طمطميّ «1» وأَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ سَبِّحُوا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مُفَسِّرَةٌ، وَالْمَعْنَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ بِأَنْ صَلُّوا، أَوْ أَيْ صَلُّوا، وَانْتِصَابُ بُكْرَةً وَعَشِيًّا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَشِيُّ يُؤَنَّثُ، وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ إِذَا أُبْهِمَ. قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ الْعَشِيُّ جَمْعُ عَشِيَّةٍ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ هُوَ قَوْلُهُمْ سُبْحَانَ اللَّهِ فِي الْوَقْتَيْنِ، أَيْ: نَزِّهُوا رَبَّكُمْ طَرَفَيِ النَّهَارِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كهيعص كَبِيرٌ هَادٍ أَمِينٌ عَزِيزٌ صَادِقٌ، وَفِي لَفْظٍ كَافٍ بَدَلُ كَبِيرٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَآدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي التَّوْحِيدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كهيعص قَالَ: كَافٌ مِنْ كِرِيمٍ، وَهَاءٌ مِنْ هَادٍ، وَيَاءٌ مِنْ حَكِيمٍ، وَعَيْنٌ مِنْ عَلِيمٍ، وَصَادٌ مَنْ صَادِقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كهيعص هُوَ الْهِجَاءُ الْمُقَطَّعُ الْكَافُ مِنَ الْمَلِكِ، وَالْهَاءُ مِنَ اللَّهِ، وَالْيَاءُ وَالْعَيْنُ مِنَ الْعَزِيزِ، وَالصَّادُ مِنَ الْمُصَوِّرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ كهيعص فَحَدَّثَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَافٌ هَادٍ عَالِمٌ صَادِقٌ» . وَأَخْرَجَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ عَلِيٍّ قَالَتْ: كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ يَا كهيعص اغْفِرْ لِي. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كهيعص قَالَ: الْكَافُ الْكَافِي، وَالْهَاءُ الْهَادِي، وَالْعَيْنُ الْعَالِمُ، وَالصَّادُ الصَّادِقُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي كهيعص وحم ويس وَأَشْبَاهِ هَذَا: هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَكَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَقَعَ بَيْنَ مَنْ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يَصِحَّ مَرْفُوعًا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَمَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مَا يُخَالِفُهُ، وَقَدْ يُرْوَى عَنِ الصَّحَابِيِّ نَفْسِهِ التَّفَاسِيرُ الْمُتَخَالِفَةُ الْمُتَنَاقِضَةُ فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ، فَلَا يَقُومُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حُجَّةً، بَلِ الْحَقُّ الْوَقْفُ، وَرَدُّ الْعِلْمِ فِي مِثْلِهَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ هَذَا فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ آخِرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ زَكَرِيَّا بْنُ أَزَرَ بْنِ مُسْلِمٍ، مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ دَعَا رَبَّهُ سِرًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي إِلَى قَوْلِهِ: خِفْتُ الْمَوالِيَ قَالَ: وَهُمُ الْعَصَبَةُ يَرِثُنِي نُبُوَّتِي وَنُبُوَّةَ آلِ يَعْقُوبَ، فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى فلما سمع النداء جاءه الشيطان فقال:

_ (1) . «الطمطمي» : الأعجم الذي لا يفصح.

[سورة مريم (19) : الآيات 12 إلى 15]

يَا زَكَرِيَّا إِنَّ الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعْتَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ سَخِرَ بِكَ، فَشَكَّ وَقَالَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ يَقُولُ مِنْ أَيْنَ يَكُونُ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ، قَالَ اللَّهُ: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي قال: الورثة، وهم عصبة الرجل. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ زَكَرِيَّا لَا يولد له فسأل ربه فقال: ربّ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قَالَ: يَرِثُ مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قَالَ: مِثْلًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: لَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ عِتِيًّا أَوْ عِسِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: عِتِيًّا قَالَ: لَبِثَ زَمَانًا فِي الْكِبَرِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هَرِمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا قَالَ: اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ، وَفِي لَفْظٍ مِنْ غَيْرِ خَرَسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ قَالَ: كَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ سَبِّحُوا قَالَ: أمرهم بالصلاة بُكْرَةً وَعَشِيًّا. [سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15] يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) قَوْلُهُ: يَا يَحْيى هَاهُنَا حَذْفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَقَالَ اللَّهُ لِلْمَوْلُودِ يَا يَحْيَى، أَوْ فَوُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَبَلَغَ الْمَبْلَغَ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ فِيهِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا يَحْيَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فَوَهَبْنَا لَهُ وَقُلْنَا لَهُ يَا يَحْيَى. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ حِينَئِذٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا مُخْتَصًّا بِهِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُهُ الْآنَ، وَالْمُرَادُ بِالْأَخْذِ إِمَّا الْأَخْذُ الْحِسِّيُّ أَوِ الْأَخْذُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْقِيَامُ بِمَا فِيهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ بِتَحْصِيلِ مَلَكَةٍ تَقْتَضِي سُهُولَةَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْإِحْجَامِ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: بِقُوَّةٍ أَيْ: بِجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ وَاجْتِهَادٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الْحِكْمَةُ، وَهِيَ الْفَهْمُ لِلْكِتَابِ الَّذِي أُمِرَ بِأَخْذِهِ وَفَهْمُ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ، وَقِيلَ: هِيَ الْعِلْمُ وَحِفْظُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: الْعَقْلُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ صَالِحًا لِحَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ. قِيلَ: كَانَ يَحْيَى عِنْدَ هَذَا الْخِطَابِ لَهُ ابْنَ سَنَتَيْنِ، وَقِيلَ: ابْنُ ثَلَاثٍ وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا مَعْطُوفٌ عَلَى الْحُكْمِ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْحَنَانُ: الرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ وَالْعَطْفُ وَالْمَحَبَّةُ، وَأَصْلُهُ تَوَقَانُ النَّفْسِ، مَأْخُوذٌ مِنْ حَنِينِ النَّاقَةِ عَلَى وَلَدِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ حَنَانُكَ يَا رَبِّ وَحَنَانَيْكَ يَا رَبِّ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُرِيدُ رَحْمَتَكَ. قَالَ طَرَفَةُ: أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ

وقال امرؤ القيس: ويمنحها بنو شمجى بن جرم «1» ... مَعِيزَهُمْ حَنَانَكَ ذَا الْحَنَانِ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْحَنَّانُ: مُشَدَّدًا، مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْحَنَانُ مُخَفَّفًا: الْعَطْفُ وَالرَّحْمَةُ، وَالْحَنَانُ: الرِّزْقُ وَالْبَرَكَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْحَنَانُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَيْضًا مَا عَظُمَ مِنَ الْأُمُورِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْعَبْدَ لَأَتَّخِذَنَّ قَبْرَهُ حَنَانًا، يَعْنِي بِلَالًا، لَمَّا مَرَّ بِهِ وَهُوَ يُعَذَّبُ وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ هُوَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَى ذَلِكَ لَأَتَرَحَّمَنَّ عَلَيْهِ، وَلَأَتَعَطَّفَنَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ الْمَلِيكُ ... فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالَا وَمَعْنَى مِنْ لَدُنَّا من جنابنا، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَعْطَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ لَدُنَّا كَائِنَةً فِي قَلْبِهِ يَتَحَنَّنُ بِهَا عَلَى النَّاسِ، وَمِنْهُمْ أَبَوَاهُ وَقَرَابَتُهُ حَتَّى يُخَلِّصَهُمْ من الكفر وَزَكاةً معطوف على ما قَبْلَهُ، وَالزَّكَاةُ: التَّطْهِيرُ وَالْبَرَكَةُ وَالتَّنْمِيَةُ وَالْبِرُّ، أَيْ: جَعَلْنَاهُ مُبَارَكًا لِلنَّاسِ يَهْدِيهِمْ إِلَى الْخَيْرِ وَقِيلَ: زَكَّيْنَاهُ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ كَتَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَقِيلَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقْنَا بِهِ عَلَى أَبَوَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَكانَ تَقِيًّا أَيْ: مُتَجَنِّبًا لِمَعَاصِي اللَّهِ مُطِيعًا لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ مَعْصِيَةً قَطُّ وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ مَعْطُوفٌ عَلَى «تَقِيًّا» ، الْبَرُّ هُنَا بِمَعْنَى: الْبَارِّ، فَعْلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَالْمَعْنَى: لَطِيفًا بِهِمَا مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا أَيْ: لَمْ يَكُنْ مُتَكَبِّرًا وَلَا عَاصِيًا لِوَالِدَيْهِ أَوْ لِرَبِّهِ، وَهَذَا وَصْفٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلِينِ الْجَانِبِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ وَسَلامٌ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ أَمَانٌ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا التَّحِيَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ، فَهِيَ أَشْرَفُ وَأَنْبَهُ مِنَ الْأَمَانِ، لِأَنَّ الْأَمَانَ مُتَحَصِّلٌ لَهُ بِنَفْيِ الْعِصْيَانِ عَنْهُ، وَهُوَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ، وَإِنَّمَا الشَّرَفُ فِي أَنْ يُسَلِّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى يَوْمَ وُلِدَ أَنَّهُ أُمِّنَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ حَيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهَكَذَا مَعْنَى يَوْمَ يَمُوتُ وَهَكَذَا معنى يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا قِيلَ: أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: يَوْمَ وُلِدَ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَيَوْمَ يَمُوتُ لِأَنَّهُ يَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ قَدْ عَرَفَهُمْ وَأَحْكَامًا لَيْسَ لَهُ بِهَا عَهْدٌ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ لِأَنَّهُ يَرَى هَوْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَخَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَحْيَى بِالْكَرَامَةِ وَالسَّلَامَةِ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ قَالَ: بِجِدٍّ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا قَالَ: الْفَهْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: يَقُولُ اعْمَلْ بِمَا فِيهِ مِنْ فَرَائِضَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: اللُّبُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا قَالَ: «أُعْطِيَ الْفَهْمَ وَالْعِبَادَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ بَدْلَةٌ: وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، مِنْ طَرِيقِ نَهْشَلِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عن ابن عباس

_ (1) . في المطبوع: بنو سلخ بن بكر، والمثبت من الديوان ص (143) .

[سورة مريم (19) : الآيات 16 إلى 26]

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ الْغِلْمَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبْ، فَقَالَ يَحْيَى: مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا، اذْهَبُوا نُصَلِّي، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ فهو ممّن أوتي الحكم صبيا» . وأخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَحَناناً قَالَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ إلا أنّي أظنّه يعطف الله عَلَى عَبْدِهِ بِالرَّحْمَةِ، وَقَدْ فَسَّرَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِالرَّحْمَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَزَكاةً قَالَ: بَرَكَةً، وَفِي قَوْلِهِ: وَكانَ تَقِيًّا قَالَ: طَهُرَ فَلَمْ يعمل بذنب. [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 26] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ هَذَا شُرُوعٌ فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِ عِيسَى، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هَذِهِ السُّورَةُ، أَيِ: اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِصَّةَ مَرْيَمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ جِنْسُ الْقُرْآنِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مِنْهُ، وَلَمَّا كَانَ الذِّكْرُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الذِّكْرُ، وَهُوَ قِصَّةُ مَرْيَمَ، أَوْ خَبَرُ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ هُوَ ذَلِكَ الْمُضَافُ الْمُقَدَّرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ مَرْيَمَ لِأَنَّ الْأَزْمَانَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا فِيهَا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَرْيَمَ خَبَرَهَا، وَفِي هَذَا الْإِبْدَالِ دَلَالَةٌ عَلَى تَفْخِيمِ شَأْنِ الْوَقْتِ لِوُقُوعِ قِصَّتِهَا الْعَجِيبَةِ فِيهِ، وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ وَالرَّمْيُ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ «1» . وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَنَحَّتْ وَتَبَاعَدَتْ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: اعْتَزَلَتْ، وَقِيلَ: انْفَرَدَتْ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ انْتِبَاذِهَا، فَقِيلَ: لِأَجْلِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ سبحانه، وقيل: لتطهر من حيضها، ومِنْ أَهْلِها مُتَعْلِّقٌ بِانْتَبَذَتْ، وَانْتِصَابُ مَكاناً شَرْقِيًّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: مَكَانًا مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ، وَالشَّرْقُ بِسُكُونِ الرَّاءِ: الْمَكَانُ الَّذِي تَشْرُقُ فِيهِ الشَّمْسُ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَكَانَ بِالشَّرْقِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ جِهَةَ الشَّرْقِ لِأَنَّهَا مَطْلَعُ الْأَنْوَارِ، حكى معناه ابن جرير.

_ (1) . آل عمران: 187.

وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نُبُوَّةِ مَرْيَمَ، فَقِيلَ: إِنَّهَا نَبِيَّةٌ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْإِرْسَالِ إِلَيْهَا وَمُخَاطَبَتِهَا لِلْمَلَكِ وَقِيلَ: لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَلَّمَهَا الْمَلَكُ وَهُوَ عَلَى مِثَالِ الْبَشَرِ، وَقَدْ تقدّم الكلام في هذا فِي آلِ عِمْرَانَ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً أَيِ: اتَّخَذَتْ مِنْ دُونِ أَهْلِهَا حِجَابًا يَسْتُرُهَا عَنْهُمْ لِئَلَّا يَرَوْهَا حَالَ الْعِبَادَةِ، أَوْ حَالَ التَّطَهُّرِ مِنَ الْحَيْضِ، وَالْحِجَابُ: السِّتْرُ وَالْحَاجِزُ فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: هُوَ رُوحُ عِيسَى لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا أَيْ: تَمَثَّلَ جِبْرِيلُ لَهَا بَشَرًا مُسْتَوِيَ الْخَلْقِ لَمْ يَفْقِدْ مِنْ نُعُوتِ بَنِي آدَمَ شَيْئًا، قِيلَ: وَوَجْهُ تَمَثُّلِ الْمَلَكِ لَهَا بَشَرًا أَنَّهَا لَا تُطِيقُ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى الْمَلَكِ وَهُوَ عَلَى صُورَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ حَسَنٍ كَامِلِ الْخَلْقِ قَدْ خَرَقَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ ظَنَّتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا بِسُوءٍ، فاستعاذت بالله منه، وقالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أَيْ: مِمَّنْ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَخَافُهُ وَقِيلَ: إِنَّ تَقِيًّا اسْمُ رَجُلٍ صَالِحٍ، فَتَعَوَّذَتْ مِنْهُ تَعَجُّبًا وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ فَاجِرٍ مَعْرُوفٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَلَا تَتَعَرَّضْ لِي قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ أَيْ: قَالَ لَهَا جِبْرِيلُ: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ الَّذِي اسْتَعَذْتِ بِهِ، وَلَسْتُ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ مَا خَطَرَ بِبَالِكِ مِنْ إِرَادَةِ السُّوءِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا جَعَلَ الْهِبَةَ مِنْ قِبَلِهِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا فِيهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْإِعْلَامِ لَهَا مِنْ جِهَتِهِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ النَّفْخِ قَامَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ لِيَهَبَ عَلَى مَعْنَى أَرْسَلَنِي لِيَهَبَ لَكِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ. وَالزَّكِيُّ: الطَّاهِرُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّذِي يَنْمُو عَلَى النَّزَاهَةِ وَالْعِفَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالزَّكِيِّ النَّبِيِّ قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أَيْ: لَمْ يَقْرُبْنِي زَوْجٌ وَلَا غَيْرُهُ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا الْبَغِيُّ: هِيَ الزَّانِيَةُ الَّتِي تَبْغِي الرِّجَالَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُهُ بَغُويٌ عَلَى فَعُولٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَتِ الْغَيْنُ لِلْمُنَاسَبَةِ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: إِنَّهُ فَعِيلٌ وَزِيَادَةُ ذِكْرِ كَوْنِهَا لَمْ تَكُ بَغِيًّا مَعَ كَوْنِ قَوْلِهَا لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يَتَنَاوَلُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ تَنْزِيهًا لِجَانِبِهَا مِنَ الْفَحْشَاءِ وَقِيلَ: مَا اسْتَبْعَدَتْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَرَادَتْ كَيْفَ يكون هذا الْوَلَدُ هَلْ مِنْ قِبَلِ زَوْجٍ تَتَزَوَّجُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَمْ يَخْلُقُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ابْتِدَاءً؟ وَقِيلَ: إن المسّ عبادة عَنِ النِّكَاحِ الْحَلَالِ، وَعَلَى هَذَا لَا يُحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ قَوْلِهَا: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شُمُولِهِ أَوْلَى بِاسْتِعْمَالَاتِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَا يُوجَدُ فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ مِمَّا يَطُولُ تِعْدَادُهُ اه. وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أَيْ: وَلِنَجْعَلَ هَذَا الْغُلَامَ، أَوْ خَلْقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، آيَةً لِلنَّاسِ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ عِلَّةٌ لِمُعَلَّلٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: خَلَقْنَاهُ لِنَجْعَلَهُ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ أُخْرَى مُضْمَرَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَجُمْلَةُ: قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْقَائِلُ هُوَ الْمَلَكُ، وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ زَكَرِيَّا. وَقَوْلُهُ: وَرَحْمَةً مِنَّا مَعْطُوفٌ عَلَى آيَةً: أَيْ وَلِنَجْعَلَهُ رَحْمَةً عَظِيمَةً كَائِنَةً مِنَّا لِلنَّاسِ لِمَا ينالونه منه مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيِرِ لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ رَحْمَةٌ لِأُمَّتِهِ وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أَيْ: وَكَانَ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ أَمْرًا مُقَدَّرًا قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَجَفَّ بِهِ الْقَلَمُ فَحَمَلَتْهُ هَاهُنَا كَلَامٌ مَطْوِيٌّ، وَالتَّقْدِيرُ: فَاطْمَأَنَّتْ إِلَى قَوْلِهِ فَدَنَا مِنْهَا فَنَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا فَوَصَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى بَطْنِهَا فَحَمَلَتْهُ وَقِيلَ: كَانَتِ النَّفْخَةُ فِي ذَيْلِهَا، وَقِيلَ: فِي فَمِهَا. قِيلَ: إِنَّ وَضْعَهَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهَذَا الْحَمْلِ مِنْ

غَيْرِ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِلْحَمْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا أَيْ: تَنَحَّتْ وَاعْتَزَلَتْ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَالْقَصِيُّ: هُوَ الْبَعِيدُ. قِيلَ: كَانَ هَذَا الْمَكَانُ وَرَاءَ الْجَبَلِ، وَقِيلَ: أَبْعَدُ مَكَانٍ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَقِيلَ: أَقْصَى الْوَادِي، وَقِيلَ: إِنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةً فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ أَيْ: أَلْجَأَهَا وَاضْطَرَّهَا، وَمِنْهُ قول زهير: أجاءته المخافة والرّجاء «1» وقرأ شبيل فَاجَأَهَا مِنَ الْمُفَاجَأَةِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَاصِمٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ فَلَمَّا أَجَاءَهَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ أَجَاءَهَا مَنْقُولٌ مِنْ جَاءَ، إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ قَدْ تَعَيَّنَ بَعْدَ النَّقْلِ إِلَى مَعْنَى الْإِلْجَاءِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ مَوْضُوعٌ بِوَضْعٍ مُسْتَقِلٍّ، وَالْمَخَاضُ مَصْدَرُ مَخَضَتِ المرأة تمخض مخاضا وَمَخَاضًا إِذَا دَنَا وِلَادُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِهَا، وَالْجِذْعُ: سَاقُ النَّخْلَةِ الْيَابِسَةِ، كَأَنَّهَا طَلَبَتْ شَيْئًا تَسْتَنِدُ إِلَيْهِ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمَا تَتَعَلَّقُ الْحَامِلُ لِشِدَّةِ وَجَعِ الطَّلْقِ بِشَيْءٍ مِمَّا تَجِدُهُ عِنْدَهَا، وَالتَّعْرِيفُ إِمَّا للجنس أو للعهد قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا أَيْ: قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ، تَمَنَّتِ الْمَوْتَ لِأَنَّهَا خَافَتْ أَنْ يُظَنَّ بِهَا السُّوءُ فِي دِينِهَا، أَوْ لِئَلَّا يَقَعَ قَوْمٌ بِسَبَبِهَا فِي الْبُهْتَانِ وَكُنْتُ نَسْياً النَّسْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الشَّيْءُ الْحَقِيرُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنْسَى، وَلَا يُذْكُرَ، وَلَا يُتَأَلَّمَ لِفَقْدِهِ كالوتد والحبل، ومنه قول الكميت: أتجعلنا جسرا لِكَلْبِ قَضَاعَةَ ... وَلَسْنَا بِنَسْيٍ فِي مَعْدٍ وَلَا دَخْلِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: النَّسْيُ: مَا تُلْقِيهِ الْمَرْأَةُ مِنْ خِرَقِ اعْتِلَالِهَا، فَتَقُولُ مَرْيَمُ نَسْياً مَنْسِيًّا أَيْ: حَيْضَةً مُلْقَاةً، وَقَدْ قُرِئَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ الْحِجْرِ وَالْحَجْرِ، وَالْوِتْرِ والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي نسئا بِالْهَمْزِ مَعَ كَسْرِ النُّونِ. وَقَرَأَ نَوْفٌ الَبِكَالِيُّ بِالْهَمْزِ مَعَ فَتْحِ النُّونِ. وَقَرَأَ بَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ نَسِيًّا بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِدُونِ هَمْزٍ، وَالْمَنْسِيُّ: الْمَتْرُوكُ الَّذِي لَا يُذَكَرُ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَناداها مِنْ تَحْتِها أَيْ: جِبْرِيلُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهَا، وَكَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا تَحْتَ الْأَكَمَةِ، وَقِيلَ: تَحْتَ النَّخْلَةِ، وَقِيلَ: الْمُنَادِي هُوَ عِيسَى. وَقَدْ قُرِئَ بِفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ مِنْ وَكَسْرِهَا. وَقَوْلُهُ: أَلَّا تَحْزَنِي تَفْسِيرٌ لِلنِّدَاءِ أَيْ: لَا تَحْزَنِي، أَوِ الْمَعْنَى بِأَنْ لَا تَحْزَنِي عَلَى أَنَّهَا الْمَصْدَرِيَّةُ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: السريّ النهر الصغير، المعنى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَ قَدَمِكِ نَهْرًا. قِيلَ: كَانَ نَهْرًا قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ الْمَاءُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ فِيهِ الْمَاءَ لِمَرْيَمَ، وَأَحْيَا بِهِ ذَلِكَ الْجِذْعَ الْيَابِسَ الَّذِي اعْتَمَدَتْ عَلَيْهِ حَتَّى أَوْرَقَ وَأَثْمَرَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّرِيِّ هُنَا عِيسَى، وَالسَّرِيُّ: الْعَظِيمُ مِنَ الرِّجَالِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ سَرِيٌّ، أَيْ: عَظِيمٌ، وَمِنْ قَوْمٍ سُرَاةٍ، أَيْ: عِظَامٍ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ الْهَزُّ التَّحْرِيكُ: يُقَالُ هَزَّهُ فَاهْتَزَّ، وَالْبَاءُ فِي بِجِذْعِ النَّخْلَةِ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ هَزَّهُ وَهَزَّ بِهِ، وَالْجِذْعُ: هُوَ أَسْفَلُ الشَّجَرَةِ. قَالَ قُطْرُبٌ: كلّ خشبة

_ (1) . وصدره: وجار سار معتمدا إلينا.

فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ فَهِيَ جِذْعٌ، وَمَعْنَى إِلَيْكِ: إِلَى جِهَتِكِ، وَأَصْلُ تَسَّاقَطُ تَتَسَاقَطُ فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي السِّينِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْأَعْمَشُ تُساقِطْ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ وَالْحَسَنُ بِضَمِّ التَّاءِ مَعَ التَّخْفِيفِ وَكَسْرِ الْقَافِ. وَقُرِئَ تَتَسَاقَطْ بِإِظْهَارِ التَّاءَيْنِ. وَقُرِئَ بِالتَّحْتِيَّةِ مَعَ تَشْدِيدِ السِّينِ. وَقُرِئَ تَسْقُطُ، وَيَسْقُطُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَوْقِيَّةِ جَعَلَ الضَّمِيرَ لِلنَّخْلَةِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّحْتِيَّةِ جَعَلَ الضَّمِيرَ لِلْجِذْعِ وَانْتِصَابُ رُطَباً عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لِلتَّمْيِيزِ، وعلى البعض الآخر على المفعولية لتساقط. قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالْأَخْفَشُ: يَجُوزُ انْتِصَابُ رُطَبًا بِهُزِّي، أَيْ: هُزِّي إِلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا بِجِذْعِ النَّخْلَةِ، أَيْ: عَلَى جِذْعِهَا، وَضَعَّفَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْجَنِيُّ: الْمَأْخُوذُ طَرِيًّا، وَقِيلَ: هُوَ مَا طُلِبَ وَصَلُحَ لِلِاجْتِنَاءِ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَنِيُّ وَالْمَجْنِيُّ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ، أَيْ: رُطَبًا طَرِيًّا طَيِّبًا فَكُلِي وَاشْرَبِي أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الرُّطَبِ وَذَلِكَ الْمَاءِ، أَوْ مِنَ الرُّطَبِ وَعَصِيرِهِ، وَقَدَّمَ الْأَكْلَ مَعَ أَنَّ ذِكْرَ النَّهْرِ مُقَدَّمٌ عَلَى الرُّطَبِ لِأَنَّ احْتِيَاجَ النُّفَسَاءِ إِلَى أَكْلِ الرُّطَبِ أَشَدُّ مِنِ احْتِيَاجِهَا إِلَى شُرْبِ الْمَاءِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَرِّي عَيْناً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْقَافِ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ قُرِئَ بِكَسْرِهَا، قَالَ: وَهِيَ لُغَةُ نَجْدٍ. وَالْمَعْنَى: طِيبِي نَفْسًا وَارْفُضِي عَنْكِ الْحُزْنَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَرِّ وَالْقُرَّةِ وَهُمَا الْبَرْدُ، وَالْمَسْرُورُ بَارِدُ الْقَلْبِ سَاكِنُ الْجَوَارِحِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَقَرِّي عَيْنًا بِرُؤْيَةِ الْوَلَدِ الْمَوْهُوبِ لَكِ. وَقَالَ الشَّيْبَانِيُّ: مَعْنَاهُ نَامِي. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، أَيْ: أَنَامَ عَيْنَهُ وَأَذْهَبَ سَهَرَهُ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً أصله ترأيين، مِثْلَ تَسْمَعِينَ، خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ وَسَقَطَتِ النُّونُ لِلْجَزْمِ وَيَاءُ الضَّمِيرِ لِلسَّاكِنَيْنِ بَعْدَ لُحُوقِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَمِثْلُ هَذَا مَعَ عَدَمِ لُحُوقِ نُونِ التَّوْكِيدِ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ: إِمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ حَاكِي لَوْنُهُ ... طُرَّةَ صُبْحٍ تَحْتَ أَذْيَالِ الدُّجَى وَقَرَأَ طلحة وأبو جعفر وَشَيْبَةُ تَرَيْنَ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ مُخَفَّفَةً. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَهِيَ شَاذَّةٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أَيْ: قَوْلِي إِنْ طَلَبَ مِنْكِ الْكَلَامَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا أَيْ صَمْتًا وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا صَمْتًا» بِالْجَمْعِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ: «صَوْمًا وَصَمْتًا» بِالْوَاوِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الصَّوْمَ هُنَا الصَّمْتُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا وَمَعْنَى الصَّوْمِ فِي اللُّغَةِ أَوْسَعُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ مُمْسِكٍ عَنْ طَعَامٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ سَيْرٍ فَهُوَ صَائِمٌ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّوْمِ هُنَا الصَّمْتُ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلصَّوْمِ. وَقِرَاءَةُ أَنَسٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ هُنَا غَيْرُ الصَّمْتِ كَمَا تُفِيدُهُ الْوَاوُ. وَمَعْنَى فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أَنَّهَا لَا تُكَلِّمُ أَحَدًا مِنَ الْإِنْسِ بَعْدَ إِخْبَارِهِمْ بِهَذَا الْخَبَرِ، بَلْ إِنَّمَا تُكَلِّمُ الْمَلَائِكَةَ وَتُنَاجِي رَبَّهَا وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمْ تُخْبِرْهُمْ هُنَا بِاللَّفْظِ، بَلْ بِالْإِشَارَةِ الْمُفِيدَةِ لِلنَّذْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا قال: مكانا أظلتها الشَّمْسَ أَنْ يَرَاهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي

حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: إِنَّمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً لِأَنَّ مَرْيَمَ اتَّخَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذُوا مِيلَادَهُ قِبْلَةً، وَإِنَّمَا سَجَدَتِ الْيَهُودُ عَلَى حَرْفٍ حِينَ نَتَقَ فَوْقَهُمُ الْجَبَلُ، فَجَعَلُوا يَنْحَرِفُونَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، يَتَخَوَّفُونَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَسَجَدُوا سَجْدَةً رَضِيَهَا اللَّهُ، فَاتَّخَذُوهَا سُنَّةً. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: خَرَجَتْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ لِحَيْضٍ أَصَابَهَا، فَلَمَّا طَهُرَتْ إِذَا هِيَ بِرَجُلٍ مَعَهَا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً ففزعت وقالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا فَخَرَجَتْ وَعَلَيْهَا جِلْبَابُهَا، فَأَخَذَ بِكُمِّهَا فَنَفَخَ فِي جيب دِرْعِهَا، وَكَانَ مَشْقُوقًا مِنْ قُدَّامِهَا، فَدَخَلَتِ النَّفْخَةُ صَدْرَهَا فَحَمَلَتْ، فَأَتَتْهَا أُخْتُهَا امْرَأَةُ زَكَرِيَّا لَيْلَةً تَزُورُهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْ لَهَا الْبَابَ الْتَزَمَتْهَا، فَقَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا: يَا مَرْيَمُ أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى، قالت مريم: أشعرت [أيضا] «1» أَنِّي حُبْلَى، فَقَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا: فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي سَجَدَ لِلَّذِي فِي بَطْنِكِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ «2» فَوَلَدَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا يَحْيَى، وَلَمَّا بَلَغَ أَنْ تَضَعَ مَرْيَمُ خَرَجَتْ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْآيَةَ فَناداها جِبْرِيلُ مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي فَلَمَّا وَلَدَتْهُ ذَهَبَ الشَّيْطَانُ، فَأَخْبَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْ، فَلَمَّا أَرَادُوهَا عَلَى الْكَلَامِ أَشَارَتْ إِلَى عِيسَى فَتَكَلَّمَ فَ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ الْآيَاتِ، وَلَمَّا وُلِدَ لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ صَنَمٌ إِلَّا خَرَّ لِوَجْهِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَرْيَمَ قَالَ: حِينَ حَمَلَتْ وَضَعَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: وَضَعَتْ لِثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا قَالَ: جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: تَمَثَّلَ لَهَا رُوحُ عِيسَى فِي صُورَةِ بَشَرٍ فَحَمَلَتْهُ، قَالَ: حَمَلَتِ الَّذِي خَاطَبَهَا، دَخَلَ فِي فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَكاناً قَصِيًّا قَالَ: نَائِيًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَ: كَانَ جِذْعًا يَابِسًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا قَالَ: لَمْ أُخْلَقْ وَلَمْ أَكُ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا قَالَ: حَيْضَةً مُلْقَاةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ نَوْفٍ الَبِكَالِيِّ وَالضَّحَّاكِ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: فَناداها مِنْ تَحْتِها قَالَ: الَّذِي نَادَاهَا جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِي نَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى حَتَّى أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ السَّلَفِ، هَلْ هَذَا الْمُنَادِي هُوَ جِبْرِيلُ أَوْ عِيسَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ: قَرَأَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النُّجُودِ فَناداها مِنْ تَحْتِها بِالنَّصْبِ، قَالَ: وَقَالَ عَاصِمٌ مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَهُوَ عِيسَى، وَمَنْ قَرَأَ بِالْخَفْضِ فَهُوَ جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مردويه وابن النجار عن

_ (1) . ما بين حاصرتين من الدر المنثور. (2) . آل عمران: 39. [.....]

[سورة مريم (19) : الآيات 27 إلى 33]

ابْنِ عُمَرَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ السِّرِيَّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ لِمَرْيَمَ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا نَهْرٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَهَا لِتَشْرَبَ مِنْهُ» . وَفِي إِسْنَادِهِ أيوب بن نهيك الحلبي قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ أبو زرعة: منكر الحديث، قال أَبُو فَتْحٍ الْأَزَدِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّهُ غَرِيبٌ جِدًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا قَالَ «النَّهْرُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ، وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ فِي الْآيَةِ: هُوَ الْجَدْوَلُ، وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْمَوْقُوفَ أَصَحُّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ أَنَّ السِّرِيَّ هُوَ عِيسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: رُطَباً جَنِيًّا قَالَ: طَرِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً قَالَ: صَمْتًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ: «صوما صمتا» . [سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 33] فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) لَمَّا اطْمَأَنَّتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِمَا رَأَتْ مِنَ الْآيَاتِ وَفَرَغَتْ من نفاسها فَأَتَتْ بِهِ أَيْ: بِعِيسَى، وَجُمْلَةُ تَحْمِلُهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَكَانَ إِتْيَانُهَا إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَكَانِ الْقَصِيِّ الَّذِي انْتَبَذَتْ فِيهِ، فَلَمَّا رَأَوُا الْوَلَدَ مَعَهَا حَزِنُوا، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ صَالِحِينَ ف قالُوا مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ أَيْ: فَعَلْتِ شَيْئاً فَرِيًّا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَرِيُّ الْعَجِيبُ النَّادِرُ، وَكَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ. وَالْفَرْيُ: الْقَطْعُ، كَأَنَّهُ مِمَّا يَخْرِقُ الْعَادَةَ، أَوْ يُقْطَعُ بِكَوْنِهِ عَجِيبًا نَادِرًا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْفَرِيُّ: الْجَدِيدُ مِنَ الْأَسْقِيَةِ، أَيْ: جِئْتِ بِأَمْرٍ بَدِيعٍ جَدِيدٍ لَمْ تُسْبَقِي إِلَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: الْفَرِيُّ: الْمُخْتَلَقُ الْمُفْتَعَلُ، يُقَالُ: فَرَيْتُ وَأَفْرَيْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْوَلَدُ مِنَ الزِّنَا كَالشَّيْءِ الْمُفْتَرَى، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ «1» . وقال مجاهد: الفريّ: العظيم. يا أُخْتَ هارُونَ قَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ، وَفِي هَارُونَ الْمَذْكُورِ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ هَارُونُ أَخُو مُوسَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَتْ نَظُنُّهَا مِثْلَ هَارُونَ فِي الْعِبَادَةِ كَيْفَ تَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا؟ وَقِيلَ: كَانَتْ مَرْيَمُ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، فَقِيلَ لَهَا يَا أُخْتَ هَارُونَ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ: يَا أَخَا الْعَرَبِ وَقِيلَ: كَانَ لَهَا آخر مِنْ أَبِيهَا اسْمُهُ هَارُونَ وَقِيلَ: هَارُونُ هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقِيلَ: بَلْ كان

_ (1) . الممتحنة: 12.

فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رَجُلٌ فَاجِرٌ اسْمُهُ هَارُونُ، فنسبوها إليه على وجهة التَّعْيِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلَهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا هَذَا فِيهِ تقرير لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْيِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنْ الْفَاحِشَةَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الصَّالِحِينَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى عِيسَى، وَإِنَّمَا اكْتَفَتْ بِالْإِشَارَةِ وَلَمْ تَأْمُرْهُ بِالنُّطْقِ لِأَنَّهَا نَذَرَتْ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا عَنِ الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ، هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا كَانَتْ إِذْ ذَاكَ فِي أَيَّامِ نَذْرِهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَيَّامِ نَذْرِهَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اقْتِصَارَهَا عَلَى الْإِشَارَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي إِظْهَارِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَأَنَّ هَذَا الْمَوْلُودَ يَفْهَمُ الْإِشَارَةَ وَيَقْدِرُ عَلَى الْعِبَارَةِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ إِشَارَتِهَا إِلَى ذَلِكَ الْمَوْلُودِ بِأَنْ يُكَلِّمَهُمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فِي الْكَلَامِ حَشْوٌ زَائِدٌ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ نُكَلِّمُ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ «1» : ............... ... وَجِيرَانٌ لَنَا كَانُوا كِرَامِ «2» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ «مَنْ» فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ يَكُونُ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فَكَيْفَ نُكَلِّمُهُ. وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ «كَانَ» زَائِدَةٌ وَقَدْ نَصَبَتْ صَبِيًّا، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْقَائِلَ بِزِيَادَتِهَا يَجْعَلُ النَّاصِبَ لَهُ الْفِعْلَ، وَهُوَ نُكَلِّمُ كَمَا سَبَقَ تَقْدِيرُهُ وَقِيلَ: إِنَّ «كَانَ» هُنَا هِيَ التَّامَّةُ الَّتِي بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُجُودِ. وَرُدَّ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَامَّةً لَاسْتَغْنَتْ عَنِ الْخَبَرِ. وَالْمَهْدُ: هُوَ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ يُتَّخَذُ لِتَنْوِيمِ الصَّبِيِّ. وَالْمَعْنَى كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ سَبِيلُهُ أَنْ يُنَوَّمَ فِي الْمَهْدِ لِصِغَرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ هُنَا حِجْرُ الْأُمِّ، وَقِيلَ: سَرِيرٌ كَالْمَهْدِ، فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى كَلَامَهُمْ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فَكَانَ أَوَّلَ مَا نَطَقَ بِهِ الِاعْتِرَافُ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ آتانِيَ الْكِتابَ أَيْ: الْإِنْجِيلَ، أَيْ: حَكَمَ لِي بِإِيتَائِي الْكِتَابَ وَالنُّبُوَّةَ فِي الْأَزَلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَلَا قَدْ صَارَ نَبِيًّا وَقِيلَ: إِنَّهُ آتَاهُ الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَهُوَ بَعِيدٌ وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ أَيْ: حَيْثُمَا كُنْتُ، وَالْبَرَكَةُ: أَصْلُهَا مِنْ بُرُوكِ الْبَعِيرِ، وَالْمَعْنَى: جَعَلَنِي ثَابِتًا فِي دِينِ اللَّهِ وَقِيلَ: الْبَرَكَةُ هِيَ الزِّيَادَةُ وَالْعُلُوُّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلَنِي فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ زَائِدًا عَالِيًا مُنْجَحًا وَقِيلَ مَعْنَى الْمُبَارَكِ النَّفَّاعُ لِلْعِبَادِ، وَقِيلَ: الْمُعَلِّمُ لِلْخَيْرِ، وَقِيلَ: الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ أَيْ: أَمَرَنِي بِهَا وَالزَّكاةِ زَكَاةِ الْمَالِ، أَوْ تَطْهِيرِ النَّفْسِ مَا دُمْتُ حَيًّا أَيْ: مُدَّةَ دَوَامِ حَيَاتِي، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الْمَاضِيَةُ هِيَ مِنْ بَابِ تَنْزِيلِ مَا لَمْ يَقَعْ مَنْزِلَةَ الواقع تنبيها على تحقيق وُقُوعِهِ لِكَوْنِهِ قَدْ سَبَقَ فِي الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ وَبَرًّا بِوالِدَتِي مَعْطُوفٌ عَلَى مُبَارَكًا، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْبِرِّ بِوَالِدَتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ، وَقُرِئَ وَبَرًّا بِكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ مُبَالَغَةً وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا الْجَبَّارُ: الْمُتَعَظِّمُ الَّذِي لَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا، وَالشَّقِيُّ: الْعَاصِي لِرَبِّهِ، وَقِيلَ: الْخَائِبُ، وَقِيلَ: الْعَاقُّ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّلَامُ هُنَا بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، أَيْ: السَّلَامَةُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ، فَلَمْ يَضُرَّنِي الشَّيْطَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا أَغْوَانِي عند الموت ولا عند البعث

_ (1) . هو الفرزدق. (2) . وصدره: فكيف إذا رأيت ديار قوم.

[سورة مريم (19) : الآيات 34 إلى 40]

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّحِيَّةُ. قِيلَ: وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ، وَقِيلَ: لِلْعَهْدِ، أَيْ: وَذَلِكَ السَّلَامُ الْمُوَجَّهُ إِلَى يَحْيَى فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ مُوَجَّهٌ إِلَيَّ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمِ الْمَسِيحُ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ حَتَّى بَلَغَ الْمُدَّةَ الَّتِي تَتَكَلَّمُ فِيهَا الصِّبْيَانُ فِي الْعَادَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قَالَ: بَعْدَ أربعين يوما بعد ما تعافت مِنْ نِفَاسِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ مَا تقرؤون يَا أُخْتَ هارُونَ وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ؟» وَهَذَا التَّفْسِيرُ النَّبَوِيُّ يُغْنِي عَنْ سَائِرِ مَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ عِيسَى قَدْ دَرَسَ الْإِنْجِيلَ وَأَحْكَامَهَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: آتانِيَ الْكِتابَ الْآيَةَ، قَالَ: قَضَى أَنْ أَكُونَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ عِيسَى: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ قَالَ: جَعَلَنِي نَفَّاعًا لِلنَّاسِ أَيْنَمَا اتَّجَهْتُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً قَالَ: «مُعَلِّمًا وَمُؤَدِّبًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا يقول: عصيّا. [سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَلِكَ الَّذِي قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، لَا مَا تَقُولُهُ النَّصَارَى مِنْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَأَنَّهُ إِلَهٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ قَوْلَ الْحَقِّ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ. فَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى أَنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ نَعْتٌ لِعِيسَى أَيْ: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلُ الْحَقِّ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَسُمِّيَ قَوْلَ الْحَقِّ كَمَا سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ، وَالْحَقُّ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْمَعْنَى هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: هَذَا الْكَلَامُ قَوْلُ الْحَقِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، مِثْلُ حَقُّ الْيَقِينِ وَقِيلَ: الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، وَقُرِئَ: «قَالَ الْحَقَّ» ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ قَوْلَ الْحَقِّ بِضَمِّ الْقَافِ، وَالْقَوْلُ وَالْقُولُ وَالْقَالُ والمقال بمعنى واحد، والَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ

صِفَةٌ لِعِيسَى أَيْ: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ قَوْلَ الْحَقِّ، وَمَعْنَى يَمْتَرُونَ يختلفون على أنه من المماراة، أو يشكو عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمِرْيَةِ. وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي عِيسَى فَقَالَتِ الْيَهُودُ: هُوَ سَاحِرٌ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: هُوَ ابْنُ اللَّهِ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أَيْ: مَا صَحَّ ولا استقام ذلك، و «أَنْ» فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «مِنْ» فِي مِنْ وَلَدٍ مُؤَكِّدَةٌ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ فَقَالَ: سُبْحانَهُ أَيْ: تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ شَأْنُهُ، تَعَالَى سُلْطَانُهُ، فَقَالَ: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ: إِذَا قَضَى أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِلَا تَأْخِيرٍ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي إِيرَادِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَبْكِيتٌ عَظِيمٌ لِلنَّصَارَى، أَيْ: مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ كَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ؟ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ أَنْ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بِكَسْرِهَا، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ عِيسَى، وَقَرَأَ أُبَيٌّ إِنَّ اللَّهَ بِغَيْرِ وَاوٍ، قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ النَّصْبِ بِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى الصَّلَاةِ، وَجَوَّزَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ عَطْفَهُ عَلَى أَمْرًا هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيْ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ لَكُمْ مِنْ أَنَّهُ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، هُوَ الطَّرِيقُ الْقَيِّمُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَلَا يَضِلُّ سَالِكُهُ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ مِنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَالْأَحْزَابُ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَيْ: فَاخْتَلَفَتِ الْفِرَقُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَمْرِ عِيسَى، فَالْيَهُودُ قَالُوا: إِنَّهُ سَاحِرٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ ابْنُ يُوسُفَ النَّجَّارِ، وَالنَّصَارَى اخْتَلَفَتْ فِرَقُهُمْ فِيهِ، فَقَالَتِ النَّسْطُورِيَّةُ مِنْهُمْ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وقالت الملكية: هو ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَقَالَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَفْرَطَتِ النَّصَارَى وَغَلَتْ، وَفَرَّطَتِ الْيَهُودُ وَقَصَّرَتْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَهُمُ الْمُخْتَلِفُونَ فِي أَمْرِهِ مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَيْ: مِنْ شُهُودِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَجْرِي فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، أَوْ مِنْ مَكَانِ الشُّهُودِ فِيهِ، أَوْ مِنْ شَهَادَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْ حُضُورِهِمُ الْمَشْهَدَ الْعَظِيمَ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ لِلتَّشَاوُرِ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ قَالَ أَبُو العباس: الْعَرَبُ تَقُولُ هَذَا فِي مَوْضِعِ التَّعَجُّبِ، فَيَقُولُونَ: أسمع بزيد وَأَبْصِرْ بِهِ، أَيْ: مَا أَسْمَعُهُ وَأَبْصَرُهُ، فَعَجَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ. يَوْمَ يَأْتُونَنا أَيْ: لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أَيْ: فِي الدُّنْيَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: وَاضِحٍ ظَاهِرٍ، وَلَكِنَّهُمْ أَغْفَلُوا التَّفَكُّرَ وَالِاعْتِبَارَ وَالنَّظَرَ فِي الْآثَارِ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ أَيْ: يَوْمَ يَتَحَسَّرُونَ جَمِيعًا، فَالْمُسِيءُ يَتَحَسَّرُ عَلَى إِسَاءَتِهِ، وَالْمُحْسِنُ عَلَى عَدَمِ اسْتِكْثَارِهِ مِنَ الْخَيْرِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ: فُرِغَ مِنَ الْحِسَابِ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ، وَصَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: غَافِلِينَ عَمَّا يُعْمَلُ بِهِمْ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها أَيْ: نُمِيتُ سُكَّانَهَا فَلَا يَبْقَى بِهَا أَحَدٌ يَرِثُ الْأَمْوَاتَ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَرِثَ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا حَيْثُ أَمَاتَهُمْ جَمِيعًا وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أَيْ: يُرَدُّونَ إِلَيْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قَوْلَ الْحَقِّ قَالَ: اللَّهُ الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ

[سورة مريم (19) : الآيات 41 إلى 50]

عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ قَالَ: اجْتَمَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، مِنْ كُلِّ قَوْمٍ عَالِمَهُمْ، فَامْتَرَوْا فِي عِيسَى حِينَ رُفِعَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ اللَّهُ هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَحْيَا مَنْ أَحْيَا، وَأَمَاتَ مَنْ أَمَاتَ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُمُ الْيَعْقُوبِيَّةُ فَقَالَتِ الثَّلَاثَةُ: كَذَبْتَ ثُمَّ قَالَ اثْنَانِ مِنْهُمْ لِلثَّالِثِ: قُلْ فِيهِ، فَقَالَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَهُمُ النَّسْطُورِيَّةُ فَقَالَ اثْنَانِ: كَذَبْتَ ثُمَّ قَالَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ لِلْآخَرِ: قُلْ فِيهِ، فَقَالَ: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، اللَّهُ إِلَهٌ، وَعِيسَى إِلَهٌ، وَأُمُّهُ إِلَهٌ، وَهُمُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ، وَهُمْ مُلُوكُ النَّصَارَى فَقَالَ الرَّابِعُ: كَذَبْتَ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ مِنْ كَلِمَتِهِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَتْبَاعٌ عَلَى مَا قَالَ فَاقْتَتَلُوا، فَظَهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ «1» ، قال قتادة: وهم الذي قَالَ اللَّهُ: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قَالَ: اخْتَلَفُوا فِيهِ فَصَارُوا أَحْزَابًا، فَاخْتَصَمَ الْقَوْمُ، فَقَالَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ: أُنْشِدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَطْعَمُ الطَّعَامَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَطْعَمُ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَنَامُ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَخَصَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَاقْتَتَلَ الْقَوْمُ، فَذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْيَعْقُوبِيَّةَ ظَهَرَتْ يَوْمَئِذٍ وَأُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قَوْلِهِ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَقُولُ: الْكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ أَسْمَعُ شَيْءٍ وَأَبْصَرُهُ، وَهُمُ الْيَوْمَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتُونَنا قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، يُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيْشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ثم ينادي: يا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتٌ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتٌ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ الْآيَةَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ وقال: أَهْلُ الدُّنْيَا فِي غَفْلَةٍ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَوْمَ الْحَسْرَةِ: هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ القيامة، وقرأ: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «2» ، وَعَلِيٌّ هَذَا ضَعِيفٌ، وَالْآيَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ لَا بمطابقة ولا تضمّن ولا التزام. [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

_ (1) . آل عمران: 21. (2) . الزمر: 56.

قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ مَعْطُوفٌ عَلَى وَأَنْذِرْ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ الرَّسُولِ إِيَّاهُ فِي الْكِتَابِ أَنْ يَتْلُوَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ كَقَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ «1» ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِأَنْ يَذْكُرَهُ، وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ مَا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَالصِّدِّيقُ كَثِيرُ الصِّدْقِ، وَانْتِصَابُ نبيا على أنه خبر آخر لكان، أي: اذكر إبراهيم الجامع لهذين الوصفين، وإِذْ قالَ لِأَبِيهِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَتَعْلِيقُ الذِّكْرِ بِالْوَقْتِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَذْكِيرُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ هُوَ آزَرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَالتَّاءُ فِي «يَا أَبَتِ» عِوَضٌ عَنِ الْيَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي لِمَ تَعْبُدُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ مَا لَا يَسْمَعُ مَا تَقُولُهُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَلا يُبْصِرُ مَا تَفْعَلُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَمِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَفْعَلُهَا مُرِيدًا بِهَا الثَّوَابَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُ السَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَيْ: لَا يَسْمَعُ شَيْئًا مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ، وَلَا يُبْصِرُ شَيْئًا مِنَ الْمُبْصَرَاتِ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَجْلِبُ لَكَ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْكَ ضَرَرًا، وَهِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا آزَرُ، أَوْرَدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَبِيهِ الدَّلَائِلَ وَالنَّصَائِحَ، وَصَدَّرَ كُلًّا مِنْهَا بِالنِّدَاءِ الْمُتَضَمِّنِ لِلرِّفْقِ وَاللِّينِ اسْتِمَالَةً لِقَلْبِهِ، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ، ثُمَّ كَرَّرَ دَعْوَتَهُ إِلَى الحق فقال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ نَصِيبٌ لَمْ يَصِلْ إِلَى أَبِيهِ، وَأَنَّهُ قَدْ تَجَدَّدَ لَهُ حُصُولُ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ مِنْهُ إِلَى الْحَقِّ، وَيَقْتَدِرُ بِهِ عَلَى إِرْشَادِ الضَّالِّ، وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهِ فَقَالَ: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا مُسْتَوِيًا مُوَصِّلًا إِلَى الْمَطْلُوبِ مُنَجِّيًا مِنَ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِنَصِيحَةٍ أُخْرَى زَاجِرَةٍ لَهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ، فقال: يا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ أَيْ: لَا تُطِعْهُ، فَإِنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ هِيَ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا حِينَ تَرَكَ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَمَنْ أَطَاعَ مَنْ هُوَ عَاصٍ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ، وَالْعَاصِي حَقِيقٌ بِأَنْ تُسْلَبَ عَنْهُ النِّعَمُ وَتَحِلَّ بِهِ النِّقَمُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعَصِيُّ وَالْعَاصِي بِمَعْنًى وَاحِدٍ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ الْبَاعِثَ عَلَى هَذِهِ النَّصَائِحِ فَقَالَ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى أَخَافُ هُنَا أَعْلَمُ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّ الْخَوْفَ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ غَيْرُ جَازِمٍ بِمَوْتِ أَبِيهِ عَلَى الْكُفْرِ، إِذْ لَوْ كَانَ جَازِمًا بِذَلِكَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِنُصْحِهِ، وَمَعْنَى الْخَوْفِ عَلَى الْغَيْرِ: هُوَ أَنْ يَظُنَّ وُصُولَ الضَّرَرِ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أَيْ: إِنَّكَ إِذَا أَطَعْتَ الشَّيْطَانَ كُنْتَ مَعَهُ فِي النَّارِ وَاللَّعْنَةِ، فَتَكُونُ بِهَذَا السَّبَبِ مُوَالِيًا، أَوْ تَكُونُ بِسَبَبِ مُوَالَاتِهِ فِي الْعَذَابِ مَعَهُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ ولاية حقيقية لقوله سبحانه:

_ (1) . الشعراء: 69.

الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «1» وَقِيلَ: الْوَلِيُّ بِمَعْنَى التَّالِي، وَقِيلَ: الْوَلِيُّ بِمَعْنَى الْقَرِيبِ، أَيْ: تَكُونَ لِلشَّيْطَانِ قَرِيبًا مِنْهُ فِي النَّارِ، فَلَمَّا مَرَّتْ هَذِهِ النَّصَائِحُ النَّافِعَةُ وَالْمَوَاعِظُ الْمَقْبُولَةُ بِسَمْعِ آزَرَ قَابَلَهَا بِالْغِلْظَةِ وَالْفَظَاظَةِ وَالْقَسْوَةِ، ف قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ، وَالْمَعْنَى: أَمُعْرِضٌ أَنْتَ عَنْ ذَلِكَ وَمُنْصَرِفٌ إِلَى غَيْرِهِ؟ ثُمَّ تَوَعَّدَهُ فَقَالَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ أَيْ: بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: بِاللِّسَانِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ لَأَشْتُمَنَّكَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَأَضْرِبَنَّكَ، وَقِيلَ: لَأُظْهِرَنَّ أَمْرَكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أَيْ: زَمَانًا طَوِيلًا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ: هَجَرْتُهُ مَلِيًّا وملوة وملوة وملاوة وَمَلَاوَةً، بِمَعْنَى الْمَلَاوَةِ مِنَ الزَّمَانِ، وَهُوَ الطَّوِيلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ: فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ ... وَبَكَتْ عَلَيْهِ الْمُرَمَّلَاتُ مَلِيَّا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: اعْتَزِلْنِي سَالِمَ الْعِرْضِ لَا تُصِيبُكَ مِنِّي مَعَرَّةٌ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ، فَمَلِيًّا عَلَى هَذَا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُنْتَصِبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ إِصْرَارَ أَبِيهِ عَلَى الْعِنَادِ قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ أَيْ: تَحِيَّةُ تَوْدِيعٍ وَمُتَارَكَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «2» وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَمَنَةٌ مِنِّي لَكَ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَإِنَّمَا أَمَّنَهُ مَعَ كُفْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: الدُّعَاءُ لَهُ بِالسَّلَامَةِ، اسْتِمَالَةً لَهُ وَرِفْقًا بِهِ، ثُمَّ وَعَدَهُ بِأَنْ يَطْلُبَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَأَلُّفًا لَهُ وَطَمَعًا فِي لِينِهِ وَذَهَابِ قَسْوَتِهِ: وَالشَّيْخُ لَا يَتْرُكُ أَخْلَاقَهُ ... حَتَّى يُوَارَى فِي ثَرَى رَمْسِهِ «3» وَكَانَ مِنْهُ هَذَا الْوَعْدُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَحِقُّ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «4» بَعْدَ قَوْلِهِ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ «5» . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا وَالْمَعْنَى: سَأَطْلُبُ لَكَ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ كَانَ بِي كَثِيرَ الْبِرِّ وَاللُّطْفِ، يُقَالُ: حَفِيَ بِهِ وَتَحَفَّى إِذَا بَرَّهُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ حَفِيَ بِي حَفَاوَةً وَحَفْوَةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أَيْ: عَالِمًا لَطِيفًا يُجِيبُنِي إِذَا دَعَوْتُهُ. ثُمَّ صَرَّحَ الْخَلِيلُ بِمَا تَضَمَّنَهُ سَلَامُهُ مِنَ التَّوْدِيعِ وَالْمُتَارَكَةِ فَقَالَ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: أُهَاجِرُ بِدِينِي عَنْكُمْ وَعَنْ مَعْبُودَاتِكُمْ حَيْثُ لَمْ تَقْبَلُوا نصحي، ولا نجعت فيكم دعوتي وَأَدْعُوا رَبِّي وحده عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أَيْ: خَائِبًا، وَقِيلَ: عاصيا. قيل: أراد بهذا الدعاء: هو أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ وَلَدًا وَأَهْلًا يَسْتَأْنِسُ بِهِمْ فِي اعْتِزَالِهِ، وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِمْ عِنْدَ وَحْشَتِهِ وقيل: أراد دعاءه لأبيه بالهداية، وعسى لِلشَّكِّ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَدْرِي هَلْ يُسْتَجَابُ لَهُ فِيهِ أَمْ لَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أَيْ: جَعَلْنَا هَؤُلَاءِ الْمَوْهُوبِينَ لَهُ أَهْلًا وَوَلَدًا بَدَلَ الْأَهْلِ الَّذِينَ فارقهم

_ (1) . الزخرف: 67. (2) . الفرقان: 69. (3) . البيت لصالح بن عبد القدوس. (تاريخ بغداد 9/ 303) . (4) . التوبة: 114. (5) . التوبة: 114.

[سورة مريم (19) : الآيات 51 إلى 63]

وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا أَيْ: كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَانْتِصَابُ «كُلًّا» عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِجَعَلْنَا، قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ أَنْفُسِهِمْ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عَدَاهُمْ، أَيْ: كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَعَلْنَا نَبِيًّا، لَا بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا بِأَنْ جَعَلْنَاهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَذَكَرَ هَذَا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِجَعْلِهِمْ أَنْبِيَاءَ لِبَيَانِ أَنَّ النُّبُوَّةَ هِيَ مِنْ بَابِ الرَّحْمَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الْمَالُ، وَقِيلَ: الْأَوْلَادُ، وَقِيلَ: الْكِتَابُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْدَرِجَ تَحْتَهَا جَمِيعُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا لِسَانُ الصِّدْقِ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، عَبَّرَ عَنْهُ بِاللِّسَانِ لِكَوْنِهِ يُوجَدُ بِهِ «1» ، كَمَا عَبَّرَ بِالْيَدِ عَنِ الْعَطِيَّةِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الصِّدْقِ وَوَصْفُهُ بِالْعُلُوِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِمَا يُقَالُ فِيهِمْ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى أَلْسُنِ الْعِبَادِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَأَرْجُمَنَّكَ قَالَ: لَأَشْتُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ: حِينًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ: اجْتَنِبْنِي سَوِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: اجْتَنِبْنِي سَالِمًا قَبْلَ أَنْ تُصِيبَكَ مِنِّي عُقُوبَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ مَلِيًّا: دَهْرًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَالِمًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا قَالَ: لَطِيفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ قَالَ: يَقُولُ وهبنا له إسحاق ولدا «2» وَيَعْقُوبَ ابْنَ ابْنِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا قَالَ: الثناء الحسن. [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 63] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) قَفَّى سُبْحَانَهُ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ بِقِصَّةِ مُوسَى لِأَنَّهُ تِلْوُهُ فِي الشَّرَفِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ لِئَلَّا يَفْصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِكْرِ يَعْقُوبَ، أَيْ: وَاقْرَأْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ قِصَّةَ مُوسَى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قَرَأَ أهل الكوفة بفتح اللام،

_ (1) . أي الثناء الحسن. (2) . من الدر المنثور (5/ 514) .

أَيْ: جَعَلْنَاهُ مُخْتَارًا وَأَخْلَصْنَاهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، أَيْ: أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ وَالتَّوْحِيدَ لِلَّهِ غَيْرَ مُرَاءٍ لِلْعِبَادِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا أَيْ: أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ فَأَنْبَأَهُمْ عَنِ اللَّهِ بِشَرَائِعِهِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ، فَهَذَا وَجْهُ ذِكْرِ النَّبِيِّ بَعْدَ الرَّسُولِ مَعَ اسْتِلْزَامِ الرِّسَالَةِ لِلنُّبُوَّةِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالرَّسُولِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ لَا الشَّرْعِيَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: الرَّسُولُ: الَّذِي مَعَهُ كِتَابٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالنَّبِيُّ: الَّذِي يُنْبِئُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ كِتَابٌ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ ذِكْرَ الْأَعَمِّ قَبْلَ الْأَخَصِّ، إِلَّا أَنَّ رِعَايَةَ الْفَاصِلَةِ اقْتَضَتْ عَكْسَ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي: طه: بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى «1» انْتَهَى. وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أَيْ: كَلَّمْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ، وَهُوَ جَبَلٌ بَيْنَ مِصْرَ وَمَدْيَنَ اسْمُهُ زُبَيْرٌ، وَمَعْنَى الْأَيْمَنِ: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ الْجَانِبُ عَنْ يَمِينِ مُوسَى، فَإِنَّ الشَّجَرَةَ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَالنِّدَاءُ وَقَعَ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ يَمِينَ الْجَبَلِ نَفْسِهِ. فَإِنَّ الْجِبَالَ لَا يَمِينٌ لَهَا وَلَا شِمَالٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْأَيْمَنِ الْمَيْمُونِ، وَمَعْنَى النِّدَاءِ: أَنَّهُ تَمَثَّلَ لَهُ الْكَلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا أَيْ: أَدْنَيْنَاهُ بِتَقْرِيبِ الْمَنْزِلَةِ حَتَّى كَلَّمْنَاهُ، وَالنَّجِيُّ بِمَعْنَى الْمُنَاجِي كَالْجَلِيسِ وَالنَّدِيمِ، فَالتَّقْرِيبُ هُنَا هُوَ تَقْرِيبُ التَّشْرِيفِ وَالْإِكْرَامِ، مُثِّلَتْ حَالُهُ بِحَالِ مَنْ قَرَّبَهُ الْمَلِكُ لِمُنَاجَاتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَرَّبَهُ مِنْهُ فِي الْمَنْزِلَةِ حَتَّى سَمِعَ مُنَاجَاتَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَفَعَهُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ. وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَيْ: مِنْ نِعْمَتِنَا، وَقِيلَ: مِنْ أجل رحمتنا، وهارُونَ عطف بيان، ونَبِيًّا حَالٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ حِينَ سَأَلَ رَبَّهُ قَالَ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي- هارُونَ أَخِي «2» . وَوَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِسْمَاعِيلَ بِصِدْقِ الْوَعْدِ مَعَ كَوْنِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا بِذَلِكَ مُبَالِغًا فِيهِ، وَنَاهِيكَ بِأَنَّهُ وَعَدَ الصَّبْرَ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى الذَّبْحِ فَوَفَّى بِذَلِكَ، وَكَانَ يَنْتَظِرُ لِمَنْ وَعَدَهُ بِوَعْدٍ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ، حَتَّى قيل: إنه انتظر بعض مَنْ وَعَدَهُ حَوْلًا. وَالْمُرَادُ بِإِسْمَاعِيلَ هُنَا هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَقَالَ: هُوَ إسماعيل بن حزقيل، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ فَسَلَخُوا جِلْدَةَ رَأْسِهِ، فَخَيَّرَهُ اللَّهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ عَذَابِهِمْ، فَاسْتَعْفَاهُ وَرَضِيَ بِثَوَابِهِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِسْمَاعِيلَ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ شَرِيعَةٍ فَإِنَّ أَوْلَادَ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَصَفَهُ بِالرِّسَالَةِ لِكَوْنِ إِبْرَاهِيمَ أَرْسَلَهُ إِلَى جُرْهُمٍ وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِأَهْلِهِ هُنَا أُمَّتُهُ، وَقِيلَ: جُرْهُمٌ، وَقِيلَ: عَشِيرَتُهُ كما في قوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «3» . وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ- هُنَا- هُمَا الْعِبَادَتَانِ الشَّرْعِيَّتَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيُّ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا أَيْ: رَضِيًّا زَاكِيًا صَالِحًا. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: مَنْ قَالَ مَرْضِيٌّ بَنَى عَلَى رَضِيتُ، قَالَا: وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ مَرْضُوٌّ وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ اسْمُ إِدْرِيسَ أَخْنُوخُ، قِيلَ: هُوَ جَدُّ نُوحٍ، فَإِنَّ نُوحًا هُوَ ابْنُ لَامِكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ أَخْنُوخَ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ جَدَّ أَبِي نُوحٍ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا خَطَأٌ، وَامْتِنَاعُ إِدْرِيسَ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَنَظَرَ فِي النُّجُومِ وَالْحِسَابِ، وَأَوَّلُ مَنْ خَاطَ الثِّيَابَ. قِيلَ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أُعْطِيَ النُّبُوَّةَ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا فَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ رفعه إلى السماء الرابعة، وقيل: إلى

_ (1) . طه: 70. [.....] (2) . طه: 29- 30. (3) . الشعراء: 214.

السَّادِسَةِ، وَقِيلَ: إِلَى الثَّانِيَةِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَفِيهِ: «وَمِنْهُمْ إِدْرِيسُ فِي الثَّانِيَةِ» ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِرَفْعِهِ مَكَانًا عَلِيًّا: مَا أُعْطِيَهُ مِنْ شَرَفِ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ رُفِعَ إِلَى الْجَنَّةِ أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِينَ مِنْ أول السورة إلى هنا، والموصول صفته، ومن النبيين بيان للموصول، ومِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بَدَلٌ مِنْهُ بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ، وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ فِي «مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ» لِلتَّبْعِيضِ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أَيْ: مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَهُ وَهُمْ مَنْ عَدَا إِدْرِيسَ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَهُمُ الْبَاقُونَ وَإِسْرائِيلَ أَيْ: وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَمِنْهُمْ مُوسَى وَهَارُونُ وَيَحْيَى وَعِيسَى وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ إِدْرِيسَ وَحْدَهُ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَأَرَادَ بقوله: وَمن ذرّية إِسْرائِيلَ مُوسَى وَهَارُونَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَمِمَّنْ هَدَيْنا أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ مَنْ هَدَيْنَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَاجْتَبَيْنا بِالْإِيمَانِ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا وهذا خبر لأولئك، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ هُوَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ خُشُوعِهِمْ لِلَّهِ وَخَشْيَتِهِمْ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُبْحَانَ «1» بَيَانُ مَعْنَى خَرُّوا سُجَّدًا يُقَالُ: بَكَى يَبْكِي بُكَاءً وَبُكِيًّا. قَالَ الْخَلِيلُ: إِذَا قَصَرْتَ الْبُكَاءَ فَهُوَ مِثْلُ الْحُزْنِ أَيْ: لَيْسَ مَعَهُ صَوْتٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا ... وما يغني البكاء ولا العويل و «سُجَّداً» مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا آيَاتِ اللَّهِ بَكَوْا وَسَجَدُوا، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَلَمَّا مَدَحَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ تَرْغِيبًا لِغَيْرِهِمْ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَسُلُوكِ طَرِيقَتِهِمْ ذَكَرَ أَضْدَادَهُمْ تَنْفِيرًا لِلنَّاسِ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ، فَقَالَ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَيْ: عَقِبُ سُوءٍ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ لِعَقِبِ الْخَيْرِ خَلَفٌ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَلِعَقِبِ الشَّرِّ خَلْفٌ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ أَضاعُوا الصَّلاةَ قَالَ الْأَكْثَرُ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخَّرُوهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَقِيلَ: أَضَاعُوا الْوَقْتَ، وَقِيلَ: كَفَرُوا بِهَا وَجَحَدُوا وَجُوبِهَا، وَقِيلَ: لَمْ يَأْتُوا بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ تَرَكَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِهَا، أَوْ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِهَا، أَوْ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهَا فَقَدْ أَضَاعَهَا، وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْإِضَاعَةِ مَنْ تَرَكَهَا بِالْمَرَّةِ أَوْ جَحَدَهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ فَقِيلَ: فِي الْيَهُودِ، وَقِيلَ: فِي النَّصَارَى، وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَمَعْنَى وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ أَيْ: فَعَلُوا مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ وَتَرْغَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا الْغَيُّ: هُوَ الشَّرُّ عِنْدَ أَهْلِ اللغة، كما أن الخير هو

_ (1) . سورة الإسراء. (2) . هو عبد الله بن رواحة.

الرَّشَادُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ شَرًّا لَا خَيْرًا وَقِيلَ: الْغَيُّ الضَّلَالُ، وَقِيلَ: الْخَيْبَةُ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حذف، والتقدير: سيلقون جَزَاءَ الْغَيِّ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سبحانه: يَلْقَ أَثاماً «1» ، أَيْ: جَزَاءَ أَثَامٍ إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أَيْ: تَابَ مِمَّا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ تَضْيِيعِ الصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَرَجَعَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَآمَنَ بِهِ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، وَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي الْكَفَرَةِ لَا فِي الْمُسْلِمِينَ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَأَبُو بَكْرٍ يَدْخُلُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً أَيْ: لَا يُنْقَصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُوَفِّي إِلَيْهِمْ أُجُورَهُمْ، وَانْتِصَابُ جَنَّاتِ عَدْنٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الجنة، بدل البعض لكون جنات عدن بعض مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ جَنَّاتُ عَدْنٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقُرِئَ كَذَلِكَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَوْلَا الْخَطُّ لَكَانَ جَنَّةَ عَدْنٍ، يَعْنِي: بِالْإِفْرَادِ مَكَانَ الْجَمْعِ، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْجَنَّاتِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأَنْوَاعِ لِلْجِنْسِ. وَقُرِئَ بِنَصْبِ الْجَنَّاتِ عَلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ قُرِئَ جَنَّةَ بِالْإِفْرَادِ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِجَنَّاتِ عَدْنٍ، وبالغيب فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْجَنَّاتِ، أَوْ مِنْ عِبَادِهِ، أَيْ: مُتَلَبِّسَةً، أَوْ مُتَلَبِّسِينَ بِالْغَيْبِ، وَقُرِئَ بِصَرْفِ عَدْنٍ، وَمَنْعِهَا عَلَى أَنَّهَا عَلَمٌ لِمَعْنَى الْعَدْنِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ، أَوْ عَلَمٌ لِأَرْضِ الْجَنَّةِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أَيْ: مَوْعُودُهُ عَلَى الْعُمُومِ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الْجَنَّاتُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ يَقُلْ آتِيًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ، وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً هُوَ الْهَذَرُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُلْغَى وَلَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ صُدُورِ اللَّغْوِ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: اللَّغْوُ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ إِلَّا سَلاماً هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ: أَيْ سَلَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ سَلَامَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السَّلَامُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ السَّلَامَةَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَسْمَعُونَ مَا يُؤْلِمُهُمْ وَإِنَّمَا يَسْمَعُونَ مَا يُسَلِّمُهُمْ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ بُكْرَةٌ وَلَا عَشِيَّةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ رِزْقَهُمْ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا أَيْ: هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفْنَا أَحْوَالَهَا نُورِثُهَا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى كَمَا يَبْقَى عَلَى الْوَارِثِ مَالُ مَوْرُوثِهِ. قَرَأَ يَعْقُوبُ نُورِثُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: نُورِثُ مَنْ كَانَ تَقِيًّا مِنْ عِبَادِنَا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا قَالَ: النَّبِيُّ الَّذِي يُكَلَّمُ وَيُنَزَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُرْسَلُ، وَلَفْظُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ لَيْسُوا بِرُسُلٍ يُوحَى إِلَى أَحَدِهِمْ وَلَا يُرْسَلُ إِلَى أَحَدٍ. وَالرُّسُلُ: الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يُوحَى إِلَيْهِمْ وَيُرْسَلُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ قَالَ: جَانِبِ الْجَبَلِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا قَالَ: نَجَا بِصِدْقِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: قَرَّبَهُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ، يَكْتُبُ فِي اللَّوْحِ. وَأَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ

_ (1) . الفرقان: 68.

قَالَ: كَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى، وَلَكِنْ إِنَّمَا وَهَبَ لَهُ نُبُوَّتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قَالَ: كَانَ إِدْرِيسُ خَيَّاطًا، وَكَانَ لَا يَغْرِزُ غُرْزَةً إِلَّا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَكَانَ يُمْسِي حِينَ يُمْسِي وَلَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ أَفْضَلُ عَمَلًا مِنْهُ، فَاسْتَأْذَنَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فَأَهْبِطُ إِلَى إِدْرِيسَ، فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَى إِدْرِيسَ فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُكَ لِأَخْدُمَكَ، قَالَ: كَيْفَ تَخْدُمُنِي وَأَنْتَ مَلَكٌ وَأَنَا إِنْسَانٌ؟ ثُمَّ قَالَ إِدْرِيسُ: هَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ شَيْءٌ؟ قَالَ الْمَلَكُ: ذاك أخي من الملائكة، قال: هل يستطيع أن ينسئني؟ قال: أما أن يُؤَخِّرُ شَيْئًا أَوْ يُقَدِّمُهُ فَلَا، وَلَكِنْ سَأُكَلِّمُهُ لَكَ فَيَرْفُقُ بِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ: ارْكَبْ بَيْنَ جَنَاحِي، فَرَكِبَ إِدْرِيسُ فَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ الْعُلْيَا، فَلَقِيَ مَلَكَ الْمَوْتِ وَإِدْرِيسُ بَيْنَ جَنَاحَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: عَلِمْتُ حَاجَتَكَ تُكَلِّمُنِي فِي إِدْرِيسَ، وَقَدْ مُحِيَ اسْمُهُ مِنَ الصَّحِيفَةِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِهِ إِلَّا نِصْفُ طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَمَاتَ إِدْرِيسُ بَيْنَ جَنَاحَيِ الْمَلَكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلْتُ كَعْبًا فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَهَذَا هُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي يَرْوِيهَا كَعْبٌ. وَأَخْرَجَ ابن أي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رُفِعَ إِدْرِيسُ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا عُرِجَ بِي رَأَيْتُ إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: رُفِعَ إِدْرِيسُ كَمَا رُفِعَ عِيسَى وَلَمْ يَمُتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِدْرِيسُ هُوَ إِلْيَاسُ. وَحَسَّنَهُ السُّيُوطِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِلَى آخِرِهِ، قَالَ: هَذِهِ تَسْمِيَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ أَمَّا مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ: فَإِدْرِيسُ وَنُوحٌ وَأَمَّا مَنْ حُمِلَ مَعَ نُوحٍ فَإِبْرَاهِيمُ وَأَمَّا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ: فَإِسْمَاعِيلُ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ وَأَمَّا ذُرِّيَّةُ إِسْرَائِيلَ: فَمُوسَى، وَهَارُونُ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَعِيسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَتَرَاكَبُونَ فِي الطُّرُقِ كَمَا تَرَاكَبُ الْأَنْعَامُ، لَا يَسْتَحْيُونَ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَخَافُونَ مِنَ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: أَضاعُوا الصَّلاةَ قَالَ: لَيْسَ إِضَاعَتُهَا تَرْكَهَا، قَدْ يُضَيِّعُ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ وَلَا يَتْرُكُهُ، وَلَكِنَّ إِضَاعَتَهَا: إِذَا لَمْ يُصَلِّهَا لِوَقْتِهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ الْآيَةَ قَالَ: «يَكُونُ خَلْفٌ مِنْ بَعْدِ سِتِّينَ سَنَةً أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ثُمَّ يَكُونُ خَلْفٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةٌ: مُؤْمِنٌ، وَمُنَافِقٌ، وَفَاجِرٌ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَهْلِكُ مِنْ أُمَّتِي أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَهْلُ اللّين، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْلُ الْكِتَابِ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَتَعَلَّمُونَ الْكِتَابَ يُجَادِلُونَ بِهِ الَّذِينَ آمنوا. قلت: ما أهل اللّين؟ قَالَ: قَوْمٌ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَيُضَيِّعُونَ الصَّلَوَاتِ» . وَأَخْرَجَ

[سورة مريم (19) : الآيات 64 إلى 72]

ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُرْسِلُ بِالصَّدَقَةِ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ وَتَقُولُ: لَا تُعْطُوا مِنْهَا بَرْبَرِيًّا وَلَا بَرْبَرِيَّةً، فَإِنِّي سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «هُمُ الْخَلْفُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قَالَ: خُسْرًا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَهَنَّادُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قَالَ: الْغَيُّ نَهْرٌ، أَوْ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ بَعِيدُ الْقَعْرِ، خَبِيثُ الطَّعْمِ، يُقْذَفُ فِيهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ. وَقَدْ قَالَ بِأَنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ. وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «لو أَنَّ صَخْرَةً زِنَةَ عَشْرِ أَوَاقٍ قُذِفَ بِهَا مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ مَا بَلَغَتْ قَعْرَهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا، ثُمَّ تَنْتَهِي إِلَى غَيٍّ وَأَثَامٍ، قُلْتُ: وَمَا غَيٌّ وَأَثَامٌ؟ قَالَ: نَهْرَانِ فِي أَسْفَلِ جَهَنَّمَ يَسِيلُ فِيهِمَا صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَهُمَا اللَّذَانِ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً «1» » . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْغَيُّ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: بُكْرَةً وَعَشِيًّا قَالَ: يُؤْتَوْنَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مِقْدَارِ مَا كَانُوا يُؤْتَوْنَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، مِنْ طَرِيقِ أَبَانٍ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ قَالَا: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ لَيْلٍ؟ قَالَ: وَمَا هَيَّجَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ يَذْكُرُ فِي الْكِتَابِ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَقُلْتُ: اللَّيْلُ مِنَ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ هُنَاكَ لَيْلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ، يَرُدُّ الْغُدُوَّ عَلَى الرَّوَاحِ وَالرَّوَاحَ عَلَى الْغُدُوِّ، تَأْتِيهِمْ طُرَفُ الْهَدَايَا مِنَ اللَّهِ لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ غَدَاةٍ مِنْ غَدَوَاتِ الْجَنَّةِ، وَكُلُّ الْجَنَّةِ غَدَوَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ يُزَفُّ إِلَى وَلِيِّ اللَّهِ فِيهَا زَوْجَةٌ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَأَدْنَاهُنَّ الَّتِي خُلِقَتْ مِنَ الزَّعْفَرَانِ» قَالَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا حَدِيثٌ منكر. [سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 72] وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)

_ (1) . الفرقان: 68.

قَوْلُهُ: وَما نَتَنَزَّلُ أَيْ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: قُلْ يَا جِبْرِيلُ وَمَا نَتَنَزَّلُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَبْطَأَ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ جِبْرِيلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ. قِيلَ: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا حِكَايَةٌ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ عِنْدَ دُخُولِهَا: وَمَا نَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْجِنَانَ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ، وَمَعْنَاهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَمَا نَتَنَزَّلُ عَلَيْكَ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَنَا بِالتَّنَزُّلِ. وَالثَّانِي: وَمَا نَتَنَزَّلُ عَلَيْكَ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ الَّذِي يَأْمُرُكَ بِهِ بِمَا شَرَعَهُ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ، وَالتَّنَزُّلُ: النُّزُولُ عَلَى مَهْلٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ النُّزُولِ. ثُمَّ أَكَّدَ جِبْرِيلُ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ أَيْ: مِنَ الْجِهَاتِ وَالْأَمَاكِنِ، أَوْ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، فَلَا نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نَنْتَقِلَ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ، أَوْ مِنْ زَمَانٍ إِلَى زَمَانٍ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وَمَشِيئَتِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ وَقِيلَ: الْأَرْضُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا إِذَا نَزَلْنَا، وَالسَّمَاءُ الَّتِي وَرَاءَنَا وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقِيلَ: مَا مَضَى من أعمارنا وما غبر «1» مِنْهَا وَالْحَالَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، فَلَا نُقْدِمُ عَلَى أَمْرٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَقَالَ: «وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ» ، وَلَمْ يَقُلْ وَمَا بَيْنَ ذَيْنِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ: وَمَا بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «2» . وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أَيْ: لَمْ يَنْسَكَ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْكَ الْوَحْيُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَا يَنْسَى مِنْهَا شَيْئًا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ يَنْسَى الْإِرْسَالَ إِلَيْكَ عِنْدَ الْوَقْتِ الَّذِي يُرْسِلُ فِيهِ رُسُلَهُ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أَيْ: خَالِقُهُمَا وَخَالِقُ مَا بَيْنَهُمَا، وَمَالِكُهُمَا وَمَالِكُ مَا بَيْنَهُمَا، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَالنِّسْيَانُ مُحَالٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَادَتِهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا فَقَالَ: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ لِأَنَّ كَوْنَهُ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِأَنْ يُعْبَدَ، وَعُدِّيَ فِعْلُ الصَّبْرِ بِاللَّامِ دُونَ عَلَى الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الثَّبَاتِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ وَلَا نَظِيرٌ حَتَّى يُشَارِكَهُ فِي الْعِبَادَةِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ خَالِصَةٍ لَهُ سُبْحَانَهُ، فَلَمَّا انْتَفَى الْمُشَارِكُ اسْتَحَقَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ وَتُخْلَصَ لَهُ، هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمِيِّ هُوَ الشَّرِيكُ فِي الْمُسَمَّى وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ: الشَّرِيكُ فِي الِاسْمِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، فَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّهُ لَمْ يُسَمَّ شَيْءٌ مِنَ الْأَصْنَامِ وَلَا غَيْرِهَا بِاللَّهِ قَطُّ، يَعْنِي بَعْدَ دُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي عُوِّضَتْ عَنِ الْهَمْزَةِ وَلَزِمَتْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا اسْمُهُ الرَّحْمَنُ غَيْرَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ خَالِقٌ وَقَادِرٌ وَعَالِمٌ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ، وَعَلَى هَذَا لَا سَمِيَّ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ أَسْمَائِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ وَإِنْ سُمِّيَ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْإِنْكَارِ هُنَا نَفْيُ الْمَعْلُومِ على أبلغ وجه وأكمله وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا قَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ «إِذَا مَا متّ» على الخبر، والمراد بالإنسان

_ (1) . غبر هنا: بمعنى بقي، وتأتي بمعنى: مضى. انظر القاموس. (2) . البقرة: 68.

هَاهُنَا الْكَافِرُ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ هُنَا لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ وَقِيلَ: اللَّامُ فِي الْإِنْسَانِ لِلْجِنْسِ بِأَسْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِلَّا الْبَعْضُ، وَهُمُ الْكَفَرَةُ فَقَدْ يُسْنَدُ إِلَى الْجَمَاعَةِ مَا قَامَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ «أُخْرَجُ» أَيْ: مِنَ الْقَبْرِ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ فِعْلٌ دَلَّ عَلَيْهِ «أُخْرَجُ» لِأَنَّ مَا بَعْدَ اللَّامِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ التَّوْبِيخِيِّ، وَالْوَاوَ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا إِعْمَالُ الْفِكْرِ، أَيْ: أَلَا يَتَفَكَّرُ هَذَا الْجَاحِدُ فِي أَوَّلِ خَلْقِهِ فَيَسْتَدِلَّ بِالِابْتِدَاءِ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَالِابْتِدَاءُ أَعْجَبُ وَأَغْرَبُ مِنَ الْإِعَادَةِ لِأَنَّ النَّشْأَةَ الْأُولَى هِيَ إِخْرَاجٌ لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ من العدم إلى الوجود ابتداعا واختراعا، لم يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ كَالْمِثَالِ لَهُ، وَأَمَّا النَّشْأَةُ الْآخِرَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا النَّشْأَةُ الْأُولَى فَكَانَتْ كَالْمِثَالِ لَهَا، وَمَعْنَى مِنْ قَبْلُ قَبْلَ الْحَالَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآنَ، وَجُمْلَةُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ أَصْلًا، فَإِعَادَتُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ شَيْئًا مَوْجُودًا أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ. قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمًا أَوَلَا يَذَّكَّرُ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَصْلُهُ يَتَذَكَّرُ. وَقَرَأَ شيبة ونافع وعصام وَابْنُ عَامِرٍ يَذْكُرُ بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ أو لا يَتَذَكَّرُ. ثُمَّ لَمَّا جَاءَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْحُجَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي حُجَجِ الْبَعْثِ حُجَّةٌ أَقْوَى مِنْهَا، أَكَّدَهَا بِالْقَسَمِ بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ مُضَافًا إِلَى رَسُولِهِ تشريفا له وتعظيما، فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَمَعْنَى لَنَحْشُرَنَّهُمْ: لَنَسُوقَنَّهُمْ إِلَى الْمَحْشَرِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً كَمَا كَانُوا، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّياطِينَ لِلْعَطْفِ عَلَى الْمَنْصُوبِ، أَوْ بِمَعْنَى مَعَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَاحِدِينَ يَحْشُرُهُمُ الله مع شياطينهم الذين أغروهم وَأَضَلُّوهُمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى جَعْلِ اللَّامِ فِي الْإِنْسَانِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ، وَأَمَّا عَلَى جَعْلِهَا لِلْجِنْسِ فَكَوْنُهُ قَدْ وُجِدَ فِي الْجِنْسِ مَنْ يُحْشَرُ مَعَ شَيْطَانِهِ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا الْجِثِيُّ: جَمْعُ جَاثٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَجْثُو جُثُوًّا، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ: جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ لِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَرَوْعَةِ الْحِسَابِ، أَوْ لِكَوْنِ الْجِثِيِّ عَلَى الرُّكَبِ شَأْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً «1» ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بُقُولِهِ جِثِيًّا جَمَاعَاتٌ، وَأَصْلُهُ جَمْعُ جَثْوَةٍ، وَالْجَثْوَةُ: هِيَ الْمَجْمُوعُ مِنَ التُّرَابِ أَوِ الحجارة. قال طرفة: تَرَى جَثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ... صَفَائِحُ صُمٍّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ الشِّيعَةُ: الْفِرْقَةُ الَّتِي تَبِعَتْ دِينًا مِنَ الْأَدْيَانِ، وَخَصَّصَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: هِيَ الطَّائِفَةُ الَّتِي شَاعَتْ، أَيْ: تَبِعَتْ غَاوِيًا مِنَ الْغُوَاةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً «2» . وَمَعْنَى: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا مَنْ كَانَ أَعْصَى لِلَّهِ وَأَعْتَى فَإِنَّهُ يَنْزِعُ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ أَعَصَاهُمْ وَأَعْتَاهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا طَرَحَهُمْ فِي جَهَنَّمَ. وَالْعِتِيُّ هَاهُنَا مَصْدَرٌ كَالْعُتُوِّ، وَهُوَ التَّمَرُّدُ فِي الْعِصْيَانِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لِنَنْزِعَنَّ مِنْ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ قادتهم ورؤوسهم في الشرّ. وقد

_ (1) . الجاثية: 28. (2) . الأنعام: 159.

اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَةِ «أَيُّهُمْ» بِالضَّمِّ إِلَّا هارون القارئ فَإِنَّهُ قَرَأَهَا بِالْفَتْحِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فِي رَفْعِ «أَيُّهُمْ» ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ قَوْلُ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ إِنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْحِكَايَةِ. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ أَيُّهُمْ أَشَدُّ، وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَقَدْ أَبِيتُ مِنَ الْفَتَاةِ بِمَنْزِلٍ ... فَأَبِيتُ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومُ أَيْ: فَأَبِيتُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ هُوَ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَرَأَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ، يَعْنِي الزَّجَّاجَ، يَخْتَارُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَسْتَحْسِنُهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ يُونُسَ: وَهُوَ أَنَّ لَنَنْزِعَنَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُلْغَى وَتُعَلَّقُ، فَهَذَا الْفِعْلُ عِنْدَهُ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي أَيِّ، وَخَصَّصَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وغيرهما التعليق بأفعال الشك ونحوها مِمَّا لَمْ يَتَحَقَّقُ وُقُوعُهُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ أَيُّهُمْ هَاهُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَخَوَاتِهِ فِي الْحَذْفِ، وَقَدْ غَلَّطَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ هَذَا جُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ حَتَّى قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا تَبَيَّنَ لِي أَنَّ سِيبَوَيْهِ غَلِطَ فِي كِتَابِهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا. وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي إِعْرَابِ أَيُّهُمْ هَذِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَلَامٌ طَوِيلٌ. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا يُقَالُ: صَلَى يصلى صُلِيًّا «1» ، مِثْلُ مَضَى الشَّيْءُ يَمْضِي مُضِيًّا، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ: صَلَيْتُ الرَّجُلَ نَارًا إِذَا أَدْخَلْتَهُ النَّارَ وَجَعَلْتَهُ يَصْلَاهَا، فَإِنْ أَلْقَيْتَهُ إِلْقَاءً كَأَنَّكَ تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف وصلّيته تصلية، ومنه وَيَصْلى سَعِيراً «2» وَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَلِيَ فُلَانٌ النَّارَ بِالْكَسْرِ يَصْلَى صِلِيًّا احْتَرَقَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا. قَالَ العجّاج «3» : والله لولا النار أن نصلاها وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا هُمْ أَوْلَى بِصِلِيِّهَا، أَوْ صِلِيُّهُمْ أَوْلَى بِالنَّارِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها الْخِطَابُ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ، أَوْ لِلْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ، فَيَكُونُ الْتِفَاتًا، أَيْ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَارِدُهَا، أَيْ: وَاصِلُهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْوُرُودِ، فَقِيلَ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ، وَيَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْوُرُودُ هُوَ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ وَقِيلَ: لَيْسَ الْوُرُودُ الدُّخُولَ، إِنَّمَا هو كما تقول: وَرَدْتُ الْبَصْرَةَ وَلَمْ أَدْخُلْهَا. وَقَدْ تَوَقَّفَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَنْ تَحْقِيقِ هَذَا الْوُرُودِ، وَحَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «4» قَالُوا: فَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ ضَمِنَ اللَّهَ أَنْ يُبْعِدَهُ عَنْهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُرُودَ لَا يَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «5» فَإِنَّ الْمُرَادَ أَشْرَفَ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زرقا جمامه ... وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحَاضِرِ الْمُتَخَيِّمِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْوُرُودَ هُوَ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ، أَوِ الْوُرُودُ عَلَى جَهَنَّمَ وَهِيَ خَامِدَةٌ فِيهِ جمع بين

_ (1) . صليا: بضم الصاد، قراءة نافع وعليها التفسير. (2) . الانشقاق: 12. (3) . نسبه في اللسان مادة (فيه) إلى الزفيان، وأورده في أبيات. (4) . الأنبياء: 101. [.....] (5) . القصص: 23.

الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْجَمْعُ بِحَمْلِ الْوُرُودِ عَلَى دُخُولِ النَّارِ مَعَ كَوْنِ الدَّاخِلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُبْعَدًا مِنْ عَذَابِهَا، أَوْ بِحَمْلِهِ عَلَى الْمُضِيِّ فَوْقَ الْجِسْرِ الْمَنْصُوبِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الصِّرَاطُ كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أَيْ: كَانَ وُرُودُهُمُ الْمَذْكُورُ أَمْرًا مَحْتُومًا قَدْ قَضَى سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ لَا مَحَالَةَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعِقَابَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ، وَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ هَذَا مُشَبَّهٌ بِالْوَاجِبِ مِنْ جِهَةِ اسْتِحَالَةِ تَطَرُّقِ الْخُلْفِ إِلَيْهِ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيِ: اتَّقَوْا مَا يُوجِبُ النَّارَ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَمَعَاصِيهِ، وَتَرْكُ مَا شَرَعَهُ، وَأَوْجَبَ الْعَمَلَ بِهِ. قَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ نُنْجِي بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَنْجَى، وَبِهَا قَرَأَ حُمَيْدٌ وَيَعْقُوبُ وَالْكِسَائِيُّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ ابن أبي ليلى «ثمّه نَذَرُ» بِفَتْحِ الثَّاءِ «1» مِنْ ثَمَّ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِفِعْلِ مَا يُوجِبُ النَّارَ، أَوْ ظَلَمُوا غَيْرَهُمْ بِمَظْلَمَةٍ فِي النَّفْسِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ، وَالْجِثِيُّ: جَمْعُ جَاثٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا تَفْسِيرُ الْجِثِيِّ وَإِعْرَابُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: «مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا؟ فَنَزَلَتْ وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ» وَزَادَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَكَانَ ذَلِكَ الْجَوَابُ لِمُحَمَّدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْبِقَاعِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَأَيُّهَا أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، وَكَانَ قَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَلَيَّ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ بِرَبِّي عَلَيَّ مَوْجِدَةً، فَقَالَ: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «أَبْطَأَ جِبْرِيلُ على النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالَ لَهُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَا نَزَلْتَ حَتَّى اشْتَقْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَنَا كُنْتُ إِلَيْكَ أَشْوَقَ، وَلَكِنِّي مَأْمُورٌ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ أَنْ قُلْ لَهُ وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَبْطَأَتِ الرُّسُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أتاه جبريل فقال: «مَا حَبَسَكَ عَنِّي؟ قَالَ: وَكَيْفَ نَأْتِيكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَقُصُّونَ أَظْفَارَكُمْ، وَلَا تُنَقُّونَ بَرَاجِمَكُمْ، وَلَا تَأْخُذُونَ شَوَارِبَكُمْ، وَلَا تَسْتَاكُونَ؟ وَقَرَأَ وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» وَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا قَالَ: مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَما خَلْفَنا قَالَ: مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَما بَيْنَ ذلِكَ قَالَ: مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَما بَيْنَ ذلِكَ قَالَ: مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَ الْحَدِيثَ قَالَ: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا، ثُمَّ تَلَا وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ لِلرَّبِّ شَبَهًا أَوْ مَثَلًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم، والحاكم

_ (1) . في القرطبي: أي: هناك.

وصحّحه، والبيهقي فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا؟ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ يُسَمَّى الرَّحْمَنَ غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَعْلَمُ لِإِلَهِكَ مِنْ وَلَدٍ؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ قَالَ: الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جِثِيًّا قَالَ: قُعُودًا، وَفِي قَوْلِهِ: عِتِيًّا قَالَ: مَعْصِيَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: عِتِيًّا قَالَ: عِصِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ قَالَ: لَنَنْزِعَنَّ مِنْ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ قادتهم ورؤوسهم فِي الشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: نَحْشَرُ الْأَوَّلَ عَلَى الْآخِرِ حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتِ الْعِدَّةُ أثارهم جميعا، ثم بدأ بالأكابر جرما، ثم قرأ: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: عِتِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا قَالَ: يَقُولُ إِنَّهُمْ أَوْلَى بِالْخُلُودِ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبيهقي عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ بَعْضُنَا لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ بَعْضُنَا يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ وَأَهْوَى بِأُصْبُعِهِ إِلَى أُذُنَيْهِ صَمْتًا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهَا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وسعيد بْنُ مَنْصُورٍ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَاصَمَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ، وَقَالَ نَافِعٌ: لَا، فَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «1» ، وَقَالَ: وَرَدُوا أَمْ لَا؟ وَقَرَأَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ «2» أَوَرَدُوا أَمْ لَا؟ أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا فَانْظُرْ هَلْ نَخْرُجُ مِنْهَا أَمْ لَا؟. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قَالَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا دَاخِلُهَا. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: وُرُودُهَا الصِّرَاطَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَرِدُ النَّاسُ كُلُّهُمُ النَّارَ، ثُمَّ يَصْدُرُونَ عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَوَّلُهُمْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ، ثُمَّ كَحُضْرِ الْفَرَسِ «3» ، ثُمَّ كَالرَّاكِبِ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّحْلِ، ثُمَّ كَمَشْيِهِ» وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإن منكم إلا واردها» يقول: مجتاز فيها. وأخرج مسلم وغيره عن أم مبشر قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ، قَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قَالَتْ: أَلَمْ تَسْمَعِيهِ يَقُولُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وغيرهما

_ (1) . الأنبياء: 98. (2) . هود: 98. (3) . الحضر بالضم: العدو.

[سورة مريم (19) : الآيات 73 إلى 80]

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» ثُمَّ قَرَأَ سُفْيَانُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُتَطَوِّعًا، لَا يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ، لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنَيْهِ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» وَالْأَحَادِيثُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرَةٌ جِدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: حَتْماً مَقْضِيًّا قَالَ: قَضَاءٌ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الخطيب في تالي التلخيص عَنْ عِكْرِمَةَ حَتْماً مَقْضِيًّا قَالَ: قَسَمًا وَاجِبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا قَالَ: باقين فيها. [سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 80] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) الضمير في عَلَيْهِمْ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ في قوله: أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَيْ: هَؤُلَاءِ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ تَعَذَّرُوا بِالدُّنْيَا، وَقَالُوا: لَوْ كُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ وَكُنَّا عَلَى الْبَاطِلِ لَكَانَ حَالُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَطْيَبَ مِنْ حَالِنَا، وَلَمْ يَكُنْ بِالْعَكْسِ لِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُهِينَ أَوْلِيَاءَهُ وَيُعِزَّ أَعْدَاءَهُ، وَمَعْنَى «الْبَيِّنَاتِ» : الْوَاضِحَاتِ الَّتِي لَا تَلْتَبِسُ مَعَانِيهَا وَقِيلَ: ظَاهِرَاتُ الْإِعْجَازِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا حُجَجٌ وَبَرَاهِينُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا وَاضِحَةً، وَوَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ السَّبَبُ لِصُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا هُمُ الْمُتَمَرِّدُونَ الْمُصِرُّونَ مِنْهُمْ، وَمَعْنَى قَالُوا: لِلَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا: لِأَجْلِهِمْ، وَقِيلَ: هَذِهِ اللَّامُ هِيَ لَامُ التَّبْلِيغِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ أَيْ: خَاطَبُوهُمْ بِذَلِكَ وَبَلَّغُوا الْقَوْلَ إِلَيْهِمْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً الْمُرَادُ بِالْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا أَفَرِيقُنَا خَيْرٌ أَمْ فَرِيقُكُمْ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَشِبْلُ بْنُ عَبَّادٍ «مُقَامًا» بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، أَيْ: مَنْزِلًا وَمَسْكَنًا، وَقِيلَ: الْمَقَامُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ بِالْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْبَرُ جَاهًا وَأَكْثَرُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا، وَالنَّدِيُّ وَالنَّادِي: مَجْلِسُ الْقَوْمِ وَمُجْتَمَعُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ «1» وَنَادَاهُ: جَالَسَهُ فِي النَّادِي، وَمِنْهُ دَارُ النَّدْوَةِ لأن

_ (1) . العنكبوت: 29.

الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا فِي أُمُورِهِمْ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الشَّاعِرِ: أُنَادِي بِهِ آلَ الْوَلِيدِ وجعفرا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ الْقَرْنُ: الْأُمَّةُ والجماعة هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً الْأَثَاثُ: الْمَالُ أَجْمَعُ: الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ وَالْبَقَرُ وَالْعَبِيدُ وَالْمَتَاعُ، وَقِيلَ: هُوَ مَتَاعُ الْبَيْتِ خَاصَّةً، وَقِيلَ: هُوَ الْجَدِيدُ مِنَ الْفَرْشِ، وَقِيلَ: اللِّبَاسُ خَاصَّةً. وَاخْتَلَفَتِ الْقِرَاءَاتُ فِي «وَرِئْيًا» فَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ ذَكْوَانَ «وَرِيًّا» بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأَيْتُ ثُمَّ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ فَأُبْدِلَ مِنْهَا يَاءٌ وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: هُمْ أَحْسَنُ مَنْظَرًا وَبِهِ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَحُسْنُ الْمَنْظَرِ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ حُسْنِ اللِّبَاسِ، أَوْ حسن الأبدان وتنعمها، أو مجموع الأمرين. وقرأ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ «وَرِئْيًا» بِالْهَمْزِ، وَحَكَاهَا وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَمَعْنَاهَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَنْ هَمَزَ جَعَلَهُ مِنَ الْمَنْظَرِ مِنْ رَأَيْتُ، وَهُوَ مَا رَأَتْهُ الْعَيْنُ مِنْ حَالٍ حَسَنَةٍ وَكُسْوَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِمُحَمَّدِ بْنِ نُمَيْرٍ الثَّقَفِيِّ: أَشَاقَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ بَانُوا ... بِذِي الرِّئْيِ الْجَمِيلِ مِنَ الْأَثَاثِ وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ، أَوْ يَكُونَ مِنْ رُوِيَتْ أَلْوَانُهُمْ أَوْ جُلُودُهُمْ رِيًّا أَيِ: امْتَلَأَتْ وَحَسُنَتْ. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّجَّاجُ مَعْنَى هَذَا كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْوَاحِدِيُّ. وَحَكَى يَعْقُوبُ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ مُصَرِّفٍ قَرَأَ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ، فَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ غَلَطٌ، وَوَجَّهَهَا بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ كَانَ أَصْلُهَا الْهَمْزَةَ فَقُلِبَتْ يَاءً ثُمَّ حُذِفَتْ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِالزَّايِ مَكَانَ الرَّاءِ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كعب وسعيد بن جبير والأعسم المكي ويزيد البربري، وَالزِّيُّ: الْهَيْئَةُ وَالْحُسْنُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوَيْتُ، أَيْ: جَمَعْتُ، فَيَكُونُ أَصْلُهَا زَوْيًا فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَالزِّيُّ: مَحَاسِنُ مَجْمُوعَةٌ قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُفْتَخِرِينَ بِحُظُوظِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَيْ: مَنْ كَانَ مُسْتَقِرًا فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا هَذَا وَإِنْ كَانَ على صيغة الأمر، فالمراد به الخبر، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ لِبَيَانِ الْإِمْهَالِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِلْعُصَاةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِتَنْقَطِعَ مَعَاذِيرُ أَهْلِ الضَّلَالِ، وَيُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ «1» ، أَوْ لِلِاسْتِدْرَاجِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «2» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الدُّعَاءُ بِالْمَدِّ وَالتَّنْفِيسِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ جَزَاءَ ضَلَالَتِهِ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَمُدَّهُ فِيهَا لِأَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يُؤَكِّدُ مَعْنَى الْخَبَرِ كَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَقُولُ أَفْعَلُ ذَلِكَ وَآمُرُ بِهِ نَفْسِي حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ يَعْنِي الَّذِينَ مُدَّ لَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ، وَجَاءَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ اعْتِبَارًا بِمَعْنَى مَنْ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اعْتِبَارٌ بِلَفْظِهَا، وَهَذِهِ غَايَةٌ لِلْمَدِّ، لَا لِقَوْلِ الْمُفْتَخِرِينَ إِذْ لَيْسَ فِيهِ امْتِدَادٌ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ هَذَا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ مَا يُوعَدُونَ أَيْ: هَذَا الَّذِي تُوعَدُونَ هُوَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَإِمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ حِينَئِذٍ مِنَ الْعَذَابِ الْأُخْرَوِيِّ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً

_ (1) . فاطر: 37. (2) . آل عمران: 178.

هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ جَوَابٌ عَلَى الْمُفْتَخِرِينَ أَيْ: هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا، إِذَا عَايَنُوا مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، أَوِ الْأُخْرَوِيِّ، فَسَيَعْلَمُونَ عِنْدَ ذلك من هو شرّ مكانا من الفريقين، وأضعف جندا منهما، أي: أنصارا وأعوانا. والمعنى: أنهم سيعلمون عند ذلك أنهم شَرٌّ مَكَانًا لَا خَيْرٌ مَكَانًا، وَأَضْعَفُ جُنْدًا لَا أَقْوَى وَلَا أَحْسَنُ مِنْ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لِلْمُفْتَخِرِينَ هُنَالِكَ جُنْدًا ضُعَفَاءَ، بَلْ لَا جُنْدَ لَهُمْ أَصْلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً «1» . ثُمَّ لَمَّا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ حَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَ أَهْلِ الْهِدَايَةِ فَقَالَ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْهُدَى يَجُرُّ إِلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَالْخَيْرُ يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ الْعِبَادَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْوَاوُ فِي «وَيَزِيدُ» لِلِاسْتِئْنَافِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِ الْمُهْتَدِينَ وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى فَلْيَمْدُدْ وَقِيلَ: لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةِ: مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَزِيدَهُمْ يَقِينًا، كَمَا جَعَلَ جَزَاءَ الْكَافِرِينَ أَنْ يَمُدَّهُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً هِيَ الطَّاعَاتُ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا خَيْرًا عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابًا، أَنَّهَا أَنْفَعُ عَائِدَةً مِمَّا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْكُفَّارُ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَخَيْرٌ مَرَدًّا الْمَرَدُّ هَاهُنَا مَصْدَرٌ كالردّ، والمعنى: وخير مردّ لِلثَّوَابِ عَلَى فَاعِلِهَا لَيْسَتْ كَأَعْمَالِ الْكُفَّارِ الَّتِي خَسِرُوا فِيهَا، وَالْمَرَدُّ: الْمَرْجِعُ وَالْعَاقِبَةُ وَالتَّفَضُّلُ لِلتَّهَكُّمِ بهم وللقطع بِأَنَّ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ لَا خَيْرَ فِيهَا أَصْلًا. ثُمَّ أَرْدَفَ سُبْحَانَهُ مَقَالَةَ أُولَئِكَ الْمُفْتَخِرِينَ بِأُخْرَى مِثْلِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا أَيْ: أَخْبِرْنِي بِقِصَّةِ هَذَا الْكَافِرِ وَاذْكُرْ حَدِيثَهُ عَقِبَ حَدِيثِ أُولَئِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوا أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبَرَ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الشَّيْءِ مِنْ أَسْبَابِ صِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْهُ، وَالْآيَاتُ تَعُمُّ كُلَّ آيَةٍ وَمِنْ جُمْلَتِهَا آيَةُ الْبَعْثِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ: أَنَظَرْتَ فَرَأَيْتَ، وَاللَّامُ فِي لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً هِيَ الْمُوَّطِئَةُ لِلْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَأُوتَيَنَّ فِي الْآخِرَةِ مَالًا وَوَلَدًا، أَيِ: انْظُرْ إِلَى حَالِ هَذَا الْكَافِرِ، وَتَعَجَّبْ مِنْ كَلَامِهِ وَتَأَلِّيهِ عَلَى اللَّهِ مَعَ كُفْرِهِ بِهِ وَتَكْذِيبِهِ بِآيَاتِهِ. ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ قَوْلِ هَذَا الْكَافِرِ بِمَا يَدْفَعُهُ وَيُبْطِلُهُ، فَقَالَ: أَطَّلَعَ عَلَى الْغَيْبَ أَيْ: أَعَلِمَ مَا غَابَ عَنْهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بذلك، فإن لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْعِلْمِ إِلَّا بِإِحْدَى هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَظَرَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؟ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا؟ وَقِيلَ: مَعْنَى أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟: أَمْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَرْحَمَهُ بِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَمْ قَدَّمَ عَمَلًا صَالِحًا فَهُوَ يَرْجُوهُ. وَاطَّلَعَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: اطَّلَعَ الْجَبَلَ إِذَا ارْتَقَى إِلَى أَعْلَاهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَوُلْدًا بِضَمِّ الْوَاوِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، يُقَالُ: وَلَدٌ وَوُلْدٌ كَمَا يُقَالُ عَدَمٌ وَعُدْمٌ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا ... قَدْ ثمّروا مالا وولدا

_ (1) . الكهف: 43.

وَقَالَ آخَرُ: فَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ... وَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ وُلْدَ حِمَارِ وَقِيلَ: الْوُلْدُ بِالضَّمِّ لِلْجَمْعِ وَبِالْفَتْحِ لِلْوَاحِدِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَنَّهُ يُؤْتَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنْ أَقَمْتُ عَلَى دِينِ آبَائِي لَأُوتَيَنَّ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَوْ كُنْتُ عَلَى بَاطِلٍ لَمَا أُوتِيتُ مَالًا وَوَلَدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ كَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ هَذَا الْكَافِرُ مِنْ أَنَّهُ يُؤْتَى المال والود سَيُكْتَبُ مَا يَقُولُ، أَيْ: سَنَحْفَظُ عَلَيْهِ مَا يَقُولُهُ فَنُجَازِيهِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ سَنُظْهِرُ مَا يَقُولُ، أَوْ سَنَنْتَقِمُ مِنْهُ انْتِقَامَ مَنْ كُتِبَتْ مَعْصِيَتُهُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أَيْ: نَزِيدُهُ عَذَابًا فَوْقَ عَذَابِهِ مَكَانَ مَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ مِنَ الْإِمْدَادِ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، أَوْ نُطَوِّلُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ عَذَابُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ أَيْ: نُمِيتُهُ فَنَرِثُهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ يُؤْتَاهُ. وَالْمَعْنَى: مُسَمَّى مَا يَقُولُ وَمِصْدَاقُهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: نَحْرِمُهُ مَا تَمَنَّاهُ وَنُعْطِيهِ غَيْرَهُ وَيَأْتِينا فَرْداً أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، بَلْ نَسْلُبُهُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَطْمَعُ فِي أَنْ نُؤْتِيَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَا يَقُولُ نَفْسُ الْقَوْلِ لَا مُسَمَّاهُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا أَمَتْنَاهُ حُلْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَهُ، وَيَأْتِينَا رَافِضًا لَهُ مُنْفَرِدًا عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً قَالَ: قُرَيْشٌ تَقُولُهُ لَهَا وَلِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ مَقاماً قَالَ: الْمَنَازِلُ وَأَحْسَنُ نَدِيًّا قَالَ: الْمَجَالِسُ، وَفِي قَوْلِهِ: أَحْسَنُ أَثاثاً قال: المتاع والمال وَرِءْياً قَالَ: الْمَنْظَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا فَلْيَدَعْهُ اللَّهُ فِي طُغْيَانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ فِي حَرْفِ أُبَيٍّ: «قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَإِنَّهُ يَزِيدُهُ اللَّهُ ضَلَالَةً» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ مِنْ حَدِيثِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيِّنًا «1» وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: فَإِنِّي إِذَا مِتُّ ثُمَّ بُعِثْتُ جِئْتَنِي وَلِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأُعْطِيكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَرْجُو بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ قَالَ: مَالُهُ وولده.

_ (1) . أي حدّادا.

[سورة مريم (19) : الآيات 81 إلى 95]

[سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 95] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) حَكَى سُبْحَانَهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَتَأَلَّوْا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنِ اتِّخَاذِهِمُ الْآلِهَةَ مَنْ دُونِ اللَّهِ لِأَجَلِ يَتَعَزَّزُونَ بِذَلِكَ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: مَعْنَى لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا لِيَكُونُوا لَهُمْ أَعْوَانًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ لِيَكُونُوا لَهُمْ شُفَعَاءَ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لِيَتَعَزَّزُوا بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَيَمْتَنِعُوا بِهَا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوا وَتَوَهَّمُوا، وَالضَّمِيرُ فِي الْفِعْلِ إِمَّا لِلْآلِهَةِ، أَيْ: سَتَجْحَدُ هَذِهِ الْأَصْنَامُ عِبَادَةَ الْكُفَّارِ لَهَا يوم ينطقها الله سبحانه لأنها عند ما عَبَدُوهَا جَمَادَاتٌ لَا تَعْقِلُ ذَلِكَ، وَإِمَّا لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ: سَيَجْحَدُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، وَيَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ «1» وقوله: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ «2» ، وَيَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «3» وقرأ أبو نُهَيْكٍ كَلًّا بِالتَّنْوِينِ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَعَ ذَلِكَ ضَمُّ الْكَافِ وَفَتْحُهَا، فَعَلَى الضَّمِّ هِيَ بِمَعْنَى جَمِيعًا وَانْتِصَابِهَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: سَيَكْفُرُونَ «كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ» «4» ، وَعَلَى الْفَتْحِ يَكُونُ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كَلَّ هَذَا الرَّأْيُ كَلًّا، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ هِيَ الصَّوَابُ، وَهِيَ حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أَيْ: تَكُونُ هَذِهِ الْآلِهَةُ الَّتِي ظَنُّوهَا عِزًّا لَهُمْ ضِدًّا عَلَيْهِمْ: أَيْ ضِدًّا لِلْعِزِّ وَضِدُّ الْعِزِّ: الذُّلُّ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَيَكُونُ الْمُشْرِكُونَ لِلْآلِهَةِ ضِدًّا وَأَعْدَاءً يَكْفُرُونَ بِهَا بَعْدَ أَنْ كَانُوا يُحِبُّونَهَا وَيُؤْمِنُونَ بِهَا أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ. ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي مَعْنَى هَذَا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ خَلَّيْنَا بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ فَلَمْ نَعْصِمْهُمْ مِنْهُمْ وَلَمْ نُعِذْهُمْ، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «5» . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ وَقُيِّضُوا لَهُمْ بِكُفْرِهِمْ، قَالَ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً «6» فَمَعْنَى الْإِرْسَالِ هَاهُنَا التَّسْلِيطُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ لِإِبْلِيسَ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ «7» وَيُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّانِي تَمَامُ الْآيَةِ، وَهُوَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فإن الأزّ والهزّ والاستفزاز معناه التَّحْرِيكُ وَالتَّهْيِيجُ وَالْإِزْعَاجُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشياطين

_ (1) . القصص: 63. (2) . النحل: 86. (3) . الأنعام: 23. (4) . أي اتخاذهم الآلهة. [.....] (5) . الحجر: 42 والإسراء: 65. (6) . الزخرف: 36. (7) . الإسراء: 64.

تُحَرِّكُ الْكَافِرِينَ وَتُهَيِّجُهُمْ وَتُغْوِيهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ التَّسْلِيطُ لَهَا عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْأَزِّ الِاسْتِعْجَالُ، وَهُوَ مُقَارِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ تَحْرِيكٌ وَتَهْيِيجٌ وَاسْتِفْزَازٌ وَإِزْعَاجٌ، وَسِيَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ لِتَعْجِيبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَالِهِمْ وَلِلتَّنْبِيهِ لَهُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ بِإِضْلَالِ الشَّيَاطِينِ وَإِغْوَائِهِمْ، وَجُمْلَةُ: «تَؤُزُّهُمْ أَزًّا» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا تَفْعَلُ الشَّيَاطِينُ بِهِمْ؟ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بِأَنْ تَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ إِهْلَاكَهُمْ بِسَبَبِ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَعِنَادِهِمْ لِلْحَقِّ، وَتَمَرُّدِهِمْ عَنْ دَاعِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا يَعْنِي نَعُدُّ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ وَالشُّهُورَ وَالسِّنِينَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ إِلَى انْتِهَاءِ آجَالِهِمْ، وَقِيلَ: نَعُدُّ أَنْفَاسَهُمْ، وَقِيلَ: خُطُوَاتِهِمْ، وَقِيلَ: لَحَظَاتِهِمْ، وَقِيلَ: السَّاعَاتِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: نَعُدُّ أَعْمَالَهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ فَإِنَّمَا نُؤَخِّرُهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. ثُمَّ لَمَّا قَرَّرَ سُبْحَانَهُ أَمْرَ الْحَشْرِ وَأَجَابَ عَنْ شُبْهَةِ مُنْكِرِيهِ أَرَادَ أَنْ يَشْرَحَ حَالَ الْمُكَلَّفِينَ حِينَئِذٍ، فَقَالَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَمَعْنَى حَشْرِهِمْ إِلَى الرَّحْمَنِ حَشْرِهِمْ إِلَى جَنَّتِهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ، كَقَوْلِهِ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي «1» وَالْوَفْدُ: جَمْعُ وَافِدٍ كَالرَّكْبِ جَمْعُ رَاكِبٍ، وَصَحْبٍ جَمْعُ صَاحِبٍ، يُقَالُ: وَفَدَ يَفِدُ وَفْدًا إِذَا خَرَجَ إِلَى مَلِكٍ أَوْ أَمْرٍ خَطِيرٍ كَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً السَّوقُ: الْحَثُّ عَلَى السَّيْرِ، وَالْوِرْدُ: الْعِطَاشُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُمُ الْمُشَاةُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُمُ الْمُشَاةُ الْعِطَاشُ كَالْإِبِلِ تَرِدُ الْمَاءَ. وَقِيلَ: وِرْدًا، أَيْ: لِلْوِرْدِ، كَقَوْلِكَ: جِئْتُكَ إِكْرَامًا، أَيْ: لِلْإِكْرَامِ، وَقِيلَ: أَفْرَادًا. قِيلَ: ولا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَهُمْ يُسَاقُونَ مُشَاةً عِطَاشًا أَفْرَادًا، وَأَصْلُ الْوِرْدِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَرِدُ الْمَاءَ مِنْ طَيْرٍ أَوْ إِبِلٍ أَوْ قَوْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْوِرْدُ: الْمَاءُ الَّذِي يُورَدُ، وَجُمْلَةُ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ بَعْضِ مَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْأُمُورِ، وَالضَّمِيرُ فِي «يَمْلِكُونَ» رَاجِعٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَقِيلَ: لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً، وَقِيلَ: لِلْمُجْرِمِينَ خَاصَّةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَعْنَى «لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ» : أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَشْفَعُوا لِغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُ غَيْرُهُمْ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْ: لَا يَمْلِكُ الْفَرِيقَانِ الْمَذْكُورَانِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اسْتَعَدَّ لِذَلِكَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ مِنْ جُمْلَةِ الشَّافِعِينَ لِغَيْرِهِمْ بِأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا مُتَّقِيًا، فَهَذَا مَعْنَى اتِّخَاذِ الْعَهْدِ عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى اتِّخَاذِ الْعَهْدِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ: عَهِدَ الْأَمِيرُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا أَمَرَهُ بِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى اتِّخَاذِ الْعَهَدِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَعَلَى الِاتِّصَالِ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ مَحَلُّ «مَنْ» فِي مَنِ اتَّخَذَ الرَّفْعَ عَلَى الْبَدَلِ، أَوِ النَّصْبَ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَا يَمْلِكُ الْمُجْرِمُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَمْلِكُ الْمُجْرِمُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وُلْدًا بِضَمِّ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ في المواضع

_ (1) . الصافات: 99.

الأربعة الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ يَزْعُمُ مِنَ الْعَرَبِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَفِيهِ رَدٌّ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنْعَاءِ، وَالْإِدُّ كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الدَّاهِيَةُ وَالْأَمْرُ الْفَظِيعُ، وَكَذَلِكَ الْأَدَّةُ، وَجَمْعُ الْأَدَّةِ إِدَدٌ، يُقَالُ: أَدَّتْ فلانا الداهية تؤدّه أدا بِالْفَتْحِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ «أَدًّا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ «آدًّا» مِثْلُ «مَادًّا» ، وَهِيَ مأخوذة من الثقل، يقال: آده الحمل يؤوده أودا: أَثْقَلَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أَيْ: عَظِيمًا فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: قُلْتُمْ قَوْلًا عَظِيمًا. وَقِيلَ: الْإِدُّ: الْعَجَبُ، وَالْإِدَّةُ: الشَّدَّةُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَالتَّرْكِيبُ يَدُورُ عَلَى الشِّدَّةِ وَالثِّقَلِ. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ قَرَأَ نَافِعٌ والكسائي وحفص وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «يَكَادُ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بالفوقية، وقرأ نافع وابن كثير وحفص تتفطّرن بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ يَنْفَطِرْنَ بِالتَّحْتِيَّةِ مِنَ الِانْفِطَارِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ «1» وقوله: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «2» وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «يَتَصَدَّعْنَ» وَالِانْفِطَارُ وَالتَّفَطُّرُ: التَّشَقُّقُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أَيْ: وَتَكَادُ أَنْ تَنْشَقَّ الْأَرْضُ، وَكَرَّرَ الْفِعْلَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ تَتَفَطَّرْنَ وَتَنْشَقُّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَتَخِرُّ الْجِبالُ أَيْ: تَسْقُطُ وَتَنْهَدِمُ، وَانْتِصَابُ هَدًّا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ الْخُرُورَ فِي مَعْنَاهُ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَتَنْهَدُّ هَدًّا، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَهْدُودَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: لِأَنَّهَا تَنْهَدُّ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: يُقَالُ هَدَّنِي الْأَمْرُ وَهَدَّ رُكْنِي، أَيْ: كَسَرَنِي وَبَلَغَ مِنِّي. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هَدَّ الْبِنَاءَ يَهُدُّهُ هَدًّا كَسَّرَهُ وَضَعْضَعَهُ، وَهَدَّتْهُ الْمُصِيبَةُ أَوْهَنَتْ رُكْنَهُ، وَانْهَدَّ الْجَبَلُ، أَيِ: انْكَسَرَ، وَالْهَدَّةُ: صَوْتُ وَقْعِ الْحَائِطِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَمَحَلُّ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً الْجَرُّ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي مِنْهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِمَعْنَى لِأَنْ دَعَوْا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ بِتَقْدِيرِ الْخَافِضِ، وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ هَدًّا. وَالدُّعَاءُ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ، أَيْ: سَمَّوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، أَوْ بِمَعْنَى النِّسْبَةِ، أَيْ: نَسَبُوا لَهُ وَلَدًا وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أَيْ: لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا يَلِيقُ بِهِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَقْتَضِي الْجِنْسِيَّةَ وَالْحُدُوثَ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، أَوْ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَالْحَالُ أَنَّهُ مَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: مَا كُلُّ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا وَهُوَ آتِي اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُقِرًّا بِالْعُبُودِيَّةِ خَاضِعًا ذَلِيلًا، كَمَا قَالَ: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «3» أَيْ: صَاغِرِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَبِيدُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَدًا لَهُ؟ وَقُرِئَ «آتي» عَلَى الْأَصْلِ لَقَدْ أَحْصاهُمْ أَيْ: حَصَرَهُمْ وَعَلِمَ عَدَدَهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أَيْ: عَدَّ أَشْخَاصَهُمْ بَعْدَ أَنْ حَصَرَهُمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مَالَ مَعَهُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ «4» .

_ (1) . الإنفطار: 1. (2) . المزمل: 18. (3) . النمل: 87. (4) . الشعراء: 188.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا قَالَ: أَعْوَانًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ ضِدًّا قَالَ: حَسْرَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا تُغْوِيهِمْ إِغْوَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا قَالَ: تُحَرِّضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا إِلَى مَعَاصِي اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفْداً قَالَ: رُكْبَانًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفْداً قَالَ: عَلَى الْإِبِلِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثِ طرائق: راغبين وراهبين، واثنان عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، تُقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وِرْداً قَالَ: عِطَاشًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَتَبَرَّأَ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدِي عَهْدٌ فَلْيَقُمْ، فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ قَالَ هَذَا فِي الدُّنْيَا، قُولُوا: اللَّهُمَّ فاطر السموات وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى عَمَلِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاجْعَلْهُ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُؤَدِّيهِ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْخَلَ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُورًا فَقَدْ سَرَّنِي، وَمَنْ سَرَّنِي فَقَدِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَمَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا فَلَا تَمَسُّهُ النَّارُ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «من جاء بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدْ حَافَظَ عَلَى وُضُوئِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْئًا جَاءَ وَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُ، وَمَنْ جَاءَ قَدِ انْتَقَصَ مِنْهُمْ شَيْئًا فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ رَحِمَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا قَالَ: قَوْلًا عَظِيمًا، وَفِي قَوْلِهِ: تَكادُ السَّماواتُ قال: إن الشرك فرغت منه السموات وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، وَكَادَتْ تَزُولُ مِنْهُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَكَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ إِحْسَانُ الْمُشْرِكِ كَذَلِكَ يَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ ذُنُوبَ الْمُوَحِّدِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا قَالَ: هَدْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ الْجَبَلَ لَيُنَادِي الْجَبَلَ بِاسْمِهِ، يَا فُلَانُ هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ أَحَدٌ ذَكَرَ اللَّهَ؟ فَإِذَا قَالَ نَعَمْ اسْتَبْشَرَ.

[سورة مريم (19) : الآيات 96 إلى 98]

قَالَ عَوْنٌ: أَفَيَسْمَعَنَّ الزُّورَ إِذَا قِيلَ وَلَا يَسْمَعَنَّ الْخَيْرَ؟ هُنَّ لِلْخَيْرِ أَسْمَعُ، وَقَرَأَ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً الآيات. [سورة مريم (19) : الآيات 96 الى 98] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَ مَا خَصَّهُمْ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِقَبَائِحِ الْكَافِرِينَ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أَيْ: حُبًّا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ يَجْعَلُهُ لَهُمْ مِنْ دُونِ أَنْ يَطْلُبُوهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تُوجِبُ ذَلِكَ كَمَا يَقْذِفُ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمُ الرُّعْبَ، وَالسِّينُ فِي سَيَجْعَلُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّهُ مَجْعُولٌ مِنْ بَعْدِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقُرِئَ وِدًّا بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَالْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الضَّمِّ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ خُصُوصًا هَذِهِ السُّورَةَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَبَيَانِ حَالِ الْمُعَانِدِينَ فَقَالَ: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أَيْ: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ بِإِنْزَالِنَا لَهُ عَلَى لُغَتِكَ، وَفَصَّلْنَاهُ وَسَهَّلْنَاهُ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى عَلَى، وَالْفَاءُ لِتَعْلِيلِ كَلَامٍ يَنْسَاقُ إِلَيْهِ النَّظْمُ كَأَنَّهُ قِيلَ: بَلِّغْ هَذَا الْمَنْزِلَ أَوْ بَشِّرْ بِهِ أَوْ أَنْذِرْ فَإِنَّما يَسَّرْناهُ الْآيَةَ. ثُمَّ عَلَّلَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّيْسِيرِ فَقَالَ: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أَيِ: الْمُتَلَبِّسِينَ بِالتَّقْوَى، الْمُتَّصِفِينَ بِهَا وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا اللُّدُّ: جَمْعُ الْأَلَدِّ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَدُّ الْخِصامِ «1» قَالَ الشَّاعِرُ: أَبَيْتُ نَجِيًّا لِلْهُمُومِ كَأَنَّنِي ... أُخَاصِمُ أَقْوَامًا ذَوِي جَدَلٍ لُدًّا وَقَالَ أَبُوُ عُبَيْدَةَ: الْأَلَدُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ وَيَدَّعِي الْبَاطِلَ، وَقِيلَ: اللُّدُّ الصُّمُّ، وَقِيلَ: الظُّلْمَةُ وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أَيْ: مِنْ أُمَّةٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَفِي هَذَا وَعْدٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِهَلَاكِ الْكَافِرِينَ وَوَعِيدٌ لَهُمْ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ: هَلْ تَشْعُرُ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ تَرَاهُ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً الرِّكْزُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَمِنْهُ رَكَزَ الرُّمْحَ إِذَا غَيَّبَ طرفه في الأرض. قال طرفة: وصادقنا «2» سَمْعُ التَّوَجُّسِ لِلسَّرَى ... لِرِكْزٍ خَفِيٍّ أَوْ لِصَوْتٍ مُفَنَّدٍ «3» وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ: إِذَا تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدِسٌ ... بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعِهِ كذب

_ (1) . البقرة: 204. (2) . في المطبوع: وصادفتها. والمثبت من شرح المعلقات السبع ص (99) تحقيق يوسف بديوي، طبع دار ابن كثير. (3) . في شرح المعلقات السبع: مندّد.

أي: ما فِي اسْتِمَاعِهِ كَذِبٌ بَلْ هُوَ صَادِقُ الِاسْتِمَاعِ، وَالنَّدِسُ: الْحَاذِقُ، وَالنَّبْأَةُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الرِّكْزُ: مَا لَا يُفْهَمُ مِنْ صَوْتٍ أَوْ حَرَكَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وجد في نَفْسَهُ عَلَى فِرَاقِ أَصْحَابِهِ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ خَطَأٌ، فَإِنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ بِكَمَالِهَا لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَصِحَّ سَنَدُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا قَالَ: مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: «قُلِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا، وَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ وُدًّا، وَاجْعَلْ لِي فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ مَوَدَّةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ فِي عَلِيٍّ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وُدًّا قَالَ: مَحَبَّةً فِي النَّاسِ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن قَوْلِهِ: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا مَا هُوَ؟ قَالَ: الْمَحَبَّةُ الصَّادِقَةُ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ» . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ يُنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا وَإِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي قَدْ أَبْغَضْتُ فُلَانًا، فَيُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُنْزِلُ لَهُ الْبَغْضَاءَ فِي الْأَرْضِ» وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا قَالَ: فُجَّارًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: صُمًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ قَالَ: هَلْ تَرَى مِنْهُمْ مَنْ أَحَدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قوله: رِكْزاً قال: صوتا.

سورة طه

سورة طه قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ طه بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي التَّوْحِيدِ، وَالْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «أن اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَرَأَ طه ويس قَبْلَ أن يخلق السّموات وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ الْقُرْآنَ قَالَتْ: طُوبَى لِأُمَّةٍ يَنْزِلُ عَلَيْهَا هَذَا، وَطُوبَى لِأَجْوَافٍ تَحْمِلُ هَذَا، وَطُوبَى لِأَلْسِنَةٍ تَكَلَّمَتْ بِهَذَا» . قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ نَكَارَةٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ وَشَيْخُهُ تُكُلِّمَ فيهما، يعني إبراهيم بن مهاجر بن مسمار وَشَيْخَهُ عُمَرَ بْنَ حَفْصِ بْنِ ذَكْوَانَ، وَهُمَا مِنْ رِجَالِ إِسْنَادِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ السُّورَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْأَنْعَامُ مِنَ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَأُعْطِيتُ سُورَةَ طه وَالطَّوَاسِينَ مِنْ أَلْوَاحِ مُوسَى، وَأُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْقُرْآنِ وَخَوَاتِيمَ الْبَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، وَأُعْطِيتُ الْمُفَصَّلَ نَافِلَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ قُرْآنٍ يُوضَعُ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا يَقْرَءُونَ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا سُورَةَ طَه وَيَس، فَإِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَذَكَرَ قِصَّةَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَعَ أُخْتِهِ وَخَبَّابٌ وَقِرَاءَتُهُمَا طه، وَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ إِسْلَامِ عُمَرَ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) قَوْلُهُ: طه قَرَأَ بِإِمَالَةِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَمَالَهُمَا جَمِيعًا أَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ. وَقَرَأَهُمَا أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهِيَ كُلُّهَا لُغَاتٌ صَحِيحَةٌ فَصِيحَةٌ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: لَا وَجْهَ لِلْإِمَالَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ

الْعَرَبِيَّةِ لِعِلَّتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا يَاءٌ وَلَا كَسْرَةٌ حَتَّى تَكُونَ الْإِمَالَةُ، وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الطَّاءَ مِنْ مَوَانِعِ الْإِمَالَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابَهِ الَّذِي لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ بِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى يَا رَجُلُ فِي لُغَةِ عُكْلٍ، وَفِي لُغَةِ عَكٍّ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَوْ قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنْ عَكٍّ يَا رَجُلُ لَمْ يُجِبْ حَتَّى تَقُولَ طه، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ: دَعَوْتُ بِطه فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ ... فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَائِلًا «1» وَيُرْوَى: مُزَايِلًا، وَقِيلَ: إِنَّهَا فِي لُغَةِ عَكٍّ بِمَعْنَى يَا حَبِيبِي. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هِيَ كَذَلِكَ فِي لُغَةِ طَيٍّ أَيْ: بِمَعْنَى يَا رَجُلُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: هِيَ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ النّبطية، وبه قال السدّي وسعيد بن جبير. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي لُغَةِ الْحَبَشَةِ، وَرَوَاهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي تِلْكَ اللُّغَاتِ كُلِّهَا إِذَا صَحَّ النَّقْلُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا اسْمٌ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا اسْمٌ لِلسُّورَةِ. الْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهَا حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ يَدُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى مَعْنًى. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا هَذِهِ الْحُرُوفُ عَلَى أَقْوَالٍ كُلُّهَا مُتَكَلَّفَةٌ مُتَعَسَّفَةٌ. الْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهَا طُوبَى لِمَنِ اهْتَدَى. الْقَوْلُ الثَّامِنُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: طَإِ الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَمَّلُ مَشَقَّةَ الصَّلَاةِ حَتَّى كَادَتْ قَدَمَاهُ تَتَوَرَّمُ وَيَحْتَاجُ إِلَى التَّرَوُّحِ، فَقِيلَ لَهُ طَإِ الْأَرْضَ، أَيْ: لَا تَتْعَبْ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى التَّرَوُّحِ. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ طَه يَعْنِي: طَإِ الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ طَهْ عَلَى وَزْنِ دَعْ، أَمْرٌ بِالْوَطْءِ، وَالْأَصْلُ طَأْ فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً. وَقَدْ حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعْنَاهَا: يَا رَجُلُ، يُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: هِيَ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ وَالنَّبَطِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ، وَيَقُولُ الْكَلْبِيُّ: هِيَ بِلُغَةِ عَكٍّ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَلُغَةُ قُرَيْشٍ وَافَقَتْ تِلْكَ اللُّغَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُخَاطِبْ نَبِيَّهُ بِلِسَانِ غَيْرِ قُرَيْشٍ، انْتَهَى. وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا لِهَذَا الْمَعْنَى فِي لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ كَانَتْ ظَاهِرَةَ الْمَعْنَى، وَاضِحَةَ الدَّلَالَةِ، خَارِجَةً عَنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ الَّتِي قَدَّمْنَا بَيَانَ كَوْنِهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ العجم، واستعملتها الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى كَسَائِرِ الْكَلِمَاتِ الْعَجَمِيَّةِ الَّتِي اسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ الْمَوْجُودَةِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّهَا صَارَتْ بِذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَجُمْلَةُ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم

_ (1) . البيت لمتمّم بن نويرة. «موائل» : واءل: طلب النجاة.

عَمَّا كَانَ يَعْتَرِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ التَّعَبِ، وَالشَّقَاءُ يَجِيءُ فِي مَعْنَى التَّعَبِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: وَأَصْلُ الشَّقَاءِ فِي اللُّغَةِ الْعَنَاءُ وَالتَّعَبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ذُو الْعَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقْلِهِ ... وَأَخُو الْجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوَةِ يَنْعَمُ وَالْمَعْنَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَتْعَبَ بِفَرْطِ تَأَسُّفِكَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُفْرِهِمْ، وَتَحَسُّرِكَ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ «1» قَالَ النَّحَّاسُ: بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُ: هَذِهِ اللَّامُ فِي لِتَشْقى لَامُ النَّفْيِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لَامُ الْجُحُودِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هِيَ لَامُ الْخَفْضِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلْآيَةِ هُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ طه كَسَائِرِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَتْ تَعْدِيدًا لِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ، وَإِنْ جُعِلَتِ اسْمًا لِلسُّورَةِ كَانَ قَوْلُهُ: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى خَبَرًا عَنْهَا، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهَا يَا رَجُلُ، أَوْ بِمَعْنَى الْأَمْرِ بِوَطْءِ الْأَرْضِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لِصَرْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَانْتِصَابُ إِلَّا تَذْكِرَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ له لأنزلنا، كَقَوْلِكَ: مَا ضَرَبْتُكَ لِلتَّأْدِيبِ إِلَّا إِشْفَاقًا عَلَيْكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ لِتَشْقَى، أَيْ: مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً. وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّذْكِرَةَ لَيْسَتْ بِشَقَاءٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ لِتُذَكِّرَ بِهِ تَذْكِرَةً، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى بِهِ، مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا لِلتَّذْكِرَةِ، وَانْتِصَابُ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ تَنْزِيلًا، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَذْكِرَةً، وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى المدح، وقيل: منصوب بيخشى، أَيْ: يَخْشَى تَنْزِيلًا مِنَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ بِتَأَوُّلِهِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ تَنْزِيلٌ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى هَذَا تَنْزِيلٌ وَمِمَّنْ خَلَقَ مُتَعَلِّقٌ بِتَنْزِيلًا أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لَهُ وتخصيص خلق الأرض والسموات لِكَوْنِهِمَا أَعْظَمَ مَا يُشَاهِدُهُ الْعِبَادُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عزّ وجلّ، والعلا: جَمَعُ الْعُلْيَا، أَيِ: الْمُرْتَفِعَةُ، كَجَمْعِ كُبْرَى وَصُغْرَى عَلَى كُبَرٍ وَصُغَرٍ. وَمَعْنَى الْآيَةِ إِخْبَارُ الْعِبَادِ عَنْ كَمَالِ عَظَمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَعَظِيمِ جَلَالِهِ، وَارْتِفَاعُ الرَّحْمنُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا عَلَى الْمَدْحِ أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقُرِئَ بِالْجَرِّ، قَالَ الزجاج: على البدل من «مِمَّنْ» ، وَجَوَّزَ النَّحَّاسُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُضْمَرِ فِي خَلَقَ، وَجُمْلَةُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ الرَّحْمَنِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ مُبْتَدَأً. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: قَالَ ثَعْلَبٌ: الِاسْتِوَاءُ: الْإِقْبَالُ عَلَى الشَّيْءِ، وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَالْبَحْثِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا يَطُولُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ عَنْهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِغَيْرِ حَدٍّ وَلَا كَيْفٍ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ سَبَقَهُ الْجَمَاهِيرُ من السلف الصالح الذي يقرّون الصِّفَاتِ كَمَا وَرَدَتْ مِنْ دُونِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَأْوِيلٍ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ: أَنَّهُ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُدَبِّرُهُ وَما بَيْنَهُما مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَما تَحْتَ الثَّرى الثرى في اللغة: التراب

_ (1) . الكهف: 6.

النَّدِيُّ، أَيْ: مَا تَحْتَ التُّرَابِ مِنْ شَيْءٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ الثَّرَى الَّذِي تَحْتَ الصَّخْرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الثَّوْرُ الَّذِي تَحْتَ الْأَرْضِ «1» وَلَا يَعْلَمُ مَا تَحْتَ الثَّرَى إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى الْجَهْرُ بِالْقَوْلِ: هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ وَالسِّرُّ مَا حَدَّثَ بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ وَأَسَرَّهُ إِلَيْهِ، وَالْأَخْفَى مِنَ السِّرِّ هُوَ مَا حَدَّثَ بِهِ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَأَخْطَرَهُ بِبَالِهِ. وَالْمَعْنَى: إِنْ تَجْهَرْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَمَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ، فَلَا حَاجَةَ لَكَ إِلَى الْجَهْرِ بِالْقَوْلِ، وَفِي هَذَا مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الْجَهْرِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً «2» وَقِيلَ: السِّرُّ مَا أَسَرَّ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ، وَالْأَخْفَى مِنْهُ هُوَ مَا خَفِيَ عَلَى ابْنِ آدَمَ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ، وَقِيلَ: السِّرُّ مَا أَضْمَرَهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ، وَالْأَخْفَى مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَا أَضْمَرَهُ أَحَدٌ وَقِيلَ: السِّرُّ سِرُّ الْخَلَائِقِ، وَالْأَخْفَى مِنْهُ سِرُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ: إِنَّ الْأَخْفَى مَا لَيْسَ فِي سِرِّ الْإِنْسَانِ وَسَيَكُونُ فِي نَفْسِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الشَّرِيكِ، الْمُسْتَحِقِّ لِتَسْمِيَتِهِ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، فَقَالَ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَاللَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْكَمَالِيَّةِ اللَّهُ، وَجُمْلَةُ «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ اخْتِصَاصِ الْإِلَهِيَّةِ بِهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا هُوَ، وَهَكَذَا جُمْلَةُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى مُبَيِّنَةٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى لِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَهِيَ التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ «3» ، وَالْحُسْنَى: تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَالْأَسْمَاءُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهَا الْحُسْنَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي «يَعْلَمُ» . ثُمَّ قَرَّرَ سُبْحَانَهُ أَمْرَ التَّوْحِيدِ بِذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْخَبَرِ الْغَرِيبِ، فَقَالَ: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَمَعْنَاهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَاهُ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ ذَاكَ. وَفِي سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ مَشَاقِّ أَحْكَامِ النُّبُوَّةِ، وَتَحَمُّلِ أَثْقَالِهَا وَمُقَاسَاةِ خُطُوبِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْقِصَّةُ الْوَاقِعَةُ لِمُوسَى، وإِذْ رَأى نَارًا ظَرْفٌ لِلْحَدِيثِ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ، أَيِ: اذْكُرْ، وَقِيلَ: يُقَدَّرُ مُؤَخَرًا، أَيْ: حِينَ رَأَى نَارًا كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ لِلنَّارِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ لَمَّا خَرَجَ مسافرا إلى أمه بعد استئذانه لشعيب فلما رَآهَا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِ هُنَا امْرَأَتُهُ، وَالْجَمْعُ لِظَاهِرِ لَفْظِ الْأَهْلِ أَوْ لِلتَّفْخِيمِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْمَرْأَةُ وَالْوَلَدُ وَالْخَادِمُ، وَمَعْنَى امْكُثُوا: أَقِيمُوا مَكَانَكُمْ، وَعَبَّرَ بِالْمُكْثِ دُونَ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تَقْتَضِي الدَّوَامَ، وَالْمُكْثَ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ لِأَهُلِهِ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَكَذَا فِي الْقَصَصِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا عَلَى لُغَةِ مَنْ قال: مررت بهو

_ (1) . هذا القول لا يستند إلى أي دليل شرعي ويتنافى مع الحقائق العلمية فلا يعتد به. [.....] (2) . الأعراف: 205. (3) . الأعراف: 180.

يَا رَجُلُ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ جَائِزٌ، إِلَّا أَنَّ حَمْزَةَ خَالَفَ أَصْلَهُ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ خَاصَّةً إِنِّي آنَسْتُ نَارًا أَيْ: أَبْصَرْتُ، يُقَالُ: آنَسْتُ الصَّوْتَ سَمِعْتُهُ، وَآنَسْتُ الرَّجُلَ: أَبْصَرْتُهُ. وَقِيلَ: الْإِينَاسُ الْإِبْصَارُ الْبَيِّنُ، وَقِيلَ: الْإِينَاسُ مُخْتَصٌّ بِإِبْصَارِ مَا يُؤْنِسُ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْمُكْثِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ بِالْقَبَسِ، وَوُجُودُ الْهُدَى، متوقعين بني الْأَمْرِ عَلَى الرَّجَاءِ فَقَالَ: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَيْ: أَجِيئُكُمْ مِنَ النَّارِ بِقَبَسٍ، وَالْقَبَسُ: شُعْلَةٌ مِنَ النَّارِ، وَكَذَا الْمِقْبَاسُ، يُقَالُ: قَبَسْتُ مِنْهُ نَارًا أَقْبِسُ قَبْسًا فَأَقْبَسَنِي أَيْ: أَعْطَانِي، وَكَذَا اقْتَبَسْتُ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: أَقْبَسْتُ الرَّجُلَ عِلْمًا وَقَبَسْتُهُ نَارًا فَإِنْ كُنْتَ طَلَبْتَهَا لَهُ قُلْتَ أقبسته. وقال الكسائي: أقبسته نارا أو علما سَوَاءً، قَالَ: وَقَبَسْتُهُ أَيْضًا فِيهِمَا. أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أَيْ: هَادِيًا يَهْدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ وَيَدُلَّنِي عَلَيْهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ هَادِيًا، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ، أَوْ عَبَّرَ بِالْمَصْدَرِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: ذَا هُدًى، وَكَلِمَةُ «أَوْ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ دُونَ الْجَمْعِ، وَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مُسْتَعْلُونَ عَلَى أَقْرَبِ مَكَانٍ إِلَيْهَا فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ أَيْ: فَلَمَّا أَتَى النَّارَ الَّتِي آنَسَهَا نُودِيَ مِنَ الشَّجَرَةِ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، أَيْ: مِنْ جِهَتِهَا، وَمِنْ نَاحِيَتِهَا يَا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ أَيْ: نُودِيَ، فَقِيلَ: يَا مُوسَى. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالْيَزِيدِيُّ أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بكسرها، أي: إني فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّوَاضُعِ، وَأَقْرَبُ إِلَى التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ وَحُسْنِ التَّأَدُّبِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا كَانَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ مَدْبُوغٍ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْخَلْعِ لِلنَّعْلَيْنِ: تَفْرِيغُ الْقَلْبِ مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَهُوَ مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ الأمر بالخلع فقال: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً الْمُقَدَّسُ: الْمُطَهَّرُ، وَالْقُدْسُ: الطَّهَارَةُ، وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ: الْمُطَهَّرَةُ، سُمِيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ مِنْهَا الْكَافِرِينَ وَعَمَّرَهَا بِالْمُؤْمِنِينَ، وَطُوًى: اسْمٌ لِلْوَادِي. قال الجوهري: وطوى اسم موضع بالشام يكسر طاؤه وَيُضَمُّ، يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ، فَمَنْ صَرَفَهُ جَعَلَهُ اسْمَ وَادٍ وَمَكَانٍ وَجَعَلَهُ نَكِرَةً، وَمَنْ لَمْ يَصْرِفْهُ جَعْلَهُ بَلْدَةً وَبُقْعَةً وَجَعَلَهُ مَعْرِفَةً، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ «طِوًى» بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا. وَقِيلَ: إِنَّ طُوًى كَثُنًى مِنَ الطَّيِّ مَصْدَرٌ لَنُودِيَ، أَوْ لِلْمُقَدَّسِ، أَيْ: نُودِيَ نِدَاءَيْنِ، أَوْ قُدِّسَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَإِنَّا اخْتَرْنَاكَ بِالْجَمْعِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَوْلَى مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهَا أَشْبَهُ بِالْخَطِّ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا أَوْلَى بِنَسَقِ الْكَلَامِ لِقَوْلِهِ: يَا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، وَمَعْنَى اخْتَرْتُكَ: اصْطَفَيْتُكَ لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: فَاسْتَمِعْ لِلَّذِي يُوحَى إِلَيْكَ، أَوْ لِلْوَحْيِ، وَجُمْلَةُ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ بَدَلٌ مِنْ «مَا» فِي «لِمَا يُوحَى» . ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالْعِبَادَةِ فَقَالَ: فَاعْبُدْنِي وَالْفَاءُ هُنَا كَالْفَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ اخْتِصَاصَ الْإِلَهِيَّةِ بِهِ سُبْحَانَهُ مُوجِبٌ لِتَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي خَصَّ الصَّلَاةَ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهَا دَاخِلَةً تَحْتَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، لِكَوْنِهَا أَشْرَفَ طَاعَةٍ وَأَفْضَل عِبَادَةٍ، وَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ لِذِكْرِي، أَيْ: لِتَذْكُرَنِي فَإِنَّ الذِّكْرَ الْكَامِلَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي ضِمْنِ الْعِبَادَةِ

وَالصَّلَاةِ، أَوِ الْمَعْنَى: لِتَذْكُرَنِي فِيهِمَا لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى الْأَذْكَارِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَقِمِ الصَّلَاةَ مَتَى ذَكَرْتَ أَنَّ عَلَيْكَ صَلَاةً. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لِأَذْكُرَكَ بِالْمَدْحِ فِي عِلِّيِّينَ، فَالْمَصْدَرُ عَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إِلَى الْفَاعِلِ أَوْ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ، أَيْ: إِنَّ السَّاعَةَ الَّتِي هِيَ وَقْتُ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ آتِيَةٌ، فَاعْمَلِ الْخَيْرَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ. وَمَعْنَى أَكادُ أُخْفِيها مُخْتَلَفٌ فِيهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَقُطْرُبٌ: هَذَا عَلَى عَادَةِ مُخَاطَبَةِ الْعَرَبِ يَقُولُونَ إِذَا بَالَغُوا فِي كِتْمَانِ الشَّيْءِ: كَتَمْتُهُ حَتَّى مِنْ نَفْسِي، أَيْ: لَمْ أُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ بَالَغَ فِي إِخْفَاءِ السَّاعَةِ، فَذَكَرَهُ بِأَبْلَغِ مَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ: أُخْفِيها بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَمَعْنَاهُ أُظْهِرُهَا، وكذا روى أبو عبيد عَنِ الْكِسَائِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ وقاء بْنِ إِيَاسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَيْسَ لِهَذِهِ الرِّوَايَةُ طَرِيقٌ غَيْرُ هَذَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ «الرَّدِّ» قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ، حَدَّثَنَا الْكِسَائِيُّ فَذَكَرَهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَجْوَدُ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ مَا رَوَاهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ: أُخْفِيها بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمَعْنَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ أَكَادُ أُظْهِرُهَا، مِنْ خَفَيْتُ الشَّيْءِ إِذَا أَظْهَرْتُهُ أُخْفِيهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُخْفِيهَا بِضَمِّ الْأَلِفِ مَعْنَاهُ أُظْهِرُهَا، لِأَنَّهُ يُقَالُ خَفَيْتُ الشَّيْءَ وَأَخْفَيْتُهُ مِنْ حُرُوفِ الْأَضْدَادِ يقع عَلَى السَّتْرِ وَالْإِظْهَارِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: خَفَيْتُ وَأَخْفَيْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا حَسَنٌ، وَقَدْ أَنْشَدَ الْفَرَّاءُ وَسِيبَوَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَخْفَاهُ أَظْهَرَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَإِنْ تَكْتُمُوا «1» الدَّاءَ لَا نُخْفِهِ ... وَإِنْ تَبْعَثُوا الْحَرْبَ لَا نَقْعُدُ أَيْ: وَإِنْ تَكْتُمُوا الدَّاءَ لَا نُظْهِرُهُ. وَقَدْ حَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ أَنَّهُ بِضَمِّ النُّونِ مَنْ تخفه، وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْسِ: خَفَاهُنَّ مِنْ أَنِفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا ... خفاهنّ ودق من عشيّ مجلّب «2» أَيْ: أَظْهَرَهُنَّ. وَقَدْ زَيَّفَ النَّحَّاسُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أُظْهِرُهَا، وَلَا سِيَّمَا وَأُخْفِيهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، فَكَيْفَ تَرِدُ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ الشَّائِعَةُ! وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فِي الْآيَةِ تَفْسِيرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ يَنْقَطِعُ عَلَى أَكَادُ، وَبَعْدَهُ مُضْمَرٌ، أَيْ: أَكَادُ آتِي بِهَا، وَوَقَعَ الابتداء ب أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى، وَمِثْلُهُ قَوْلُ عمير بن ضابئ البرجمي:

_ (1) . في الديوان ص (186) : تدفنوا. (2) . «الودق» : المطر. «المجلب» : الذي له جلبة.

هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... تَرَكْتُ عَلَى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلَائِلُهُ أَيْ: وَكِدْتُ أَفْعَلُ، وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَّاسُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ السلب وليس من الْأَضْدَادَ، وَمَعْنَى أُخْفِيهَا: أُزِيلُ عَنْهَا خَفَاءَهَا، وَهُوَ سَتْرُهَا، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ أَشْكَيْتُهُ، أَيْ: أَزَلْتُ شَكْوَاهُ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ «أَكَادُ» زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، قَالَ: وَمِثْلُهُ: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها «1» ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : سَرِيعٌ إِلَى الْهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلَاحَهُ ... فَمَا أَنْ يَكَادَ قَرْنُهُ يَتَنَفَّسُ قَالَ: وَالْمَعْنَى أَكَادُ أُخْفِيهَا، أَيْ: أُقَارِبُ ذَلِكَ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَامَ وَأَنْ يَكُونَ لَمْ يَقُمْ، وَدَلَّ على أنه قد أَخْفَاهَا بِدَلَالَةٍ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا، وَقَوْلُهُ: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى مُتَعَلِّقٌ بِآتِيَةٌ، أَوْ بِأُخْفِيهَا، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِسَعْيِهَا، وَالسَّعْيُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْأَفْعَالِ، فَهُوَ هُنَا يَعُمُّ الْأَفْعَالَ وَالتُّرُوكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ تَارِكَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُعَاقَبٌ بِتَرْكِهِ مَأْخُوذٌ بِهِ فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها أَيْ: لَا يَصْرِفَنَّكَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، وَالتَّصْدِيقِ بِهَا، أَوْ عَنْ ذِكْرِهَا وَمُرَاقَبَتِهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها مِنَ الْكَفَرَةِ، وَهَذَا النَّهْيُ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَهْيٌ له صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الِانْصِدَادَ، أَوْ عَنْ إِظْهَارِ اللِّينِ لِلْكَافِرِينَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي «عَنْهَا» لِلصَّلَاةِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّبَعَ هَواهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: مَنْ لَا يُؤْمِنُ، وَمَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ، أَيْ: هَوَى نَفْسِهِ بِالِانْهِمَاكِ فِي اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ الْفَانِيَةِ فَتَرْدى أَيْ: فَتَهْلِكُ لِأَنَّ انْصِدَادَكَ عَنْهَا بِصَدِّ الكَّافِرِينَ لَكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْهَلَاكِ وَمُسْتَتْبِعٌ لَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: «أوّل مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَانَ يَقُومُ عَلَى صَدْرِ قَدَمَيْهِ إِذَا صَلَّى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: قَالُوا: لَقَدْ شَقِيَ هَذَا الرَّجُلُ بِرَبِّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَرْبِطُ نَفْسَهُ بِحَبْلٍ لِئَلَّا يَنَامَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ، يَقُومُ عَلَى كُلِّ رِجْلٍ حَتَّى نَزَلَتْ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى وَحَسَّنَ السُّيُوطِيُّ إِسْنَادَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ إِذَا صَلَّى، فَقَامَ عَلَى رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ طه بِرِجْلَيْكَ ف مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: طه قَالَ: يَا رَجُلُ. وَأَخْرَجَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طه بِالنَّبَطِيَّةِ. أَيْ: طَأْ يَا رَجُلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عنه أيضا قال: هو كقولك اقْعُدْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: طَه بِالنَّبَطِيَّةِ يَا رَجُلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ

_ (1) . النور: 40. (2) . هو زيد الخيل.

جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: طه يَا رَجُلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: طه هُوَ كَقَوْلِكَ يَا مُحَمَّدُ بِلِسَانِ الْحَبَشِ. وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اخْتِلَافٌ وَتَدَافُعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن لِي عِنْدَ رَبِّي عَشَرَةَ أَسْمَاءٍ، قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: حَفِظْتُ مِنْهَا ثَمَانِيَةً: مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو الْقَاسِمِ، وَالْفَاتِحُ، وَالْخَاتَمُ، وَالْمَاحِي، وَالْعَاقِبُ، وَالْحَاشِرُ» وَزَعَمَ سَيْفٌ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ قَالَ لَهُ الِاسْمَانِ الْبَاقِيَانِ طه وَيس. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى قَالَ: يَا رَجُلُ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، وَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ عَلَى رِجْلَيْهِ فَهِيَ لُغَةٌ لِعَكٍّ إِنْ قُلْتَ لِعَكِّيٍّ يَا رَجُلُ لَمْ يَلْتَفِتْ، وَإِذَا قُلْتَ طه الْتَفَتَ إِلَيْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طه قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما تَحْتَ الثَّرى قَالَ: الثَّرَى كُلُّ شَيْءٍ مُبْتَلٍّ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ مَا تَحْتَ هَذِهِ الْأَرْضِ؟ قَالَ: الْمَاءُ، قِيلَ: فَمَا تَحْتَ الْمَاءِ؟ قَالَ: ظُلَمَةٌ، قِيلَ: فَمَا تَحْتَ الظُّلْمَةِ؟ قَالَ: الْهَوَاءُ، قِيلَ: فَمَا تَحْتَ الْهَوَاءِ؟ قَالَ: الثَّرَى، قِيلَ: فَمَا تَحْتَ الثَّرَى؟ قَالَ: انْقَطَعَ عِلْمُ الْمَخْلُوقِينَ عِنْدَ عِلْمِ الْخَالِقِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ويَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى قَالَ: السِّرُّ مَا أَسَرَّهُ ابْنُ آدَمَ فِي نَفْسِهِ، وَأَخْفَى مَا خَفِيَ عَنِ ابْنِ آدَمَ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ قَبْلَ أَنْ يعمله، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِيمَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ وَمَا بَقِيَ عِلْمٌ وَاحِدٌ، وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «1» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: السِّرُّ مَا عَلِمْتَهُ أَنْتَ، وَأَخْفَى مَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِكَ مِمَّا لَمْ تَعْلَمْهُ. وَأَخْرَجَهُ عبد الله ابن أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ: يَعْلَمُ مَا تُسِرُّ فِي نَفْسِكَ وَيَعْلَمُ مَا تَعْمَلُ غَدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ قَالَ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَقِيلَ لَهُ اخْلَعْهُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً قَالَ: الْمُبَارَكُ طُوىً قَالَ: اسْمُ الْوَادِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً يَعْنِي الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ بِوَادِيهَا لَيْلًا فَطَوَى، يُقَالُ: طَوَيْتُ وَادِي كَذَا وَكَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: طُوىً قَالَ: طَأِ الْوَادِيَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَقْرَؤُهَا لِلذِّكْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله:

_ (1) . لقمان: 28.

[سورة طه (20) : الآيات 17 إلى 35]

أَكادُ أُخْفِيها قَالَ: لَا أُظْهِرُ عَلَيْهَا أَحَدًا غَيْرِي. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي. [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 35] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قَوْلُهُ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ تِلْكَ اسْمٌ نَاقِصٌ وُصِلَتْ بِيَمِينِكَ، أَيْ: مَا الَّتِي بِيَمِينِكَ؟ وَرُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: تِلْكَ بِمَعْنَى هَذِهِ، وَلَوْ قَالَ مَا ذَلِكَ لَجَازَ، أَيْ: مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ؟ وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى سُؤَالِ مُوسَى عَمَّا فِي يَدِهِ مِنَ الْعَصَا التَّنْبِيهُ لَهُ عَلَيْهَا لِتَقَعَ الْمُعْجِزَةُ بِهَا بَعْدَ التَّثْبِيتِ فِيهَا وَالتَّأَمُّلِ لَهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمَقْصُودُ السُّؤَالِ تَقْرِيرُ الْأَمْرِ حَتَّى يَقُولَ مُوسَى هِيَ عَصَايَ لِتَثْبِيتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا اعْتَرَفَ، وَإِلَّا فَقَدَ عَلِمَ اللَّهُ مَا هِيَ فِي الْأَزَلِ، وَمَحَلُّ مَا الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَتِلْكَ خَبَرُهُ، وَبِيَمِينِكَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ اسْمَ إِشَارَةٍ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَتِ اسْمًا مَوْصُولًا كَانَ بِيَمِينِكَ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ قالَ هِيَ عَصايَ قَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَصَى عَلَى لُغَةِ هُذَيْلٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ عَصَايِ بِكَسْرِ الْيَاءِ لالتقاء الساكنين، أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أَيْ: أَتَحَامَلُ عَلَيْهَا فِي الْمَشْيِ، وَأَعْتَمِدُهَا عِنْدَ الْإِعْيَاءِ وَالْوُقُوفِ، وَمِنْهُ الِاتِّكَاءُ وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي هَشَّ بِالْعَصَا يَهُشُّ هَشًّا إِذَا خَبَطَ بِهَا الشَّجَرَ لِيُسْقِطَ مِنْهُ الْوَرَقَ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَهُشُّ بِالْعَصَا عَلَى أَغْنَامِي ... مِنْ نَاعِمِ الأراك والبشام وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: أَهُسُّ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ زَجْرُ الْغَنَمِ، وَكَذَا قَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أَيْ: حَوَائِجُ وَاحِدُهَا مَأْرَبَةٌ وَمَأْرُبَةٌ وَمَأْرِبَةٌ، مُثَلَّثُ الرَّاءِ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَقُطْرُبٌ، ذَكَرَ تَفْصِيلَ مَنَافِعِ الْعَصَا، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِالْإِجْمَالِ. وَقَدْ تَعَرَّضَ قَوْمٌ لِتَعْدَادِ مَنَافِعِ الْعَصَا فَذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ: مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِ الْعَرَبِ: عَصَايَ أَرْكُزُهَا لِصَلَاتِي، وَأُعِدُّهَا لِعِدَّاتِي، وَأَسُوقُ بِهَا دَابَّتِي، وَأَقْوَى بِهَا عَلَى سَفَرِي، وَأَعْتَمِدُ بِهَا فِي مِشْيَتِي، لتتسع خطوتي، وَأَثِبُ بِهَا النَّهْرَ، وَتُؤَمِّنُنِي الْعَثْرَ، وَأُلْقِي عَلَيْهَا كسائي فتقيني الحرّ، وتدفئني مِنَ الْقَرِّ، وَتُدْنِي إِلَيَّ مَا بَعُدَ مِنِّي، وهي محمل سُفْرَتِي، وَعَلَاقَةَ إِدَاوَتِي، أَعْصِي بِهَا عِنْدَ الضِّرَابِ، وأقرع به الْأَبْوَابَ، وَأَقِي بِهَا عَقُورَ

الْكِلَابِ، وَتَنُوبُ عَنِ الرُّمْحِ فِي الطِّعَانِ، وَعَنِ السَّيْفِ عِنْدَ مُنَازَلَةِ الْأَقْرَانِ، وَرِثْتُهَا عَنْ أَبِي، وَأُوَرِّثُهَا بَعْدِي بُنَيَّ، انْتَهَى. وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى مُصَنَّفٍ فِي مُجَلَّدٍ لَطِيفٍ فِي مَنَافِعِ الْعَصَا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَذَكَرَ فِيهِ أَخْبَارًا وَأَشْعَارًا وَفَوَائِدَ لَطِيفَةً وَنُكَتًا رَشِيقَةً. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِمُوسَى فِي عَصَاهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْعِظَامِ وَالْآيَاتِ الْجِسَامِ مَا أُمِّنَ بِهِ مِنْ كَيْدِ السَّحَرَةِ وَمَعَرَّةِ الْمُعَانِدِينَ، وَاتَّخَذَهَا سُلَيْمَانُ لِخُطْبَتِهِ وَمَوْعِظَتِهِ وَطُولِ صَلَاتِهِ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ صَاحِبَ عَصَا النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَنَزَتِهِ «1» ، وَكَانَ يَخْطُبُ بِالْقَضِيبِ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عَادَةُ الْعَرَبِ الْعُرْبَاءِ أَخْذُ الْعَصَا وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْكَلَامِ، وَفِي الْمَحَافِلِ وَالْخُطَبِ، قالَ أَلْقِها يَا مُوسى هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِإِلْقَائِهَا لِيُرِيَهُ مَا جَعَلَ لَهُ فِيهَا مِنَ الْمُعْجِزَةِ الظَّاهِرَةِ فَأَلْقاها مُوسَى عَلَى الْأَرْضِ فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى وَذَلِكَ بِقَلْبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِأَوْصَافِهَا وَأَعْرَاضِهَا حَتَّى صَارَتْ حَيَّةً تَسْعَى، أَيْ: تَمْشِي بِسُرْعَةٍ وَخِفَّةٍ، قِيلَ: كَانَتْ عَصًا ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ، فَصَارَ الشُّعْبَتَانِ فَمًا وَبَاقِيهَا جِسْمَ حَيَّةٍ، تَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَتَلْتَقِمُ الْحِجَارَةَ مَعَ عِظَمِ جُرْمِهَا وَفَظَاعَةِ مَنْظَرِهَا، فَلَمَّا رَآهَا كَذَلِكَ خَافَ وَفَزِعَ وَوَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ سُبْحَانَهُ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ إِلَى سيرتها، مثل: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «2» قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِأَنَّ مَعْنًى سَنُعِيدُهَا: سَنُسَيِّرُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ: سَائِرَةً، أَوْ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: مُسَيَّرَةً. وَالْمَعْنَى: سَنُعِيدُهَا بَعْدَ أَخْذِكَ لَهَا إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى الَّتِي هِيَ الْعَصَوِيَّةُ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ لَا تَخَفْ بَلَغَ مِنْ عَدَمِ الْخَوْفِ إِلَى أَنْ كَانَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي فَمِهَا وَيَأْخُذُ بِلَحْيِهَا وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: جَنَاحُ الْإِنْسَانِ عَضُدُهُ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: جَنَاحُ الْإِنْسَانِ جَنْبُهُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْجَنْبِ بِالْجَنَاحِ لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ الْجَنَاحِ، وَقِيلَ: إِلَى بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ: مَعَ جَنَاحِكِ، وَجَوَابُ الْأَمْرِ تَخْرُجْ بَيْضاءَ أَيْ: تَخْرُجُ يَدُكَ حَالَ كَوْنِهَا بَيْضَاءَ، وَمَحَلُّ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَائِنَةً مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، وَالسُّوءُ الْعَيْبُ، كَنَّى بِهِ عَنِ الْبَرَصِ، أَيْ: تَخْرُجُ بَيْضَاءَ سَاطِعًا نُورُهَا تُضِيءُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَضَوْءِ الشَّمْسِ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، وَانْتِصَابُ آيَةً أُخْرى عَلَى الْحَالِ أَيْضًا أَيْ: مُعْجِزَةً أُخْرَى غَيْرَ الْعَصَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ آيَةً مُنْتَصِبَةً عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ بَيْضَاءَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى آتَيْنَاكَ أَوْ نُؤْتِيكَ آيَةً أُخْرَى، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: تَخْرُجْ بَيْضاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ آتَاهُ آيَةً أُخْرَى، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى قِيلَ: والتقدير: فعلنا ذلك لنريك، و «من آيَاتِنَا» مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا، وَالْكُبْرَى: مَعْنَاهَا الْعُظْمَى، وَهُوَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لِنُرِيَكَ من آياتنا الآية الْكُبْرَى، أَيْ: لِنُرِيَكَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ يَعْنِي الْيَدَ وَالْعَصَا بَعْضَ آيَاتِنَا الْكُبْرَى، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْيَدُ هِيَ الْآيَةَ الْكُبْرَى وَحْدَهَا حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْعَصَا، فَيَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْيَدِ إِلَّا تَغَيُّرُ اللَّوْنِ فَقَطْ، بِخِلَافِ الْعَصَا فَإِنَّ فِيهَا مَعَ تَغَيُّرِ اللَّوْنِ الزِّيَادَةَ فِي الْحَجْمِ، وَخَلْقَ الْحَيَاةِ، وَالْقُدْرَةَ عَلَى الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ. ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بالغرض

_ (1) . «العنزة» : مثل نصف الرمح أو أكبر قليلا، وفيها سنان مثل سنان الرمح. (2) . الأعراف: 155.

الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ قَوْمَهُ تَبَعٌ لَهُ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ طَغى أَيْ: عَصَى وَتَكَبَّرَ وَكَفَرَ وَتَجَبَّرَ وَتَجَاوَزَ الْحَدَّ، وَجُمْلَةُ قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ؟ وَمَعْنَى شَرْحِ الصَّدْرِ تَوْسِيعُهُ، تَضَرَّعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى رَبِّهِ وَأَظْهَرَ عَجْزَهُ بِقَوْلِهِ: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي «1» ، وَمَعْنَى تَيْسِيرِ الْأَمْرِ تَسْهِيلُهُ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَعْنِي الْعُجْمَةَ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ مِنَ الْجَمْرَةِ الَّتِي أَلْقَاهَا فِي فِيهِ وَهُوَ طِفْلٌ، أَيْ: أَطْلِقْ عَنْ لِسَانِي الْعُقْدَةَ الَّتِي فِيهِ، قِيلَ: أَذْهَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الْعُقْدَةَ جَمِيعَهَا بدليل قوله: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى وَقِيلَ: لَمْ تَذْهَبْ كُلُّهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ حَلَّ عُقْدَةِ لِسَانِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ سَأَلَ حَلَّ عُقْدَةٍ تَمْنَعُ الْإِفْهَامَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مِنْ لِسانِي أَيْ: كَائِنَةً مِنْ عُقَدِ لِسَانِي، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قوله: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً «2» ، وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: وَلا يَكادُ يُبِينُ «3» ، وَجَوَابُ الْأَمْرِ قَوْلُهُ: يَفْقَهُوا قَوْلِي أَيْ: يَفْهَمُوا كَلَامِي، وَالْفِقْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْفَهْمُ، ثُمَّ خُصَّ بِهِ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ، وَالْعَالِمُ بِهِ فَقِيهٌ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي- هارُونَ أَخِي الوزير: المؤازر كالأكيل المؤاكل لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَنِ السُّلْطَانِ وِزْرَهُ، أَيْ: ثِقَلَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَاشْتِقَاقُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْوَزَرِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي يَعْتَصِمُ بِهِ لِيَنْجَى مِنَ الْهَلَكَةِ، وَالْوَزِيرُ: الَّذِي يَعْتَمِدُ الْمَلِكُ عَلَى رَأْيِهِ فِي الْأُمُورِ وَيَلْتَجِئُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ مشتق من المؤازرة، وَهِيَ الْمُعَاوَنَةُ، وَانْتِصَابُ وَزِيرًا وَهَارُونَ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولَا اجْعَلْ، وَقِيلَ: مَفْعُولَاهُ: لِي وَزِيرًا، وَيَكُونُ هَارُونَ عَطْفَ بَيَانٍ لِلْوَزِيرِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَيَكُونُ لِي مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنًا لِي، وَمِنْ أَهْلِي صِفَةٌ لِوَزِيرًا، وَأَخِي بَدَلٌ مِنْ هَارُونَ. قرأ الجمهور اشْدُدْ بهمزة وصل، وأَشْرِكْهُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ كِلَاهُمَا عَلَى صِيغَةِ الدُّعَاءِ، أَيْ: يَا رَبِّ أَحْكِمْ بِهِ قُوَّتِي وَاجْعَلْهُ شَرِيكِي فِي أَمْرِ الرِّسَالَةِ، وَالْأَزْرُ: الْقُوَّةُ، يُقَالُ: آزَرَهُ أَيْ: قَوَّاهُ وَقِيلَ: الظَّهْرُ، أَيِ: اشْدُدْ بِهِ ظَهْرِي. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ اشْدُدْ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَأَشْرِكْهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، أَيْ أَشْدُدْ أَنَا بِهِ أَزْرِي، وَأُشْرِكْهُ أَنَا فِي أَمْرِي. قَالَ النَّحَّاسُ: جَعَلُوا الْفِعْلَيْنِ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ جَوَابًا لِقَوْلِهِ «اجْعَلْ لِي وَزِيراً» ، وَقَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ أَخِي ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً هَذَا التَّسْبِيحُ وَالذِّكْرُ هَمَّا الْغَايَةُ مِنَ الدُّعَاءِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْمُرَادُ: التَّسْبِيحُ هُنَا بِاللِّسَانِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةَ، وَانْتِصَابُ كَثِيرًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً الْبَصِيرُ: الْمُبْصِرُ، وَالْبَصِيرُ: الْعَالِمُ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَيْ: إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا عَالِمًا فِي صِغَرِنَا فَأَحْسَنْتَ إِلَيْنَا، فَأَحْسِنْ إِلَيْنَا أَيْضًا كَذَلِكَ الْآنَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عَصَا مُوسَى قَالَ: أَعْطَاهُ إِيَّاهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِذْ تَوَجَّهَ إِلَى مَدْيَنَ فَكَانَتْ تُضِيءُ لَهُ بِاللَّيْلِ، وَيَضْرِبُ بِهَا الْأَرْضَ فَتُخْرِجُ لَهُ النَّبَاتَ، وَيَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِهِ وَرَقُ الشَّجَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي قَالَ: أَضْرِبُ بِهَا الشَّجَرَ فَيَتَسَاقَطُ مِنْهُ الْوَرَقُ عَلَى غَنَمِي، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وأخرج ابن المنذر وابن

_ (1) . الشعراء: 13. (2) . القصص: 34. (3) . الزخرف: 52.

[سورة طه (20) : الآيات 36 إلى 44]

أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ قَالَ: حَوَائِجُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ تُضِيءُ لَهُ بِاللَّيْلِ، وَكَانَتْ عَصَا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قَالَ: وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ حَيَّةً فَمَرَّتْ بِشَجَرَةٍ فَأَكَلَتْهَا، وَمَرَّتْ بِصَخْرَةٍ فَابْتَلَعَتْهَا، فَجَعَلَ مُوسَى يَسْمَعُ وَقْعَ الصَّخْرَةِ فِي جَوْفِهَا فَوَلَّى مُدْبِرًا فَنُودِيَ أَنْ يَا مُوسَى خُذْهَا، فَلَمْ يَأْخُذْهَا، ثُمَّ نُودِيَ الثَّانِيَةَ أَنْ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ، فَقِيلَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ فَأَخَذَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قَالَ: حَالَتَهَا الْأُولَى. وَأَخْرَجَا عَنْهُ أَيْضًا: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ قَالَ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي- هارُونَ أَخِي قَالَ: كَانَ أَكْبَرُ مِنْ مُوسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي قَالَ: نبىء هارون ساعتئذ حين نبيء موسى. [سورة طه (20) : الآيات 36 الى 44] قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) لَمَّا سأل موسى ربه سبحانه أن يشرح صَدْرَهُ، وَيُيَسِّرَ لَهُ أَمْرَهُ، وَيَحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ، وَيَجْعَلْ لَهُ وَزِيرًا مِنْ أَهْلِهِ، أَخْبَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَجَابَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ، فَقَالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى أَيْ: أعطيت ما سألته، والسؤل: الْمَسْؤُولُ، أَيِ: الْمَطْلُوبُ كَقَوْلِكَ: خَبَرٌ بِمَعْنَى مَخْبُورٍ، وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ يَا مُوسَى لِتَشْرِيفِهِ بِالْخِطَابِ مَعَ رِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ، وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِتَقْوِيَةِ قَلْبِ مُوسَى بِتَذْكِيرِهِ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالْمَنُّ: الْإِحْسَانُ وَالْإِفْضَالُ. وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ أَحْسَنَّا إِلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَهِيَ حَفِظُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ مِنْ شرّ الأعداء كما بينه سبحانه ها هنا، وَأُخْرَى تَأْنِيثُ آخَرَ بِمَعْنَى غَيْرَ إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى أَيْ: مَنَنَّا ذَلِكَ الوقت، وهو وقت الإيحاء فإذ ظَرْفٌ لِلْإِيحَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيحَاءِ إِلَيْهَا إِمَّا مُجَرَّدُ الْإِلْهَامِ لَهَا أَوْ فِي النَّوْمِ بِأَنْ أَرَاهَا ذَلِكَ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ أَوْ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ، لَا عَلَى طَرِيقِ النُّبُوَّةِ كَالْوَحْيِ إِلَى مَرْيَمَ أَوْ بِإِخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِذَلِكَ وانتهى الخبر إليها، والمراد بما يُوحَى مَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَمْرِ لَهَا، أَبْهَمَهُ أَوَّلًا وَفَسَّرَهُ ثَانِيًا تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، وَجُمْلَةُ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ مُفَسِّرَةٌ لِأَنَّ الْوَحْيَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى تَقْدِيرِ بِأَنِ اقْذِفِيهِ، وَالْقَذْفُ هَاهُنَا الطَّرْحُ، أَيِ: اطْرَحِيهِ فِي التَّابُوتِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ التَّابُوتِ فِي الْبَقَرَةِ فِي قِصَّةِ طَالُوتَ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ أَيِ: اطْرَحِيهِ فِي الْبَحْرِ، وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ أَوِ النَّهْرُ الْكَبِيرُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا أَمْرٌ وَفِيهِ الْمُجَازَاةُ، أَيِ: اقْذِفِيهِ يُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، وَالْأَمْرُ لِلْبَحْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ

يَفْهَمُ وَيُمَيِّزُ، لَمَّا كَانَ إِلْقَاؤُهُ إِيَّاهُ بِالسَّاحِلِ أَمْرًا وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَالسَّاحِلُ: هُوَ شَطُّ الْبَحْرِ، سُمِّيَ سَاحِلًا لِأَنَّ الْمَاءَ سَحَلَهُ قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يَلِي السَّاحِلَ مِنِ الْبَحْرِ لَا نَفْسُ السَّاحِلِ، وَالضَّمَائِرُ هَذِهِ كُلُّهَا لِمُوسَى لَا لِلتَّابُوتِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُلْقِيَ مَعَهُ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ مُوسَى مَعَ كَوْنِ الضَّمَائِرِ قَبْلَ هَذَا وَبَعْدَهُ لَهُ، وَجُمْلَةُ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ جَوَابُ الْأَمْرِ بِالْإِلْقَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَدُوِّ فِرْعَوْنُ، فَإِنَّ أُمَّ مُوسَى لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ النِّيلُ الْمَعْرُوفُ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْهُ نَهْرٌ إِلَى دَارِ فِرْعَوْنَ فَسَاقَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ النَّهْرِ إِلَى دَارِهِ، فَأَخَذَ التَّابُوتَ فَوَجَدَ مُوسَى فِيهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَحْرَ أَلْقَاهُ بِالسَّاحِلِ، فَنَظَرَهُ فِرْعَوْنُ فَأَمَرَ مَنْ يَأْخُذُهُ وَقِيلَ: وَجَدَتْهُ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أَيْ: أَلْقَى اللَّهُ عَلَى مُوسَى مَحَبَّةً كَائِنَةً مِنْهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحبَّهُ وَقِيلَ: جَعَلَ عَلَيْهِ مَسْحَةً مِنْ جَمَالٍ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَحَبَّهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمَعْنَى وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ رَحْمَتِي، وَقِيلَ: كَلِمَةُ مِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَلْقَيْتُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَلْقَيْتُ مِنِّي عَلَيْكَ مَحَبَّةً، أَيْ: أَحْبَبْتُكَ، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ أَحَبَّهُ النَّاسُ وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أَيْ: وَلِتُرَبَّى وَتُغَذَّى بِمَرْأًى مِنِّي، يُقَالُ: صَنَعَ الرَّجُلُ جَارِيَتَهُ إِذَا رَبَّاهَا، وَصَنَعَ فَرَسَهُ إِذَا دَاوَمَ عَلَى عَلْفِهِ وَالْقِيَامِ عَلَيْهِ، وَتَفْسِيرُ عَلى عَيْنِي بِمَرْأًى مِنِّي صَحِيحٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ فِي هَذَا تَخْصِيصٌ لِمُوسَى، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ بِمَرْأًى مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ الْمَعْنَى لِتُغَذَّى عَلَى مَحَبَّتِي وَإِرَادَتِي، تَقُولُ: أَتَّخِذُ الْأَشْيَاءَ عَلَى عَيْنِي، أَيْ: عَلَى مَحَبَّتِي. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْعَيْنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُقْصَدُ بِهَا قَصْدُ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: غَدَا فُلَانٌ عَلَى عَيْنِي، أَيْ: عَلَى الْمَحَبَّةِ مِنِّي. قِيلَ: وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَعَلْتُ ذَلِكَ لِتُصْنَعَ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِأَلْقَيْتُ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بَعْدَهُ، أَيْ: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي قَدَّرْنَا مَشْيَ أُخْتِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ وَلِتُصْنَعَ بِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى الْأَمْرِ، وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ بِفَتْحِ التَّاءِ. وَالْمَعْنَى: وَلِتَكُونَ حَرَكَتُكَ وَتَصَرُّفُكَ بِمَشِيئَتِي، وَعَلَى عَيْنٍ مِنِّي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ظَرْفٌ لَأَلْقَيْتُ، أَوْ لِتُصْنَعَ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ «إِذْ أَوْحَيْنَا» وَأُخْتُهُ اسْمُهَا مَرْيَمُ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ وَذَلِكَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مُتَعَرِّفَةً لِخَبَرِهِ فَوَجَدَتْ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتَهُ آسِيَةَ يَطْلُبَانِ لَهُ مُرْضِعَةً، فَقَالَتْ لَهُمَا هَذَا الْقَوْلَ، أَيْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَضُمُّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَيُرَبِّيهِ، فَقَالَا لَهَا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَتْ: أُمِّي، فَقَالَا: هَلْ لَهَا لَبَنٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، لَبَنُ أَخِي هَارُونَ، وَكَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى بِسَنَةٍ، وَقِيلَ: بِأَكْثَرَ، فَجَاءَتِ الْأُمُّ فَقَبِلَ ثَدْيَهَا، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ ثَدْيَ مُرْضِعَةٍ غَيْرِهَا، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «فَرَدَدْنَاكَ» ، وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْهُ كَيْ تَقِرَّ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَرَرْتُ بِهِ عَيْنًا قُرَّةً وَقُرُورًا، وَرَجُلٌ قَرِيرُ الْعَيْنِ، وَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُهُ تَقَرُّ وَتَقِرُّ، نَقِيضُ سَخِنَتْ، وَالْمُرَادُ بِقُرَّةِ الْعَيْنِ: السُّرُورُ بِرُجُوعِ وَلَدِهَا إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ طَرَحْتُهُ فِي الْبَحْرِ وَعَظُمَ عَلَيْهَا فِرَاقُهُ وَلا تَحْزَنَ أَيْ: لَا يَحْصُلُ لَهَا مَا يُكَدِّرُ ذَلِكَ السُّرُورَ مِنَ الْحُزْنِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلَوْ أَرَادَ الْحُزْنَ بِالسَّبَبِ الَّذِي قَرَّتْ عَيْنُهَا بِزَوَالِهِ لَقَدَّمَ نَفْيَ الْحُزْنِ عَلَى قُرَّةِ الْعَيْنِ، فَيُحْمَلُ هَذَا النَّفْيُ لِلْحُزْنِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِسَبَبٍ يَطْرَأُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَاوَ لَمَّا كَانَتْ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ كَانَ هَذَا الْحَمْلُ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا

تَحْزَنْ أَنْتَ يَا مُوسَى بِفَقْدِ إِشْفَاقِهَا، وَهُوَ تَعَسُّفٌ وَقَتَلْتَ نَفْساً الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ هُنَا: نَفْسُ الْقِبْطِيِّ الَّذِي وَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ، وَكَانَ قتله له خَطَأً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أَيِ: الْغَمِّ الْحَاصِلِ مَعَكَ مِنْ قَتْلِهِ خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ أَوِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوْ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَقِيلَ: الْغَمُّ هُوَ الْقَتْلُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَمَا أَبْعَدَ هَذَا! وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً الْفِتْنَةُ تَكُونُ بِمَعْنَى الْمِحْنَةِ، وَبِمَعْنَى الْأَمْرِ الشَّاقِّ، وَكُلِّ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ، وَالْفُتُونُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالثُّبُورِ وَالشُّكُورِ وَالْكُفُورِ، أَيِ: ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً، وَاخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ فِتْنَةٍ عَلَى تَرْكِ الِاعْتِدَادِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ كَحُجُورٍ فِي حُجْرَةٍ، وَبُدُورٍ فِي بُدْرَةٍ، أَيْ: خَلَّصْنَاكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ مِنَ الْمِحَنِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا قَبْلَ أَنْ يَصْطَفِيَهُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ، وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ بِذِكْرِ تَنْجِيَتِهِ مِنَ الْغَمِّ الْحَاصِلِ لَهُ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَتَنْجِيَتِهِ مِنِ الْمِحَنِ هُوَ الِامْتِنَانُ عَلَيْهِ بِصُنْعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ، وَتَقْوِيَةِ قَلْبِهِ عِنْدَ مُلَاقَاةِ مَا سَيَقَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ فِرْعَوْنَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا، فَخَرَجْتَ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ فَلَبِثْتَ سِنِينَ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ، وَكَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يَحْذِفُونَ كَثِيرًا مِنَ الْكَلَامِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى مَعْرُوفًا، وَمَدْيَنُ: هِيَ بَلَدُ شُعَيْبٍ، وَكَانَتْ عَلَى ثَمَانِي مَرَاحِلَ مِنْ مِصْرَ هَرَبَ إِلَيْهَا مُوسَى فَأَقَامَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ، وَهِيَ أَتَمُّ الْأَجَلَيْنِ وَقِيلَ: أَقَامَ عِنْدَ شُعَيْبٍ ثَمَانَ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا عَشْرٌ مَهْرُ امْرَأَتِهِ ابْنَةِ شُعَيْبٍ، وَمِنْهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً بَقِيَ فيها عنده حتى ولد له، والفاء في «فَلَبِثْتَ» تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِحَنِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ مَا كَانَ قَبْلَ لُبْثِهِ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى أَيْ: فِي وَقْتٍ سَبَقَ فِي قَضَائِي وَقَدَرِي أَنْ أُكَلِّمَكَ وَأَجْعَلَكَ نَبِيًّا، أَوْ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَانِ يُوحَى فِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ رَأْسُ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ، أَوْ عَلَى مَوْعِدٍ قَدْ عَرَفْتَهُ بِإِخْبَارِ شُعَيْبٍ لَكَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: نَالَ الْخِلَافَةَ إِذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرٍ وَكَلِمَةُ ثُمَّ الْمُفِيدَةُ لِلتَّرَاخِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَجِيئَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ ضَلَالِ الطَّرِيقِ وَتَفَرُّقِ غَنَمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي الِاصْطِنَاعُ: اتِّخَاذُ الصَّنْعَةِ، وَهِيَ الْخَيْرُ تُسْدِيهِ إِلَى إِنْسَانٍ، وَالْمَعْنَى: اصْطَنَعْتُكَ لِوَحْيِي وَرِسَالَتِي لِتَتَصَرَّفَ عَلَى إِرَادَتِي. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ اخْتَرْتُكَ لِإِقَامَةِ حُجَّتِي، وَجَعَلْتُكَ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي، وَصِرْتَ بِالتَّبْلِيغِ عَنِّي بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَكُونُ أَنَا بِهَا لَوْ خَاطَبْتُهُمْ وَاحْتَجَجْتُ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِمَا خَوَّلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ الْعُظْمَى بِتَقْرِيبِ الْمَلِكِ لِبَعْضِ خَوَاصِّهِ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ أَيْ: وَلْيَذْهَبْ أَخُوكَ، وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاصْطِنَاعِ. وَمَعْنَى بِآياتِي بِمُعْجِزَاتِي الَّتِي جَعَلْتُهَا لَكَ آيَةً، وَهِيَ التِّسْعُ الْآيَاتِ وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي أَيْ: لَا تَضْعُفَا وَلَا تَفْتُرَا، يُقَالُ: وَنَى يَنِي وَنْيًا إِذَا ضَعُفَ. قَالَ الشَّاعِرُ «1» : فَمَا وَنِيَ مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَرَ ... لَهُ الإله ما مضى وما غبر

_ (1) . هو العجاج.

وقال امرؤ القيس: مسحّ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الْوَنَى ... أَثَرْنَ غُبَارًا بالكديد المركّل «1» قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي ذِكْرِي وَعَنْ ذِكِرِي سَوَاءٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تُقَصِّرَا عَنْ ذِكْرِي بِالْإِحْسَانِ إِلَيْكُمَا، وَالْإِنْعَامِ عَلَيْكُمَا وَذِكْرُ النِّعْمَةِ شُكْرُهَا. وَقِيلَ: مَعْنَى «لَا تَنِيَا» لَا تُبْطِئَا فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «لَا تَهِنَا فِي ذِكْرِي» اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى هَذَا أَمْرٌ لَهُمَا جَمِيعًا بِالذِّهَابِ، وَمُوسَى حَاضِرٌ وَهَارُونُ غَائِبٌ تَغْلِيبًا لِمُوسَى لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي أَدَاءِ الرسالة، وعلّل الأمر بالذهاب بقوله: إِنَّهُ طَغى أَيْ: جَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ وَالتَّمَرُّدِ، وَخَصَّ مُوسَى وَحْدَهُ بِالْأَمْرِ بِالذَّهَابِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَجَمَعَهُمَا هُنَا تَشْرِيفًا لِمُوسَى بِإِفْرَادِهِ، وَتَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ بِالذِّهَابِ بِالتَّكْرِيرِ. وَقِيلَ: إِنَّ فِي هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي ذِهَابُ أَحَدِهِمَا. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ: أَمْرٌ لِمُوسَى بِالذِّهَابِ إِلَى كُلِّ النَّاسِ، وَالثَّانِي: أَمْرٌ لَهُمَا بِالذِّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ. ثُمَّ أَمَرَهُمَا سُبْحَانَهُ بِإِلَانَةِ الْقَوْلِ لَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْإِجَابَةِ، فَإِنَّ التَّخْشِينَ بَادِئَ بَدْءٍ يَكُونُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ النُّفُورِ وَالتَّصَلُّبِ فِي الْكُفْرِ، وَالْقَوْلُ اللَّيِّنُ: هُوَ الَّذِي لَا خُشُونَةَ فِيهِ، يُقَالُ: لِأَنَّ الشَّيْءَ يَلِينُ لِينًا، وَالْمُرَادُ تَرْكُهُمَا لِلتَّعْنِيفِ، كَقَوْلِهِمَا: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى «2» ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ اللَّيِّنُ هُوَ الْكُنْيَةُ لَهُ، وَقِيلَ: أَنْ يَعِدَاهُ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا إِنْ أَجَابَ، ثُمَّ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِإِلَانَةِ الْقَوْلِ لَهُ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أَيْ: بَاشَرَا ذَلِكَ مُبَاشَرَةَ مَنْ يَرْجُو وَيَطْمَعُ، فَالرَّجَاءُ رَاجِعٌ إِلَيْهِمَا كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ: سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «لَعَلَّ» لَفْظَةُ طَمَعٍ وَتَرَجٍّ، فَخَاطَبَهُمْ بِمَا يَعْقِلُونَ. وقيل: لعلّ ها هنا بمعنى الاستفهام. والمعنى: فانظرا هَلْ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، وَقِيلَ: بِمَعْنَى كَيْ. والتذكير: النَّظَرُ فِيمَا بَلَّغَاهُ مِنَ الذَّكَرِ وَإِمْعَانُ الْفِكْرِ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي الْإِجَابَةِ، وَالْخَشْيَةُ هِيَ خَشْيَةُ عِقَابِ اللَّهِ الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى لِسَانِهِمَا، وَكَلِمَةُ «أَوْ» لِمَنْعِ الْخُلُوِّ دُونَ الْجَمْعِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ قَالَ: هُوَ النِّيلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي قَالَ: كَانَ كُلُّ مَنْ رَآهُ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ مَحَبَّتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: حَبَّبْتُكَ إِلَى عِبَادِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي قَالَ: تُرَبَّى بِعَيْنِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: لِتُغَذَّى عَلَى عَيْنِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ: أَنْتَ بِعَيْنِي إِذْ جَعَلَتْكَ أُمُّكَ فِي التَّابُوتِ، ثُمَّ فِي الْبَحْرِ، وَإِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنما قتل موسى الذي

_ (1) . «مسح» : سحّ: انصبّ. «السابحات» : التي تبسط يديها إذا عدت. «الونى» : الفتور. «الكديد» : ما غلظ من الأرض. «المركل» : الذي ركلته الخيل بحوافرها. [.....] (2) . النازعات: 18.

[سورة طه (20) : الآيات 45 إلى 59]

قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأً، يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ قَالَ: مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً قَالَ: أَخْلَصْنَاكَ إِخْلَاصًا» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً قَالَ: ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: اخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَثَرًا طَوِيلًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَمَنْ أَحَبَّ اسْتِيفَاءَ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنِ النَّسَائِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ قال: لميقات. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ عَلى قَدَرٍ قَالَ: مَوْعِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ وَلا تَنِيا قَالَ: لَا تُبْطِئَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: قَوْلًا لَيِّناً قَالَ: كَنَّهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَنَّيَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قال: هل يتذكر. [سورة طه (20) : الآيات 45 الى 59] قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يَفْرُطَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَعْجَلَ وَيُبَادِرَ بِعُقُوبَتِنَا، يُقَالُ: فَرَطَ مِنْهُ أَمْرٌ، أَيْ: بَدَرَ، وَمِنْهُ الْفَارِطُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْقَوْمَ إِلَى الْمَاءِ، أَيْ: يُعَذِّبُنَا عَذَابَ الْفَارِطِ فِي الذَّنْبِ، وَهُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِيهِ، كَذَا قَالَ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ أَيْضًا: فَرَطَ مِنْهُ أَمْرٌ وَأَفْرَطَ: أَسْرَفَ، وَفَرَّطَ: تَرَكَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ يَفْرُطَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، أَيْ: يَحْمِلُهُ حَامِلٌ عَلَى التَّسَرُّعِ إِلَيْنَا، وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ مِنَ الْإِفْرَاطِ، أَيْ: يَشْتَطُّ فِي أَذِيَّتِنَا. قَالَ الرَّاجِزُ: قَدْ أَفْرَطَ الْعِلْجُ عَلَيْنَا وَعَجَّلَ وَمَعْنَى أَوْ أَنْ يَطْغى قَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَجُمْلَةُ قالَ لَا تَخافا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، نَهْيٌ لَهُمَا عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي حَصَلَ مَعَهُمَا مِنْ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّنِي مَعَكُما أَيْ: بِالنَّصْرِ

لَهُمَا، وَالْمَعُونَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَمَعْنَى أَسْمَعُ وَأَرى إِدْرَاكُ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْهُ خَافِيَةٌ، وَلَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْهُمَا، ثُمَّ أَمَرَهُمَا بِإِتْيَانِهِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ بَعْدَ أَمْرِهِمَا بِالذِّهَابِ إِلَيْهِ، فَلَا تَكْرَارَ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ: خَلِّ عَنْهُمْ وَأَطْلِقْهُمْ مِنَ الْأَسْرِ وَلا تُعَذِّبْهُمْ بِالْبَقَاءِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانُوا عِنْدَ فِرْعَوْنَ فِي عَذَابٍ شَدِيدٍ: يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ، وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، وَيُكَلِّفُهُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَهُ. ثُمَّ أَمَرَهُمَا سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَا لِفِرْعَوْنَ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ قِيلَ: هِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ، وَقِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ لَهُمَا: وَمَا هِيَ؟ فَأَدْخَلَ مُوسَى يَدَهُ فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا لَهَا شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ، فَعَجِبَ فِرْعَوْنُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُرِهِ مُوسَى الْعَصَا إِلَّا يَوْمَ الزِّينَةِ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أَيِ: السَّلَامَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى سَلِمَ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ عَزَّ وجلّ ومن عَذَابِهِ، وَلَيْسَ بِتَحِيَّةٍ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِابْتِدَاءِ لِقَاءٍ وَلَا خِطَابٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَلِمَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى سَوَاءٌ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ: الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ فِي الدُّنْيَا وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّكْذِيبِ: التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَبِرُسُلِهِ، وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ عَنْ قبولها والإيمان بها قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى أَيْ: قَالَ فِرْعَوْنُ لَهُمَا: فَمَنْ رَبُّكُمَا؟ فَأَضَافَ الرَّبَّ إِلَيْهِمَا وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى نَفْسِهِ لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِ لَهُمَا وَلِجَحْدِهِ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَخَصَّ مُوسَى بِالنِّدَاءِ لكونه الأصل في الرسالة، وقيل: لمطابقة رؤوس الْآيِ قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ أي: قال موسى مجيبا له، و «ربنا» مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «رَبُّنَا» خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَمَا بَعْدَهُ صِفَتَهُ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ خَلْقَهُ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَرَوَى زَائِدَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ «خَلَقَهُ» بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرَوَاهَا نُصَيْرٌ عَنِ الْكِسَائِيِّ. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ خَلْقَهُ ثَانِيَ مَفْعُولَيْ أَعْطَى. وَالْمَعْنَى: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ وَشَكْلَهُ الَّذِي يُطَابِقُ الْمَنْفَعَةَ الْمَنُوطَةَ بِهِ الْمُطَابِقَةَ لَهُ كَالْيَدِ لِلْبَطْشِ، وَالرِّجْلِ لِلْمَشْيِ، وَاللِّسَانِ لِلنُّطْقِ، وَالْعَيْنِ لِلنَّظَرِ، وَالْأُذُنِ لِلسَّمْعِ، كَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صَلَاحَهُ وَهَدَاهُ لِمَا يُصْلِحُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فِي خَلْقِ الْبَهَائِمِ، وَلَا خَلَقَ الْبَهَائِمَ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنْ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ... وَكَذَاكَ اللَّهُ مَا شَاءَ فَعَلَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى: خَلَقَ لِلرَّجُلِ الْمَرْأَةَ، وَلِكُلِّ ذَكَرٍ مَا يُوَافِقُهُ مِنِ الْإِنَاثِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلْقَهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى هُوَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لَأَعْطَى، أَيْ: أَعْطَى خَلْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَيَرْتَفِقُونَ بِهِ، وَمَعْنَى ثُمَّ هَدى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَدَاهُمْ إِلَى طُرُقِ الِانْتِفَاعِ بِمَا أَعْطَاهُمْ فَانْتَفَعُوا بِكُلِّ شَيْءٍ فِيمَا خُلِقَ لَهُ، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ صِفَةً لِلْمُضَافِ أَوْ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلَمْ يُخْلِهِ مِنْ عَطَائِهِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا: أَيْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَيُوَافِقُ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى.

قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى لَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ مَا احْتَجَّ بِهِ مُوسَى فِي ضِمْنِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى إِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى مِنْ أَنَّ الْخَلْقَ وَالْهِدَايَةَ ثَابِتَانِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ خَالِقٍ وَهَادٍ، وَذَلِكَ الْخَالِقُ وَالْهَادِي هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ. قَالَ فِرْعَوْنُ: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأَوْلَى؟ فَإِنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِالرَّبِّ الَّذِي تَدْعُو إليه يا موسى، بل عبدت الأوثان ونحوها مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَعْنَى الْبَالِ: الْحَالُ وَالشَّأْنُ، أَيْ: مَا حَالُهُمْ؟ وَمَا شَأْنُهُمْ؟ وَقِيلَ: إِنَّ سُؤَالَ فِرْعَوْنَ عَنِ الْقُرُونِ الْأُولَى مُغَالَطَةٌ لِمُوسَى لَمَّا خَافَ أَنْ يُظْهِرَ لِقَوْمِهِ أَنَّهُ قَدْ قَهَرَهُ بِالْحُجَّةِ، أَيْ: مَا حَالُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ؟ وَمَاذَا جرى عليهم من الحوادث؟ فأجابه موسى، ف قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أَيْ: إِنَّ هَذَا الَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، بَلْ هُوَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا أَنَا. وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَعْنَى عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أَنَّ عِلْمَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَنَحْوَهَا مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ سَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا فِي كِتَابٍ أَنَّهَا مُثْبَتَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ مَحْفُوظَةٌ عِنْدَ اللَّهِ يُجَازِي بِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: عِلْمُ أَعْمَالِهِا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ. وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ «فِي كِتابٍ» ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. قَالَ: وَمَعْنَى لَا يَضِلُّ لَا يهلك، من قوله: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «1» ، وَلا يَنْسى شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَقَدْ نَزَّهَهُ عَنِ الْهَلَاكِ وَالنِّسْيَانِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى لَا يَضِلُّ لَا يُخْطِئُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَغِيبُ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَصْلُ الضَّلَالِ الْغَيْبُوبَةُ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى كِتَابٍ، وَلَا يَضِلُّ عَنْهُ عِلْمُ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يَنْسَى مَا عَلِمَهُ مِنْهَا، حُكِيَ هَذَا عَنِ الزَّجَّاجِ أَيْضًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ أَشْبَهُهَا بِالْمَعْنَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ كَقَوْلِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ هَاتَيْنِ الجملتين صفة لكتاب، والمعنى: أن الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو نَاسٍ لَهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِرَبِّي مُتَضَمِّنَةٌ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خبر مبتدأ محذوف، أو في محل نصب عَلَى الْمَدْحِ. قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ مَهْداً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: مَهَّدَهَا مَهْدًا، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ذَاتِ مَهْدٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُمَهَّدُ كَالْفِرَاشِ لِمَا يُفْرَشُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِهَادًا وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قالا: لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى قِرَاءَةِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْجَمْعُ أَوْلَى مِنَ الْمَصْدَرِ لِأَنَّ هذا الموضوع لَيْسَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ إِلَّا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِهَادًا مُفْرَدًا كَالْفِرَاشِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَمَعْنَى الْمِهَادِ: الْفِرَاشُ، فَالْمِهَادُ: جَمْعُ الْمَهْدِ، أَيْ: جَعَلَ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنْهَا مَهْدًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا السَّلْكُ: إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: أَدْخَلَ فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِكُمْ طُرُقًا تَسْلُكُونَهَا وَسَهَّلَهَا لَكُمْ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً هُوَ مَاءُ الْمَطَرِ، قِيلَ: إِلَى هُنَا انْتَهَى كَلَامُ مُوسَى، وَمَا بَعْدَهُ هُوَ فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنْ مُوسَى، مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْزَلَ، وَإِنَّمَا الْتَفَتَ إِلَى التَّكَلُّمِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ظُهُورِ ما فيه من

_ (1) . السجدة: 10.

الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ. وَنُوقِشَ بِأَنَّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ مَعَ اسْتِلْزَامِهِ فَوْتَ الِالْتِفَاتِ لِعَدَمِ اتِّحَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَحْكِيٌّ عَنْ وَاحِدٍ هُوَ مُوسَى، وَالْحَاكِي لِلْجَمِيعِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَالْمَعْنَى: فَأَخْرَجْنَا بِذَلِكَ الْمَاءِ بِسَبَبِ الْحَرْثِ وَالْمُعَالَجَةِ أَزْوَاجًا، أَيْ: ضُرُوبًا وَأَشْبَاهًا مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَقَوْلُهُ: «مِنْ نَبَاتٍ» صِفَةٌ لِأَزْوَاجًا، أَوْ بَيَانٌ لَهُ، وَكَذَا «شَتَّى» صِفَةٌ أُخْرَى لَهُ، أَيْ: مُتَفَرِّقَةٌ، جَمْعُ شَتِيتٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ أَزْوَاجًا شَتَّى مِنْ نَبَاتٍ. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ النَّبَاتُ شَتَّى، فَيَجُوزُ أَنْ يكون «شتى» نعتا لأزوجا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلنَّبَاتِ، يُقَالُ: أَمْرٌ شَتٌّ، أَيْ: مُتَفَرِّقٌ، وَشَتَّ الْأَمْرُ شَتًّا وَشَتَاتًا تَفَرَّقَ، وَاشْتَتَّ مِثْلُهُ، وَالشَّتِيتُ: الْمُتَفَرِّقُ. قَالَ رُؤْبَةُ: جَاءَتْ مَعًا وَأَطْرَقَتْ شَتِيتًا «1» ............... ... وَجُمْلَةُ كُلُوا وَارْعَوْا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: قَائِلِينَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ، يُقَالُ: رَعَتِ الْمَاشِيَةُ الْكَلَأَ وَرَعَاهَا صَاحِبُهَا رِعَايَةً، أَيْ: أَسَامَهَا وَسَرَّحَهَا، يَجِيءُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَالنُّهَى: الْعُقُولُ، جَمْعُ نُهْيَةٍ، وَخَصَّ ذَوِي النُّهَى لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّفْسَ عَنِ الْقَبَائِحِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مُوسَى احْتِجَاجٌ عَلَى فِرْعَوْنَ فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ جَوَابًا لقوله: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها خَلَقْناكُمْ وَمَا بَعْدَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ سَابِقًا. قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي أَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ وَأَوْلَادُهُ مِنْهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ نُطْفَةٍ مَخْلُوقَةٍ مِنَ التُّرَابِ فِي ضِمْنِ خَلْقِ آدَمَ لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ لَهُ حَظٌّ مِنْ خَلْقِهِ وَفِيها أَيْ: فِي الْأَرْضِ نُعِيدُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتُدْفَنُونَ فِيهَا وَتَتَفَرَّقُ أَجَزَاؤُكُمْ حَتَّى تَصِيرَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَجَاءَ بِفِي دُونَ إِلَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ وَمِنْها أَيْ: مِنَ الْأَرْضِ نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى أَيْ: بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَتَأْلِيفِ الْأَجْسَامِ وَرَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَيْهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَالتَّارَةُ كَالْمَرَّةِ وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها أَيْ: أَرَيْنَا فِرْعَوْنَ وَعَرَّفْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ هِيَ الْآيَاتُ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلْعَهْدِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ جَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى، وَالَّتِي جَاءَ بِهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ مُوسَى قَدْ كَانَ عَرَّفَهُ جَمِيعَ مُعْجِزَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ حُجَجُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الدَّالَّةُ عَلَى تَوْحِيدِهِ فَكَذَّبَ وَأَبى أَيْ: كَذَّبَ فِرْعَوْنُ مُوسَى، وَأَبَى عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفْرَ فِرْعَوْنُ كُفْرُ عِنَادٍ لِأَنَّهُ رَأَى الْآيَاتِ وَكَذَّبَ بِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. وَجُمْلَةُ قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ فِرْعَوْنُ بَعْدَ هَذَا؟ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ لِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ، أَيْ: جِئْتَ يَا مُوسَى لِتُوهِمَ النَّاسَ بِأَنَّكَ نبيّ يجب

_ (1) . وتمامه: وهي تثير السّاطع السّخّيتا. «السخيت» : دقاق التراب.

عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُكَ، وَالْإِيمَانُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، حَتَّى تَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ الْإِيهَامُ الَّذِي هُوَ شُعْبَةٌ مِنَ السِّحْرِ إِلَى أَنْ تَغْلِبَ عَلَى أَرْضِنَا وَتُخْرِجَنَا مِنْهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَلْعُونُ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْأَرْضِ لِتَنْفِيرِ قَوْمِهِ عَنْ إِجَابَةِ مُوسَى، فَإِنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِي أَذْهَانِهِمْ وَتَقَرَّرَ فِي أَفْهَامِهِمْ أَنَّ عَاقِبَةَ إِجَابَتِهِمْ لِمُوسَى الْخُرُوجُ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ كَانُوا غَيْرَ قَابِلَيْنِ لِكَلَامِهِ، وَلَا نَاظِرِينَ فِي مُعْجِزَاتِهِ، وَلَا مُلْتَفِتِينَ إِلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا وَاللَّامُ هِيَ الْمُوطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، أَيْ: وَاللَّهِ لَنُعَارِضَنَّكَ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ السِّحْرِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ الَّذِي جِئْتَ بِهِ سِحْرٌ يَقْدِرُ عَلَى مَثَلِهِ السَّاحِرُ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً هُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ: وَعْدًا، وَقِيلَ: اسْمُ مَكَانٍ، أَيِ: اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مَعْلُومًا، أَوْ مَكَانًا مَعْلُومًا لَا نُخْلِفُهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَلِهَذَا قَالَ: لَا نُخْلِفُهُ أَيْ: لَا نُخْلِفُ ذَلِكَ الْوَعْدَ، وَالْإِخْلَافُ: أَنْ تَعِدَ شَيْئًا وَلَا تنجزه. قال الجوهري: الميعاد: المواعدة والوقت والموضع، وكذلك الوعد. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ لَا نُخْلِفُهُ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ اجْعَلْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَوْعِدًا، أَيْ: لَا نُخْلِفُ ذَلِكَ الْوَعْدَ نَحْنُ وَلا أَنْتَ وَفَوَضَ تَعْيِينَ الْمَوْعِدِ إِلَى مُوسَى إِظْهَارًا لِكَمَالِ اقْتِدَارِهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ مُوسَى، وَانْتِصَابُ مَكاناً سُوىً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَوْعِدٍ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ سُوىً بِضَمِّ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ كَسْرَ السِّينِ لِأَنَّهَا اللُّغَةُ الْعَالِيَةُ الْفَصِيحَةُ وَالْمُرَادُ مَكَانًا مُسْتَوِيًا، وَقِيلَ: مَكَانًا مُنْصِفًا عَدْلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: يُقَالُ سِوًى وَسُوًى، أَيْ: عَدْلٌ، يَعْنِي عَدْلًا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ. قَالَ زُهَيْرٌ: أَرَوْنَا خُطَّةً لَا ضَيْمَ فِيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فيها السّواء قال أبو عبيدة والقتبي: مَعْنَاهُ مَكَانًا وَسَطًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِمُوسَى بْنِ جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ: وَإِنَّ أَبَانَا كان حلّ ببلدة ... سوى بين قيس عيلان وَالْفَزَرِ وَالْفَزَرُ: سَعْدُ بْنُ زَيْدِ مَنَاةَ. ثُمَّ وَاعَدَهُ مُوسَى بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فَ قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ عِيدٍ يَتَزَيَّنُونَ فِيهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَوْمُ السَّبْتِ، وَقِيلَ: يَوْمُ النَّيْرُوزِ، وَقِيلَ: يَوْمُ كَسْرِ الْخَلِيجِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ وَالسُّلَمِيُّ وَهُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ يَوْمُ الزِّينَةِ بِالنَّصْبِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، أَيْ: فِي يَوْمِ الزِّينَةِ إِنْجَازُ مَوْعِدَنَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مَوْعِدُكُمْ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْمِيعَادُ زَمَانًا بَعْدَ أَنْ طَلَبَ منه فرعون أن يكون سُوًى، لِأَنَّ يَوْمَ الزِّينَةِ يَدُلُّ عَلَى مَكَانٍ مَشْهُورٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَوْعِدُكُمْ مَكَانُ يَوْمِ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى مَعْطُوفٌ عَلَى يَوْمِ الزِّينَةِ فَيَكُونُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، أَوْ عَلَى الزِّينَةِ فَيَكُونُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، يَعْنِي ضُحَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ أَهْلُ مِصْرَ. وَالْمَعْنَى: يُحْشَرُونَ إِلَى الْعِيدِ وَقْتَ الضُّحَى، وَيَنْظُرُونَ فِي أَمْرِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يُحْشَرُونَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ضُحًى فَذَلِكَ الْمَوْعِدُ. قَالَ: وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ بِحَشْرِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالضُّحَى قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ضَحْوَةُ النَّهَارِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الضُّحَى، وَهُوَ حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ، وَخَصَّ الضُّحَى لِأَنَّهُ أَوَّلُ

[سورة طه (20) : الآيات 60 إلى 70]

النَّهَارِ، فَإِذَا امْتَدَّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا كَانَ فِي النَّهَارِ مُتَّسَعٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْجَحْدَرَيُّ وَأَنْ يَحْشُرَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ: أَيْ: وَأَنْ يَحْشُرَ اللَّهُ النَّاسَ ضُحًى. وَرُوِيَ عَنِ الْجَحْدَرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ وَأَنْ نَحْشُرَ بِالنُّونِ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: وَأَنْ تُحْشَرَ أَنْتَ يَا فِرْعَوْنُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا قَالَ: يُعَجِّلُ أَوْ أَنْ يَطْغى قَالَ: يَعْتَدِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: أَسْمَعُ وَأَرى قَالَ: أَسْمَعُ مَا يَقُولُ وَأَرَى مَا يُجَاوِبُكُمَا بِهِ، فَأُوحِي إِلَيْكُمَا فَتُجَاوِبَانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ قَالَ: رَبِّ أَيَّ شيء أقول؟ قال: قل أهيا شراهيا. قال الأعمش: تَفْسِيرُ ذَلِكَ: الْحَيُّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْحَيُّ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ. وَجَوَّدَ السُّيُوطِيُّ إِسْنَادَهُ، وَسَبَقَهُ إِلَى تَجْوِيدِ إِسْنَادِهِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ: كَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ قَالَ: خَلَقَ لِكُلِّ شَيْءٍ زَوْجَهُ ثُمَّ هَدى قَالَ: هَدَاهُ لِمَنْكَحِهِ وَمَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَسْكَنِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَضِلُّ رَبِّي قَالَ: لَا يُخْطِئُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَباتٍ شَتَّى قَالَ: مُخْتَلِفٌ. وَفِي قَوْلِهِ: لِأُولِي النُّهى قَالَ: لِأُولِي التُّقَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ لِأُولِي النُّهى قَالَ: لِأُولِي الْحِجَا وَالْعَقْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: إِنَّ الْمَلَكُ يَنْطَلِقُ فَيَأْخُذُ مِنْ تُرَابِ الْمَكَانِ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ، فَيَذُرُّهُ عَلَى النُّطْفَةِ، فَيَخْلُقُ مِنَ التُّرَابِ وَمِنَ النُّطْفَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: لَمَّا وُضِعَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَبْرِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى، بِسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» . وَفِي حَدِيثٍ فِي السُّنَنِ: «أَنَّهُ أَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَأَلْقَاهَا فِي الْقَبْرِ وَقَالَ: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ، ثُمَّ أُخْرَى وَقَالَ: وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ، ثُمَّ أُخْرَى وَقَالَ: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ قَالَ: يَوْمُ عَاشُورَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عمرو نحوه. [سورة طه (20) : الآيات 60 الى 70] فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70)

قَوْلُهُ: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أَيِ: انْصَرَفَ مِنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ لَيُهَيِّئَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا تَوَاعَدَا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى تَوَلَّى أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَجَمَعَ كَيْدَهُ أَيْ: جَمَعَ مَا يَكِيدُ بِهِ مِنْ سِحْرِهِ وَحِيلَتِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ جَمَعَ السَّحَرَةَ، قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ أربعمائة، وقيل: اثنا عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا ثُمَّ أَتى أَيْ: أَتَى الْمَوْعِدُ الَّذِي تَوَاعَدَا إِلَيْهِ مَعَ جَمْعِهِ الَّذِي جَمَعَهُ، وَجُمْلَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً دَعَا عَلَيْهِمْ بِالْوَيْلِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ وَيْلًا. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِدَاءً كَقَوْلِهِ: يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «1» . فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ السُّحْتُ: الِاسْتِئْصَالُ، يُقَالُ: سَحَتَ وَأَسْحَتَ بِمَعْنًى، وَأَصْلُهُ اسْتِقْصَاءُ الشَّعْرِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا شُعْبَةَ فَيُسْحِتَكُمْ بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ مِنْ أَسْحَتَ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهِ مَنْ سَحَتَ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِلنَّهْيِ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى أَيْ: خَسِرَ وَهَلَكَ وَالْمَعْنَى: قَدْ خَسِرَ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ أَيَّ كَذِبٍ كَانَ فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أَيِ: السَّحَرَةُ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ مُوسَى تَنَاظَرُوا وَتَشَاوَرُوا وَتَجَاذَبُوا أَطْرَافَ الْكَلَامِ فِي ذلك وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي: من موسى، وكان نَجْوَاهُمْ هِيَ قَوْلَهُمْ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ تَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى سِحْرًا فَسَنَغْلِبُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَسَيَكُونُ لَهُ أَمْرٌ وَقِيلَ: الَّذِي أَسَرُّوهُ أَنَّهُ إِذَا غَلَبَهُمُ اتَّبَعُوهُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَقِيلَ: الَّذِي أَسَرُّوهُ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ مُوسَى: «وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ» ، قَالُوا: «مَا هَذَا بِقَوْلِ سَاحِرٍ» . وَالنَّجْوَى: الْمُنَاجَاةُ، يَكُونُ اسْمًا وَمَصْدَرًا. قَرَأَ أَبُو عمرو إنّ هذين لَسَاحِرَانِ بِتَشْدِيدِ الْحَرْفِ الدَّاخِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَبِالْيَاءِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى إِعْمَالِ إِنَّ عَمَلَهَا الْمَعْرُوفَ، وَهُوَ نَصْبُ الِاسْمِ وَرَفْعُ الْخَبَرِ وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهَا قَرَأَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَبِهَا قَرَأَ عَاصِمٌ الجحدري وعيسى ابن عُمَرَ كَمَا حَكَاهُ النَّحَّاسُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُوَافِقَةٌ لِلْإِعْرَابِ الظَّاهِرِ، مُخَالِفَةٌ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ إِنْ هذانِ بِتَخْفِيفِ إِنْ عَلَى أَنَّهَا نَافِيَةٌ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُوَافِقَةٌ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ وَلِلْإِعْرَابِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ مِثْلَ قِرَاءَتِهِمْ إِلَّا أَنَّهُ يُشَدِّدُ النُّونَ مِنْ «هَذَانِ» . وَقَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ إِنْ هذانِ بِتَشْدِيدِ إِنَّ وَبِالْأَلِفِ، فَوَافَقُوا الرَّسْمَ وَخَالَفُوا الْإِعْرَابَ الظَّاهِرَ. وَقَدْ تَكَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي توجيه قراءة المدنيين

_ (1) . يس: 52.

وَالْكُوفِيِّينَ وَابْنِ عَامِرٍ، وَقَدِ اسْتَوْفَى ذِكْرَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالنَّحَّاسُ، فَقِيلَ: إِنَّهَا لُغَةُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَخَثْعَمَ، وَكِنَانَةَ يَجْعَلُونَ رَفْعَ الْمُثَنَّى وَنَصْبَهُ وَجَرَّهُ بِالْأَلِفِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : فَأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ يَرَى ... مَسَاغًا لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: تَزَوُّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذُنَاهُ ضَرْبَةً «2» ............... ..... وَقَوْلُ الْآخَرِ» : إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا ... قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا وَمِمَّا يؤيّد هذا تصريح شيبويه وَالْأَخْفَشِ وَأَبِي زَيْدٍ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ: إِنَّ هَذِهِ القراءة على لغة بني الحارث ابن كَعْبٍ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ أَنَّهَا لُغَةُ بَنِيَ كِنَانَةَ، وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّهَا لُغَةُ خَثْعَمٍ، وَقِيلَ: إِنَّ «إِنْ» بِمَعْنَى نَعَمْ هَاهُنَا كَمَا حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ عَنْ عَاصِمٍ، وَكَذَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: رَأَيْتُ الزَّجَّاجَ وَالْأَخْفَشَ يَذْهَبَانِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: نَعَمْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لِلْمُحِبِّ شِفَاءٌ ... مِنْ جَوَى حُبِّهِنَّ إِنِ اللِّقَاءُ أَيْ: نَعَمِ اللِّقَاءُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: إن هذان لَهُمَا سَاحِرَانِ، ثُمَّ حَذَفَ الْمُبْتَدَأَ وَهُوَ هُمَا. وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَلِفَ فِي هَذَا مُشَبَّهَةٌ بِالْأَلِفِ فِي يَفْعَلَانِ فَلَمْ تُغَيَّرْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْهَاءَ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ: إِنَّهُ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ عَنْ قُدَمَاءِ النَّحْوِيِّينَ، وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ يُقَالُ هَذَا بِالْأَلِفِ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانَتِ التَّثْنِيَةُ لَا تُغَيِّرُ الْوَاحِدَ أُجْرِيَتِ التَّثْنِيَةُ مَجْرَى الْوَاحِدِ، فَثَبَتَ الْأَلِفُ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، فَهَذِهِ أَقْوَالٌ تَتَضَمَّنُ توجيه هذه القراءة توجيها تَصِحُّ بِهِ وَتَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْخَطَأِ، وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْكَاتِبِ لِلْمُصْحَفِ. يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ وَهِيَ أَرْضُ مِصْرَ بِسِحْرِهِما الَّذِي أَظْهَرَاهُ وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى قَالَ الْكِسَائِيُّ: بِطَرِيقَتِكُمْ: بِسُنَّتِكُمْ، وَالْمُثْلَى نَعْتٌ، كَقَوْلِكَ: امْرَأَةٌ كُبْرَى، تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى يَعْنُونَ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: هَؤُلَاءِ طَرِيقَةُ قَوْمِهِمْ وَطَرَائِقُ قَوْمِهِمْ لِأَشْرَافِهِمْ، وَالْمُثْلَى تَأْنِيثُ الْأَمْثَلِ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ، يُقَالُ: فُلَانٌ أَمْثَلُ قَوْمِهِ، أَيْ: أَفْضَلُهُمْ، وَهُمُ الْأَمَاثِلُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمَا إِنْ يَغْلِبَا بِسِحْرِهِمَا مَالَ إِلَيْهِمَا السَّادَةُ وَالْأَشْرَافُ مِنْكُمْ، أَوْ يَذْهَبَا بِمَذْهَبِكُمُ الَّذِي هُوَ أَمْثَلُ الْمَذَاهِبِ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ الْإِجْمَاعُ: الْإِحْكَامُ وَالْعَزْمُ عَلَى الشَّيْءِ، قاله الفراء.

_ (1) . رجل من بني أسد، قال الفراء: ما رأيت أفصح منه. وفي اللسان: هو المتلمس. (2) . وعجزه: دعته إلى هابي التّراب عقيم. والبيت لهوبر الحارثي. والهابي من التراب: ما ارتفع ودقّ. (3) . هو أبو النجم، وقال بعضهم: هو رؤبة.

تَقُولُ: أَجْمَعْتُ عَلَى الْخُرُوجِ، مِثْلُ أَزْمَعْتُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لِيَكُنْ عَزْمُكُمْ كُلُّكُمْ كَالْكَيْدِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قَطْعِ الْهَمْزَةِ فِي أَجْمَعُوا إِلَّا أَبَا عَمْرٍو، فَإِنَّهُ قَرَأَ بِوَصْلِهَا وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنَ الْجَمْعِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَفِيمَا حُكِيَ لِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ عَلَى أَبِي عَمْرٍو أَنْ يَقْرَأَ بِخِلَافِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أَيْ: مُصْطَفِّينَ مُجْتَمِعِينَ لِيَكُونَ أَنْظَمَ لِأُمُورِهِمْ وَأَشَدَّ لِهَيْبَتِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّفُّ: مَوْضِعُ الْمَجْمَعِ، وَيُسَمَّى الْمُصَلَّى الصَّفَّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ: ثُمَّ ائْتُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي تَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِعِيدِكُمْ وَصَلَاتِكُمْ، يُقَالُ: أَتَيْتُ الصَّفَّ بِمَعْنَى أَتَيْتُ الْمُصَلَّى، فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ انْتِصَابُ صَفًّا عَلَى الْحَالِ، وَعَلَى تَفْسِيرِ أَبِي عُبَيْدَةَ يَكُونُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ثُمَّ ائتوا والناس مُصْطَفُّونَ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ. وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ، وَمَنْ تَرَكَ الْهَمْزَةَ أَبْدَلَ مِنْهَا أَلِفًا. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أَيْ: مَنْ غَلَبَ، يُقَالُ: اسْتَعْلَى عَلَيْهِ إِذَا غَلَبَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ قَوْلِ السَّحَرَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ. وَجُمْلَةُ قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابًا لسؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا فعلوا بعد ما قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ مَا قَالُوا؟ فَقِيلَ: قَالُوا يا موسى إما أن تلقي، و «أن» مَعَ مَا فِي حَيِّزِهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيِ: اخْتَرْ إِلْقَاءَكَ أَوَّلًا أَوْ إِلْقَاءَنَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا وَمَا بَعْدَهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أي: الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا، وَمَفْعُولُ تُلْقِيَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ مَا تُلْقِيهِ أَوَّلًا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى مَا يُلْقِيهِ، أَوْ أَوَّلَ مَنْ يَفْعَلُ الْإِلْقَاءَ، وَالْمُرَادُ: إِلْقَاءُ الْعِصِيِّ عَلَى الْأَرْضِ، وَكَانَتِ السَّحَرَةُ مَعَهُمْ عِصِيٌّ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ أَلْقَى عَصَاهُ يَوْمَ دَخَلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا أَرَادَ السَّحَرَةُ مُعَارَضَتَهُ قَالُوا لَهُ هَذَا الْقَوْلَ، فَ قالَ لَهُمْ مُوسَى: بَلْ أَلْقُوا أَمَرَهُمْ بِالْإِلْقَاءِ أَوَّلًا لِتَكُونَ مُعْجِزَتُهُ أَظْهَرَ إِذَا أَلْقَوْا هُمْ مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ يُلْقِي هُوَ عَصَاهُ فَتَبْتَلِعُ ذَلِكَ، وَإِظْهَارًا لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِسِحْرِهِمْ فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: ألقوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ، وَالْفَاءُ فَصَيْحَةٌ، وَإِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ أَوْ ظَرْفِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: فَأَلْقَوْا، فَفَاجَأَ مُوسَى وَقْتَ أَنْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ سَعْيُ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ عِصِيُّهُمْ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ الصَّادِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ تُخَيَّلُ بِالْمُثَنَّاةِ لِأَنَّ الْعِصِيَّ وَالْحِبَالَ مُؤَنَّثَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَطَّخُوهَا بِالزِّئْبَقِ، فَلَمَّا أَصَابَهَا حَرُّ الشَّمْسِ ارْتَعَشَتْ وَاهْتَزَّتْ، وَقُرِئَ نُخَيِّلُ بِالنُّونِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُخَيِّلُ لِذَلِكَ، وَقُرِئَ يُخَيِّلُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ عَلَى أَنَّ الْمُخَيِّلَ هُوَ الْكَيْدُ، وَقِيلَ: الْمُخَيِّلُ هُوَ «أَنَّهَا تَسْعَى» ، ف «أنّ» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ سَعْيُهَا. ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: بِأَنَّهَا، ثُمَّ حَذَفَ الْبَاءَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، يَعْنِي الْفَوْقِيَّةَ، جَعَلَ أَنَّ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: تُخَيَّلُ إِلَيْهِ ذَاتَ سَعْيٍ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي تُخَيَّلُ، وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، وَالْبَدَلُ فِيهِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، يُقَالُ: خُيِّلَ إِلَيْهِ إِذَا شُبِّهَ لَهُ وَأُدْخِلَ عَلَيْهِ الْبُهْمَةَ وَالشُّبْهَةُ. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى أَيْ: أَحَسَّ، وَقِيلَ: وَجَدَ، وَقِيلَ: أَضْمَرَ، وَقِيلَ: خَافَ، وَذَلِكَ لِمَا يَعْرِضُ مِنَ الطِّبَاعِ

[سورة طه (20) : الآيات 71 إلى 76]

الْبَشَرِيَّةِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ مَا يُخْشَى مِنْهُ، وَقِيلَ: خَافَ أَنْ يُفْتَتَنَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ، وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ خَوْفِهِ هُوَ أَنَّ سِحْرَهُمْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا أَرَاهُمْ فِي الْعَصَا، فَخَافَ أَنْ يَلْتَبِسَ أَمْرُهُ عَلَى النَّاسِ فَلَا يُؤْمِنُوا، فَأَذْهَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا حَصَلَ مَعَهُ مِنَ الْخَوْفِ بِمَا بَشَّرَهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أَيِ: الْمُسْتَعْلِي عَلَيْهِمْ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ يَعْنِي الْعَصَا، وَإِنَّمَا أَبْهَمَهَا تَعْظِيمًا وَتَفْخِيمًا، وَجَزْمُ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ. قُرِئَ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَالْأَصْلُ: تَتَلَقَّفُ، فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقُرِئَ «تَلْقَفْ» بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ لَقِفَهُ إِذَا ابْتَلَعَهُ بِسُرْعَةٍ، وَقُرِئَ «تَلْقَفُ» بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ فَإِنَّهَا تَتَلَقَّفُ، وَمَعْنَى مَا صَنَعُوا الَّذِي صَنَعُوهُ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْقِرَاءَةُ بِالْجَزْمِ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى مَعْنَى الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَلْقِهَا مُتَلَقِّفَةً، وَجُمْلَةُ إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ تَلْقَفْ، وَارْتِفَاعُ كَيْدٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِإِنَّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ إِلَّا عَاصِمًا. وَقَرَأَ هَؤُلَاءِ «سِحْرٍ» بِكَسْرِ السِّينِ وسكون الحاء، وإضافة الكيد إلى السِّحْرِ عَلَى الِاتِّسَاعِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، أَوْ بِتَقْدِيرِ ذِي سِحْرٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ كَيْدُ ساحِرٍ. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أَيْ: لَا يُفْلِحُ جِنْسُ السَّاحِرِ حَيْثُ أَتَى وَأَيْنَ تَوَجَّهَ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيلِ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أَيْ: فَأَلْقَى ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي شَاهَدُوهُ مِنْ مُوسَى وَالْعَصَا السَّحَرَةَ سُجَّدًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى إِنَّمَا قَدَّمَ هَارُونَ عَلَى مُوسَى فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ رِعَايَةً لِفَوَاصِلِ الآي، وعناية بتوافق رؤوسها. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ قَالَ: يُهْلِكُكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فَيُسْحِتَكُمْ قَالَ: يَسْتَأْصِلُكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن أَبِي صَالِحٍ قَالَ: فَيَذْبَحُكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن عَلِيٍّ وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى قَالَ: يَصْرِفَا وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ أَمْثَلُكُمْ، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي قَوْلِهِ: تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا: مَا يَأْفِكُونَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَلْقَاهَا مُوسَى فَتَحَوَّلَتْ حَيَّةً تَأْكُلُ حِبَالَهُمْ وَمَا صَنَعُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنُ كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ، فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: إِنْ يَكُنْ هذان ساحران فَإِنَّا نَغْلِبُهُمَا فَإِنَّهُ لَا أَسْحَرُ مِنَّا، وَإِنْ كَانَا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَنْ خَرُّوا سُجَّدًا. أَرَاهُمُ اللَّهُ فِي سُجُودِهِمْ مَنَازِلَهُمُ الَّتِي إِلَيْهَا يَصِيرُونَ، فَعِنْدَهَا قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ إِلَى قوله: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى. [سورة طه (20) : الآيات 71 الى 76] قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

قَوْلُهُ: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ يُقَالُ: آمَنَ لَهُ وَآمَنَ بِهِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ «1» ، ومن الثاني: قَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ: آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ «2» . وَقِيلَ: إِنَّ الْفِعْلَ هُنَا مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الِاتِّبَاعِ. وَقُرِئَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ، أَيْ: كَيْفَ آمَنْتُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ مِنِّي لَكُمْ بِذَلِكَ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أَيْ: إِنَّ مُوسَى لَكَبِيرُكُمْ، أَيْ: أَسْحَرُكُمْ وَأَعْلَاكُمْ دَرَجَةً فِي صِنَاعَةِ السِّحْرِ، أَوْ مُعَلِّمُكُمْ وَأُسْتَاذُكُمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ قَالَ الْكِسَائِيُّ: الصَّبِيُّ بِالْحِجَازِ إِذَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ مُعَلِّمِهِ قَالَ: جِئْتُ مِنْ عِنْدِ كَبِيرِي. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّهُ لِعَظِيمِ السِّحْرِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْكَبِيرُ فِي اللُّغَةِ: الرَّئِيسُ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْمُعَلِّمِ: الْكَبِيرُ. أَرَادَ فِرْعَوْنُ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُدْخِلَ الشُّبْهَةَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى لَا يُؤْمِنُوا، وَإِلَّا فَقَدَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّمُوا مِنْ مُوسَى، وَلَا كَانَ رَئِيسًا لَهُمْ، وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مُوَاصَلَةٌ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أَيْ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ بِكُمْ ذَلِكَ «3» ، وَالتَّقْطِيعُ لِلْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ هُوَ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَمِنْ لِلِابْتِدَاءِ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أَيْ: عَلَى جُذُوعِهَا، كَقَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ «4» أَيْ: عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ سُوَيْدِ بْنِ أَبِي كَاهِلٍ: هُمْ صَلَبُوا الْعَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ ... فَلَا عَطَسَتْ شَيْبَانُ إِلَّا بِأَجْدَعَا وَإِنَّمَا آثَرَ كَلِمَةَ فِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْرَارِهِمْ عَلَيْهَا كَاسْتِقْرَارِ الْمَظْرُوفِ فِي الظَّرْفِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أَرَادَ: لَتَعْلَمُنَّ هَلْ أَنَا أَشَدُّ عَذَابًا لَكُمْ أَمْ مُوسَى؟ وَمَعْنَى أَبْقَى: أَدْوَمُ، وَهُوَ يُرِيدُ بِكَلَامِهِ هَذَا الِاسْتِهْزَاءَ بِمُوسَى لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّعْذِيبِ فِي شَيْءٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ الْعَذَابَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مُوسَى إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَقِيلَ: أَرَادَ بِمُوسَى رَبَّ مُوسَى عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ أَيْ: لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا بِهِ مُوسَى مِنَ الْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَالْيَدِ وَالْعَصَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْبَيِّنَاتِ مَا رَأَوْهُ فِي سُجُودِهِمْ مِنَ الْمَنَازِلِ الْمُعَدَّةِ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَالَّذِي فَطَرَنا مَعْطُوفٌ عَلَى «مَا جَاءَنَا» ، لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا بِهِ مُوسَى مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَعَلَى الَّذِي فَطَرَنَا، أَيْ: خَلَقَنَا، وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ، أَيْ: وَاللَّهِ الَّذِي فَطَرَنَا لَنْ نُؤْثِرَكَ، أَوْ لَا نُؤْثِرُكَ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ذَكَرَهُمَا الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ هَذَا جَوَابٌ مِنْهُمْ لِفِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ «لَأُقَطِّعَنَّ» إِلَخْ، وَالْمَعْنَى: فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ، وَاحْكُمْ مَا أَنْتَ حَاكِمٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَنْتَ صَانِعُهُ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ: إِنَّمَا سُلْطَانُكَ عَلَيْنَا وَنُفُوذُ أَمْرِكَ فِينَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْنَا فِيمَا بَعْدَهَا، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَمَا كَافَّةٌ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الرَّفْعَ عَلَى أَنْ تُجْعَلَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ: أَنَّ الَّذِي تقضيه هذه الحياة

_ (1) . العنكبوت: 26. (2) . الأعراف: 123. (3) . فرعون كان ينكر وجود الله تعالى. ولعله أقسم بنفسه. (4) . الطور: 38.

الدُّنْيَا فَقَضَاؤُكَ وَحُكْمُكَ مُنْحَصِرٌ فِي ذَلِكَ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا الَّتِي سَلَفَتْ مِنَّا مِنَ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ مَعْطُوفٌ عَلَى «خَطَايَانَا» ، أَيْ: وَيَغْفِرُ لَنَا الَّذِي أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ السِّحْرِ فِي مُعَارَضَةِ مُوسَى، فَمَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقِيلَ: هِيَ نَافِيَةٌ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ مَوْضُوعٌ عَنَّا وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى أَيْ: خَيْرٌ مِنْكَ ثَوَابًا وَأَبْقَى مِنْكَ عِقَابًا، وَهَذَا جَوَابُ قَوْلِهِ: «وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى» . إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى الْمُجْرِمُ: هُوَ الْمُتَلَبِّسُ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَمَعْنَى «لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» : أَنَّهُ لَا يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ وَلَا يَحْيَا حَيَاةً تَنْفَعُهُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يَمُوتُ مَيْتَةً مُرِيحَةً، وَلَا يَحْيَا حَيَاةً مُمْتِعَةً، فَهُوَ يَأْلَمُ كَمَا يَأْلَمُ الْحَيُّ، وَيَبْلُغُ بِهِ حَالُ الْمَوْتِ فِي الْمَكْرُوهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ فِيهَا عَنْ إِحْسَاسِ الْأَلَمِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ لَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُنْتَفِعٍ بِحَيَاتِهِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا: أَلَا مِنْ لِنَفْسٍ لَا تَمُوتُ فَيَنْقَضِي ... شَقَاهَا وَلَا تَحْيَا حَيَاةً لَهَا طَعْمُ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَوْلِ السَّحَرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، وَالضَّمِيرُ فِي «إِنَّهُ» عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلشَّأْنِ. وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ أَيْ: وَمَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُصَدِّقًا بِهِ قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، أَيِ: الطَّاعَاتِ، وَالْمَوْصُوفُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ، وَجُمْلَةُ «قَدْ عَمِلَ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَهَكَذَا مُؤْمِنًا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، وَالْإِشَارَةُ بِ فَأُولئِكَ إلى من باعتبار معناه لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى أَيِ: الْمَنَازِلُ الرَّفِيعَةُ الَّتِي قَصَرَتْ دُونَهَا الصِّفَاتُ جَنَّاتُ عَدْنٍ بَيَانٌ لِلدَّرَجَاتِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا، وَالْعَدْنُ: الْإِقَامَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَجُمْلَةُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ حَالٌ مِنَ الْجَنَّاتِ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى عَدْنٍ، وَعَدْنٌ عَلَمٌ لِلْإِقَامَةِ كَمَا سَبَقَ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ فِي «لَهُمْ» ، أَيْ: مَاكِثِينَ دَائِمِينَ، وَالإشارة ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ، وهو مبتدأ، وجَزاءُ مَنْ تَزَكَّى خَبَرُهُ، أَيْ: جَزَاءُ مَنْ تَطَهَّرَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ قَالَ: أَخَذَ فِرْعَوْنُ أَرْبَعِينَ غُلَامًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرَ أَنْ يُعَلَّمُوا السِّحْرَ بِالْفَرَمَا «1» قَالَ: عَلِّمُوهُمْ تَعْلِيمًا لَا يَغْلِبُهُمْ أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَهُمْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى قَالَ: خَيْرٌ مِنْكَ إِنْ أُطِيعَ، وَأَبْقَى مِنْكَ عَذَابًا إِنْ عُصِيَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يموتون

_ (1) . «الفرما» : مدينة بمصر.

[سورة طه (20) : الآيات 77 إلى 91]

فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَهْلِهَا فَإِنَّ النَّارَ تُمِيتُهُمْ إِمَاتَةً، ثُمَّ يَقُومُ الشُّفَعَاءُ فَيَشْفَعُونَ، فَيُؤْتَى بِهِمْ ضَبَائِرَ «1» عَلَى نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الْحَيَاةُ أَوِ الْحَيَوَانُ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْغُثَاءُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ، وَأَنْعَمَا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ: «إِنَّ أَهْلَ عِلِّيِّينَ لَيَرَوْنَ مَنْ فَوْقَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ» . [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 91] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) هَذَا شُرُوعٌ فِي إِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي الْأَعْرَافِ، وَفِي يُونُسَ، وَاللَّامُ فِي «لَقَدْ» هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْكِيدِ مَا لَا يَخْفَى، وأَنْ فِي «أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي» ، إِمَّا الْمُفَسِّرَةُ لِأَنَّ فِي الْوَحْيِ مَعْنَى الْقَوْلِ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِأَنْ أَسْرِ، أَيْ: أَسْرِ بِهِمْ مِنْ مِصْرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مُسْتَوْفًى. فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً أَيِ: اجْعَلْ لَهُمْ طَرِيقًا، وَمَعْنَى يَبَسًا: يَابِسًا، وُصِفَ بِهِ الْفَاعِلُ مُبَالَغَةً، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيْبَسَ لَهُمْ تِلْكَ الطَّرِيقَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَاءٌ وَلَا طِينٌ. وَقُرِئَ يَبَساً بِسُكُونِ الْبَاءِ عَلَى أَنَّهُ مخفف من يبسا المحرك، أو جمع يَابِسٍ كَصَحْبٍ فِي صَاحِبٍ. وَجُمْلَةُ لَا تَخافُ دَرَكاً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: آمِنًا مِنْ أَنْ يُدْرِكَكُمُ الْعَدُوُّ، أَوْ صِفَةٌ أُخْرَى لِطَرِيقٍ، وَالدَّرَكُ: اللَّحَاقُ بِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ لَا تَخَفْ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تَضْرِبْ لَا تَخَفْ، وَلَا تَخْشَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مُسْتَأْنَفٌ، أَيْ: وَلَا أَنْتَ تَخْشَى مِنْ فِرْعَوْنَ أَوْ مِنَ الْبَحْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَخافُ وَهِيَ أَرْجَحُ لِعَدَمِ الْجَزْمِ فِي تَخْشَى، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ صِفَةً أُخْرَى لطريق، أي:

_ (1) . أي جماعات.

لَا تَخَافُ مِنْهُ وَلَا تَخْشَى مِنْهُ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ أَتْبَعَ هَنَا مُطَاوِعُ تَبِعَ، يُقَالُ: أَتْبَعْتُهُمْ إِذَا تَبِعْتُهُمْ، وَذَلِكَ إِذَا سَبَقُوكَ فَلَحِقْتَهُمْ، فَالْمَعْنَى: تَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَمَعَهُ جُنُودُهُ. وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْأَصْلُ: أَتْبَعَهُمْ جُنُودَهُ، أَيْ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَتْبَعُوا مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَقُرِئَ فَاتَّبَعَهُمْ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: لَحِقَهُمْ بِجُنُودِهِ وَهُوَ مَعَهُمْ، كَمَا يُقَالُ: رَكِبَ الْأَمِيرُ بِسَيْفِهِ، أَيْ: مَعَهُ سَيْفُهُ، وَمَحَلُّ بِجُنُودِهِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: سَابِقًا جُنُودَهُ مَعَهُ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ أَيْ: عَلَاهُمْ وَأَصَابَهُمْ مَا عَلَاهُمْ وَأَصَابَهُمْ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، كما في قوله: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ. وَقِيلَ: غَشِيَهُمْ مَا سُمِعَتْ قِصَّتُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: غَشِيَهُمُ الْبَعْضُ الَّذِي غَشِيَهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَغْشَهُمْ كُلُّ مَاءِ الْبَحْرِ، بَلِ الَّذِي غَشِيَهُمْ بَعْضُهُ. فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الَّذِي غَرَّقَهُمْ بَعْضُ الْمَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّهْوِيلِ وَالتَّعْظِيمِ. وَقُرِئَ: فَغَشَّاهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشَّاهُمْ أَيْ: غَطَّاهُمْ مَا غَطَّاهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى أَيْ: أضلهم عن الرشد، وما هداهم إلى طريق النَّجَاةِ لِأَنَّهُ قَدَّرَ أَنْ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ لَا يَفُوتُونَهُ لِكَوْنِهِمْ بَيْنَ يَدَيْهِ يَمْشُونَ فِي طَرِيقٍ يَابِسَةٍ، وَبَيْنَ أَيْدِيهِمُ الْبَحْرُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما هَدى تَأْكِيدٌ لِإِضْلَالِهِ لِأَنَّ الْمُضِلَّ قَدْ يُرْشِدُ مَنْ يُضِلُّهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إِنْجَائِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْنَا لَهُمْ بَعْدَ إِنْجَائِهِمْ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لليهود المعاصرين لنبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْآبَاءِ مَعْدُودَةٌ مِنَ النِّعَمِ عَلَى الْأَبْنَاءِ، وَالْمُرَادُ بِعَدُوِّهِمْ هُنَا فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وَذَلِكَ بِإِغْرَاقِهِ وَإِغْرَاقِ قَوْمِهِ فِي الْبَحْرِ بِمَرْأًى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ انْتِصَابُ جَانِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، لَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّهُ مَكَانٌ مُعَيَّنٌ غَيْرُ مُبْهَمٍ، وَإِنَّمَا تَنْتَصِبُ الْأَمْكِنَةُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُبْهَمَةً. قَالَ مَكِّيٌّ: وَهَذَا أَصْلٌ لَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْنَى أَمَرْنَا مُوسَى أَنْ يَأْمُرَكُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ لِنُكَلِّمَهُ بِحَضْرَتِكُمْ فَتَسْمَعُوا الْكَلَامَ، وَقِيلَ: وُعِدَ مُوسَى بَعْدَ إِغْرَاقِ فِرْعَوْنَ أَنْ يَأْتِيَ جَانِبَ الطَّوْرِ، فَالْوَعْدُ كَانَ لِمُوسَى، وَإِنَّمَا خُوطِبُوا بِهِ لِأَنَّ الْوَعْدَ كَانَ لِأَجْلِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ «وَوَعَدْنَاكُمْ» بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنَّ الْوَعْدَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى خَاصَّةً، وَالْمُوَاعَدَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا في البقرة هذا المعنى، و «الأيمن» مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْجَانِبِ، وَالْمُرَادُ يَمِينُ الشَّخْصِ لِأَنَّ الْجَبَلَ لَيْسَ لَهُ يَمِينٌ وَلَا شِمَالٌ، فَإِذَا قِيلَ: خُذْ عَنْ يَمِينِ الْجَبَلِ فَمَعْنَاهُ عَنْ يَمِينِكَ مِنَ الْجَبَلِ. وَقُرِئَ بِجَرِّ «الْأَيْمَنِ» عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَنِّ بِالتَّرَنْجَبِينِ وَالسَّلْوَى بِالسَّمَّانِيِّ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَإِنْزَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَانَ فِي التِّيهِ. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمْ كُلُوا، وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبَاتِ: الْمُسْتَلَذَّاتُ، وَقِيلَ: الْحَلَالُ، عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي ذَلِكَ. وَقَرَأَ حمزة والكسائي والأعمش: قد أنجيتكم من عدوّكم ووعدتكم جانب الطور كلوا من طيبات ما رزقتكم بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِنُونِ العظمة فيها. وَلا تَطْغَوْا فِيهِ الطغيان: التَّجَاوُزُ أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُوا مَا هُوَ جَائِزٌ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَجْحَدُوا نِعْمَةَ اللَّهِ فَتَكُونُوا طَاغِينَ وَقِيلَ: لَا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ وَلَا تَنْسَوْا شُكْرَهَا وَقِيلَ: لَا تَعْصُوا الْمُنْعِمَ، أَيْ: لَا تَحْمِلَنَّكُمُ السَّعَةُ وَالْعَافِيَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الطُّغْيَانِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَإِنَّ

كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ طُغْيَانٌ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي هَذَا جَوَابُ النَّهْيِ أَيْ: يَلْزَمُكُمْ غَضَبِي وَيَنْزِلُ بِكُمْ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ، أَيْ: حُضُورِ وَقْتِ أَدَائِهِ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْكِسَائِيُّ فَيَحِلَّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَذَلِكَ قَرَءُوا «يَحْلُلْ» بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْكَسْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الضَّمِّ لِأَنَّ الضَّمَّ مِنَ الْحُلُولِ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ، وَيَحِلُّ بِالْكَسْرِ يَجِبُ، وَجَاءَ التَّفْسِيرُ بِالْوُجُوبِ لَا بِالْوُقُوعِ، وَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ. وَمَعْنَى فَقَدْ هَوى: فقد هلك. قَالَ الزَّجَّاجُ فَقَدْ هَوى أَيْ: صَارَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، وَهِيَ قَعْرُ النَّارِ، مِنْ هَوَى يَهْوِي هَوْيًا، أَيْ: سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَهَوَى فُلَانٌ، أَيْ: مَاتَ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أَيْ: لِمَنْ تَابَ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي أَعْظَمُهَا الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمَلِ عَمَلًا صَالِحًا مِمَّا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ وَحَسَّنَهُ ثُمَّ اهْتَدى أَيِ: اسْتَقَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَمُوتَ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: لَمْ يَشُكَّ فِي إِيمَانِهِ، وَقِيلَ: أَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقِيلَ: تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيَهْتَدِيَ بِهِ، وَقِيلَ: عَلِمَ أَنَّ لِذَلِكَ ثَوَابًا وَعَلَى تَرْكِهِ عِقَابًا، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ مِمَّا بَعْدَهُ. وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى هَذَا حِكَايَةٌ لِمَا جَرَى بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ مُوسَى عِنْدَ مُوَافَاتِهِ الْمِيقَاتَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَتِ الْمُوَاعَدَةُ أَنْ يُوَافِيَ مُوسَى وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ قَوْمِهِ، فَسَارَ مُوسَى بِهِمْ، ثُمَّ عَجَّلَ مِنْ بَيْنِهِمْ شَوْقًا إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مَا أَعَجَلَكَ؟ أَيْ: مَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى الْعَجَلَةِ حَتَّى تَرَكْتَ قَوْمَكَ وَخَرَجتَ مِنْ بَيْنِهِمْ؟ فَأَجَابَ مُوسَى عَنْ ذَلِكَ قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أَيْ: هُمْ بِالْقُرْبِ مِنِّي، تَابِعُونَ لِأَثَرِي، وَاصِلُونَ بَعْدِي. وَقِيلَ: لَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ يَسِيرُونَ خَلْفَهُ، بَلْ أَرَادَ أَنَّهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ يَنْتَظِرُونَ عَوْدَهُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ مُصَرِّحًا بِسَبَبِ مَا سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أَيْ: لِتَرْضَى عَنِّي بِمُسَارَعَتِي إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِكَ أَوْ لِتَزْدَادَ رِضًا عَنِّي بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قال عيسى بن عمر: بنو تيم يقولون أولى مَقْصُورَةً، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ أُولاءِ مَمْدُودَةً. وَقَرَأَ ابن أبي إسحاق ونصر وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَلى أَثَرِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَمَعْنَى «عَجِلْتُ إِلَيْكَ» : عَجِلْتُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرْتَنِي بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ لِتَرْضَى عَنِّي، يُقَالُ: رَجُلٌ عَجِلٌ وَعَجُولٌ وَعَجْلَانُ: بَيِّنُ الْعَجَلَةِ، وَالْعَجَلَةُ: خِلَافُ الْبُطْءِ. وَجُمْلَةُ قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ اللَّهُ لَهُ؟ فَقِيلَ: قَالَ إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ، أَيِ: ابْتَلَيْنَاهُمْ وَاخْتَبَرْنَاهُمْ وَأَلْقَيْنَاهُمْ فِي فِتْنَةٍ وَمِحْنَةٍ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: صَيَّرْنَاهُمْ مَفْتُونِينَ أَشْقِيَاءَ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ مِنْ بَعْدِ انْطِلَاقِكَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ مَعَ هَارُونَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أَيْ: دَعَاهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، فَدَخَلَ فِي دِينِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الظَّاهِرِ وَفِي قَلْبِهِ مَا فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْبَقَرِ، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ تُعْرَفُ بِالسَّامِرَةِ، وَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّمَا تَخَلَّفَ مُوسَى عَنِ الْمِيعَادِ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ لِمَا صَارَ مَعَكُمْ مِنَ الْحُلِيِّ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِإِلْقَائِهَا فِي النَّارِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْعِجْلِ مَا كَانَ فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قِيلَ: وَكَانَ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْمِهِ بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا: ذَا الْقَعْدَةِ، وَعَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْأَسَفُ: الشَّدِيدُ الْغَضَبُ، وَقِيلَ: الْحَزِينُ، وقد

مَضَى فِي الْأَعْرَافِ بَيَانُ هَذَا مُسْتَوْفًى. قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ التَّوْبِيخِيِّ، وَالْوَعْدُ الْحَسَنُ: وَعَدَهُمْ بِالْجَنَّةِ إِذَا أَقَامُوا عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يُسْمِعَهُمْ كلامه في التوراة في لِسَانِ مُوسَى لِيَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا، فَيَسْتَحِقُّوا ثَوَابَ عَمَلِهِمْ، وَقِيلَ: وَعَدَهُمُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ الْآيَةَ أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَوَعَدَكُمْ ذَلِكَ، فَطَالَ عَلَيْكُمُ الزَّمَانُ فَنَسِيتُمْ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: يَلْزَمَكُمْ وَيَنْزِلَ بِكُمْ، وَالْغَضَبُ: الْعُقُوبَةُ وَالنِّقْمَةُ، وَالْمَعْنَى: أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلًا يَكُونُ سَبَبَ حُلُولِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أَيْ: مَوْعِدَكُمْ إِيَّايَ، فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُمْ وَعَدُوهُ أَنْ يُقِيمُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ مِنَ الطُّورِ، وَقِيلَ: وَعَدُوهُ أَنْ يَأْتُوا عَلَى أَثَرِهِ إلى الميقات، فتوقّفوا فأجابوه، وقالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ الَّذِي وَعَدْنَاكَ بِمَلْكِنا بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعَاصِمٍ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِأَنَّهَا عَلَى اللُّغَةِ الْعَالِيَةِ الْفَصِيحَةِ، وَهُوَ مَصْدَرُ مَلَكْتُ الشَّيْءَ أَمْلِكُهُ مِلْكًا، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِمَلِكِنَا أُمُورَنَا، أَوْ بِمَلْكِنَا الصَّوَابَ، بَلْ أَخْطَأْنَا وَلَمْ نَمْلِكْ أَنْفُسَنَا وَكُنَّا مُضْطَرِّينَ إِلَى الْخَطَأِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِمَلْكِنا بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالْمَعْنَى بِسُلْطَانِنَا، أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا مُلْكٌ فَنُخْلِفُ مَوْعِدَكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْفَتْحَ وَالْكَسْرَ وَالضَّمَّ فِي بِمَلْكِنَا كُلُّهَا لُغَاتٍ فِي مَصْدَرِ مَلَكْتُ الشَّيْءَ وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُويْسٌ حُمِّلْنا بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ مُخَفَّفَةً، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا حِلْيَةَ الْقَوْمِ مَعَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَمَا حَمَلُوهَا كُرْهًا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا اسْتَعَارُوهَا مِنْهُمْ حِينَ أَرَادُوا الْخُرُوجَ مَعَ مُوسَى، وَأَوْهَمُوهُمْ أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي عِيدٍ لَهُمْ أَوْ وَلِيمَةٍ وَقِيلَ: هُوَ مَا أَخَذُوهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَذَفَهُمُ الْبَحْرُ إِلَى السَّاحِلِ، وَسُمِّيَتْ أَوْزَارًا، أَيْ: آثَامًا لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَخْذُهَا، وَلَا تَحِلُّ لَهُمُ الْغَنَائِمُ فِي شَرِيعَتِهِمْ. وَالْأَوْزَارُ فِي الْأَصْلِ الْأَثْقَالُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ بِالزِّينَةِ هُنَا الْحُلِيُّ فَقَذَفْناها أَيْ: طَرَحْنَاهَا فِي النَّارِ طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنْ إِثْمِهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: طَرَحْنَاهَا إِلَى السَّامِرِيِّ لِتَبْقَى لَدَيْهِ حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى فَيَرَى فِيهَا رَأْيَهُ فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أَيْ: فَمِثْلُ ذَلِكَ الْقَذْفِ أَلْقَاهَا السَّامِرِيُّ، قِيلَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ قَالَ لَهُمْ حِينَ اسْتَبْطَأَ الْقَوْمُ رُجُوعَ مُوسَى. إِنَّمَا احْتَبَسَ عَنْكُمْ لِأَجْلِ مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْحُلِيِّ، فَجَمَعُوهُ وَدَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَرَمَى بِهِ فِي النَّارِ وَصَاغَ لَهُمْ مِنْهُ عِجْلًا، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ وَهُوَ جِبْرِيلُ، فَصَارَ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَيْ: يَخُورُ كَمَا يَخُورُ الْحَيُّ مِنَ الْعُجُولِ، وَالْخُوَارُ: صَوْتُ الْبَقَرِ، وَقِيلَ: خُوَارُهُ كَانَ بِالرِّيحِ لِأَنَّهُ كَانَ عَمَلٌ فِيهِ خُرُوقًا، فَإِذَا دَخَلَتِ الرِّيحُ فِي جَوْفِهِ خَارَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ، فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى أَيْ قَالَ السَّامِرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَنَسِيَ أَيْ: فَضَلَّ مُوسَى وَلَمْ يَعْلَمْ مَكَانَ إِلَهِهِ هَذَا، وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فِي الطُّورِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يَذْكُرَ لَكُمْ أَنَّ هَذَا إِلَهُهُ وَإِلَهُكُمْ وَقِيلَ: النَّاسِي هُوَ السَّامِرِيُّ، أَيْ: تَرَكَ السَّامِرِيُّ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى مِنَ الْإِيمَانِ وَضَلَّ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا أَيْ: أفلا

يَعْتَبِرُونَ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي أَنَّ هَذَا الْعِجْلَ لَا يِرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا، أَيْ: لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ جَوَابًا، وَلَا يُكَلِّمُهُمْ إِذَا كَلَّمُوهُ، فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ الْمُكَالَمَةِ، فَإِنَّ فِي أَلَّا يَرْجِعُ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَفِيهَا ضَمِيرٌ مُقَدَّرٌ يَرْجِعُ إِلَى الْعِجْلِ، وَلِهَذَا ارْتَفَعَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فِي فِتْيَةٍ مِنْ سُيُوفِ الْهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ أَيْ: أَنَّهُ هَالِكٌ. وَقُرِئَ بِنَصْبِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّهَا النَّاصِبَةُ، وَجُمْلَةُ وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَرْجِعُ، أَيْ: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ ضَرًّا وَلَا يَجْلِبَ إِلَيْهِمْ نَفْعًا وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَالْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالتَّوْبِيخِ لَهُمْ، أَيْ: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلِ أن يأتي موسى ويرجع إليهم يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أَيْ: وَقَعْتُمْ فِي الْفِتْنَةِ بِسَبَبِ الْعِجْلِ، وَابْتُلِيتُمْ بِهِ، وَضَلَلْتُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ لِأَجْلِهِ، قِيلَ: وَمَعْنَى الْقَصْرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ «إِنَّمَا» هُوَ أَنَّ الْعَجَلَ صَارَ سَبَبًا لِفِتْنَتِهِمْ لَا لِرَشَادِهِمْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ فُتِنُوا بِالْعِجْلِ لَا بِغَيْرِهِ. وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي أي: ربكم الرحمن لا العجل، فاتبعوني في أمري لكم بعبادة الله، ولا تتبعوا السامريّ في أمره لكم بعبادة الْعِجْلُ، وَأَطِيعُوا أَمْرِي لَا أَمْرَهُ قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى أَجَابُوا هَارُونَ عَنْ قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ بِهَذَا الْجَوَابِ الْمُتَضَمِّنِ لِعِصْيَانِهِ، وَعَدَمِ قَبُولِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ وَحَذَّرَهُمْ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ أَيْ: لَنْ نَزَالَ مُقِيمِينَ عَلَى عِبَادَةِ هَذَا الْعِجْلِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى، فَيَنْظُرَ هَلْ يُقَرِّرُنَا عَلَى عِبَادَتِهِ أَوْ يَنْهَانَا عَنْهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ اعْتَزَلَهُمْ هَارُونُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِمَا فَعَلَهُ السَّامِرِيُّ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: يَبَساً قَالَ: يَابِسًا لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ وَلَا طِينٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَخافُ دَرَكاً مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَلا تَخْشى مِنَ الْبَحْرِ غَرَقًا. وَأَخْرَجَا عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ هَوى: شَقِيَ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ أيضا وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ قال: من الشِّرْكِ وَآمَنَ قَالَ: وَحَّدَ اللَّهَ وَعَمِلَ صالِحاً قَالَ: أَدَّى الْفَرَائِضَ ثُمَّ اهْتَدى قَالَ: لَمْ يُشَكِّكْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْفِرْيَابِيُّ عَنْهُ أيضا وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ قال: من تَابَ مِنَ الذَّنْبِ، وَآمَنَ مِنَ الشِّرْكِ، وَعَمِلَ صَالِحًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ثُمَّ اهْتَدى عَلِمَ أَنَّ لِعَمَلِهِ ثَوَابًا يُجْزَى عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ثُمَّ اهْتَدى قال: ثم استقام ولزم السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَعَجَّلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ الله: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى الْآيَةَ، قَالَ: فَرَأَى فِي ظِلِّ الْعَرْشِ رَجُلًا فَعَجِبَ لَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا رَبِّ؟ قَالَ: لَا أُحَدِّثُكَ مَنْ هُوَ، لَكِنْ سَأُخْبِرُكَ بِثَلَاثٍ فِيهِ: كَانَ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا يَعُقُّ والديه، ولا يمشي بالتميمة. وأخرج الفريابي وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا تَعَجَّلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ عَمِدَ السَّامِرِيُّ

[سورة طه (20) : الآيات 92 إلى 101]

فَجَمَعَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ حُلِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضَرَبَهُ عِجْلًا، ثُمَّ أَلْقَى الْقَبْضَةَ فِي جَوْفِهِ فَإِذَا هُوَ عِجْلٌ جَسَدٌ لَهُ خُوَارٌ، فَقَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا، فَلَمَّا أَنْ رَجَعَ مُوسَى أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ مَا قَالَ، فَقَالَ مُوسَى لِلسَّامِرِيِّ: مَا خَطْبُكَ قَالَ: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي «1» فَعَمِدَ مُوسَى إِلَى الْعِجْلِ، فَوَضَعَ مُوسَى عَلَيْهِ الْمَبَارِدَ فَبَرَدَهُ بِهَا وَهُوَ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ، فَمَا شَرِبَ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مِمَّنْ كَانَ يَعْبُدُ ذَلِكَ الْعِجْلَ إِلَّا اصْفَرَّ وَجْهُهُ مِثْلَ الذَّهَبِ، فَقَالُوا لِمُوسَى: مَا تَوْبَتُنَا؟ قَالَ: يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَأَخَذُوا السَّكَاكِينَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ أَخَاهُ وَأَبَاهُ وَابْنَهُ، وَلَا يُبَالِي بِمَنْ قَتَلَ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: مُرْهُمْ فَلْيَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لِمَنْ قُتِلَ وَتُبْتُ عَلَى مَنْ بَقِيَ. وَالْحِكَايَاتُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِمَلْكِنا قَالَ: بِأَمْرِنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ بِمَلْكِنا قَالَ: بِطَاقَتِنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بِسُلْطَانِنَا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ قَالَ: فَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يذكر لكم أن هذا إلهه. [سورة طه (20) : الآيات 92 الى 101] قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) جُمْلَةُ قالَ يَا هارُونُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُوسَى لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ أَخَذَ بِشُعُورِ رَأْسِ أَخِيهِ هَارُونَ وَبِلِحْيَتِهِ، وَقَالَ: مَا مَنَعَكَ مِنِ اتِّبَاعِي وَاللُّحُوقِ بِي عند ما وَقَعُوا فِي هَذِهِ الضَّلَالَةِ وَدَخَلُوا فِي الْفِتْنَةِ، وقيل معنى ما مَنَعَكَ أَلَّا تَتَّبِعَنِ: مَا مَنَعَكَ مِنِ اتِّبَاعِي فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: هَلَّا قَاتَلْتَهُمْ إِذْ قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي لَوْ كُنْتُ بَيْنَهُمْ لَقَاتَلْتُهُمْ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: هلّا فارقتهم، و «لا» في «أن لا تَتَّبِعَنِي» زَائِدَةٌ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِمَنَعَ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ مَنَعَكَ حِينَ رُؤْيَتِكَ لِضَلَالِهِمْ مِنِ اتِّبَاعِي. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَنَظَائِرِهِ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ خَالَفْتَ أَمْرِي لَكَ بِالْقِيَامِ لِلَّهِ وَمُنَابَذَةِ مَنْ خَالَفَ دِينَهُ وأقمت بين هؤلاء الذين اتّخذوا العجل

_ (1) . طه: 96. [.....]

إِلَهًا؟ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ «أَمْرِي» : هُوَ قَوْلُهُ الذي حكى الله عنه: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ «1» ، فَلَمَّا أَقَامَ مَعَهُمْ وَلَمْ يُبَالِغْ فِي الْإِنْكَارِ عليهم نسبه إلى عصيانه الَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي قُرِئَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ لِلْمِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْأُمِّ مَعَ كَوْنِهِ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ استعطافا له وترقيقا لقلبه، ومعنى لا بِرَأْسِي وَلَا بِشِعْرِ رَأْسِي، أَيْ: لَا تَفْعَلْ هَذَا بِي عُقُوبَةً مِنْكَ لِي، فَإِنَّ لِي عذرا هونِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ: خَشِيتُ إِنْ خَرَجْتُ عَنْهُمْ وَتَرَكْتُهُمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا فَتَقُولَ إِنِّي فَرَّقْتُ جَمَاعَتَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَارُونَ لَوْ خَرَجَ لَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وَتَخَلَّفَ مَعَ السَّامِرِيِّ عِنْدَ الْعِجْلِ آخَرُونَ، وَرُبَّمَا أَفْضَى ذلك إلى القتال بينهم، ومعنى لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي وَلَمْ تَعْمَلْ بِوَصِيَّتِي لَكَ فِيهِمْ، إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَهُمْ وَتَقُولَ لَمْ تَعْمَلْ بِوَصِيَّتِي لَكَ فِيهِمْ وَتَحْفَظْهَا، وَمُرَادُهُ بِوَصِيَّةِ مُوسَى لَهُ هُوَ قَوْلُهُ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ قال أبو عبيد: معنى لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي وَلَمْ تَنْتَظِرْ عَهْدِي وَقُدُومِي لِأَنَّكَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، فَاعْتَذَرَ هَارُونُ إِلَى مُوسَى هَاهُنَا بِهَذَا، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فِي الْأَعْرَافِ بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ هُنَالِكَ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي «2» ثُمَّ تَرَكَ موسى الْكَلَامَ مَعَ أَخِيهِ وَخَاطَبَ السَّامِرِيَّ فَ قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أَيْ: مَا شَأْنُكَ؟ وَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أَيْ: قَالَ السَّامِرِيُّ مُجِيبًا عَلَى مُوسَى: رَأَيْتُ مَا لَمْ يَرَوْا، أَوْ عَلِمْتُ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَفَطِنْتُ لِمَا لَمْ يَفْطُنُوا لَهُ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَى فَرَسِ الْحَيَاةِ، فَأُلْقِيَ فِي ذِهْنِهِ أَنْ يَقْبِضَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ لَا يَقَعُ عَلَى جَمَادٍ إِلَّا صَارَ حَيًّا. وَقَرَأَ حمزة والكسائي والأعمش وخلف ما لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَهِيَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يُخَاطِبَ مُوسَى بِذَلِكَ، وَيَدَّعِيَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مُوسَى، وَقُرِئَ بِضَمِّ الصَّادِ فِيهِمَا وَبِكَسْرِهَا فِي الْأَوَّلِ وَفَتْحِهَا فِي الثَّانِي، وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فَقَبَصْتُ قَبْصَةً بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فِيهِمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَبْضَ بِالْمُعْجَمَةِ: هُوَ الْأَخْذُ بِجَمِيعِ الْكَفِّ، وَبِالْمُهْمَلَةِ: بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَالْقُبْضَةُ بِضَمِّ الْقَافِ: الْقَدْرُ الْمَقْبُوضُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ مَا قَبَضْتُ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: وَرُبَّمَا جَاءَ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ قُرِئَ قَبْضَةً بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِهَا، وَمَعْنَى الْفَتْحِ الْمَرَّةُ مِنَ الْقَبْضِ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْمَقْبُوضِ وَهُوَ مَعْنَى الْقُبْضَةِ بِضَمِّ الْقَافِ، وَمَعْنَى مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ حَافِرُ فَرَسِ جِبْرِيلَ، وَمَعْنَى فَنَبَذْتُها فَطَرَحْتُهَا فِي الْحُلِيِّ الْمُذَابَةِ الْمَسْبُوكَةِ عَلَى صُورَةِ الْعِجْلِ وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ: زَيَّنَتْ أَيْ: وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّسْوِيلِ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَقِيلَ: مَعْنَى سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي: حدّثني نَفْسِي، فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى مِنْهُ ذَلِكَ قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ أَيْ: فَاذْهَبْ مِنْ بَيْنِنَا، وَاخْرُجْ عَنَّا، فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَيْ: مَا دمت حيا، وطول حَيَاتِكَ، أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ. الْمِسَاسُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُمَاسَّةِ أَيْ: لَا يَمَسُّكَ أَحَدٌ وَلَا تَمَسُّ أَحَدًا، لَكِنْ لَا بِحَسَبِ الِاخْتِيَارِ مِنْكَ،

_ (1) . الأعراف: 142. (2) . الأعراف: 150.

بَلْ بِمُوجِبِ الِاضْطِرَارِ الْمُلْجِئِ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَنْفِيَ السَّامِرِيَّ عَنْ قَوْمِهِ، وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لَا يُخَالِطُوهُ وَلَا يَقْرَبُوهُ وَلَا يُكَلِّمُوهُ عُقُوبَةً لَهُ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى ذَلِكَ هَرَبَ، فَجَعَلَ يَهِيمُ فِي الْبَرِّيَّةِ مَعَ السِّبَاعِ وَالْوَحْشِ لَا يَجِدُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَمَسُّهُ، حَتَّى صَارَ كَمَنْ يَقُولُ لَا مِسَاسَ لِبُعْدِهِ عَنِ النَّاسِ وَبُعْدِ النَّاسِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: حَمَّالُ رَايَاتٍ بِهَا قَنَاعِسًا ... حَتَّى تَقُولَ الْأُزْدُ لَا مَسَايِسًا قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُسِرَتِ السِّينُ لِأَنَّ الْكَسْرَةَ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: وَأَمَّا قَوْلُ الْعَرَبِ لَا مِسَاسَ مِثْلُ قِطَامِ فَإِنَّمَا بُنِيَ عَلَى الْكَسْرِ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنِ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْمَسُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ الْمُبَرِّدَ يَقُولُ: إِذَا اعْتَلَّ الشَّيْءُ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ وَجَبَ أَنْ يُبْنَى، وَإِذَا اعْتَلَّ مِنْ جِهَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ، لِأَنَّهُ ليس بعد الصرف إلا البناء، فمساس ودراك اعْتَلَّ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: مِنْهَا أَنَّهُ مَعْدُولٌ، ومنها أنه مؤنث، وَمِنْهَا أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ، فَلَمَّا وَجَبَ الْبِنَاءُ فِيهِ وَكَانَتِ الْأَلِفُ قَبْلَ السِّينِ سَاكِنَةً كُسِرَتِ السِّينُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَعْنِي الزَّجَّاجَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَطَأٌ، وَأَلْزَمَ أَبَا الْعَبَّاسِ: إِذَا سُمِّيَتِ امْرَأَةٌ بِفِرْعَوْنَ: أَنْ يَبْنِيَهُ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. وَقَدْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَبُو حَيْوَةَ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. وَحَاصِلُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى لَا مِسَاسَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِ مُمَاسَّةَ النَّاسِ، وَكَانَ إِذَا مَاسَّهُ أَحَدٌ حُمَّ الْمَاسُّ وَالْمَمْسُوسُ، فَلِذَلِكَ كَانَ يَصِيحُ إِذَا رَأَى أَحَدًا: لَا مِسَاسَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ مُخَالَطَتِهِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَارَ مَهْجُورًا فَلَا يَقُولُ هُوَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْحِكَايَةُ، أَيْ: أَجْعَلُكَ يَا سَامِرِيُّ بِحَيْثُ إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْ حَالِكِ قُلْتَ لَا مِسَاسَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ انْقِطَاعُ نَسْلِهِ، وَأَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُمَاسَّةِ الْمَرْأَةِ، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ أَيْ: لَنْ يُخْلِفَكَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَوْعِدَ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَوْعِدُ مَصْدَرٌ، أَيْ: إِنَّ لَكَ وَعْدًا لِعَذَابِكَ، وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: يُكَافِئُكَ اللَّهُ عَلَى مَا فَعَلْتَ فِي الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْيَزِيدِيُّ وَالْحَسَنُ «لَنْ تُخْلِفَهُ» بِكَسْرِ اللَّامِ، وَلَهُ على هذا الْقِرَاءَةِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: سَتَأْتِيهِ وَلَنْ تَجِدَهُ مُخْلِفًا، كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدْتُهُ، أَيْ: وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا. وَالثَّانِي: عَلَى التَّهْدِيدِ، أَيْ: لَا بُدَّ لَكَ مِنْ أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَنْ نُخْلِفَهُ بِالنُّونِ أَيْ: لَنْ يُخْلِفَهُ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَبِالْفَوْقِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، مَعْنَاهُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً ظَلْتَ أَصْلُهُ ظَلِلْتَ، فَحُذِفَتِ اللَّامُ الْأُولَى تَخْفِيفًا، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا. وَقَرَأَ الأعمش باللامين عَلَى الْأَصْلِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ظَلْتَ بِكَسْرِ الظَّاءِ. وَالْمَعْنَى: انْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي دُمْتَ وَأَقَمْتَ عَلَى عِبَادَتِهِ، وَالْعَاكِفُ: الْمُلَازِمُ لَنُحَرِّقَنَّهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنْ حَرَّقَهُ يُحَرِّقُهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ مَنْ أَحْرَقَهُ يُحْرِقُهُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَشْهَبُ وَالْعُقَيْلِيُّ لَنُحَرِّقَنَّهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً، مِنْ حَرَقْتُ الشَّيْءَ أَحْرِقُهُ حَرْقًا إِذَا بَرَدْتَهُ وَحَكَكْتَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، أَيْ: لَنُبَرِّدَنَّهُ

بِالْمَبَارِدِ، وَيُقَالُ لِلْمُبَرِّدِ الْمُحْرِقُ. وَالْقِرَاءَةُ الْأَوْلَى أَوْلَى، وَمَعْنَاهَا الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ، وَكَذَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ، وقد جمع بين هذه القراءات الثلاث بِأَنَّهُ أَحْرَقَ، ثُمَّ بَرَّدَ بِالْمُبَرِّدِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «لَنَذْبَحَنَّهُ ثُمَّ لَنَحْرِقَنَّهُ» ، وَاللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً النَّسْفُ: نَفْضُ الشَّيْءِ لِيَذْهَبَ بِهِ الرِّيحُ. قَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ لَنَنْسِفَنَّهُ بِضَمِّ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَالْمِنْسَفُ: مَا يُنْسَفُ بِهِ الطعام، وهو شيء متصوب الصَّدْرِ أَعْلَاهُ مُرْتَفِعٌ، وَالنُّسَافَةُ: مَا يَسْقُطُ مِنْهُ إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا هذا العجل الذي فتنكم بِهِ السَّامِرِيَّ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَسِعَ» بِكَسْرِ السِّينِ مُخَفَّفَةً. وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ، وَانْتِصَابُ عِلْمًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ، أَيْ: وَسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ «وَسَّعَ» بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَفَتْحِهَا فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيَكُونُ انْتِصَابُ عِلْمًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا، لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ فَاعِلٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَدْ مَرَّ نَحْوُ هَذَا فِي الْأَعْرَافِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ الْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ خَبَرَ مُوسَى كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ أَيْ: مِنْ أَخْبَارِ الْحَوَادِثِ الْمَاضِيَةِ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ لِتَكُونَ تَسْلِيَةً لَكَ وَدَلَالَةً عَلَى صِدْقِكَ، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: بَعْضُ أَخْبَارِ ذَلِكَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْقُرْآنُ، وَسُمِّيَ ذِكْرًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُوجِبَاتِ لِلتَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الشَّرَفُ كقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ثُمَّ تَوَعَّدَ سُبْحَانَهُ الْمُعْرِضِينَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ فَقَالَ: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً أَيْ: أَعْرَضَ عَنْهُ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَلَا عَمِلَ بِمَا فِيهِ، وَقِيلَ: أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ الْمُعْرِضَ عَنْهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا أَيْ: إِثْمًا عَظِيمًا وَعُقُوبَةً ثقيلة بسبب إعراضه خالِدِينَ فِيهِ فِي الْوِزْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ فِي جَزَائِهِ، وَانْتِصَابُ خَالِدِينَ عَلَى الْحَالِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أَيْ: بِئْسَ الْحِمْلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أَيْ: سَاءَ لَهُمْ حِمْلًا وِزْرُهُمْ، وَاللَّامُ لِلْبَيَانِ كَمَا فِي هَيْتَ لَكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ: أَمَرَهُ مُوسَى أَنْ يُصْلِحَ وَلَا يَتَّبِعَ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ. فَكَانَ مِنْ إِصْلَاحِهِ أَنْ يُنْكِرَ الْعِجْلَ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا في قوله: لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي قَالَ: لَمْ تَنْتَظِرْ قَوْلِي مَا أَنَا صَانِعٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ تَرْقُبْ ولم تَحْفَظْ قَوْلِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ قَالَ: عُقُوبَةٌ لَهُ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ قَالَ: لَنْ تَغِيبَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً قَالَ: أَقَمْتَ لَنُحَرِّقَنَّهُ قَالَ بِالنَّارِ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ قَالَ: لَنَذْرِيَنَّهُ فِي الْبَحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ لَنُحَرِّقَنَّهُ خَفِيفَةٌ وَيَقُولُ: إِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لَا تُحْرَقُ بِالنَّارِ، بَلْ تُسْحَلُ بِالْمِبْرَدِ، ثُمَّ تُلْقَى عَلَى النَّارِ فَتَصِيرُ رَمَادًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْيَمِّ: الْبَحْرُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْيَمِّ: النَّهْرُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً قَالَ: مَلَأَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً قَالَ:

[سورة طه (20) : الآيات 102 إلى 112]

الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وِزْراً قَالَ: إِثْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا يَقُولُ: بِئْسَ مَا حَمَلُوا. [سورة طه (20) : الآيات 102 الى 112] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً (106) لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) الظرف هو يَوْمَ يُنْفَخُ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ هُوَ اذْكُرْ، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْفَخُ بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو عَمْرٍو عَلَى قِرَاءَتِهِ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُ فَإِنَّهُ بِالنُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ يُنْفَخُ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْ إِسْرَافِيلُ، وَقَرَأَ أَبُو عِيَاضٍ فِي الصُّورِ بِفَتْحِ الْوَاوِ، جَمْعُ صُورَةٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَقَرَأَ طَلْحَةَ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْحَسَنُ يُحْشَرُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مبنيا للمفعول، ورفع «المجرمون» وَهُوَ خِلَافُ رَسْمِ الْمُصْحَفِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُجْرِمِينَ الْمُشْرِكُونَ وَالْعُصَاةُ الْمَأْخُوذُونَ بِذُنُوبِهِمُ الَّتِي لَمْ يَغْفِرْهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِ يَوْمَئِذٍ يَوْمُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَانْتِصَابُ زُرْقًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، أَيْ: زُرْقَ الْعُيُونِ، وَالزُّرْقَةُ: الْخُضْرَةُ فِي الْعَيْنِ كَعَيْنِ السِّنَّوْرِ، وَالْعَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِزُرْقَةِ العين، وقال الفرّاء زُرْقاً: أي عميا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: عِطَاشًا، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ لِأَنَّ سَوَادَ الْعَيْنِ يَتَغَيَّرُ بِالْعَطَشِ إِلَى الزُّرْقَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَنَّى بِقَوْلِهِ زُرْقًا عَنِ الطَّمَعِ الْكَاذِبِ إِذَا تَعَقَّبَتْهُ الْخَيْبَةُ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شخوص البصر من شدّة الخوف، ومنه قول الشاعر: لقد زرقت عيناك يا ابن مُعَكْبَرٍ ... كَمَا كُلُّ ضَبِيٍّ مِنَ اللُّؤْمِ أَزْرَقٌ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «1» مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ حَالَاتٍ وَمَوَاطِنَ تَخْتَلِفُ فِيهَا صِفَاتُهُمْ، وَيَتَنَوَّعُ عِنْدَهَا عَذَابُهُمْ، وَجُمْلَةُ يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا هُمْ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْخَفْتُ فِي اللُّغَةِ: السُّكُونُ، ثُمَّ قِيلَ لِمَنْ خَفَضَ صَوْتَهُ: خَفَتَهُ. وَالْمَعْنَى يَتَسَارَرُونَ، أَيْ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سِرًّا إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أَيْ: مَا لَبِثْتُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَشْرَ لَيَالٍ، وَقِيلَ: فِي الْقُبُورِ، وقيل: بين النفختين. والمعنى: أنهم يستقصرون مُدَّةَ مَقَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْقُبُورِ، أَوْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ لِشِدَّةِ مَا يَرَوْنَ مِنْ أهوال

_ (1) . الإسراء: 97.

الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَشْرِ عَشْرُ سَاعَاتٍ. ثُمَّ لَمَّا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أَيْ: أَعْدَلُهُمْ قَوْلًا، وَأَكْمَلُهُمْ رَأْيًا، وَأَعْلَمُهُمْ عِنْدَ نَفْسِهِ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أَيْ: مَا لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، وَنِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَمْثَلِهِمْ لِكَوْنِهِ أَدَلَّ عَلَى شِدَّةِ الهول، لا لكونه أقرب إلى الصدق وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ أَيْ: عَنْ حَالِ الْجِبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ كَانُوا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ، فَقَالَ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ: يَقْلَعُهَا قَلْعًا مِنْ أُصُولِهَا، ثُمَّ يُصَيِّرُهَا رَمْلًا يَسِيلُ سَيْلًا، ثُمَّ يُسَيِّرُهَا كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ تُطَيِّرُهَا الرِّيَاحُ هَكَذَا وَهَكَذَا، ثُمَّ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ لجواب شَرْطٌ مُقَدَّرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ سَأَلُوكَ فَقُلْ، أَوْ لِلْمُسَارَعَةِ إِلَى إِلْزَامِ السَّائِلِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَيَذَرُها رَاجِعٌ إِلَى الْجِبَالِ بِاعْتِبَارِ مَوَاضِعِهَا، أَيْ: فَيَذْرُ مَوَاضِعَهَا بَعْدَ نَسْفِ مَا كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْجِبَالِ قَاعًا صَفْصَفاً قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: القاع الصفصف: الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء، وقال الفراء: القاع: مستنقع الماء، والصفصف: القرعاء الْمَلْسَاءُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْقَاعُ: الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ، وَالْجَمْعُ: أَقْوُعٌ وَأَقْوَاعٌ وَقِيعَانٌ. وَالظَّاهِرُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّ الْقَاعَ: الْمَوْضِعُ الْمُنْكَشِفُ، وَالصَّفْصَفُ: الْمُسْتَوِي الْأَمْلَسُ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: وَكَمْ دُونَ بَيْتِكَ مِنْ صَفْصَفٍ ... وَدَكْدَاكِ رَمْلٍ وَأَعْقَادِهَا «1» وَانْتِصَابُ قَاعًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَذْرُ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ، وَالصَّفْصَفُ صِفَةٌ لَهُ، وَمَحَلُّ لَا تَرى فِيها عِوَجاً النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِقَاعًا، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْجِبَالِ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، وَالْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ التَّعَوُّجُ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَالْأَمْتُ: التِّلَالُ الصِّغَارُ، وَالْأَمْتُ فِي اللُّغَةِ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَقِيلَ: الْعِوَجُ: الْمَيْلُ، وَالْأَمْتُ: الْأَثَرُ، مِثْلُ الشِّرَاكِ، وَقِيلَ: الْعِوَجُ: الْوَادِي، وَالْأَمْتُ: الرَّابِيَةُ، وَقِيلَ: هما الارتفاع، وقيل: العوج: الصدوع، وَالْأَمْتُ: الْأَكَمَةُ، وَقِيلَ: الْأَمْتُ: الشُّقُوقُ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: الْأَمْتُ: أَنْ يَغْلُظَ فِي مَكَانٍ وَيَدِقَّ فِي مَكَانٍ، وَوَصَفُ مَوَاضِعِ الْجِبَالِ بِالْعِوَجِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ هَاهُنَا يَدْفَعُ مَا يُقَالُ: إِنَّ الْعِوَجَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَعَانِي وَبِفَتْحِهَا فِي الْأَعْيَانِ، وَقَدْ تَكَلَّفَ لِذَلِكَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا عَنْهُ غِنًى، وَفِي غَيْرِهِ سَعَةٌ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ أَيْ: يَوْمَ نَسْفِ الْجِبَالِ يَتَّبِعُ النَّاسُ دَاعِيَ اللَّهِ إِلَى الْمَحْشَرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي صَوْتَ الْحَشْرِ، وَقِيلَ: الدَّاعِي هُوَ إِسْرَافِيلُ إِذَا نَفَخَ فِي الصُّورِ لَا عِوَجَ لَهُ، أَيْ: لَا مَعْدِلَ لَهُمْ عَنْ دُعَائِهِ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَزِيغُوا عَنْهُ، أَوْ يَنْحَرِفُوا مِنْهُ، بَلْ يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقِيلَ: لَا عِوَجَ لِدُعَائِهِ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ أَيْ: خَضَعَتْ لهيبته، وقيل: ذلت، وقيل: سكتت، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ: لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ والجبال الخشّع

_ (1) . البيت للأعشى. «الدكداك» : الرمل المستوي. «الأعقاد» : المنعقد من الرمل المتراكب.

فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً الْهَمْسُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ صَوْتُ نَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا يَعْنِي صَوْتَ أَخْفَافِ الْإِبِلِ. وَقَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ نَفْسَهُ: لَيْثٌ يَدُقُّ الْأَسَدَ الْهَمُوسَا ... والأقهبين «1» الْفِيلَ وَالْجَامُوسَا يُقَالُ لِلْأُسْدِ: الْهَمُوسُ، لِأَنَّهُ يَهْمِسُ في الظلمة، أي: يطأ وطأ خفيا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا كُلُّ صَوْتٍ خَفِيٍّ سَوَاءٌ كَانَ بِالْقَدَمِ، أَوْ مِنَ الْفَمِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «فَلَا يَنْطِقُونَ إِلَّا هَمْسًا» يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ أَيْ: يَوْمَ يَقَعُ مَا ذَكَرَ لَا تنفع الشفاعة من شافع كائنا من كَانَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ أَيْ: إِلَّا شَفَاعَةَ مِنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أَيْ: رَضِيَ قَوْلَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، أَوْ رَضِيَ لِأَجْلِهِ قَوْلَ الشَّافِعِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ فِي أَنْ يُشْفَعَ لَهُ، وَكَانَ لَهُ قَوْلٌ يُرْضَى، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «2» ، وَقَوْلُهُ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «3» ، وقوله: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ «4» . يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أَيْ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ، وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَالْمُرَادُ هُنَا جَمِيعُ الْخَلْقِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، أَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَعْبُدَهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهَا وَمَا خَلْفَهَا وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أَيْ: بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا تُحِيطُ عُلُومُهُمْ بِذَاتِهِ، وَلَا بِصِفَاتِهِ، وَلَا بِمَعْلُومَاتِهِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أَيْ: ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى عَنَتْ فِي اللُّغَةِ خَضَعَتْ، يقال: عنا يَعْنُو عَنْوًا إِذَا خَضَعَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ: عَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ وَقِيلَ هُوَ مِنَ الْعَنَاءِ، بِمَعْنَى التَّعَبِ. وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أَيْ: خَسِرَ مِنْ حَمَلَ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ، وَقِيلَ: هُوَ الشِّرْكُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أَيِ: الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ إِيمَانٍ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ فَلا يَخافُ ظُلْماً يُصَابُ بِهِ مِنْ نَقْصِ ثَوَابٍ فِي الْآخِرَةِ وَلا هَضْماً الْهَضْمُ: النَّقْصُ وَالْكَسْرُ، يُقَالُ هَضَمْتُ لَكَ مِنْ حَقِّي، أَيْ: حَطَطْتُهُ وَتَرَكْتُهُ، وَهَذَا يَهْضِمُ الطَّعَامَ، أَيْ: يُنْقِصُ ثِقَلَهُ، وَامْرَأَةٌ هَضِيمُ الْكَشْحِ، أَيْ: ضَامِرَةُ الْبَطْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَمُجَاهِدٌ «لَا يَخَفْ» بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَخافُ عَلَى الْخَبَرِ.

_ (1) . سمّي الفيل والجاموس أقهبين للونهما وهو الغبرة. (2) . الأنبياء: 28. (3) . مريم: 87. (4) . المدثر: 48.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَقَالَ: رَأَيْتَ قَوْلَهُ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً وَأُخْرَى عُمْياً «1» قَالَ: إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيهِ حَالَاتٌ يَكُونُونَ فِي حَالٍ زُرْقًا، وَفِي حَالٍ عُمْيًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ قَالَ: يَتَسَارَرُون. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شيبة وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً قَالَ: أَوْفَاهُمْ عَقْلًا، وَفِي لَفْظٍ قَالَ: أَعْلَمُهُمْ في نفسه. وأخرج ابن المنذر وابن جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ: كَيْفَ يَفْعَلُ رَبُّكَ بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً قَالَ: لَا نَبَاتَ فِيهِ لَا تَرى فِيها عِوَجاً قَالَ: وَادِيًا وَلا أَمْتاً قَالَ: رَابِيَةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هِيَ الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا رَابِيَةٌ مُرْتَفِعَةٌ وَلَا انْخِفَاضٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِوَجاً قَالَ: مَيْلًا وَلا أَمْتاً قَالَ: الْأَمْتُ: الْأَثَرُ، مِثْلُ الشِّرَاكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلْمَةٍ تَطْوِي السَّمَاءَ، وَتَتَنَاثَرُ النُّجُومُ، وَتَذْهَبُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَيُنَادِي مُنَادٍ فَيَتَّبِعُ الناس الصوت يؤمّونه، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي الْآيَةِ: قَالَ: لَا عِوَجَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ قال: سكتت فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً قَالَ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا هَمْساً قَالَ: صَوْتُ وَطْءِ الْأَقْدَامِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سِرُّ الْحَدِيثِ وَصَوْتُ الْأَقْدَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ قَالَ: ذَلَّتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَشَعَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: خَضَعَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ: الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً قَالَ: شِرْكًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً قَالَ: شِرْكًا فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً قَالَ: ظُلْماً أَنْ يُزَادَ فِي سَيِّئَاتِهِ وَلا هَضْماً قَالَ: يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: لَا يَخَافُ أَنْ يُظْلَمَ فِي سَيِّئَاتِهِ، وَلَا يُهْضَمَ فِي حَسَنَاتِهِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَلا هَضْماً قَالَ: غَصَبًا.

_ (1) . هي في قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً [الإسراء: 97] .

[سورة طه (20) : الآيات 113 إلى 122]

[سورة طه (20) : الآيات 113 الى 122] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ مَعْطُوفٌ على قوله: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْزَالِ أَنْزَلْنَاهُ، أَيِ: الْقُرْآنَ حَالَ كَوْنِهِ قُرْآناً عَرَبِيًّا أَيْ: بِلُغَةِ الْعَرَبِ لِيَفْهَمُوهُ وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ بَيَنَّا فِيهِ ضُرُوبًا مِنَ الْوَعِيدِ تَخْوِيفًا وَتَهْدِيدًا، أَوْ كَرَّرْنَا فِيهِ بَعْضًا مِنْهُ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَيْ: كَيْ يَخَافُوا اللَّهَ فَيَتَجَنَّبُوا مَعَاصِيَهُ، وَيَحْذَرُوا عِقَابَهُ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أَيِ: اعْتِبَارًا وَاتِّعَاظًا، وَقِيلَ: وَرَعًا، وَقِيلَ: شَرَفًا، وَقِيلَ: طَاعَةً وَعِبَادَةً لِأَنَّ الذِّكْرَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «أَوْ نُحْدِثُ» بالنون فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَمَّا بَيَّنَ لِلْعِبَادِ عَظِيمَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَيْ: جَلَّ اللَّهُ عَنْ إِلْحَادِ الْمُلْحِدِينَ وَعَمَّا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ فِي صِفَاتِهِ، فَإِنَّهُ الْمَلِكُ الَّذِي بِيَدِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ أَيْ ذُو الْحَقِّ. وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أَيْ: يُتَمُّ إِلَيْكَ وَحْيُهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَادِرُ جِبْرِيلَ فَيَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ جِبْرِيلُ مِنَ الْوَحْيِ حِرْصًا مِنْهُ عَلَى مَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «1» عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا تُلْقِهِ إِلَى النَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ بَيَانُ تَأْوِيلِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَيَعْقُوبُ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَقْضِيَ» بِالنُّونِ ونصب وحيه وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي: سَلْ رَبَّكَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِكِتَابِهِ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَالْجُمْلَةُ مستأنفة مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ تَصْرِيفِ الْوَعِيدِ، أَيْ: لَقَدْ أَمَرْنَاهُ وَوَصَّيْنَاهُ، وَالْمَعْهُودُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي مِنْ نَهْيِهِ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَذَا الزَّمَانِ فَنَسِيَ قَرَأَ الْأَعْمَشُ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالنِّسْيَانِ هَنَا: تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَا وَقَعَ بِهِ العهد إليه فيه، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقِيلَ: النِّسْيَانُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّهُ نَسِيَ مَا عَهِدَ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِ وَيَنْتَهِي عَنْهُ، وَكَانَ آدَمُ مَأْخُوذًا بِالنِّسْيَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ النِّسْيَانُ مَرْفُوعًا عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَسْلِيَةُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. أَيْ: أَنَّ طَاعَةَ بَنِي آدَمَ لِلشَّيْطَانِ أَمْرٌ قَدِيمٌ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ إِنْ نَقَضُوا الْعَهْدَ فَقَدْ نَقَضَ أَبُوهُمْ آدَمُ، كَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْقُشَيْرِيُّ، واعترضه ابن عطية قائلا بأن كون

_ (1) . القيامة: 16.

آدَمَ مُمَاثِلًا لِلْكُفَّارِ الْجَاحِدِينَ بِاللَّهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقُرِئَ فَنُسِّيَ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ مَكْسُورَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: فَنَسَّاهُ إِبْلِيسُ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً الْعَزْمُ فِي اللُّغَةِ: تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ، وَالْمُضِيُّ عَلَى الْمُعْتَقَدِ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَقَدْ كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَصَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا وَسْوَسَ إِلَيْهِ إِبْلِيسُ لَانَتْ عَرِيكَتُهُ، وَفَتَرَ عَزْمُهُ، وَأَدْرَكَهُ ضَعْفُ الْبَشَرِ وَقِيلَ: الْعَزْمُ الصَّبْرُ، أَيْ: لَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْرًا عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ: لِفُلَانٍ عَزْمٌ، أَيْ: صَبْرٌ وَثَبَاتٌ عَلَى التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها، ومنه: كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا عَلَى الذنب، وبه قال ابن كيسان، وقيل: ولم نَجِدْ لَهُ رَأْيًا مَعْزُومًا عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي كَيْفِيَّةِ ظُهُورِ نِسْيَانِهِ وَفِقْدَانِ عَزْمِهِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ مقدّر، أي: وَاذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وَتَعْلِيقُ الذِّكَرِ بِالْوَقْتِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِذِكْرِ الْوَقْتِ كَانَ ذِكْرُ مَا فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ لَازِمًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى، وَمَعْنَى فَتَشْقى فَتَتْعَبُ فِي تَحْصِيلِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْمَعَاشِ كَالْحَرْثِ وَالزَّرْعِ، وَلَمْ يَقُلْ فَتَشْقَيَا لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ الْقِصَّةِ مَعَ آدَمَ وَحْدَهُ، ثُمَّ عَلَّلَ مَا يُوجِبُهُ ذَلِكَ النَّهْيُ بِمَا فِيهِ الرَّاحَةُ الْكَامِلَةُ عَنِ التَّعَبِ وَالِاهْتِمَامِ فَقَالَ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى أَيْ: فِي الْجَنَّةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لَكَ فِيهَا تَمَتُّعًا بِأَنْوَاعِ الْمَعَايِشِ وَتَنَعُّمًا بِأَصْنَافِ النِّعَمِ مِنَ الْمَآكِلِ الشَّهِيَّةِ وَالْمَلَابِسِ الْبَهِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَى عَنْهُ الْجُوعَ وَالْعُرْيَ أَفَادَ ثُبُوتَ الشِّبَعِ وَالِاكْتِسَاءِ له، وهكذا قوله: وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى فَإِنَّ نَفْيَ الظَّمَأِ يَسْتَلْزِمُ حُصُولَ الرَّيِّ وَوُجُودَ الْمَسْكَنِ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ مشقة الضحو. يقال ضحا الرجل يضحو ضَحْوًا إِذَا بَرَزَ لِلشَّمْسِ فَأَصَابَهُ حَرُّهَا، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا أَنَّهُ قَدْ كَفَاهُ الِاشْتِغَالَ بِأَمْرِ الْمَعَاشِ وَتَعَبِ الْكَدِّ فِي تَحْصِيلِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ أُصُولَ الْمَتَاعِبِ فِي الدُّنْيَا هِيَ تَحْصِيلُ الشِّبَعِ وَالرَّيِّ وَالْكُسْوَةِ وَالْكِنِّ، وَمَا عَدَا هَذِهِ فَفَضَلَاتٌ يُمْكِنُ الْبَقَاءُ بِدُونِهَا، وَهُوَ إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِآدَمَ أَنَّهُ إِنْ أَطَاعَهُ فَلَهُ فِي الْجَنَّةِ هَذَا كُلُّهُ، وَإِنْ ضَيَّعَ وَصِيَّتَهُ وَلَمْ يَحْفَظْ عَهْدَهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الدنيا، فيحلّ به التعب والنصب بما يَدْفَعُ الْجُوعَ وَالْعُرْيَ وَالظَّمَأَ وَالضَّحْوَ، فَالْمُرَادُ بِالشَّقَاءِ شَقَاءُ الدُّنْيَا كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَا شَقَاءُ الْأُخْرَى. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ كَدِّ يَدَيْهِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا «وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ» بِفَتْحِ أَنْ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى «إِنَّ لَكَ» . فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أَيْ: أَنْهَى إِلَيْهِ وَسْوَسَتَهُ، وَجُمْلَةُ قالَ يَا آدَمُ إِلَى آخِرِهِ إِمَّا بَدَلٌ مَنْ وَسْوَسَ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قال له في وسوسته؟ وشَجَرَةِ الْخُلْدِ هِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي مَنْ أَكْلَ مِنْهَا لَمْ يَمُتْ أَصْلًا وَمُلْكٍ لَا يَبْلى أَيْ: لَا يَزُولُ وَلَا يَنْقَضِي فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ فِي الْأَعْرَافِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمَعْنَى «طَفِقَا» فِي الْعَرَبِيَّةِ: أَقْبَلَا، وَقِيلَ: جَعْلًا يُلْصِقَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ التِّينِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أَيْ: عَصَاهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَغَوَى، فَضَلَّ عَنِ الصَّوَابِ أَوْ عَنْ مَطْلُوبِهِ، وَهُوَ الْخُلُودُ بأكل تلك الشجرة، وقيل: فسد عليه عيشته بِنُزُولِهِ إِلَى الدُّنْيَا، وَقِيلَ: جَهِلَ مَوْضِعَ رُشْدِهِ،

وَقِيلَ: بُشِمَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا بِاسْتِزْلَالِ إِبْلِيسَ وَخَدَائِعِهِ إِيَّاهُ، وَالْقَسَمُ لَهُ بالله إنه لَمِنَ النَّاصِحِينَ، حَتَّى دَلَّاهُ بِغُرُورٍ، وَلَمْ يَكُنْ ذَنْبُهُ عَنِ اعْتِقَادٍ مُتَقَدِّمٍ وَنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، فَنَحْنُ نَقُولُ: عَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، انْتَهَى. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخْبِرَ الْيَوْمَ بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ. قُلْتُ: لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ عَصَاهُ، وَكَمَا يُقَالُ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَمِمَّا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى: عَصَى أَبُو الْعَالَمِ وَهُوَ الَّذِي ... مِنْ طِينَةٍ صَوَّرَهُ اللَّهُ وَأَسْجَدَ الْأَمْلَاكَ مِنْ أَجْلِهِ ... وَصَيَّرَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ أَغْوَاهُ إِبْلِيسُ فَمَنْ ذَا أَنَا الْمِسْ ... كِينُ إِنَّ إِبْلِيسَ أَغْوَاهُ ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أَيِ: اصْطَفَاهُ وَقَرَّبَهُ. قَالَ ابْنُ فُورَكَ: كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ آدَمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِدَلِيلِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الِاجْتِبَاءَ وَالْهِدَايَةَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَجَائِزٌ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ وَجْهًا وَاحِدًا فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى أَيْ: تَابَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَهَدَاهُ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى التَّوْبَةِ. قِيلَ: وَكَانَتْ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ هُوَ وَحَوَّاءُ بِقَوْلِهِمَا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» وَقَدْ مَرَّ وَجْهُ تَخْصِيصِ آدَمَ بِالذِّكْرِ دُونَ حَوَّاءَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ أَيِ: الْقُرْآنُ ذِكْراً قَالَ: جِدًّا وَوَرَعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ: لَا تَعْجَلْ حَتَّى نُبَيِّنَهُ لَكَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَطَمَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ، فجاءت إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ تَطْلُبُ قِصَاصًا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا الْقِصَاصَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ الْآيَةَ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتِ: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «2» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْجَلْ الْآيَةَ قَالَ: لَا تَتْلُهُ عَلَى أَحَدٍ حَتَّى نُتِمَّهُ لَكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَنْدَهْ فِي التَّوْحِيدِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ. وأخرج عبد الغني بن سعيد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ أَنْ لَا تَقْرَبَ الشَّجَرَةَ فَنَسِيَ: فَتَرَكَ عَهْدِي وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً قَالَ: حِفْظًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنْهُ أَيْضًا فَنَسِيَ فَتَرَكَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً يَقُولُ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَزْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عنه أيضا: أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى قَالَ: لَا يُصِيبُكَ فِيهَا عَطَشٌ وَلَا حَرٌّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، وَهِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حاجّ

_ (1) . الأعراف: 23. (2) . النساء: 34.

[سورة طه (20) : الآيات 123 إلى 127]

آدَمَ مُوسَى قَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبِكَ وَأَشْقَيْتَهُمْ بِمَعْصِيَتِكَ، قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، أَوْ قَدَّرَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحجّ آدم موسى» . [سورة طه (20) : الآيات 123 الى 127] قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) قَوْلُهُ: قالَ اهْبِطا قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ، أَيِ: انْزِلَا مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ، خَصَّهُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْهُبُوطِ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الْبَشَرِ، ثُمَّ عَمَّمَ الْخِطَابَ لَهُمَا وَلِذَرِّيَّتِهِمَا فَقَالَ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ خَاطَبَهُمَا فِي هَذَا وَمَا بَعْدَهُ خِطَابُ الْجَمْعِ لِأَنَّهُمَا مَنْشَأُ الْأَوْلَادِ. وَمَعْنَى بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ تَعَادِيهِمْ فِي أَمْرِ الْمَعَاشِ وَنَحْوِهِ، فَيَحْدُثُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقِتَالُ وَالْخِصَامُ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى أَيْ: لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي أَيْ: عَنْ دِينِي، وَتِلَاوَةِ كِتَابِي، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَلَمْ يَتَّبِعْ هُدَايَ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أَيْ: فَإِنَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَعِيشَةً ضَنْكًا، أَيْ: عَيْشًا ضَيِّقًا. يُقَالُ: مَنْزِلٌ ضَنْكٌ وَعَيْشٌ ضَنْكٌ، مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَمَا فَوْقَهُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، قَالَ عَنْتَرَةُ: إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَوْ تُمَثَّلُ مُثِّلَتْ ... مِثْلِي إِذَا نَزَلُوا بِضَنْكِ الْمُنَزِلِ وَقُرِئَ ضُنْكَى بِضَمِّ الضَّادِ عَلَى فُعْلَى. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ وَتَمَسَّكَ بِدِينِهِ أَنْ يَعِيشَ فِي الدُّنْيَا عَيْشًا هَنِيًّا غَيْرَ مَهْمُومٍ وَلَا مَغْمُومٍ وَلَا مُتْعِبٍ نَفْسَهُ، كما قال سبحانه: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «1» ، وَجَعَلَ لِمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ هُدَاهُ وَأَعْرَضَ عَنْ دِينِهِ أَنْ يَعِيشَ عَيْشًا ضَيِّقًا وَفِي تَعَبٍ وَنَصَبٍ، وَمَعَ مَا يُصِيبُهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَتَاعِبِ، فَهُوَ فِي الْأُخْرَى أَشَدُّ تَعَبًا وَأَعْظَمُ ضِيقًا وَأَكْثَرُ نَصَبًا، وَذَلِكَ مَعْنَى وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى أَيْ: مَسْلُوبَ الْبَصَرِ، وَقِيلَ: المراد العمى عَنِ الْحُجَّةِ، وَقِيلَ: أَعْمَى عَنْ جِهَاتِ الْخَيْرِ لَا يَهْتَدِي إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَقَدْ قِيلَ: إن المراد بالمعيشة الضَّنْكَى عَذَابُ الْقَبْرِ، وَسَيَأْتِي مَا يُرَجِّحُ هَذَا وَيُقَوِّيهِ قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً فِي الدُّنْيَا قالَ كَذلِكَ أَيْ: مِثْلِ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَنْتَ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها أَيْ: أَعْرَضْتَ عَنْهَا، وَتَرَكْتَهَا، وَلَمْ تَنْظُرْ فِيهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أَيْ: مِثْلِ ذَلِكَ النِّسْيَانِ الَّذِي كُنْتَ فَعَلْتَهُ فِي الدُّنْيَا تُنْسَى، أَيْ: تُتْرَكُ فِي الْعَمَى وَالْعَذَابِ فِي النَّارِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ: إِنَّهُ يَخْرُجُ بَصِيرًا مِنْ قَبْرِهِ فَيَعْمَى فِي حَشْرِهِ وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ أي: مثل

_ (1) . النحل: 97.

[سورة طه (20) : الآيات 128 إلى 135]

ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِيهِ، وَالْإِسْرَافُ: الِانْهِمَاكُ فِي الشَّهَوَاتِ، وَقِيلَ: الشِّرْكُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بَلْ كَذَّبَ بِهَا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ أَيْ: أَفْظَعُ مِنَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكَى وَأَبْقى أَيْ: أَدْوَمُ وَأَثْبَتُ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ اتَّبَعَ كِتَابَ اللَّهِ هَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلَالَةِ فِي الدُّنْيَا، وَوَقَاهُ سُوءَ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَجَارَ اللَّهُ تَابِعَ الْقُرْآنِ مِنْ أَنْ يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا أَوْ يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى قَالَ: لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وسعيد ابن مَنْصُورٍ، وَمُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ: مَعِيشَةً ضَنْكاً قَالَ: «عَذَابُ الْقَبْرِ» . وَلَفَظُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: «يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه» . ولفظ ابن أبي حاتم قال: «ضمة القبر» . وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قَالَ: «الْمَعِيشَةُ الضَّنْكَى: أَنْ يُسَلَّطَ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً يَنْهَشُونَ لَحْمَهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: رَفْعُهُ مُنْكَرٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قَالَ: «عَذَابُ الْقَبْرِ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: إِسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ والطبراني وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قَالَ: عَذَابُ الْقَبْرِ، وَمَجْمُوعُ ما ذكرنا هنا يرجّح تَفْسِيرَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكَى بِعَذَابِ الْقَبْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ «عَذَابِ الْقَبْرِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ فَسَّرَ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَى بِالشَّقَاءِ. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قَالَ: عَمِيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا جَهَنَّمَ، وَفِي لَفْظٍ: لَا يُبْصِرُ إِلَّا النَّارَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ قَالَ: مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ. [سورة طه (20) : الآيات 128 الى 135] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لَا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)

قَوْلُهُ: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، كَمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا، وَفَاعِلُ يَهْدِ هُوَ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهَا، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَأَنْكَرَ الْبَصْرِيُّونَ مِثْلَ هَذَا لِأَنَّ الْجُمَلَ لَا تَقَعُ فَاعِلًا، وَجَوَّزَهُ غَيْرُهُمْ. قَالَ الْقَفَّالُ: جَعَلَ كَثْرَةَ مَا أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ مُبَيَّنًا لَهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ كَمِ اسْتِفْهَامٌ، فَلَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمُ الْأَمْرُ بِإِهْلَاكِنَا مَنْ أَهْلَكْنَاهُ، وَحَقِيقَتُهُ تَدُلُّ عَلَى الْهُدَى، فَالْفَاعِلُ هُوَ الْهُدَى، وَقَالَ: كَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَهْلَكْنَا، وَقِيلَ: إِنَّ فَاعِلَ يَهْدِ ضَمِيرٌ لِلَّهِ أَوْ لِلرَّسُولِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ تُفَسِّرُهُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ: أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِأَهْلِ مَكَّةَ خَبَرُ مَنْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ حَالَ كَوْنِ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ وَيَتَقَلَّبُونَ فِي دِيَارِهِمْ، أَوْ حَالَ كَوْنِ هَؤُلَاءِ يَمْشُونَ في مساكن القرون الذي أَهْلَكْنَاهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ لِلتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الْمَعِيشَةِ فَيَرَوْنَ بِلَادَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ خَاوِيَةً خَارِبَةً مِنْ أَصْحَابِ الْحَجْرِ وَثَمُودَ وَقُرَى قَوْمِ لُوطٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اعْتِبَارَهُمْ لِئَلَّا يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ نَهْدِ بِالنُّونِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَاضِحٌ، وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَتَقْرِيرٌ لِلْهِدَايَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى مَضْمُونِ كَمْ أَهْلَكْنَا إِلَى آخِرِهِ. وَالنُّهَى: جُمَعُ نُهْيَةٍ، وَهِيَ الْعَقْلُ: أَيْ لِذَوِي الْعُقُولِ الَّتِي تَنْهَى أَرْبَابَهَا عَنِ الْقَبِيحِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أَيْ: وَلَوْلَا الْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ، وَهِيَ وَعْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِتَأْخِيرِ عَذَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ لَكانَ عِقَابُ ذُنُوبِهِمْ لِزاماً أَيْ: لَازِمًا لَهُمْ، لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمْ بِحَالٍ وَلَا يَتَأَخَّرُ. وَقَوْلُهُ: وَأَجَلٌ مُسَمًّى مَعْطُوفٌ عَلَى كَلِمَةِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَوْ يَوْمُ بَدْرٍ وَاللِّزَامُ مَصْدَرُ لَازَمَ، قِيلَ: وَيَجُوزُ عَطْفُ «وَأَجَلٌ مُسَمَّى» عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي كَانَ الْعَائِدِ إِلَى الْأَخْذِ الْعَاجِلِ الْمَفْهُومِ مِنَ السِّيَاقِ، تَنْزِيلًا لِلْفَصْلِ بِالْخَبَرِ مَنْزِلَةَ التَّأْكِيدِ، أَيْ: لَكَانَ الْأَخْذُ الْعَاجِلُ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَازِمَيْنِ لَهُمْ كَمَا كَانَا لَازِمَيْنِ لِعَادٍ وَثَمُودَ، وَفِيهِ تَعَسُّفٌ ظَاهِرٌ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ فَقَالَ: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَطَاعِنِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَحْتَفِلُ بِهِمْ فَإِنَّ لِعَذَابِهِمْ وَقْتًا مَضْرُوبًا لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ. وَقِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِهِ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: وَالْمُرَادُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَمَا يفيد قَوْلُهُ: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ غُرُوبِها فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ الْعَتَمَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْآنَاءِ: السَّاعَاتُ، وَهِيَ جَمْعُ إِنًى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ، وَهُوَ السَّاعَةُ، وَمَعْنَى فَسَبِّحْ أَيْ: فَصَلِّ وَأَطْرافَ النَّهارِ أَيِ: الْمَغْرِبَ وَالظُّهْرَ لِأَنَّ الظُّهْرَ فِي آخِرِ طَرَفِ النَّهَارِ الْأَوَّلِ، وَأَوَّلِ طَرَفِ النَّهَارِ الْآخَرِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى

صَلَاةِ الظُّهْرِ هِيَ بِقَوْلِهِ: وَقَبْلَ غُرُوبِها لِأَنَّهَا هِيَ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ، وَلَوْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَاةِ، بَلِ الْمُرَادُ التَّسْبِيحُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، أَيْ: قَوْلُ الْقَائِلِ سُبْحَانَ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَعِيدًا مِنَ الصواب، والتسبيح وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ، وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى إِلَّا لِقَرِينَةٍ تَصْرِفُ ذَلِكَ إِلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَجُمْلَةُ لَعَلَّكَ تَرْضى مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ فَسَبِّحْ، أَيْ: سَبِّحْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ رَجَاءَ أَنْ تَنَالَ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَا تَرْضَى بِهِ نَفْسُكَ، هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ تُرْضَى بِضَمِّ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ: يَرْتَضِيكَ رَبُّكَ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الحجر «1» . والمعنى: لا تطل نظر عينيك، و «أَزْواجاً» مفعول «متعنا» ، و «زهرة» مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ، أَوْ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: جَعَلْنَا أَوْ أَعْطَيْنَا، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ فِي «بِهِ» بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ، وَهُوَ النَّصْبُ لَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، فَإِنَّهُ مَجْرُورٌ كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِهِ أَخَاكَ. وَرَجَّحَ الْفَرَّاءُ النَّصْبَ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُنْتَصِبَةً عَلَى الْمَصْدَرِ، مِثْلَ «صِبْغَةَ اللَّهِ» وَ «وَعَدَ اللَّهُ» وزَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا: زِينَتُهَا وَبَهْجَتُهَا بِالنَّبَاتِ وَغَيْرِهِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ زَهْرَةَ بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَهِيَ نَوْرُ النَّبَاتِ، وَاللَّامُ فِي لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَتَّعْنَا، أَيْ: لِنَجْعَلَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ وَضَلَالَةً، ابْتِلَاءً مِنَّا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ «2» ، وقيل: لنعذبنهم، وَقِيلَ: لِنُشَدِّدَ عَلَيْهِمْ فِي التَّكْلِيفِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى أَيْ: ثَوَابُ اللَّهِ، وَمَا ادَّخَرَ لِصَالِحِي عِبَادِهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا رَزَقَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ، وَهَذَا يَنْقَطِعُ، وَهُوَ مَعْنَى: وَأَبْقى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الرِّزْقِ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِهِا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْخَيْرِيَّةِ الْمُحَقَّقَةَ وَالدَّوَامَ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ فِي الرِّزْقِ الْأُخْرَوِيِّ لَا الدُّنْيَوِيِّ، وَإِنْ كَانَ حَلَالًا طَيِّبًا: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «3» . وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَأْمُرَ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ بَيْتِهِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ أُمَّتِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ لَهُ بِالصَّلَاةِ، بَلْ قَصَرَ الْأَمْرَ عَلَى أَهْلِهِ، إِمَّا لِكَوْنِ إِقَامَتِهِ لَهَا أَمْرًا مَعْلُومًا، أَوْ لِكَوْنِ أَمْرِهِ بِهَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، أَوْ لِكَوْنِ أَمْرِهِ بِالْأَمْرِ لِأَهْلِهِ أَمْرًا له، ولهذا قال: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أي: اصْبِرْ عَلَى الصَّلَاةِ، وَلَا تَشْتَغِلْ عَنْهَا بِشَيْءٍ من أمور الدنيا لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أَيْ: لَا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ نَفْسَكَ وَلَا أَهْلَكَ، وَتَشْتَغِلَ بِذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَنَرْزُقُهُمْ وَلَا نُكَلِّفُكَ ذَلِكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أَيِ: الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ، وَهِيَ الْجَنَّةُ لِأَهْلِ التَّقْوَى عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى هِيَ مَلَاكُ الْأَمْرِ، وَعَلَيْهَا تَدُورُ دَوَائِرُ الْخَيْرِ وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ: هَلَّا يَأْتِينَا مُحَمَّدٌ بِآيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ، كَمَا كَانَ يَأْتِي بِهَا مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَذَلِكَ كَالنَّاقَةِ وَالْعَصَا، أَوْ هَلَّا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي قَدِ اقْتَرَحْنَاهَا عَلَيْهِ؟ فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى يُرِيدُ بالصحف

_ (1) . الحجر: 88. [.....] (2) . الكهف: 7. (3) . النحل: 96.

الْأُولَى التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَسَائِرَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِنُبُوَّتِهِ وَالتَّبْشِيرُ بِهِ، وَذَلِكَ يَكْفِي، فَإِنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِصِدْقِهَا وَصِحَّتِهَا، وَفِيهَا مَا يَدْفَعُ إِنْكَارَهُمْ لِنُبُوَّتِهِ، وَيُبْطِلُ تَعَنُّتَاتِهِمْ وَتَعَسُّفَاتِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ إِهْلَاكُنَا لِلْأُمَمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاقْتَرَحُوا الْآيَاتِ، فَمَا يُؤَمِّنُهُمْ إِنْ أَتَتْهُمُ الْآيَاتُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ كَحَالِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَوْ لَمْ تَأْتِهِمْ آيَةٌ هِيَ أُمُّ الْآيَاتِ وَأَعْظَمُهَا فِي بَابِ الْإِعْجَازِ يَعْنِي الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ بُرْهَانٌ لِمَا فِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَحَفْصٌ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ لِأَنَّ مَعْنَى الْبَيِّنَةِ الْبَيَانُ وَالْبُرْهَانُ، فَذَكَرُوا الْفِعْلَ اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الْبَيِّنَةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ القراءة ابن عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَيَجُوزُ «بَيِّنَةٌ» بِالتَّنْوِينِ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِذَا نُوِّنَتْ بَيِّنَةٌ وَرُفِعَتْ جُعِلَتْ «مَا» بَدَلًا مِنْهَا، وَإِذَا نُصِبَتْ فَعَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى مُبَيَّنًا، وَهَذَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْجَوَازُ النَّحْوِيُّ وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْقِرَاءَةُ بِهِ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ أَيْ: مِنْ قَبْلِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِ الْبَيِّنَةِ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ لَقالُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أَيْ: هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فِي الدُّنْيَا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الرَّسُولُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَنَخْزى بِدُخُولِ النَّارِ، وَقُرِئَ نَذِلَّ، وَنَخْزى عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ مَعْذِرَةَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ قَبْلَ إِهْلَاكِهِمْ، وَلِهَذَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ «1» . قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ مُتَرَبِّصٌ، أَيْ: مُنْتَظِرٌ لِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، فَتَرَبَّصُوا أَنْتُمْ فَسَتَعْلَمُونَ عَنْ قَرِيبٍ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أَيْ: فَسَتَعْلَمُونَ بِالنَّصْرِ وَالْعَاقِبَةِ مَنْ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَمَنِ اهْتَدى مِنَ الضلالة ونزع عن الغواية، و «من» فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْفَرَّاءُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَعْنَى مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ مَنْ لَمْ يَضِلَّ، وَإِلَى أَنَّ مَعْنَى مَنِ اهْتَدى مَنْ ضَلَّ ثُمَّ اهْتَدَى، وَقِيلَ: «مَنْ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَحُكِيَ عَنِ الزَّجَّاجَ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ أَبُو رَافِعٍ «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ السَّوِيِّ عَلَى فِعْلَى، وَرُدَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِأَنَّ تَأْنِيثَ الصِّرَاطِ شَاذٌّ، وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَسَطِ وَالْعَدْلِ، اه. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أَلَمْ نُبَيِّنْ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ نَحْوَ عَادٍ وَثَمُودَ وَمَنْ أُهْلِكَ مِنَ الْأُمَمِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى يَقُولُ: هَذَا مِنْ مَقَادِيمِ الْكَلَامِ، يَقُولُ: لَوْلَا كَلِمَةٌ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْأَجَلُ الْمُسَمَّى: الْكَلِمَةُ الَّتِي سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكانَ لِزاماً قَالَ: مَوْتًا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عنه في قوله:

_ (1) . الملك: 9.

وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ الْآيَةَ قَالَ: هِيَ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَالَ: «قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَنْ صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، وَقَرَأَ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عِمَارَةَ بْنِ رُؤْبَةَ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَرَائِطِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «أَضَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَيْفًا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مَا يُصْلِحُهُ، فَأَرْسَلَنِي إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَنْ بِعْنَا أَوْ سَلِّفْنَا دَقِيقًا إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ، فَقَالَ: لَا إِلَّا بِرَهْنٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَمَّا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ، أَمِينٌ فِي الْأَرْضِ، وَلَئِنْ أَسْلَفَنِي أَوْ بَاعَنِي لَأَدَّيْتُ إِلَيْهِ، اذْهَبْ بِدِرْعِي الْجَدِيدِ، فَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» كأنه يُعَزِّيهِ عَنِ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا، قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَرَكَاتُ الْأَرْضِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ النَّجَّارَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ كَانَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَجِيءُ إِلَى بَابِ عَلِيٍّ صَلَاةَ الْغَدَاةِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ يَقُولُ: «الصَّلَاةُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ» : إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الْحَمْرَاءِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ثَابِتٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَتْ أَهْلَهُ خَصَاصَةٌ نَادَى أَهْلَهُ: يَا أَهْلَاهُ صَلُّوا صَلُّوا» قَالَ ثَابِتٌ: وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، بِإِسْنَادٍ قَالَ السُّيُوطِيُّ: صَحِيحٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَتْ بِأَهْلِهِ شِدَّةٌ أَوْ ضِيقٌ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَقَرَأَ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ الْآيَةَ.

_ (1) . الأحزاب: 33.

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وهي مائة واثنتا عشرة آية. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَنُو إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءِ هُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأَوَّلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَكْرَمَ عَامِرٌ مَثْوَاهُ، وَكَلَّمَ فِيهِ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنِّي اسْتَقْطَعْتُ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَادِيًا مَا فِي الْعَرَبِ وَادٍ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَقْطَعَ لَكَ مِنْهُ قِطْعَةً تَكُونُ لَكَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ عَامِرٌ: لَا حَاجَةَ لِي فِي قِطْعَتِكَ، نَزَلَتِ الْيَوْمَ سُورَةٌ أَذْهَلَتْنَا عَنِ الدُّنْيَا. اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) يُقَالُ: قَرُبَ الشَّيْءُ وَاقْتَرَبَ، وَقَدِ اقْتَرَبَ الْحِسَابُ: أَيْ قَرُبَ الْوَقْتُ الَّذِي يُحَاسَبُونَ فِيهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ وَقْتُ حِسابُهُمْ أَيِ: الْقِيَامَةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «2» . وَاللَّامُ فِي لِلنَّاسِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ، وَتَقْدِيمُهَا هِيَ وَمَجْرُورِهَا عَلَى الْفَاعِلِ لِإِدْخَالِ الرَّوْعَةِ، وَمَعْنَى اقْتِرَابِ وَقْتِ الْحِسَابِ: دُنُوُّهُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَمَوْتُ كُلِّ إِنْسَانٍ قِيَامُ سَاعَتِهِ، وَالْقِيَامَةُ أَيْضًا قَرِيبَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، فَمَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا أَقَلُّ مِمَّا مَضَى، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْعُمُومُ. وَقِيلَ: الْمُشْرِكُونَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحِسَابِ: عَذَابُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أي: هم في

_ (1) . قال القرطبي: يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن، كالمال التّلاد. (2) . القمر: 1.

غَفْلَةٍ بِالدُّنْيَا مُعْرِضُونَ عَنِ الْآخِرَةِ، غَيْرُ مُتَأَهِّبِينَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْقِيَامِ بِفَرَائِضِهِ، وَالِانْزِجَارِ عَنْ مَنَاهِيهِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِوَصْفِ الذِّكْرِ لِكَوْنِهِ مُحْدَثًا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ لِأَنَّ الذِّكْرَ هُنَا هُوَ الْقُرْآنُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي حُدُوثِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ لِأَنَّهُ مُتَجَدِّدٌ فِي النُّزُولِ. فَالْمَعْنَى مُحْدَثٌ تَنْزِيلُهُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: أَعْنِي قِدَمَ الْقُرْآنِ وَحُدُوثَهُ قَدِ ابْتُلِيَ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ فِي الدَّوْلَةِ الْمَأْمُونِيَّةِ وَالْمُعْتَصِمِيَّةِ وَالْوَاثِقِيَّةِ، وَجَرَى لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مَا جَرَى مِنَ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَالْحَبْسِ الطَّوِيلِ، وَضُرِبَ بِسَبَبِهَا عُنُقُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْخُزَاعِيِّ، وَصَارَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا بَعْدَهُ، وَالْقِصَّةُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَتِهَا طَالَعَ تَرْجَمَةَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ «النُّبَلَاءِ» لِمُؤَرِّخِ الْإِسْلَامِ الذَّهَبِيِّ. وَلَقَدْ أَصَابَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ بِامْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَحُدُوثِهِ، وَحَفِظَ اللَّهُ بِهِمْ أُمَّةَ نَبِيِّهِ عَنِ الِابْتِدَاعِ، وَلَكِنَّهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ جَاوَزُوا ذَلِكَ إِلَى الْجَزْمِ بِقِدَمِهِ وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كَفَّرُوا مَنْ قَالَ بِالْحُدُوثِ، بَلْ جَاوَزُوا ذَلِكَ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ قال لفظي: القرآن مخلوق، بَلْ جَاوَزُوا ذَلِكَ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ وَقَفَ، وَلَيْتَهُمْ لَمْ يُجَاوِزُوا حَدَّ الْوَقْفِ وَإِرْجَاعِ الْعِلْمِ إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى وَقْتِ قِيَامِ الْمِحْنَةِ وَظُهُورِ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَا نُقِلَ عَنْهُمْ كَلِمَةٌ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى مَا دَعَوْا إِلَيْهِ، وَالتَّمَسُّكُ بِأَذْيَالِ الْوَقْفِ، وَإِرْجَاعِ عِلْمِ ذَلِكَ إِلَى عَالِمِهِ هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى، وَفِيهِ السَّلَامَةُ وَالْخُلُوصُ مِنْ تَكْفِيرِ طَوَائِفَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا مِنْ فَاعِلِ استمعوه، ولاهِيَةً قُلُوبُهُمْ حَالٌ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي الِاسْتِمَاعِ مَعَ اللَّعِبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَلَهْوَةِ الْقُلُوبِ، وَقُرِئَ «لَاهِيَةٌ» بِالرَّفْعِ، كَمَا قُرِئَ «مُحْدَثٌ» بِالرَّفْعِ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا النَّجْوَى: اسْمٌ مِنَ التَّنَاجِي، وَالتَّنَاجِي لَا يَكُونُ إِلَّا سِرًّا، فَمَعْنَى إِسْرَارِ النَّجْوَى: الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِخْفَاءِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَحَلِّ الْمَوْصُولِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي «أَسَرُّوا» ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: هُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الذَّمِّ وَقِيلَ: هُوَ فَاعِلٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَّاسُ وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ خَفْضٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ ذَكَرَ ذَلِكَ الْمُبَرِّدُ وَقِيلَ: هُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ «أَسَرُّوا» عَلَى لُغَةِ مَنْ يُجَوِّزُ الْجَمْعَ بَيْنَ فَاعِلِينَ، كَقَوْلِهِمْ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ، وَمِثْلُهُ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ومنه قول الشاعر: ................ فاهتدين النّبال للأغراض «1»

_ (1) . وصدره: بك نال النّضال دون المساعي.

وقول الآخر «1» : ولكن ديافيّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ ... بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَارِبُهُ «2» وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا أَسَرُّوا النَّجْوَى. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَسَرُّوا هُنَا مِنَ الْأَضْدَادِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَخْفَوْا كَلَامَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَظْهَرُوهُ وَأَعْلَنُوهُ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ قَبْلَهَا، أَيْ: قَالُوا هَلْ هَذَا الرَّسُولُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلَكُمْ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْكُمْ بِشَيْءٍ؟ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنَ النَّجْوَى، وَهَلْ بِمَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ: وَأَسَرُّوا هَذَا الْحَدِيثَ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَنَظَائِرِهِ، وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانَ بَشَرًا مِثْلَكُمْ، وَكَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ سِحْرًا، فَكَيْفَ تُجِيبُونَهُ إِلَيْهِ وَتَتَّبِعُونَهُ، فَأَطْلَعَ الله نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى مَا تَنَاجَوْا بِهِ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَيْ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يُقَالُ فِيهِمَا، وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ «قَالَ رَبِّي» أَيْ: قَالَ مُحَمَّدٌ: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ، فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا تَنَاجَيْتُمْ بِهِ. قِيلَ: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُمْ أَسَرُّوا هَذَا الْقَوْلَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ وَهُوَ السَّمِيعُ لِكُلِّ مَا يَسْمَعُ الْعَلِيمُ بِكُلِّ مَعْلُومٍ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا أَسَرُّوا دُخُولًا أَوَّلِيًّا بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: قَالُوا الَّذِي تَأْتِي بِهِ أَضْغَاثُ أحلام. قال القتبي: أَضْغَاثُ الْأَحْلَامِ: الرُّؤْيَا الْكَاذِبَةُ. وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ: الْأَضْغَاثُ: مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْوِيلٌ، وَهَذَا إِضْرَابٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حِكَايَةٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ، وَانْتِقَالٌ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِهِمُ السَّابِقِ إِلَى حِكَايَةِ هَذَا الْقَوْلِ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ إِضْرَابَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، قَالَ: بَلِ افْتَراهُ أَيْ: بَلْ قَالُوا افْتَرَاهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَضْرَبُوا عَنْ هَذَا، وَقَالُوا: بَلْ هُوَ شاعِرٌ وَمَا أَتَى بِهِ مِنْ جِنْسِ الشِّعْرِ، وَفِي هَذَا الِاضْطِرَابِ مِنْهُمْ، وَالتَّلَوُّنِ وَالتَّرَدُّدِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ، لَا يَدْرُونَ مَا هُوَ وَلَا يَعْرِفُونَ كُنْهَهُ؟ أَوْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَرَادُوا أَنْ يَدْفَعُوهُ بِالصَّدْرِ، وَيَرْمُوهُ بِكُلِّ حَجَرٍ وَمَدَرٍ، وَهَذَا شَأْنُ مَنْ غَلَبَتْهُ الْحُجَّةُ وَقَهَرَهُ الْبُرْهَانُ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ، قَالُوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ وَهَذَا جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قُلْنَا فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أَيْ: كَمَا أُرْسِلَ مُوسَى بِالْعَصَا وَغَيْرِهَا، وَصَالِحٌ بِالنَّاقَةِ، وَمَحَلُّ الْكَافِ الْجَرُّ صِفَةً لِآيَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَكَانَ سُؤَالُهُمْ هَذَا سُؤَالَ تَعَنُّتٍ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا يَكْفِي، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِذَا أَعْطَاهُمْ مَا يَقْتَرِحُوهُ لَأَعْطَاهُمْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ «3» . قَالَ الزَّجَّاجُ: اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ الَّتِي لَا يَقَعُ معها إمهال، فقال الله مجيبا لهم:

_ (1) . هو الفرزدق. (2) . «دياف» : موضع بالجزيرة، وهم نبط الشام. «السليط» : الزيت. (3) . الأنفال: 22.

مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَيْ: قَبْلَ مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَمَعْنَى «مِنْ قَرْيَةٍ» مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ، وَوَصَفَ الْقَرْيَةَ بِقَوْلِهِ: أَهْلَكْناها أَيْ: أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا، أَوْ أَهْلَكْنَاهَا بِإِهْلَاكِ أَهْلِهَا، وَفِيهِ بَيَانٌ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ أَنَّ الْمُقْتَرِحِينَ إِذَا أُعْطُوا مَا اقْتَرَحُوهُ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة، و «من» فِي «مِنْ قَرْيَةٍ» مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَالْمَعْنَى: مَا آمَنَتْ قَرْيَةٌ مِنَ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا بِسَبَبِ اقْتِرَاحِهِمْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ، فَكَيْفَ نُعْطِيهِمْ مَا يَقْتَرِحُونَ، وَهُمْ أُسْوَةُ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تُؤْمِنْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ عِنْدَ إِعْطَاءِ مَا اقْتَرَحُوا، فَكَيْفَ يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ لَوْ أُعْطُوا مَا اقْتَرَحُوا، ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ قَوْلِهِمْ: «هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ أَيْ: لَمْ نُرْسِلْ قَبْلَكَ إِلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ إِلَّا رِجَالًا مِنَ الْبَشَرِ، وَلَمْ نُرْسِلْ إِلَيْهِمْ مَلَائِكَةً، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «1» وجملة «نُوحِي إِلَيْهِمْ» مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْإِرْسَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تكون صفة ل «رجالا» ، أَيْ: مُتَّصِفِينَ بِصِفَةِ الْإِيحَاءِ إِلَيْهِمْ. قَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نُوحِي بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ «يوحى» . ثُمَّ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ يَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كانوا يجهلون هذا، فقال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَأَهْلُ الذِّكْرِ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَعْنَى «إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» : إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّ رُسُلَ اللَّهِ مِنَ الْبَشَرِ، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يَجْهَلُونَ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُونَهُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا ذُكِرَ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ جَائِزٌ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَلَوْ سَلِمَ لَكَانَ الْمَعْنَى سُؤَالَهُمْ عَنِ النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا عَنِ الرَّأْيِ الْبَحْتِ، وَلَيْسَ التَّقْلِيدُ إِلَّا قَبُولَ قَوْلِ الْغَيْرِ دُونَ حُجَّتِهِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي رِسَالَةٍ بَسِيطَةٍ سَمَّيْنَاهَا «الْقَوْلَ الْمُفِيدَ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ» . ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنَ الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَتِهِمْ أَكَّدَ كَوْنَ الرُّسُلِ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ فَقَالَ: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ أَيْ: أَنَّ الرُّسُلَ أُسْوَةٌ لِسَائِرِ أَفْرَادِ بَنِي آدَمَ فِي حُكْمِ الطَّبِيعَةِ، يأكلون كما يأكلون، ويشربون كما يشربون، وَالْجَسَدُ جِسْمُ الْإِنْسَانِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ وَاحِدٌ، يَعْنِي الْجَسَدَ يُنْبِئُ عَنْ جَمَاعَةٍ، أَيْ: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ ذَوِي أَجْسَادٍ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، فَجُمْلَةُ «لا يأكلون الطعام» صفة ل «جسدا» ، أَيْ: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْأَكْلِ، بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ وَما كانُوا خالِدِينَ بَلْ يَمُوتُونَ كَمَا يَمُوتُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَقَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الرُّسُلَ لَا يَمُوتُونَ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا، وَجُمْلَةُ ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ مَا أَوْحَيْنَا، ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ، أَيْ: أَنْجَزْنَا وَعْدَهُمُ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ بِإِنْجَائِهِمْ وَإِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ إِنْجَاؤُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَإِهْلَاكُ مَنْ كَفَرَ بِالْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ، وَالْمُرَادُ بِ الْمُسْرِفِينَ الْمُجَاوِزُونَ لِلْحَدِّ فِي الكفر والمعاصي، وهم المشركون.

_ (1) . الإسراء: 95.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 10 إلى 25]

وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ قَالَ: «فِي الدُّنْيَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: «مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي: فعل الأحلام إنما هِيَ رُؤْيَا رَآهَا بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ كُلُّ هَذَا قَدْ كَانَ مِنْهُ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ كَمَا جَاءَ عِيسَى وَمُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ وَالرُّسُلِ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَيْ: أَنَّ الرُّسُلَ كَانُوا إِذَا جَاءُوا قَوْمَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَنْظُرُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ أهل مكة للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ مَا تَقُولَهُ حَقًّا، وَيَسُرُّكَ أَنْ نُؤْمِنَ، فَحَوِّلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ كَانَ الَّذِي سَأَلَكَ قَوْمُكَ، وَلَكِنَّهُ إِنْ كَانَ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يُنْظَرُوا، وَإِنْ شِئْتَ اسْتَأْنَيْتَ بِقَوْمِكَ، قَالَ: «بَلْ أَسَتَأْنِي بِقَوْمِي» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ يَقُولُ: لَمْ نَجْعَلْهُمْ جَسَدًا لَيْسَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ جسدا يأكلون الطعام. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 10 الى 25] لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) نَبَّهَ عِبَادَهُ عَلَى عَظِيمِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً يَعْنِي القرآن فِيهِ ذِكْرُكُمْ صفة ل «كتابا» ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الشَّرَفُ، أَيْ: فِيهِ شَرَفُكُمْ، كقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» وَقِيلَ: فِيهِ ذِكْرُكُمْ، أَيْ: ذِكْرُ أَمْرِ دِينِكُمْ، وَأَحْكَامِ شَرْعِكُمْ وَمَا تَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، وَقِيلَ: فِيهِ حَدِيثُكُمْ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: مَكَارِمُ أَخْلَاقِكُمْ وَمَحَاسِنُ أَعْمَالِكُمْ. وَقِيلَ: فِيهِ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ حَيَاتُكُمْ. قَالَهُ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: فِيهِ مَوْعِظَتُكُمْ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَلا تَعْقِلُونَ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، أَيْ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، أَوْ لَا تَعْقِلُونَ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا ذُكِرَ، ثم أوعدهم وحذّرهم ما

_ (1) . الزخرف: 44.

جَرَى عَلَى الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، فَقَالَ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً كَمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولُ قَصَمْنَا، وَهِيَ الْخَبَرِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلتَّكْثِيرِ، وَالْقَصْمُ: كَسْرُ الشَّيْءِ وَدَقُّهُ، يُقَالُ: قصمت ظهر فلان إذا كسرته، وانقصمت سِنُّهُ إِذَا انْكَسَرَتْ. وَالْمَعْنَى هُنَا: الْإِهْلَاكُ وَالْعَذَابُ، وَأَمَّا الْفَصْمُ بِالْفَاءِ فَهُوَ الصَّدْعُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ، وَجُمْلَةُ كانَتْ ظالِمَةً فِي مَحَلِّ جَرٍّ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ، وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ كَانُوا ظَالِمِينَ، أَيْ: كَافِرِينَ بِاللَّهِ مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ، وَالظُّلْمُ فِي الْأَصْلِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَهُمْ وَضَعُوا الْكُفْرَ فِي مَوْضِعِ الْإِيمَانِ وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ أَيْ: أَوْجَدْنَا وَأَحْدَثْنَا بعد إهلاك أهلها قوما ليسوا منهم فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أَيْ: أَدْرَكُوا، أَوْ رَأَوْا عذابنا، وقال الأخفش: خافوا وتوقّعوا، والبأس: الْعَذَابُ الشَّدِيدُ. إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ الرَّكْضُ: الْفِرَارُ وَالْهَرَبُ وَالِانْهِزَامُ، وَأَصْلُهُ مِنْ رَكَضَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ بِرِجْلَيْهِ، يُقَالُ: رَكْضَ الْفَرَسَ إِذَا كَدَّهُ بِسَاقَيْهِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قِيلَ: رَكَضَ الْفَرَسُ إذا عدا، ومنه: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ «1» . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَهْرُبُونَ مِنْهَا رَاكِضِينَ دَوَابَّهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَرْكُضُوا أَيْ: لَا تَهْرَبُوا. قِيلَ: إن الملائكة نادتهم بذلك عِنْدَ فِرَارِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ لَهُمْ ذَلِكَ هُمْ مَنْ هُنَالِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ وَسُخْرِيَةً مِنْهُمْ وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ أَيْ: إِلَى نِعَمِكُمُ الَّتِي كَانَتْ سَبَبُ بَطَرِكُمْ وكفركم، والمترف: المنعم، يقال: أترف على فُلَانٌ، أَيْ: وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي مَعَاشِهِ. وَمَساكِنِكُمْ أَيْ: وَارْجِعُوا إِلَى مَسَاكِنِكُمُ الَّتِي كُنْتُمْ تَسْكُنُونَهَا وتفتخرون بها لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ أَيْ: تَقْصِدُونَ لِلسُّؤَالِ وَالتَّشَاوُرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَالتَّوْبِيخِ لَهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ عَمَّا نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ فَتُخْبِرُونَ بِهِ. وَقِيلَ: لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا كَمَا كُنْتُمْ تُسْأَلُونَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِكُمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ الْأَخْبَارِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَهْلُ حَضُورٍ مِنَ الْيَمَنِ، وَكَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا اسْمُهُ شُعَيْبُ بْنُ مُهَدَّمٍ، وَقَبْرُهُ بِجَبَلٍ مِنْ جِبَالِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ ضِينٌ، وَبَيْنَهُ وبين حضور نحو يريد، قَالُوا: وَلَيْسَ هُوَ شُعَيْبًا صَاحِبَ مَدْيَنَ. قُلْتُ: وآثار القبر بجبل ضين موجودة، وو العامة مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَبْرُ قُدُمِ بْنِ قَادِمٍ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أَيْ: قَالُوا لَمَّا قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَا تَرْكُضُوا: يَا وَيْلَنَا، أَيْ: بِإِهْلَاكِنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِنَا، مُسْتَوْجَبِينَ الْعَذَابَ بِمَا قَدَّمْنَا، فَاعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ الْمُوجِبِ لِلْعَذَابِ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أَيْ: مَا زَالَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ دَعْوَاهُمْ، أَيْ: دَعْوَتَهُمْ، وَالْكَلِمَةُ: هِيَ قَوْلُهُمْ يَا وَيْلَنَا، أَيْ: يَدْعُونَ بِهَا وَيُرَدِّدُونَهَا حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أَيْ: بِالسُّيُوفِ كَمَا يُحْصَدُ الزَّرْعُ بِالْمِنْجَلِ، وَالْحَصِيدُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَحْصُودِ، وَمَعْنَى خامِدِينَ أنهم ميتون، من خمدت إِذَا طُفِئَتْ، فَشَبَّهَ خُمُودَ الْحَيَاةِ بِخُمُودِ النَّارِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ قَدْ طُفِئَ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أَيْ: لَمْ نَخْلُقْهُمَا عَبَثًا وَلَا بَاطِلًا، بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ لَهُمَا خَالِقًا قَادِرًا يَجِبُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِجْمَالِيَّةٌ إِلَى تَكْوِينِ الْعَالَمِ، وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَهُمَا سَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ الْكَائِنَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَتَبَايُنِ أَجْنَاسِهَا لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً اللَّهْوُ: مَا يتلهّى به، قيل: اللهو، الزوجة والولد،

_ (1) . ص: 42.

وَقِيلَ: الزَّوْجَةُ فَقَطْ، وَقِيلَ: الْوَلَدُ فَقَطْ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَدْ يُكَنَّى بِاللَّهْوِ عَنِ الْجِمَاعِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبُرْتُ وَأَلَّا يُحْسِنَ اللَّهْوَ أَمْثَالِي وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ «1» : وَفِيهِنَّ مَلْهَى لِلصَّدِيقِ وَمَنْظَرُ «2» ................ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ مَا قبلها، وجواب لقوله: لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا أَيْ: مِنْ عِنْدِنَا وَمِنْ جِهَةِ قُدْرَتِنَا لَا مِنْ عِنْدِكُمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ: مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ بِإِضَافَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًا كَبِيرًا. وَقِيلَ: أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: الْأَصْنَامُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَا كُنَّا فَاعِلِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «إِنَّ» للنفي كما ذكره المفسرون، أي: ما فعلنا ذَلِكَ وَلَمْ نَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِ، أَيْ: إِنْ كُنَّا مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهَذَا أَشْبَهُ الْوَجْهَيْنِ بِمَذْهَبِ الْعَرَبِيَّةِ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ هَذَا إِضْرَابٌ عَنِ اتِّخَاذِ اللَّهْوِ، أَيْ: دَعْ ذَلِكَ الَّذِي قَالُوا فَإِنَّهُ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ، بَلْ شَأْنُنَا أَنْ نَرْمِيَ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ أَيْ: يَقْهَرُهُ، وَأَصْلُ الدَّمْغِ شَجُّ الرَّأْسِ حَتَّى يَبْلُغَ الدِّمَاغَ، وَمِنْهُ الدَّامِغَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى نُذْهِبُهُ ذَهَابَ الصِّغَارِ وَالْإِذْلَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهُ إِصَابَةُ الدِّمَاغِ بِالضَّرْبِ. قِيلَ: أراد بالحق الحجة وبالباطل شبههم اه. وَقِيلَ: الْحَقُّ الْمَوَاعِظُ، وَالْبَاطِلُ الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: الْبَاطِلُ الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ: كَذِبُهُمْ. وَوَصْفُهُمُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِغَيْرِ صِفَاتِهِ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أَيْ: زَائِلٌ ذَاهِبٌ، وَقِيلَ: هَالِكٌ تَالِفٌ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَإِذَا هِيَ الْفُجَائِيَّةُ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أَيِ: الْعَذَابُ في الآخرة بسبب وصفكم لله بِمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْوَيْلُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَهُوَ وَعِيدٌ لِقُرَيْشٍ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ مِثْلَ الَّذِي لِأُولَئِكَ وَمَنْ هِيَ التَّعْلِيلِيَّةُ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عَبِيدًا وَمِلْكًا، وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَمَالِكُهُمْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَعْضُ مَخْلُوقَاتِهِ شَرِيكًا يُعْبَدُ كَمَا يُعْبَدُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَمَنْ عِنْدَهُ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِكَوْنِهِمْ عِنْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى تَشْرِيفِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أَيْ: لَا يَتَعَاظَمُونَ وَلَا يَأْنَفُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالتَّذَلُّلِ لَهُ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أَيْ: لَا يَعْيَوْنَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَسِيرِ، وَهُوَ الْبَعِيرُ الْمُنْقَطِعُ بِالْإِعْيَاءِ وَالتَّعَبِ، يُقَالُ: حَسَرَ الْبَعِيرَ يَحْسُرُ حُسُورًا أَعْيَا وَكَلَّ، وَاسْتَحْسَرَ وَتَحَسَّرَ مِثْلُهُ، وَحَسَرْتُهُ أَنَا حَسْرًا، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: لَا يكلّون «3» ، وقال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَا يَفْشَلُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْتُمْ أَنَّهُمْ أَوْلَادُ

_ (1) . هو زهير بن أبي سلمى. [.....] (2) . وعجزه: أنيق لعين النّاظر المتوسّم. (3) . في تفسير القرطبي (11/ 278) : لا يملون.

اللَّهِ عِبَادُ اللَّهِ لَا يَأْنَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَتَعَظَّمُونَ عَنْهَا، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ «1» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا يَنْقَطِعُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ أَيْ: يُنَزِّهُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ دَائِمًا لَا يَضْعُفُونَ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَسْأَمُونَ، وَقِيلَ: يُصَلُّونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَجْرَى التَّسْبِيحِ مِنْهُمْ كَمَجْرَى النَّفْسِ مِنَّا لَا يَشْغَلُنَا عَنِ النَّفَسِ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ تَسْبِيحُهُمْ دَائِمٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ قَالَ الْمُفَضَّلُ: مَقْصُودُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْجَحْدُ، أَيْ: لم يتّخذوا آلهة تقدر على الإحياء، و «أم» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ الْوُقُوعِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ «أَمْ» هُنَا بِمَعْنَى هَلْ، أَيْ: هَلِ اتَّخَذَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ يُحْيُونَ الْمَوْتَى، وَلَا تَكُونُ «أَمْ» هُنَا بِمَعْنَى بَلْ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُمْ إِنْشَاءَ الْمَوْتَى إِلَّا أَنْ تُقَدَّرَ أَمْ مَعَ الِاسْتِفْهَامِ، فَتَكُونُ «أَمِ» المنقطعة، فيصحّ المعنى، و «من الْأَرْضِ» مُتَعَلِّقٌ بِاتَّخَذُوا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِآلِهَةٍ، وَمَعْنَى هُمْ يُنْشِرُونَ هُمْ يَبْعَثُونَ الْمَوْتَى، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِآلِهَةٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْإِنْكَارُ وَالتَّجْهِيلُ، لَا نَفْسُ الِاتِّخَاذِ، فَإِنَّهُ وَاقِعٌ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ. وَالْمَعْنَى: بَلِ اتخذوا آلهة من الأرض هن خَاصَّةً مَعَ حَقَارَتِهِمْ يُنْشِرُونَ الْمَوْتَى، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَا اتَّخَذُوهَا آلِهَةً بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْشِرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ مِنْ أَنْشَرَهُ، أَيْ: أَحْيَاهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ: يَحْيَوْنَ وَلَا يَمُوتُونَ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى بُطْلَانِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، فَقَالَ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا أَيْ: لَوْ كَانَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ آلِهَةٌ مَعْبُودُونَ غَيْرُ اللَّهِ لَفَسَدَتَا، أَيْ: لَبَطَلَتَا، يَعْنِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ وَجُمْهُورُ النُّحَاةِ: إِنَّ «إِلَّا» هُنَا لَيْسَتْ لِلِاسْتِثْنَاءِ، بَلْ بِمَعْنَى غَيْرُ صِفَةٌ لِآلِهَةٍ، وَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَهَا، وَظَهَرَ فِيهِ إِعْرَابُ غَيْرُ الَّتِي جَاءَتْ إِلَّا بِمَعْنَاهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ «إِلَّا» هُنَا بِمَعْنَى سِوَى، وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ سِوَى اللَّهِ لَفَسَدَتَا، وَوَجْهُ الْفَسَادِ أَنَّ كَوْنَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى الِاسْتِبْدَادِ بِالتَّصَرُّفِ، فَيَقَعُ عِنْدَ ذَلِكَ التَّنَازُعُ وَالِاخْتِلَافُ، وَيَحْدُثُ بِسَبَبِهِ الْفَسَادُ، اه. فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ ثُبُوتِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِالْبُرْهَانِ، أَيْ: تَنَزَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ ثُبُوتِ الشَّرِيكِ لَهُ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِلْعِبَادِ أَنْ يُنَزِّهُوا الرَّبَّ سبحانه عمّا لا يليق به لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لِقُوَّةِ سُلْطَانِهِ وَعَظِيمِ جَلَالِهِ لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ قَضَائِهِ وقدره وَهُمْ أي: العباد يُسْئَلُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ، أَيْ: يَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لا يؤاخذ عل أفعاله وهم يؤاخذون. قيل: والمراد بِذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّ مَنْ يُسْأَلُ عَنْ أَعْمَالِهِ كَالْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ إِلَهًا أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أَيْ: بَلِ اتَّخَذُوا، وَفِيهِ إِضْرَابٌ وَانْتِقَالٌ من

_ (1) . الأعراف: 206.

إِظْهَارِ بُطْلَانِ كَوْنِهَا آلِهَةً بِالْبُرْهَانِ السَّابِقِ إِلَى إِظْهَارِ بُطْلَانِ اتِّخَاذِهَا آلِهَةً مَعَ تَوْبِيخِهِمْ بِطَلَبِ الْبُرْهَانِ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ عَلَى دَعْوَى أَنَّهَا آلِهَةٌ، أَوْ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ سِوَى اللَّهِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَا مِنْ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ قَدْ مَرَّ بَيَانُهُ، وَأَمَّا دَلِيلُ النَّقْلِ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أَيْ: هَذَا الْوَحْيُ الْوَارِدُ فِي شَأْنِ التَّوْحِيدِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ ذِكْرُ أُمَّتِي وَذِكْرُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَقَدْ أَقَمْتُهُ عَلَيْكُمْ وَأَوْضَحْتُهُ لَكُمْ، فَأَقِيمُوا أَنْتُمْ بُرْهَانَكُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: هَذَا الْقُرْآنُ وَهَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلِي، فَانْظُرُوا هَلْ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِاتِّخَاذِ إِلَهٍ سِوَاهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ لَهُمْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ بِأَنَّ رَسُولًا مِنَ الرُّسُلِ أَنْبَأَ أُمَّتَهُ بأن لهم إلها غير الله، فهل في ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي إِلَّا توحيد الله؟ وقيل: معنى الكلام والوعيد وَالتَّهْدِيدُ، أَيِ: افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ فَعَنْ قَرِيبٍ يَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَعْمَرَ وَطَلْحَةَ بْنَ مُصَرِّفٍ قَرَأَ: «هَذَا ذِكْرٌ مِنْ مَعِي وَذِكْرٌ مِنْ قَبْلِي» بِالتَّنْوِينِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: إِنَّ الْمَعْنَى هَذَا ذِكْرٌ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيَّ وَمِمَّا هُوَ مَعِيَ وَذِكْرُ مِنْ قَبْلِي. وَقِيلَ: ذِكْرٌ كَائِنٌ مِنْ قَبْلِي، أَيْ: جِئْتُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي. ثُمَّ لَمَّا تَوَجَّهَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ذَمَّهُمْ بِالْجَهْلِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ فَقَالَ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَهَذَا إِضْرَابٌ مِنْ جِهَتِهِ سُبْحَانَهُ وَانْتِقَالٌ مِنْ تَبْكِيتِهِمْ بِمُطَالَبَتِهِمْ بِالْبُرْهَانِ إِلَى بَيَانِ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِمْ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ لِكَوْنِهِمْ جَاهِلِينَ لِلْحَقِّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْحَسَنُ الْحَقُّ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى هَذَا الْحَقِّ، أَوْ هُوَ الْحَقُّ، وَجُمْلَةُ فَهُمْ مُعْرِضُونَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ أَكْثَرِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ: فَهُمْ لِأَجْلِ هَذَا الْجَهْلِ الْمُسْتَوْلِي عَلَى أَكْثَرِهِمْ مُعْرِضُونَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، فَلَا يَتَأَمَّلُونَ حُجَّةً، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ فِي بُرْهَانٍ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي دَلِيلٍ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ قَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نُوحِي بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، أَيْ: نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا وَفِي هَذَا تَقْرِيرٌ لِأَمْرِ التَّوْحِيدِ وَتَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَخَتَمَ الْآيَةَ بِالْأَمْرِ لِعِبَادِهِ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ فَاعْبُدُونِ فَقَدِ اتَّضَحَ لَكُمْ دَلِيلُ الْعَقْلِ، وَدَلِيلُ النَّقْلِ، وَقَامَتْ عَلَيْكُمْ حُجَّةُ اللَّهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ قَالَ: شَرَفُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: فِيهِ حَدِيثُكُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: فِيهِ دِينُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ حِمْيَرَ يُقَالُ لَهُ شُعَيْبٌ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَبْدٌ فَضَرَبَهُ بِعَصًا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرُ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَهُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ: وَكَمْ قَصَمْنا إِلَى قَوْلِهِ: خامِدِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ قَالَ: هِيَ حَضُورُ بَنِي أَزْدٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ قَالَ: ارْجِعُوا إِلَى دُورِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ قَالَ: هُمْ أَهْلُ حَضُورٍ كَانُوا قَتَلُوا نَبِيَّهُمْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخَتُنَصَّرَ فَقَتَلَهُمْ،

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 إلى 35]

وَفِي قَوْلِهِ: جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ قَالَ: بِالسَّيْفِ ضَرَبَ الْمَلَائِكَةُ وُجُوهَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا إِلَى مَسَاكِنِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مَنِ الْجَزَرِيِّينَ قَالَ: كَانَ اليمن قريتان، يُقَالُ لِإِحْدَاهُمَا حَضُورٌ وَلِلْأُخْرَى قِلَابَةُ، فَبَطَرُوا وَأُتْرِفُوا حَتَّى مَا كَانُوا يُغْلِقُونَ أَبْوَابَهُمْ، فَلِمَا أُتْرِفُوا بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا فَدَعَاهُمْ فَقَتَلُوهُ، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِ بُخْتُنَصَّرَ أَنْ يَغْزُوَهُمْ، فَجَهَّزَ لَهُمْ جَيْشًا، فَقَاتَلُوهُمْ فَهَزَمُوا جَيْشَهُ فَرَجَعُوا مُنْهَزِمِينَ إِلَيْهِ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا آخَرَ أَكْثَفَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَهَزَمُوهُمْ أَيْضًا فَلَمَّا رَأَى بُخْتُنَصَّرُ ذَلِكَ غَزَاهُمْ هُوَ بِنَفْسِهِ، فَقَاتَلُوهُمْ فَهَزَمَهُمْ حَتَّى خَرَجُوا مِنْهَا يَرْكُضُونَ، فَسَمِعُوا مُنَادِيًا يَقُولُ: لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ فَرَجَعُوا، فَسَمِعُوا صَوْتًا مُنَادِيًا يَقُولُ: يَا لَثَارَاتِ النَّبِيِّ فَقُتِلُوا بِالسَّيْفِ، فَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: خامِدِينَ. قُلْتُ: وَقُرَى حَضُورٍ مَعْرُوفَةٌ الْآنَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَدِينَةِ صَنْعَاءَ نَحْوُ بَرِيدٍ «1» فِي جِهَةِ الْغَرْبِ مِنْهَا. وأخرج ابن بالمنذر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَصِيداً خامِدِينَ قَالَ: كَخُمُودِ النَّارِ إِذَا طُفِئَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً قَالَ: اللَّهْوُ: الْوَلَدُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً قَالَ: النِّسَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يَقُولُ: لَا يَرْجِعُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قتادة في قوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ قال: بعباده وَهُمْ يُسْئَلُونَ قَالَ: عَنْ أَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ قَوْمٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ، وما ذلك إلا لأنهم لَا يَعْلَمُونَ قُدْرَةَ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 الى 35] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) قَوْلُهُ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ هُمْ خُزَاعَةُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَيَصِحُّ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ وَلَدًا. وَقَدْ قَالَتِ اليهود: عزير ابن الله، وقالت

_ (1) . البريد: يساوي نحو (20) كم تقريبا على بعض التقديرات.

النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. ثُمَّ نَزَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسَهُ. فَقَالَ: سُبْحانَهُ أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَقُولٌ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعِبَادِ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ قَوْلِهِمْ وَأَبْطَلَهُ فَقَالَ: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أَيْ: لَيْسُوا كَمَا قَالُوا، بَلْ هم عباد الله سُبْحَانَهُ مُكْرَمُونَ بِكَرَامَتِهِ لَهُمْ، مُقَرَّبُونَ عِنْدَهُ. وَقُرِئَ مُكْرَمُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ نَصْبَ عِبَادٍ عَلَى مَعْنَى: بَلِ اتَّخَذَ عِبَادًا، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِصِفَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أَيْ: لَا يَقُولُونَ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَهُ أَوْ يَأْمُرُهُمْ بِهِ. كَذَا قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ طَاعَتِهِمْ وَانْقِيَادِهِمْ. وَقُرِئَ «لَا يَسْبُقُونَهُ» بِضَمِّ الْبَاءِ مِنْ سَبَقْتُهُ أَسْبِقُهُ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أَيْ: هُمُ الْعَامِلُونَ بِمَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِهِ، التَّابِعُونَ لَهُ الْمُطِيعُونَ لِرَبِّهِمْ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: يَعْلَمُ مَا عَمِلُوا وَمَا هُمْ عَامِلُونَ، أَوْ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَهُوَ الْآخِرَةُ، وَمَا خَلْفَهُمْ وَهُوَ الدُّنْيَا، وَوَجْهُ التَّعْلِيلِ أَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا قَدَّمُوا وَأَخَّرُوا، لَمْ يَعْمَلُوا عَمَلًا وَلَمْ يَقُولُوا قَوْلًا إِلَّا بِأَمْرِهِ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أَيْ: يَشْفَعُ الشَّافِعُونَ لَهُ، وَهُوَ مَنْ رَضِيَ عَنْهُ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُشَفَّعُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أَيْ: مِنْ خَشْيَتِهِمْ مِنْهُ، فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَالْخَشْيَةُ: الْخَوْفُ مع التعظيم، والإشفاق: الخوف مع التَّوَقُّعِ وَالْحَذَرِ، أَيْ: لَا يَأْمَنُونَ مَكْرَ اللَّهِ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ أَيْ: مِنْ يَقُلْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنِّي إِلَهٌ مَنْ دُونِ اللَّهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَنَى بِهَذَا إِبْلِيسَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنِّي إِلَهٌ إِلَّا إِبْلِيسَ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ أَيْ: فَذَلِكَ الْقَائِلُ، عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ، كَمَا نَجْزِي غَيْرَهُ مِنَ الْمُجْرِمِينَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الْفَظِيعِ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، أَوْ مِثْلَ مَا جَعَلْنَا جَزَاءَ هَذَا الْقَائِلَ جَهَنَّمَ، فَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الْوَاضِعِينَ الْإِلَهِيَّةَ وَالْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكُونَ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مقدّر، والرؤية هي القلبية، أي: لم يتفكروا ولم يَعْلَمُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا قَالَ كَانَتَا، لِأَنَّهُمَا صِنْفَانِ، أَيْ: جَمَاعَتَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا «1» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا قَالَ كَانَتَا لِأَنَّهُ يُعَبِّرُ عَنِ السَّمَاوَاتِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ كَانَتْ سَمَاءً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ الْأَرَضُونَ، وَالرَّتْقُ: السَّدُّ، ضِدُّ الْفَتْقِ، يُقَالُ: رَتَقْتُ الْفَتْقَ أَرْتُقُهُ فَارْتَتَقَ، أَيِ: الْتَأَمَ، وَمِنْهُ الرَّتْقَاءُ لِلْمُنْضَمَّةِ الْفَرْجِ، يَعْنِي: أَنَّهُمَا كَانَتَا شَيْئًا وَاحِدًا مُلْتَزِقَتَيْنِ فَفَصَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ رَتْقًا وَلَمْ يَقُلْ رَتْقَيْنِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَانَتَا ذَوَاتِي رَتْقٍ، وَمَعْنَى فَفَتَقْناهُما فَفَصَلْنَاهُمَا أَيْ: فَصَلْنَا بَعْضَهُمَا مِنْ بَعْضٍ، فَرَفَعْنَا السَّمَاءَ، وَأَبْقَيْنَا الْأَرْضَ مَكَانَهَا وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَيْ: أَحْيَيْنَا بِالْمَاءِ الَّذِي نُنْزِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ، فَيَشْمَلُ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَاءَ سَبَبُ حَيَاةِ كُلِّ شَيْءٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَاءِ هُنَا النُّطْفَةُ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَفَلا يُؤْمِنُونَ لِلْإِنْكَارِ

_ (1) . فاطر: 41.

عَلَيْهِمْ، حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنُوا مَعَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَيْ: جِبَالًا ثَوَابِتَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ الْمَيْدُ: التَّحَرُّكُ وَالدَّوَرَانُ، أَيْ: لِئَلَّا تَتَحَرَّكَ وَتَدُورَ بِهِمْ، أَوْ كَرَاهَةِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي النَّحْلِ مُسْتَوْفًى. وَجَعَلْنا فِيها أَيْ: فِي الرَّوَاسِي، أَوْ فِي الْأَرْضِ فِجاجاً، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الْمَسَالِكُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مخترق بين جبلين فهو فج وسُبُلًا تَفْسِيرٌ لِلْفِجَاجِ لِأَنَّ الْفَجَّ قَدْ لَا يَكُونُ طَرِيقًا نَافِذًا مَسْلُوكًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إِلَى مَصَالِحَ مَعَاشِهِمْ، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَاتُهُمْ وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً عَنْ أَنْ يَقَعَ وَيَسْقُطَ عَلَى الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ «1» وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَحْفُوظًا بِالنُّجُومِ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَقَوْلِهِ: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ «2» وَقِيلَ: مَحْفُوظًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى عِمَادٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَحْفُوظِ هُنَا الْمَرْفُوعُ، وَقِيلَ: مَحْفُوظًا عَنِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَقِيلَ: مَحْفُوظًا عَنِ الْهَدْمِ وَالنَّقْضِ وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ أَضَافَ الْآيَاتِ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَجْعُولَةٌ فِيهَا، وَذَلِكَ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِهِمَا، وَمَعْنَى الْإِعْرَاضِ أَنَّهُمْ لَا يَتَدَبَّرُونَ فِيهَا، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا تُوجِبُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ هَذَا تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ خَلَقَ لَهُمُ اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ، وَالنَّهَارَ لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، أَيْ: جَعْلَ الشَّمْسَ آيَةَ النَّهَارِ، وَالْقَمَرَ آيَةَ اللَّيْلِ، لِيَعْلَمُوا عَدَدَ الشُّهُورِ وَالْحِسَابِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُبْحَانَ «3» . كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، أَيْ: يَجْرُونَ فِي وَسَطِ الْفَلَكِ، وَيَسِيرُونَ بِسُرْعَةٍ كَالسَّابِحِ فِي الْمَاءِ، وَالْجَمْعُ فِي الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ الْمَطَالِعِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُنَّ بِفِعْلِ مَنْ يَعْقِلُ، وَجَعَلَهُنَّ فِي الطَّاعَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْقِلُ، جَعَلَ الضَّمِيرَ عَنْهُنَّ ضَمِيرَ الْعُقَلَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ يَسْبَحْنَ أَوْ تَسْبَحُ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّمَا قَالَ يَسْبَحُونَ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ، وَالْفَلَكُ وَاحِدُ أَفْلَاكِ النُّجُومِ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الدوران، ومنه فلكة الْمِغْزَلُ لِاسْتِدَارَتِهَا وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَيْ: دَوَامَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا أَفَإِنْ مِتَّ بِأَجَلِكَ الْمَحْتُومِ فَهُمُ الْخالِدُونَ أَيْ: أَفْهُمُ الْخَالِدُونَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: جَاءَ بِالْفَاءِ لِتَدُلَّ عَلَى الشَّرْطِ لِأَنَّهُ جَوَابُ قَوْلِهِمْ سَيَمُوتُ. قَالَ: وَيَجُوزُ حَذْفُ الْفَاءِ وَإِضْمَارُهَا، وَالْمَعْنَى: إِنْ مِتَّ فَهُمْ يَمُوتُونَ أَيْضًا، فَلَا شَمَاتَةَ فِي الْمَوْتِ. وَقُرِئَ مِتَّ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ، وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «4» . كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أَيْ: ذَائِقَةٌ مُفَارِقَةٌ جَسَدَهَا، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْفُسِ الْمَخْلُوقَةِ كَائِنًا مَا كَانَ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً أَيْ: نَخْتَبِرُكُمْ بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، لِنَنْظُرَ كَيْفَ شُكْرُكُمْ وَصَبْرُكُمْ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَبْلُوهُمْ، وَفِتْنَةٌ مَصْدَرٌ لِنَبْلُوَكُمْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ لَا إِلَى غَيْرِنَا فَنُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ إِنَّ اللَّهَ عزّ وجلّ صاهر الجنّ فكانت بنيهم الْمَلَائِكَةُ، فَقَالَ اللَّهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أَيِ: الْمَلَائِكَةُ لَيْسَ كَمَا قَالُوا، بَلْ عباد أكرمهم بعبادته

_ (1) . الحج: 65. (2) . الحجر: 17. (3) . أي سورة الإسراء. (4) . الطور: 30.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 إلى 43]

لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ يُثْنِي عَلَيْهِمْ وَلا يَشْفَعُونَ قَالَ: لَا تَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى قَالَ: لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الَّذِينَ ارْتَضَاهُمْ لِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى قَالَ: إِنَّ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما قَالَ: فُتِقَتِ السَّمَاءُ بِالْغَيْثِ، وَفُتِقَتِ الْأَرْضُ بِالنَّبَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ كانَتا رَتْقاً قَالَ: لَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا شَيْءٌ، وَذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ كانَتا رَتْقاً قَالَ: مُلْتَصِقَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ قَالَ: نُطْفَةُ الرَّجُلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا قَالَ: بَيْنَ الْجِبَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ فِي فَلَكٍ قَالَ: دَوَرَانٌ يَسْبَحُونَ قَالَ: يَجْرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْهُ كُلٌّ فِي فَلَكٍ قَالَ: فَلَكٌ كَفَلَكَةِ الْمِغْزَلِ يَسْبَحُونَ قَالَ: يَدُورُونَ فِي أَبْوَابِ السَّمَاءِ. كَمَا تَدُورُ الْفَلَكَةُ فِي الْمِغْزَلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُوَ فَلَكُ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عن عائشة قالت: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وقد مات فقبله وقال: وا نبياه وا خليلاه وا صفياه، ثُمَّ تَلَا وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً قَالَ: نَبْتَلِيكُمْ بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالطَّاعَةِ والمعصية، والهدى والضلالة. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 الى 43] وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)

_ (1) . الزمر: 30.

قَوْلُهُ: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَعْنِي الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَيْ: مَا يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا مَهْزُوءًا بِكَ، وَالْهَزْءُ: السُّخْرِيَةُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «1» وَالْمَعْنَى: مَا يَفْعَلُونَ بِكَ إِلَّا اتَّخَذُوكَ هُزُؤًا أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يَقُولُونَ أَهَذَا الَّذِي، فَعَلَى هَذَا هُوَ جَوَابُ إِذَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً اعْتِرَاضًا بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَمَعْنَى يَذْكُرُهَا يَعِيبُهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ فُلَانٌ يَذْكُرُ النَّاسَ، أَيْ: يَغْتَابُهُمْ، وَيَذْكُرُهُمْ بِالْعُيُوبِ، وَفُلَانٌ يَذْكُرُ اللَّهَ، أَيْ: يَصِفُهُ بِالتَّعْظِيمِ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُحْذَفُ مَعَ الذَّكَرِ مَا عُقِلَ مَعْنَاهُ، وَعَلَى مَا قَالُوا لَا يَكُونُ الذِّكْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعَيْبُ، وَحَيْثُ يُرَادُ بِهِ الْعَيْبُ يُحْذَفُ مِنْهُ السُّوءُ، قِيلَ: وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَنْتَرَةَ: لَا تَذْكُرِي مُهْرِي وَمَا أَطْعَمْتُهُ ... فَيَكُونُ جِلْدُكَ مِثْلَ جَلْدِ الْأَجْرَبِ أَيْ: لَا تَعِيبِي مُهْرِي، وَجُمْلَةُ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَهُمْ بِالْقُرْآنِ كَافِرُونَ، أَوْ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ الَّذِي خَلَقَهُمْ كَافِرُونَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَعِيبُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَذْكُرَ آلِهَتَهُمُ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ بِالسُّوءِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، أَوِ الْقُرْآنِ كَافِرُونَ، فَهُمْ أَحَقُّ بِالْعَيْبِ لَهُمْ وَالْإِنْكَارِ عليهم، فالضمير الأوّل مبتدأ خبره كافرون، و «بذكر» مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي تَأْكِيدٌ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أَيْ: جُعِلَ لِفَرْطِ اسْتِعْجَالِهِ كَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْعَجَلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ بَنَيْتُهُ وَخَلَقْتُهُ مِنَ الْعَجَلَةِ وَعَلَى الْعَجَلَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خُوطِبَتِ الْعَرَبُ بِمَا تَعْقِلُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلَّذِي يَكْثُرُ مِنْهُ الشَّيْءُ خُلِقْتَ مِنْهُ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ مِنْ لَعِبٍ، وَخُلِقْتَ مَنْ لَعِبٍ، تُرِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِ بِذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَى هذا المعنى قوله: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «2» وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ، فَإِنَّهُ لَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ صَارَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ، فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ إِلَى رِجْلَيْهِ فَوَقَعَ، فَقِيلَ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ، كَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَكَثِيرٌ مَنْ أَهْلِ الْمَعَانِي: الْعَجَلُ الطين بلغة حمير. وأنشدوا: .............. والنخل ينبت بَيْنَ الْمَاءِ وَالْعَجَلِ «3» وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ الْقَائِلُ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «4» وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَى «خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ» أَنَّهُ قِيلَ لَهُ كُنْ فَكَانَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ: خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّحَّاسِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى. سَأُرِيكُمْ آياتِي أَيْ: سَأُرِيكُمْ نَقِمَاتِي مِنْكُمْ بِعَذَابِ النَّارِ فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلُونِي بِالْإِتْيَانِ بِهِ، فَإِنَّهُ نَازِلٌ بِكُمْ لَا مَحَالَةَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ ما

_ (1) . الحجر: 95. (2) . الإسراء: 11. (3) . وصدره: والنبع في الصخرة الصمّاء منبته. (4) . الأنفال: 32. [.....]

دَلَّ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ: مَتَى حُصُولُ هَذَا الْوَعْدِ الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، قَالُوا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَعْدِ هُنَا الْقِيَامَةُ، وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِنْ كُنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ صَادِقِينَ فِي وَعْدِكُمْ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتْلُونَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الْمُنْذِرَةَ بِمَجِيءِ السَّاعَةِ وَقُرْبِ حُضُورِ الْعَذَابِ، وَجُمْلَةُ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وما بَعْدَهَا مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: لَوْ عَرَفُوا ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ عَلِمُوا الْوَقْتَ الَّذِي لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ لَمَا اسْتَعْجَلُوا الْوَعِيدَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَقْدِيرِ الجواب: لعلموا صِدْقَ الْوَعْدِ، وَقِيلَ: لَوْ عَلِمُوهُ مَا أَقَامُوا عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ السَّاعَةِ، أَيْ: لَوْ عَلِمُوهُ عِلْمَ يَقِينٍ لَعَلِمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَتَخْصِيصُ الْوُجُوهِ وَالظُّهُورِ بالذكر بمعنى الأمام وَالْخَلْفِ لِكَوْنِهِمَا أَشْهَرَ الْجَوَانِبِ فِي اسْتِلْزَامِ الْإِحَاطَةِ بِهَا لِلْإِحَاطَةِ بِالْكُلِّ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهَا مِنْ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِهِمْ، وَمَحَلُّ حِينَ لَا يَكُفُّونَ النَّصْبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ الْعِلْمِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَقْتِ الْمَوْعُودِ الَّذِي كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَهُ، وَمَعْنَى وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ: وَلَا يَنْصُرُهُمْ أَحَدٌ مِنِ الْعِبَادِ فَيَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَجُمْلَةُ «بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً» مَعْطُوفَةٌ عَلَى «يَكُفُّونَ» ، أَيْ: لَا يَكُفُّونَهَا، بَلْ تَأْتِيهِمُ الْعِدَّةُ أَوِ النَّارُ أَوِ السَّاعَةُ بَغْتَةً، أَيْ: فَجْأَةً فَتَبْهَتُهُمْ قَالَ الجوهري: بهته بهتا: أَخْذَهُ بَغْتًا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: «فَتَبْهَتُهُمْ» أَيْ: تُحَيِّرُهُمْ، وَقِيلَ: فَتَفْجَؤُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أَيْ: صَرْفَهَا عَنْ وُجُوهِهِمْ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى النَّارِ، وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى الْوَعْدِ بِتَأْوِيلِهِ بِالْعِدَّةِ، وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى الْحِينِ بِتَأْوِيلِهِ بِالسَّاعَةِ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أَيْ: يُمْهَلُونَ وَيُؤَخَّرُونَ لِتَوْبَةٍ وَاعْتِذَارٍ، وَجُمْلَةُ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ مَسُوقَةٌ لِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْزِيَتِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنِ اسْتَهْزَأَ بِكَ هَؤُلَاءِ فَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَخَطَرِ شَأْنِهِمْ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أَيْ: أَحَاطَ وَدَارَ بِسَبَبِ ذلك بالذين سخروا من أولئك الرسل وهزءوا بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ «مَا» مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: فَأَحَاطَ بِهِمُ الأمر الذي كانوا يستهزءون بِهِ، أَوْ فَأَحَاطَ بِهِمُ اسْتِهْزَاؤُهُمْ. أَيْ: جَزَاؤُهُ، عَلَى وَضْعِ السَّبَبِ مَوْضِعَ الْمُسَبَّبِ، أَوْ نَفْسِ الِاسْتِهْزَاءِ، إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعَذَابُ الْأُخْرَوِيُّ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ أَيْ: يَحْرُسُكُمْ وَيَحْفَظُكُمْ، وَالْكَلَاءَةُ: الْحِرَاسَةُ وَالْحِفْظُ، يُقَالُ: كَلَأَهُ الله كلاء بِالْكَسْرِ: أَيْ حَفِظَهُ وَحَرَسَهُ. قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ: إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهُ يَكْلَؤُهَا ... ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِأُولَئِكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِطَرِيقِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ: مَنْ يَحْرُسُكُمْ وَيَحْفَظُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ بَأْسِ الرَّحْمَنِ وَعَذَابِهِ الَّذِي تَسْتَحِقُّونَ حُلُولَهُ بِكُمْ وَنُزُولَهُ عَلَيْكُمْ؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ مَنْ يَحْفَظُكُمْ مِنْ بَأْسِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مَنْ يَحْفَظُكُمْ مِمَّا يُرِيدُ الرَّحْمَنُ إِنْزَالَهُ بِكُمْ مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَحَكَى الكسائي والفراء: «من يكلوكم» بِفَتْحِ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 44 إلى 56]

أَيْ: عَنْ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَذْكُرُونَهُ وَلَا يخطر بِبَالِهِمْ، بَلْ يُعْرِضُونَ عَنْهُ، أَوْ عَنِ الْقُرْآنِ، أَوْ عَنْ مَوَاعِظِ اللَّهِ، أَوْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا «أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةُ، لِلْإِضْرَابِ وَالِانْتِقَالِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى بَيَانِ جَهْلِهِمْ بِحِفْظِهِ سُبْحَانَهُ إِيَّاهُمْ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ بِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ نَفْعِ نَفْسِهِ، وَالدَّفْعِ عَنْهَا. وَالْمَعْنَى: بَلْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِنَا. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ مِنْ دُونِنَا تَمْنَعُهُمْ. ثُمَّ وَصَفَ آلِهَتَهُمْ هَذِهِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا تَنْصُرُهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ، فَقَالَ: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أَيْ: هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ نَصْرِ أَنْفُسِهِمْ فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْصُرُوا غَيْرَهُمْ «وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» ، أَيْ: وَلَا هُمْ يُجَارُونَ مِنْ عَذَابِنَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ: لَا يُجِيرُهُمْ مِنَّا أَحَدٌ لِأَنَّ الْمُجِيرَ صَاحِبُ الْجَارِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: صَحِبَكَ اللَّهُ، أَيْ: حَفِظَكَ وَأَجَارَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ مُتَعَوِّذًا ... لِيُصْحَبَ مِنَّا وَالرِّمَاحُ دَوَانِي تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنَا لَكَ جَارٌ وَصَاحِبٌ مِنْ فُلَانٍ، أَيْ: مُجِيرٌ مِنْهُ. قَالَ الْمَازِنِيُّ: هُوَ مِنْ أَصْحَبْتُ الرَّجُلَ إِذَا مَنَعْتَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم على أبي سفيان وأبي جهل وهما يَتَحَدَّثَانِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو جَهْلٍ ضَحِكَ وَقَالَ لأبي سفيان: هذا نبيّ عَبْدِ مَنَافٍ، فَغَضِبَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: مَا تُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ نَبِيٌّ؟! فسمعها النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَرَجَعَ إِلَى أَبِي جَهْلٍ فَوَقَعَ بِهِ وَخَوَّفَهُ وَقَالَ: مَا أَرَاكَ مُنْتَهِيًا حَتَّى يُصِيبَكَ مَا أَصَابَ عَمَّكَ، وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: أَمَّا إِنَّكَ لَمْ تَقُلْ مَا قُلْتَ إِلَّا حَمِيَّةً» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. قُلْتُ: يَنْظُرُ مَنِ الَّذِي رَوَى عَنْهُ السُّدِّيُّ؟. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نُفِخَ فِي آدَمَ الرُّوحَ صَارَ فِي رَأْسِهِ فَعَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَتْ: الْمَلَائِكَةُ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ قَبْلَ أَنْ تَمُورَ فِي رِجْلَيْهِ فَوَقَعَ، فَقَالَ اللَّهُ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وَقَدْ أَخْرَجَ نَحْوَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَكَذَا أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ قَالَ: يَحْرُسُكُمْ، وَفِي قَوْلُهُ: وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قَالَ: لَا يُنْصَرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قَالَ: لَا يُجَارُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ: قَالَ: لَا يمنعون. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 44 الى 56] بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)

لَمَّا أَبْطَلَ كَونَ الْأَصْنَامِ نَافِعَةً أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ مُنْتَقِلًا إِلَى بَيَانِ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالتَّمَتُّعِ بِالْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ هُوَ من اللَّهِ، لَا مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ، وَلَا مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُمْ عَلَى أَسْبَابِ التَّمَتُّعِ، فَقَالَ: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، مَتَّعَهُمُ اللَّهُ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فَاغْتَرُّوا بِذَلِكَ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ، فَرَدَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ قَائِلًا أَفَلا يَرَوْنَ أَيْ: أَفَلَا يَنْظُرُونَ فَيَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَيْ: أرض الكفر، ننقصها بالظهور عليها مِنْ أَطْرَافِهَا، فَنَفْتَحُهَا بَلَدًا بَعْدَ بَلَدٍ، وَأَرْضًا بَعْدَ أَرْضٍ، وَقِيلَ: نَنْقُصُهَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَقَدْ مَضَى فِي الرَّعْدِ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَنَظَائِرِهِ، أَيْ: كَيْفَ يَكُونُونَ غَالِبِينَ بَعْدَ نَقْصِنَا لِأَرْضِهِمْ مِنْ أَطْرَافِهَا؟ وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغَالِبِينَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أَيْ: أُخَوِّفُكُمْ وَأُحَذِّرُكُمْ بِالْقُرْآنِ، وَذَلِكَ شَأْنِي وَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِمَّا مِنْ تَتِمَّةِ الْكَلَامِ الَّذِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، أَوْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَصَمَّ اللَّهُ سَمْعَهُ، وَخَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً، لَا يَسْمَعُ الدُّعَاءَ. قَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرحمن السلمي ومحمد بن السميقع «وَلَا يُسْمَعُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وأبو حيوة ويحيى ابن الْحَارِثِ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ مَضْمُومَةً وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ: إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَا تُسْمِعُ هَؤُلَاءِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَامِرٍ لَكَانَ: إِذَا مَا تُنْذِرُهُمْ، فَيَحْسُنُ نَظْمُ الْكَلَامِ، فَأَمَّا إِذا مَا يُنْذَرُونَ فَحَسَنٌ أَنْ يَتَّبِعَ قِرَاءَةَ الْعَامَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الصُّمِّ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ الْمُرَادُ بِالنَّفْحَةِ الْقَلِيلُ، مَأْخُوذٌ مِنْ نَفْحِ الْمِسْكِ قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : وَعُمْرَةٌ من سروات النّساء ... تَنْفَحُ بِالْمِسْكِ أَرْدَانُهَا وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: النَّفْحَةُ: الدَّفْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ الَّتِي دُونَ مُعْظَمِهِ، يُقَالُ: نَفَحَهُ نَفْحَةً بِالسَّيْفِ إِذَا ضَرَبَهُ ضَرْبَةً خَفِيفَةً، وَقِيلَ: هي النصيب، وَقِيلَ: هِيَ الطَّرْفُ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، أَيْ: وَلَئِنْ مَسَّهُمْ أَقَلُّ شَيْءٍ مِنَ الْعَذَابِ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أَيْ: لَيَدْعُونَ عَلَى أنفسهم بالويل والهلاك، ويعترفون عليها بالظلم

_ (1) . هو قيس بن الخطيم.

وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ الْمَوَازِينُ: جَمْعُ مِيزَانٍ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَوَازِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ، عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فِي صِفَةِ الْمِيزَانِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَقَدْ مَضَى فِي الْأَعْرَافِ، وَفِي الْكَهْفِ فِي هَذَا مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ، وَالْقِسْطِ صِفَةٌ لِلْمَوَازِينِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قِسْطٌ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ، تَقُولُ: مِيزَانُ قِسْطٍ وَمَوَازِينُ قِسْطٍ. وَالْمَعْنَى: ذَوَاتُ قِسْطٍ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ. وَقُرِئَ «الْقِصْطُ» بِالصَّادِّ وَالطَّاءِ. وَمَعْنَى لِيَوْمِ الْقِيامَةِ لِأَهْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ: فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أَيْ: لَا يُنْقَصُ مِنْ إِحْسَانِ مُحْسِنٍ، وَلَا يُزَادُ فِي إِسَاءَةِ مُسِيءٍ وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ قَرَأَ نَافِعٌ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِ مِثْقَالُ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، أَيْ: إِنْ وَقَعَ أَوْ وَجَدَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِنَصْبِ الْمِثْقَالِ، عَلَى تَقْدِيرِ: وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِوَضْعِ الْمَوَازِينِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَإِنْ كَانَ الظُّلَامَةُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: «فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا» ، وَمِثْقَالُ الشَّيْءِ: مِيزَانُهُ، أَيْ: وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْخِفَّةِ وَالْحَقَارَةِ، فَإِنَّ حَبَّةَ الْخَرْدَلِ مَثَلٌ فِي الصِّغَرِ أَتَيْنا بِها قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْقَصْرِ، أَيْ: أَحْضَرْنَاهَا وَجِئْنَا بها للمجازاة عليها، و «بها» أي: بحبة الخردل. وقرأ مجاهد وعكرمة «آتينا» بالمدّ على معنى جازينا بها، يُقَالُ: آتِي يُؤَاتِي مُؤَاتَاةً جَازَى وَكَفى بِنا حاسِبِينَ أَيْ: كَفَى بِنَا مُحْصِينَ، وَالْحَسْبُ فِي الْأَصْلِ مَعْنَاهُ الْعَدُّ، وَقِيلَ: كَفَى بِنَا عَالِمِينَ لِأَنَّ مَنْ حَسَبَ شَيْئًا عَلِمَهُ وَحَفِظَهُ، وَقِيلَ: كَفَى بِنَا مُجَازِينَ عَلَى مَا قَدَّمُوهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي تَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ سَابِقًا بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ «1» فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الْمُرَادُ بِالْفُرْقَانِ هُنَا التَّوْرَاةُ لِأَنَّ فِيهَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ هُنَا هُوَ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ «2» . قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَمَعْنَى «وَضِيَاءٌ» أَنَّهُمُ اسْتَضَاءُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْغِوَايَةِ، وَمَعْنَى «وَذِكْرًا» الْمَوْعِظَةُ، أَيْ: أَنَّهُمْ يَتَّعِظُونَ بِمَا فِيهَا، وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ، وَوَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لِأَنَّ هَذِهِ الْخَشْيَةَ تُلَازِمُ التَّقْوَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ بَدَلًا مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ بَيَانًا لَهُ، وَمَحَلُّ «بِالْغَيْبِ» النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَخْشَوْنَ عَذَابَهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُمْ، أَوْ هُمْ غَائِبُونَ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ ضِياءً بغير واو. قال الفراء: حذف الْوَاوُ وَالْمَجِيءُ بِهَا وَاحِدٌ، وَاعْتَرَضَهُ الزَّجَّاجُ بِأَنَّ الْوَاوَ تَجِيءُ لِمَعْنًى، فَلَا تُزَادُ. وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أَيْ: وَهُمْ مِنَ الْقِيَامَةِ خَائِفُونَ وَجِلُونَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ إِلَى الْقُرْآنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: وَهَذَا الْقُرْآنُ ذِكْرٌ لِمَنْ تَذَكَّرَ بِهِ وَمَوْعِظَةٌ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِ، وَالْمُبَارَكُ: كَثِيرُ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ. وَقَوْلُهُ: أَنْزَلْناهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلذِّكْرِ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ لِلْإِنْكَارِ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِنْكَارِ، أَيْ: كَيْفَ تُنْكِرُونَ كَوْنَهُ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَعَ اعْتِرَافِكُمْ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِهِ؟ وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أَيِ: الرُّشْدَ اللَّائِقَ بِهِ وَبِأَمْثَالِهِ مِنَ الرُّسُلِ، وَمَعْنَى مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ أُعْطِيَ

_ (1) . الأنبياء: 7. (2) . الأنفال: 41.

رُشْدَهُ قَبْلَ إِيتَاءِ مُوسَى وَهَارُونَ التَّوْرَاةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَعْطَيْنَاهُ هُدَاهُ مِنْ قَبْلِ النُّبُوَّةِ: أَيْ وَفَّقْنَاهُ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ فَرَأَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنَّجْمَ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَقَلُّهُمْ: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أَنَّهُ مَوْضِعٌ لِإِيتَاءِ الرُّشْدِ، وَأَنَّهُ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِآتَيْنَا أَوْ بِمَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْكُرْ حِينَ قَالَ، وَأَبُوهُ هُوَ آزَرُ وَقَوْمِهِ نَمْرُوذُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ، وَالتَّمَاثِيلُ: الْأَصْنَامُ، وَأَصْلُ التِّمْثَالِ الشَّيْءُ الْمَصْنُوعُ مُشَابِهًا لِشَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، يُقَالُ: مَثَّلْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا جَعَلْتُهُ مُشَابِهًا لَهُ، وَاسْمُ ذَلِكَ الْمُمَثَّلِ تِمْثَالٌ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَتَهَا بِقَوْلِهِ: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ وَالْعُكُوفُ: عِبَارَةٌ عَنِ اللُّزُومِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الشَّيْءِ، وَاللَّامُ فِي «لَهَا» لِلِاخْتِصَاصِ، وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّعْدِيَةِ لَجِيءَ بِكَلِمَةِ عَلَى، أَيْ: مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَنْتُمْ مُقِيمُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا؟ وَقِيلَ: إِنَّ الْعُكُوفَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْعِبَادَةِ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ أَجَابُوهُ بِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي هُوَ الْعَصَا الَّتِي يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا كُلُّ عَاجِزٍ، وَالْحَبْلُ الَّذِي يَتَشَبَّثُ بِهِ كُلُّ غَرِيقٍ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، أَيْ: وَجَدْنَا آبَاءَنَا يَعْبُدُونَهَا فَعَبَدْنَاهَا اقْتِدَاءً بِهِمْ وَمَشْيًا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، وَهَكَذَا يُجِيبُ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلَ بِمَحْضِ الرَّأْيِ الْمَدْفُوعِ بِالدَّلِيلِ قَالُوا هَذَا قَدْ قَالَ بِهِ إِمَامُنَا الَّذِي وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهُ مُقَلِّدِينَ وَبِرَأْيِهِ آخِذِينَ، وَجَوَابُهُمْ هُوَ مَا أَجَابَ بِهِ الْخَلِيلُ هَاهُنَا قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: فِي خُسْرَانٍ وَاضِحٍ ظَاهِرٍ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَى ذِي عَقْلٍ، فَإِنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَا الضَّلَالِ ضَلَالٌ، وَلَا يُسَاوِي هَذَا الْخُسْرَانَ خُسْرَانٌ، وَهَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ اسْتَبْدَلُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِسُنَّةِ رَسُولِهِ كِتَابًا قَدْ دُوِّنَتْ فِيهِ اجْتِهَادَاتُ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى دَلِيلٍ يُخَالِفُهَا، إِمَّا لِقُصُورٍ مِنْهُ أَوْ لِتَقْصِيرٍ فِي الْبَحْثِ فَوَجَدَ ذَلِكَ الدَّلِيلَ مَنْ وَجَدَهُ، وَأَبْرَزَهُ وَاضِحُ الْمَنَارِ: ............ كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارٌ «1» وَقَالَ: هَذَا كِتَابُ اللَّهِ أَوْ هَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِهِ، وَأَنْشَدَهُمْ: دَعُوا كُلَّ قَوْلٍ عِنْدَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ... فَمَا آمِنٌ فِي دِينِهِ كَمُخَاطِرِ فَقَالُوا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ «2» : مَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وَإِنْ تُرْشَدَ غَزِيَّةُ أُرْشَدِ وَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ: يَأْبَى الْفَتَى إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى ... وَمَنْهَجُ الْحَقِّ لَهُ وَاضِحٌ

_ (1) . وصدره: وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به. «العلم» : الجبل. والبيت للخنساء. (2) . هو دريد بن الصّمّة.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 57 إلى 70]

ثُمَّ لَمَّا سَمِعَ أُولَئِكَ مَقَالَةَ الْخَلِيلِ قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أَيْ: أَجَادٌّ أَنْتَ فِيمَا تَقُولُ أَمْ أَنْتَ لَاعِبٌ مَازِحٌ؟ قَالَ مُضْرِبًا عَمَّا بَنَوْا عَلَيْهِ مَقَالَتَهُمْ مِنَ التَّقْلِيدِ: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أَيْ: خَلَقَهُنَّ وَأَبْدَعَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ الَّذِي ذَكَرْتُهُ لَكُمْ مِنْ كَوْنِ رَبِّكُمْ هو ربّ السموات وَالْأَرْضِ دُونَ مَا عَدَاهُ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَيِ: الْعَالِمِينَ بِهِ الْمُبَرْهِنِينَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، مُبَرْهِنًا عَلَيْهِ، مُبَيِّنًا لَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبيهقي في الشعب، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَضْرِبُهُمْ وَأَشْتُمُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا لَا عَلَيْكَ وَلَا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمُ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَبْكِي وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَهُمْ خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ» ، رَوَاهُ أحمد هكذا: حدّثنا أبو نوح قراد، أَخْبَرَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ فَذَكَرَهُ، وفي معناه أحاديث. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ قَالَ: التَّوْرَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ زَيْدٍ قَالَ: الْفُرْقانَ: الْحَقُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَيِ: الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ قَالَ: هَدَيْنَاهُ صَغِيرًا، وَفِي قَوْلِهِ: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ قال: الأصنام. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 57 الى 70] وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

قَوْلُهُ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ سَيَنْتَقِلُ مِنَ الْمُحَاجَّةِ بِاللِّسَانِ إِلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْفِعْلِ ثقة بالله وَمُحَامَاةً عَلَى دِينِهِ، وَالْكَيْدُ: الْمَكْرُ، يُقَالُ: كَادَهُ يَكِيدُهُ كَيْدًا وَمَكِيدَةً، وَالْمُرَادُ هُنَا الِاجْتِهَادُ فِي كَسْرِ الْأَصْنَامِ. قِيلَ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ سِرًّا، وَقِيلَ: سَمِعَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أَيْ: بَعْدَ أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ عِبَادَتِهَا ذَاهِبِينَ مُنْطَلِقِينَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ لَهُمْ عِيدٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، فَقَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ: لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا أَعْجَبَكَ دِينُنَا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً فَصِيحَةٌ، أَيْ: فَوَلَّوْا، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا، الْجَذُّ: الْقَطْعُ وَالْكَسْرُ، يُقَالُ: جَذَذْتُ الشَّيْءَ قَطَعْتُهُ وَكَسَرْتُهُ، الْوَاحِدُ: جَذَاذَةٌ، وَالْجُذَاذُ: مَا كُسِرَ مِنْهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَيُقَالُ لِحِجَارَةِ الذَّهَبِ الْجُذَاذُ لِأَنَّهَا تُكْسَرُ. قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «جِذَاذًا» بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ: كَسْرًا وَقَطْعًا، جَمْعُ جَذِيذٍ، وَهُوَ الْهَشِيمُ، مِثْلُ خَفِيفٍ وَخِفَافٍ، وَظَرِيفٍ وَظِرَافٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: جذّذ الأصام فِي مِحْرَابِهَا ... ذَاكَ فِي اللَّهِ الْعَلِيِّ الْمُقْتَدِرِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، أَيِ: الْحُطَامُ وَالرِّقَاقُ، فِعَالُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهَذَا هُوَ الْكَيْدُ الَّذِي وَعَدَهُمْ به. وقرأ ابن عباس وأبو السمال «جَذَاذًا» بِفَتْحِ الْجِيمِ. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أَيْ: لِلْأَصْنَامِ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَرْجِعُونَ فَيُحَاجُّهُمْ بِمَا سَيَأْتِي فَيَحُجُّهُمْ، وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ إِلَى الصَّنَمِ الْكَبِيرِ يَرْجِعُونَ فَيَسْأَلُونَهُ عَنِ الْكَاسِرِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَعْبُودِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ فِي الْمُهِمَّاتِ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ لَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ خَبَرًا، فَيَعْلَمُونَ حِينَئِذٍ أَنَّهَا لَا تَجْلِبُ نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ ضَرَرًا، وَلَا تَعْلَمُ بِخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ، وَلَا تُخْبِرُ عَنِ الَّذِي يَنُوبُهَا مِنَ الْأَمْرِ وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ إِلَى اللَّهِ يَرْجِعُونَ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ، وَرَأَوْا مَا حَدَثَ بِآلِهَتِهِمْ، قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَقِيلَ: إِنَّ «مَنْ» لَيْسَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً، بَلْ هِيَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا «إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ، أَيْ: فَاعِلِ هَذَا ظَالِمٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِمْ: سَمِعْنا فَتًى إِلَخْ، فَإِنَّهُ قَالَ بِهَذَا بَعْضُهُمْ مُجِيبًا لِلْمُسْتَفْهِمِينَ لَهُمْ، وَهَذَا الْقَائِلُ هُوَ الَّذِي سَمِعَ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ. وَمَعْنَى يَذْكُرُهُمْ: يَعِيبُهُمْ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَجُمْلَةُ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِفَتًى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَارْتَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى مَعْنَى: يُقَالُ لَهُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ، فَهُوَ عَلَى هَذَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَقِيلَ: ارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَقِيلَ: مُرْتَفِعٌ عَلَى النِّدَاءِ. وَمِنْ غَرَائِبِ التَّدْقِيقَاتِ النَّحْوِيَّةِ، وَعَجَائِبِ التَّوْجِيهَاتِ الْإِعْرَابِيَّةِ، أَنَّ الْأَعْلَمَ الشَّنْتَمَرِيَّ الْأَشْبِيلِيَّ قَالَ: إِنَّهُ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْإِهْمَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَهَبَ إِلَى رَفْعِهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَالْفَتَى: هُوَ الشَّابُّ، وَالْفَتَاةُ الشَّابَّةُ قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ الْقَائِلُونَ هُمُ السّائلون، أمروا بعضهم أن يأتوا بِهِ ظَاهِرًا بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ نَمْرُوذَ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَقَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ يَسْتَحِلُّونَ بِهَا مِنْهُ مَا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يَفْعَلُوهُ بِهِ، وَمَعْنَى لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَعَلَّهُمْ يَحْضُرُونَ عِقَابَهُ حَتَّى يَنْزَجِرَ غَيْرُهُ عَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَكْسِرُ الْأَصْنَامَ، أَوْ لَعَلَّهُمْ

يَشْهَدُونَ طَعْنَهُ عَلَى أَصْنَامِهِمْ، وَجُمْلَةُ قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ أَتَوْا بِهِ فَاسْتَفْهَمُوهُ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ فِي زَعْمِهِمْ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا أَيْ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ مُقِيمًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، مُبَكِّتًا لَهُمْ، بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، مُشِيرًا إِلَى الصَّنَمِ الَّذِي تَرَكَهُ ولم يكسره فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أَيْ: إِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُمْكِنُهُ النُّطْقَ وَيَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ وَيَفْهَمُ مَا يقال له فيجيب عنه بما يطابقه، أراد عليه الصلاة والسلام أن يبيّن لهم أن من لا يتكلم ولا يعلم ليس بمستحق للعبادة، وَلَا يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِلَهٌ. فَأُخْرِجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ التَّعْرِيضِ لَهُمْ بِمَا يُوقِعُهُمْ فِي الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ الْجَمَادَاتِ الَّتِي عَبَدُوهَا لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ، لِأَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا إِنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ، قَالَ لَهُمْ: فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَنْ يَعْجَزُ عَنِ النُّطْقِ، وَيَقْصُرُ عَنْ أَنْ يَعْلَمَ بِمَا يَقَعُ عِنْدَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ؟ فَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ بَابِ فَرْضِ الْبَاطِلِ مَعَ الْخَصْمِ حَتَّى تَلْزَمَهُ الْحُجَّةُ وَيَعْتَرِفَ بِالْحَقِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْطَعُ لِشُبْهَتِهِ وَأَدْفَعُ لِمُكَابَرَتِهِ، وَقِيلَ أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَى ذَلِكَ الْكَبِيرِ مِنَ الْأَصْنَامِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَارَ وَغَضِبَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ وَتُعْبَدَ الصِّغَارُ مَعَهُ إِرْشَادًا لَهُمْ إِلَى أَنَّ عِبَادَةَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَدْفَعُ، لَا تُسْتَحْسَنُ فِي الْعَقْلِ مَعَ وُجُودِ خَالِقِهَا وَخَالِقِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وقرأ ابن السّميقع بَلْ فَعَلَهُ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، عَلَى مَعْنَى بَلْ فَلَعَلَّ الْفَاعِلَ كَبِيرُهُمْ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أَيْ: رَجَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ رُجُوعَ الْمُنْقَطِعِ عَنْ حُجَّتِهِ، الْمُتَفَطِّنِ لِصِحَّةِ حُجَّةِ خَصْمِهِ الْمُرَاجِعِ لِعَقْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَنَبَّهُوا وَفَهِمُوا عِنْدَ هَذِهِ الْمُقَاوَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى الْإِضْرَارِ بِمَنْ فَعَلَ بِهِ مَا فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بِتِلْكَ الْأَصْنَامِ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ، وَلِهَذَا فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِكُمْ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ، وَلَيْسَ الظَّالِمُ مَنْ نَسَبْتُمُ الظُّلْمَ إِلَيْهِ بِقَوْلِكُمْ: إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أَيْ: رَجَعُوا إِلَى جَهْلِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، شَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَوْدَهُمْ إِلَى الْبَاطِلِ بِصَيْرُورَةِ أَسْفَلِ الشَّيْءِ أَعْلَاهُ، وقيل: المعنى: أنهم طأطئوا رؤوسهم خجلا مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ نكسوا رؤوسهم بِفَتْحِ الْكَافِ، وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَصِحَّ هذا التفسير، بل قال: «نكسوا على رؤوسهم» وَقُرِئَ «نُكِّسُوا» بِالتَّشْدِيدِ، ثُمَّ قَالُوا بَعْدَ أَنْ نُكِسُوا مُخَاطِبِينَ لِإِبْرَاهِيمَ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أَيْ: قَائِلِينَ لِإِبْرَاهِيمَ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ النطق ليس من شأن هذه الأصنام، ف قالَ إِبْرَاهِيمُ مُبَكِّتًا لَهُمْ، وَمُزْرِيًا عَلَيْهِمْ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً مِنَ النَّفْعِ وَلا يَضُرُّكُمْ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ، ثُمَّ تَضَجَّرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَفِي هَذَا تَحْقِيرٌ لَهُمْ وَلِمَعْبُودَاتِهِمْ، وَاللَّامُ فِي «لَكُمْ» لِبَيَانِ الْمُتَأَفَّفِ بِهِ أَيْ: لَكُمْ وَلِآلِهَتِكُمْ، وَالتَّأَفُّفُ: صَوْتٌ يَدُلُّ عَلَى التَّضَجُّرِ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ عُقُولٌ تَتَفَكَّرُونَ بِهَا، فَتَعْلَمُونَ هَذَا الصُّنْعَ الْقَبِيحَ الَّذِي صَنَعْتُمُوهُ قالُوا حَرِّقُوهُ أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَمَّا أَعْيَتْهُمُ الْحِيلَةُ فِي دَفْعِ إِبْرَاهِيمَ، وَعَجَزُوا عَنْ مُجَادَلَتِهِ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ مَسَالِكُ الْمُنَاظَرَةِ: حَرِّقُوا إِبْرَاهِيمَ، انْصِرَافًا مِنْهُمْ إِلَى طَرِيقِ الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ، وَمَيْلًا مِنْهُمْ إِلَى إِظْهَارِ الْغَلَبَةِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَعَلَى أَيِّ أَمْرٍ اتَّفَقَ، وَلِهَذَا قَالُوا: وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أَيِ: انْصُرُوهَا

بِالِانْتِقَامِ مِنْ هَذَا الَّذِي فَعَلَ بِهَا مَا فَعَلَ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لِلنَّصْرِ وَقِيلَ: هَذَا الْقَائِلُ هُوَ نُمْرُوذُ وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنَ الْأَكْرَادِ قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَضْرَمُوا النَّارَ، وَذَهَبُوا بِإِبْرَاهِيمَ إِلَيْهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قُلْنَا: يَا نَارُ كُونِي ذَاتَ بَرْدٍ وَسَلَامٍ وَقِيلَ: إِنَّ انْتِصَابَ سَلَامًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَسَلَّمْنَا سَلَامًا عَلَيْهِ وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً أَيْ: مَكْرًا فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أَيْ: أَخْسَرَ مِنْ كُلِّ خَاسِرٍ وَرَدَدْنَا مَكْرَهُمْ عَلَيْهِمْ فَجَعَلْنَا لَهُمْ عَاقِبَةَ السُّوءِ كَمَا جَعَلْنَا لِإِبْرَاهِيمَ عَاقِبَةَ الْخَيْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عِيدِهِمْ مَرُّوا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَا تَخْرُجُ مَعَنَا؟ قَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَقَدْ كَانَ بالأمس قال: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَسَمِعَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ، فَلَمَّا خَرَجُوا انْطَلَقَ إِلَى أَهْلِهِ، فَأَخَذَ طَعَامًا، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَلَا تَأْكُلُونَ؟ فَكَسَرَهَا إِلَا كَبِيرَهُمْ، ثُمَّ رَبَطَ فِي يَدِهِ الَّذِي كَسَرَ بِهِ آلِهَتَهُمْ، فَلَمَّا رَجَعَ الْقَوْمُ مِنْ عِيدِهِمْ دَخَلُوا، فَإِذَا هُمْ بِآلِهَتِهِمْ قَدْ كُسِرَتْ، وَإِذَا كَبِيرُهُمْ فِي يَدِهِ الَّذِي كَسَّرَ الْأَصْنَامَ، قَالُوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا؟ فَقَالَ الَّذِينَ سَمِعُوا إِبْرَاهِيمَ يقول: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ فَجَادَلَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جُذاذاً قَالَ: حُطَامًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: فُتَاتًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا قَالَ: عَظِيمُ آلِهَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ كُلُّهُنَّ فِي اللَّهِ: قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ وَلَمْ يَكُنْ سَقِيمًا، وَقَوْلُهُ لِسَارَّةَ: أُخْتِي «1» ، وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا» وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا. وَقَدْ رَوَى نَحْوَ هذا أبو يعلى من حديث أَبِي سَعِيدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا جُمِعَ لِإِبْرَاهِيمَ مَا جُمِعَ، وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ، جَعَلَ خَازِنُ الْمَطَرَ يَقُولُ: مَتَى أُومَرُ بِالْمَطَرِ فَأُرْسِلَهُ؟ فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ، قَالَ اللَّهُ: كُونِي بَرْداً وَسَلاماً فَلَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ نَارٌ إِلَّا طُفِئَتْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أبي حاتم والطبراني عَنْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ تَكُنْ دَابَّةٌ إِلَّا تُطْفِئُ عَنْهُ النَّارَ، غَيْرَ الْوَزَغِ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَأَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَوَّلُ كَلِمَةٍ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: يا نارُ كُونِي قَالَ: كَانَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي نَادَاهَا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ لَمْ يُتْبِعْ بَرْدَهَا سَلَامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَرْدِهَا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ يُوثَقُ لِيُلْقَى فِي النَّارِ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: مَا أَحْرَقَتِ النار من إبراهيم

_ (1) . يراجع فتح الباري حديث رقم (6/ 3358) . (2) . آل عمران: 173.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 إلى 77]

إِلَّا وَثَاقَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَكَانَ فِيهَا إِمَّا خَمْسِينَ وَإِمَّا أَرْبَعِينَ، قَالَ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ قَطُّ أَطْيَبَ عَيْشًا إِذْ كُنْتُ فِيهَا، وَدِدْتُ أَنَّ عَيْشِي وَحَيَاتِي كُلَّهَا مِثْلَ عيشي إذ كنت فيها. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 الى 77] وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لُوطًا هُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ، فَحَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا أَنَّهُ نَجَّى إِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ، وَكَانَا بِالْعِرَاقِ، وَسَمَّاهَا سُبْحَانَهُ مُبَارَكَةً لِكَثْرَةِ خِصْبِهَا وَثِمَارِهَا وَأَنْهَارِهَا، وَلِأَنَّهَا مَعَادِنُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَصْلُ الْبَرَكَةِ ثُبُوتُ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ بَرَكَ الْبَعِيرُ إِذَا لَزِمَ مَكَانَهُ فَلَمْ يَبْرَحْ، وَقِيلَ: الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ مَكَّةُ وَقِيلَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ لِأَنَّ مِنْهَا بَعَثَ اللَّهُ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ أَيْضًا كَثِيرَةُ الْخِصْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تفسير العالمين. ثم قال سبحانه ممتنا على إبراهيم وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً النَّافِلَةُ: الزِّيَادَةُ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ سَأَلَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلَدًا، فَوَهَبَ لَهُ إِسْحَاقَ، ثُمَّ وَهَبَ لِإِسْحَاقَ يَعْقُوبَ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ، فَكَانَ ذَلِكَ نَافِلَةً، أَيْ: زِيَادَةً وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّافِلَةِ هُنَا الْعَطِيَّةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ: النَّافِلَةُ هُنَا وَلَدُ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْوَلَدِ، وَانْتِصَابُ نَافِلَةً عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: النَّافِلَةُ: يَعْقُوبُ خَاصَّةً لِأَنَّهُ وَلَدُ الْوَلَدِ وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ أَيْ: وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ: إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، لَا بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ جَعَلْنَاهُ صَالِحًا عَامِلًا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَارِكًا لِمَعَاصِيهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاحِ هُنَا النُّبُوَّةُ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أَيْ: رُؤَسَاءَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ وَأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ، وَمَعْنَى بِأَمْرِنَا: بِأَمْرِنَا لَهُمْ بِذَلِكَ، أَيْ: بِمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أَيْ: أَنْ يَفْعَلُوا الطَّاعَاتِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرَاتِ شَرَائِعُ النُّبُوَّاتِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ أَيْ: كَانُوا لَنَا خَاصَّةً دُونَ غَيْرِنَا مُطِيعِينَ، فَاعِلِينَ لِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ، تَارِكِينَ مَا نَنْهَاهُمْ عَنْهُ وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً انْتِصَابُ لُوطًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ «آتَيْنَاهُ» ، أَيْ: وَآتَيْنَا لُوطًا آتَيْنَاهُ وَقِيلَ: بِنَفْسِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ وَقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ هُوَ اذْكُرْ، وَالْحُكْمُ: النُّبُوَّةُ، وَالْعِلْمُ: الْمَعْرِفَةُ بِأَمْرِ الدِّينِ وَقِيلَ: الْحُكْمُ: هُوَ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ بِالْحَقِّ وَقِيلَ: هُوَ الْفَهْمُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ الْقَرْيَةُ هِيَ سَدُومُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَعْنَى «تعمل الخبائث» : يعمل أهلها الخبائث، فوصفت الْقَرْيَةَ بِوَصْفِ أَهْلِهَا، وَالْخَبَائِثُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا هي

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 إلى 88]

اللِّوَاطَةُ وَالضُّرَاطُ وَخَذْفُ الْحَصَى «1» كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ أَيْ: خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْفُسُوقُ: الْخُرُوجُ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا بِإِنْجَائِنَا إِيَّاهُ مِنَ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ، وَمَعْنَى «فِي رَحْمَتِنَا» : فِي أَهْلِ رَحْمَتِنَا، وَقِيلَ: فِي النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ: فِي الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: فِي الْجَنَّةِ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى وَنُوحاً إِذْ نَادَى أَيْ: وَاذْكُرْ نُوحًا إِذْ نَادَى رَبَّهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ دُعَاءَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أَيْ: مِنَ الْغَرَقِ بِالطُّوفَانِ، وَالْكَرْبُ: الْغَمُّ الشَّدِيدُ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ: نَصَرْنَاهُ نَصْرًا مُسْتَتْبَعًا لِلِانْتِقَامِ مِنَ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَنَعْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنْ بِمَعْنَى عَلَى. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ: لَمْ نَتْرُكْ مِنْهُمْ أَحَدًا، بَلْ أَغْرَقْنَا كَبِيرَهُمْ وَصَغِيرَهُمْ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الذَّنْبِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها قَالَ: الشَّامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لُوطٌ كَانَ ابْنَ أَخِي إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ قَالَ: وَلَدًا وَيَعْقُوبَ نافِلَةً قَالَ: ابْنُ الِابْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَكَمِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن مُجَاهِدٍ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ قَالَ: أَعْطَيْنَاهُ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً قال: عطية. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 88] وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

_ (1) . أي: رميها.

قَوْلُهُ: وَداوُدَ مَعْطُوفٌ عَلَى «نُوحاً» وَمَعْمُولٌ لِعَامِلِهِ الْمَذْكُورِ، أَوِ الْمُقَدَّرِ كَمَا مَرَّ وَسُلَيْمانَ مَعْطُوفٌ عَلَى دَاوُدَ، وَالظَّرْفُ فِي إِذْ يَحْكُمانِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا عَمِلَ فِي دَاوُدَ، أَيْ: وَاذْكُرْهُمَا وَقْتَ حُكْمِهِمَا، وَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِهِمَا ذِكْرُ خَبَرِهِمَا. وَمَعْنَى فِي الْحَرْثِ في شأن الحرث، قيل: كَانَ زَرْعًا، وَقِيلَ: كَرْمًا، وَاسْمُ الْحَرْثِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ أَيْ: تَفَرَّقَتْ وَانْتَشَرَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: النَّفَشُ بِالتَّحْرِيكِ أَنْ تَنْتَشِرَ الْغَنَمُ بِاللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ رَاعٍ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أَيْ: لِحُكْمِ الْحَاكِمَيْنِ، وَفِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالرَّضِيِّ، وَتَقَدَّمَهُمَا إِلَى الْقَوْلِ بِهِ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْحَاكِمَانِ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى «شَاهِدِينَ» : حَاضِرِينَ، وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَجُمْلَةُ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «إِذْ يَحْكُمَانِ» لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَاضِي، وَالضَّمِيرُ فِي «فَفَهَّمْنَاهَا» يَعُودُ إِلَى الْقَضِيَّةِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْكَلَامِ، أَوِ الْحُكُومَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِذِكْرِ الْحُكْمِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: دَخَلَ رَجُلَانِ عَلَى دَاوُدَ، وَعِنْدَهُ ابْنُهُ سُلَيْمَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ، وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الْحَرْثِ: إِنَّ هَذَا انْفَلَتَتْ غَنَمُهُ لَيْلًا فَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ: لَكَ رِقَابُ الْغَنَمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، يَنْطَلِقُ أَصْحَابُ الْكَرْمِ بِالْغَنَمِ فَيُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَيَقُومُ أَصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى الْكَرْمِ، حَتَّى إِذَا كَانَ كَلَيْلَةِ نَفَشَتْ فِيهِ دَفَعَ هَؤُلَاءِ إِلَى هَؤُلَاءِ غَنَمَهُمْ، وَدَفَعَ هَؤُلَاءِ إِلَى هَؤُلَاءِ كَرْمَهُمْ، فَقَالَ دَاوُدُ: الْقَضَاءُ مَا قَضَيْتَ، وَحَكَمَ بِذَلِكَ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِنَّمَا قَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ لِأَنَّ ثَمَنَهَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، وَأَمَّا فِي حُكْمِ سُلَيْمَانَ فَقَدْ قِيلَ: كَانَتْ قِيمَةُ مَا نَالَ مِنَ الْغَنَمِ، وَقِيمَةُ مَا أَفْسَدَتِ الْغَنَمُ، سَوَاءً. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ دَاوُدَ حَكَمَ بِوَحْيٍ، وَحَكَمَ سُلَيْمَانُ بِوَحْيٍ نَسَخَ اللَّهُ بِهِ حُكْمَ دَاوُدَ، فَيَكُونُ التَّفْهِيمُ عَلَى هَذَا بِطْرِيقِ الْوَحْيِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ بِاجْتِهَادٍ، وَكَلَامُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ مَعْرُوفٌ وَهَكَذَا مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَلْ كَلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَوِ الْحَقُّ مَعَ وَاحِدٍ؟ وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمُسْتَدِلُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ على أنّ كلّ مجتهد مصيب، ولا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ، وأما كون كل واحد منهما مصيبا، فَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا غَيْرُهَا، بَلْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، فَسَمَّاهُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُخْطِئًا، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ مُوَافِقٌ لَهُ، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِلَّا لَزِمَ تَوَقُّفُ حُكْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى اجْتِهَادَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ، واللازم باطل فالملزوم مثله. وأيضا يُسْتَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الَّتِي اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ المجتهدين فيها بالحلّ والحرمة حلالا وحراما في حكم الله سبحانه. وهذا اللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وأيضا يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كُلُّ مُجْتَهِدٍ لَهُ اجْتِهَادٌ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَلَا يَنْقَطِعُ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا إِلَّا بِانْقِطَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا لَا مَزِيدَ عليه في المؤلّف الَّذِي سَمَّيْنَاهُ «الْقَوْلَ الْمُفِيدَ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ» وَفِي «أَدَبِ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ» فَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِمَا. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا حُكْمُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الَّتِي حَكَمَ فِيهَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَالْمِلَّةِ

الْإِسْلَامِيَّةِ؟ قُلْتُ: قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّهُ شَرَّعَ لِأُمَّتِهِ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ، وَعَلَى أَصْحَابِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ مَضْمُونٌ عَلَى أَهْلِهَا، وَهَذَا الضَّمَانُ هُوَ مِقْدَارُ الذَّاهِبِ عَيْنًا أَوْ قِيمَةً. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْحَدِيثُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ الْبَهَائِمَ إِذَا أَفْسَدَتْ زَرْعًا فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهَا شَيْءٌ، وَأَدْخَلُوا فَسَادَهَا فِي عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» «1» قِيَاسًا لِجَمِيعِ أَفْعَالِهَا عَلَى جُرْحِهَا. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ رَبُّ الْمَاشِيَةِ مَا أَفْسَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ كَانَا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا بِاجْتِهَادٍ. قَوْلُهُ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُمَا إِنْ كَانَا خَاصَّيْنِ فَصِدْقُهُمَا عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى صِدْقِهِمَا عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَا عَامَّيْنِ فَهَذَا الْفَرْدُ مِنَ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ، وَهُوَ مَا وَقَعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَحَقُّ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ بِدُخُولِهِ تَحْتَهُ وَدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، وَمِمَّا يستفاد من دَفْعُ مَا عَسَى يُوهِمُهُ تَخْصِيصُ سُلَيْمَانَ بِالتَّفْهِيمِ، مِنْ عَدَمِ كَوْنِ حُكْمِ دَاوُدَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، أَيْ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْطَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا كَثِيرًا، لَا سُلَيْمَانَ وَحْدَهُ. وَلَمَّا مَدَحَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، ذَكَرَ مَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَبَدَأَ بِدَاوُدَ فَقَالَ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ التَّسْبِيحُ إِمَّا حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ، وَقَدْ قَالَ بِالْأَوَّلِ جَمَاعَةٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَذَلِكَ أَنَّ دَاوُدَ كَانَ إِذَا سَبَّحَ سَبَّحَتِ الْجِبَالُ مَعَهُ وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي مَعَهُ إِذَا صَلَّى، وَهُوَ مَعْنَى التَّسْبِيحِ. وَقَالَ بِالْمَجَازِ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ، وَحَمَلُوا التَّسْبِيحَ عَلَى تَسْبِيحِ مَنْ رَآهَا تَعَجُّبًا مِنْ عَظِيمِ خَلْقِهَا وَقُدْرَةِ خَالِقِهَا وَقِيلَ: كَانَتِ الْجِبَالُ تَسِيرُ مَعَ دَاوُدَ، فَكَانَ مَنْ رَآهَا سَائِرَةً مَعَهُ سَبَّحَ. وَالطَّيْرَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجِبَالِ، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَالطَّيْرُ مُسَخَّرَاتٌ، وَلَا يَصِحُّ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ فِي «يُسَبِّحْنَ» لِعَدَمِ التَّأْكِيدِ وَالْفَصْلِ. وَكُنَّا فاعِلِينَ يَعْنِي مَا ذُكِرَ مِنَ التَّفْهِيمِ، وَإِيتَاءِ الْحُكْمِ وَالتَّسْخِيرِ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اللَّبُوسُ عِنْدَ الْعَرَبِ السِّلَاحُ كُلُّهُ دِرْعًا كَانَ أَوْ جَوْشَنًا «2» ، أَوْ سَيْفًا، أَوْ رُمْحًا. قَالَ الْهُذَلِيُّ: وَعِنْدِي لَبُوسٌ فِي اللِّبَاسِ كأنه، إلخ «3» ......

_ (1) . «العجماء» : الدابة. و «الجبار» : الهدر. (2) . «الجوشن» : الدرع. (3) . في تفسير القرطبي (11/ 321) : ومعي لبوس للبئيس كأنه. وعجزه: روق بجبهة ذي نعاج مجفل. «البئيس» : الشجاع. «الروق» : القرن. «ذو نعاج» : الثور الوحشي.

وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الدُّرُوعُ خَاصَّةً، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَلْبُوسِ، كَالرَّكُوبِ وَالْحَلُوبُ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ أَعْنِي «لَكُمْ» متعلّق ب «علّمناه» ليحصنكم مِنْ بَأْسِكُمْ قَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَرَوْحٌ «لِتُحْصِنَكُمْ» بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى الصَّنْعَةِ، أَوْ إِلَى اللَّبُوسِ بِتَأْوِيلِ الدِّرْعِ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «لِنُحَصِّنَكُمْ» بِالنُّونِ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى اللَّبُوسِ، أَوْ إِلَى دَاوُدَ، أَوْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَمَعْنَى مِنْ بَأْسِكُمْ مِنْ حَرْبِكُمْ، أَوْ مِنْ وَقْعِ السِّلَاحِ فِيكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمْنَا بِهَا عَلَيْكُمْ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا خَصَّ بِهِ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أَيْ: وسخرنا الرِّيحَ عاصِفَةً أَيْ: شَدِيدَةَ الْهُبُوبِ. يُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ، أَيِ: اشْتَدَّتْ، فَهِيَ رِيحٌ عَاصِفٌ وَعَصُوفٌ، وَانْتِصَابُ الرِّيحِ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ وَالسُّلَمِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ» بِرَفْعِ الرِّيحِ عَلَى الْقَطْعِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَيَكُونُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ «تَجْرِي» . وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ فَيَكُونُ مَحَلُّ تَجْرِي بِأَمْرِهِ النَّصْبَ أَيْضًا عَلَى الْحَالِيَّةِ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي: بتدبير كُلِّ شَيْءٍ وَمِنَ الشَّياطِينِ أَيْ: وَسَخَّرْنَا مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ فِي الْبِحَارِ وَيَسْتَخْرِجُونَ مِنْهَا مَا يَطْلُبُهُ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ «مِنْ» مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَا قَبْلَهُ، وَالْغَوْصُ: النُّزُولُ تَحْتَ الْمَاءِ، يُقَالُ: غَاصَ فِي الْمَاءِ، وَالْغَوَّاصُ: الَّذِي يَغُوصُ فِي الْبَحْرِ عَلَى اللُّؤْلُؤِ. وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ سِوَى ذَلِكَ، وقيل: يراد بِذَلِكَ الْمَحَارِيبَ وَالتَّمَاثِيلَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُسَخِّرُهُمْ فِيهِ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أَيْ: لِأَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَافِظِينَ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَهْرُبُوا أَوْ يَتَمَنَّعُوا، أَوْ حَفِظْنَاهُمْ مِنْ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ أَمْرِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ يَحْفَظُهُمْ مِنْ أَنْ يُفْسِدُوا مَا عَمِلُوا، وَكَانَ دَأْبُهُمْ أَنْ يُفْسِدُوا بِاللَّيْلِ مَا عَمِلُوا بِالنَّهَارِ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ: إِمَّا الْمَذْكُورُ أَوِ الْمُقَدَّرُ كَمَا مَرَّ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ وَهُوَ «إِذْ نَادَى رَبَّهُ» هُوَ الْعَامِلُ فِي أَيْوبَ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ أَيْ: بِأَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ. وَقُرِئَ بِكَسْرِ «إِنِّي» . وَاخْتُلِفَ فِي الضُّرِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ مَاذَا هُوَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ قَامَ لِيُصَلِّيَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَقَرَّ بِالْعَجْزِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِلصَّبْرِ وَقِيلَ: انْقَطَعَ الْوَحْيُ عَنْهُ أربعين عاما وَقِيلَ: إِنَّ دُودَةً سَقَطَتْ مِنْ لَحْمِهِ فَأَخَذَهَا وَرَدَّهَا فِي مَوْضِعِهَا فَأَكَلَتْ مِنْهُ، فَصَاحَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَقِيلَ: كَانَ الدُّودُ تَنَاوَلَ بَدَنَهُ فَيَصْبِرُ حَتَّى تَنَاوَلَتْ دُودَةٌ قَلْبَهُ وَقِيلَ: إِنَّ ضُرَّهُ قَوْلُ إِبْلِيسَ لِزَوْجَتِهِ اسْجُدِي لِي، فَخَافَ ذَهَابَ إِيمَانِهَا وَقِيلَ: إِنَّهُ تَقَذَّرَهُ قَوْمُهُ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالضُّرِّ الشَّمَاتَةَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَلَمَّا نَادَى رَبَّهُ مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ وَصَفَهُ بِغَايَةِ الرَّحْمَةِ فَقَالَ: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِاسْتِجَابَتِهِ لِدُعَائِهِ، فَقَالَ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ أَيْ: شَفَاهُ اللَّهُ مِمَّا كَانَ بِهِ، وَأَعَاضَهُ بِمَا ذَهَبَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قِيلَ: تَرَكَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ، وَأَعْطَاهُ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْإِسْنَادُ بِذَلِكَ صَحِيحٌ، وَقَدْ كَانَ مَاتَ أَهْلُهُ جَمِيعًا إِلَّا امْرَأَتَهُ، فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْفِ الْبَصَرِ، وَآتَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَقِيلَ: كَانَ

ذَلِكَ بِأَنْ وُلِدَ لَهُ ضِعْفُ الَّذِينَ أَمَاتَهُمُ اللَّهُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: آتَيْنَاهُ مِثْلَ أَهْلِهِ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَانْتِصَابُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: آتَيْنَاهُ ذَلِكَ لِرَحْمَتِنَا لَهُ وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أَيْ: وَتَذْكِرَةً لِغَيْرِهِ مِنَ الْعَابِدِينَ لِيَصْبِرُوا كَمَا صَبَرَ. وَاخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ عَلَى الْبَلَاءِ، فَقِيلَ: سَبْعُ سِنِينَ وَسَبْعَةُ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةُ أَيامٍ وَسَبْعُ لَيَالٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ أَيْ: وَاذْكُرْ هَؤُلَاءِ، وَإِدْرِيسَ هُوَ أَخْنُوخُ، وَذَا الْكِفْلِ إِلْيَاسُ، وَقِيلَ: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقِيلَ: زَكَرِيَّا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ لَا يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي، فَتَابَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَقِيلَ: إِنَّ الْيَسَعَ لَمَّا كَبِرَ قَالَ: مَنْ يَتَكَفَّلُ لِي بِكَذَا وَكَذَا مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ حَتَّى أَسْتَخْلِفَهُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَاسْتَخْلَفَهُ وَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ. وَقِيلَ: كَانَ رَجُلًا يَتَكَفَّلُ بِشَأْنِ كُلِّ إِنْسَانٍ إِذَا وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ نَبِيٌّ. ثُمَّ وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ بِالصَّبْرِ فَقَالَ: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنَ الصَّابِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا كَلَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا أَيْ: فِي الْجَنَّةِ، أَوْ فِي النُّبُوَّةِ، أَوْ فِي الْخَيْرِ عَلَى عُمُومِهِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيِ: الْكَامِلِينَ فِي الصَّلَاحِ وَذَا النُّونِ أَيْ: وَاذْكُرْ ذَا النُّونِ، وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، وَلُقِّبَ «ذَا النُّونِ» لِابْتِلَاعِ الْحُوتِ لَهُ، فَإِنَّ النُّونَ مِنْ أَسْمَاءِ الْحُوتِ وَقِيلَ: سُمِّيَ «ذَا النُّونِ» لِأَنَّهُ رَأَى صَبِيًّا مَلِيحًا فَقَالَ دَسِّمُوا نُونَتَهُ لِئَلَّا تُصِيبَهُ الْعَيْنُ. وَحَكَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ نُونَةَ الصَّبِيِّ هِيَ الثُّقْبَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي ذَقَنِ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، وَمَعْنَى دَسِّمُوا: سَوِّدُوا إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أَيِ: اذْكُرْ ذَا النُّونِ وَقْتَ ذَهَابِهِ مُغَاضِبًا، أي: مراغما. قال الحسن والشعبي وسعيد بْنُ جُبَيْرٍ: ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جرير والقتبي وَالْمَهْدَوِيُّ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَرُبَّمَا أَنْكَرَ هَذَا مِنْ لَا يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ. وَالْمَعْنَى: مُغَاضِبًا مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ، كَمَا تَقُولُ غَضِبْتُ لَكَ، أَيْ: مِنْ أَجْلِكَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا خَرَجَ مُغَاضِبًا لِلْمَلِكِ الَّذِي كَانَ فِي وَقْتِهِ وَاسْمُهُ حِزْقِيَا وَقِيلَ: لَمْ يُغَاضِبْ رَبَّهُ وَلَا قَوْمَهُ وَلَا الْمَلِكَ، وَلَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ غَضِبَ إِذَا أَنِفَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَ قَوْمَهُ بِالْعَذَابِ وَخَرَجَ عَنْهُمْ تَابُوا وَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَلَمَّا رَجَعَ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُهْلَكُوا أَنِفَ مِنْ ذَلِكَ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الْغَضَبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَغْضَبُ أَنْ تُهْجَى تَمِيمٌ بِعَامِرٍ «1» أَيْ: آنَفُ. فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «نَقْدِرَ» بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الدَّالِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقِيلَ: مَعْنَاهَا: أَنَّهُ وَقَعَ فِي ظَنِّهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى مُعَاقَبَتِهِ. وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ هَذَا الظَّنَّ بِاللَّهِ كُفْرٌ، ومثل ذلك

_ (1) . في تفسير القرطبي (11/ 331) : بدارم.

لَا يَقَعُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَعْنَاهَا: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ «1» أَيْ: يُضَيِّقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يُقَالُ: قَدَرَ وَقَدَّرَ، وَقَتَرَ وَقَتَّرَ أَيْ: ضَيَّقَ وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ أَيْ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَدَرِ وَهُوَ الْحُكْمُ دُونَ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ: هُوَ مِنَ التَّقْدِيرِ لَيْسَ مِنَ الْقُدْرَةِ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدَّرَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ يُقَدِّرُهُ قَدَرًا، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ: فَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ اللَّوَى بِرَوَاجِعٍ ... لَنَا أَبَدًا مَا أَبْرَمَ «2» السَّلْمَ النَّضِرُ وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يقع وذلك «3» الشُّكْرِ أَيْ: مَا تُقَدِّرُهُ وَتَقْضِي بِهِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهَرِيِّ «فَظَنَّ أَنْ نُقَدِّرَ» بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، مِنَ التَّقْدِيرِ. وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قِرَاءَةُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالْأَعْرَجِ «أَنْ لَنْ يُقَدَّرَ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا للمفعول، وقرأ يعقوب وعبد الله ابن إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ «يُقْدَرُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ لِأَهْلِهِ أَنْ يَحْرِقُوهُ إذا مات، ثم قال: فو الله لَئِنْ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيَّ ... الْحَدِيثَ. كَمَا اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَطُولُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَاهُنَا مَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ النَّاظِرُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ فَصِيحَةٌ أَيْ: كَانَ مَا كَانَ مِنِ الْتِقَامِ الْحُوتِ لَهُ، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَكَانَ نِدَاؤُهُ: هُوَ قَوْلُهُ: أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ: بِأَنْ لَا إِلَهَ إلّا أنت ... إِلَخْ، وَمَعْنَى سُبْحَانَكَ: تَنْزِيهًا لَكَ مِنْ أَنْ يُعْجِزَكَ شَيْءٌ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هَذَا الْقَوْلُ مِنْ يُونُسَ اعْتِرَافٌ بِذَنْبِهِ وَتَوْبَةٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ، قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَالَ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ دُعَاءَهُ الَّذِي دَعَانَا بِهِ فِي ضِمْنِ اعْتِرَافِهِ بِالذَّنْبِ عَلَى أَلْطَفِ وَجْهٍ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ بِإِخْرَاجِنَا لَهُ مَنْ بَطْنِ الْحُوتِ حَتَّى قَذَفَهُ إِلَى السَّاحِلِ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: نُخَلِّصُهُمْ مَنْ هَمِّهِمْ بِمَا سَبَقَ مِنْ علمهم، وَمَا أَعْدَدْنَاهُ لَهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهَذَا هُوَ معنى الآية الأخرى، وهي قَوْلُهُ: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ- لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «4» . قَرَأَ الْجُمْهُورُ نُنَجِّي بِنُونَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «نُجِّي» بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ وَتَسْكِينُ الْيَاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَإِضْمَارُ الْمَصْدَرِ، وَكَذَلِكَ نُجِّي النجاء الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا تَقُولُ ضَرَبَ زَيْدًا، أَي: ضَرَبَ

_ (1) . الرعد: 26 وفي غيرها. (2) . في تفسير القرطبي (11/ 332) : أورق. [.....] (3) . في تفسير القرطبي (11/ 332) : ولك. (4) . الصافات: 143- 144.

الضَّرْبَ زَيْدًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : وَلَوْ وَلَدَتْ قفيرة «2» جِرْوَ كَلْبٍ ... لَسُبَّ بِذَلِكَ الْجِرْوِ الْكِلَابَا هَكَذَا قَالَ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عبيد وثعلب، وخطأها أَبُو حَاتِمٍ وَالزَّجَّاجُ وَقَالَا: هِيَ لَحْنٌ لِأَنَّهُ نَصَبَ اسْمَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ نُجِّيَ الْمُؤْمِنُونَ. وَلِأَبِي عُبَيْدَةَ قَوْلٌ آخَرُ، وهو أنه أدغم النون في الجيم، وبه قال القتبي. وَاعْتَرَضَهُ النَّحَّاسُ فَقَالَ: هَذَا الْقَوْلُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ لِبُعْدِ مَخْرَجِ النُّونِ مِنْ مَخْرَجِ الْجِيمِ فَلَا يُدْغَمُ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ النَّحَّاسُ: لَمْ أَسْمَعْ فِي هَذَا أَحْسَنَ مِنْ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشِ قَالَ: الْأَصْلُ نُنْجِي، فَحُذِفَ إِحْدَى النُّونَيْنِ لاجتماعهما، كما تحذف إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِاجْتِمَاعِهِمَا، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَفَرَّقُوا «3» وَالْأَصْلُ: وَلَا تَتَفَرَّقُوا. قُلْتُ: وَكَذَا الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النُّونَ الثَّانِيَةَ تَخْفَى مَعَ الْجِيمِ، وَلَا يَجُوزُ تَبْيِينِهَا، فَالْتَبَسَ عَلَى السَّامِعِ الْإِخْفَاءُ بِالْإِدْغَامِ، فَظَنَّ أَنَّهُ إِدْغَامٌ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا إِسْكَانُهُ الْيَاءَ مِنْ نَجَّى وَنَصْبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مَا سَكَّنَ الْيَاءَ وَلَوَجَبَ أَنْ يَرْفَعَ الْمُؤْمِنِينَ. قُلْتُ: وَلَا نُسَلِّمُ قَوْلَهُ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَبْيِينُهَا فَقَدْ بُيِّنَتْ فِي قراءة الجمهور، وقرأ محمد بن السّميقع وأبو العالية وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ: نَجَّى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُرَّةَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ قَالَ: كَانَ الْحَرْثُ نَبْتًا فَنَفَشَتْ فِيهِ لَيْلًا، فَاخْتَصَمُوا فِيهِ إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ، فَمَرُّوا عَلَى سُلَيْمَانَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: لَا، تُدْفَعُ الْغَنَمُ فَيُصِيبُونَ مِنْهَا، وَيَقُومُ هَؤُلَاءِ عَلَى حَرْثِهِمْ، فَإِذَا كَانَ كَمَا كَانَ رَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَتْ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ فَأَفْسَدَتْهُ الْغَنَمُ، فَقَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: غَيْرُ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: يُدْفَعُ الْكَرْمُ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَتُدْفَعُ الْغَنَمُ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ فَيُصِيبُ مِنْهَا، حَتَّى إِذَا عَادَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ دَفَعْتَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِهِ وَالْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْكَرْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا نَفَشَتْ قَالَ: رَعَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ: أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا. وَقَدْ عُلِّلَ هَذَا الْحَدِيثُ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي «شَرْحِ الْمُنْتَقَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مردويه من حديث عائشة نحوه،

_ (1) . هو جرير. (2) . أم الفرزدق. (3) . آل عمران 103.

وَزَادَ فِي آخِرِهِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ الْآيَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَانِ، جَاءَ الذِّئْبُ فأخذ أحد الاثنين، فتحا كما إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا فَدَعَاهُمَا سُلَيْمَانُ فَقَالَ: هَاتُوا السِّكِّينَ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: رَحِمَكَ اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا لَا تَشُقَّهُ، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِيمَا حَكَتْهُ الْآيَةُ مِنْ حُكْمِهِمَا، لَكِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا وَقَعَ لَهُمَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ قَالَ: يُصَلِّينَ مَعَ دَاوُدَ إِذَا صَلَّى، وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ قَالَ: كَانَتْ صَفَائِحَ، فَأَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وحلّقها داود عليه السَّلَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ يُوضَعُ لَهُ سِتُّمِائَةُ أَلْفِ كُرْسِيِّ، ثُمَّ يَجِيءُ أَشْرَافُ الْإِنْسِ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِيهِ، ثُمَّ يَجِيءُ أَشْرَافُ الْجِنِّ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِي أَشْرَافَ الْإِنْسِ، ثُمَّ يَدْعُو الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَدْعُو الرِّيحَ فَتَحْمِلُهُمْ، تَسِيرُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ عُقْبَةَ ابن عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ لِأَيُّوبَ: تَدْرِي مَا جُرْمَكَ عَلَيَّ حَتَّى ابْتَلَيْتُكَ؟ قَالَ: لَا، يَا رَبِّ، قَالَ: لِأَنَّكَ دَخَلْتَ عَلَى فِرْعَوْنَ فَدَاهَنْتَ عِنْدَهُ فِي كَلِمَتَيْنِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ مِسْكِينٌ عَلَى ظَالِمٍ يَدْرَؤُهُ فَلَمْ يُعِنْهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يَنْهَ الظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِ الْمِسْكِينِ، فَابْتَلَاهُ اللَّهُ. وَفِي إِسْنَادِهِ جُوَيْبِرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ لِأَيُّوبَ أَخَوَانِ، جَاءَا يَوْمًا فَلَمْ يَسْتَطِيعَا أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ مِنْ رِيحِهِ، فَقَامَا مِنْ بَعِيدٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: لَوْ كَانَ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ أَيُّوبَ خَيْرًا مَا ابْتَلَاهُ بِهَذَا، فَجَزِعَ أَيْوبُ مِنْ قَوْلِهِمَا جَزَعًا لَمْ يَجْزَعْ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ مِثْلَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً قَطُّ شَبْعَانَ، وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ جَائِعٍ فَصَدِّقْنِي فَصُدِّقَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَلْبَسْ قَمِيصًا قَطُّ وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ عَارٍ فَصَدِّقْنِي، فَصُدِّقَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ، ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ: اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لَا أَرْفَعُ رَأْسِي حَتَّى تَكْشِفَ عَنِّي، فَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى كَشْفَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قَالَ: قِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ إِنَّ أَهْلَكَ لَكَ في الجنة، فإن شئت أتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوّضناك مثلهم، قال: لا، بل اتركهم لي في الجنة، قال: فتركوا له في الجنة، وعوّض مثله فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: بَلَغَ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قَالَ: أُوتِيَ أَهْلًا غَيْرَ أَهْلِهِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بَلْ أُوتِيَ أَهْلَهُ بِأَعْيَانِهِمْ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالرُّويَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ

وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ، كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ ذَاتَ يَوْمٍ: تَعْلَمُ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذَنَبَهُ أَحَدٌ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةٍ لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ فَيَكْشِفْ عَنْهُ مَا بِهِ، فَلَمَّا رَاحَا إِلَى أَيُّوبَ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ أَيُّوبُ: لَا أدري ما تقول غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنِّي أَمُرُّ بِالرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ يَذْكُرَانِ اللَّهَ فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ إِلَّا فِي حَقٍّ، وَكَانَ يَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ أَنِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ فَاسْتَبْطَأَتْهُ فَتَلَقَّتْهُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ، بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ الْمُبْتَلَى، وَاللَّهِ على ذاك مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا. قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، قَالَ: وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ «1» : أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ، وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ، وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ «2» حَتَّى فَاضَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَذَا الْكِفْلِ قَالَ: رَجُلٌ صَالِحٌ غَيْرُ نَبِيٍّ تَكَفَّلَ لِنَبِيِّ قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له، وَيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قَاضٍ فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَقَالَ: مَنْ يَقُومُ مَقَامِي عَلَى أَنْ لَا يَغْضَبَ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ، فَكَانَ لَيْلُهُ جَمِيعًا يُصَلِّي، ثُمَّ يصبح صائما فيقضي بين الناس، وذكر قصة. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: مَا كَانَ ذُو الْكِفْلِ نَبِيًّا، وَلَكِنْ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ صَالِحٌ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ فَتُوُفِّيَ، فَتَكَفَّلَ لَهُ ذُو الْكِفْلِ مِنْ بَعْدِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، مِنْ طَرِيقِ سَعْدٍ مَوْلَى طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ الْكِفْلُ «3» مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ ارْتَعَدَتْ وَبَكَتْ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ أَكْرَهْتُكِ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنَّهُ عَمَلٌ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاجَةُ، فَقَالَ: تَفْعَلِينَ أَنْتِ هَذَا وَمَا فَعَلْتِهِ؟! اذْهَبِي فَهِيَ لَكِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَعْصِي اللَّهَ بَعْدَهَا أَبَدًا، فَمَاتَ مِنْ ليلته فأصبح مكتوبا عَلَى بَابِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِلْكِفْلِ» . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعْدٍ مَوْلَى طَلْحَةَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ من

_ (1) . «الأندر» : البيدر. (2) . أي الفضّة. (3) . رواه ابن حبان بلفظ (ذو الكفل) برقم (387) ورواه الترمذي برقم: (2496) وأحمد برقم (2/ 23) بلفظ: (الكفل) .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 إلى 97]

طَرِيقِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: فِيهِ ذُو الْكِفْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً يَقُولُ: غَضِبَ عَلَى قَوْمِهِ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يَقُولُ: أَنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً وَلَا بَلَاءً فِيمَا صَنَعَ بِقَوْمِهِ فِي غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ وَفِرَارِهِ، قَالَ: وَعُقُوبَتُهُ أَخَذُ النُّونِ «1» إِيَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قَالَ: ظَنَّ أَنْ لَنْ يَأْخُذَهُ الْعَذَابُ الَّذِي أَصَابَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَنادى فِي الظُّلُماتِ قَالَ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ هُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اسْمَ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى: دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى، قَلَّتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِيُونُسَ خَاصَّةً أَمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً إِذَا دَعَوْا بِهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ شَرْطٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ دَعَاهُ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خير من يونس بن مَتَّى» . وَرُوِيَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ من حديث أبي هريرة. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 97] وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) قَوْلُهُ: وَزَكَرِيَّا أَيْ: وَاذْكُرْ خَبَرَ زَكَرِيَّا وَقْتَ نِدَائِهِ لِرَبِّهِ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً أَيْ: مُنْفَرِدًا وَحِيدًا لَا وَلَدَ لِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ أي:

_ (1) . أي الحوت.

خَيْرُ مَنْ يَبْقَى بَعْدَ كُلِّ مَنْ يَمُوتُ، فَأَنْتَ حَسْبِي إِنْ لَمْ تَرْزُقْنِي وَلَدًا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تُضَيِّعُ دِينَكَ، وَأَنَّهُ سَيَقُومُ بِذَلِكَ مِنْ عِبَادِكَ مَنْ تَخْتَارُهُ لَهُ وَتَرْتَضِيهِ لِلتَّبْلِيغِ فَاسْتَجَبْنا لَهُ دُعَاءَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى. وَقَدْ تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ. وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا فَجَعَلَهَا اللَّهُ وَلُودًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِإِصْلَاحِ زَوْجِهِ وَقِيلَ: كَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَسَنَةَ الْخُلُقِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُصْلِحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَاتَهَا، فَتَكُونُ وَلُودًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَاقِرًا، وَيُصْلِحُ أَخْلَاقَهَا، فَتَكُونُ أَخْلَاقُهَا مَرْضِيَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ. وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ لِلتَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ إِحْسَانِهِ سُبْحَانَهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَالضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى زَكَرِيَّا وَامْرَأَتِهِ وَيَحْيَى. ثُمَّ وَصَفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَهُ رَغَباً وَرَهَباً أَيْ: يَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَحَالِ الشِّدَّةِ، وَقِيلَ: الرَّغْبَةُ: رَفْعُ بُطُونِ الْأَكُفِّ إِلَى السَّمَاءِ، وَالرَّهْبَةُ رَفْعُ ظُهُورِهَا. وَانْتِصَابُ رَغَبًا وَرَهَبًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: يَرْغَبُونَ رَغَبًا وَيَرْهَبُونَ رَهَبًا، أَوْ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: لِلرَّغَبِ وَالرَّهَبِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: رَاغِبِينَ وَرَاهِبِينَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَيَدْعُونَا بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِضَمِّ الرَّاءِ فِيهِمَا وَإِسْكَانِ مَا بَعْدَهُ، وَقَرَأَ ابْنُ وثّاب بفتح الراء فيهما مع إسكان ما بعده، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، وقرأ الباقون بفتح الراء وَفَتْحِ مَا بَعْدَهُ فِيهِمَا. وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أَيْ: مُتَوَاضِعِينَ مُتَضَرِّعِينَ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أَيْ: وَاذْكُرْ خَبَرَهَا، وَهِيَ مَرْيَمُ، فَإِنَّهَا أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَلَمْ يَمْسَسْهَا بَشَرٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ، لِأَجْلِ ذِكْرِ عِيسَى، وَمَا فِي ذِكْرِ قِصَّتِهَا مِنَ الْآيَةِ الْبَاهِرَةِ فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أَضَافَ سُبْحَانَهُ الرُّوحَ إِلَيْهِ، وَهُوَ لِلْمَلَكِ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، وَهُوَ يُرِيدُ رُوحَ عِيسَى وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ قال الزجّاج: الآية فيهما وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ: وَجَعَلْنَاهَا آيَةً وَجَعَلْنَا ابْنَهَا آيَةً، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ قِصَّتَهُمَا آيَةً تَامَّةً مَعَ تَكَاثُرِ آيَاتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْآيَةِ الْجِنْسَ الشَّامِلَ، لِمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمَعْنَى أَحْصَنَتْ: عَفَّتْ فَامْتَنَعَتْ مِنَ الْفَاحِشَةِ وَغَيْرِهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَرْجِ جَيْبُ الْقَمِيصِ أَيْ: أَنَّهَا طَاهِرَةُ الْأَثْوَابِ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَمَرْيَمَ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْأَنْبِيَاءَ بَيَّنَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى التَّوْحِيدِ فَقَالَ: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَالْأُمَّةُ: الدِّينُ كَمَا قال ابن قتيبة، ومنه: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «2» أَيْ: عَلَى دِينٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي التَّوْحِيدِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا الْكَفَرَةُ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الَّتِي بَيَّنْتُهَا لَكُمْ فِي كِتَابِكُمْ شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ هَذِهِ مِلَّتُكُمْ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ. وَانْتِصَابُ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُتَّفِقَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، وَقُرِئَ: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ بِنَصْبِ أُمَّتَكُمْ عَلَى الْبَدَلِ مِنِ اسْمِ إِنَّ وَالْخَبَرُ «أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ» . وَقُرِئَ بِرَفْعِ أُمَّتُكُمْ وَرَفْعِ أُمَّةٌ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرَانِ وَقِيلَ: عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هِيَ أمة واحدة. وقرأ

_ (1) . التوبة: 62. (2) . الزخرف: 22.

الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ أُمَّتُكُمْ عَلَى أَنَّهُ الْخَبَرُ وَنَصْبِ أُمَّةً عَلَى الْحَالِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ عَلَى الْقَطْعِ بِسَبَبِ مَجِيءِ النَّكِرَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ. وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ خَاصَّةً لَا تَعْبُدُوا غَيْرِي كَائِنًا مَا كَانَ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أَيْ: تَفَرَّقُوا فِرَقًا فِي الدِّينِ حَتَّى صَارَ كَالْقِطَعِ الْمُتَفَرِّقَةِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُوَ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَيْ: تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِهِمْ، فَنَصَبَ أَمْرَهُمْ بِحَذْفِ فِي، وَالْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ الْمُشْرِكُونَ، ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِمُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ جَمِيعُ الْخَلْقِ، وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَمْرَهُمْ فِي أَدْيَانِهِمْ قِطَعًا وَتَقَسَّمُوهُ بَيْنَهُمْ، فَهَذَا مُوَحِّدٌ، وَهَذَا يَهُودِيٌّ، وَهَذَا نَصْرَانِيٌّ، وَهَذَا مَجُوسِيٌّ، وَهَذَا عَابِدُ وَثَنٍ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ مَرْجِعَ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ فَقَالَ: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ رَاجِعٌ إِلَيْنَا بِالْبَعْثِ، لَا إِلَى غَيْرِنَا. فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أَيْ: مَنْ يَعْمَل بَعْضَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لَا كُلَّهَا، إِذْ لَا يَطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أَيْ: لَا جُحُودَ لِعَمَلِهِ، وَلَا تَضْيِيعَ لِجَزَائِهِ، وَالْكُفْرُ ضِدُّ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرُ أَيْضًا: جُحُودُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ، يُقَالُ: كَفَرَ كُفُورًا وَكُفْرَانًا، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «فَلَا كُفْرَ لِسَعْيِهِ» . وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ أَيْ: لِسَعْيِهِ حَافِظُونَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى «1» . وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها قَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَرامٌ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ «وَحَرَمٌ» وَقَدِ اخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَرُوِيَتِ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ حِلٌّ وَحَلَالٌ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «وَحَرِمَ» بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ «حَرُمَ» بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ. وَمَعْنَى أَهْلَكْناها: قَدَّرْنَا إِهْلَاكَهَا، وَجُمْلَةُ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ حَرَامٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لَهُ سَادٌّ مَسَدَّ خَبَرِهِ. وَالْمَعْنَى: وَمُمْتَنِعٌ أَلْبَتَّةَ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ إِلَيْنَا لِلْجَزَاءِ وَقِيلَ: إِنَّ لَا فِي «لَا يَرْجِعُونَ» زَائِدَةٌ، أَيْ: حَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ الْهَلَاكِ إِلَى الدُّنْيَا. وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَ حَرَامٌ هُنَا بِمَعْنَى الْوَاجِبِ: أَيْ وَاجِبٌ عَلَى قَرْيَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا عَلَى شَجْوهِ إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى صَخْرِ وَقِيلَ: حَرَامٌ، أَيْ: مُمْتَنِعٌ رُجُوعُهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، عَلَى أَنَّ «لَا» زَائِدَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْآيَةُ مُشْكِلَةٌ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهَا وَأَجَلِّهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَهُشَيْمٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ وَمُحَمَّدُ بن فضيل وسليمان بن حيان وَمُعَلًّى عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَالَ: وَاجِبٌ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، أَيْ: لَا يَتُوبُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ إِضْمَارًا، أَيْ: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ حَكَمْنَا بِاسْتِئْصَالِهَا، أَوْ بِالْخَتْمِ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِهَا، أَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ عَمَلٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، أَيْ: لَا يَتُوبُونَ. حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ «حَتَّى» هَذِهِ هِيَ الَّتِي يُحْكَى بَعْدَهَا الكلام، ويأجوج ومأجوج قبيلتان من الإنس، والمراد بفتح يأجوج ومأجوج فتح السدّ الذي عليهم، على حذف المضاف وقيل: إنّ «حتى»

_ (1) . آل عمران: 195.

هَذِهِ هِيَ الَّتِي لِلْغَايَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ سَابِقًا مُسْتَمِرُّونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ يَوْمُ فَتْحِ سَدِّ يأجوج ومأجوج وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ الضَّمِيرُ لِيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَالْحَدَبُ: كُلُّ أَكَمَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مُرْتَفِعَةٍ وَالْجَمْعُ أَحْدَابٌ، مَأْخُوذٌ مِنْ حَدَبَةِ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى يَنْسِلُونَ: يُسْرِعُونَ، وَقِيلَ: يَخْرُجُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالنَّسَلَانُ: مِشْيَةُ الذِّئْبِ إِذَا أَسْرَعَ. يُقَالُ: نَسَلَ فُلَانٌ فِي الْعَدْوِ يَنْسِلُ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ نَسْلًا وَنُسُولًا وَنُسْلَانًا أَيْ: أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ كُلِّ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ يُسْرِعُونَ الْمَشْيَ، وَيَتَفَرَّقُونَ فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: «وَهُمْ» لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ إِلَى أَرْضِ الْمَوْقِفِ وَهُمْ يُسْرِعُونَ مِنْ كُلِّ مُرْتَفَعٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَقُرِئَ بِضَمِّ السِّينِ، حَكَى ذَلِكَ الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَيْضًا الثَّعْلَبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الصَّهْبَاءِ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ عَطْفٌ عَلَى «فُتِحَتْ» ، وَالْمُرَادُ مَا بَعْدَ الْفَتْحِ مِنَ الْحِسَابِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْمُرَادُ بِالْوَعْدِ الْحَقِّ الْقِيَامَةُ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ وَهُوَ الْقِيَامَةُ، فَاقْتَرَبَ جَوَابُ إِذَا، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى «1» ............... .. أَيِ: انْتَحَى. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ- وَنادَيْناهُ «2» ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إِذَا فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا يَا وَيْلَنَا. وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ، وَالضَّمِيرُ فِي فَإِذا هِيَ لِلْقِصَّةِ، أَوْ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَإِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ وَقِيلَ إِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ هِيَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا هِيَ، يَعْنِي الْقِيَامَةَ بَارِزَةٌ وَاقِعَةٌ كَأَنَّهَا آتِيَةٌ حَاضِرَةٌ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا، عَلَى تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى المبتدأ، أي: أبصار الذين كفروا شاخصة، ويا وَيْلَنا عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا أَيْ: مِنْ هَذَا الَّذِي دَهَمَنَا مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أَضْرَبُوا عَنْ وَصْفِ أَنْفُسِهِمْ بِالْغَفْلَةِ، أَيْ: لَمْ نَكُنْ غَافِلِينَ، بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِنَا بِالتَّكْذِيبِ وَعَدَمِ الِانْقِيَادِ لِلرُّسُلِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ قَالَ: كَانَ فِي لِسَانِ امْرَأَةِ زَكَرِيَّا طُولٌ فَأَصْلَحَهُ اللَّهُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: وَهَبْنَا لَهُ وَلَدَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ عَاقِرًا فجعلها الله وَلُودًا، وَوَهَبَ لَهُ مِنْهَا يَحْيَى، وَفِي قَوْلِهِ: وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ قَالَ: أَذِلَّاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابن جريج في قوله: يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً قَالَ: رَغَبًا فِي رَحْمَةِ اللَّهِ ورهبا من

_ (1) . البيت لامرئ القيس، وتمامه: بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل. «البطن» : مكان مطمئن حوله أماكن مرتفعة. «الخبت» أرض مطمئنة. «الحقف» : رمل مشرف معوج. «العقنقل» : الرمل المنعقد المتلبّد. (2) . الصافات: 103، 104. [.....]

عَذَابِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً قَالَ: «رَغَبًا هَكَذَا وَرَهَبًا هَكَذَا، وَبَسَطَ كَفَّيْهِ، يَعْنِي جَعْلَ ظَهَرَهُمَا لِلْأَرْضِ فِي الرَّغْبَةِ وَعَكَسَهُ فِي الرَّهْبَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حكيم قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَنْ تُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَأَنْ تَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً قَالَ: إِنَّ هَذَا دِينُكُمْ دِينًا وَاحِدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ قَالَ: تَقَطَّعُوا: اخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها قَالَ: وَجَبَ إِهْلَاكُهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ قَالَ: لَا يَتُوبُونَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: وَحَرُمَ عَلَى قَرْيَةٍ قَالَ: وَجَبَ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ كَمَا قَالَ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ «1» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ حَدَبٍ قَالَ: شَرَفٍ يَنْسِلُونَ قَالَ: يُقْبِلُونَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَفِي وَقْتِ خُرُوجِهِمْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لا يتعلّق بذكرها هنا كثير فائدة.

_ (1) . يس: 31.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 إلى 112]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 112] إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (112) بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ مَعْبُودِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ «وَمَا تَعْبُدُونَ» : الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ حَصَبُ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: وَقُودُ جَهَنَّمَ وَحَطَبُهَا، وَكُلُّ مَا أَوْقَدْتَ بِهِ النَّارَ أَوْ هَيَّجْتَهَا بِهِ فَهُوَ حَصَبٌ، كَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ مَا قَذَفْتَهُ فِي النَّارِ فَقَدْ حَصَبْتَهَا بِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «1» وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَائِشَةُ حَطَبُ جَهَنَّمَ بِالطَّاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «حَضَبُ» بِالضَّادِ المعجمة. قال القراء: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَضَبَ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ الْحَطَبُ، وَوَجْهُ إِلْقَاءِ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ، مَعَ كَوْنِهَا جَمَادَاتٍ لَا تَعْقِلُ ذَلِكَ وَلَا تُحِسُّ بِهِ: التَّبْكِيتُ لِمَنْ عَبَدَهَا، وَزِيَادَةُ التَّوْبِيخِ لَهُمْ، وَتَضَاعُفُ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: إِنَّهَا تُحْمَى فَتُلْصَقُ بِهِمْ زِيَادَةً فِي تَعْذِيبِهِمْ، وَجُمْلَةُ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْ «حَصَبُ جَهَنَّمَ» ، وَالْخِطَابُ لَهُمْ وَلِمَا يَعْبُدُونَ تَغْلِيبًا، وَاللَّامُ فِي «لَها» لِلتَّقْوِيَةِ لِضَعْفِ عَمَلِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى عَلَى، وَالْمُرَادُ بِالْوُرُودِ هُنَا الدُّخُولُ. قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ لِأَنَّ مَا لِمَنْ لَا يَعْقِلُ، وَلَوْ أَرَادَ الْعُمُومَ لَقَالَ: «وَمَنْ يَعْبُدُونَ» . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُشْرِكُو مَكَّةَ دُونَ غَيْرِهِمْ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها أَيْ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ آلِهَةً كَمَا تَزْعُمُونَ مَا وَرَدُوهَا، أَيْ: مَا وَرَدَ الْعَابِدُونَ هُمْ وَالْمَعْبُودُونَ النَّارَ وَقِيلَ: مَا وَرَدَ الْعَابِدُونَ فَقَطْ، لَكِنَّهُمْ وَرَدُوهَا فَلَمْ يَكُونُوا آلِهَةً، وَفِي هَذَا تَبْكِيتٌ لِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَتَوْبِيخٌ شَدِيدٌ، وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ أَيْ: كُلُّ الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ فِي النَّارِ خَالِدُونَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَرَدُوا النَّارَ، وَالزَّفِيرُ: صَوْتُ نَفَسِ الْمَغْمُومِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَنِينُ وَالتَّنَفُّسُ الشَّدِيدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي هُودٍ. وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ أَيْ: لَا يَسْمَعُ بَعْضُهُمْ زَفِيرَ بَعْضٍ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ وَقِيلَ: لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ صُمًّا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «2» وَإِنَّمَا سُلِبُوا السَّمَاعَ لِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ تَرَوُّحٍ وَتَأَنُّسٍ وَقِيلَ: لَا يَسْمَعُونَ مَا يَسُرُّهُمْ، بَلْ يَسْمَعُونَ مَا يَسُوءُهُمْ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ هَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حَالِ السُّعَدَاءِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أَيِ: الْخَصْلَةُ الْحُسْنَى الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْخِصَالِ وَهِيَ السَّعَادَةُ، وَقِيلَ: التَّوْفِيقُ، أَوِ التَّبْشِيرُ بِالْجَنَّةِ، أَوْ نَفْسُ الْجَنَّةِ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ عَنْها أَيْ: عَنْ جَهَنَّمَ مُبْعَدُونَ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا فِي الْجَنَّةِ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها الْحِسُّ وَالْحَسِيسُ: الصَّوْتُ تَسْمَعُهُ مِنَ الشَّيْءِ يَمُرُّ قَرِيبًا مِنْكَ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْمَعُونَ حَرَكَةَ النَّارِ وَحَرَكَةَ أَهْلِهَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنْ مُبْعَدُونَ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ أَيْ: دَائِمُونَ، وَفِي الْجَنَّةِ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وتلذّ

_ (1) . البقرة: 24. (2) . الإسراء: 97.

بِهِ الْأَعْيُنُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ «1» . لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «لَا يُحْزِنُهُمْ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: حَزَنَهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَأَحْزَنَهُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالْفَزَعُ الْأَكْبَرُ: أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْعِقَابِ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أَيْ: تَسْتَقْبِلُهُمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُهَنِّئُونَهُمْ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أَيْ: تُوعَدُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَتُبَشَّرُونَ بِمَا فِيهِ، هَكَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى إِلَى هُنَا هُمْ كَافَّةُ الْمَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، لَا الْمَسِيحُ وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ الْآيَةَ أَتَى ابْنُ الزِّبَعْرَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عُزَيْرًا رَجُلٌ صَالِحٌ، وَأَنَّ عِيسَى رَجُلٌ صَالِحٌ، وَأَنَّ مَرْيَمَ امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ؟ قَالَ: بَلَى، فَقَالَ: فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ وَعِيسَى وَعُزَيْرًا وَمَرْيَمَ يُعْبَدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَنْ أَخْرَجَ هَذَا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قرأ أبو جعفر ابن الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ وَالزُّهْرِيُّ «تُطْوَى» بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ وَرَفْعِ السَّمَاءِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ «يَطْوِي» بِالتَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ عَلَى مَعْنَى يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاءَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ نَطْوِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَانْتِصَابِ يَوْمَ بِقَوْلِهِ: نُعِيدُهُ أَيْ: نُعِيدُهُ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ في «تُوعَدُونَ» ، والتقدير: الذي كُنْتُمْ تُوعَدُونَهُ يَوْمَ نَطْوِي وَقِيلَ بِقَوْلِهِ «لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ» وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ «تَتَلَقَّاهُمُ» وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ اذْكُرْ، وَهَذَا أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ، وَالطَّيُّ: ضِدُّ النَّشْرِ، وَقِيلَ: الْمَحْوُ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ الْجِنْسُ، وَالسِّجِلِّ: الصَّحِيفَةُ، أَيْ: طَيًّا كَطَيِّ الطُّومَارِ «2» وَقِيلَ: السِّجِلُّ: الصَّكُّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُسَاجَلَةِ وَهِيَ الْمُكَاتَبَةُ، وَأَصْلُهَا مِنَ السَّجْلِ، وَهُوَ الدَّلْوُ، يُقَالُ: سَاجَلْتُ الرَّجُلَ إِذَا نَزَعْتَ دَلْوًا وَنَزَعَ دَلْوًا، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ لِلْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ فِي الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: مَنْ يُسَاجِلْنِي يُسَاجِلْ مَاجِدًا ... يَمْلَأُ الدَّلْوَ إِلَى عَقْدِ الْكَرَبِ «3» وَقَرَأَ أَبُو زُرْعَةَ بن عمرو بن جَرِيرٍ: «السُّجُلِّ» بِضَمِّ السِّينِ وَالْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَالطَّيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الطَّيُّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّشْرِ، ومنه قوله: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، وَالثَّانِي الْإِخْفَاءُ وَالتَّعْمِيَةُ وَالْمَحْوُ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَمْحُو وَيَطْمِسُ رُسُومَهَا وَيُكَدِّرُ نُجُومَهَا. وَقِيلَ: السِّجِلُّ اسْمُ مَلَكٍ، وَهُوَ الَّذِي يَطْوِي كُتُبَ بَنِي آدَمَ وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ كَاتِبٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ والكسائي ويحيى وخلف «للكتب» جمعا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «لِلْكِتَابِ» ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنَ السِّجِلِّ، أَيْ: كَطَيِّ السِّجِلِّ كَائِنًا لِلْكُتُبِ، أَوْ صِفَةٌ لَهُ، أَيِ: الْكَائِنُ لِلْكُتُبِ، فَإِنَّ الْكُتُبَ عِبَارَةٌ عَنِ الصَّحَائِفِ وَمَا كُتِبَ فِيهَا، فسجلها

_ (1) . فصلت: 31. (2) . الطومار: الصحيفة. (3) . «الكرب» : حبل يشدّ على عراقي الدلو، ثم يثنى ثم يثلث ليكون هو الذي يلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير.

بَعْضُ أَجْزَائِهَا، وَبِهِ يَتَعَلَّقُ الطَّيُّ حَقِيقَةً. وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فَالْكِتَابُ مَصْدَرٌ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: كَمَا يُطْوَى الطُّومَارُ لِلْكِتَابَةِ، أَيْ: لِيُكْتَبَ فِيهِ، أَوْ لِمَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّيِّ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَهُوَ ضِدُّ النَّشْرِ. كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أَيْ: كَمَا بَدَأْنَاهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَأَخْرَجْنَاهُمْ إِلَى الْأَرْضِ حُفَاةً عُرَاةً غرلا، كذلك نعيدهم يوم القيامة، ف «أول خَلْقٍ» مَفْعُولُ «نُعِيدُ» مُقَدَّرًا يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ الْمَذْكُورُ، أو مفعول ل «بدأنا» ، و «ما» كَافَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَالْكَافُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: نُعِيدُ مِثْلَ الَّذِي بَدَأْنَاهُ نُعِيدُهُ، وَعَلَى هَذَا الوجه يكون أوّل ظرف لبدأنا، أو حال، وَإِنَّمَا خَصَّ أَوَّلَ الْخَلْقِ بِالذِّكْرِ تَصْوِيرًا لِلْإِيجَادِ عَنِ الْعَدَمِ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ صِحَّةِ الْإِعَادَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَبْدَأِ لِشُمُولِ الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ لَهُمَا وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: نُهْلِكُ كُلَّ نَفْسٍ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وَقِيلَ: الْمَعْنَى نُغَيِّرُ السَّمَاءَ، ثُمَّ نُعِيدُهَا مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ طَيِّهَا وَزَوَالِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «1» ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ انْتِصَابُ «وَعْدًا» عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَيْ: وَعَدْنَا وَعْدًا عَلَيْنَا إِنْجَازُهُ وَالْوَفَاءُ بِهِ. وَهُوَ الْبَعْثُ وَالْإِعَادَةُ، ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ: إِنَّا كُنَّا قَادِرِينَ عَلَى مَا نَشَاءُ وَقِيلَ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ مَا وَعَدْنَاكُمْ، ومثله قوله: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا «2» - وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ الزُّبُرُ فِي الْأَصْلِ الْكُتُبُ، يُقَالُ زَبَرْتُ: أَيْ كَتَبْتُ، وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الزَّبُورِ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَعَلَى كِتَابِ دَاوُدَ الْمُسَمَّى بِالزَّبُورِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا كِتَابُ دَاوُدَ، وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَيِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقِيلَ هُوَ التَّوْرَاةُ: أَيْ والله لقد كَتَبْنَا فِي كِتَابِ دَاوُدَ مِنْ بَعْدِ مَا كَتَبْنَا فِي التَّوْرَاةِ أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا كَتَبْنَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ. قال الزجاج: الزبور جميع الْكُتُبِ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ، لِأَنَّ الزَّبُورَ وَالْكِتَابَ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ زَبَرْتُ وَكَتَبْتُ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ فِي الزُّبُورِ بِضَمِّ الزَّايِ، فَإِنَّهُ جَمْعُ زُبُرٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ أَرْضُ الْجَنَّةِ، وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ «3» وَقِيلَ: هِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، وَقِيلَ: هِيَ أَرْضُ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ يَرِثُهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ بِفَتْحِهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، بِدَلِيلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها «4» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَبْشِيرٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِوِرَاثَةِ أَرْضِ الْكَافِرِينَ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ عِبَادِي بِتَسْكِينِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَحْرِيكِهَا. إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً أَيْ: فِيمَا جَرَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْوَعْظِ وَالتَّنْبِيهِ لَبَلَاغًا لَكِفَايَةً، يُقَالُ: فِي هَذَا الشَّيْءِ بلاغ وبلغة وتبلغ، أَيْ: كِفَايَةٌ، وَقِيلَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ لِقَوْمٍ عابِدِينَ أَيْ: مَشْغُولِينَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُهْتَمِّينَ بِهَا، وَالْعِبَادَةُ: هِيَ الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَسُ الْعِبَادَةِ الصَّلَاةُ. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ

_ (1) . الأنعام: 94. (2) . المزمل: 18. (3) . الزمر: 74. (4) . الأعراف: 137.

بِالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ إِلَّا رَحْمَةً لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ وَالْعِلَلِ، أَيْ: مَا أَرْسَلْنَاكَ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِرَحْمَتِنَا الْوَاسِعَةِ، فَإِنَّ مَا بُعِثْتَ بِهِ سَبَبٌ لِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. قِيلَ: وَمَعْنَى كَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْكُفَّارِ: أَنَّهُمْ أَمِنُوا بِهِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالِاسْتِئْصَالِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «1» ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الرَّحْمَةِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ، فَقَالَ: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إِنْ كَانَتْ مَا مَوْصُولَةً، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي يُوحَى إِلَيَّ هُوَ أَنَّ وَصْفَهُ تَعَالَى مَقْصُورٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لَا يَتَجَاوَزُهَا إِلَى مَا يُنَاقِضُهَا أَوْ يُضَادُّهَا، وَإِنْ كَانَتْ «مَا» كَافَّةً فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْوَحْيَ إِلَيَّ مَقْصُورٌ عَلَى اسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِالْوَحْدَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَصْرَ أَبَدًا يَكُونُ لِمَا يَلِي إِنَّمَا، فَإِنَّمَا الْأُولَى: لِقَصْرِ الْوَصْفِ عَلَى الشَّيْءِ، كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ، أَيْ: مَا يَقُومُ إِلَّا زَيْدٌ. وَالثَّانِيَةُ: لِقَصْرِ الشَّيْءِ عَلَى الْحُكْمِ، كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، أَيْ: لَيْسَ بِهِ إِلَّا صِفَةُ الْقِيَامِ. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مُنْقَادُونَ مُخْلِصُونَ لِلْعِبَادَةِ وَلِتَوْحِيدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ فَقُلْ لَهُمْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ أَيْ: أَعْلَمْتُكُمْ أَنَّا وَإِيَّاكُمْ حَرْبٌ لَا صُلْحَ بَيْنَنَا كَائِنِينَ عَلَى سَوَاءٍ فِي الْإِعْلَامِ لَمْ أَخُصَّ بِهِ بَعْضَكُمْ دُونَ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ «2» أَيْ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ نَقَضْتَ الْعَهْدَ نَقْضًا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَعْلَمْتُكُمْ مَا يُوحَى إِلَيَّ عَلَى اسْتِوَاءٍ فِي الْعِلْمِ بِهِ، وَلَا أُظْهِرُ لِأَحَدٍ شَيْئًا كَتَمْتُهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ أي: ما أدري ما تُوعَدُونَ بِهِ قَرِيبٌ حُصُولُهُ أَمْ بَعِيدٌ، وَهُوَ غلبة الإسلام وأهله عَلَى الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَا تُوعَدُونَ الْقِيَامَةُ، وَقِيلَ: آذَنْتُكُمْ بِالْحَرْبِ، وَلَكِنْ لَا أَدْرِي مَا يُؤْذَنُ لِي فِي مُحَارَبَتِكُمْ. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ أَيْ: يَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا تُجَاهِرُونَ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالطَّعْنِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَمَا تَكْتُمُونَهُ مِنْ ذَلِكَ وَتُخْفُونَهُ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ أَيْ: مَا أَدْرِي لَعَلَّ الْإِمْهَالَ فِتْنَةٌ لَكُمْ واختبار ليرى كيف صنيعكم وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أَيْ: وَتَمْتِيعٌ إِلَى وَقْتٍ مُقَدَّرٍ تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دعاء نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أَيِ: احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَكَ، فَفَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «رَبُّ» بضم الباء. قال النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَحْنٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لَا يَجُوزُ عندهم: رجل أقبل، حتى تقول: يَا رَجُلُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَطَلْحَةُ وَيَعْقُوبُ «أَحْكَمُ» بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ: قال محمد: ربي أحكم بالحقّ من كل حاكم. وقرأ الجحدري «أحكم» بصيغة الماضي أي: أحكم الأمور بِالْحَقِّ. وَقُرِئَ «قُلْ» بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، أَيْ: قُلْ يا محمد. قال أبو عبيدة: الصفة هنا أقيمت مقام الموصوف، والتقدير: ربّ احكم بحكمك الحق، وَرَبِّ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّهُ مُنَادًى مُضَافٌ إِلَى الضَّمِيرِ، وَقَدِ اسْتَجَابَ سُبْحَانَهُ دُعَاءَ نَبِيِّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَعَذَّبَهُمْ بِبَدْرٍ، ثُمَّ جَعَلَ الْعَاقِبَةَ وَالْغَلَبَةَ وَالنَّصْرَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ مُتَمِّمًا لِتِلْكَ الْحِكَايَةِ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، فَرَبُّنَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الرَّحْمَنُ، أَيْ: هُوَ كثير الرحمة

_ (1) . الأنفال: 33. (2) . الأنفال: 58.

لِعِبَادِهِ، وَالْمُسْتَعَانُ خَبَرٌ آخَرُ، أَيِ: الْمُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا تَصِفُونَهُ مِنْ أَنَّ الشَّوْكَةَ تَكُونُ لَكُمْ، وَمِنْ قَوْلِكُمْ: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ «1» وقولكم: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً «2» وَكَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ الْوَصْفُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، كَقَوْلِهِ: وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ «3» ، وقوله: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ «4» وَقَرَأَ الْمُفَضَّلُ وَالسُّلَمِيُّ «عَلَى مَا يَصِفُونَ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: فَالْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ يُعْبَدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْهُ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: قَدْ عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْمَلَائِكَةُ وَعُزَيْرٌ وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ كُلُّ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ مَعَ آلِهَتِنَا، فَنَزَلَتْ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ- وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ «5» ، ثُمَّ نَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى قَالَ: «عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: حَصَبُ جَهَنَّمَ قَالَ: شَجَرُ جَهَنَّمَ، وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَوْفِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ حَصَبُ جَهَنَّمَ: وَقُودُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُوَ حَطَبُ جَهَنَّمَ بِالزِّنْجِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها قَالَ: «حَيَّاتٌ عَلَى الصِّرَاطِ تَقُولُ: حَسِّ حَسِّ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها قَالَ: حَيَّاتٌ عَلَى الصِّرَاطِ تَلْسَعُهُمْ، فَإِذَا لَسَعَتْهُمْ قَالُوا: حَسِّ حَسِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى قَالَ: هُوَ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها يَقُولُ: لَا يَسْمَعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ حَسِيسَ النَّارِ إذا نزلوا منزلهم من الجنة.

_ (1) . الأنبياء: 3. (2) . الأنبياء: 26. [.....] (3) . الأنبياء: 18. (4) . الأنعام: 139. (5) . الزخرف: 57- 58.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ قَالَ: النَّفْخَةُ الْآخِرَةُ، وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَوْفِيُّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ لَا يَهُولُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ رَاضُونَ، وَرَجُلٌ كَانَ يُؤَذِّنُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَعَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: كَطَيِّ السِّجِلِّ قَالَ: مَلَكٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطِيَّةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: السِّجِلُّ: مَلَكٌ، فَإِذَا صَعِدَ بِالِاسْتِغْفَارِ قَالَ: اكْتُبُوهَا نُورًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ قَالَ: السِّجِلُّ: مَلَكٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السِّجِلُّ: كَاتِبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِبٌ يُسَمَّى السِّجِلَّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قَالَ: كَمَا يَطْوِي السِّجِلُّ الْكِتَابَ كَذَلِكَ نَطْوِي السَّمَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِبٌ يُقَالُ لَهُ السِّجِلُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَهَذَا مُنْكَرٌ جِدًّا مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، لَا يَصِحُّ أَصْلًا. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا. وَقَدْ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنِ الْحُفَّاظِ بِوَضْعِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، مِنْهُمْ شَيْخُنَا الحافظ الكبير أبو الحجّاج المزي، وقد أفردت لهذا الْحَدِيثِ جُزْءًا لَهُ عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قال: وقد تصدّى الإمام أبو جعفر ابن جَرِيرٍ لِلْإِنْكَارِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَدَّهُ أَتَمَّ رَدٍّ، وَقَالَ: وَلَا نَعْرِفُ فِي الصَّحَابَةِ أَحَدًا اسْمُهُ سِجِلُّ، وَكُتَّابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ اسْمُهُ السِّجِلُّ، وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى نَكَارَةِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَأَمَّا مَنْ ذَكَرَ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ هَذَا فَإِنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السِّجِلَّ هُوَ الصَّحِيفَةُ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ عَنْهُ. وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ، أَيْ: عَلَى الْكِتَابِ، يَعْنِي الْمَكْتُوبَ، كقوله: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ «1» أَيْ: عَلَى الْجَبِينِ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: أَمَّا كَوْنُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَا، فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيَّ ضَعِيفَانِ، فَالْأَوْلَى التَّعْوِيلُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السِّجِلِّ هُوَ الرَّجُلُ، زَادَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ عَلَى الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ يَقُولُ: نُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:

_ (1) . الصافات: 103.

وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ قَالَ: الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَرْضَ قَالَ: أَرْضُ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ قَالَ: الْكُتُبِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ قَالَ: التَّوْرَاةِ. وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَوْفِيُّ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: الزَّبُورُ وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ. وَالذِّكْرُ: الْأَصْلُ الَّذِي نُسِخَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْكُتُبُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ. وَالْأَرْضُ: أَرْضُ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ قَالَ: أَرْضُ الْجَنَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ في التوراة والزبور وسابق علمه قَبْلَ أَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَنْ يُورِثَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ الْأَرْضَ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ، وَهُمُ الصَّالِحُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ قَالَ: عَالِمِينَ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ قَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ قَالَ: «فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ شُغْلًا لِلْعِبَادَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ قَالَ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَمَاعَةٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قَالَ: مَنْ آمَنَ تَمَّتْ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ عُوفِيَ مِمَّا كَانَ يُصِيبُ الْأُمَمَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالْقَذْفِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» . وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَهُدًى لِلْمُتَّقِينَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَلْمَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي سَبَبْتُهُ سَبَّةً فِي غَضَبِي، أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً، فَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُونَ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَاجْعَلْهَا عَلَيْهِ صَلَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فُلَانًا، وَهُوَ بَعْضُ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ يَقُولُ: هَذَا الْمَلِكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ يَقُولُ: مَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالسَّاعَةِ، لَعَلَّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فِتْنَةٌ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ قَالَ: لَا يَحْكُمُ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَإِنَّمَا يَسْتَعْجِلُ بِذَلِكَ فِي الدنيا يسأل ربّه [على قومه] «1» .

_ (1) . من تفسير ابن جرير (17/ 108) .

سورة الحج

سورة الحجّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ هِيَ مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ؟ فَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْحَجُّ غَيْرَ أَرْبَعِ آيَاتٍ مَكِّيَّاتٍ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ، إِلَى: عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ سِوَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعُ آيَاتٍ إِلَى قَوْلِهِ: عَذابَ الْحَرِيقِ. وَحُكِيَ عَنِ النَّقَّاشِ أَنَّهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا عَشْرُ آيَاتٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ السُّورَةَ مُخْتَلِطَةٌ، مِنْهَا مَكِّيٌّ، وَمِنْهَا مدني. قال: وهذا هو الصحيح. قال الغزنوي: وَهِيَ مِنْ أَعَاجِيبِ السُّورِ، نَزَلَتْ لَيْلًا وَنَهَارًا، سَفَرًا وَحَضَرًا، مَكِّيًّا وَمَدَنِيًّا، سِلْمِيًّا وَحَرْبِيًّا، نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِهَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ عَلَى سَائِرِ الْقُرْآنِ بِسَجْدَتَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ عَلَى الْقُرْآنِ بسجدتين» . وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ فِي الْحَجِّ وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَّتْ عَلَى سَائِرِ الْقُرْآنِ بِسَجْدَتَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ، وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ فِيهَا سَجْدَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)

لَمَّا انْجَرَّ الْكَلَامُ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى ذِكْرِ الْإِعَادَةِ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، بَدَأَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، حَثًّا عَلَى التَّقْوَى الَّتِي هِيَ أَنْفَعُ زاد، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ أَيِ: احْذَرُوا عِقَابَهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَفْظُ «النَّاسِ» يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْمَوْجُودِينَ وَمَنْ سَيُوجَدُ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ تَحْقِيقِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَالزَّلْزَلَةُ: شِدَّةُ الْحَرَكَةِ، وَأَصْلُهَا مِنْ زَلَّ عَنِ الْمَوْضِعِ، أَيْ: زَالَ عَنْهُ وَتَحَرَّكَ، وَزَلْزَلَ اللَّهُ قَدَمَهُ، أَيْ: حَرَّكَهَا، وَتَكْرِيرُ الْحَرْفِ يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْمَعْنَى، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، وَهِيَ عَلَى هذه الزَّلْزَلَةُ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَمِنْ بَعْدِهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا مُضَافٌ إِلَى الظَّرْفِ، وَهُوَ السَّاعَةُ، إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى الْمَفْعُولِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ فِي كَمَا فِي قَوْلِهِ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها «2» قِيلَ: وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالشَّيْءِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْعُقُولَ قَاصِرَةٌ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِهَا. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ انْتِصَابُ الظَّرْفِ بِمَا بَعْدَهُ، وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الزَّلْزَلَةِ، أَيْ: وَقْتَ رُؤْيَتِكُمْ لَهَا تَذْهَلُ كُلُّ ذَاتِ رَضَاعٍ عَنْ رَضِيعِهَا وَتَغْفُلُ عَنْهُ. قَالَ قُطْرُبٌ: تَذْهَلُ: تشتغل، وأنشد قول الشاعر «3» : ضربا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ وَقِيلَ: تَنْسَى، وَقِيلَ: تَلْهُو، وَقِيلَ: تَسْلُو، وَهَذِهِ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ «مَا» فِيمَا أَرْضَعَتْ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: تَذْهَلُ عَنِ الْإِرْضَاعِ، قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ فِي الدُّنْيَا إِذْ لَيْسَ بَعْدَ الْقِيَامَةِ حَمْلٌ وَإِرْضَاعٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مَنْ مَاتَتْ حَامِلًا فَتَضَعُ حَمْلَهَا لِلْهَوْلِ، وَمَنْ مَاتَتْ مُرْضِعَةً بُعِثَتْ كَذَلِكَ، وَيُقَالُ هَذَا مَثَلٌ كَمَا يُقَالُ: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً «4» . وقيل: يكون مع النَّفْخَةِ الْأُولَى، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ عِبَارَةً عَنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا فِي قوله: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا «5» . ومعنى وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها أَنَّهَا تُلْقِي جَنِينَهَا لِغَيْرِ تَمَامٍ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ، كَمَا أَنَّ الْمُرْضِعَةَ تَتْرُكُ وَلَدَهَا بِغَيْرِ رَضَاعٍ لِذَلِكَ. وَتَرَى النَّاسَ سُكارى قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ خِطَابٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَيْ: يَرَاهُمُ الرَّائِي كَأَنَّهُمْ سُكَارَى وَما هُمْ بِسُكارى حَقِيقَةً، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سَكْرَى بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِثْبَاتِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ يُجْمَعُ بِهِمَا سَكْرَانُ، مِثْلُ كَسْلَى وَكُسَالَى. وَلَمَّا نَفَى سُبْحَانَهُ عَنْهُمُ السُّكْرَ أوضح السبب

_ (1) . سبأ: 33. (2) . الزلزلة: 1. (3) . هو عبد الله بن رواحة. (4) . المزمل: 17. (5) . البقرة: 214.

الَّذِي لِأَجْلِهِ شَابَهُوا السُّكَارَى فَقَالَ: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فَبِسَبَبِ هَذِهِ الشِّدَّةِ وَالْهَوْلِ الْعَظِيمِ طَاشَتْ عُقُولُهُمْ، وَاضْطَرَبَتْ أَفْهَامُهُمْ فَصَارُوا كَالسُّكَارَى، بِجَامِعِ سَلْبِ كَمَالِ التَّمْيِيزِ وَصِحَّةِ الْإِدْرَاكِ. وَقُرِئَ «وَتُرَى» بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مُسْنَدًا إِلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ أَرَأَيْتُكَ، أَيْ: تَظُنُّهُمْ سُكَارَى. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهٌ جَيِّدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ. ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ قَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً تَشْمَلُ أَهْلَ الْجِدَالِ كُلَّهُمْ، فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ إِعْرَابُ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ «1» . وَمَعْنَى فِي اللَّهِ فِي شَأْنِ اللَّهِ وَقَدْرَتِهِ، وَمَحَلُّ بِغَيْرِ عِلْمٍ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُخَاصِمُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْبَعْثِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ، وَلَا حُجَّةٍ يُدْلِي بِهَا وَيَتَّبِعُ فِيمَا يَقُولُهُ وَيَتَعَاطَاهُ وَيَحْتَجُّ بِهِ وَيُجَادِلُ عَنْهُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ أَيْ: مُتَمَرِّدٍ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ الْعَاتِي، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِخُلُوِّهِ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمُرَادُ إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، أَوْ رُؤَسَاءُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَدْعُونَ أَشْيَاعَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْجِدَالِ، وَكَانَ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ أَيْ: كُتِبَ عَلَى الشَّيْطَانِ وَفَاعِلُ «كُتِبَ» «أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ» ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، أَيْ: من اتخذه وَلِيًّا فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ أَيْ: فَشَأْنُ الشَّيْطَانِ أَنْ يُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، فَقَوْلُهُ: «أَنَّهُ يُضِلُّهُ» جَوَابُ الشَّرْطِ إِنْ جُعِلَتْ مَنْ شَرْطِيَّةً، أَوْ خَبَرُ الْمَوْصُولِ إِنْ جُعِلَتْ مَوْصُولَةً، فَقَدْ وُصِفَ الشَّيْطَانُ بِوَصْفَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ مَرِيدٌ، وَالثَّانِي مَا أَفَادَهُ جُمْلَةُ كُتِبَ عَلَيْهِ إِلَخْ. وَجُمْلَةُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يُضِلُّهُ أَيْ: يَحْمِلُهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ مَا يَصِيرُ بِهِ فِي عَذَابِ السَّعِيرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْكُفَّارِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ، فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ قَرَأَ الْحَسَنُ «الْبَعَثُ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالسُّكُونِ، وَشَكُّهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي وُقُوعِهِ أَوْ فِي إِمْكَانِهِ.. وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْإِعَادَةِ فَانْظُرُوا فِي مَبْدَأِ خَلْقِكُمْ، أَيْ: خَلْقِ أَبِيكُمْ آدَمَ، لِيَزُولَ عَنْكُمُ الرَّيْبُ وَيَرْتَفِعَ الشَّكُّ وَتُدْحَضُ الشُّبْهَةُ الْبَاطِلَةُ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ فِي ضِمْنِ خَلْقِ أَبِيكُمْ آدَمَ ثُمَّ خَلَقْنَاكُمْ مِنْ نُطْفَةٍ أَيْ: مِنْ مَنِيٍّ، سُمِّيَ نُطْفَةً لِقِلَّتِهِ، وَالنُّطْفَةُ: الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ. وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهُ، وَالنُّطْفَةُ: الْقَطْرَةُ، يُقَالُ: نَطَفَ يَنْطِفُ، أَيْ: قَطَرَ، وليلة نطوفة، أَيْ: دَائِمَةُ الْقَطْرِ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ وَالْعَلَقَةُ: الدَّمُ الْجَامِدُ، وَالْعَلَقُ: الدَّمُ الْعَبِيطُ، أَيِ: الطَّرِيُّ أَوِ الْمُتَجَمِّدِ، وَقِيلَ: الشَّدِيدُ الْحُمْرَةِ، وَالْمُرَادُ: الدَّمُ الْجَامِدُ الْمُتَكَوِّنُ مِنَ الْمَنِيِّ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ، قَدْرُ مَا يَمْضُغُ الْمَاضِغُ تَتَكَوَّنُ مِنَ الْعَلَقَةِ مُخَلَّقَةٍ بِالْجَرِّ صِفَةً لِمُضْغَةٍ، أَيْ: مُسْتَبِينَةِ الْخَلْقِ، ظَاهِرَةِ التَّصْوِيرِ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أَيْ: لَمْ يَسْتَبِنْ خَلْقُهَا وَلَا ظَهَرَ تَصْوِيرُهَا. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: «مُخَلَّقَةٍ» يُرِيدُ قَدْ بدا خلقه، و «غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» لَمْ تُصَوَّرْ. قَالَ الْأَكْثَرُ: مَا أُكْمِلَ خَلْقُهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ فَهُوَ الْمُخَلَّقَةُ وَهُوَ الذي

_ (1) . البقرة: 8.

وُلِدَ لِتَمَامٍ، وَمَا سَقَطَ كَانَ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ، أَيْ: غَيْرَ حَيٍّ بِإِكْمَالِ خِلْقَتِهِ بِالرُّوحِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مُخَلَّقَةٌ تَامُّ الْخَلْقِ، وَغَيْرُ مُخَلَّقَةٍ: السَّقْطُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَفِي غَيْرِ الْمُخَلَّقَةِ الْبُكَاءُ ... فَأَيْنَ الْحَزْمُ وَيْحَكَ وَالْحَيَاءُ؟ وَاللَّامُ فِي لِنُبَيِّنَ لَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِخَلَقْنَا، أَيْ: خَلَقْنَاكُمْ عَلَى هَذَا النمط البديع لِنُبَيِّنَ لَكُمْ كَمَالَ قُدْرَتِنَا بِتَصْرِيفِنَا أَطْوَارَ خَلْقِكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ رَوَى أَبُو حاتم عن أبي يزيد عَنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِنَصْبِ «نُقِرَّ» عَطْفًا عَلَى نُبَيِّنَ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُقِرُّ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ: وَنَحْنُ نُقِرُّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: نُقِرُّ بِالرَّفْعِ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى فَعَلْنَا ذَلِكَ لِنُقِرَّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَنُثَبِّتُ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ فَلَا يَكُونُ سَقْطًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ وَقْتُ الْوِلَادَةِ، وَقَالَ مَا نَشَاءُ وَلَمْ يَقُلْ مَنْ نَشَاءُ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْحَمْلِ وَهُوَ جَمَادٌ قَبْلَ أَنْ يَنْفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَقُرِئَ لِيُبَيِّنَ وَيُقِرُّ وَ: يُخْرِجُكُمْ بِالتَّحْتِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي وَثَّابٍ «مَا نَشَاءُ» بِكَسْرِ النُّونِ. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أَيْ: نُخْرِجُكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ طِفْلًا، أَيْ: أَطْفَالًا، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ إِرَادَةً لِلْجِنْسِ الشَّامِلِ لِلْوَاحِدِ وَالْمُتَعَدِّدِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: طِفْلًا فِي مَعْنَى أَطْفَالًا، وَدَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْجَمَاعَةِ يَعْنِي فِي نُخْرِجُكُمْ، وَالْعَرَبُ كَثِيرًا مَا تُطْلِقُ اسْمَ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَلْحَيْنَنِي مِنْ حُبِّهَا وَيَلُمْنَنِي ... إِنَّ الْعَوَاذِلَ لَسْنَ لِي بِأَمِيرٍ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ اسْمٌ يُسْتَعْمَلُ مَصْدَرًا كَالرِّضَا وَالْعَدْلِ، فَيَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا «1» . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً «2» وَفِيهِ بُعْدٌ، وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَالطِّفْلُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّغِيرِ مِنْ وَقْتِ انْفِصَالِهِ إِلَى الْبُلُوغِ. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ قِيلَ: هُوَ عِلَّةٌ لِنُخْرِجَكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ أُخْرَى مُنَاسِبَةٍ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: نُخْرِجُكُمْ لِتَكْبُرُوا شَيْئًا فشيئا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا إِلَى الْأَشُدِّ وَقِيلَ: إِنَّ ثُمَّ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ لِتَبْلُغُوا وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى نُبَيِّنَ، وَالْأَشُدُّ هُوَ كَمَالُ الْعَقْلِ وَكَمَالُ الْقُوَّةِ وَالتَّمْيِيزِ، قِيلَ: وَهُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى فِي الْأَنْعَامِ. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى يَعْنِي قَبْلَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ، وَقُرِئَ «يَتَوَفَّى» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الجمهور يُتَوَفَّى مبنيا المفعول وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أَيْ: أَخَسِّهِ وَأَدْوَنِهِ، وَهُوَ الْهَرَمُ وَالْخَرَفُ حَتَّى لَا يَعْقِلَ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ بَعْدِ أَنْ كَانَ ذَا عِلْمٍ بِالْأَشْيَاءِ وَفَهْمٍ لَهَا، لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا فَهْمَ، وَمِثْلهُ قَوْلُهُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ- ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ «3» وقوله: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ «4» . وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى عَلَى الْبَعْثِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ احْتَجَّ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ، وَالْهَامِدَةُ: الْيَابِسَةُ الَّتِي لا تنبت

_ (1) . النور: 31. (2) . النساء: 4. (3) . التين: 4 و 5. [.....] (4) . يس: 68.

شَيْئًا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ: مَيْتَةٌ يَابِسَةٌ كَالنَّارِ إِذَا طُفِئَتْ، وَقِيلَ: دَارِسَةٌ، وَالْهُمُودُ: الدُّرُوسُ، وَمِنْهُ قَوْلِ الْأَعْشَى: قَالَتْ قُتَيْلَةُ مَا لِجِسْمِكَ شاحبا ... وأرى ثيابك باليات همّدا وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي ذَهَبَ عَنْهَا النَّدَى، وَقِيلَ: هالكة، ومعاني هَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ الْمُرَادُ بِالْمَاءِ هُنَا الْمَطَرُ، وَمَعْنَى اهْتَزَّتْ تَحَرَّكَتْ، وَالِاهْتِزَازُ: شِدَّةُ الْحَرَكَةِ، يُقَالُ: هَزَزْتُ الشَّيْءَ فَاهْتَزَّ، أَيْ: حَرَّكْتُهُ فَتَحَرَّكَ. وَالْمَعْنَى: تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ لِأَنَّ النَّبَاتَ لَا يُخْرَجُ مِنْهَا حَتَّى يُزِيلَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ إِزَالَةً حَقِيقَةً، فَسَمَّاهُ اهْتِزَازًا مَجَازًا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَعْنَى اهْتَزَّ نَبَاتُهَا، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَاهْتِزَازُهُ: شِدَّةُ حَرَكَتِهِ، وَالِاهْتِزَازُ فِي النَّبَاتِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ، وَمَعْنَى رَبَتِ: ارْتَفَعَتْ، وَقِيلَ: انْتَفَخَتْ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَأَصْلُهُ الزِّيَادَةُ، يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو رَبْوًا إِذَا زَادَ، وَمِنْهُ الرِّبَا وَالرَّبْوَةُ. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ «وَرَبَأَتْ» أَيِ: ارْتَفَعَتْ حَتَّى صارت بمنزلة الربيئة، وَهُوَ الَّذِي يَحْفَظُ الْقَوْمَ عَلَى مَكَانٍ مُشْرِفٍ، يُقَالُ لَهُ رَابِئٌ وَرَابِئَةٌ وَرَبِيئَةٌ. وَأَنْبَتَتْ أَيْ: أَخْرَجَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أَيْ: مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ وَلَوْنٍ مُسْتَحْسَنٍ، وَالْبَهْجَةُ: الْحُسْنُ، وَجُمْلَةُ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ مُسْتَأْنَفَةٌ. لَمَّا ذَكَرَ افْتِقَارَ الْمَوْجُودَاتِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَسْخِيرِهَا عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ وَاقْتِدَارِهِ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ، وَهِيَ إِثْبَاتُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَأَنَّهَا مِنْ شَأْنِهِ، لَا يَدَّعِي غَيْرَهُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَدَلَّ سُبْحَانَهُ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ الْحَقِيقِيُّ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ وَأَنَّ وُجُودَ كُلِّ مَوْجُودٍ مُسْتَفَادٌ مِنْهُ، وَالْحَقُّ: هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَزُولُ وَقِيلَ: ذُو الْحَقِّ عَلَى عِبَادِهِ، وَقِيلَ: الْحَقُّ فِي أَفْعَالِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيِ: الْأَمْرُ مَا وَصَفَهُ لَكُمْ وَبَيَّنَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَصْبًا، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَيْ: فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، قِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: وَلِتَعْلَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها أَيْ: لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا تَرَدُّدَ، وَجُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيها خَبَرٌ ثَانٍ لِلسَّاعَةِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْبَعْثِ فَقَالَ: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «لما نزلت يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: أَتُدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ ذَلِكَ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا بَعَثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النار، وواحد إِلَى الْجَنَّةِ. فَأَنْشَأَ الْمُسْلِمُونَ يَبْكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَارِبُوا وَسَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهَا جَاهِلِيَّةٌ، فيؤخذ العدد مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنْ تَمَّتْ وَإِلَّا كَمُلَتْ

مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَمَا مَثَلُكُمْ وَالْأُمَمِ إِلَّا كَمَثَلِ الرَّقْمَةِ «1» فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، أَوْ كَالشَّامَةِ «2» فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرُوا، ثُمَّ قَالَ: إني لأرجو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرُوا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرُوا، قَالَ: وَلَا أَدْرِي قَالَ الثُّلُثَيْنِ أَمْ لَا» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا نحوه، وقال في آخره: «اعملوا وأبشروا، فو الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَمَعَ خَلِيقَتَيْنِ مَا كانتا مَعَ شَيْءٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنْ بَنِي إِبْلِيسَ، فَسُرِّيَ عَنِ الْقَوْمِ بَعْضُ الَّذِي يَجِدُونَ، قَالَ: اعملوا وأبشروا، فو الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ أَيْضًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَفِي آخِرِهِ فَقَالَ: «مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ، وَهَلْ أَنْتُمْ فِي الْأُمَمِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْهِ قَالَ: كُتِبَ عَلَى الشَّيْطَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ: أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ قَالَ: اتَّبَعَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فو الذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ قَالَ: الْمُخَلَّقَةُ مَا كَانَ حَيًّا، وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ مَا كَانَ سَقْطًا. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ قَالَ: حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، دَخَلَ الجنة.

_ (1) . «الرقمة» : الرقمتان: هما الأثران في باطن عضد الحمار، وقيل: هي الدائرة في ذراعيه، وقيل: هي الرمّة الناتئة في ذراع الدابة من داخل. (2) . «الشامة» : الخال والعلامة في الجسد.

[سورة الحج (22) : الآيات 8 إلى 16]

[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 16] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أَيْ: فِي شَأْنِ اللَّهِ، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَقِيلَ: فِي أَبِي جَهْلٍ، وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مَنْ يَتَصَدَّى لِإِضْلَالِ النَّاسِ وَإِغْوَائِهِمْ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالِاعْتِبَارُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا. وَمَعْنَى اللَّفْظِ: وَمِنَ النَّاسِ فَرِيقٌ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مُجَادِلٍ فِي ذَاتِ اللَّهِ، أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ شَرَائِعِهِ الْوَاضِحَةِ، وبِغَيْرِ عِلْمٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَائِنًا بِغَيْرِ عِلْمٍ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُوَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ، وَبِالْهُدَى هُوَ الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ الِاسْتِدْلَالِيُّ. والأولى حمل العلم عَلَى الْعُمُومِ، وَحَمْلُ الْهُدَى عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ الْإِرْشَادُ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْمُنِيرُ: النَّيِّرُ الْبَيِّنُ الْحُجَّةِ الْوَاضِحُ الْبُرْهَانِ، وَهُوَ وَإِنْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ فَإِفْرَادُهُ بالذكر كإفراد جبريل بالذكر عند ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ الْفَرْدَ الْكَامِلَ الْفَائِقَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَفْرَادِ الْعِلْمِ. وَأَمَّا مَنْ حَمَلَ الْعِلْمَ عَلَى الضَّرُورِيِّ وَالْهُدَى عَلَى الِاسْتِدْلَالِيِّ، فَقَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ هُنَا عَلَى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُتَضَمِّنَةً لِنَفْيِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ ضَرُورِيًّا كَانَ أَوِ اسْتِدْلَالِيًّا، وَمُتَضَمِّنَةً لِنَفْيِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ بِأَقْسَامِهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْمُجَادِلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمُجَادِلُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، أَعْنِي قَوْلَهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ، وَبِذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالتَّكْرِيرُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الذَّمِّ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ تَذُمُّهُ وَتُوَبِّخُهُ: أَنْتَ فَعَلَتْ هَذَا، أَنْتَ فَعَلَتْ هَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرِيرُ لِكَوْنِهِ وَصَفَهُ فِي كُلِّ آيَةٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا وَصَفَهُ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اه. وَقِيلَ: الْآيَةُ الْأُولَى فِي الْمُقَلِّدِينَ اسْمُ فَاعِلٍ. وَالثَّانِيَةُ فِي المقلدين اسم مفعول. ولا وجه لهذا، كما أنه لا وجه لقول من قال: إن الآية الأولى خاصة بإضلال المتبوعين لتابعيهم، وَالثَّانِيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ إِضْلَالٍ وَجِدَالٍ. وَانْتِصَابُ ثانِيَ عِطْفِهِ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يُجَادِلُ، وَالْعِطْفُ: الْجَانِبُ، وَعِطْفَا الرَّجُلِ: جَانِبَاهُ مِنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، وَفِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ يَلْوِي عُنُقَهُ مَرَحًا وَتَكَبُّرًا، ذَكَرَ معناه الزجّاج، وقال: وَهَذَا يُوصَفُ بِهِ الْمُتَكَبِّرُ. وَالْمَعْنَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ مُتَكَبِّرًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: العطف ما

انْثَنَى مِنَ الْعُنُقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ثانِيَ عِطْفِهِ الْإِعْرَاضُ، أَيْ: مُعْرِضًا عَنِ الذَّكَرِ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْمُفَضَّلُ وَغَيْرُهُمَا، كَقَوْلِهِ تعالى: وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها «1» وقوله: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ «2» ، وقوله: أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ «3» ، وَاللَّامُ فِي لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِيُجَادِلُ، أَيْ: إِنَّ غَرَضَهُ هُوَ الْإِضْلَالُ عَنِ السَّبِيلِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ. وَقُرِئَ «لِيَضِلَّ» بِفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى أَنْ تَكُونَ اللَّامُ هِيَ لَامَ الْعَاقِبَةِ، كَأَنَّهُ جَعَلَ ضَلَالَهُ غَايَةً لِجِدَالِهِ، وَجُمْلَةُ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ جِدَالِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ. وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ، وَذَلِكَ بِمَا يَنَالُهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ الْمُعَجَّلِ وَسُوءِ الذِّكْرِ عَلَى أَلْسُنِ النَّاسَ. وَقِيلَ: الْخِزْيُ الدُّنْيَوِيُّ هُوَ الْقَتْلُ كَمَا وَقَعَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أَيْ: عَذَابَ النَّارِ الْمُحْرِقَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: ذَلِكَ الْعَذَابُ النَّازِلُ بِكَ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَعَبَّرَ بِالْيَدِ عَنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ لِكَوْنِ مُبَاشَرَةِ الْمَعَاصِي تَكُونُ بِهَا فِي الْغَالِبِ، وَمَحَلُّ أَنَّ وَمَا بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَالْأَمْرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ عِبَادَهُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ. وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ آلِ عِمْرَانَ فَلَا نُعِيدُهُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ هَذَا بَيَانٌ لِشِقَاقِ أَهْلِ الشِّقَاقِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْحَرْفُ: الشَّكُّ، وَأَصْلُهُ مِنْ حَرْفِ الشَّيْءِ وَهُوَ طَرَفُهُ، مِثْلُ حَرْفِ الْجَبَلِ وَالْحَائِطِ، فَإِنَّ الْقَائِمَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٌّ، وَالَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ قَلِقٌ فِي دِينِهِ، عَلَى غَيْرِ ثَبَاتٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، كَالَّذِي هُوَ عَلَى حَرْفِ الْجَبَلِ وَنَحْوِهِ يَضْطَرِبُ اضْطِرَابًا وَيَضْعُفُ قِيَامُهُ، فَقِيلَ لِلشَّاكِّ فِي دِينِهِ إِنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّهُ يَعْبُدُهُ عَلَى يَقِينٍ وَبَصِيرَةٍ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى حَرْفٍ. وَقِيلَ: الْحَرْفُ: الشَّرْطُ، أَيْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى شَرْطٍ، وَالشَّرْطُ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ أَيْ: خَيْرٌ دُنْيَوِيٌّ مِنْ رَخَاءٍ وَعَافِيَةٍ وَخِصْبٍ وَكَثْرَةِ مَالٍ، وَمَعْنَى اطْمَأَنَّ بِهِ ثَبَتَ عَلَى دِينِهِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى عِبَادَتِهِ، أَوِ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِذَلِكَ الْخَيْرِ الَّذِي أَصَابَهُ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ أَيْ: شَيْءٌ يَفْتَتَنُ بِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ يُصِيبُهُ فِي أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ نَفْسِهِ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أَيِ: ارْتَدَّ وَرَجَعَ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَهُ بَعْدَ انْقِلَابِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ أي: ذهبا منه وفقد هما، فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْأَجْرِ وَمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَالْأَعْرَجُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ خَاسِرًا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى خُسْرَانِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وخبره هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أَيِ: الْوَاضِحُ الظَّاهِرُ الَّذِي لا خسران مثله. يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ أَيْ: هَذَا الَّذِي انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ وَرَجَعَ إِلَى الْكُفْرِ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ: يَعْبُدُ مُتَجَاوِزًا عِبَادَةَ اللَّهِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مَا لَا يَضُرُّهُ إِنْ تَرَكَ عِبَادَتَهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ إِنْ عَبَدَهُ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْبُودُ جَمَادًا لَا يَقْدِرُ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نفع،

_ (1) . الإسراء: 83. (2) . سبأ: 24. (3) . لقمان: 7.

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الدُّعَاءِ الْمَفْهُومِ مِنِ الْفِعْلِ وَهُوَ يَدْعُو، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أَيْ: عَنِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ، مُسْتَعَارٌ مِنْ ضَلَالِ مَنْ سَلَكَ غَيْرَ الطَّرِيقِ، فَصَارَ بِضَلَالِهِ بَعِيدًا عَنْهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْبَعِيدُ: الطويل. يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ يَدْعُو بِمَعْنَى يَقُولُ، وَالْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مَنْ كَوْنِ ذَلِكَ الدُّعَاءَ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَالْأَصْنَامُ لَا نَفْعَ فِيهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، بَلْ هِيَ ضَرَرٌ بَحْتٌ لِمَنْ يَعْبُدُهَا، لِأَنَّهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبِ عِبَادَتِهَا، وَإِيرَادُ صِيغَةُ التَّفْضِيلِ مَعَ عَدَمِ النَّفْعِ بِالْمَرَّةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَقْبِيحِ حَالِ ذَلِكَ الدَّاعِي، أَوْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» اللام هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَمَنْ: مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَضَرُّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ أَقْرَبُ، وَالْجُمْلَةُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ. وَجُمْلَةُ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ الْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَعْبُودِهِ الَّذِي ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ: لَبِئْسَ الْمَوْلَى أَنْتَ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ. وَالْمَوْلَى: النَّاصِرُ، وَالْعَشِيرُ: الصَّاحِبُ، وَمِثْلَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: يَدْعُونَ عَنْتَرَ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّهَا ... أَشْطَانُ بِئْرٍ فِي لِبَانِ الْأَدْهَمِ «2» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «يَدْعُو» فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَفِيهِ هَاءٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدَّعُوهُ، وَعَلَى هَذَا يُوقَفُ عَلَى يَدْعُو، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ «لَبِئْسَ الْمَوْلى» . قَالَ: وَهَذَا لِأَنَّ اللَّامَ لِلْيَمِينِ وَالتَّوْكِيدِ فَجَعَلَهَا أَوَّلَ الْكَلَامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «يَدْعُو» مُكَرَّرَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا عَلَى جِهَةِ تَكْثِيرِ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ أَيْ: يَدْعُو مَا لَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ يَدْعُو، مِثْلَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا ضَرَبْتُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْكَلَامِ الْقَسَمُ، وَاللَّامُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَوْضِعِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: يَدْعُو مَنْ لَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، فَمَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَيَدْعُو، وَاللَّامُ جَوَابُ القسم وضرّه مبتدأ، و «أقرب» خَبَرُهُ، وَمِنَ التَّصَرُّفِ فِي اللَّامِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: خَالِيَ لَأَنْتَ وَمَنْ جَرِيرٌ خَالُهُ ... يَنَلِ الْعَلَاءَ وَيُكْرِمِ الْأَخْوَالَا أَيْ لَخَالِي أَنْتَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَكَى لَنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ إِلَهًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَحْسَبُ هَذَا الْقَوْلَ غلطا على مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ مَا قبل اللام هذه لا يعمل فيهما بَعْدَهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا وَالْقَفَّالُ: اللَّامُ صِلَةٌ، أَيْ: زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، أَيْ: يَعْبُدُهُ، وَهَكَذَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِحَذْفِ اللَّامِ، وَتَكُونُ اللَّامُ فِي لَبِئْسَ الْمَوْلى وَفِي لَبِئْسَ الْعَشِيرُ عَلَى هَذَا مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَمَّا فَرَغَ مَنْ ذِكْرِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حِرَفٍ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُدْخِلُهُمْ هَذِهِ الْجَنَّاتِ الْمُتَّصِفَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ

_ (1) . المنافقون: 5. (2) . «أشطان» : جمع شطن وهو الحبل الذي يستقى به. «اللبان» : الصدر. «الأدهم» : الفرس.

الكلام في جرى الأنهار من تحت الجنات، وبيّنّا أنه إن أريد بها الأشجار المتكاثفة الساترة لما تحتها، فَجَرَيَانُ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهَا ظَاهِرٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْأَرْضُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: يفعل ما يريده من الأفعال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ فَيُثِيبُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ قَالَ النَّحَّاسُ: مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ النَّصْرَ الَّذِي أُوتِيَهُ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أَيْ: فَلْيَطْلُبْ حِيلَةً يَصِلُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ أَيْ: ثُمَّ لِيَقْطَعَ النَّصْرَ إِنْ تَهَيَّأَ لَهُ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وَحِيلَتُهُ مَا يَغِيظُ مِنْ نَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا حَتَّى يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فَلْيَمُتْ غَيْظًا، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أَيْ: فَلْيَشْدُدْ حَبْلًا فِي سَقْفِ بَيْتِهِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ أَيْ: ثُمَّ لِيَمُدَّ الْحَبْلَ حَتَّى يَنْقَطِعَ فَيَمُوتَ مُخْتَنِقًا، وَالْمَعْنَى: فَلْيَخْتَنِقْ غَيْظًا حَتَّى يَمُوتَ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ وَمُظْهِرُهُ، وَلَا يَنْفَعَهُ غَيْظُهُ وَمَعْنَى «فَلْيَنْظُرْ هَلْ يذهبن كيده» : أي صنيعه وحيله، «ما يغيظ» : أي غيظه، و «ما» مَصْدَرِيَّةٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «يَنْصُرُهُ» يَعُودُ إِلَى «مَنْ» ، وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْزُقُهُ فَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى الدِّينِ، أَيْ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ دِينَهُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ بِإِسْكَانِ اللَّامِ فِي: «ثُمَّ لِيَقْطَعْ» قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ بَعِيدَةٌ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ «1» . وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْزَالِ الْبَدِيعِ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ ظَاهِرَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ هِدَايَتُهُ ابْتِدَاءً أَوْ زِيَادَةً فِيهَا لِمَنْ كَانَ مَهْدِيًّا مِنْ قَبْلُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ثانِيَ عِطْفِهِ قَالَ: لَاوِيَ عُنُقِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وابن يزيد وَابْنِ جُرَيْجٍ: أَنَّهُ الْمُعْرِضُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: ثانِيَ عِطْفِهِ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ ثانِيَ عِطْفِهِ قال: مستكبرا في نفسه. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَأَنْتَجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتَهُ وَلَمْ تُنْتِجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الأعراب يأتون النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُسْلِمُونَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَإِنْ وَجَدُوا عَامَ غَيْثٍ وَعَامَ خِصْبٍ وَعَامَ وِلَادٍ حَسَنٍ قَالُوا: إِنَّ دِينَنَا هَذَا لِصَالِحٌ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَإِنْ وَجَدُوا عَامَ جَدْبٍ وَعَامَ وِلَادِ سُوءٍ وَعَامَ قَحْطٍ قَالُوا: مَا فِي دِينِنَا هَذَا خَيْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ.

_ (1) . وذلك لأن «لمّ» ليست مثل الواو والفاء لأنها يوقف عليها وتنفرد.

[سورة الحج (22) : الآيات 17 إلى 24]

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَوْفِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَذَهَبَ بَصَرُهُ وَمَالُهُ وَوَلَدُهُ فَتَشَاءَمَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقِلْنِي أَقِلْنِي، قَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُقَالُ، فَقَالَ: لَمْ أُصِبْ مِنْ دِينِي هَذَا خَيْرًا ذَهَبَ بَصَرِي وَمَالِي وَمَاتَ وَلَدِي، فَقَالَ: يَا يَهُودِيُّ الْإِسْلَامُ يَسْبِكُ الرِّجَالَ كَمَا تَسْبِكُ النَّارَ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَنَزَلَتْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ قَالَ: فَلْيُرْبَطْ بِحَبْلٍ إِلَى السَّماءِ قَالَ: إِلَى سَمَاءِ بَيْتِهِ السقف ثُمَّ لْيَقْطَعْ قال: ثم يختنق بِهِ حَتَّى يَمُوتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ يَقُولُ: أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ فَلْيَأْخُذْ حَبْلًا فَلْيَرْبُطْهُ فِي سَمَاءِ بَيْتِهِ فَلْيَخْتَنِقْ بِهِ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ قَالَ: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ أَوْ يَأْتِيهِ برزق. [سورة الحج (22) : الآيات 17 الى 24] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (18) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي: بالله وبرسوله، أَوْ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِينَ هادُوا هُمُ الْيَهُودُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى مِلَّةِ مُوسَى وَالصَّابِئِينَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ النُّجُومَ، وَقِيلَ: هُمْ مِنْ جِنْسِ النَّصَارَى وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، بَلْ هُمْ فِرْقَةٌ مَعْرُوفَةٌ لَا تَرْجِعُ إِلَى مِلَّةٍ مِنِ الْمِلَلِ الْمُنْتَسِبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالنَّصارى هُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى مِلَّةِ عِيسَى وَالْمَجُوسَ هُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النار، ويقولون: إن للعالم أصلين النور والظلمة. وقيل: هم قوم يعبدون الشمس والقمر، وقيل: هم قوم يَسْتَعْمِلُونَ النَّجَاسَاتِ، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ النَّصَارَى اعْتَزَلُوهُمْ وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَخَذُوا بَعْضَ دِينِ الْيَهُودِ وَبَعْضَ دِينِ النَّصَارَى وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدَّمَ هُنَالِكَ النَّصَارَى عَلَى الصَّابِئِينَ، وَأَخَّرَهُمْ عَنْهُمْ هُنَا. فَقِيلَ: وَجْهُ تَقْدِيمِ النَّصَارَى هُنَالِكَ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ دُونَ الصَّابِئِينَ، وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الصَّابِئِينَ

هُنَا أَنَّ زَمَنَهُمْ مُتَقَدِّمٌ عَلَى زَمَنِ النَّصَارَى. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لَإِنَّ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَعْنَى الْفَصْلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْضِي بَيْنَهُمْ فَيُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ الْجَنَّةَ وَالْكَافِرِينَ مِنْهُمُ النَّارَ. وَقِيلَ: الْفَصْلُ هُوَ أَنْ يُمَيَّزَ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ بِعَلَّامَةٍ يُعْرَفُ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ خَلْقِهِ وَأَقْوَالِهِمْ شَهِيدٌ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْهَا. وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ خَبَرًا لَإِنَّ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَالَ: لَا يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ: إِنَّ زَيْدًا إِنَّ أَخَاهُ مُنْطَلِقٌ، وَرَدَّ الزَّجَّاجُ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَأَنْكَرَهُ وَأَنْكَرَ مَا جَعَلَهُ مُمَاثِلًا لِلْآيَةِ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ قولك: إن زيدا إن الْخَيْرُ عِنْدَهُ، وَإِنَّ زَيْدًا إِنَّهُ مُنْطَلَقٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ الرُّؤْيَةُ هُنَا هِيَ الْقَلْبِيَّةُ لَا الْبَصَرِيَّةُ، أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمْ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَهُوَ مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ، وَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ هُنَا هُوَ الِانْقِيَادُ الْكَامِلُ، لَا سُجُودُ الطَّاعَةِ الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ، سَوَاءً جُعِلْتَ كَلِمَةُ مَنْ خَاصَّةً بِالْعُقَلَاءِ، أو عامة لهم ولغيرهم، ولهذا عطف الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ عَلَى مَنْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ السُّجُودَ هُوَ الِانْقِيَادُ لَا الطَّاعَةُ الْخَاصَّةُ بِالْعُقَلَاءِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ هَذِهِ الْأُمُورَ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهَا دَاخِلَةً تَحْتَ مَنْ، عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِهَا عَامَّةً لِكَوْنِ قِيَامِ السُّجُودِ بِهَا مُسْتَبْعَدًا فِي الْعَادَةِ، وَارْتِفَاعُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، أَيْ: وَيَسْجُدُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. وَقِيلَ: مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَرْتَفِعْ بِالْعَطْفِ عَلَى «مَنْ» لِأَنَّ سُجُودَ هَؤُلَاءِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ هُوَ سُجُودُ الطَّاعَةِ الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الْمُتَقَدِّمِ هُوَ الِانْقِيَادُ، فَلَوِ ارْتَفَعَ بِالْعَطْفِ عَلَى «مَنْ» لَكَانَ فِي ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ. وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ لَا مُلْجِئَ إِلَى هَذَا بَعْدَ حَمْلِ السُّجُودِ عَلَى الِانْقِيَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مِنْ سُجُودِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ هُوَ انْقِيَادُهُمْ لَا نَفْسُ السُّجُودِ الْخَاصِّ، فَارْتِفَاعُهُ عَلَى الْعَطْفِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَمُتَابِعُوهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّهُ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «كَثِيرٍ» الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْجُدُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَأْبَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الْجَنَّةِ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، هَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ أَيْ: مَنْ أَهَانَهُ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَهُ كَافِرًا شَقِيًّا، فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يُكْرِمُهُ فَيَصِيرُ سَعِيدًا عَزِيزًا. وَحَكَى الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ، أَيْ إِكْرَامٍ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ هذانِ خَصْمانِ الْخَصْمَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْجَسُ الْفِرَقِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئُونَ وَالْمَجُوسُ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَالْخَصْمُ الْآخَرُ الْمُسْلِمُونَ، فَهُمَا فَرِيقَانِ مُخْتَصِمَانِ. قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَصْمَيْنِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ. قَالَتِ الْجَنَّةُ: خَلَقَنِي لِرَحْمَتِهِ، وَقَالَتِ النَّارُ: خَلَقَنِي لِعُقُوبَتِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَصْمَيْنِ هُمُ الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَعُبَيْدَةُ، وَمِنَ الْكَافِرِينَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. وَقَدْ كَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقْسِمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَبَارِزِينَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ، وَقَالَ بِمِثْلِ هَذَا جَمَاعَةٌ

مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَعْرَفُ مِنْ غَيْرِهِمْ بِأَسْبَابِ النُّزُولِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «هَذَانِّ» بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: اخْتَصَمُوا وَلَمْ يَقُلِ اخْتَصَمَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: لِأَنَّهُمْ جَمْعٌ، وَلَوْ قَالَ اخْتَصَمَا لَجَازَ، وَمَعْنَى فِي رَبِّهِمْ فِي شَأْنِ رَبِّهِمْ، أَيْ: فِي دِينِهِ، أَوْ فِي ذَاتِهِ، أَوْ فِي صِفَاتِهِ، أَوْ فِي شَرِيعَتِهِ لِعِبَادِهِ، أَوْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. ثُمَّ فَصَلَ سُبْحَانَهُ مَا أَجْمَلَهُ فِي قَوْلِهِ: يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَيْ سُوِّيَتْ وَجُعِلَتْ لَبُوسًا لَهُمْ، شُبِّهَتِ النَّارُ بِالثِّيَابِ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِمْ كَاشْتِمَالِ الثِّيَابِ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الثِّيَابَ مِنْ نُحَاسٍ قَدْ أُذِيبَ فَصَارَ كَالنَّارِ، وَهِيَ السَّرَابِيلُ الْمَذْكُورَةُ فِي آيَةٍ أُخْرَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَحَاطَتِ النَّارُ بِهِمْ. وَقُرِئَ «قُطِعَتْ» بِالتَّخْفِيفِ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ وَالْحَمِيمُ: هُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ الْمَغْلِيُّ بِنَارِ جَهَنَّمَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ هِيَ خَبَرٌ ثَانٍ لِلْمَوْصُولِ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ الصَّهْرُ: الْإِذَابَةُ، وَالصُّهَارَةُ: مَا ذَابَ مِنْهُ، يُقَالُ: صَهَرْتُ الشيء فانصهر، أي: أذابته فَذَابَ، فَهُوَ صَهِيرٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُذَابُ بِذَلِكَ الْحَمِيمِ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الْأَمْعَاءِ وَالْأَحْشَاءِ وَالْجُلُودُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا، أَيْ: وَيُصْهَرُ بِهِ الْجُلُودُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: إِنِ الْجُلُودَ لَا تُذَابُ، بَلْ تُحْرَقُ، فَيُقَدَّرُ فِعْلٌ يُنَاسِبُ ذَلِكَ، وَيُقَالُ: وَتُحْرَقُ بِهِ الْجُلُودُ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا «1» أَيْ: وَسَقَيْتُهَا مَاءً. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مُلْجِئَ لِهَذَا، فَإِنَّ الْحَمِيمَ إِذَا كَانَ يُذِيبُ مَا فِي الْبُطُونِ فَإِذَابَتُهُ لِلْجِلْدِ الظَّاهِرِ بِالْأَوْلَى وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ الْمَقَامِعُ: جَمْعُ مَقْمَعَةٍ وَمَقْمَعٌ، قَمَعْتُهُ: ضَرَبْتُهُ بِالْمِقْمَعَةِ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ. وَالْمَعْنَى: لَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ يُضْرَبُونَ بِهَا، أَيْ: لِلْكَفَرَةِ، وَسُمِّيَتِ الْمَقَامِعُ مَقَامِعَ لِأَنَّهَا تَقْمَعُ الْمَضْرُوبَ، أَيْ: تُذَلِّلُهُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: أَقَمَعْتُ الرَّجُلَ عَنِّي إِقْمَاعًا إِذَا اطلع عَلَيْكَ فَرَدَدْتُهُ عَنْكَ. كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أَيْ: مِنَ النَّارِ أُعِيدُوا فِيها أَيْ: في النار بالضرب بالمقامع، ومِنْ غَمٍّ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «مِنْهَا» بِإِعَادَةِ الْجَارِّ أَوْ مَفْعُولٍ لَهُ، أَيْ: لِأَجْلِ غَمٍّ شَدِيدٍ مِنْ غُمُومُ النَّارِ. وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ هُوَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: أُعِيدُوا فِيهَا، وَقِيلَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، أَيِ: الْعَذَابَ الْمُحْرِقَ، وَأَصْلُ الْحَرِيقِ الِاسْمُ مِنَ الِاحْتِرَاقِ، تَحْرِقُ الشَّيْءَ بِالنَّارِ وَاحْتَرَقَ حُرْقَةً وَاحْتِرَاقًا، وَالذَّوْقُ مُمَاسَّةٌ يَحْصُلُ مَعَهَا إِدْرَاكُ الطَّعْمِ، وَهُوَ هُنَا تَوَسُّعٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِدْرَاكُ الْأَلَمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ. وَقَالَ فِي الْخَصْمِ الْآخَرِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ بَيَانِهِ لِحَالِ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ مَا أَعَدَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ فَقَالَ: يُحَلَّوْنَ فِيها قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُحَلَّونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقُرِئَ مُخَفَّفًا، أَيْ: يُحَلِّيهِمُ اللَّهُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ بأمره. و «من» فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَساوِرَ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: يُحَلَّونَ بعض أساور،

_ (1) . وعجزه: حتى شتت همّالة عيناها.

أو للبيان، أو زائدة، و «من» فِي مِنْ ذَهَبٍ لِلْبَيَانِ، وَالْأَسَاوِرُ: جَمْعُ أَسْوِرَةٍ، وَالْأَسْوِرَةُ: جَمْعُ سِوَارٍ، وَفِي السُّوَارِ لُغَتَانِ كَسْرُ السِّينِ وَضَمُّهَا، وَفِيهِ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ أَسْوَارٌ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَشَيْبَةُ وَلُؤْلُؤاً بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ أَسَاوِرَ، أَيْ: وَيُحَلُّونَ لؤلؤا، أو بفعل مقدّر ينصبه، وَهَكَذَا قَرَأَ بِالنَّصْبِ يَعْقُوبُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمُوَافِقَةُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ فَإِنَّ هَذَا الْحَرْفَ مَكْتُوبٌ فِيهِ بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَسَاوِرَ، أَيْ: يُحَلُّونَ من أساور ومن لؤلؤ، واللؤلؤ: ما يستخرج من البحر من جوف الصدف. قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ سُوَارٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ مُصْمَتٍ «1» كَمَا أَنَّ فِيهَا أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أَيْ: جَمِيعُ مَا يَلْبَسُونَهُ حَرِيرٌ كَمَا تُفِيدُهُ هَذِهِ الْإِضَافَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمَلْبُوسِ الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا حَلَالٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَلْبَسُونَهُ فِيهَا، فَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُعْطَى مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ، وَيَنَالُ مَا يُرِيدُهُ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ: أُرْشِدُوا إِلَيْهِ، قِيلَ: هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْبِشَارَاتِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُجْمَلِ هُنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «2» . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «3» . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «4» . وَمَعْنَى: وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أَنَّهُمْ أُرْشِدُوا إِلَى الصِّرَاطِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ طَرِيقُ الْجَنَّةِ، أَوْ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ دِينُهُ الْقَوِيمُ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَالصَّابِئِينَ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ يعبدون الملائكة، ويصلّون القبلة، وَيَقْرَءُونَ الزَّبُورَ وَالْمَجُوسَ عَبْدَةُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنِّيرَانِ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا عَبْدَةُ الْأَوْثَانِ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ قَالَ: الْأَدْيَانُ سِتَّةٌ فَخَمْسَةٌ لِلشَّيْطَانِ، وَدِينُ لله عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: فَصَلَ قَضَاءَهُ بَيْنَهُمْ فَجَعَلَ الْخَمْسَةَ مُشْتَرِكَةً وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَاحِدَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِينَ هَادُوا: الْيَهُودُ، وَالصَّابِئُونَ: لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَالْمَجُوسُ: أَصْحَابُ الْأَصْنَامِ، وَالْمُشْرِكُونَ: نَصَارَى الْعَرَبِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هذانِ خَصْمانِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الثَّلَاثَةِ وَالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تبارزوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، قَالَ عَلِيٌّ: وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو فِي الْخُصُومَةِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ يَوْمَ القيامة. وأخرجه الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قَالَ: مِنْ نُحَاسٍ، وَلَيْسَ مِنَ الْآنِيَةِ شَيْءٌ إِذَا حَمِيَ أشدّ حرّا منه، وفي قوله:

_ (1) . «المصمت» : الذي لا يخالط غيره. (2) . الزمر: 74. (3) . الأعراف: 43. (4) . فاطر: 34. [.....]

[سورة الحج (22) : الآيات 25 إلى 29]

يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ قال: النحاس يذاب على رؤوسهم، وَقَوْلُهُ: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ قَالَ: تَسِيلُ أَمْعَاؤُهُمْ وَالْجُلُودُ قَالَ: تَتَنَاثَرُ جُلُودُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ فَقَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنّ الحميم ليصبّ على رؤوسهم فَيَنْفُذُ الْجُمْجُمَةَ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ، فَيَسْلِتُ «1» مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَمْرُقَ مِنْ قَدَمَيْهِ وَهُوَ الصَّهْرُ، ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ قَالَ: يمشون وأمعاءهم تَتَسَاقَطُ وَجُلُودُهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ: يَضْرِبُونَ بِهَا، فَيَقَعُ كُلُّ عُضْوٍ عَلَى حِيَالِهِ فَيَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُسْقَونَ مَاءً إِذَا دَخَلَ فِي بُطُونِهِمْ أَذَابَهَا وَالْجُلُودُ مَعَ الْبُطُونِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ مَقْمَعًا مِنْ حَدِيدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ فَاجْتَمَعَ الثَّقَلَانِ مَا أَقَلُّوهُ «2» مِنَ الْأَرْضِ، وَلَوْ ضُرِبَ الْجَبَلُ بِمَقْمَعٍ مِنْ حَدِيدٍ لَتَفَتَّتَ ثُمَّ عَادَ كَمَا كَانَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وسعيد بْنُ مَنْصُورٍ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: النَّارُ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ لَا يُضِيءُ لَهَبُهَا وَلَا جَمْرُهَا، ثُمَّ قَرَأَ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ قَالَ: أُلْهِمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ فِي الْخُصُومَةِ إِذْ قَالُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بن أَبِي خَالِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْقُرْآنُ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ قَالَ: الْإِسْلَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْإِسْلَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ.

_ (1) . «يسلت» : يقطع ويستأصل. (2) . أي: ما استطاعوا حمله. [سورة الحج (22) : الآيات 25 الى 29] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عَطَفَ الْمُضَارِعَ عَلَى الْمَاضِي لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُضَارِعِ مَا مَضَى مِنَ الصَّدِّ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «1» ، أَوِ الْمُرَادُ بِالصَّدِّ هَاهُنَا الِاسْتِمْرَارُ لَا مُجَرَّدُ الِاسْتِقْبَالِ، فَصَحَّ بِذَلِكَ عَطْفُهُ عَلَى الْمَاضِي، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي وَيَصُدُّونَ وَاوَ الْحَالِ، أَيْ: كَفَرُوا وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ. وَقِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَالْمُضَارِعُ خَبَرُ إِنَّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّرَ خَبَرُ إِنَّ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالْبادِ وَذَلِكَ نَحْوَ خَسِرُوا أَوْ هَلَكُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْخَبَرَ: نذقه مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خبرا لأن لم يجزم، وأيضا لَوْ كَانَ خَبَرًا لِإِنَّ لَبَقِيَ الشَّرْطُ وَهُوَ وَمَنْ يُرِدْ بِغَيْرِ جَوَابٍ فَالْأَوْلَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ كما ذكرنا. والمراد بالصدّ المنع، وبسبيل اللَّهِ: دِينُهُ، أَيْ: يَمْنَعُونَ مِنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي دِينِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مَعْطُوفٌ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَسْجِدُ نَفْسُهُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ، وَقِيلَ: الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عنه يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَكَّةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ أَيْ: جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ يُصَلُّونَ فِيهِ وَيَطُوفُونَ بِهِ مُسْتَوِيًا فِيهِ الْعَاكِفُ، وَهُوَ الْمُقِيمُ فِيهِ الْمُلَازِمُ لَهُ، وَالْبَادِ: أَيِ الْوَاصِلُ مِنَ الْبَادِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الطَّارِئُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَانْتِصَابُ سَوَاءً عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِجَعَلْنَاهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى مُسْتَوِيًا، وَالْعَاكِفُ مُرْتَفِعٌ بِهِ، وُصِفَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِذَلِكَ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِلصَّادِّينَ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُ سَواءً عَلَى الْحَالِ. وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَبِهَا قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ سَوَاءٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْعاكِفُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالْمُبْتَدَأُ الْعاكِفُ أَيِ: الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي سَوَاءٌ، وَقُرِئَ بِنَصْبِ سَواءً وَجَرِّ الْعَاكِفِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلنَّاسِ، أَيْ: جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ الْعَاكِفِ وَالْبَادِي سَوَاءً، وَأَثْبَتَ الْيَاءَ فِي «الْبَادِي» ابْنُ كَثِيرٍ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَحَذَفَهَا أَبُو عَمْرٍو فِي الْوَقْفِ، وَحَذَفَهَا نَافِعٌ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى الِاسْتِوَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَفْسَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَكَّةَ فَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَمَالِكٌ إِلَى أَنَّ دُورَ مَكَّةَ وَمَنَازِلَهَا يَسْتَوِي فِيهَا الْمُقِيمُ وَالطَّارِئُ. وَذَهَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ لِلْقَادِمِ أَنْ يَنْزِلَ حَيْثُ وَجَدَ، وَعَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ أَنْ يُؤْوِيِهِ شَاءَ أَمْ أَبَى. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ دُورَ مَكَّةَ وَمَنَازِلَهَا لَيْسَتْ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلِأَهْلِهَا مَنْعُ الطَّارِئِ مِنَ النُّزُولِ فِيهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا رَاجِعٌ إِلَى أَصْلَيْنِ: الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلِ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْمَسْجِدُ نَفْسُهُ، أَوْ جَمِيعُ الْحَرَمِ، أَوْ مَكَّةُ عَلَى الْخُصُوصِ؟ وَالثَّانِي: هَلْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً؟ وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ فَتْحَهَا كَانَ عَنْوَةً هَلْ أَقَرَّهَا النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي يَدِ أَهْلِهَا عَلَى الْخُصُوصِ؟ أَوْ جَعَلَهَا لِمَنْ نَزَلَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ؟ وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي شَرْحِنَا عَلَى «الْمُنْتَقَى» بِمَا لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى زِيَادَةٍ. وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ

_ (1) . النحل: 88.

مَفْعُولُ يُرِدْ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ مُرَادًا أَيْ مُرَادٍ بِإِلْحَادٍ، أَيْ: بِعُدُولٍ عَنِ الْقَصْدِ، وَالْإِلْحَادُ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلُ، إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ الْمَيْلُ بِظُلْمٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الظُّلْمِ مَاذَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ الشِّرْكُ، وَقِيلَ: الشِّرْكُ وَالْقَتْلُ، وَقِيلَ: صَيْدُ حَيَوَانَاتِهِ وَقَطْعُ أَشْجَارِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَلِفُ فِيهِ بِالْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَعَاصِي فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالضَّحَّاكِ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، حَتَّى قَالُوا: لَوْ هَمَّ الرَّجُلُ فِي الْحَرَمِ بِقَتْلِ رَجُلٍ بِعَدَنَ لَعَذَّبَهُ اللَّهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَأْخُوذًا بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ لِلظُّلْمِ، فَهِيَ مُخَصَّصَةٌ لِمَا وَرَدَ مِنْ إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِرَادَةَ فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبَحْثُ عَنْ هَذَا وَتَقْرِيرُ الْحَقِّ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَيَرْفَعُ الْإِشْكَالَ يَطُولُ جِدًّا، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثُ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» فَدَخَلَ النَّارَ هُنَا بِسَبَبِ مُجَرَّدِ حِرْصِهِ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ. وَقَدْ أَفْرَدْنَا هَذَا الْبَحْثَ بِرِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: «بِإِلْحَادٍ» إِنْ كَانَ مَفْعُولُ يُرِدْ مَحْذُوفًا كَمَا ذَكَرْنَا فَلَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَقِيلَ إِنَّهَا زَائِدَةٌ هُنَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الْفَلَجِ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجِ أَيْ: نَرْجُو الْفَرَجَ. وَمِثْلُهُ: أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالْأَنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادٍ «1» أَيْ مَا لَاقَتْ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا زَائِدَةٌ الْأَخْفَشُ وَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ إِلْحَادًا بِظُلْمٍ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: دَخَلَتِ الْبَاءُ لِأَنَّ الْمَعْنَى بِأَنْ يُلْحِدَ، وَالْبَاءُ مَعَ أَنَّ تَدْخُلُ وَتُحْذَفُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمَنْ يُرِدِ النَّاسَ بِإِلْحَادٍ. وَقِيلَ إِنْ يُرِدْ مُضَمَّنٌ مَعْنَى يَهُمُّ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يَهُمُّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ. وَأَمَّا الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ «بِظُلْمٍ» فَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِسَبَبِ الظُّلْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِظُلْمٍ بَدَلًا مِنْ بِإِلْحَادٍ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ. وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَيْ: وَاذْكُرْ وَقْتَ ذَلِكَ يُقَالُ: بَوَّأْتُهُ مَنْزِلًا وَبَوَّأْتُ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: مَكَّنْتُكَ وَمَكَّنْتُ لَكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ جَعَلْنَا مَكَانَ الْبَيْتِ مُبَوَّأً لِإِبْرَاهِيمَ، وَمَعْنَى بَوَّأْنَا: بَيَّنَّا لَهُ مَكَانَ الْبَيْتِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : كَمْ مِنْ أَخٍ لي ماجد ... بوّأته بيديّ لحدا

_ (1) . البيت القيس بن زهير العبسي. (2) . هو عمرو بن معديكرب الزبيدي.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ اللَّامَ زَائِدَةٌ، وَمَكَانَ ظَرْفٌ، أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ فِيهِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ هِيَ مُفَسِّرَةٌ لَبَوَّأْنَا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى تَعَبَّدْنَا لِأَنَّ التَّبْوِئَةَ هِيَ لِلْعِبَادَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: لِأَنْ لَا تُشْرِكَ بِي. وَقِيلَ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ لَا تَعْبُدْ غَيْرِي. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ وَحِّدْنِي فِي هَذَا الْبَيْتِ لِأَنَّ مَعْنَى لَا تُشْرِكْ بِي: وَحِّدْنِي وَطَهِّرْ بَيْتِيَ مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَفِي الآية طعن على من أَشْرَكَ مِنْ قُطَّانِ الْبَيْتِ، أَيْ: هَذَا كَانَ الشَّرْطَ عَلَى أَبِيكُمْ فَمَنْ بَعْدَهُ وَأَنْتُمْ فَلَمْ تَفُوا، بَلْ أَشْرَكْتُمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: أَنْ لَا تُشْرِكْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَمَعْنَى وَطَهِّرْ بَيْتِيَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْأَوْثَانِ وَالدِّمَاءِ وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَقِيلَ: عَنَى بِهِ التَّطْهِيرَ عَنِ الْأَوْثَانِ فَقَطْ، وَذَلِكَ أَنَّ جُرْهُمًا وَالْعَمَالِقَةَ كَانَتْ لَهُمْ أَصْنَامٌ فِي مَحَلِّ الْبَيْتِ، وَقَدْ مَرَّ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، والمراد بالقائمين هنا هم المصلون وَذكر الرُّكَّعِ السُّجُودِ بَعْدَهُ لِبَيَانِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ دَلَالَةً عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَقَرَنَ الطَّوَافَ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهُمَا لَا يُشْرَعَانِ إِلَّا فِي الْبَيْتِ، فَالطَّوَافُ عِنْدَهُ وَالصَّلَاةُ إِلَيْهِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «وَآذِنْ» بِتَخْفِيفِ الذَّالِ وَالْمَدِّ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، وَالْأَذَانُ: الْإِعْلَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَرَاءَةٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ البيت جاء جِبْرِيلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فقال: يا ربّ وما يُبَلِّغُ صَوْتِي؟ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ، فَعَلَا الْمَقَامَ فَأَشْرَفَ بِهِ حَتَّى صَارَ كَأَعْلَى الْجِبَالِ، فَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَشَرْقًا وَغَرْبًا، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ إِلَى الْبَيْتِ فَأَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَأَجَابَهُ مَنْ كَانَ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَعْلِمْهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْخِطَابُ لِإِبْرَاهِيمَ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَقِيلَ: إِنَّ خِطَابَهُ انْقَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي وَمَا بَعْدَهُ خِطَابٌ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْحَجِّ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ بِكَسْرِهَا. يَأْتُوكَ رِجالًا هذا جواب الأمر، وعده اللَّهُ إِجَابَةَ النَّاسِ لَهُ إِلَى حَجِّ الْبَيْتِ مَا بَيْنَ رَاجِلٍ وَرَاكِبٍ، فَمَعْنَى رِجَالًا مُشَاةً جَمْعُ رَاجِلٍ، وَقِيلَ جَمْعُ رَجُلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «رُجَالًا» بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ «رُجَالَى» عَلَى وَزْنِ فُعَالَى مِثْلِ كُسَالَى، وَقَدَّمَ الرِّجَالَ عَلَى الرُّكْبَانِ فِي الذِّكْرِ لِزِيَادَةِ تَعَبِهِمْ فِي الْمَشْيِ، وَقَالَ: يَأْتُوكَ وَإِنْ كَانُوا يَأْتُونَ الْبَيْتَ لِأَنَّ مَنْ أَتَى الْكَعْبَةَ حَاجًّا فَقَدْ أَتَى إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُ أَجَابَ نِدَاءَهُ. وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ عُطِفَ عَلَى رِجَالًا، أَيْ: وَرُكْبَانًا عَلَى كُلِّ بَعِيرٍ، وَالضَّامِرُ: الْبَعِيرُ الْمَهْزُولُ الذي أتعبه السفر، يقال: ضَمُرَ يَضْمُرُ ضُمُورًا، وَوَصَفَ الضَّامِرَ بِقَوْلِهِ: يَأْتِينَ باعتبار المعنى، لأن ضامر فِي مَعْنَى ضَوَامِرِ، وَقَرَأَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالضَّحَّاكُ «يَأْتُونَ» عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِرِجَالًا. وَالْفَجُّ: الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ، الْجَمْعُ: فِجَاجٌ، وَالْعَمِيقُ: الْبَعِيدُ، وَاللَّامُ فِي لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ يَأْتُوكَ، وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ وَأَذِّنْ. وَالشُّهُودُ: الحضور، والمنافع: هي التي تعمّ منافع الدنيا والآخرة. وقيل: المراد بها الْمَنَاسِكُ، وَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ، وَقِيلَ: التِّجَارَةُ، كَمَا

فِي قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ «1» . وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ أَيْ: يَذْكُرُوا عِنْدَ ذَبْحِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا اسْمَ اللَّهِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الذِّكْرَ كِنَايَةٌ عَنِ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ. وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ هِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ كَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ وَقِيلَ: عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ فِي الْبَقَرَةِ فَلَا نُعِيدُهُ، وَالْكَلَامُ فِي وَقْتِ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ، وَمَعْنَى: «عَلى مَا رَزَقَهُمْ» : عَلَى ذَبْحِ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ: هِيَ الْأَنْعَامُ، فَالْإِضَافَةُ فِي هَذَا كَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ وَصَلَاةُ الْأُولَى. فَكُلُوا مِنْها الْأَمْرُ هُنَا لِلنَّدْبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَهَذَا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ الْبَائِسُ: ذُو البؤس، وهو شدة الفقر، فذكر الفقير بَعْدَهُ لِمَزِيدِ الْإِيضَاحِ، وَالْأَمْرُ هُنَا لِلْوُجُوبِ، وَقِيلَ: لِلنَّدْبِ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ هُنَا هُوَ التَّأْدِيَةُ، أَيْ: لِيُؤَدُّوا إِزَالَةَ وَسَخِهِمْ، لِأَنَّ التَّفَثَ هُوَ الْوَسَخُ وَالْقَذَارَةُ مِنْ طُولِ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ كَمَا حَكَّاهُ النَّيْسَابُورِيُّ عَلَى هَذَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَ التَّفَثَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَمْ يأت في الشرع مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي مَعْنَى التَّفَثِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ التَّفَثِ فِي اللُّغَةِ كُلُّ قَاذُورَةٍ تَلْحِقُ الْإِنْسَانَ. وَقِيلَ: قَضَاؤُهُ ادِّهَانُهُ لِأَنَّ الْحَاجَّ مُغَبَّرٌ شَعِثٌ لَمْ يَدَّهِنْ وَلَمْ يَسْتَحِدَّ، فَإِذَا قَضَى نُسُكَهُ وَخَرَجَ مِنْ إِحْرَامِهِ حَلَقَ شَعْرَهُ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ، فَهَذَا هُوَ قَضَاءُ التَّفَثِ. قَالَ الزجاج: كأنه خروج من الإحرام إلى الإحلال وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أَيْ: مَا يَنْذُرُونَ بِهِ مِنَ الْبَرِّ فِي حَجِّهِمْ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنُّذُورِ هُنَا أَعْمَالُ الْحَجِّ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ هَذَا الطَّوَافُ هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَالْعَتِيقُ: الْقَدِيمُ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ «2» الْآيَةَ، وَقَدْ سُمِّيَ الْعَتِيقُ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنْ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ جَبَّارٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ يُعْتِقُ فِيهِ رِقَابَ الْمُذْنِبِينَ مِنَ الْعَذَابِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنْ غَرَقِ الطُّوفَانِ، وَقِيلَ: الْعَتِيقُ: الْكَرِيمُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ قَالَ: الْحَرَمُ كُلُّهُ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ قَالَ: خَلْقُ اللَّهِ فِيهِ سَوَاءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ فِي مَنَازِلِ مَكَّةَ سَوَاءٌ، فَيَنْبَغِي لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُمْ حَتَّى يَقْضُوا مَنَاسِكَهُمْ. وَقَالَ: الْبَادِي وَأَهْلُ مَكَّةَ سَوَاءٌ، يَعْنِي فِي الْمَنْزِلِ وَالْحَرَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَنْ أَخَذَ مَنْ أَجُورِ بُيُوتِ مَكَّةَ إِنَّمَا يَأْكُلُ فِي بُطُونِهِ «3» نَارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْطِعْنِي مَكَانًا لِي وَلِعَقِبِي، فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُمَرُ وَقَالَ: هُوَ حَرَمُ اللَّهِ سَوَاءٌ الْعَاكِفُ فِيهِ الباد. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَمْنَعُ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يَجْعَلُوا لَهَا أَبْوَابًا حَتَّى يَنْزِلَ الْحَاجُّ فِي عَرَصَاتِ الدُّورِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قال

_ (1) . البقرة: 198. (2) . آل عمران: 96. (3) . لعلّ الصواب: بطنه.

السُّيُوطِيُّ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله: «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ قَالَ: «سَوَاءٌ الْمُقِيمُ وَالَّذِي يَدْخُلُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَكَّةُ مُبَاحَةٌ لَا تُؤَجَّرُ بُيُوتُهَا وَلَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ «1» إِلَّا السَّوَائِبَ «2» ، مَنِ احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ «3» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حسين، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ أَكْلَ نَارًا» وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ وَهُوَ بِعَدَنِ أِبْيَنَ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا الْإِسْنَادُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَوَقْفُهُ أَشْبَهُ مِنْ رَفْعِهِ، وَلِهَذَا صَمَّمَ شُعْبَةُ عَلَى وَقْفِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فِي سِوَى الْبَيْتِ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، وَمَنْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ فِي الْبَيْتِ لَمْ يُمِتْهُ اللَّهُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يُذِيقَهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ مَعَ رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا مُهَاجِرٌ وَالْآخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَافْتَخَرُوا فِي الْأَنْسَابِ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَقَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَهَرَبَ إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَتْ فِيهِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ يَعْنِي مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ بِإِلْحَادٍ، يَعْنِي بِمَيْلٍ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ قَالَ: بشرك. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ إِلْحَادٌ فِيهِ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ بِظُلْمٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْعُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشِّعْبِ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ خَرَجَ مَعَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهَاجَرُ، فلما قدم مكة رأى على رابية في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم! ابن على ظلّي أو على قدري، ولا تزد ولا تنقص، فلما بنى خرج وخلّف إِسْمَاعِيلُ وَهَاجَرُ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ وَالْقائِمِينَ قَالَ: الْمُصَلِّينَ عِنْدَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ معناه. وأخرج ابن

_ (1) . أي: بيوتها. (2) . «السوائب» : أي غير المملوكة لأهلها، بل المتروكة لله تعالى لينتفع بها المحتاج إليها. (3) . أي: أسكن غيره بلا إجارة.

[سورة الحج (22) : الآيات 30 إلى 35]

أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ مَنِيعٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ: رَبِّ قَدْ فَرَغْتُ، فَقَالَ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قَالَ: رَبِّ وَمَا يُبَلِّغُ صَوْتِي؟ قَالَ: أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ، قَالَ: رَبِّ كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَسَمِعَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ. وَفِي الْبَابِ آثَارٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قَالَ: أَسْوَاقًا كَانَتْ لَهُمْ، مَا ذَكَرَ اللَّهُ مَنَافِعَ إِلَّا الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مَنَافِعُ فِي الدُّنْيَا وَمَنَافِعُ فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا مَنَافِعُ الْآخِرَةِ فَرِضْوَانُ اللَّهِ، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَمِمَّا يُصِيبُونَ مِنْ لُحُومِ الْبُدْنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ والذبائح والتجارات. وأخرج أبو بكر المروزي فِي «كِتَابِ الْعِيدَيْنِ» عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْأَيَّامُ المعلومات: أيام العشر. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ قَالَ: قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْبَائِسُ: الزَّمِنُ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: التَّفَثُ الْمَنَاسِكُ كُلُّهَا. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: التَّفَثُ: حَلْقُ الرَّأْسِ، وَالْأَخْذُ مِنَ الْعَارِضَيْنِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَالذَّبْحُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ: هُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ. وَوَرَدَ فِي وَجْهِ تَسْمِيَةِ الْبَيْتِ بِالْعَتِيقِ آثَارٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ سَابِقًا، وَوَرَدَ فِي فَضْلِ الطَّوَافِ أَحَادِيثُ لَيْسَ هذا موضع ذكرها. [سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 35] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

_ (1) . أي: المريض مرضا يطول شفاؤه.

مَحَلُّ ذلِكَ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: الْأَمْرُ ذَلِكَ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: افْعَلُوا ذَلِكَ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَا سَبَقَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يُطْلَقُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ أَوْ بَيْنَ طَرَفَيْ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَالْحُرُمَاتُ: جَمْعُ حُرْمَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُرْمَةُ مَا وَجَبَ الْقِيَامُ بِهِ وَحُرِّمَ التَّفْرِيطُ فِيهِ، وَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا نُهِيَ عَنْهَا وَمُنِعَ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ عُمُومُ كُلِّ حُرْمَةٍ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ كَمَا يفيده اللفظ وإن كانا السَّبَبُ خَاصًّا، وَتَعْظِيمُهَا تَرْكُ مُلَابَسَتِهَا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أَيْ: فَالتَّعْظِيمُ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ مِنَ التَّهَاوُنِ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ هُنَا لَا يُرَادُ بها معناه الْحَقِيقِيُّ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ خَيْرٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، فَهِيَ عِدَةٌ بِخَيْرٍ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ أَيْ: فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهِيَ الْمَيْتَةُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ «1» . فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ الرِّجْسُ: الْقَذَرُ، وَالْوَثَنُ: التِّمْثَالُ، وَأَصْلُهُ مِنْ وَثَنَ الشَّيْءَ، أَيْ: أَقَامَ فِي مَقَامِهِ، وَسُمِّيَ الصَّلِيبُ وَثَنًا لِأَنَّهُ يُنْصَبُ وَيُرْكَزُ فِي مَقَامِهِ، فَلَا يَبْرَحُ عَنْهُ وَالْمُرَادُ اجْتِنَابُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَسَمَّاهَا رِجْسًا لِأَنَّهَا سَبَبُ الرِّجْسِ، وَهُوَ الْعَذَابُ. وَقِيلَ: جَعَلَهَا سُبْحَانَهُ رِجْسًا حُكْمًا، وَالرِّجْسُ: النَّجَسُ، وَلَيْسَتِ النَّجَاسَةُ وَصْفًا ذَاتِيًّا لَهَا وَلَكِنَّهَا وَصْفٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا تَزُولُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ، كَمَا أَنَّهَا لَا تَزُولُ النَّجَاسَةُ الْحِسِّيَّةُ إِلَّا بِالْمَاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «مِنْ» هُنَا لِتَخْلِيصِ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسٍ، أَيْ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ وَثَنٌ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ الَّذِي هُوَ الْبَاطِلُ، وَسُمِّيَ زُورًا لِأَنَّهُ مَائِلٌ عَنِ الْحَقِّ، ومنه قوله تعالى: تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ «2» ، وَقَوْلُهُمْ مَدِينَةٌ زَوْرَاءَ، أَيْ: مَائِلَةٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا قَوْلُ الزُّورِ عَلَى الْعُمُومِ، وَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِ الزُّورِ هَاهُنَا تَحْلِيلُهُمْ بَعْضَ الْأَنْعَامِ وَتَحْرِيمُهُمْ بَعْضَهَا، وَقَوْلُهُمْ: هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ «3» ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَانْتِصَابُ حُنَفاءَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُسْتَقِيمِينَ عَلَى الْحَقِّ، أَوْ مَائِلِينَ إِلَى الْحَقِّ. وَلَفْظُ حُنَفَاءَ مِنَ الْأَضْدَادِ، يَقَعُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَيَقَعُ عَلَى الْمَيْلِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حُجَّاجًّا، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ هُوَ حَالٌ كَالْأَوَّلِ، أَيْ: غَيْرُ مُشْرِكِينَ بِهِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ كَمَا يُفِيدُهُ الْحَذْفُ مِنَ الْعُمُومِ، وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ مُبْتَدَأَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاجْتِنَابِ، وَمَعْنَى خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ: سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، أَيْ: انْحَطَّ مِنْ رَفِيعِ الْإِيمَانِ إِلَى حَضِيضِ الْكُفْرِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ، يُقَالُ: خَطَفَهُ يَخْطَفُهُ إِذَا سَلَبَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ أَيْ: تَخْطَفُ لَحْمَهُ وَتَقْطَعُهُ بِمَخَالِبِهَا. قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ، وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَبِكَسْرِ التَّاءِ مَعَ كَسْرِهِمَا أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ أَيْ: تَقْذِفُهُ وَتَرْمِي بِهِ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أَيْ: بِعِيدٍ، يُقَالُ: سحق يسحق سحقا فهو سحيق إِذَا بَعُدَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ بُعْدَ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ كَبُعْدِ مَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ، فَتَذْهَبُ بِهِ الطَّيْرُ، أَوْ هَوَتْ بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْإِشَارَةِ قَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَالشَّعَائِرُ: جَمْعُ الشَّعِيرَةِ، وَهِيَ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى شعار، ومنه شعار القوم في الحرب،

_ (1) . المائدة: 3. (2) . الكهف: 17. [.....] (3) . النحل 114.

وَهُوَ عَلَامَتُهُمُ الَّتِي يَتَعَارَفُونَ بِهَا، وَمِنْهُ إِشْعَارُ البدنة، وَهُوَ الطَّعْنُ فِي جَانِبِهَا الْأَيْمَنِ، فَشَعَائِرُ اللَّهِ أَعْلَامُ دِينِهِ، وَتَدْخُلُ الْهَدَايَا فِي الْحَجِّ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ رَاجِعٌ إِلَى الشَّعَائِرِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، أَيْ: مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ مِنَ التَّقْوَى، فَإِنَّ هَذَا التَّعْظِيمَ نَاشِئٌ مِنَ التَّقْوَى لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أَيْ: فِي الشَّعَائِرِ عَلَى الْعُمُومِ، أَوْ عَلَى الْخُصُوصِ، وَهِيَ الْبُدْنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَمِنْ مَنَافِعِهَا: الرُّكُوبُ وَالدَّرُّ وَالنَّسْلُ وَالصُّوفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ وَقْتُ نَحْرِهَا ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَيْ: حَيْثُ يَحُلُّ نَحْرُهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَنْتَهِي إِلَى الْبَيْتِ وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْحَرَمِ، فَمَنَافِعُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْهَا مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى وَقْتِ نَحْرِهَا، ثُمَّ تَكُونُ مَنَافِعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ دِينِيَّةً. وَقِيلَ: إِنَّ مَحِلَّهَا هَاهُنَا مَأْخُوذٌ مِنْ إِحْلَالِ الْحَرَامِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ شَعَائِرَ الْحَجِّ كُلَّهَا مِنَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالسَّعْيِ تَنْتَهِي إِلَى طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِالْبَيْتِ، فَالْبَيْتُ عَلَى هَذَا مُرَادٌ بِنَفْسِهِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً الْمَنْسَكُ هَاهُنَا الْمَصْدَرُ مِنْ نَسَكَ يَنْسَكُ إِذَا ذَبَحَ الْقُرْبَانَ، وَالذَّبِيحَةُ نَسِيكَةٌ، وَجَمْعُهَا نُسُكٌ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْسَكِ فِي الْآيَةِ مَوْضِعُ النَّحْرِ، وَيُقَالُ: مَنْسِكٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ، قَرَأَ بِالْكَسْرِ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَنْسَكُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْمَوْضِعُ الْمُعْتَادُ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً: أَيْ مَذْهَبًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْمَنْسَكَ الْعِيدُ، وَقِيلَ: الْحَجُّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ، وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْمُجْتَمِعَةُ عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى: وَجَعَلَنَا لِكُلِّ أَهْلِ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ ذَبْحًا يَذْبَحُونَهُ وَدَمًا يُرِيقُونَهُ، أَوْ مُتَعَبَّدًا أَوْ طَاعَةً أَوْ عِيدًا أَوْ حَجًّا يَحُجُّونَهُ، لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَيَجْعَلُوا نُسُكَهُمْ خَاصًّا بِهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أَيْ: عَلَى ذَبْحِ مَا رَزَقَهُمْ مِنْهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقُرْبَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْأَنْعَامِ دُونَ غَيْرِهَا، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الذَّبْحِ الْمَذْكُورِ هُوَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْإِسْلَامِ لَهُ، وَالِانْقِيَادِ لِطَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْفِعْلِ لِلْقَصْرِ، وَالْفَاءُ هُنَا كَالْفَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَشِّرَ الْمُخْبِتِينَ مِنْ عِبَادِهِ أَيْ: المتواضعين الخاشعين المخلصين، وهو مأخوذ من الخبت، وَهُوَ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمَعْنَى: بَشِّرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ وَجَلِيلِ عَطَائِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُخْبِتِينَ هُمُ الذي لَا يَظْلِمُونَ غَيْرَهُمْ وَإِذَا ظَلَمَهُمْ غَيْرُهُمْ لَمْ يَنْتَصِرُوا، ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الْمُخْبِتِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ: خَافَتْ وَحَذَرَتْ مُخَالَفَتُهُ، وَحُصُولُ الْوَجَلِ مِنْهُمْ عِنْدَ الذِّكْرِ لَهُ سُبْحَانَهُ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ يَقِينِهِمْ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَوَصَفَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلى مَا أَصابَهُمْ مِنَ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلاةِ أَيِ: الْإِتْيَانِ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ» بِالْجَرِّ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالنَّصْبِ عَلَى تَوَهُّمِ بَقَاءِ النُّونِ، وأنشد سيبويه على ذلك قول الشاعر: الحافظو عورة العشيرة «1» ............... .....

_ (1) . البيت بتمامه: الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائنا نطف

الْبَيْتَ بِنَصْبِ عَوْرَةَ. وَقِيلَ: لَمْ يَقْرَأْ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَبُو عَمْرٍو، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ «وَالْمُقِيمِينَ» : بإثبات النون في الْأَصْلِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أَيْ: يَتَصَدَّقُونَ بِهِ وَيُنْفِقُونَهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَيَضَعُونَهُ فِي مَوَاضِعِ الْخَيْرِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ «1» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: حُرُماتِ اللَّهِ قَالَ: الْحُرْمَةُ مَكَّةُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَعَاصِيهِ كُلِّهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ يَقُولُ: اجْتَنِبُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ يَعْنِي الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ وَالتَّكْذِيبَ بِهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَيْمَنِ بْنِ خُرَيْمٍ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ شِرْكًا بِاللَّهِ- ثَلَاثًا- ثُمَّ قَرَأَ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قَالَ أَحْمَدُ: غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سفيان بن زياد. وَقَدِ اخْتُلِفَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا نَعْرِفُ لِأَيْمَنِ بْنِ خُرَيْمٍ سَمَاعًا مِنَ النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد أخرجه أحمد وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ حَدِيثِ خُرَيْمٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلَ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس فِي قَوْلِهِ: حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ قَالَ: حُجَّاجًا لِلَّهِ. غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَحُجُّونَ مُشْرِكِينَ، فَلَمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، قَالَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ: حُجُّوا الْآنَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِاللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ قَالَ: الْبُدْنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ قَالَ: الِاسْتِسْمَانُ وَالِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِعْظَامُ، وَفِي قَوْلِهِ: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالَ: إِلَى أَنْ تُسَمَّى بُدْنًا. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَفِيهِ قَالَ: وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، فِي ظُهُورِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَصْوَافِهَا إِلَى أَنْ تُسَمَّى هَدْيًا، فَإِذَا سُمِّيَتْ هَدْيًا ذَهَبَتِ الْمَنَافِعُ ثُمَّ مَحِلُّها يَقُولُ: حِينَ تُسَمَّى إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إِذَا دَخَلَتِ الْحَرَمَ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً قال: عيدا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِهْرَاقُ الدِّمَاءِ. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة

_ (1) . الأنفال: 2.

[سورة الحج (22) : الآيات 36 إلى 37]

قَالَ: ذَبْحًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَكَّةُ لم يجعل الله لأمة قط مَنْسَكًا غَيْرَهَا. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي الْأُضْحِيَةِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ قَالَ: الْمُطَمْئِنِينَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْغَضَبِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ قَالَ: الْمُخْبِتُونَ فِي الْآيَةِ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَإِذَا ظُلِمُوا لَمْ ينتصروا. [سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37] وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) قَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «وَالْبُدُنَ» بِضَمِّ الْبَاءِ وَالدَّالِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِسْكَانِ الدَّالِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهَذَا الِاسْمُ خَاصٌّ بِالْإِبِلِ، وَسَمِّيَتْ بَدَنَةً لِأَنَّهَا تَبْدُنُ، وَالْبَدَانَةُ: السِّمَنُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْإِبِلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْإِبِلِ، وَلِمَا تُفِيدُهُ كُتُبُ اللُّغَةِ مِنِ اخْتِصَاصِ هَذَا الِاسْمِ بِالْإِبِلِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِ الْبَدَنَةِ عَلَى الْبَقَرَةِ على قولين: أصحهما أنه يطلق عليها ذَلِكَ شَرْعًا كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ. جَعَلْناها لَكُمْ وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَرِيبًا لَكُمْ فِيها خَيْرٌ أَيْ: مَنَافِعُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها أَيْ: عَلَى نحرها، وَمَعْنَى صَوافَّ أَنَّهَا قَائِمَةٌ قَدْ صُفَّتْ قَوَائِمُهَا، لِأَنَّهَا تُنْحَرُ قَائِمَةً مَعْقُولَةً، وَأَصْلُ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْخَيْلِ، يُقَالُ: صَفَنَ الْفَرَسُ فَهُوَ صَافِنٌ إِذَا قَامَ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ وَثَنَى الرَّابِعَةَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَمُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ «صَوَافِي» أَيْ: خَوَالِصُ لِلَّهِ لا يشركون بِهِ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى نَحْرِهَا أَحَدًا، وَوَاحِدُ صَوَافٍّ صَافَّةٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَوَاحِدُ صَوَافِي صَافِيَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عباس وأبو جعفر محمد بْنُ عَلِيٍّ «صَوَافِنَ» بِالنُّونِ جَمْعُ صَافِنَةٍ، وَالصَّافِنَةُ: هِيَ الَّتِي قَدْ رَفَعَتْ إِحْدَى يَدَيْهَا بِالْعَقْلِ لِئَلَّا تَضْطَرِبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الصَّافِناتُ الْجِيادُ «1» ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: تَرَكْنَا الْخَيْلَ عَاكِفَةً عَلَيْهِ ... مُقَلَّدَةً أَعِنَّتُهَا صُفُونَا وَقَالَ الْآخَرُ: أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ على الثّلاث كسيرا فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها الوجوب: السقوط، أي: فإذا سَقَطَتْ بَعْدَ نَحْرِهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهَا فَكُلُوا مِنْها ذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ للندب وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ هذا الأمر قبل هُوَ لِلنَّدْبِ كَالْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالنَّخْعِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ سُرَيْجٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: هو للوجوب.

_ (1) . ص: 31.

وَاخْتُلِفَ فِي الْقَانِعِ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ السَّائِلُ، يُقَالُ: قَنَعَ الرَّجُلُ بِفَتْحِ النُّونِ يَقْنِعُ بِكَسْرِهَا «1» إِذَا سَأَلَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ: لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مَفَاقِرَهُ أَعَفُّ مِنَ الْقُنُوعِ أَيِ: السُّؤَالِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُتَعَفِّفُ عَنِ السُّؤَالِ المستغني ببلغة، ذكر معناه الْخَلِيلُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ ذَكَرَ الْقُنُوعَ بِمَعْنَى الْقَنَاعَةِ، وَهِيَ الرِّضَا وَالتَّعَفُّفُ وَتَرْكُ الْمَسْأَلَةِ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِالثَّانِي قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. وَأَمَّا المعترّ، فقال محمد ابن كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْكَلْبِيُّ وَالْحَسَنُ أَنَّهُ الَّذِي يَتَعَرَّضُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَعْتَرِيكَ وَيَسْأَلُكَ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ أَنَّ الْقَانِعَ: الْفَقِيرُ، وَالْمُعْتَرَّ: الزَّائِرُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ كِلَاهُمَا الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَلَكِنَّ الْقَانِعَ الَّذِي يَرْضَى بِمَا عِنْدَهُ وَلَا يَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَكَ وَلَا يَسْأَلُكَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «وَالْمُعْتَرِي» وَمَعْنَاهُ كَمَعْنَى الْمُعْتَرِّ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمْ ... وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالْبَذْلُ يُقَالُ: اعْتَرَّهُ وَاعْتَرَاهُ وَعَرَّهُ وَعَرَّاهُ إِذَا تَعَرَّضَ لِمَا عِنْدَهُ أو طلبه، ذكر النَّحَّاسُ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ الْبَدِيعِ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ، فَصَارَتْ تَنْقَادُ لَكُمْ إِلَى مَوَاضِعِ نَحْرِهَا فَتَنْحَرُونَهَا وَتَنْتَفِعُونَ بِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُسَخَّرَةً لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا وَالرُّكُوبِ عَلَى ظَهْرِهَا وَالْحَلْبِ لَهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها أَيْ: لَنْ يَصْعَدَ إِلَيْهِ، وَلَا يَبْلُغَ رِضَاهُ، وَلَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْقَبُولِ مِنْهُ لُحُومُ هَذِهِ الْإِبِلِ الَّتِي تَتَصَدَّقُونَ بِهَا، وَلَا دِمَاؤُهَا الَّتِي تَنْصَبُّ عِنْدَ نَحْرِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لُحُومٌ وَدِمَاءٌ وَلكِنْ يَنالُهُ أَيْ: يَبْلُغُ إِلَيْهِ تَقْوَى قُلُوبِكُمْ، وَيَصِلُ إِلَيْهِ إِخْلَاصُكُمْ لَهُ وَإِرَادَتُكُمْ بِذَلِكَ وَجْهَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُهُ اللَّهُ وَيُجَازِي عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَصْحَابُ اللُّحُومِ وَالدِّمَاءِ، أَيْ: لَنْ يَرْضَى الْمُضَحُّونَ وَالْمُتَقَرِّبُونَ إِلَى رَبِّهِمْ بِاللُّحُومِ وَالدِّمَاءِ وَلَكِنْ بِالتَّقْوَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْهِ تَقْوَاهُ وَطَاعَتُهُ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ تَعُودُ إِلَى الْقَبُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَقْبَلُهُ الْإِنْسَانُ يُقَالُ قَدْ نَالَهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِ، فَخَاطَبَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَعَادَتِهِمْ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ كَرَّرَ هَذَا لِلتَّذْكِيرِ، وَمَعْنَى لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ هُوَ قَوْلُ النَّاحِرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ عِنْدَ النَّحْرِ، فَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى الْأَمْرَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ هُنَا التَّكْبِيرَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّكْبِيرِ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْكِبْرِيَاءِ. وَمَعْنَى عَلى مَا هَداكُمْ عَلَى مَا أَرْشَدَكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِلْمِكُمْ بِكَيْفِيَّةِ التَّقَرُّبِ بها، و «ما» مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ مَوْصُولَةٌ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُخْلِصُونَ، وَقِيلَ: الْمُوَحِّدُونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ كُلُّ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَصِحُّ بِهِ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمُحْسِنِ عَلَيْهِ.

_ (1) . لعلّ الصواب: قنع يقنع- بفتح النون-: إذا سأل. وقنع يقنع إذا رضي.

[سورة الحج (22) : الآيات 38 إلى 41]

وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا نَعْلَمُ الْبُدْنَ إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْبُدْنُ ذَاتُ الجوف. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَيْسَ الْبُدْنُ إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ، وَأَخْرَجُوا عَنِ الْحَكَمِ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجُوا عَنْ عَطَاءٍ نَحْوَ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عن يعقوب الرّياحي عن أبيه قال: أوصى إليّ رجل، وأوصى بِبَدَنَةٍ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا أَوْصَى إِلَيَّ وَأَوْصَى بِبَدَنَةٍ، فَهَلْ تُجْزِئُ عَنِّي بَقَرَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: مِمَّنْ صاحبكم؟ فقلت: من بني رياح، فقال: ومتى اقتنى بنو رياح الْبَقَرَ إِلَى الْإِبِلِ؟ وَهِمَ صَاحِبُكُمْ، إِنَّمَا الْبَقَرُ لأسد وَعَبْدِ الْقَيْسِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْأَضَاحِي، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبِي ظِبْيَانٍ قَالَ: سَأَلَتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ قَالَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْحَرَ الْبَدَنَةَ فَأَقِمْهَا عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ مَعْقُولَةٍ، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: صَوافَّ قَالَ: قِيَامًا مَعْقُولَةً. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ وَهُوَ يَنْحَرُهَا، فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ محمد صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج أبو عبيدة وعبد بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «صَوَافِنَ» يَعْنِي قِيَامًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِذا وَجَبَتْ قَالَ: سَقَطَتْ عَلَى جَنْبِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: نُحِرَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْقانِعَ الْمُتَعَفِّفُ وَالْمُعْتَرَّ السَّائِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْقَانِعُ الَّذِي يَقْنَعُ بِمَا آتَيْتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقَانِعُ الَّذِي يَقْنَعُ بِمَا أُوتِيَ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِضُ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْقَانِعُ الَّذِي يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: أَمَّا الْقَانِعُ فَالْقَانِعُ بِمَا أَرْسَلْتَ إِلَيْهِ فِي بَيْتِهِ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِيكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْقَانِعُ الَّذِي يَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَتَعَرَّضُ وَلَا يَسْأَلُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ التَّابِعِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَالْمَرْجِعُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ لَا سِيَّمَا مَعَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا ذَبَحُوا اسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَةَ بِالدِّمَاءِ فَيَنْضَحُونَ بِهَا نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نحوه. [سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ «يَدْفَعُ» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يُدَافِعُ، وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ هُنَا مُجَرَّدَةٌ عَنْ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ وُقُوعُ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى. وَقَدْ تَرِدُ هَذِهِ الصِّيغَةُ وَلَا يُرَادُ بِهَا مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ كَثِيرًا، مِثْلُ عَاقَبْتُ اللِّصَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ إِيرَادَ هَذِهِ الصِّيغَةِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ الْوَاقِعِ. والمعنى: يدفع عَنِ الْمُؤْمِنِينَ غَوَائِلَ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: يُعْلِي حُجَّتَهُمْ، وَقِيلَ: يُوَفِّقُهُمْ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ الْحَاصِلَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهُ الْمُتَوَلِّي لِلْمُدَافَعَةِ عَنْهُمْ، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ الْمُدَافَعَةَ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مُشْعِرَةٌ أَتَمَّ إِشْعَارٍ بِأَنَّهُمْ مُبْغَضُونَ إِلَى اللَّهِ غَيْرُ مَحْبُوبِينَ لَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ ذَكَرَ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ وَتَقَرَّبَ إِلَى الْأَصْنَامِ بِذَبِيحَتِهِ فَهُوَ خَوَّانٌ كَفُورٌ، وَإِيرَادُ صِيغَتَيِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ لَا لِإِخْرَاجِ مَنْ خَانَ دُونَ خِيَانَتِهِمْ، أَوْ كَفَرَ دُونَ كُفْرِهِمْ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا قُرِئَ «أُذِنَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَمَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَكَذَلِكَ «يُقَاتَلُونَ» ، قُرِئَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَمَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَعَلَى كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْإِذْنُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ إِذَا صَلَحُوا لِلْقِتَالِ، أَوْ قَاتَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ قَاتَلُوهُمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ مُشْرِكُو مَكَّةَ يُؤْذُونَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ، فَيَشْكُونَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول لهم: «اصبروا فإني لم أومر بِالْقِتَالِ» حَتَّى هَاجَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَرِّرَةٌ أَيْضًا لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ فَإِنَّ إِبَاحَةَ الْقِتَالِ لَهُمْ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ دَفْعِ اللَّهِ عَنْهُمْ، وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ أَنَّهُمْ ظُلِمُوا بِمَا كَانَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ سَبٍّ وَضَرْبٍ وَطَرْدٍ، ثُمَّ وَعَدَهُمْ سُبْحَانَهُ النَّصْرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِمَا مَرَّ مِنَ الْمُدَافَعَةِ أَيْضًا. ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ يُقَاتَلُونَ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ مَحَلِّ رَفْعٍ بِإِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، وَالْمُرَادُ بِالدِّيَارِ مَكَّةُ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ لِقَوْلِهِمْ رَبُّنَا اللَّهُ، أَيْ أُخْرِجُوا بِغَيْرِ حَقٍّ يُوجِبُ إِخْرَاجَهُمْ لَكِنْ لِقَوْلِهِمْ رَبُّنَا اللَّهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَالتَّقْدِيرُ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِلَا حَقٍّ إِلَّا بِأَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا «1» وَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولُ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ قَرَأَ نَافِعٌ «وَلَوْلَا دِفَاعُ» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَلَوْلا دَفْعُ وَالْمَعْنَى: لَوْلَا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ قِتَالِ الْأَعْدَاءِ لَاسْتَوْلَى أَهْلُ الشِّرْكِ، وَذَهَبَتْ مَوَاضِعُ الْعِبَادَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى لَهُدِّمَتْ لَخُرِّبَتْ بِاسْتِيلَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ فَالصَّوَامِعُ: هِيَ صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ، وَقِيلَ: صَوَامِعُ الصَّابِئِينَ، وَالْبِيَعُ: جَمْعُ بِيعَةٍ، وَهِيَ كَنِيسَةُ النَّصَارَى، وَالصَّلَوَاتُ هِيَ كنائس اليهود، واسمها بالعبرانية صلوثا

_ (1) . الأعراف: 126.

بِالْمُثَلَّثَةِ فَعُرِّبَتْ، وَالْمَسَاجِدُ هِيَ مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَوْلَا هَذَا الدَّفْعُ لَهُدِّمَتْ فِي زَمَنِ مُوسَى الْكَنَائِسُ، وَفِي زَمَنِ عِيسَى الصَّوَامِعُ وَالْبِيَعُ، وَفِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ الْمَسَاجِدُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا أَصْوَبُ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ ظُلْمَ الظَّلَمَةِ بِعَدْلِ الْوُلَاةِ وَقِيلَ: لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ الْعَذَابَ بِدُعَاءِ الْأَخْيَارِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالصَّوَامِعُ: جَمْعُ صَوْمَعَةٍ، وَهِيَ بِنَاءٌ مُرْتَفِعٌ، يُقَالُ: صَمَعَ الثَّرِيدَةَ إذا رفّع رأسها، ورجل أَصْمَعَ الْقَلْبِ: أَيْ حَادَّ الْفِطْنَةِ، وَالْأَصْمَعُ مِنَ الرِّجَالِ: الْحَدِيدُ الْقَوْلِ، وَقِيلَ: الصَّغِيرُ الْأُذُنِ. ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُؤَذَّنُ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي صَلَوَاتٌ تِسْعَ قِرَاءَاتٍ، وَوَجْهُ تَقْدِيمِ مَوَاضِعِ عِبَادَاتِ أَهْلِ الْمِلَلِ عَلَى مَوْضِعِ عِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ كَوْنُهَا أَقْدَمَ بِنَاءً وَأَسْبَقَ وُجُودًا. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْهَدْمِ الْمَذْكُورِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ، وَهُوَ تُعَطُّلُهَا مِنَ الْعِبَادَةِ، وَقُرِئَ «لَهُدِّمَتْ» بِالتَّشْدِيدِ، وَانْتِصَابُ كَثِيرًا فِي قَوْلِهِ: يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ذِكْرًا كَثِيرًا، أَوْ وَقْتًا كَثِيرًا، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْمَسَاجِدِ، وَقِيلَ: لِجَمِيعِ الْمَذْكُورَاتِ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ اللَّامُ هِيَ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاللَّهِ لَيَنْصُرُ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَالْمُرَادُ بِمَنْ يَنْصُرُ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُ دِينَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ، وَالْقَوِيُّ: الْقَادِرُ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْعَزِيزُ: الْجَلِيلُ الشَّرِيفُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: الْمُمْتَنِعُ الَّذِي لَا يُرَامُ وَلَا يُدَافَعُ وَلَا يُمَانَعُ، وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ صِفَةٌ لِمَنْ فِي قَوْلِهِ مَنْ يَنْصُرُهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ «لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ» . وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَقِيلَ: أَهْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَقِيلَ: وُلَاةُ الْعَدْلِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَفِيهِ إِيجَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَنْ مَكَّنَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ وَأَقْدَرَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ، وَمَعْنَى وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أَنَّ مَرْجِعَهَا إِلَى حُكْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُخْرِجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجُوا نبيهم: إنّا لله وإنا إليه راجعون، لَيَهْلِكَنَّ الْقَوْمُ، فَنَزَلَتْ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَلَيْسَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، انْتَهَى. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أَيْ: مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، يَعْنِي مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْآيَةُ بَعْدَهَا، أخرجنا من ديارنا بغير حق، ثم مكّنّا في الأرض، فأقمنا الصَّلَاةَ، وَآتَيْنَا الزَّكَاةَ، وَأَمَرْنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْنَا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهِيَ لِي وَلِأَصْحَابِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن عليّ ابن أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الْآيَةَ: قَالَ لَوْلَا دَفْعُ

[سورة الحج (22) : الآيات 42 إلى 51]

اللَّهِ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ عَنِ التَّابِعِينَ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ الْآيَةَ قَالَ: الصَّوَامِعُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الرُّهْبَانُ، وَالْبِيَعُ مَسَاجِدُ الْيَهُودِ وَصَلَوَاتٌ كَنَائِسُ النَّصَارَى، وَالْمَسَاجِدُ مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ قَالَ: الْبِيَعُ بِيَعُ النَّصَارَى، وَصَلَوَاتٌ كَنَائِسُ الْيَهُودِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ قَالَ: أَرْضُ الْمَدِينَةِ أَقامُوا الصَّلاةَ قَالَ: الْمَكْتُوبَةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ قَالَ: الْمَفْرُوضَةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ قال: بلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ: عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ قَالَ: وعند الله ثواب ما صنعوا. [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 51] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) قَوْلُهُ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ إِلَخْ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْزِيَةٌ لَهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْوَعْدِ لَهُ بِإِهْلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ، كَمَا أَهْلَكَ سُبْحَانَهُ الْمُكَذِّبِينَ لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ. وَفِيهِ إِرْشَادٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى قَوْمِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأُمَمِ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ وَمِنْ أَنْبِيَائِهِمْ وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ، وَإِنَّمَا غَيَّرَ النَّظْمَ فِي قَوْلِهِ: وَكُذِّبَ مُوسى فَجَاءَ بِالْفِعْلِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّ قَوْمَ مُوسَى لَمْ يُكَذِّبُوهُ وَإِنَّمَا كَذَّبَهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْقِبْطِ فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أَيْ: أَخَّرْتُ عَنْهُمُ الْعُقُوبَةَ وَأَمْهَلَتْهُمْ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الْإِمْهَالِ عَلَى التَّكْذِيبِ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أَيْ: أَخَذْتُ كُلَّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْعَذَابِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِمْهَالِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، أي: فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتغيير مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَإِهْلَاكُهُمْ، وَالنَّكِيرُ اسْمٌ مِنَ الْمُنْكَرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: ثُمَّ أَخَذَتُهُمْ فَأَنْكَرْتُ أَبْلَغَ إِنْكَارٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: النَّكِيرُ وَالْإِنْكَارُ: تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ كَيْفَ عَذَّبَ أَهْلَ الْقُرَى الْمُكَذِّبَةِ فَقَالَ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَيْ: أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَقُرِئَ: «أَهْلَكْتُهَا» ، وَجُمْلَةُ وَهِيَ ظالِمَةٌ حَالِيَّةٌ، وَجُمْلَةُ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَطْفٌ عَلَى «أَهْلَكْناها» ، لَا عَلَى ظَالِمَةٌ لِأَنَّهَا حَالِيَّةٌ، وَالْعَذَابُ لَيْسَ فِي حَالِ الظُّلْمِ، وَالْمُرَادُ بِنِسْبَةِ الظُّلْمِ إِلَيْهَا نِسْبَتُهُ إِلَى أَهْلِهَا: وَالْخَوَاءُ: بِمَعْنَى السُّقُوطِ، أَيْ: فَهِيَ سَاقِطَةٌ عَلى

عُرُوشِها أي على سقوفها، وذلك بسب تَعَطُّلِ سُكَّانِهَا حَتَّى تَهَدَّمَتْ فَسَقَطَتْ حِيطَانُهَا فَوْقَ سُقُوفِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَقَرَةِ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَرْيَةٍ، وَالْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ، وَمِنْ أَهْلِ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ هَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْمُعَطَّلَةِ الْمَتْرُوكَةُ. وَقِيلَ: الْخَالِيَةُ عَنْ أَهْلِهَا لِهَلَاكِهِمْ، وَقِيلَ: الْغَائِرَةُ، وَقِيلَ: مُعَطَّلَةٌ مِنَ الدِّلَاءِ وَالْأَرْشِيَةِ، وَالْقَصْرُ الْمَشِيدُ: هُوَ الْمَرْفُوعُ الْبُنْيَانِ كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: شَادَهُ مَرْمَرًا وجلّله كل ... سا فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ شَادَهُ: أَيْ رَفَعَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ بِالْمَشِيدِ الْمُجَصَّصِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّيدِ، وَهُوَ الْجَصُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ «1» : لَا تَحْسَبَنِّي وَإِنْ كُنْتُ امْرَأً غَمِرًا «2» ... كَحَيَّةِ الْمَاءِ بَيْنَ الطِّينِ وَالشِّيدِ وَقِيلَ: الْمَشِيدُ الْحَصِينُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَشِيدُ الْمَعْمُولُ بِالشِّيدِ، وَالشِّيدُ بِالْكَسْرِ: كُلُّ شَيْءٍ طَلَيْتُ بِهِ الْحَائِطَ مِنْ جِصٍّ أَوْ بَلَاطٍ، وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، تَقُولُ: شَادَهُ يَشِيدُهُ: جَصَّصَهُ، وَالْمُشَيَّدُ بِالتَّشْدِيدِ الْمُطَوَّلُ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: لِلْوَاحِدِ مِنْ قوله تعالى: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. وَالْمَعْنَى الْمَعْنِيُّ: وَكَمْ مِنْ قَصْرٍ مُشَيَّدٍ مُعَطَّلٍ مِثْلِ الْبِئْرِ الْمُعَطَّلَةِ. وَمَعْنَى التَّعْطِيلُ فِي الْقَصْرِ هُوَ أَنَّهُ مُعَطَّلٌ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ مِنْ آلَاتِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تفسيره: ويقال: إن هذه البئر والقصر بحضر موت مَعْرُوفَانِ، فَالْقَصْرُ مُشْرِفٌ عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ «3» لَا يُرْتَقَى إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَالْبِئْرُ فِي سَفْحِهِ لَا تُقِرُّ الرِّيحُ شَيْئًا سَقَطَ فِيهَا إِلَّا أَخْرَجَتْهُ، وَأَصْحَابُ الْقَصْرِ مُلُوكُ الْحَضَرِ، وَأَصْحَابُ الْبِئْرِ مُلُوكُ البوادي. حَكَى الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الْبِئْرَ كَانَ بَعَدَنَ مِنَ الْيَمَنِ فِي بَلَدٍ يُقَالُ لَهَا حَضُورَاءُ، نَزَلَ بِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِمَّنْ آمَنَ بِصَالِحٍ، وَنَجَوَا مِنَ الْعَذَابِ، وَمَعَهُمْ صَالِحٌ، فَمَاتَ صَالِحٌ، فسمّي المكان حضر موت لِأَنَّ صَالِحًا لَمَّا حَضَرَهُ مَاتَ فَبَنَوْا حَضُورَاءَ وَقَعَدُوا عَلَى هَذِهِ الْبِئْرِ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَمَّا الْقَصْرُ الْمُشَيَّدُ فَقَصْرٌ بَنَاهُ شَدَّادُ بْنُ عَادِ بْنِ إِرَمَ، لَمْ يُبْنَ فِي الْأَرْضِ مِثْلُهُ فِيمَا ذَكَرُوا وَزَعَمُوا، وَحَالُهُ أَيْضًا كَحَالِ هَذِهِ الْبِئْرِ الْمَذْكُورَةِ فِي إِيحَاشِهِ بَعْدَ الْأُنْسِ، وَإِقْفَارِهِ بَعْدَ الْعُمْرَانِ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُ عَلَى أَمْيَالٍ، لِمَا يَسْمَعُ فِيهِ مِنْ عَزِيفِ الْجِنِّ وَالْأَصْوَاتِ الْمُنْكَرَةِ بَعْدَ النَّعِيمِ وَالْعَيْشِ الرَّغَدِ وَبَهَاءِ الْمُلْكِ، وَانْتِظَامِ الْأَهْلِ كالسلك فبادوا وَمَا عَادُوا، فَذَكَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً. قَالَ: وَقِيلَ إِنَّهُمُ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ بُخْتَنَصَّرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ «4» فَتَعَطَّلَتْ بِئْرُهُمْ وَخُرِّبَتْ قُصُورُهُمُ، انْتَهَى. ثُمَّ أَنْكَرَ سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارهم بِهَذِهِ الْآثَارِ قَائِلًا: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ حَثًّا لَهُمْ عَلَى السَّفَرِ لِيَرَوْا مَصَارِعَ تِلْكَ الْأُمَمِ فَيَعْتَبِرُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ سَافَرُوا وَلَمْ يَعْتَبِرُوا، فَلِهَذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، كَمَا فِي

_ (1) . هو الشمّاخ. (2) . «الغمر» : الغرّ الذي لم يجرّب الأمور. (3) . قلة جبل: أعلاه. (4) . الأنبياء: 11.

قَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ- وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ «1» وَمَعْنَى: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَنَّهُمْ بِسَبَبِ مَا شَاهَدُوا مِنَ الْعِبَرِ تَكُونُ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا مَا يَجِبُ أَنْ يَتَعَقَّلُوهُ، وَأَسْنَدَ التَّعَقُّلَ إِلَى الْقُلُوبِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْعَقْلِ، كَمَا أَنَّ الْآذَانَ مَحَلُّ السَّمْعِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَقْلَ مَحَلُّهُ الدِّمَاغُ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَلْبَ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى إِدْرَاكِ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ مَحَلُّهُ خَارِجًا عَنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ فِي مَحَلِّ الْعَقْلِ وَمَاهِيَّتِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أَيْ: مَا يَجِبُ أَنْ يَسْمَعُوهُ مِمَّا تَلَاهُ عَلَيْهِمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْأَخْبَارِ إِلَيْهِمْ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَاءُ عِمَادٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، التَّذْكِيرُ عَلَى الْخَبَرِ، وَالتَّأْنِيثُ عَلَى الْأَبْصَارِ أَوِ الْقِصَّةِ، أَيْ: فَإِنَّ الْأَبْصَارَ لَا تَعْمَى، أَوْ فَإِنَّ الْقِصَّةَ لَا تُعْمِي الْأَبْصَارَ: أَيْ أَبْصَارَ الْعُيُونِ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أَيْ: لَيْسَ الْخَلَلُ فِي مَشَاعِرِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي عُقُولِهِمْ، أَيْ: لَا تُدْرِكُ عُقُولُهُمْ مُوَاطِنَ الْحَقِّ وَمَوَاضِعَ الِاعْتِبَارِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّ قَوْلَهُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ مِنَ التَّوْكِيدِ الَّذِي تَزِيدُهُ الْعَرَبُ فِي الْكَلَامِ كقوله: عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «2» ويَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ «3» ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «4» . ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فَقَالَ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِمَجِيئِهِ أَشَدَّ إِنْكَارٍ، فَاسْتِعْجَالُهُمْ لَهُ هُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ لِمَا تَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْوَعْدِ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِمْ وَحُلُولِهِ بِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعِيدٌ لَهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَهُ وَأَلْفَ سَنَةٍ فِي قُدْرَتِهِ وَاحِدٌ، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلون بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَتَأَخُّرِهِ فِي الْقُدْرَةِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِالْإِمْهَالِ، انْتَهَى، وَمَحَلُّ جُمْلَةِ: «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَدًا، وَقَدْ سَبَقَ الْوَعْدُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَجِيئِهِ حَتْمًا، أَوْ هِيَ اعْتِرَاضِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ جُمْلَةُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَعَلَى الثَّانِي تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مَسُوقَةً لِبَيَانِ حَالِهِمْ فِي الِاسْتِعْجَالِ، وَخِطَابُهُمْ فِي ذَلِكَ بِبَيَانِ كَمَالِ حِلْمِهِ لَكَوْنِ الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ عِنْدَهُ كَالْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ عِنْدَهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً- وَنَراهُ قَرِيباً «5» قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِامْتِدَادِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَأَلْفِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِنَّ يَوْمًا مِنَ الْخَوْفِ وَالشِّدَّةِ فِي الْآخِرَةِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا فِيهَا خَوْفٌ وَشِدَّةٌ، وكذلك يوم النعيم قياسا. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «ممّا يعدّون» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عَبِيدٍ لِقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِمٍ. وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ هَذَا إِعْلَامٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَخَذَ قَوْمًا بَعْدَ الْإِمْلَاءِ وَالتَّأْخِيرِ. قِيلَ: وَتَكْرِيرُ هَذَا مَعَ ذِكْرِهِ قبله

_ (1) . الصافات: 137- 138. (2) . البقرة: 196. (3) . آل عمران: 167. (4) . الأنعام: 38. [.....] (5) . المعارج: 6- 7.

[سورة الحج (22) : الآيات 52 إلى 57]

لِلتَّأْكِيدِ، وَلَيْسَ بِتَكْرَارٍ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ سيق لبيان الإهلاك مناسبا لقوله: «فيكف كَانَ نَكِيرِ» ، وَلِهَذَا عُطِفَ بِالْفَاءِ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ وَالثَّانِي سِيقَ لِبَيَانِ الْإِمْلَاءِ مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ كَانُوا مِثْلَكُمْ ظَالِمِينَ قَدْ أَمْهَلْتُهُمْ حِينًا، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بِالْعَذَابِ، وَمَرْجِعُ الْكُلِّ إِلَى حُكْمِي. فَجُمْلَةُ: «وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» تَذْيِيلٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِأَنَّهُ نَذِيرٌ لَهُمْ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مُبَيِّنٌ لَهُمْ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، فَمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَازَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرِّزْقِ الْكَرِيمِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَهُمُ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِ اللَّهِ مُعَاجِزِينَ يُقَالُ: عَاجَزَهُ: سَابَقَهُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي طَلَبِ إِعْجَازِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَبَقَهُ قِيلَ أَعْجَزَهُ وَعَجَّزَهُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: مَعْنَى مُعَاجِزِينَ: ظَانِّينَ وَمُقَدِّرِينَ أَنْ يُعْجِزُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيَفُوتُوهُ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: مُعَانِدِينَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قَالَ: خَرِبَةٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ عَطَّلَهَا أَهْلُهَا وَتَرَكُوهَا وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قَالَ: شَيَّدُوهُ وَحَصَّنُوهُ فَهَلَكُوا وَتَرَكُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ قَالَ: الَّتِي تُرِكَتْ لَا أَهْلَ لَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قَالَ: هُوَ الْمُجَصَّصُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قَالَ: مِنَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فيها السموات وَالْأَرْضَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ فِي الْآيَةِ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الدُّنْيَا جُمْعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، فَقَدْ مَضَى مِنْهَا سِتَّةُ آلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعاجِزِينَ قَالَ: مُرَاغِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مُشَاقِينَ. [سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 57] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) قَوْلُهُ: مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ قِيلَ: الرَّسُولُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَى الْخَلْقِ بِإِرْسَالِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ عِيَانًا ومحاورته

شِفَاهًا، وَالنَّبِيُّ: الَّذِي يَكُونُ إِلْهَامًا أَوْ مَنَامًا. وَقِيلَ: الرَّسُولُ: مَنْ بُعِثَ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، وَالنَّبِيُّ: مَنْ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتَابٌ، وَلَا بُدَّ لَهُمَا جَمِيعًا مِنَ الْمُعْجِزَةِ الظَّاهِرَةِ. إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ مَعْنَى تَمَنَّى: تَشَهَّى وَهَيَّأَ فِي نَفْسِهِ مَا يَهْوَاهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَى تَمَنَّى: تَلَا. قَالَ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآية: إنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ إِعْرَاضُ قَوْمِهِ عَنْهُ تَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُنَفِّرُهُمْ عَنْهُ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَتِهِمْ وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ سُورَةُ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «1» فَأَخَذَ يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى- وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «2» وَكَانَ ذَلِكَ التَّمَنِّي فِي نَفْسِهِ، فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَى، فَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ فَرِحُوا وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاءَتِهِ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، فَلَمَّا سَجَدَ فِي آخِرِهَا سَجَدَ مَعَهُ جَمِيعُ مَنْ فِي النَّادِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَتَفَرَّقَتْ قُرَيْشٌ مسرورين بذلك وقالوا: قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ عَنِ اللَّهِ، فَحَزِنَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَخَافَ خَوْفًا شَدِيدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. هَكَذَا قَالُوا. وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَلَا ثَبَتَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ بَلْ بُطْلَانُهُ فَقَدْ دَفَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، قَالَ اللَّهُ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ- لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ- ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «3» وقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «4» وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ «5» فَنَفَى الْمُقَارَبَةَ لِلرُّكُونِ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ. قَالَ الْبَزَّارُ: هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، ثُمَّ أَخَذَ يَتَكَلَّمُ أَنَّ رُوَاةَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَطْعُونٌ فِيهِمْ. وَقَالَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ في «الشفا» : إِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَا قَصْدًا وَلَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَلَا غَلَطًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ، وَمَا كَانَ مِنْ رُجُوعِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قَدْ أَسْلَمُوا، وَلَكِنَّهَا مَنْ طُرُقٍ كُلِّهَا مُرْسَلَةٍ، وَلَمْ أَرَهَا مُسْنَدَةً مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ بُطْلَانُ ذَلِكَ عَرَفْتَ أَنَّ مَعْنَى تَمَنَّى قَرَأَ وَتَلَا، كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ حِكَايَةِ الْوَاحِدِيِّ لِذَلِكَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ. وَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا مَعْنَى تَمَنَّى تَلَا وَقَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ، وَمَعْنَى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَيْ: فِي تِلَاوَتِهِ وَقِرَاءَتِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قوله: لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَقِيلَ: مَعْنَى تَمَنَّى حَدَّثَ، وَمَعْنَى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فِي حَدِيثِهِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَمَنَّى: قَالَ. فَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ أَوْقَعَ فِي مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ مِنْ دُونِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

_ (1) . النجم: 1. (2) . النجم: 19- 20. (3) . الحاقة: 44- 46. (4) . النجم: 3. (5) . الإسراء: 74.

وَلَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: لَا يَهُولَنَّكَ ذَلِكَ وَلَا يُحْزِنْكَ، فَقَدْ أَصَابَ مِثْلُ هَذَا مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ مَعْنَى تَمَنَّى حَدَّثَ نَفْسَهُ، كَمَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: تَمَنَّى إِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ الشَّيْطَانُ وَأَلْقَاهُ فِي مَسَامِعِ النَّاسِ مِنْ دُونِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ أَنَّ إِلْقَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ لِأَلْفَاظٍ مَسْمُوعَةٍ وَقَعَتْ بِهَا الْفِتْنَةُ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْغَرَانِيقِ: الْمَلَائِكَةُ، وَيُرَدُّ بِقَوْلِهِ: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ أَيْ: يُبْطِلُهُ، وَشَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ بَاطِلَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ سَهْوًا وَنِسْيَانًا، وَهُمَا مُجَوَّزَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ السَّهْوَ وَالنِّسْيَانَ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاطِنِهِ، ثُمَّ لَمَّا سَلَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ التَّسْلِيَةِ، وَأَنَّهَا قَدْ وَقَعَتْ لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ والأنبياء، بيّن سبحانه أن يُبْطِلُ ذَلِكَ، وَلَا يُثْبِتُهُ، وَلَا يَسْتَمِرُّ تَغْرِيرُ الشَّيْطَانِ بِهِ، فَقَالَ: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ أَيْ: يُبْطِلُهُ وَيَجْعَلُهُ ذَاهِبًا غَيْرَ ثَابِتٍ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أَيْ: يُثْبِتُهَا وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي كُلِّ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَجُمْلَةُ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: ذَلِكَ الْإِلْقَاءُ الَّذِي يُلْقِيهُ الشَّيْطَانُ فِتْنَةً، أَيْ: ضَلَالَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَيْ: شَكٌّ وَنِفَاقٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَلِينُ لِلْحَقِّ أَبَدًا، وَلَا تَرْجِعُ إِلَى الصَّوَابِ بِحَالٍ، ثُمَّ سَجَّلَ سُبْحَانَهُ عَلَى هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَهُمَا: مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَمَنْ فِي قَلْبِهِ قَسْوَةٌ بِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، فَقَالَ: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أَيْ: عَدَاوَةٍ شَدِيدَةٍ، وَوَصْفُ الشِّقَاقِ بِالْبُعْدِ مُبَالَغَةٌ، وَالْمَوْصُوفُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْ قَامَ بِهِ. وَلَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِلْقَاءَ كَانَ فِتْنَةً فِي حَقِّ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالشَّكِّ وَالشِّرْكِ بَيَّنَ أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ الْعَالِمِينَ بِاللَّهِ الْعَارِفِينَ بِهِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَهُمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، فَقَالَ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أَيِ: الْحَقُّ النَّازِلُ مِنْ عِنْدِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «أَنَّهُ» رَاجِعٌ إِلَى تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ مِنَ الإلقاء لأنه مما جرت به عادته مع أَنْبِيَائِهِ، وَلَكِنَّهُ يَرُدُّ هَذَا قَوْلُهُ: فَيُؤْمِنُوا بِهِ فإن المراد الإيمان بِالْقُرْآنِ، أَيْ: يَثْبُتُوا عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أَيْ: تَخْشَعُ وَتَسْكُنُ وَتَنْقَادُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهِ وَإِخْبَاتَ الْقُلُوبِ لَهُ لَا يُمْكِنُ أن يكونا تمكين من الشيطان بل للقرآن وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي أُمُورِ دِينِهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: طَرِيقٍ صَحِيحٍ لَا عِوَجَ بِهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالتَّنْوِينِ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أَيْ: فِي شَكٍّ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: فِي الدِّينِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقِيلَ: فِي إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ، فَيَقُولُونَ: مَا بَالُهُ ذَكَرَ الْأَصْنَامَ بِخَيْرٍ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ؟ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ «فِي مِرْيَةٍ» بِضَمِّ الْمِيمِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أَيِ: الْقِيَامَةُ بَغْتَةً أَيْ: فَجْأَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ لَا يَوْمَ بَعْدَهُ، فَكَانَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ عَقِيمًا، وَالْعَقِيمُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ لَا يَكُونُ لَهُ ولد، ولما كانت الأيام نتوالى جُعِلَ ذَلِكَ كَهَيْئَةِ الْوِلَادَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمٌ وُصِفَ بِالْعُقْمِ وَقِيلَ: يَوْمُ حَرْبٍ يُقْتَلُونَ فِيهِ كَيَوْمِ بَدْرٍ وَقِيلَ إِنَّ الْيَوْمَ وُصِفَ بِالْعُقْمِ لِأَنَّهُ لَا رَأْفَةَ فِيهِ وَلَا رَحْمَةَ، فَكَأَنَّهُ عَقِيمٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ «1» أي:

_ (1) . الذاريات: 41.

الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا تَأْتِي بِمَطَرٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أَيِ: السُّلْطَانُ الْقَاهِرُ وَالِاسْتِيلَاءُ التَّامُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، وَلَا مُدَافِعَ لَهُ عَنْهُ، وَجُمْلَةُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَيْ: كَائِنُونَ فِيهَا، مُسْتَقِرُّونَ فِي أَرْضِهَا، مُنْغَمِسُونَ فِي نَعِيمِهَا وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ: عَذَابٌ مُتَّصِفٌ بِأَنَّهُ مُهِينٌ لِلْمُعَذَّبِينَ، بَالِغٌ مِنْهُمُ الْمَبْلَغَ الْعَظِيمَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي «الْمَصَاحِفِ» عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ: فَنُسِخَتْ مُحَدَّثٍ، قَالَ: وَالْمُحَدَّثُونَ: صَاحِبُ يس، وَلُقْمَانُ، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَصَاحِبُ مُوسَى. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ: أفرأيتم اللات والعزّى ومنات الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ وَقَالُوا: قَدْ ذَكَرَ آلِهَتَنَا، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ مَا جئت به، فقرأ: أفرأيتم اللات والعزّى ومنات الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لِتُرْتَجَى، فَقَالَ: مَا أَتَيْتُكَ بِهَذَا، هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ النَّجْمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيِّ عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا. ورواه عبد ابن حُمَيْدٍ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مُرْسَلًا. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ نَحْوَهُ مُرْسَلًا أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ إِمَّا مُرْسَلَةٌ أَوْ مُنْقَطِعَةٌ لَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَقَدْ أَسْلَفْنَا عَنِ الْحُفَّاظِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ مَا فيه كفاية، وفي الباب روايات من أجبّ الْوُقُوفَ عَلَى جَمِيعِهَا فَلْيَنْظُرْهَا فِي «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» لِلسُّيُوطِيِّ، وَلَا يَأْتِي التَّطْوِيلُ بِذِكْرِهَا هُنَا بِفَائِدَةٍ، فَقَدْ عَرَّفْنَاكَ أَنَّهَا جَمِيعَهَا لَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابن عباس إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ يَقُولُ: إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: يَعْنِي بِالتَّمَنِّي التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ، «أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» : فِي تِلَاوَتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ يَنْسَخُ جِبْرِيلُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إِذا تَمَنَّى قَالَ: تَكَلَّمَ فِي أُمْنِيَّتِهِ قَالَ: كَلَامِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قال: يوم بدر. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وعكرمة

[سورة الحج (22) : الآيات 58 إلى 66]

مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا لَيْلَةَ لَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الضحّاك مثله. [سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 66] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) أَفْرَدَ سُبْحَانَهُ الْمُهَاجِرِينَ بِالذِّكْرِ تَخْصِيصًا لَهُمْ بِمَزِيدِ الشَّرَفِ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنَ الْأَوْطَانِ فِي سَرِيَّةٍ أَوْ عَسْكَرٍ، وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ ذَلِكَ على الأمرين، والكلّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا أَيْ: فِي حَالِ الْمُهَاجَرَةِ، وَاللَّامُ فِي لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمَوْصُولِ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، وَانْتِصَابُ رِزْقًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، أَيْ: مَرْزُوقًا حَسَنًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ: هُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، وَقِيلَ: هُوَ الْغَنِيمَةُ لِأَنَّهُ حَلَالٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ كقول شعيب: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ «ثُمَّ قُتِّلُوا» بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَرْزُقُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَكُلُّ رِزْقٍ يَجْرِي عَلَى يَدِ الْعِبَادِ لِبَعْضِهِمُ الْبَعْضِ، فَهُوَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، لَا رَازِقَ سِوَاهُ وَلَا مُعْطِيَ غَيْرُهُ، وَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَجُمْلَةُ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ «مَدْخَلًا» بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ أُرِيدَ بِهِ الْجَنَّةُ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ أَوْ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ سُبْحَانَ. وَفِي هَذَا مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ وَالتَّبْشِيرِ لَهُمْ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، فَإِنَّ الْمُدْخَلَ الَّذِي يَرْضَوْنَهُ هُوَ الْأَوْفَقُ لِنُفُوسِهِمْ وَالْأَقْرَبُ إِلَى مَطْلَبِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشَرٍ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَرْضَوْنَهُ وَفَوْقَ الرِّضَا. وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بِدَرَجَاتِ الْعَامِلِينَ وَمَرَاتِبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ حَلِيمٌ عَنْ تَفْرِيطِ الْمُفَرِّطِينَ مِنْهُمْ لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ الْأَمْرُ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ مِنْ إِنْجَازِ الْوَعْدِ لِلْمُهَاجِرِينَ

خَاصَّةً إِذَا قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا، فَهُوَ عَلَى هَذَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَمَعْنَى وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ مَنْ جَازَى الظَّالِمَ بِمِثْلِ مَا ظَلَمَهُ، وَسُمِّيَ الِابْتِدَاءُ بِاسْمِ الْجَزَاءِ مُشَاكَلَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «2» وَالْعُقُوبَةُ فِي الْأَصْلِ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ فِعْلٍ تَكُونُ جَزَاءً عَنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِيَّةِ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي ظُلِمَ بِهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أَنَّ الظَّالِمَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ عَاوَدَهُ بِالْمَظْلَمَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْمَظْلَمَةِ الْأُولَى، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْبَغْيِ: هُوَ مَا وَقَعَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إِزْعَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَوْطَانِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ وَآذَوْا مَنْ آمَنَ بِهِ، وَاللَّامُ فِي لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ الْمَبْغِيَّ عَلَيْهِ عَلَى الْبَاغِي إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أَيْ: كَثِيرُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنِ الذُّنُوبِ. وَقِيلَ: الْعَفْوُ وَالْغُفْرَانُ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ تَرْجِيحِ الِانْتِقَامِ عَلَى الْعَفْوِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أَيْ: ثُمَّ كَانَ الْمُجَازِي مَبْغِيًّا عَلَيْهِ، أَيْ: مَظْلُومًا، وَمَعْنَى «ثُمَّ» تَفَاوُتُ الرُّتْبَةِ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْقِتَالِ مَعَهُ نَوْعُ ظُلْمٍ، كَمَا قِيلَ فِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ: الْبَادِي أَظْلِمُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَهِيَ فِي الْقِصَاصِ وَالْجِرَاحَاتِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِلْمَبْغِيِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ، وَمِنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ إِيلَاجُ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَالنَّهَارِ فِي اللَّيْلِ، وَعَبَّرَ عَنِ الزِّيَادَةِ بِالْإِيلَاجِ لِأَنَّ زِيَادَةَ أَحَدِهِمَا تَسْتَلْزِمُ نُقْصَانَ الْآخَرِ، وَالْمُرَادُ تَحْصِيلُ أَحَدِ الْعَرَضَيْنِ فِي مَحَلِّ الْآخَرِ. وَقَدْ مَضَى فِي آلِ عِمْرَانَ مَعْنَى هَذَا الْإِيلَاجِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يَسْمَعُ كُلَّ مَسْمُوعٍ بَصِيرٌ يُبْصِرُ كُلَّ مُبْصَرٍ، أَوْ سَمِيعٌ لِلْأَقْوَالِ مُبْصِرٌ لِلْأَفْعَالِ، فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ اتِّصَافِهِ سُبْحَانَهُ بِكَمَالِ القدرة الباهرة وَالْعِلْمِ التَّامِّ، أَيْ: هُوَ سُبْحَانَهُ ذُو الْحَقِّ، دينه حَقٌّ، وَعِبَادَتُهُ حَقٌّ، وَنَصْرُهُ لِأَوْلِيَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ حَقٌّ، وَوَعْدُهُ حَقٌّ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ فِي نَفْسِهِ وَأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ حَقٌّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ «تَدْعُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عبيدة. والمعنى: إن الذين تدعونه آلِهَةً، وَهِيَ الْأَصْنَامُ، هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا ثُبُوتَ لَهُ وَلَا لِكَوْنِهِ إِلَهًا. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ أَيِ: الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ الْمُتَقَدِّسُ عَلَى الْأَشْبَاهِ وَالْأَنْدَادِ الْمُتَنَزِّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ مِنَ الصِّفَاتِ الْكَبِيرُ أَيْ: ذُو الْكِبْرِيَاءِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ ذَاتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا بَيِّنًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى «أَنْزَلَ» ، وَارْتَفَعَ الفعل بعد الفاء لكون اسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ كَمَا قَالَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْمَعْنَى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَكَانَ كَذَا وَكَذَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «3» : ألم تسأل الرّبع القواء فينطق ... وهل تخبرنّك اليوم بيداء سملق «4»

_ (1) . الشورى: 40. (2) . البقرة: 194. (3) . هو جميل بثينة. (4) . «القواء» : القفر. «البيداء» : القفر أيضا. «السملق» : الأرض التي لا تنبت، وهي السهلة المستوية.

مَعْنَاهُ: قَدْ سَأَلَتْهُ فَنَطَقَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «أَلَمْ تَرَ» خَبَرٌ كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: إِنِ اللَّهَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أَيْ: ذَاتِ خُضْرَةٍ، كَمَا تَقُولُ مُبْقِلَةٌ وَمُسْبِعَةٌ أَيْ: ذَوَاتِ بَقْلٍ وَسِبَاعٍ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِعْجَالِهَا أَثَرَ نُزُولِ الْمَاءِ بِالنَّبَاتِ وَاسْتِمْرَارِهَا كَذَلِكَ عَادَةً، وَصِيغَةُ الِاسْتِقْبَالِ لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الِاخْضِرَارِ مَعَ الْإِشْعَارِ بِتَجَدُّدِ الْإِنْزَالِ وَاسْتِمْرَارِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَالرَّفْعُ هُنَا مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّهُ لَوْ نُصِبَ لَانْعَكَسَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ فَيَنْقَلِبُ إِلَى نَفْيِ الِاخْضِرَارِ، وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا لَا يَكُونُ، يَعْنِي الِاخْضِرَارُ فِي صَبَاحِ لَيْلَةِ الْمَطَرِ، إِلَّا بِمَكَّةَ وَتِهَامَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاخْضِرَارِ اخْضِرَارُ الْأَرْضِ فِي نَفْسِهَا لَا بِاعْتِبَارِ النَّبَاتِ فِيهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ «1» وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أَنَّهُ يَصِلُ عِلْمُهُ إِلَى كُلِّ دَقِيقٍ وَجَلِيلٍ، وَقِيلَ: «لَطِيفٌ» بِأَرْزَاقِ عِبَادِهِ، وَقِيلَ: «لَطِيفٌ» بِاسْتِخْرَاجِ النَّبَاتِ، وَمَعْنَى خَبِيرٌ أَنَّهُ ذُو خِبْرَةٍ بِتَدْبِيرِ عِبَادِهِ وَمَا يَصْلُحُ لَهُمْ، وَقِيلَ: «خَبِيرٌ» بِمَا يَنْطَوُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُنُوطِ عِنْدَ تَأْخِيرِ الْمَطَرِ، وَقِيلَ: «خَبِيرٌ» بِحَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ. لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خَلْقًا وَمُلْكًا وَتَصَرُّفًا، وَكُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى رِزْقِهِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ فَلَا يحتاج إلى شيء الْحَمِيدُ المستوجب للحمد فِي كُلِّ حَالٍ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ هَذِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَأَخْبَرَ عِبَادَهُ بِأَنَّهُ سَخَّرَ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ وَالْأَنْهَارِ، وَجَعَلَهُ لِمَنَافِعِهِمْ وَالْفُلْكَ عَطْفٌ عَلَى «مَا» ، أَوْ عَلَى اسْمِ «أَنَّ» ، أَيْ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ فِي حَالِ جَرْيِهَا فِي الْبَحْرِ، وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ «وَالْفُلْكُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ. وَمَعْنَى تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أَيْ: بِتَقْدِيرِهِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ تَقَعَ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ خَلَقَهَا عَلَى صِفَةٍ مُسْتَلْزِمَةٍ لِلْإِمْسَاكِ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تَجْرِي إِلَّا بِإِذْنِهِ أَيْ: بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وذلك يوم القيامة إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ حَيْثُ سَخَّرَ هَذِهِ الْأُمُورَ لِعِبَادِهِ، وَهَيَّأَ لَهُمْ أَسْبَابَ الْمَعَاشِ، وَأَمْسَكَ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَتُهْلِكُهُمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ وَإِنْعَامًا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نِعْمَةً أُخْرَى فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ جَمَادًا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَعْمَارِكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ عِنْدَ الْبَعْثِ للحساب والعقاب وإِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أَيْ: كَثِيرُ الْجُحُودِ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهَا ظَاهِرَةً غَيْرَ مُسْتَتِرَةٍ، وَلَا يُنَافِي هَذَا خُرُوجُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ عَنْ هَذَا الْجَحْدِ لِأَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُ جَمِيعِ الْجِنْسِ بِوَصْفِ مَنْ يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِهِ مُبَالَغَةً. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْأَجْرِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الرِّزْقَ وَأَمِنَ مِنَ الْفَتَّانِينَ، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا إِلَى قَوْلِهِ: حَلِيمٌ» ، وَإِسْنَادُ ابْنِ أَبِي حاتم هكذا: حدّثنا المسيب ابن وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْحَارِثِ، عن أبي عقبة، يعني

_ (1) . فصلت: 39.

[سورة الحج (22) : الآيات 67 إلى 72]

أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عُقْبَةَ قَالَ: قَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ: طَالَ رِبَاطُنَا وَإِقَامَتُنَا عَلَى حِصْنٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، فَمَرَّ بِي سَلْمَانُ يَعْنِي الْفَارِسِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ كَانَ بِرُودِسَ، فَمَرُّوا بِجِنَازَتَيْنِ أَحَدُهُمَا قَتِيلٌ وَالْآخَرُ مُتَوَفًّى، فَمَالَ النَّاسُ عَنِ القتيل، فقال فضالة: مالي أَرَى النَّاسَ مَالُوا مَعَ هَذَا وَتَرَكُوا هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا الْقَتِيلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُبَالِي مِنْ أَيْ حُفْرَتَيْهِمَا بُعِثْتُ، اسْمَعُوا كِتَابَ اللَّهِ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا الْآيَةَ. وَإِسْنَادُهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ هَكَذَا: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ بِشْرٍ، أَخْبَرَنِي ضِمَامٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا قُبَيْلٍ وَرَبِيعَةَ بْنَ سَيْفٍ الْمُغَافِرِيَّ يَقُولَانِ: كُنَّا بِرُودُسَ وَمَعَنَا فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فِي لَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنَ الْمُحَرَّمِ فَلَقَوُا الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَاتِلُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَإِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ نَاشَدُوهُمْ وَذَكَّرُوهُمْ بِاللَّهِ أَنْ يَعْرِضُوا لِقِتَالِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَحِلُّونَ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا مَنْ بَادَأَهُمْ، وإن المشركين بدءوا فَقَاتَلُوهُمْ، فَاسْتَحَلَّ الصَّحَابَةُ قِتَالُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَاتَلُوهُمْ وَنَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ عاقَبَ الْآيَةَ قَالَ: تَعَاوَنَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَأَخْرَجُوهُ، فَوَعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يَنْصُرَهُ، وَهُوَ فِي الْقِصَاصِ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ قَالَ: الشَّيْطَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ قَالَ: يَعُدُّ الْمُصِيبَاتِ وَيَنْسَى النِّعَمَ. [سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 72] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) عَادَ سُبْحَانَهُ إِلَى بَيَانِ أَمْرِ التَّكَالِيفِ مَعَ الزَّجْرِ لِمُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ عَنْ مُنَازَعَتِهِ فَقَالَ: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً أَيْ: لِكُلِّ قَرْنٍ مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَضَعْنَا شَرِيعَةً خَاصَّةً، بِحَيْثُ لَا تَتَخَطَّى أُمَّةٌ مِنْهُمْ شَرِيعَتَهَا الْمُعَيَّنَةَ لَهَا إلى شريعة أخرى، وَجُمْلَةُ هُمْ ناسِكُوهُ صِفَةٌ لِمَنْسِكًا، وَالضَّمِيرُ لِكُلِّ أمة، أي:

_ (1) . النساء: 100.

تِلْكَ الْأُمَّةُ هِيَ الْعَامِلَةُ بِهِ لَا غَيْرُهَا، فَكَانَتِ التَّوْرَاةُ مَنْسَكَ الْأُمَّةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْ مَبْعَثِ مُوسَى إِلَى مَبْعَثِ عِيسَى، وَالْإِنْجِيلُ مَنْسَكُ الْأُمَّةِ الَّتِي مِنْ مَبْعَثِ عِيسَى إِلَى مَبْعَثِ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْقُرْآنُ مَنْسَكُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَنْسَكُ مَصْدَرٌ لَا اسْمُ مَكَانٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هُمْ نَاسِكُوهُ، وَلَمْ يُقِلْ نَاسِكُونَ فِيهِ. وَقِيلَ: الْمَنْسَكُ مَوْضِعُ أَدَاءِ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الذَّبَائِحُ، وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ لِتَرْتِيبِ النَّهْيِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْأُمَمِ الْبَاقِيَةِ آثَارُهُمْ، أَيْ: قَدْ عَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ شَرِيعَةً، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأُمَمِ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِعَدَمِ مُنَازَعَةِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمُسْتَلْزِمٌ لِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَالنَّهْيُ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَوْ كِنَايَةً عَنْ نهيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى نِزَاعِهِمْ لَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ نَهْيٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُنَازَعَتِهِمْ، أَيْ: لَا تُنَازِعْهُمْ أَنْتَ، كَمَا تَقُولُ: لَا يُخَاصِمْكَ فُلَانٌ، أَيْ: لَا تُخَاصِمْهُ، وَكَمَا تَقُولُ لَا يُضَارِبَنَّكَ فُلَانٌ، أَيْ: لَا تُضَارِبْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي الْعَكْسَ ضِمْنًا، وَلَا يَجُوزُ: لَا يَضْرِبَنَّكَ فُلَانٌ وَأَنْتَ تُرِيدُ لَا تَضْرِبْهُ. وَحُكِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قال في معنى الآية: «فلا ينزعنك» أَيْ: فَلَا يُجَادِلُنَّكَ. قَالَ: وَدَلَّ عَلَى هَذَا وَإِنْ جادَلُوكَ وَقَرَأَ أَبُو مِجْلِزٍ «فَلَا يَنْزِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ» أَيْ: لَا يَسْتَخِفُّنَّكَ وَلَا يَغْلِبُنَّكَ عَلَى دِينِكَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يُنازِعُنَّكَ مِنَ الْمُنَازَعَةِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أَيْ: وَادْعُ هَؤُلَاءِ الْمُنَازِعِينَ، أَوِ ادْعُ النَّاسَ عَلَى الْعُمُومِ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أَيْ: طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَإِنْ جادَلُوكَ أَيْ: وَإِنْ أَبَوْا إِلَّا الْجِدَالَ بعد البيان لهم وَظُهُورِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ: فَكِلْ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقُلْ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْوَعِيدِ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أَيْ: بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَيَتَبَيَّنُ حِينَئِذٍ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعْلِيمٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا بِهِ مَنْ أَرَادَ الْجِدَالَ بِالْبَاطِلِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَجُمْلَةُ أَلَمْ تَعْلَمْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، أَيْ: قَدْ عَلِمْتَ يَا مُحَمَّدُ وتيقنت أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ إِنَّ ذلِكَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ فِي كِتابٍ أَيْ: مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أَيْ: إِنَّ الْحُكْمَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ يَسِيرٌ عَلَيْهِ غَيْرُ عَسِيرٍ، أَوْ إِنَّ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِمَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَسِيرٌ عَلَيْهِ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً هَذَا حِكَايَةٌ لِبَعْضِ فَضَائِحِهِمْ، أَيْ: إِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا لَمْ يَتَمَسَّكُوا فِي عِبَادَتِهَا بِحُجَّةٍ نَيِّرَةٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ مِنْ دَلِيلِ عَقْلٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ يَنْصُرُهُمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَجُمْلَةُ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «يَعْبُدُونَ» ، وَانْتِصَابُ «بَيِّنَاتٍ» عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا وَاضِحَاتٍ ظَاهِرَاتِ الدَّلَالَةِ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أَيِ: الْأَمْرَ الَّذِي يُنْكَرُ، وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعها، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمُنْكَرِ الْإِنْكَارُ، أَيْ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ إِنْكَارَهَا، وَقِيلَ: هُوَ التَّجَبُّرُ وَالتَّرَفُّعُ، وَجُمْلَةُ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا ذَلِكَ المنكر

[سورة الحج (22) : الآيات 73 إلى 78]

الَّذِي يُعْرَفُ فِي وُجُوهِهِمْ؟ فَقِيلَ: يَكَادُونَ يَسْطُونَ، أَيْ: يَبْطِشُونَ، وَالسَّطْوَةُ: شِدَّةُ الْبَطْشِ، يُقَالُ: سَطَا بِهِ يَسْطُو إِذَا بَطَشَ بِهِ بِضَرْبٍ، أَوْ شَتْمٍ، أَوْ أَخْذٍ بِالْيَدِ، وَأَصْلُ السَّطْوِ: الْقَهْرُ. وَهَكَذَا تَرَى أَهْلَ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ إِذَا سَمِعَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَا يَتْلُوهُ الْعَالِمُ عَلَيْهِمْ مِنْ آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، أَوْ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، مُخَالِفًا لِمَا اعْتَقَدَهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَالضَّلَالَةِ رَأَيْتَ فِي وَجْهِهِ مِنَ الْمُنْكَرِ مَا لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يَسْطُوَ بِذَلِكَ الْعَالِمِ لَفَعَلَ بِهِ مَا لَا يَفْعَلُهُ بِالْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ، وَاللَّهُ نَاصِرُ الْحَقِّ، وَمُظْهِرُ الدِّينِ، وَدَاحِضُ الْبَاطِلِ، وَدَامِغُ الْبِدَعِ، وَحَافِظُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِمَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمُ الْمُبَيِّنِينَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ أَيْ: أُخَبَّرُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ الَّذِي فِيكُمْ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى مَنْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ وَمُقَارَبَتُكُمْ لِلْوُثُوبِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ النَّارُ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لَكُمْ، فَالنَّارُ مُرْتَفِعَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ شَرٌّ مِمَّا نُكَابِدُهُ وَنُنَاهِدُهُ عِنْدَ سَمَاعِنَا مَا تَتْلُوهُ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ هُوَ: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ: إِنَّ النَّارَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَفَأُخَبِّرُكُمْ بِشَرٍّ مِمَّا يَلْحَقُ تَالِي الْقُرْآنِ مِنْكُمْ مِنَ الْأَذَى وَالتَّوَعُّدِ لَهُمْ وَالتَّوَثُّبِ عَلَيْهِمْ، وَقُرِئَ «النَّارَ» بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي، وَقُرِئَ بِالْجَرِّ بَدَلًا مِنْ شَرٍّ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَيِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تَصِيرُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ النَّارُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هُمْ ناسِكُوهُ قَالَ: يَعْنِي هُمْ ذَابِحُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ يَعْنِي فِي أَمْرِ الذَّبْحِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ قَوْلُ أَهْلِ الشِّرْكِ: أَمَّا مَا ذَبَحَ اللَّهُ بِيَمِينِهِ فَلَا تَأْكُلُوهُ، وَأَمَّا مَا ذَبَحْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَهُوَ حَلَالٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ لمسيرة مِائَةِ عَامٍ، وَقَالَ لِلْقَلَمِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ: اكْتُبْ، قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: عِلْمِي فِي خَلْقِي إِلَى يَوْمِ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَذَلِكَ قوله للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ إِنَّ ذلِكَ الْعِلْمُ فِي كِتابٍ يَعْنِي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَكْتُوبٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يَعْنِي: هَيِّنٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس يَكادُونَ يَسْطُونَ يبطشون. [سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 78] يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)

قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً قَالَ الْأَخْفَشُ: لَيْسَ ثَمَّ مَثَلٌ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى ضَرَبُوا لِي مَثَلًا فَاسْتَمِعُوا قَوْلَهُمْ، يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ جَعَلُوا لِلَّهِ مَثَلًا بِعِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلُوا لِي شَبَهًا فِي عِبَادَتِي فاستمعوا خبر هذا الشبه. وقال القتبي: إِنَّ الْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَثَلُ مَنْ عَبَدَ آلِهَةً لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَخْلُقَ ذُبَابًا، وَإِنْ سَلَبَهَا شَيْئًا لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَسْتَنْقِذَهُ مِنْهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْمَعْنَى ضَرَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِهِ مَثَلًا. قَالَ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ، أَيْ: بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ شَبَهًا وَلِمَعْبُودِكُمْ. وَأَصْلُ الْمَثَلِ: جُمْلَةٌ مِنَ الْكَلَامِ مُتَلَقَّاةٌ بِالرِّضَا وَالْقَبُولِ، مُسَيَّرَةٌ فِي النَّاسِ، مُسْتَغْرَبَةٌ عِنْدَهُمْ، وَجَعَلُوا مَضْرِبَهَا مَثَلًا لِمَوْرِدِهَا، ثُمَّ قَدْ يَسْتَعِيرُونَهَا لِلْقِصَّةِ أَوِ الْحَالَةِ أَوِ الصِّفَةِ الْمُسْتَغْرَبَةِ لِكَوْنِهَا مُمَاثِلَةً لَهَا فِي الْغَرَابَةِ كَهَذِهِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمُرَادُ بِمَا يَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ: الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ السَّادَةُ الَّذِينَ صَرَفُوهُمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِيهِمْ. وَقِيلَ: الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ حَمَلُوهُمْ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ بِالْمَقَامِ وَأَظْهَرُ فِي التَّمْثِيلِ، وَالذُّبَابُ: اسْمٌ لِلْوَاحِدِ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ أَذِبَّةٌ، وَالْكَثْرَةِ ذِبَّانٌ، مِثْلُ غُرَابٍ وَأَغْرِبَةٍ وَغِرْبَانٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الذُّبَابُ مَعْرُوفٌ الْوَاحِدُ ذُبَابَةٌ. وَالْمَعْنَى: لَنْ يَقْدِرُوا عَلَى خَلْقِهِ مَعَ كَوْنِهِ صَغِيرَ الْجِسْمِ حَقِيرَ الذَّاتِ. وَجُمْلَةُ وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى شَرْطِيَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ: لَوْ لَمْ يَجْتَمِعُوا لَهُ لَنْ يَخْلُقُوهُ وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَنْ يَخْلُقُوهُ وَهُمَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَنْ يَخْلُقُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَمَالَ عَجْزِهِمْ وَضَعْفَ قُدْرَتِهِمْ، فَقَالَ: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ أَيْ. إِذَا أَخَذَ مِنْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَخْلِيصِهِ مِنْهُ لِكَمَالِ عَجْزِهِمْ وَفَرْطِ ضعفهم، والاستنقاذ والإنقاذ: التخليص، وَإِذَا عَجَزُوا عَنْ خَلْقِ هَذَا الْحَيَوَانِ الضَّعِيفِ، وَعَنِ اسْتِنْقَاذِ مَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ جُرْمًا وَأَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً أَعْجَزُ وَأَضْعَفُ. ثُمَّ عَجِبَ سُبْحَانَهُ مِنْ ضَعْفِ الْأَصْنَامِ وَالذُّبَابِ، فَقَالَ: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فَالصَّنَمُ كَالطَّالِبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَطْلُبُ خَلْقَ الذُّبَابِ أَوْ يَطْلُبُ اسْتِنْقَاذَ مَا سَلَبَهُ مِنْهُ، وَالْمَطْلُوبُ الذُّبَابُ. وَقِيلَ: الطَّالِبُ عَابِدُ الصَّنَمِ، وَالْمَطْلُوبُ الصَّنَمُ. وَقِيلَ: الطَّالِبُ الذُّبَابُ وَالْمَطْلُوبُ الْآلِهَةُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً عَاجِزَةً إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ فِي الْعَجْزِ مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، فَقَالَ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أَيْ: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، وَلَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، حَيْثُ جَعَلُوا هَذِهِ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لَهُ مَعَ كَوْنِ حَالِهَا هَذَا الْحَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَلَى خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ عَزِيزٌ غَالِبٌ لَا يُغَالِبُهُ أَحَدٌ، بِخِلَافِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهَا جَمَادٌ لَا تَعْقِلُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا

تَضُرُّ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. ثُمَّ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي النُّبُوَّاتِ وَالْإِلَهِيَّاتِ فَقَالَ: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا كَجِبْرِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَعِزْرَائِيلَ وَيصطفي أَيْضًا رُسُلًا مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، فَيُرْسِلُ الْمَلَكَ إِلَى النَّبِيِّ، وَالنَّبِيَّ إِلَى النَّاسِ، أَوْ يُرْسِلُ الْمَلَكَ لَقَبْضِ أَرْوَاحِ مَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ لِتَحْصِيلِ مَا ينفعكم، أَوْ لِإِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ بَصِيرٌ بِمَنْ يَخْتَارُهُ مِنْ خَلْقِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أَيْ: مَا قَدَّمُوا مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَا يَتْرُكُونَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ «1» . وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَلَمَّا تَضَمَّنَ مَا ذَكَرَهُ- مِنْ أَنَّ الْأُمُورَ تُرْجَعُ إِلَيْهِ- الزَّجْرَ لِعِبَادِهِ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَالْحَضَّ لهم على طاعاته صرح بالمقصود، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أَيْ: صَلُّوا الصَّلَاةَ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لَكُمْ، وَخَصَّ الصَّلَاةَ لِكَوْنِهَا أَشْرَفَ الْعِبَادَاتِ. ثُمَّ عَمَّمَ فَقَالَ: وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ أَيِ: افْعَلُوا جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهَا وَافْعَلُوا الْخَيْرَ أَيْ: مَا هُوَ خَيْرٌ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الطَّاعَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ هُنَا الْمَنْدُوبَاتُ. ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ: إِذَا فَعَلْتُمْ هَذِهِ كُلَّهَا رَجَوْتُمُ الْفَلَاحَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مَوَاطِنِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ السُّجُودِ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِمَا هُوَ سَنَامُ الدِّينِ وَأَعْظَمُ أَعْمَالِهِ، فَقَالَ: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أَيْ: فِي ذَاتِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ الْغَزْوُ لِلْكُفَّارِ وَمُدَافَعَتُهُمْ إِذَا غَزَوْا بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْجِهَادِ هُنَا امْتِثَالُ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوِ امْتِثَالُ جَمِيعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَمَعْنَى حَقَّ جِهادِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْأَمْرِ بِهَذَا الْجِهَادِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْحَقَّ إِلَى الْجِهَادِ، وَالْأَصْلُ إِضَافَةُ الْجِهَادِ إِلَى الْحَقِّ، أَيْ: جِهَادًا خَالِصًا لِلَّهِ، فَعَكَسَ ذَلِكَ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، وَأَضَافَ الْجِهَادَ إِلَى الضَّمِيرِ اتِّسَاعًا، أَوْ لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَفْعُولًا لَهُ وَمِنْ أَجْلِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِحَقِّ جِهَادِهِ هُوَ أَنْ لَا تَخَافُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ اسْتِفْرَاغُ مَا فِي وُسْعِهِمْ فِي إِحْيَاءِ دِينِ اللَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: إِنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «2» كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «3» مَنْسُوخٌ بِذَلِكَ، وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمَصِيرِ إِلَى النَّسْخِ. ثُمَّ عَظَّمَ سُبْحَانَهُ شَأْنَ الْمُكَلَّفِينَ بِقَوْلِهِ: هُوَ اجْتَباكُمْ أَيِ: اخْتَارَكُمْ لِدِينِهِ، وَفِيهِ تَشْرِيفٌ لَهُمْ عَظِيمٌ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي التَّكْلِيفِ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ قَالَ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أَيْ: مِنْ ضِيقٍ وَشِدَّةٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَرَجِ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ، فَقِيلَ: هُوَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَمِلْكِ الْيَمِينِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ قَصْرُ الصَّلَاةِ، وَالْإِفْطَارُ لِلْمُسَافِرِ، وَالصَّلَاةُ بِالْإِيمَاءِ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِسْقَاطُ الْجِهَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ وَالْأَعْمَى وَالْمَرِيضِ، وَاغْتِفَارُ الْخَطَأِ فِي تَقْدِيمِ الصِّيَامِ وَتَأْخِيرِهِ لِاخْتِلَافِ الْأَهِلَّةِ، وَكَذَا فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا جَعَلَ عَلَيْهِمْ حرجا بتكليف ما يشقّ عليهم، ولكن

_ (1) . يس: 12. [.....] (2) . التغابن: 16. (3) . آل عمران: 102.

كلّفهم بما يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ التَّكَالِيفَ الَّتِي فِيهَا حَرَجٌ، فَلَمْ يَتَعَبَّدْهُمْ بِهَا كَمَا تَعَبَّدَ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الذَّنْبِ مَخْرَجًا بِفَتْحِ بَابِ التَّوْبَةِ وقبول الاستغفار وَالتَّكْفِيرِ فِيمَا شَرَعَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَالْأَرْشَ «1» ، أَوِ الْقِصَاصَ فِي الْجِنَايَاتِ، وَرَدَّ الْمَالِ أَوْ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ فِي الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، فَقَدْ حَطَّ سُبْحَانَهُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ مِنَ التَّكَالِيفِ عَلَى عِبَادِهِ، إِمَّا بِإِسْقَاطِهَا مِنَ الْأَصْلِ وَعَدَمِ التَّكْلِيفِ بِهَا كَمَا كَلَّفَ بِهَا غَيْرَهُمْ، أَوْ بِالتَّخْفِيفِ وَتَجْوِيزِ الْعُدُولِ إِلَى بَدَلٍ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، أَوْ بِمَشْرُوعِيَّةِ التَّخَلُّصِ عَنِ الذَّنْبِ بِالْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ، وَمَا أَنْفَعَ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَجَلَّ مَوْقِعَهَا وَأَعْظَمَ فَائِدَتَهَا، وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «2» وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «3» وَقَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ «4» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ» كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَانْتِصَابُ مِلَّةَ فِي مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَسَّعَ عَلَيْكُمْ دِينَكُمْ تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى اتَّبِعُوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: انْتَصَبَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْكَافِ، أَيْ: كَمِلَّةِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ كَفِعْلِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، فَأَقَامَ الْمِلَّةَ مَقَامَ الْفِعْلِ، وَقِيلَ: عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَقِيلَ: عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ أَبَاهُمْ لِأَنَّهُ أَبُو الْعَرَبِ قَاطِبَةً، وَلِأَنَّ لَهُ عِنْدَ غَيْرِ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ حُرْمَةً عَظِيمَةً كَحُرْمَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ لِكَوْنِهِ أبا لنبيهم صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أَيْ: فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَفِي هَذَا أَيِ: الْقُرْآنِ، وَالضَّمِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. وَالْمَعْنَى هُو: أَيْ إِبْرَاهِيمُ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قبل النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، «وَفِي هَذَا» أَيْ: فِي حُكْمِهِ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا فَهُوَ مُسْلِمٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أَيْ: بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أَنَّ رُسُلَهُمْ قَدْ بَلَّغَتْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَقَرَةِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ الْأَرْكَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَقَالَ: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَتَخْصِيصُ الْخَصْلَتَيْنِ بِالذِّكْرِ لِمَزِيدِ شَرَفِهِمَا وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أَيِ: اجْعَلُوهُ عِصْمَةً لَكُمْ مِمَّا تَحْذَرُونَ، وَالْتَجِئُوا إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ، وَلَا تَطْلُبُوا ذَلِكَ إِلَّا مِنْهُ هُوَ مَوْلاكُمْ أَيْ: نَاصِرُكُمْ وَمُتَوَلِّي أُمُورِكُمْ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ أَيْ: لَا مُمَاثِلَ لَهُ فِي الْوِلَايَةِ لِأُمُورِكُمْ وَالنُّصْرَةِ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ «اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» : تَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ، وَقِيلَ: ثِقُوا بِهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ قَالَ: نَزَلَتْ فِي صَنَمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ قَالَ: الطَّالِبُ آلِهَتُهُمْ، وَالْمَطْلُوبُ الذُّبَابُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ قَالَ: لَا تَسْتَنْقِذُ الْأَصْنَامُ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنَ الذُّبَابِ. وأخرج الحاكم وصحّحه عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «إنّ الله اصطفى موسى

_ (1) . «الأرش» : دية الجراحة. (2) . التغابن: 16. (3) . البقرة: 185. (4) . البقرة: 286.

بِالْكَلَامِ، وَإِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ وصحّحه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ صَفِيُّ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: أَلَسْنَا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ: «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ جِهَادَهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا جَاهَدْتُمْ فِي أَوَّلِهِ» ؟ قُلْتُ: بَلَى، فَمَتَى هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: إِذَا كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ الْأُمَرَاءَ، وَبَنُو الْمُغِيرَةِ الْوُزَرَاءَ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَمْثَالِ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ قَالَ: الضِّيقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَا عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فِي أَنْ نَسْرِقَ أَوْ نزني؟ قال: بلى، قال: فما وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ؟ قَالَ: الْإِصْرُ الَّذِي كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وُضِعَ عَنْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ تَوْسِعَةُ الْإِسْلَامِ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ قَالَ: هَذَا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ إِذَا شَكَّ فِيهِ النَّاسُ، وَفِي الْحَجِّ إِذَا شَكُّوا فِي الْأَضْحَى، وَفِي الْفِطْرِ وَأَشْبَاهِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْحَرَجِ فَقَالَ: ادْعُ لِي رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ؟ قَالَ: الْحَرِجَةُ مِنَ الشَّجَرِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَخْرَجٌ، فَقَالَ ابن عباس: [هذا الحرج] «1» الذي ليس له مخرج. وأخرج سعيد ابن منصور وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْحَرَجِ فَقَالَ: هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ هُذَيْلٍ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ الْحَرِجَةَ فِيكُمْ؟ قَالَ: الشَّيْءُ الضَّيِّقُ، قَالَ: هُوَ ذَاكَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هَذِهِ الآية وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ثُمَّ قَالَ لِي: ادْعُ لِي رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، قَالَ عُمَرُ: مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ؟ قَالَ: الضِّيقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ [قال: دين أَبِيكُمْ] «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: سَمَّاكُمْ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَغَوِيُّ وَالْبَارُودِيُّ وَابْنُ قَانِعٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

_ (1) . من (الدر المنثور 6/ 79) . (2) . المصدر السابق.

قَالَ: «مَنْ دَعَا بِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جثا جَهَنَّمَ «1» ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: نَعَمْ، فَادْعُوا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي سَمَّاكُمْ بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ» .

_ (1) . «من جثا جهنم» : أي من جماعاتها. والجثا: جمع جثوة، وهو الشيء المجموع. وفي بعض الروايات: جثّي، جمع جاث، من جثا على ركبتيه يجثو ويجثي.

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون هي مكية بلا خلاف. قال القرطبي: كلّها مكيّة في قول الجميع، وآياتها مائة وتسع عشرة آية وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ الصُّبْحَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ، أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لَهَا تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ عَدِيٍّ وَالْحَاكِمُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي السُّنَّةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عباس مثله. وقد ورد في فَضَائِلُ الْعَشْرِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) قَوْلُهُ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قال الفرّاء: قد ها هنا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَأْكِيدًا لِفَلَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَقْرِيبًا لِلْمَاضِي مِنَ الْحَالِ، لِأَنَّ قَدْ تُقَرِّبُ الْمَاضِيَ مِنَ الْحَالِ حَتَّى تُلْحِقَهُ بِحُكْمِهِ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَبْلَ حَالِ قِيَامِهَا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ وأن الْفَلَاحَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَالْفَلَاحُ: الظَّفَرُ بِالْمُرَادِ وَالنَّجَاةُ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَقِيلَ: الْبَقَاءُ فِي الْخَيْرِ، وَأَفْلَحَ إِذَا دَخَلَ فِي الْفَلَاحِ، وَيُقَالُ: أَفْلَحَهُ: إِذَا أَصَارَهُ إِلَى الْفَلَاحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْفَلَاحِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ قَدْ أَفْلَحَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ «أَفْلَحُوا الْمُؤْمِنُونَ» عَلَى الْإِبْهَامِ وَالتَّفْسِيرِ، أَوْ عَلَى لُغَةِ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ. ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْخُشُوعُ: مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ كَالْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ كَالسُّكُونِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ وَالْعَبَثِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: السُّكُونُ وَالتَّوَاضُعُ وَالْخَوْفُ وَالتَّذَلُّلُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْخُشُوعِ هَلْ هُوَ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ أَوْ مِنْ فَضَائِلِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ: الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَقِيلَ: الثَّانِي. وَادَّعَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ إِلَّا مَا عَقَلَ مِنْ صَلَاتِهِ، حَكَاهُ

النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ «1» وَالتَّدَبُّرُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَعْنَى، وكذا قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «2» وَالْغَفْلَةُ تُضَادُّ الذِّكْرَ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ «3» وقوله: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «4» نَهْيٌ لِلسَّكْرَانِ، وَالْمُسْتَغْرِقُ فِي هُمُومِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَتِهِ. وَاللَّغْوُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ كُلُّ بَاطِلٍ وَلَهْوٍ وهَزْلٍ وَمَعْصِيَةٍ وَمَا لَا يَجْمُلُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ اللَّغْوَ هُنَا الشِّرْكُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ الْمَعَاصِي كُلُّهَا. وَمَعْنَى إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ: تَجَنُّبُهُمْ لَهُ وَعَدَمُ الْتِفَاتِهِمْ إِلَيْهِ، وَظَاهِرُهُ اتِّصَافُهُمْ بِصِفَةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، فَيَدْخُلُ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا كَمَا تُفِيدُهُ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ، وَبِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الضَّمِيرِ، وَمَعْنَى فِعْلِهِمْ لِلزَّكَاةِ تَأْدِيَتُهُمْ لَهَا، فَعَبَّرَ عَنِ التَّأْدِيَةِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهَا مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ هُنَا الْمَصْدَرُ لِأَنَّهُ الصَّادِرُ عَنِ الْفَاعِلِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَيْنُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: وَالَّذِينَ هُمْ لِتَأْدِيَةِ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ- وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الْفَرْجُ: يُطْلَقُ عَلَى فَرْجِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَمَعْنَى حِفْظِهِمْ لَهَا أَنَّهُمْ مُمْسِكُونَ لَهَا بِالْعَفَافِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ هُنَا الرِّجَالُ خَاصَّةً دُونَ النِّسَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ يَطَأَهَا مَنْ تَمْلِكُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ عَلَى فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ بِمَعْنَى مِنْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُلَامُونَ فِي إِطْلَاقِ مَا حُظِرَ عَلَيْهِمْ فَأُمِرُوا بِحِفْظِهِ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، وَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ ذِكْرُ اللَّوْمِ فِي آخِرِ الْآيَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ نَفْيِ الْإِرْسَالِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْحِفْظِ، أَيْ: لَا يُرْسِلُونَهَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِلَّا وَالِينَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَقَوَّامِينَ عَلَيْهِمْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: كَانَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانَةٍ فَمَاتَ عَنْهَا فَخَلَفَ عَلَيْهَا فُلَانٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ تَزَوُّجِهِمْ أَوْ تَسَرِّيهِمْ، وَجُمْلَةُ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْإِمَاءُ وَعَبَّرَ عَنْهُنَّ بِمَا الَّتِي لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فيهنّ الأنوثة المنبئة عَنْ قُصُورِ الْعَقْلِ وَجَوَازُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِنَّ كَسَائِرِ السِّلَعِ، فَأَجْرَاهُنَّ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مُجْرَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَجُمْلَةُ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حِفْظُ فُرُوجِهِمْ مِنْهُ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ وَمَعْنَى «الْعَادُونَ» : الْمُجَاوِزُونَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ، فَسَمَّى سُبْحَانَهُ مَنْ نَكَحَ مَا لَا يَحِلُّ عَادِيًا، وَوَرَاءَ هُنَا بِمَعْنَى سِوَى وَهُوَ مَفْعُولُ ابْتَغَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ فَمَنِ ابْتَغَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَمَفْعُولُ الِابْتِغَاءِ مَحْذُوفٌ، وَوَرَاءَ ظَرْفٌ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءِ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَرَاءِ «5» لِمَا ذُكِرَ، وَقَدْ جَمَعْنَا فِي ذَلِكَ رِسَالَةً سَمَّيْنَاهَا «بُلُوغَ المنى في حكم الاستمناء» ، وَذَكَرْنَا فِيهَا أَدِلَّةَ الْمَنْعِ وَالْجَوَازِ وَتَرْجِيحَ الرَّاجِحِ مِنْهُمَا وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ لِأَماناتِهِمْ بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْإِفْرَادِ. وَالْأَمَانَةُ مَا يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ، وَالْعَهْدُ مَا يُعَاهِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْ جِهَةِ

_ (1) . النساء: 82. (2) . طه: 14. (3) . الأعراف: 205. (4) . النساء: 43. (5) . المقصود: الإشارة إلى قوله تعالى: فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ. [.....]

عِبَادِهِ، وَقَدْ جَمَعَ الْعَهْدُ وَالْأَمَانَةُ كُلَّ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالْأَمَانَةُ أَعَمُّ مِنَ الْعَهْدِ، فَكُلُّ عَهْدٍ أَمَانَةٌ، وَمَعْنَى «رَاعُونَ» : حَافِظُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ صَلَواتِهِمْ بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «صَلَاتِهِمْ» بِالْإِفْرَادِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْإِفْرَادِ فَقَدْ أَرَادَ اسْمَ الْجِنْسِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَاةِ: إِقَامَتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَإِتْمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَالْمَشْرُوعِ مِنْ أَذْكَارِهَا. ثُمَّ مَدَحَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ أَيِ: الْأَحِقَّاءُ بِأَنْ يُسَمَّوْا بِهَذَا الِاسْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ الْمَوْرُوثَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ وَهُوَ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، كَمَا صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَهُوَ الْوَارِثُ الَّذِي يَرِثُ مِنَ الْجَنَّةِ ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الْفِرْدَوْسَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مِنَ الْكُفَّارِ مَنَازِلَهُمْ حَيْثُ فَرَّقُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ. وَلَفْظُ الْفِرْدَوْسِ لُغَةٌ رُومِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ، وَقِيلَ: فَارِسِيَّةٌ، وَقِيلَ: حَبَشِيَّةٌ، وَقِيلَ: هِيَ عَرَبِيَّةٌ، وَجُمْلَةُ هُمْ فِيها خالِدُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا، وَمَعْنَى الْخُلُودِ أَنَّهُمْ يَدُومُونَ فِيهَا لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا، وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ مَعَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْفِرْدَوْسِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْجَنَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْعُقَيْلِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «كَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمًا فَمَكَثْنَا سَاعَةً، فَسُرِّيَ عَنْهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى خَتَمَ الْعَشْرَ» وَفِي إِسْنَادِهِ يُونُسُ بْنُ سُلَيْمٍ الْأَيْلِيُّ. قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا نَعْرِفُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ إِلَّا يُونُسَ بْنَ سُلَيْمٍ، وَيُونُسُ لَا نَعْرِفُهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ قَالَ: قُلْنَا لِعَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَتْ: تقرأ سورة المؤمنون؟ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فقرأ حَتَّى بَلَغَ الْعَشْرَ، فَقَالَتْ: هَكَذَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَتِ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَزَادَ: فَأَمَرَهُ بِالْخُشُوعِ فَرَمَى بِبَصَرِهِ نَحْوَ مَسْجِدِهِ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ أَيْضًا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ نَظَرَ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَمِينًا وَشِمَالًا، فَنَزَلَتِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فَحَنَى رَأْسَهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ مُرْسَلًا هَكَذَا. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَتِ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حاتم عن

ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفعون رؤوسهم وَأَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ- الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فَمَالُوا بِرُءُوسِهِمْ، فَلَمْ يَرْفَعُوا أَبْصَارَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا يَمِينًا وَشِمَالًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قَالَ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ، وَأَنْ تُلِينَ كَتِفَكَ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ، وَأَنْ لَا تَلْتَفِتَ فِي صَلَاتِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قَالَ: خَائِفُونَ سَاكِنُونَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ وَعَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ أَحَادِيثُ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قَالَ: الْبَاطِلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: إِنِّي لَأَرَى تَحْرِيمَهَا فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ تَلَا وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ- إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يُكْثِرُ ذِكْرَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ «1» وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قَالَ: ذَلِكَ عَلَى مَوَاقِيتِهَا، قَالُوا: مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ إِلَّا عَلَى تَرْكِهَا، قَالَ: تَرْكُهَا كُفْرٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ قَالَ: يَرِثُونَ مَسَاكِنَهُمْ وَمَسَاكِنَ إِخْوَانِهِمُ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ: مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَ قِصَّةً، وَفِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا» ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْوِرَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا «2» ، وَقَوْلُهُ: تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «3» . وَيَشْهَدُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» وَفِي لَفْظٍ لَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَيَقُولُ: هَذَا فكاكك من النار» .

_ (1) . المعارج: 23. (2) . مريم: 63. (3) . الأعراف: 43.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 إلى 22]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 22] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) لَمَّا حَثَّ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَوَعَدَهُمُ الْفِرْدَوْسَ عَلَى فِعْلِهَا، عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ لِيَتَمَكَّنَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِ الْمُكَلَّفِينَ فَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إِلَى آخِرِهِ، وَاللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مُبْتَدَأَةٌ، وَقِيلَ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ لِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ فِي ضِمْنِ خَلْقِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ آدَمُ. وَالسُّلَالَةُ فُعَالَةٌ مِنَ السَّلِّ، وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ: سَلَلْتُ الشَّعْرَةَ مِنَ الْعَجِينِ، وَالسَّيْفَ مِنَ الْغِمْدِ فَانْسَلَّ، فَالنُّطْفَةُ سُلَالَةٌ، وَالْوَلَدُ سَلِيلٌ، وَسُلَالَةٌ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الْأَدِيِمِ غَضَنْفَرًا ... سُلَالَةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينِ وَقَوْلُ الْآخَرِ «2» : وَهَلْ هِنْدُ إِلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ ... سليلة أفراس تجلّلها «3» بَغْلُ ومِنْ فِي مِنْ سُلالَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَقْنَا، وَفِي مِنْ طِينٍ بَيَانِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، وَقَعَ صِفَةً لِسُلَالَةٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ طِينٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ جَوْهَرَ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا مِنْ طِينٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ آدَمُ، وَهُوَ مِنْ طِينٍ خَالِصٍ وَأَوْلَادُهُ مَنْ طِينٍ وَمَنِيٍّ. وَقِيلَ: السُّلَالَةُ: الطِّينُ إِذَا عَصَرْتَهُ انْسَلَّ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِكَ، فَالَّذِي يَخْرُجُ هُوَ السُّلَالَةُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ ثُمَّ جَعَلْناهُ أَيِ الْجِنْسَ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهِ الَّذِينَ هُمْ بَنُو آدَمَ، أَوْ جَعَلْنَا نَسْلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ إِنْ أُرِيدَ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ نُطْفَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النُّطْفَةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ الْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَرَارِ الْمَكِينِ: الرَّحِمُ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْقَرَارِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ مُبَالِغَةً، وَمَعْنَى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أَيْ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَالَ النُّطْفَةَ الْبَيْضَاءَ عَلَقَةً حَمْرَاءَ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أَيْ: قِطْعَةَ لَحْمٍ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أَيْ: جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَصَلِّبَةً لِتَكُونَ عَمُودًا لِلْبَدَنِ عَلَى أَشْكَالٍ

_ (1) . هو حسان بن ثابت. (2) . القائل: هند بنت النعمان. (3) . «تجلّلها» : علاها. ويروى: تحلّلها.

مَخْصُوصَةٍ فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً أَيْ: أَنْبَتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ عَظْمٍ لَحْمًا عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ وَيُنَاسِبُهُ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أَيْ: نَفَخْنَا فِيهِ الرُّوحَ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمَادًا، وَقِيلَ: أَخْرَجْنَاهُ إِلَى الدُّنْيَا، وَقِيلَ: هُوَ نَبَاتُ الشَّعْرِ، وَقِيلَ: خُرُوجُ الْأَسْنَانِ، وَقِيلَ: تَكْمِيلُ الْقُوَى الْمَخْلُوقَةِ فِيهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْجَمِيعِ، وَالْمَجِيءُ بِثُمَّ لِكَمَالِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أَيِ: اسْتَحَقَّ التَّعْظِيمَ وَالثَّنَاءَ. وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَرَكَةِ، أَيْ: كَثُرَ خَيْرُهُ وَبَرَكَتُهُ. وَالْخَلْقُ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: خَلَقْتُ الْأَدِيمَ إِذَا قِسْتَهُ لِتَقْطَعَ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَعْنَى أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ: أَتْقَنُ الصَّانِعِينَ الْمُقَدِّرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ... ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْأُمُورِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَيْ: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ تِلْكَ الْأُمُورِ لَمَيِّتُونَ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ إِلَى الْمَحْشَرِ لِلْحِسَابِ وَالْعِقَابِ. وَاللَّامُ فِي وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مُبْتَدَأَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَيَانِ خَلْقِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ بَيَانِ خَلْقِهِمْ، وَالطَّرَائِقُ: هِيَ السَّمَاوَاتُ. قَالَ الْخَلِيلِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: سمّيت طَرَائِقَ لِأَنَّهُ طُورِقَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كَمُطَارَقَةِ النَّعْلِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: طَارَقْتُ الشَّيْءَ جَعَلْتُ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ فَوْقَ شَيْءٍ طَرِيقَةً. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا طَرَائِقُ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا طَرَائِقُ الْكَوَاكِبِ. وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ الْمُرَادُ بِالْخَلْقِ هُنَا الْمَخْلُوقُ، أَيْ: وَمَا كُنَّا عَنْ هَذِهِ السَّبْعِ الطَّرَائِقِ وَحِفْظِهَا عَنْ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ بِغَافِلِينَ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ بِغَافِلِينَ، بَلْ حَفِظْنَا السَّمَاوَاتِ عَنْ أَنْ تَسْقُطَ، وَحَفِظْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ أَنْ تَسْقُطَ السَّمَاءُ عَلَيْهِمْ فَتُهْلِكَهُمْ أَوْ تَمِيدَ بِهِمُ الْأَرْضُ، أَوْ يَهْلِكُونَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُسْتَأْصِلَةِ لَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ الْغَفْلَةِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِمْ وَمَا يَعِيشُونَ بِهِ، وَنَفْيُ الْغَفْلَةِ عَنْ حِفْظِهِمْ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَاءُ الْمَطَرِ، فَإِنَّ بِهِ حَيَاةَ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَاءُ الْأَنْهَارِ النَّازِلَةُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْعُيُونِ، وَالْآبَارُ الْمُسْتَخْرَجَةُ مِنَ الْأَرْضِ، فَإِنَّ أَصْلَهَا مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: أَرَادَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَنْهَارَ الْأَرْبَعَةَ: سَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ الْعَذْبُ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ أَيْضًا فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَاءٌ إِلَّا وَهُوَ مِنَ السَّمَاءِ. وَمَعْنَى بِقَدَرٍ بِتَقْدِيرٍ مِنَّا أَوْ بِمِقْدَارٍ يَكُونُ بِهِ صَلَاحُ الزرع وَالثِّمَارِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَثُرَ لَكَانَ بِهِ هَلَاكُ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وَمَعْنَى فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ جَعَلْنَاهُ مُسْتَقِرًّا فِيهَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَقْتَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، كَالْمَاءِ الَّذِي يَبْقَى فِي الْمُسْتَنْقَعَاتِ وَالْغُدْرَانِ وَنَحْوِهَا وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أَيْ: كَمَا قَدَرْنَا عَلَى إِنْزَالِهِ فَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَذْهَبَ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلِهَذَا التَّنْكِيرِ حُسْنُ مُوقِعٍ لَا يَخْفَى، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى إِذْهَابِهِ وَتَغْوِيرِهِ حَتَّى يَهْلِكَ النَّاسُ بِالْعَطَشِ وَتَهْلِكَ مَوَاشِيهُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ «2» . ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَتَسَبَّبُ عَنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ

_ (1) . هو زهير بن أبي سلمى. (2) . الملك: 30.

فَقَالَ: فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أَيْ: أَوْجَدْنَا بِذَلِكَ الْمَاءِ جَنَّاتٍ مِنَ النَّوْعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَكُمْ فِيها أَيْ: فِي هَذِهِ الجنّات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكّهون بها وتتطعمون مِنْهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمِنْ هَذِهِ الْجَنَّاتِ وُجُوهُ أَرْزَاقِكُمْ وَمَعَاشِكُمْ، كَقَوْلِهِ: فُلَانٌ يَأْكُلُ مِنْ حِرْفَةِ كَذَا، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَاقْتَصَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ لِأَنَّهَا الْمَوْجُودَةُ بِالطَّائِفِ وَالْمَدِينَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ. كَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْأَشْجَارِ ثَمَرَةً، وَأَطْيَبُهَا مَنْفَعَةً وَطَعْمًا وَلَذَّةً. قِيلَ: الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: لَكُمْ فِيها فَواكِهُ أَنَّ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْجَنَّاتِ فَوَاكِهَ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ وَالنَّخِيلِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَكُمْ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ خَاصَّةً فَوَاكِهُ لِأَنَّ فِيهِمَا أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً مُتَفَاوِتَةً فِي الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْفِقْهِ فِي لَفْظِ الْفَاكِهَةِ عَلَى مَاذَا يُطْلَقُ؟ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ إِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الثَّمَرَاتِ الَّتِي يَأْكُلُهَا النَّاسُ، وَلَيْسَتْ بِقُوتٍ لَهُمْ وَلَا طَعَامٍ وَلَا إِدَامٍ. وَاخْتُلِفَ فِي البقول هل تدخل فِي الْبُقُولِ هَلْ تَدْخُلُ فِي الْفَاكِهَةِ أَمْ لَا؟ وَانْتِصَابُ شَجَرَةً عَلَى الْعَطْفِ عَلَى جَنَّاتٍ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الرَّفْعَ عَلَى تَقْدِيرِ: وَثَمَّ شَجَرَةٌ فَتَكُونُ مُرْتَفِعَةً عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ قَبْلَهَا، وَهُوَ الظَّرْفُ الْمَذْكُورُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمُفَسِّرُونَ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَاهَدُهَا أَحَدٌ بِالسَّقْيِ، وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ الدُّهْنُ مِنْهَا، فَذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ امْتِنَانًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ بِهَا، وَلِأَنَّهَا أَكْرَمُ الشَّجَرِ، وَأَعَمُّهَا نَفْعًا، وَأَكْثَرُهَا بَرَكَةً، ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ بِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وَهُوَ جَبَلٌ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالطُّورُ: الْجَبَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقِيلَ: هُوَ ممّا عرّب من كلام العجم. واختلف في معنى سيناء فقيل: هو الحسن، وَقِيلَ: هُوَ الْمُبَارَكُ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْجَبَلِ كَمَا تَقُولُ: جَبَلُ أُحُدٍ. وَقِيلَ: سَيْنَاءُ حَجَرٌ بِعَيْنِهِ أُضِيفَ الْجَبَلُ إِلَيْهِ لِوُجُودِهِ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ جَبَلٍ يَحْمِلُ الثِّمَارَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ سَيْناءَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ السِّينِ، وَلَمْ يُصْرَفْ لِأَنَّهُ جُعِلَ اسْمًا لِلْبُقْعَةِ، وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: أَنَّهَا تَنْبُتُ فِي نَفْسِهَا مُتَلَبِّسَةً بِالدُّهْنِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ، فَهِيَ لِلْمُصَاحَبَةِ. قال أبو عليّ الفارسي: التقدير: تنبت جناها ومعه الدهن. وقيل: الباء زائدة. قال أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : هُنَّ الْحَرَائِرُ لَا رَبَّاتُ أَحْمِرَةٍ «2» ... سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ وَقَالَ آخَرُ: ............... .... نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجِ «3»

_ (1) . هو الراعي. (2) . «أحمرة» : جمع حمار. وخصّ الحمير لأنها رذال المال وشرّه. وقال البغدادي في خزانة الأدب: وقد صحّف الدماميني هذه الكلمة بالخاء المعجمة. (3) . وصدره: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّ نَبَتَ وَأَنْبَتَ بِمَعْنًى، وَالْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُ أَنْبَتَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُ زُهَيْرٍ: رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا بها حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ أَيْ: نَبَتَ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ «تُنْبَتُ» بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ جِنِّيٍّ: أَيْ تَنْبُتُ وَمَعَهَا الدُّهْنُ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «تَخْرُجُ» بِالدُّهْنِ، وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ «تُنْبِتُ الدُّهْنَ» بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْأَشْهَبُ «بِالدِّهَانِ» . وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الدُّهْنِ، أَيْ: تَنْبُتُ بِالشَّيْءِ الْجَامِعِ بَيْنَ كَوْنِهِ دُهْنًا يدهن به. وكونه صبغا يؤتدم به. قرأ الْجُمْهُورُ صِبْغٍ وَقَرَأَ قَوْمٌ «صِبَاغٍ» مِثْلُ لِبْسٍ وَلِبَاسٍ، وَكُلُّ إِدَامٍ يُؤْتَدَمُ بِهِ فَهُوَ صِبْغٌ وَصِبَاغٌ، وَأَصْلُ الصِّبْغِ مَا يُلَوَّنُ بِهِ الثَّوْبُ، وَشُبِّهَ الْإِدَامُ بِهِ لِأَنَّ الْخُبْزَ يَكُونُ بِالْإِدَامِ كَالْمَصْبُوغِ بِهِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً هَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَنْعَامِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَلَعَلَّ الْقَصْدَ بِالْأَنْعَامِ هُنَا إِلَى الْإِبِلِ خَاصَّةً لِأَنَّهَا هِيَ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا فِي الْعَادَةِ، وَلِأَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْفُلْكِ وَهِيَ سَفَائِنُ الْبَرِّ، كَمَا أَنَّ الْفُلْكَ سَفَائِنُ الْبَحْرِ. وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهَا عِبْرَةٌ لِأَنَّهَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِخَلْقِهَا وَأَفْعَالِهَا عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ فَصَّلَ سُبْحَانَهُ مَا فِي هَذِهِ الْأَنْعَامِ مِنَ النِّعَمِ بَعْدَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعِبْرَةِ فِيهَا لِلْعِبَادِ، فَقَالَ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها يَعْنِي سُبْحَانَهُ: اللَّبَنَ الْمُتَكَوِّنَ فِي بُطُونِهَا الْمُنْصَبَّ إِلَى ضُرُوعِهَا، فَإِنَّ فِي انْعِقَادِ مَا تَأْكُلُهُ مِنَ الْعَلَفِ وَاسْتِحَالَتِهِ إِلَى هَذَا الْغِذَاءِ اللَّذِيذِ، وَالْمَشْرُوبِ النَّفِيسِ أَعْظَمَ عِبْرَةٍ لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَأَكْبَرَ مَوْعِظَةٍ لِلْمُتَّعِظِينَ. قُرِئَ نُسْقِيكُمْ بِالنُّونِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَقُرِئَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الْأَنْعَامُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ إِجْمَالًا فَقَالَ: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ يَعْنِي فِي ظُهُورِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَوْلَادِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْفَعَةً خَاصَّةً فَقَالَ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ لِمَا فِي الْأَكْلِ مِنْ عظيم الانتفاع لهم، وكذلك ذَكَرَ الرُّكُوبَ عَلَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ العظيمة فقال: عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أَيْ: وَعَلَى الْأَنْعَامِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَنْعَامِ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَالْمُرَادُ: وَعَلَى بعض الأنعام، وهي الْإِبِلُ خَاصَّةً، فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ. ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الْأَنْعَامُ هِيَ غَالِبَ مَا يَكُونُ الرُّكُوبُ عَلَيْهِ فِي الْبَرِّ ضَمَّ إِلَيْهَا مَا يَكُونُ الرُّكُوبُ عليه في البحر، فقال: عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ تَتْمِيمًا لِلنِّعْمَةِ وَتَكْمِيلًا لِلْمِنَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السُّلَالَةُ: صَفْوُ الْمَاءِ الرَّقِيقِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ طَارَتْ فِي شَعْرٍ وَظُفْرٍ فَتَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَنْحَدِرُ فِي الرَّحِمِ فَتَكُونُ عَلَقَةً. وَلِلتَّابِعِينَ فِي تَفْسِيرِ السُّلَالَةِ أَقْوَالٌ قَدْ قَدَّمَنَا الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قَالَ: الشَّعْرُ وَالْأَسْنَانُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قَالَ: نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَكَذَا قَالَ: مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ والشعبي والحسن وأبو العالية والربيع بن أنس والسدّي والضحّاك وَابْنِ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قَالَ: حِينَ اسْتَوَى بِهِ الشَّبَابُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 إلى 41]

الآية على النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قَالَ عُمَرُ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا خُتِمَتْ بِالَّذِي تَكَلَّمْتَ بِهِ يَا عُمَرُ» . وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي أَرْبَعٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ صَلَّيْنَا خَلْفَ الْمَقَامِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى «1» وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ عَلَى نِسَائِكَ حِجَابًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ والفاجر، فأنزل الله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «2» وَقُلْتُ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيُبْدِلْنَهُ اللَّهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ، فَنَزَلَتْ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ «3» الْآيَةَ، وَنَزَلَتْ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَقُلْتُ أَنَا: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الأوسط، وابن مردويه عن زيد ابن ثَابِتٍ قَالَ: أَمْلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إِلَى قَوْلِهِ: خَلْقاً آخَرَ فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فَضَحِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِهَا خُتِمَتْ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ وَفِي إِسْنَادِهِ: جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِي خَبَرِهِ هذا نكارة شديدة، ذلك أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِنَّمَا كَتَبَ الْوَحْيَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ إِسْلَامُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ: سَيْحُونُ وَهُوَ نَهْرُ الْهِنْدِ، وَجَيْحُونُ وَهُوَ نَهْرُ بَلْخٍ، وَدِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ وَهُمَا نَهْرَا الْعِرَاقِ، وَالنِّيلُ وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ، أَنْزَلَهَا مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ الْجَنَّةِ، مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا عَلَى جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، فَاسْتَوْدَعَهَا الْجِبَالَ، وَأَجْرَاهَا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ فِي أَصْنَافِ مَعَايِشِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ، فَرَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ، وَالْحَجَرَ مِنْ رُكْنِ الْبَيْتِ، وَمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَتَابُوتَ مُوسَى بِمَا فِيهِ، وَهَذِهِ الْأَنْهَارَ الْخَمْسَةَ، فَيَرْفَعُ كُلَّ ذَلِكَ إِلَى السَّمَاءِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فَإِذَا رُفِعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنَ الْأَرْضِ فَقَدَ أَهْلُهَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: طُورُ سَيْنَاءَ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي نُودِيَ مِنْهُ مُوسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ قَالَ: هُوَ الزَّيْتُ يُؤْكَلُ ويدهن به.

_ (1) . البقرة: 125. (2) . الأحزاب: 53. (3) . التحريم: 5. [.....] [سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 41] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)

لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْفُلْكَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ نُوحٍ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَهُ، وَذَكَرَ مَا صَنَعَهُ قَوْمُ نُوحٍ مَعَهُ بِسَبَبِ إِهْمَالِهِمْ لِلتَّفَكُّرِ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالتَّذَكُّرِ لِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وَفِي ذَلِكَ تعزية لرسول الله، وَتَسْلِيَةٌ لَهُ بِبَيَانِ أَنَّ قَوْمَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يَصْنَعُونَ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ مَا يَصْنَعُهُ قَوْمُهُ مَعَهُ، وَاللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أَيِ: اعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كَمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَاتِ الْآخِرَةِ، وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا، وَارْتِفَاعُ «غَيْرِهِ» لِكَوْنِهِ وَصْفًا لِإِلَهٍ عَلَى الْمَحَلِّ، لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ «لَكُمْ» ، أَيْ: مَا لَكُمْ فِي الْوُجُودِ إِلَهٌ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، وَقُرِئَ بِالْجَرِّ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ إِلَهٍ أَفَلا تَتَّقُونَ أَيْ أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْ تَتْرُكُوا عِبَادَةَ رَبِّكُمُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَهٌ سِوَاهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَفَلَا تخافون أن يرفع عنكم ما خوّلكم من النعم ويسلبها عنكم. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَفَلَا تَقُونَ أَنْفُسَكُمْ عَذَابَهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ ذُنُوبُكُمْ؟ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أَيْ: قَالَ أَشْرَافُ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَيْ: مِنْ جِنْسِكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أَيْ: يَطْلَبُ الْفَضْلَ عَلَيْكُمْ بِأَنْ يَسُودَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا تَابِعِينَ لَهُ مُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ، ثُمَّ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْبَشَرَ لَا يَكُونُ رَسُولًا، فَقَالُوا: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أَيْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ إِرْسَالَ رَسُولٍ لَأَرْسَلَ مَلَائِكَةً، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْإِنْزَالِ عَنِ الْإِرْسَالِ لِأَنَّ إِرْسَالَهُمْ إِلَى الْعِبَادِ يَسْتَلْزِمُ نُزُولَهُمْ إِلَيْهِمْ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أَيْ: بِمِثْلِ دَعْوَى هَذَا الْمُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ مِنَ الْبَشَرِ، أَوْ بِمِثْلِ كَلَامِهِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، أَوْ مَا سَمِعْنَا بِبَشَرٍ يَدَّعِي هَذِهِ الدَّعْوَى فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ، أَيْ: فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ هَذَا. وَقِيلَ: الْبَاءُ فِي «بِهَذَا» زَائِدَةٌ، أَيْ: مَا سَمِعْنَا هَذَا كَائِنًا فِي الْمَاضِينَ، قَالُوا هَذَا اعْتِمَادًا مِنْهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ وَاعْتِصَامًا بِحَبْلِهِ، وَلَمْ يَقْنَعُوا بِذَلِكَ حَتَّى ضَمُّوا إِلَيْهِ الْكَذِبَ الْبَحْتَ، وَالْبَهْتَ الصُّرَاحَ، فَقَالُوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أَيْ: جُنُونٌ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أَيِ: انْتَظِرُوا بِهِ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ، بِأَنْ يَفِيقَ مِنْ جُنُونِهِ فَيَتْرُكَ هَذِهِ الدَّعْوَى، أَوْ حَتَّى يَمُوتَ فَتَسْتَرِيحُوا مِنْهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَيْسَ يُرِيدُ بِالْحِينِ هُنَا وَقْتًا بِعَيْنِهِ، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِمْ:

دَعْهُ إِلَى يَوْمٍ مَا، فَلَمَّا سَمِعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَلَامَهُمْ وَعَرِفَ تَمَادِيَهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَإِصْرَارَهُمْ عَلَيْهِ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَيْهِمْ فَانْتَقِمْ مِنْهُمْ بِمَا تَشَاءُ وَكَيْفَ تُرِيدُ، وَالْبَاءُ فِي بِما كَذَّبُونِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ، أَيْ: أَرْسَلْنَا إِلَيْهِ رسولا من السماء أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ و «أن» هِيَ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ بِأَعْيُنِنا أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِحِفْظِنَا وَكَلَاءَتِنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي هُودٍ. وَمَعْنَى وَوَحْيِنا أَمْرِنَا لَكَ وَتَعْلِيمِنَا إِيَّاكَ لِكَيْفِيَّةِ صُنْعِهَا، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ صُنْعِ الْفُلْكِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْعَذَابُ وَفارَ التَّنُّورُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ عَطْفَ النَّسَقِ، وَقِيلَ: عَطْفَ الْبَيَانِ، أَيْ: إِنَّ مَجِيءَ الْأَمْرِ هُوَ فَوْرُ التَّنُّورِ، أَيْ: تَنُّورِ آدَمَ الصَّائِرُ إِلَى نُوحٍ، أَيْ: إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أَيِ: ادْخُلْ فِيهَا، يُقَالُ: سلكه في كذا أدخله، وأسلكته: أدخلته. وقرأ حَفْصٌ مِنْ كُلٍّ بِالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مِنْ كُلِّ أُمَّةِ زَوْجَيْنِ، وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ، وَهُمَا أُمَّةُ الذكر والأنثى اثنين، وانتصاب أَهْلَكَ بِفِعْلٍ مَعْطُوفٍ عَلَى «فَاسْلُكْ» ، لَا بِالْعَطْفِ عَلَى زَوْجَيْنِ، أَوْ عَلَى اثْنَيْنِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَدَائِهِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَى، أَيْ: وَاسْلُكْ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أَيِ: الْقَوْلِ بِإِهْلَاكِهِمْ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِإِنْجَائِهِمْ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُخَاطَبَةِ، أَيْ: إِنَّهُمْ مَقْضِيٌّ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْرَاقِ لِظُلْمِهِمْ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الدُّعَاءَ لَهُ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَيْ: عَلَوْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ مِنْ أَهْلِكَ وَأَتْبَاعِكَ عَلَى الْفُلْكِ رَاكِبِينَ عَلَيْهِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ: حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَخَلَّصَنَا مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ هود على التمام والكمال، وإنما جعل سبحانه اسْتِوَاءَهُمْ عَلَى السَّفِينَةِ نَجَاةً مِنَ الْغَرَقِ جَزْمًا، لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ مِنَ الظَّلَمَةِ، وَسَلَامَتِهِمْ مِنْ أَنْ يُصَابُوا بِمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَأَتَمُّ فَائِدَةً فَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً أَيْ: أَنْزِلْنِي فِي السَّفِينَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «مُنْزَلًا» بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَالْمُفَضَّلُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: أَنْزِلْنِي إِنْزَالًا مُبَارَكًا، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: أَنْزِلْنِي مَكَانًا مُبَارَكًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْمَنْزَلُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالزَّايِ: النُّزُولُ، وَهُوَ الْحُلُولُ، تَقُولُ: نَزَلْتُ نُزُولًا وَمَنْزَلًا، قَالَ الشَّاعِرُ: أَإِنْ ذَكَّرَتْكَ الدَّارُ مَنْزِلَهَا جُمْلُ ... بِكَيْتَ فَدَمْعُ الْعَيْنِ مُنْحَدِرٌ سَجْلُ بِنَصْبِ مَنْزِلِهَا لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. قِيلَ: أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ دُخُولِهِ السَّفِينَةَ، وَقِيلَ: عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا، وَالْآيَةُ تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ إِذَا رَكِبُوا ثُمَّ نَزَلُوا أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ. وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ هَذَا ثَنَاءٌ مِنْهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِثْرَ دُعَائِهِ لَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إنّه أمر أن يقول عند استوائه

_ (1) . الأنعام: 45.

عَلَى الْفُلْكِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَعِنْدَ نُزُولِهِ مِنْهَا: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْآيَاتُ: الدَّلَالَاتُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، سُبْحَانَهُ، وَالْعَلَامَاتُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى عَظِيمِ شَأْنِهِ. وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ أَيْ: لَمُخْتَبِرِينَ لَهُمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إليهم، ليظهر المطيع والعاصي للناس أو للملائكة. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّهُ يُعَامِلُهُمْ سُبْحَانَهُ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لِأَحْوَالِهِمْ، تَارَةً بِالْإِرْسَالِ، وَتَارَةً بِالْعَذَابِ. ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِهِمْ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْشَأَهُمُ اللَّهُ بَعْدَهُمْ هُمْ عَادٌ قَوْمُ هُودٍ، لِمَجِيءِ قِصَّتِهِمْ عَلَى إِثْرِ قِصَّةِ نُوحٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلِقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ «1» وَقِيلَ: هُمْ ثَمُودُ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ. وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ مَدْيَنَ قَوْمُ شُعَيْبٍ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ أُهْلِكَ بِالصَّيْحَةِ فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا عُدِّيَ فِعْلُ الْإِرْسَالِ بِفِي مَعَ أَنَّهُ يَتَعَدَّى بِإِلَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ نَشَأَ فِيهِمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، يَعْرِفُونَ مَكَانَهُ وَمَوْلِدَهُ، لِيَكُونَ سُكُونُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ أَكْثَرَ مِنْ سُكُونِهِمْ إِلَى مَنْ يَأْتِيهِمْ مِنْ غَيْرِ مَكَانِهِمْ. وَقِيلَ: وَجْهُ التَّعْدِيَةِ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ بِفِي أَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْقَوْلِ، أَيْ: قُلْنَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَلِهَذَا جِيءَ بِأَنْ الْمُفَسِّرَةِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ تَضْمِينَ أَرْسَلْنَا مَعْنَى قُلْنَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَعْدِيَتَهُ بِفِي، وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ أَفَلا تَتَّقُونَ عَذَابَهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ شِرْكِكُمْ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أَيْ: أَشْرَافُهُمْ وَقَادَتُهُمْ. ثُمَّ وَصَفَ الْمَلَأَ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ فَقَالَ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أَيْ: كَذَّبُوا بِمَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، أَوْ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ وَأَتْرَفْناهُمْ أَيْ: وَسَّعْنَا لَهُمْ نِعَمَ الدُّنْيَا فَبَطَرُوا بِسَبَبِ مَا صَارُوا فِيهِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَرَفَاهَةِ الْعَيْشِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَيْ: قَالَ الْمَلَأُ لِقَوْمِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ، وَصَفُوهُ بِمُسَاوَاتِهِمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَفِي الْأَكْلِ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَالشُّرْبِ مِمَّا تَشْرَبُونَ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ مَعْنَى وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ عَلَى حَذْفِ مِنْهُ، أَيْ: مِمَّا تَشْرَبُونَ مِنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عَائِدٍ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْصَافِ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أَيْ: مَغْبُونُونَ بِتَرْكِكُمْ آلِهَتَكُمْ وَاتِّبَاعِكُمْ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ فَضِيلَةٍ لَهُ عَلَيْكُمْ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ لِلْإِنْكَارِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ تَقْبِيحِ اتِّبَاعِهِمْ لَهُ. قُرِئَ بِكَسْرِ الْمِيمِ مَنْ «مِتُّمْ» ، مِنْ مَاتَ يَمَاتُ، كَخَافَ يَخَافُ. وَقُرِئَ بِضَمِّهَا مِنْ مَاتَ يَمُوتُ، كَقَالَ يَقُولُ. وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَيْ: كَانَ بَعْضُ أَجْزَائِكُمْ تُرَابًا، وَبَعْضُهَا عِظَامًا نَخِرَةً لَا لحم فيها ولا أعصاب عليها، وقيل: وَتَقْدِيمُ التُّرَابِ لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ فِي عُقُولِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: كَانَ مُتَقَدِّمُوكُمْ تُرَابًا، وَمُتَأَخِّرُوكُمْ عِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ أَيْ: مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً كَمَا كُنْتُمْ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: «أَنَّ» الْأُولَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بوقوع «أيعدكم» عليها، و «أن» الثَّانِيَةَ بَدَلٌ مِنْهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْجَرْمِيُّ وَالْمُبَرِّدُ: إِنَّ «أَنَّ» الثَّانِيَةَ مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَحَسُنَ تَكْرِيرُهَا لِطُولِ الْكَلَامِ، وَبِمِثْلِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: «أن» الثانية

_ (1) . الأعراف: 69.

فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: يَحْدُثُ إِخْرَاجُكُمْ كَمَا تَقُولُ: الْيَوْمَ الْقِتَالُ، فَالْمَعْنَى: الْيَوْمَ يَحْدُثُ الْقِتَالُ هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ أَيْ: بَعْدِ مَا تُوعَدُونَ، أَوْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيُّ: وَفِي هَيْهَاتَ عَشْرُ لُغَاتٍ ثُمَّ سَرَدَهَا، وَهِيَ مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَدْ قُرِئَ بِبَعْضِهَا، وَاللَّامُ فِي «لِمَا تُوعَدُونَ» لِبَيَانِ الْمُسْتَبْعَدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَيْتَ لَكَ «1» ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَاذَا هَذَا الِاسْتِبْعَادُ؟ فَقِيلَ: لِمَا تُوعَدُونَ. وَالْمَعْنَى: بَعْدَ إِخْرَاجِكُمْ لِلْوَعْدِ الَّذِي تُوعَدُونَ، هَذَا عَلَى أَنَّ هَيْهَاتَ اسْمُ فِعْلٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، أَيِ: الْبُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ، أَوْ بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُونَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَوَّنَ فَتَكُونُ عَلَى هَذَا مُبْتَدَأً خَبَرُهُ لِمَا تُوعَدُونَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ إِتْرَافَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أَيْ: مَا الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتَنَا الدُّنْيَا، لَا الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ الَّتِي تَعِدُنَا بِهَا، وَجُمْلَةُ نَمُوتُ وَنَحْيا مُفَسِّرَةٌ لِمَا ادَّعُوهُ مِنْ قَصْرِهِمْ حَيَاتَهُمْ عَلَى حَيَاةِ الدُّنْيَا. ثُمَّ صَرَّحُوا بِنَفْيِ الْبَعْثِ، وَأَنَّ الْوَعْدَ بِهِ مِنْهُ افْتِرَاءٌ على الله فقالوا: ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَيْ: مَا هُوَ فِيمَا يَدَّعِيهِ إِلَّا مُفْتَرٍ لِلْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ أَيْ: بِمُصَدِّقِينَ لَهُ فِيمَا يَقُولُهُ: قالَ رَبِّ انْصُرْنِي أَيْ: قَالَ نَبِيُّهُمْ لَمَّا عَلِمَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَهُ أَلْبَتَّةَ: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَيْهِمْ وَانْتَقِمْ لِي مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ أَيْ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُجِيبًا لِدُعَائِهِ وَاعِدًا لَهُ بِالْقَبُولِ لِمَا دَعَا بِهِ: عَمَّا قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَانِ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنِ التَّكْذِيبِ وَالْعِنَادِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَمَا فِي «عَمَّا قَلِيلٍ» مَزِيدَةٌ بَيْنَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِلتَّوْكِيدِ لِقِلَّةِ الزَّمَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ «2» ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهَا أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وَحَاقَ بِهِمْ عَذَابُهُ وَنَزَلَ عَلَيْهِمْ سَخَطُهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: صَاحَ بِهِمْ جِبْرِيلُ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَعَ الرِّيحِ الَّتِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهَا فَمَاتُوا جَمِيعًا. وَقِيلَ: الصَّيْحَةُ هِيَ نَفْسُ الْعَذَابِ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: صَاحَ الزَّمَانُ بِآلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً ... خَرُّوا لِشِدَّتِهَا عَلَى الْأَذْقَانِ وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخْذِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّا صَارُوا إِلَيْهِ بَعْدَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ، فَقَالَ: فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أَيْ: كَغُثَاءِ السَّيْلِ الَّذِي يَحْمِلُهُ. وَالْغُثَاءُ: مَا يَحْمِلُ السَّيْلُ مِنْ بَالِي الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَاءِ. وَالْمَعْنَى: صَيَّرَهُمْ هَلْكَى فَيَبِسُوا كَمَا يَبِسَ الْغُثَاءُ فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ انْتِصَابُ «بُعْدًا» عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي لَا يُذْكَرُ فِعْلُهَا مَعَهَا، أَيْ: بَعُدُوا بُعْدًا، وَاللَّامُ لِبَيَانِ مَنْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاسْلُكْ فِيها يَقُولُ: اجْعَلْ مَعَكَ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً قَالَ لِنُوحٍ حِينَ أُنْزِلَ مِنَ السَّفِينَةِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُعَلِّمُكُمْ سُبْحَانَهُ كَيْفَ تَقُولُونَ إِذَا رَكِبْتُمْ، وَكَيْفَ تَقُولُونَ إذا نزلتم. أما عند الركوب:

_ (1) . يوسف: 23. (2) . آل عمران: 159.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 إلى 56]

سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ- وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ «1» وَ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «2» ، وَعِنْدَ النُّزُولِ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: قَرْناً قَالَ: أُمَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَيْهاتَ هَيْهاتَ قَالَ: بِعِيدٌ بَعِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً قَالَ: جُعِلُوا كالشيء الميت البالي من الشجر. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 56] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) قوله: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ قِيلَ: هُمْ قَوْمُ صَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ كَمَا وَرَدَتْ قِصَّتُهُمْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي الْأَعْرَافِ وَهُودٍ، وَقِيلَ: هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ، وَلَعَلَّ وَجْهُ الْجَمْعِ هُنَا لِلْقُرُونِ وَالْإِفْرَادِ فِيمَا سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّهُ أَرَادَ هَاهُنَا أُمَمًا مُتَعَدِّدَةً وَهُنَاكَ أُمَّةً وَاحِدَةً. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَمَالَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي شَأْنِ عِبَادِهِ، فَقَالَ: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ أَيْ: مَا تَتَقَدَّمُ كُلُّ طَائِفَةٍ مُجْتَمِعَةٍ فِي قَرْنٍ آجَالَهَا الْمَكْتُوبَةَ لَهَا فِي الْهَلَاكِ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «3» ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ رُسُلَهُ كَانُوا بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ مُتَوَاتِرِينَ، وَأَنَّ شَأْنَ أُمَمِهِمْ كَانَ وَاحِدًا فِي التَّكْذِيبِ لَهُمْ فَقَالَ: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِمَعْنَى أَنَّ إِرْسَالَ كُلِّ رَسُولٍ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْقَرْنِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ، لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ جَمِيعًا مُتَأَخِّرٌ عَنْ إِنْشَاءِ تلك القرون جميعا، ومعنى تَتْرا تَتَوَاتَرُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَيَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مِنَ الْوِتْرِ وَهُوَ الْفَرْدُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَاتَرْتُ كُتُبِي عَلَيْهِ: أَتْبَعْتُ بَعْضَهَا بَعْضًا إِلَّا أَنَّ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَيْنَ الْآخَرِ مُهْلَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُتَوَاتِرَةُ: الْمُتَتَابِعَةُ بِغَيْرِ مُهْلَةٍ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَمْرٍو «تَتْرَى» بِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ «تَتْرَى» بِكَسْرِ التَّاءِ الْأُولَى. لِأَنَّ مَعْنَى ثُمَّ أرسلنا: وواترنا،

_ (1) . الزخرف: 13 و 14. (2) . هود: 41. (3) . الأعراف: 34.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مُتَوَاتِرِينَ كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَجِيءِ كُلِّ رَسُولٍ لِأُمَّتِهِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَجِيءِ التَّبْلِيغُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أَيْ: فِي الْهَلَاكِ بِمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ الْأَحَادِيثُ: جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ، وَهِيَ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، كَالْأَعَاجِيبِ جَمْعُ أُعْجُوبَةٍ، وَهِيَ مَا يَتَعَجَّبُ النَّاسُ مِنْهُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا يُقَالُ «جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ» فِي الشَّرِّ وَلَا يُقَالُ فِي الْخَيْرِ، كَمَا يُقَالُ: صَارَ فُلَانٌ حَدِيثًا، أَيْ: عِبْرَةً، وَكَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ «1» . قُلْتُ: وَهَذِهِ الْكُلِّيَّةُ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ فَقَدْ يُقَالُ: صَارَ فُلَانٌ حَدِيثًا حَسَنًا، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ: وَإِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيثٌ بَعْدَهُ ... فكن حديثا حسنا لمن وعى فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ وَصَفَهُمْ هُنَا بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، وَفِيمَا سَبَقَ قَرِيبًا بِالظُّلْمِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنَ الْوَصْفَيْنِ صَادِرًا عَنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، أَوْ لِكَوْنِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ عَدَمِ التَّصْدِيقِ، وَأُولَئِكَ ضَمُّوا إِلَيْهِ تِلْكَ الْأَقْوَالَ الشَّنِيعَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ أَشَدِّ الظُّلْمِ وَأَفْظَعِهِ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ مَا وَقَعَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ عِنْدَ إِرْسَالِ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا هِيَ التِّسْعُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَا يَصِحُّ عَدُّ فَلْقِ الْبَحْرِ مِنْهَا هُنَا لِأَنَّ الْمُرَادَ الْآيَاتُ الَّتِي كَذَّبُوا بِهَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا. وَالْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ الْبَيِّنَةُ. قِيلَ: هِيَ الْآيَاتُ التِّسْعُ نَفْسُهَا، وَالْعَطْفُ مِنْ بَابِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ............... .... وَقِيلَ: أَرَادَ الْعَصَا لِأَنَّهَا أُمُّ الْآيَاتِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ جِبْرِيلَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالآيات التي كانت لهما، وبالسلطان: الدلائل، والمبين: التِّسْعُ الْآيَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَلَأِ فِي قَوْلِهِ: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ هُمُ الْأَشْرَافُ مِنْهُمْ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَاسْتَكْبَرُوا أَيْ: طَلَبُوا الْكِبْرَ وَتَكَلَّفُوهُ فَلَمْ يَنْقَادُوا لِلْحَقِّ وَكانُوا قَوْماً عالِينَ قَاهِرِينَ لِلنَّاسِ بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، مُسْتَعْلِينَ عَلَيْهِمْ، مُتَطَاوِلِينَ كِبْرًا وِعِنَادًا وَتَمَرُّدًا. وَجُمْلَةُ فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا مَعْطُوفَةٌ على جملة فَاسْتَكْبَرُوا وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: كَيْفَ نُصَدِّقُ مَنْ كَانَ مِثْلَنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَالْبَشَرُ يطلق على الواحد كقوله: بَشَراً سَوِيًّا «2» كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْجَمْعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً «3» فَتَثْنِيَتُهُ هُنَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَأَفْرَدَ الْمَثَلَ لِأَنَّهُ فِي حُكْمٍ الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَى وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ أَنَّهُمْ مُطِيعُونَ لَهُمْ، مُنْقَادُونَ لِمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ كَانْقِيَادِ الْعَبِيدِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْعَابِدُ: الْمُطِيعُ الْخَاضِعُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ دَانَ لِمَلِكٍ عَابِدًا لَهُ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ فَدَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَتِهِ فَأَطَاعُوهُ، وَاللَّامُ فِي لَنا مُتَعَلِّقَةٌ بِعَابِدُونَ، قُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. فَكَذَّبُوهُما أَيْ: فَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمَا فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ بِالْغَرَقِ فِي الْبَحْرِ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ مَا جَرَى عَلَى قَوْمِ مُوسَى بَعْدَ إِهْلَاكِ عَدْوِهِمْ فَقَالَ:

_ (1) . سبأ: 19. (2) . مريم: 17. (3) . مريم: 26.

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يَعْنِي التَّوْرَاةَ، وَخَصَّ مُوسَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ فِي الطُّورِ، وَكَانَ هَارُونُ خَلِيفَتَهُ فِي قَوْمِهِ: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أَيْ: لَعَلَّ قَوْمَ مُوسَى يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ إِيتَاءَ مُوسَى إِيَّاهَا إِيتَاءً لِقَوْمِهِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُنَزَّلَةً عَلَى مُوسَى فَهِيَ لِإِرْشَادِ قَوْمِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ ثَمَّ مُضَافًا مَحْذُوفًا أُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، أَيْ: آتَيْنَا قَوْمَ مُوسَى الْكِتَابَ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «لَعَلَّهُمْ» يَرْجِعُ «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» ، وَهُوَ وَهْمٌ لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يُؤْتَ التَّوْرَاةَ إِلَّا بَعْدَ إِهْلَاكِ فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى «1» ثُمَّ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى قِصَّةِ عِيسَى إِجْمَالًا فَقَالَ: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً أَيْ: عَلَامَةً تَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِنَا، وَبَدِيعِ صُنْعِنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «2» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، أَيْ: جَعَلْنَاهُمَا يَأْوِيَانِ إِلَيْهَا. قِيلَ: هِيَ أَرْضُ دِمَشْقَ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُقَاتِلٌ وَقِيلَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَكَعْبٌ وَقِيلَ: أَرْضُ فِلَسْطِينَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ ذاتِ قَرارٍ أَيْ: ذَاتِ مُسْتَقَرٍّ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ سَاكِنُوهُ وَمَعِينٍ أَيْ: وَمَاءٍ مَعِينٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الْمَاءُ الْجَارِي فِي الْعُيُونِ، فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع، وَقِيلَ: هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. قَالَ عَلِيُّ بن سليمان الأخفش: معن الماء إذا جرى فهو معين ومعيون. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ من الماعون، وهو النفع، وبمثل ما قاله الزجاج قال الفراء. يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ مخاطبة لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَدَلَّ الْجَمْعُ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ كَذَا أُمِرُوا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ خُوطِبَ بِهَا كُلُّ نَبِيٍّ، لِأَنَّ هَذِهِ طَرِيقَتُهُمُ الَّتِي يَنْبَغِي لَهُمُ الْكَوْنُ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَقُلْنَا يا أيها الرسل خطابا بكل وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ لِاخْتِلَافِ أَزْمِنَتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْخُطَّابَ لِعِيسَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ كَفُّوا عَنَّا. وَالطَّيِّبَاتُ: مَا يُسْتَطَابُ وَيُسْتَلَذُّ، وَقِيلَ: هِيَ الْحَلَالُ، وَقِيلَ: هِيَ مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. ثُمَّ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَمَرَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَقَالَ: وَاعْمَلُوا صالِحاً أَيْ: عَمَلًا صَالِحًا وَهُوَ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، ثُمَّ عَلَّلَ هَذَا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْهُ، وَإِنِّي مُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا خُوطِبَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ مِلَّتَكُمْ وَشَرِيعَتَكُمْ أَيُّهَا الرُّسُلُ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَشَرِيعَةً مُتَّحِدَةً يَجْمَعُهَا أَصْلٌ هُوَ أَعْظَمُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَأَنْزَلَ فِيهِ كُتُبَهُ، وَهُوَ دُعَاءُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى عبادة الله وحده لَا شَرِيكَ لَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ دِينُكُمْ وَمِلَّتُكُمْ فَالْزَمُوهُ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمَّةِ هُنَا الدِّينُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «3» ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ

_ (1) . القصص: 43. (2) . الأنبياء: 91. (3) . الزخرف: 22.

قُرِئَ بِكَسْرٍ إِنَّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْمُقَرِّرِ لِمَا تَقَدَّمَهُ، وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا وَتَشْدِيدِهَا. قَالَ الْخَلِيلُ: هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِمَا زَالَ الْخَافِضِ، أَيْ: أَنَا عَالِمٌ بِأَنَّ هَذَا دِينَكُمُ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: «إِنَّ» مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَتَقْدِيرُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ أَمَتُّكُمْ. وقال سيبويه: هي متعلقة ب «فاتقون» وَالتَّقْدِيرُ: فَاتَّقُونِ لِأَنَّ أُمَّتَكُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَالْفَاءُ فِي فَاتَّقُونِ لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِهِ رَبَّكُمُ الْمُخْتَصَّ بِالرُّبُوبِيَّةِ، أَيْ: لَا تَفْعَلُوا مَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ عَلَيْكُمْ مِنِّي بِأَنْ تُشْرِكُوا بِي غَيْرِي، أَوْ تُخَالِفُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ أَوْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا وَقَعَ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، فَقَالَ: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ عِصْيَانِهِمْ عَلَى مَا سبق من الأمر بالتقوى، والضمير يرجع إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْأُمَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَعَلُوا دِينَهُمْ مَعَ اتِّحَادِهِ قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً مُخْتَلِفَةً. قَالَ الْمُبَرِّدُ: زُبُرًا: فِرَقًا وَقِطَعًا مُخْتَلِفَةً، وَاحِدُهَا زَبُورٌ، وَهِيَ الْفِرْقَةُ وَالطَّائِفَةُ، وَمِثْلُهُ الزُّبْرَةُ وَجَمْعُهَا زُبُرٌ، فَوَصَفَ سُبْحَانَهُ الْأُمَمَ بِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا، فَاتَّبَعَتْ فِرْقَةٌ التَّوْرَاةَ، وَفِرْقَةٌ الزَّبُورَ، وَفِرْقَةٌ الْإِنْجِيلَ، ثُمَّ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، وَفِرْقَةٌ مُشْرِكَةٌ تَبِعُوا مَا رَسَمَهُ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ مِنَ الضَّلَالِ. قُرِئَ زُبُراً بِضَمِّ الْبَاءِ جَمْعُ زَبُورٍ، وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا، أَيْ: قِطَعًا كَقِطَعِ الْحَدِيدِ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أَيْ: كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ بِمَا لَدَيْهِمْ، أَيْ: بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الدِّينِ فَرِحُونَ، أَيْ: مُعْجَبُونَ بِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيِ: اتْرُكْهُمْ فِي جَهْلِهِمْ، فَلَيْسُوا بِأَهْلٍ لِلْهِدَايَةِ، وَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، فَلِكُلِّ شَيْءٍ وَقْتٌ. شَبَّهَ سُبْحَانَهُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ بِالْمَاءِ الَّذِي يَغْمُرُ مَنْ دَخَلَ فِيهِ، وَالْغَمْرَةُ فِي الْأَصْلِ مَا يَغْمُرُكَ وَيَعْلُوكَ، وَأَصِلُهُ السِّتْرِ، وَالْغَمْرُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْأَرْضَ، وَغَمْرُ الرِّدَاءِ هُوَ الَّذِي يَشْمَلُ النَّاسَ بِالْعَطَاءِ، وَيُقَالُ لِلْحِقْدِ الْغَمْرِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الْحَيْرَةُ وَالْغَفْلَةُ وَالضَّلَالَةُ، وَالْآيَةُ خَارِجَةٌ مَخْرَجَ التَّهْدِيدِ لَهُمْ، لَا مَخْرَجَ الْأَمْرِ لَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَمَعْنَى حَتَّى حِينٍ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْتُ عَذَابِهِمْ بِالْقَتْلِ، أَوْ حَتَّى يَمُوتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَيُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ أَيْ: أَيَحْسَبُونَ أَنَمَا نُعْطِيهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْبَنِينِ نُسارِعُ بِهِ لَهُمْ فِيمَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَإِكْرَامُهُمْ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَلْ لَا يَشْعُرُونَ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَنْسَحِبُ إِلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ: كَلَّا لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، بَلْ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِشَيْءٍ أَصْلًا كَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْهَمُ وَلَا تَعْقِلُ، فَإِنَّ مَا خَوَّلْنَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِهِ مِنَ الْخَيِّرَاتِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «1» . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى نُسَارِعُ لَهُمْ بِهِ فِي الخيرات، فحذفت به، وما فِي «إِنَّمَا» مَوْصُولَةٌ، وَالرَّابِطُ هُوَ هَذَا الْمَحْذُوفُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ إِنَّمَا هُنَا حَرْفٌ وَاحِدٌ فلا يحتاج إلى تقدير رابط. قيل: يجوز الْوَقْفُ عَلَى «بَنِينَ» ، وَقِيلَ: لَا يَحْسُنُ لِأَنَّ «يَحْسَبُونَ» يَحْتَاجُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَتَمَامُ الْمَفْعُولَيْنِ «فِي الْخَيْرَاتِ» . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ «مَا» كَافَّةٌ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ «يُسَارِعُ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ «نمدّ» ، وهو الإمداد، ويجوز أن يكون

_ (1) . آل عمران: 178. [.....]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 إلى 67]

الْمَعْنَى: يُسَارِعُ اللَّهُ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ نُسارِعُ بِالنُّونِ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ الصَّوَابُ لقوله «نمدّهم» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا قَالَ: يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: بَعْضُهُمْ عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جرير وابن المنذر وابن أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً قَالَ: وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ آيَةً قَالَ: عِبْرَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ قال: الربوة: المستوية، والمعنى: الْمَاءُ الْجَارِي، وَهُوَ النَّهْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ قَالَ: هِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِيهِ النَّبَاتُ ذاتِ قَرارٍ ذَاتَ خِصْبٍ، وَالْمَعِينُ: الْمَاءُ الظَّاهِرُ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وابن أبي حاتم وتمام الرازي وابن عَسَاكِرٍ- قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبْوَةٍ قَالَ: أَنْبَئَنَا أَنَّهَا دِمَشْقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِثْلَهُ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مردويه وابن عساكر عن مرة البهزي، سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الرَّبْوَةُ: الرَّمَلَةُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: هِيَ الرَّمْلَةُ من فلسطين. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وابن السكن وابن مندة وأبو نعيم وابن عساكر عن الأقرع ابن شُفِيٍّ الْعَكِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ «2» ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ حَفْصٍ الْفَزَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ قَالَ: ذَلِكَ عِيسَى بن مَرْيَمَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدَانُ فِي «الصَّحَابَةِ» عَنْ حَفْصٍ مَرْفُوعًا، وَهُوَ مُرْسَلٌ لأن حفصا تابعي.

_ (1) . مريم: 24. (2) . البقرة: 172. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 67] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)

لَمَّا نَفَى سُبْحَانَهُ الْخَيِّرَاتِ الْحَقِيقِيَّةَ عَنِ الْكَفَرَةِ الْمُتَنَعِّمِينَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْخَيِّرَاتِ عَاجِلًا وَآجِلًا فَوَصَفَهُمْ بِصِفَاتٍ أَرْبَعٍ: الْأُولَى قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ الْإِشْفَاقُ: الْخَوْفُ، تَقُولُ أَنَا مُشْفِقٌ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، أَيْ: خَائِفٌ. قِيلَ: الْإِشْفَاقُ هُوَ الْخَشْيَةُ، فَظَاهِرُ مَا فِي الْآيَةِ التَّكْرَارُ. وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الْخَشْيَةِ عَلَى الْعَذَابِ، أَيْ: مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ خَائِفُونَ، وَبِهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ. وَأُجِيبَ أَيْضًا بِحَمْلِ الْإِشْفَاقِ عَلَى مَا هُوَ أَثَرٌ لَهُ، وَهُوَ الدَّوَامُ عَلَى الطَّاعَةِ، أَيْ: الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ دَائِمُونَ عَلَى طَاعَتِهِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ الْإِشْفَاقَ كَمَالُ الْخَوْفِ فَلَا تَكْرَارَ، وَقِيلَ: هُوَ تَكْرَارٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ هِيَ التَّنْزِيلِيَّةُ، وَقِيلَ: هِيَ التَّكْوِينِيَّةُ، وَقِيلَ: مَجْمُوعُهُمَا، قِيلَ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِهَا هو التصديق بوجودها فقط، فإن ذلك معلوم بالضرورة ولا يوجب المدح، بل المراد التَّصْدِيقُ بِكَوْنِهَا دَلَائِلَ وَأَنَّ مَدْلُولَهَا حَقٌّ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ أَيْ: يَتْرُكُونَ الشِّرْكَ تَرْكًا كُلِيًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أَيْ: يَعْطُونَ مَا أَعْطُوا وَقُلُوبُهُمْ خَائِفَةٌ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْإِعْطَاءِ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَجُمْلَةُ وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ قُلُوبَهُمْ خَائِفَةٌ أَشَدَّ الْخَوْفِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قُلُوبُهُمْ خَائِفَةٌ لِأَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، وَسَبَبُ الْوَجَلِ هُوَ أَنْ يَخَافُوا أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ، لَا مُجَرَّدُ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ الرُّجُوعَ إِلَى الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ وَعَلِمَ أَنَّ الْمُجَازِيَ وَالْمُحَاسِبَ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ لَمْ يَخْلُ مِنْ وَجَلٍ. قَرَأَتْ عَائِشَةُ وابن عَبَّاسٍ وَالنَّخْعِيُّ «يَأْتُونَ مَا أَتَوْا» مَقْصُورًا مِنَ الْإِتْيَانِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَمْ تُخَالِفْ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُلْزِمُ فِي الْهَمْزِ الْأَلْفَ فِي كُلِّ الحالات. قال النحاس: معنى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَمَعْنَى يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يُبَادِرُونَ بِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: ينافسون فيها، وَقُرِئَ «يُسْرِعُونَ» . وَهُمْ لَها سابِقُونَ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ، وَالْمَعْنَى: هُمْ سَابِقُونَ إِيَّاهَا، وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «1» أَيْ: أَوْحَى إِلَيْهَا، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الشَّاعِرِ «2» : تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي ... وَمَا قَصَدْتَ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا «3» أَيْ: إِلَى سِوَائِكَا، وَقِيلَ: الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَهُمْ سَابِقُونَ النَّاسَ لِأَجْلِهَا. ثُمَّ لَمَّا انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ ذَكَرَ لَهُمَا حُكْمَيْنِ، الْأَوَّلُ قَوْلِهِ: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها الْوُسْعُ: هو

_ (1) . الزلزلة: 5. (2) . هو الأعشى. (3) . «تجانف» : تنحرف. «جو» : هو ما اتسع من الأودية.

الطَّاقَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَفِي تَفْسِيرِ الْوُسْعِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الطَّاقَةُ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ دُونَ الطَّاقَةِ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ. وَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا: لِأَنَّ الْوُسْعَ إِنَّمَا سمّي وسعا لِأَنَّهُ يَتَّسِعُ عَلَى فَاعِلِهِ فِعْلُهُ وَلَا يَضِيقُ عليه، فمن لم يستطع الجلوس فليوم إِيمَاءً، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّوْمَ فَلْيُفْطِرْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى مَا وُصِفَ بِهِ السَّابِقُونَ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ الْمُؤَدِّي إِلَى نَيْلِ الْكَرَامَاتِ بِبَيَانِ سُهُولَتِهِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ حَدِّ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ عَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي تَكْلِيفِ عِبَادِهِ، وَجُمْلَةُ وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ مِنْ تَمَامِ مَا قَبْلَهَا مِنْ نَفْيِ التَّكْلِيفِ بِمَا فَوْقَ الْوُسْعِ وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ، أَيْ: عِنْدَنَا كِتَابٌ قَدْ أَثْبَتَ فِيهِ أَعْمَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى يَنْطِقُ بِالْحَقِّ يَظْهَرُ بِهِ الْحَقُّ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ مِنْ دُونِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» ، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ لِلْعُصَاةِ وَتَأْنِيسٌ لِلْمُطِيعِينَ مِنَ الْحَيْفِ وَالظُّلْمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَإِنَّهُ قَدْ كُتِبَ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَشْبِيهٌ لِلْكِتَابِ بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ الْبَيَانُ بِالنُّطْقِ بِلِسَانِهِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ يُعْرِبُ عَمَّا فِيهِ كَمَا يُعْرِبُ النَّاطِقُ الْمُحِقُّ. وَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ. يَتَعَلَّقُ بِيَنْطِقُ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِهِ، أَيْ: يَنْطِقُ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ تفضّله وعدله في جزاء عباده، أي: لا يظلمون بنقص ثواب أو بزيادة عِقَابٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً «2» ، ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذَا فَقَالَ: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَالضَّمِيرُ لِلْكُفَّارِ، أَيْ: بَلْ قلوب الكفار في غمرة لَهَا عَنْ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي يَنْطِقُ بِالْحَقِّ، أَوْ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، يُقَالُ: غَمَرَهُ الْمَاءُ: إِذَا غَطَّاهُ، وَنَهْرٌ غَمْرٌ: يُغَطِّي مَنْ دَخَلَهُ وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْغِطَاءُ وَالْغَفْلَةُ أَوِ الْحَيْرَةُ وَالْعَمَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْغَمْرَةِ قَرِيبًا. وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ لَهُمْ خَطَايَا لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ دُونِ الْحَقِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى وَلَهُمْ أَعْمَالٌ رَدِيئَةٌ لَمْ يَعْمَلُوهَا مِنْ دُونِ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا فَيَدْخُلُونَ بِهَا النَّارَ، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِمَّا إِلَى أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ إِلَى أَعْمَالِ الْكُفَّارِ، أَيْ: لَهُمْ أَعْمَالٌ مَنْ دُونِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ، أَوْ مِنْ دُونِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ كَوْنِ قُلُوبِهِمْ فِي غَفْلَةٍ عَظِيمَةٍ مِمَّا ذُكِرَ، وَهِيَ فُنُونُ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا سَيَأْتِي مِنْ طَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَصْحَابِ الْمَعَانِي عَلَى أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَمَّا سَيَعْمَلُونَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا، وَجُمْلَةُ هُمْ لَها عامِلُونَ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا فَيَدْخُلُوا بِهَا النَّارَ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى وَصْفِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ حَتَّى هَذِهِ هِيَ الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ، وَالْكَلَامُ هُوَ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالضَّمِيرُ فِي مُتْرَفِيهِمْ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُتْرَفِينَ الْمُتَنَعِّمِينَ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِمُ الرؤساء منهم.

_ (1) . الجاثية: 29. (2) . الكهف: 49.

وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُوَ عَذَابُهُمْ بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ بِالْجُوعِ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عليهم حَيْثُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» . وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَرَجَّحَ هَذَا بِأَنَّ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مَنِ الْجُؤَارِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَذَابِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ الِاسْتِغَاثَةُ بِاللَّهِ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَا فِي سِنِي الْجُوعِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْجُؤَارَ فِي اللُّغَةِ الصُّرَاخُ وَالصِّيَاحُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجُؤَارُ مِثْلُ الْخُوَارِ، يُقَالُ: جَأَرَ الثَّوْرُ يَجْأَرُ أَيْ صَاحَ، وَقَدْ وقع منهم ومن أهلهم وأولادهم عند ما عُذِّبُوا بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَبِالْجُوعِ فِي سِنِي الجوع، وليس الجؤار هاهنا مقيد بِالْجُؤَارِ الَّذِي هُوَ التَّضَرُّعُ بِالدُّعَاءِ حَتَّى يَتِمَّ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ، وَجُمْلَةُ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَإِذَا هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، وَالْمَعْنَى: حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب فاجؤوا بِالصُّرَاخِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ عَلَى جِهَةِ التَّبْكِيتِ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ فَالْقَوْلُ مُضْمَرٌ، وَالْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَبْكِيتِهِمْ وِإِقْنَاطِهِمْ وَقَطْعِ أَطْمَاعِهِمْ وَخَصَّصَ سُبْحَانَهُ الْمُتْرَفِينَ مَعَ أَنَّ الْعَذَابَ لا حق بِهِمْ جَمِيعًا، وَاقِعٌ عَلَى مُتْرَفِيهِمْ وَغَيْرِ مُتْرَفِيهِمْ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ بَعْدَ النِّعْمَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا صَارُوا عَلَى حَالَةِ تُخَالِفُهَا وَتُبَايِنُهَا، فَانْتَقَلُوا مِنَ النَّعِيمِ التَّامِّ إِلَى الشَّقَاءِ الْخَالِصِ، وَخُصَّ الْيَوْمُ بِالذِّكْرِ لِلتَّهْوِيلِ، وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ تعليل للنهي على الجوار، وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ مِنْ عَذَابِنَا لَا تُمْنَعُونَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ جَزَعُكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّكُمْ لَا يَلْحَقُكُمْ مِنْ جِهَتِنَا نُصْرَةٌ تَمْنَعُكُمْ مِمَّا دَهَمَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ. ثُمَّ عَدَّدَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ قَبَائِحَهُمْ تَوْبِيخًا لَهُمْ فَقَالَ: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أَيْ: تَرْجِعُونَ وَرَاءَكُمْ، وَأَصْلُ النُّكُوصِ أَنْ يَرْجِعَ الْقَهْقَرَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: زعموا بأنّهم على سبل النّجا ... ة وإنّما نكص على الأعقاب وهو هنا استعار لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ «عَلَى أَدْبَارِكُمْ» بَدَلَ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ بِضَمِّ الْكَافِ، وَعَلَى أَعْقَابِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِتَنْكِصُونَ، أَوْ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ الضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَقِيلَ: لِلْحَرَمِ، وَالَّذِي سَوَّغَ الْإِضْمَارَ قَبْلَ الذِّكْرِ اشْتِهَارُهُمْ بِالِاسْتِكْبَارِ بِهِ وَافْتِخَارُهُمْ بِوِلَايَتِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا يَظْهَرُ عَلَيْنَا أَحَدٌ لِأَنَّا أَهْلُ الْحَرَمِ وَخُدَّامُهُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ سَمَاعَهُ يُحْدِثُ لَهُمْ كِبْرًا وَطُغْيَانًا فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ جَيِّدٌ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَبَيَّنَهُ بِمَا ذَكَرْنَا. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ بِهِ مُتَعَلِّقَا بِمُسْتَكْبِرِينَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِ سامِراً لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ بِاللَّيْلِ يَسْمُرُونَ، وَكَانَ عَامَّةُ سَمَرِهِمْ ذِكْرَ الْقُرْآنِ وَالطَّعْنَ فِيهِ، وَالسَّامِرُ كَالْحَاضِرِ فِي الْإِطْلَاقِ عَلَى الْجَمْعِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: السَّامِرُ: الْجَمَاعَةُ يَسْمُرُونَ بِاللَّيْلِ، أَيْ: يَتَحَدَّثُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ بِقَوْلِهِ: تَهْجُرُونَ وَالْهَجْرُ بِالْفَتْحِ الْهَذَيَانُ، أَيْ: تَهْذُونَ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْهُجْرِ بِالضَّمِّ، وَهُوَ الْفُحْشُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو حَيْوَةَ «سُمَّرًا» بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو رَجَاءٍ «سَمَارًا» وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَانْتِصَابُ سَامِرًا عَلَى الْحَالِ إِمَّا مِنْ فَاعِلِ تَنْكِصُونَ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُسْتَكْبِرِينَ، وَقِيلَ هُوَ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْفَاعِلِ،

يُقَالُ قَوْمٌ سَامِرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ قَالَ الرَّاغِبُ: وَيُقَالُ سَامِرٌ وَسُمَّارٌ وَسُمْرٌ وَسَامِرُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَهْجُرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ وَضَمِّ الْجِيمِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، مِنْ أَهْجَرَ، أَيْ: أَفْحَشَ فِي مَنْطِقِهِ. وقرأ زيد ابن عَلِيٍّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو نَهِيكٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مُشَدَّدَةً، مُضَارِعَ هَجَّرَ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ كَالْجُمْهُورِ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي نَعْتِ الْخَائِفِينَ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْلُ اللَّهِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَهْوَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللَّهَ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيُصَلِّي، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللَّهَ أَنْ لَا يَتَقَبَّلَ مِنْهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا قَالَ: يُعْطُونَ مَا أَعْطَوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قَالَ: يَعْمَلُونَ خَائِفِينَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا قَالَ: الزَّكَاةَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا قَالَتْ: هُمُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ وَيُطِيعُونَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ كَمَا أَقْرَأُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ، فَقَالَ لَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا هِيَ قَالَتِ: الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقَدْ قَدَّمْنَا ذكر قراءتها ومعناها. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قرأ: والذين يأتون مَا آتَوْا مَقْصُورًا مِنَ الْمَجِيءِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بن منصور وأحمد وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عبيد بن عمير أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا؟ قَالَتْ: أَيَّتُهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ. قُلْتُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَحَدِهِمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وما فيها جميعا، قالت: أيهما؟ قلت: الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، وَلَكِنَّ الْهِجَاءَ حَرْفٌ. وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ قَالَ: سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا يَعْنِي بِالْغَمْرَةِ الْكُفْرَ وَالشَّكَّ وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ يَقُولُ: أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ دُونَ الشِّرْكِ هُمْ لَها عامِلُونَ قَالَ: لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْهُ حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 إلى 83]

أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ قَالَ: يَسْتَغِيثُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ قَالَ: تُدْبِرُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: سامِراً تَهْجُرُونَ قَالَ: تَسْمُرُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَتَقُولُونَ هُجْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ قال: بحرم الله أنه لا يظهر عليهم فيه أحد. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا سامِراً تَهْجُرُونَ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يَتَحَلَّقُونَ حِلَقًا يَتَحَدَّثُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَهْجُرُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْقَوْلِ فِي سَمَرِهِمْ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 الى 83] أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قَوْلُهُ: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ سَبَبَ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ هُوَ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ: الْأَوَّلُ عَدَمُ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ تَدَبَّرُوا مَعَانِيَهُ لَظَهَرَ لَهُمْ صِدْقُهُ وَآمَنُوا بِهِ وَبِمَا فِيهِ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: فَعَلُوا مَا فَعَلُوا فَلَمْ يَتَدَبَّرُوا، وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْقُرْآنُ، وَمِثْلُهُ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ «1» . وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: أَمْ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ «أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، أَيْ: بل أجاءهم مِنَ الْكِتَابِ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ؟ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِنْكَارِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَالْمَقْصُودُ تَقْرِيرُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ رَسُولٌ، فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ «2» وَقِيلَ: إِنَّهُ أَتَى آبَاءَهُمُ الْأَقْدَمِينَ رُسُلٌ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ. كَمَا هِيَ سُنَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى عِبَادِهِ، فَقَدْ عَرَفَ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ كَذَّبُوا هَذَا الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَمْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَمْنِ مِنْ عذاب

_ (1) . النساء: 82. (2) . يس: 6.

اللَّهِ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ كَإِسْمَاعِيلَ وَمَنْ بَعْدَهُ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَفِي هَذَا إِضْرَابٌ وَانْتِقَالٌ مِنَ التَّوْبِيخِ بِمَا تَقَدَّمَ إِلَى التَّوْبِيخِ بِوَجْهٍ آخَرَ، أَيْ: بَلْ أَلَمْ يَعْرِفُوهُ بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ فَأَنْكَرُوهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوهُ بِذَلِكَ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ وَهَذَا أَيْضًا انْتِقَالٌ مِنْ تَوْبِيخٍ إِلَى تَوْبِيخٍ، أَيْ: بَلْ أَتَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ، أَيْ: جُنُونٌ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ أَرْجَحُ النَّاسِ عَقْلًا، وَلَكِنَّهُ جَاءَ بِمَا يُخَالِفُ هَوَاهُمْ، فَدَفَعُوهُ وَجَحَدُوهُ تَعَصُّبًا وَحَمِيَّةً. ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَالَ: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا فِي حَقِّ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ، بَلْ جَاءَهُمْ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ: هُوَ الدِّينُ الْقَوِيمُ. وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّعَصُّبِ، وَالِانْحِرَافِ عَنِ الصَّوَابِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْحَقِّ، فَلِذَلِكَ كَرِهُوا هَذَا الْحَقَّ الْوَاضِحَ الظَّاهِرَ. وَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ أَقَلَّهُمْ كَانُوا لَا يَكْرَهُونَ الْحَقَّ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُظْهِرُوا الْإِيمَانَ خَوْفًا مِنَ الْكَارِهِينَ لَهُ. وَجُمْلَةُ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَوْ جَاءَ الْحَقُّ عَلَى مَا يَهْوَوْنَهُ وَيُرِيدُونَهُ لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِلْفَسَادِ الْعَظِيمِ، وَخُرُوجِ نِظَامِ الْعَالَمِ عَنِ الصَّلَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: لَوْ جَعَلَ مَعَ نَفْسِهِ كَمَا يُحِبُّونَ شَرِيكًا لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَقِّ الْقُرْآنُ، أَيْ: لَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِمَا يُحِبُّونَ مِنَ الشِّرْكِ لَفَسَدَ نِظَامُ الْعَالَمِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ مَا يَقُولُونَ مِنَ اتِّحَادِ الْآلِهَةِ مَعَ اللَّهِ لَاخْتَلَفَتِ الْآلِهَةُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْأَكْثَرُونَ، وَلَكِنَّهُ يرد عليه أن المراد بالحق هنا هو الحق المذكور قبله في قوله: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ ولا يصح أن يكون الْمُرَادَ بِهِ هُنَالِكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْحَقِّ هُنَا وَهُنَاكَ بِالصِّدْقِ الصَّحِيحِ مِنَ الدِّينِ الخالص من شرع الله، والمعنى: ولو وَرَدَ الْحَقُّ مُتَابِعًا لِأَهْوَائِهِمْ مُوَافِقًا لِفَاسِدِ مَقَاصِدِهِمْ لَحَصَلَ الْفَسَادُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ فِيهِنَّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «وَمَا بَيْنَهُمَا» وَسَبَبُ فَسَادِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ ظَاهِرٌ، وَهُوَ ذُنُوبُهُمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْهَوَى الْمُخَالِفُ لِلْحَقِّ، وَأَمَّا فَسَادُ مَا عَدَاهُمْ فَعَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِأَنَّهُمْ مُدَبَّرُونَ فِي الْغَالِبِ بِذَوِي الْعُقُولِ فَلَمَّا فَسَدُوا فَسَدُوا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الْحَقِّ فَقَالَ: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الْقُرْآنُ، أَيْ: بِالْكِتَابِ الَّذِي هُوَ فَخْرُهُمْ وَشَرَفُهُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «2» وَالْمَعْنَى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِفَخْرِهِمْ وَشَرَفِهِمُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْبَلُوهُ، وَيُقْبِلُوا عَلَيْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى بِذِكْرِهِمُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ ثَوَابُهُمْ وَعِقَابُهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: بِذِكْرِ مَا لَهُمْ بِهِ حَاجَةٌ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «أَتَيْتُهُمْ» بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ «أَتَيْتَهُمْ» بِتَاءِ الْخِطَابِ، أَيْ: أَتَيْتَهُمْ يَا مُحَمَّدُ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ «بِذِكْرَاهُمْ» وَقَرَأَ قَتَادَةُ «نُذَكِّرُهُمْ» بِالنُّونِ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّذْكِيرِ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: الذِّكْرُ: هُوَ الْوَعْظُ وَالتَّحْذِيرُ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَيْ: هُمْ بِمَا فَعَلُوا مِنَ الِاسْتِكْبَارِ والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم

_ (1) . الأنبياء: 22. (2) . الزخرف: 44.

مُعْرِضُونَ، لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَفِي هَذَا التَّرْكِيبِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ دَعْوَةَ نَبِيِّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لَيْسَتْ مَشُوبَةً بِأَطْمَاعِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً و «أم» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْمَعْنَى: أَمْ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَسْأَلُهُمْ خرجا تأخذه على الرِّسَالَةِ، وَالْخَرْجُ: الْأَجْرُ وَالْجَعْلُ، فَتَرَكُوا الْإِيمَانَ بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ لَمْ تَسْأَلْهُمْ ذَلِكَ وَلَا طَلَبْتَهُ مِنْهُمْ فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أَيْ: فَرِزْقُ رَبِّكَ الَّذِي يَرْزُقُكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَجْرُهُ الَّذِي يُعْطِيكَهُ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا ذُكِرَ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «أَمْ تسألهم خراجا» وقرأ الباقون «خرجا» ، وكلّهم قرءوا فَخَراجُ إِلَّا ابْنَ عَامِرٍ وَأَبَا حَيْوَةَ فَإِنَّهُمَا قَرَآ: «فَخَرَجَ» بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَالْخَرْجُ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُقَابِلًا لِلدَّخْلِ، يُقَالُ لِكُلِّ مَا تُخْرِجُهُ إِلَى غَيْرِكَ خَرْجًا، وَالْخَرَاجُ غَالِبٌ فِي الضَّرِيبَةِ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْخَرْجُ الْمَصْدَرُ، وَالْخَرَاجُ الِاسْمُ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ، فَقَالَ: الْخَرَاجُ: مَا لَزِمَكَ، وَالْخَرْجُ: مَا تَبَرَّعْتَ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْخَرْجُ مِنَ الرِّقَابِ، وَالْخَرَاجُ مِنَ الْأَرْضِ. وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ كون خراجه سبحانه خير. ثُمَّ لَمَّا أَثْبَتَ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِقَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ، وَنَفَى عَنْهُ أَضْدَادَ ذَلِكَ، قَالَ: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: إِلَى طَرِيقٍ وَاضِحَةٍ تَشْهَدُ الْعُقُولُ بِأَنَّهَا مُسْتَقِيمَةٌ غَيْرُ مُعْوَجَّةٍ، وَالصِّرَاطُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقُ، فَسُمِّيَ الدِّينُ طَرِيقًا لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَيْهِ. ثُمَّ وَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ يُقَالُ: نَكَبَ عَنِ الطَّرِيقِ يَنْكُبُ نُكُوبًا إِذَا عَدَلَ عَنْهُ وَمَالَ إِلَى غَيْرِهِ، وَالنُّكُوبُ وَالنَّكْبُ: الْعُدُولُ وَالْمَيْلُ، وَمِنْهُ النَّكْبَاءُ لِلرِّيحِ بَيْنَ رِيحَيْنِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعُدُولِهَا عَنِ المهابّ، و «عن الصِّرَاطِ» مُتَعَلِّقٌ بَنَاكِبُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَوْصُوفِينَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ عَنْ ذَلِكَ الصِّرَاطِ أَوْ جِنْسِ الصِّرَاطِ لَعَادِلُونَ عَنْهُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ بِحَالٍ، فَقَالَ: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ أَيْ: مِنْ قَحْطٍ وَجَدْبٍ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ أَيْ: لَتَمَادَوْا فِي طُغْيَانِهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَعْمَهُونَ يَتَرَدَّدُونَ وَيَتَذَبْذَبُونَ وَيَخْبِطُونَ، وَأَصْلُ اللَّجَاجِ: التَّمَادِي فِي الْعِنَادِ، وَمِنْهُ اللَّجَّةُ بِالْفَتْحِ لِتَرَدُّدِ الصَّوْتِ، وَلُجَّةُ الْبَحْرِ: تَرَدُّدُ أَمْوَاجِهِ، وَلُجَّةُ اللَّيْلِ: تَرَدُّدُ ظلامه. وقيل: المعنى: رَدَدْنَاهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَلَمْ نُدْخِلْهُمُ النَّارَ وَامْتَحَنَّاهُمْ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا. وَالْعَذَابُ: قِيلَ هُوَ الْجُوعُ الَّذِي أَصَابَهُمْ فِي سِنِي الْقَحْطِ، وقيل: المرض، وقيل: القتل يَوْمَ بَدْرٍ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: الْمَوْتُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ أَصَابَهُ الْعَذَابُ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ أَيْ: مَا خَضَعُوا وَلَا تَذَلَّلُوا، بَلْ أَقَامُوا عَلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ وَالِانْهِمَاكِ فِي مَعَاصِيهِ وَما يَتَضَرَّعُونَ أَيْ: وَمَا يَخْشَعُونَ لِلَّهِ فِي الشَّدَائِدِ عِنْدَ إِصَابَتِهَا لَهُمْ، وَلَا يَدْعُونَهُ لِرَفْعِ ذَلِكَ حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ قِيلَ: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: قَتْلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ، وَقِيلَ: الْقَحْطُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَقِيلَ: فَتْحُ مَكَّةَ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أَيْ: مُتَحَيِّرُونَ، لَا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ، والإبلاس: التَّحَيُّرُ وَالْإِيَاسُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ مُبْلَسُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ

مِنْ أَبْلَسَهُ، أَيْ: أَدْخَلَهُ فِي الْإِبْلَاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِبَعْضِ النِّعَمِ الَّتِي أَعْطَاهُمْ، وَهِيَ نِعْمَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْأَفْئِدَةَ فَصَارَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مَعَهُمْ لِيَسْمَعُوا الْمَوَاعِظَ، وَيَنْظُرُوا الْعِبَرَ، وَيَتَفَكَّرُوا بِالْأَفْئِدَةِ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَبُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَلَمْ يَشْكُرُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ أَيْ: شُكْرًا قَلِيلًا حَقِيرًا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّهُمْ لَا يَشْكُرُونَهُ أَلْبَتَّةَ، لَا أَنَّ لَهُمْ شُكْرًا قَلِيلًا. كَمَا يُقَالُ لِجَاحِدِ النِّعْمَةِ: مَا أقلّ شكره! أي: لا يشكره، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ «1» . وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: بَثَّكُمْ فِيهَا كَمَا تُبَثُّ الْحُبُوبُ لِتَنْبُتَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيْ: تُجْمَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ تَفَرُّقِكُمْ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ عَلَى جهة الانفراد والاستقلال، وفي هذا تذكير بنعمة الْحَيَاةِ، وَبَيَانُ الِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ يَتَعَاقَبَانِ وَيَخْتَلِفَانِ فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمَا: نُقْصَانُ أَحَدِهِمَا وَزِيَادَةُ الْآخَرِ، وَقِيلَ: تَكَرُّرُهُمَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ أَفَلا تَعْقِلُونَ كُنْهَ قُدْرَتِهِ وَتَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ إِلَّا التَّشَبُّثُ بِحَبْلِ التَّقْلِيدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْتِبْعَادِ، فَقَالَ: بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ أَيْ: آبَاؤُهُمْ وَالْمُوَافِقُونَ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا قاله الأوّلون فقال: قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ فَهَذَا مُجَرَّدُ اسْتِبْعَادٍ لَمْ يَتَعَلَّقُوا فِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ الشُّبَهِ، ثُمَّ كَمَّلُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ بِقَوْلِهِمْ: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ أَيْ: وُعِدْنَا هَذَا الْبَعْثَ وَوُعِدَهُ آبَاؤُنَا الْكَائِنُونَ مِنْ قَبْلِنَا فَلَمْ نُصَدِّقْهُ كَمَا لَمْ يُصَدِّقْهُ مَنْ قَبْلَنَا، ثُمَّ صَرَّحُوا بِالتَّكْذِيبِ وَفَرُّوا إِلَى مُجَرَّدِ الزَّعْمِ الْبَاطِلِ، فَقَالُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: مَا هَذَا إِلَّا أَكَاذِيبُ الْأَوَّلِينَ الَّتِي سَطَرُوهَا فِي الْكُتُبِ، جَمْعُ أُسْطُورَةٍ كَأُحْدُوثَةٍ، وَالْأَسَاطِيرُ: الْأَبَاطِيلُ وَالتُّرَّهَاتُ وَالْكَذِبُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ قَالَ: عَرَفُوهُ وَلَكِنَّهُمْ حَسَدُوهُ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ قَالَ: الْحَقُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ قَالَ: بَيَّنَّا لَهُمْ. وَأَخْرَجُوا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ قَالَ: عَنِ الْحَقِّ لَحَائِدُونَ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، فَقَدْ أَكَلْنَا الْعِلْهِزَ، يَعْنِي: الْوَبَرَ بِالدَّمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ اسْتَعْصَوْا فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ابْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ لَمَّا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَهُوَ أَسِيرٌ فَخَلَّى سَبِيلَهُ لَحِقَ بِالْيَمَامَةِ، فَحَالَ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَيْنَ الْمِيرَةِ

_ (1) . الأحقاف: 26.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 إلى 98]

مِنَ الْيَمَامَةِ حَتَّى أَكَلَتْ قُرَيْشٌ الْعِلْهِزَ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلَيْسَ تَزْعُمُ أَنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَقَدْ قَتَلْتَ الْآبَاءَ بِالسَّيْفِ وَالْأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْمَوَاعِظِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ قَالَ: أَيْ: لَمْ يتواضعوا في الدعاء ولو يَخْضَعُوا، وَلَوْ خَضَعُوا لِلَّهِ لَاسْتَجَابَ لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ قَالَ: قد مضى، كان يوم بدر. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 98] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ الْكُفَّارَ عَنْ أُمُورٍ لَا عُذْرَ لَهُمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ فِيهَا، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ مِنْهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ، فَقَالَ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِأَهْلِ مَكَّةَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالْمُرَادُ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ الْخَلْقُ جَمِيعًا، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِمَنْ تَغْلِيبًا لِلْعُقَلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَأَخْبِرُونِي. وَفِي هَذَا تَلْوِيحٌ بِجَهْلِهِمْ وَفَرْطِ غَبَاوَتِهِمْ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ أَيْ: لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بَعْدَ اعْتِرَافِهِمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي التَّدَبُّرِ وَإِمْعَانِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَقُودُهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَتَرْكِ الْبَاطِلِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءً قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ- سَيَقُولُونَ لِلَّهِ جَاءَ سُبْحَانَهُ بِاللَّامِ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى السُّؤَالِ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: مَنْ رَبُّهُ، وَلِمَنْ هُوَ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، كَقَوْلِكَ: مَنْ رَبُّ هَذِهِ الدَّارِ؟ فَيُقَالُ: زَيْدٌ، وَيُقَالُ: لِزَيْدٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: «سَيَقُولُونَ اللَّهُ» بِغَيْرِ لَامٍ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ السُّؤَالِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْضَحُ مِنْ قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ بِاللَّامِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَيِّدُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ بِاللَّامِ بِدُونِ أَلِفٍ، وهكذا قرأ الجمهور في قوله: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- سَيَقُولُونَ لِلَّهِ بِاللَّامِ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى السُّؤَالِ كَمَا سَلَفَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْعِرَاقِ بِغَيْرِ لَامٍ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ السؤال، ومثل هذا قول الشاعر:

إذ قِيلَ مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ وَالْقُرَى ... وَرَبُّ الْجِيَادِ الجرد قلت لِخَالِدُ أَيْ: لِمَنِ الْمَزَالِفُ. وَالْمَلَكُوتُ: الْمُلْكُ، وَزِيَادَةُ التاء للمبالغة، ونحو جَبَرُوتٍ وَرَهَبُوتٍ، وَمَعْنَى وَهُوَ يُجِيرُ أَنَّهُ يُغِيثُ غَيْرَهُ إِذَا شَاءَ وَيَمْنَعُهُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أي: لا يمنع أحدا أَحَدًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ وَإِغَاثَتِهِ، يُقَالُ: أَجَرْتُ فُلَانًا إِذَا اسْتَغَاثَ بِكَ فَحَمَيْتَهُ، وَأَجَرْتُ عَلَيْهِ: إِذَا حَمَيْتُ عَنْهُ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: أَيْ: تُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ وَتُخْدَعُونَ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يُخَيَّلُ لَكُمُ الْحَقُّ بَاطِلًا وَالصَّحِيحُ فَاسِدًا، وَالْخَادِعُ لَهُمْ هُوَ الشَّيْطَانُ أَوِ الْهَوَى أَوْ كِلَاهُمَا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَدْ بَالَغَ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ أَيِ: الْأَمْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي يَحِقُّ اتِّبَاعُهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فِيمَا يَنْسُبُونَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ، ثُمَّ نَفَاهُمَا عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ «مِنْ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مَا يَدَّعِيهِ الكفار من إِثْبَاتِ الشَّرِيكِ، فَقَالَ: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وفي الكلام حذف تقديره: لو كان مع الله آلهة لا نفرد كُلُّ إِلَهٍ بِخَلْقِهِ، وَاسْتَبَدَّ بِهِ، وَامْتَازَ مُلْكُهُ عَنْ مُلْكِ الْآخَرِ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمُ التَّطَالُبُ وَالتَّحَارُبُ وَالتَّغَالُبُ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أَيْ: غَلَبَ الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَقَهَرَهُ، وَأَخَذَ مُلْكَهُ، كَعَادَةِ الْمُلُوكِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَحِينَئِذٍ فَذَلِكَ الضَّعِيفُ الْمَغْلُوبُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَإِذَا تَقَرَّرَ عَدَمُ إِمْكَانِ الْمُشَارَكَةِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا وَاحِدٌ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَاحِدُ هُوَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا الدَّلِيلُ كَمَا دَلَّ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ فَإِنَّهُ يدلّ على نفي الولد، لأن لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيْ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ وَإِنْ عَلِمَ الشَّهَادَةَ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ. قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عَالِمُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ عَالِمٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ أَنَّهُ كَانَ يُخْفِضُ إِذَا وَصَلَ وَيَرْفَعُ إِذَا ابْتَدَأَ فَتَعالى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ مَعْطُوفٌ على معنى ما تقدّم كأنه قال: علم الْغَيْبِ فَتَعَالَى، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ شُجَاعٌ فَعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ، أَيْ: شَجُعَ فَعَظُمَتْ، أَوْ يَكُونُ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: أَقُولُ فَتَعَالَى اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ أَيْ: إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ أَنْ تُرِيَنِّي مَا يُوعِدُونَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُسْتَأْصَلِ لَهُمْ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ: قُلْ يَا رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ إِنْ أَنْزَلْتَ بِهِمُ النِّقْمَةَ يَا رَبِّ فَاجْعَلْنِي خَارِجًا عَنْهُمْ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ النداء معترض، و «ما» فِي «إِمَّا» زَائِدَةٌ، أَيْ: قُلْ رَبِّ إِنْ تُرِيَنِّي، وَالْجَوَابُ: «فَلَا تَجْعَلْنِي» ، وَذِكْرُ الرَّبَّ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً قَبْلَ الشَّرْطِ، وَمَرَّةً بَعْدَهُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّضَرُّعِ. وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ مَعَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَكُونُونَ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَبَدًا، تَعْلِيمًا له صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ كَيْفَ يَتَوَاضَعُ. وَقِيلَ: يَهْضِمُ نَفْسَهُ، أَوْ لِكَوْنِ شُؤْمِ الْكُفْرِ قَدْ يَلْحَقُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ كَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «1» ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ الْعَذَابَ وَيَسْخَرُونَ من النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ وُقُوعَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ على أن يري رسوله

_ (1) . الأنفال: 25.

عَذَابَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُؤَخِّرُهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ سَيُؤْمِنُ، أَوْ لِكَوْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ وَالرَّسُولُ فِيهِمْ، وَقِيلَ: قَدْ أَرَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالصَّبْرِ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ لِلْعَذَابِ، فَقَالَ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ أَيِ: ادْفَعْ بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ غيرها، وهي الصفح والإعراض عما يفعله الكافر مِنَ الْخَصْلَةِ السَّيِّئَةِ، وَهِيَ الشِّرْكُ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، مَنْسُوخَةٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أَيْ: مَا يَصِفُونَكَ بِهِ مِمَّا أَنْتَ عَلَى خِلَافِهِ، أَوْ بِمَا يَصِفُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ. ثُمَّ عَلَّمَهُ سُبْحَانَهُ مَا يُقَوِّيهِ عَلَى مَا أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَمُقَابَلَةِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، فَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ الْهَمَزَاتُ جَمْعُ هَمْزَةٍ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الدَّفْعَةُ بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَهَمَزَاتُ الشَّيَاطِينِ: نَزَغَاتُهُمْ وَوَسَاوِسُهُمْ كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، يُقَالُ: هَمَزَهُ وَلَمَزَهُ وَنَخَسَهُ، أَيْ: دَفَعَهُ وَقِيلَ: الْهَمْزُ: كَلَامٌ مِنْ وَرَاءِ الْقَفَا، وَاللَّمْزُ: الْمُوَاجَهَةُ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى التَّعَوُّذِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ سَوَرَاتُ الْغَضَبِ الَّتِي لَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ فِيهَا نَفْسَهُ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ حُضُورِ الشَّيَاطِينِ بَعْدَ مَا أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ مِنْ هَمَزَاتِهِمْ، وَالْمَعْنَى: وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَكُونُوا مَعِي فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا حَضَرُوا الْإِنْسَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ إِلَّا الْوَسْوَسَةَ وَالْإِغْرَاءَ عَلَى الشَّرِّ وَالصَّرْفِ عَنِ الْخَيْرِ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «وَقُلْ رَبِّ عَائِذًا بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ- وَعَائِذًا بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونَ» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ: خَزَائِنُ كُلِّ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ يَقُولُ: أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ إِيَّاكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَالَ: بِالسَّلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ قَالَ: قَوْلُ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، فَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ نَقُولَهُنَّ عِنْدَ النَّوْمِ مِنَ الْفَزَعِ: بِسْمِ اللَّهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونَ» قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلِّمُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدَهُ أَنْ يَقُولَهَا عِنْدَ نَوْمِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَنْ يَحْفَظَهَا كَتَبَهَا لَهُ فَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ. وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ خالد بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ وَحْشَةً، قَالَ: إِذَا أَخَذَتْ مَضْجِعَكَ فَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يحضرون، فإنه لا يحضرك، وبالحريّ أن لا يضرّك» .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 إلى 118]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 118] حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) حَتَّى هِيَ الِابْتِدَائِيَّةُ، دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ لَكَاذِبُونَ وَقِيلَ بِيَصِفُونَ، وَالْمُرَادُ بِمَجِيءِ الْمَوْتِ مَجِيءُ عَلَامَاتِهِ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ أي: قال ذلك الواحد الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ تَحَسُّرًا وَتَحَزُّنًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ رَبِّ ارْجِعُونِ، أَيْ: رَدُّونِي إِلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا قَالَ ارْجِعُونِ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ لِتَعْظِيمِ الْمُخَاطَبِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ: ارْجِعْنِي ارْجِعْنِي ارْجِعْنِي، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ «1» قَالَ الْمَازِنِيُّ: مَعْنَاهُ أَلْقِ أَلْقِ، وَهَكَذَا قِيلَ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ «2» ............... .... وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَجَّاجُ: يَا حَرَسِي اضْرِبَا عُنُقَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَوْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَلَا فَارْحَمُونِي يَا إِلَهِ مُحَمَّدٍ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِاللَّهِ قَالَ قَائِلُهُمْ: رَبِّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً أَيْ: أَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا فِي الدُّنْيَا إِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهَا مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَلَمَّا تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ لِيَعْمَلَ رَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها فَجَاءَ بِكَلِمَةِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، وَالضَّمِيرُ فِي «إِنَّهَا» يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: رَبِّ ارْجِعُونِ أَيْ: إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ هُوَ قائلها لا محالة، وليس

_ (1) . ق: 24. [.....] (2) . وعجزه: بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل.

الْأَمْرُ عَلَى مَا يَظُنُّهُ مِنْ أَنَّهُ يُجَابُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ لَمَا حَصَلَ مِنْهُ الْوَفَاءُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1» وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «قَائِلِهَا» يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: لَا خُلْفَ فِي خَبَرِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجْلُهَا وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ أَيْ: مِنْ أَمَامِهِمْ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَالْبَرْزَخُ: هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: حَاجِزٌ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الْأَجَلُ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الأجل، وإِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ قِيلَ: هَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَقِيلَ: الثَّانِيَةُ، وَهَذَا أَوْلَى، وَهِيَ النَّفْخَةُ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَإِذَا نَفَخَ فِي الْأَجْسَادِ أَرْوَاحَهَا، عَلَى أَنَّ الصُّوَرَ جَمْعُ صُورَةٍ، لَا الْقَرْنُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ «الصُّوَرِ» بِفَتْحِ الْوَاوِ مَعَ ضَمِّ الصَّادِ جَمْعُ صُورَةٍ. وَقَرَأَ أَبُو رَزِينٍ بِفَتْحِ الصَّادِ وَالْوَاوِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْقَرْنُ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَيْ: لَا يتفاخرون بالأنساب ويذكرونها لما هم فِيهِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَيْ: لَا يَتَفَاخَرُونَ بِالْأَنْسَابِ وَيَذْكُرُونَهَا لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ وَلا يَتَساءَلُونَ أَيْ: لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ لَهُمْ إِذْ ذَاكَ شُغْلًا شَاغِلًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ- وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ- وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ «2» ، وقوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً «3» ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مِنْ قَوْلِهِ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «4» فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَوَاقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالْإِثْبَاتُ بِاعْتِبَارِ بَعْضِهَا، وَالنَّفْيُ بِاعْتِبَارِ بَعْضٍ آخَرَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي نَظَائِرِ هَذَا، مِمَّا أُثْبِتَ تَارَةً وَنُفِيَ أُخْرَى فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أَيْ: مَوْزُونَاتُهُ مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْفَائِزُونَ بِمَطَالِبِهِمُ الْمَحْبُوبَةِ، النَّاجُونَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَخَافُونَهَا وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ وَهِيَ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْ: ضيعوها وَتَرَكُوا مَا يَنْفَعُهَا فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ هَذَا بَدَلٌ مِنْ صِلَةِ الْمَوْصُولِ، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فَلَا نُعِيدُهُ. وَجُمْلَةُ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ تَكُونُ خَبَرًا آخَرَ لِأُولَئِكَ، وَاللَّفْحُ: الْإِحْرَاقُ، يُقَالُ: لَفَحَتْهُ النَّارُ إِذَا أَحْرَقَتْهُ، وَلَفَحْتُهُ بِالسَّيْفِ إِذَا ضَرَبْتُهُ «5» ، وَخَصَّ الْوُجُوهَ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ. وَهُمْ فِيها كالِحُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْكَالِحُ: الَّذِي قَدْ تَشَمَّرَتْ شَفَتَاهُ وَبَدَتْ أَسْنَانُهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَدَهْرٌ كَالِحٌ: أَيْ شَدِيدٌ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْكُلُوحُ: تَكْنِيزٌ فِي عُبُوسٍ. وَجُمْلَةُ أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ هِيَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا، أَيْ: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وَجُمْلَةُ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: غَلَبَتْ عَلَيْنَا لَذَّاتُنَا وَشَهَوَاتُنَا، فَسَمَّى ذَلِكَ شِقْوَةً لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ إِلَى الشَّقَاءِ. قَرَأَ أَهْلُ المدينة وأبو عمرو وعاصم شِقْوَتُنا

_ (1) . الأنعام: 28. (2) . عبس: 34- 36. (3) . المعارج: 10. (4) . الصافات: 27. (5) . أي: ضربة خفيفة.

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «شَقَاوَتُنَا» وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ. وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أَيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ ضَلُّوا عَنِ الْحَقِّ بِتِلْكَ الشِّقْوَةِ. ثُمَّ طَلَبُوا مَا لَا يُجَابُونَ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أَيْ: فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ فَإِنَّا ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِنَا بِالْعَوْدِ إِلَى ذَلِكَ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بقوله: قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ أَيِ: اسْكُنُوا فِي جَهَنَّمَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْخَسْءُ: إِبْعَادٌ بِمَكْرُوهٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَبَاعَدُوا تَبَاعُدَ سَخَطٍ وَأُبْعِدُوا بُعْدَ الْكَلْبِ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أُبْعِدُوا فِي جَهَنَّمَ، كَمَا يُقَالُ لِلْكَلْبِ اخْسَأْ: أَيْ ابْعُدْ، خَسَأْتُ الْكَلْبَ خَسْأً طَرَدْتُهُ، وَلَا تُكَلِّمُونَ فِي إِخْرَاجِكُمْ مِنَ النَّارِ وَرُجُوعِكُمْ إِلَى الدُّنْيَا، أَوْ فِي رَفْعِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا تُكَلِّمُونِ رَأْسًا. ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: الصَّحَابَةُ، يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ بِكَسْرِ إِنَّ اسْتِئْنَافًا تَعْلِيلِيًّا، وَقَرَأَ أُبَيٌّ بِفَتْحِهَا فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَبُو عَمْرٍو فجعل الكسر من جهة التهزؤ، والضم من جهة السّخرة. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يَعْرِفُ هَذَا الْفَرْقَ الْخَلِيلُ وَلَا سِيبَوَيْهِ وَلَا الْكِسَائِيُّ وَلَا الْفَرَّاءُ، وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: أَنَّ الْكَسْرَ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالْقَوْلِ، وَالضَّمَّ بِمَعْنَى التَّسْخِيرِ وَالِاسْتِبْعَادِ بِالْفِعْلِ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أَيِ: اتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَإِنَّهُمْ نَسُوا ذِكْرَ اللَّهِ لِشِدَّةِ اشْتِغَالِهِمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: حَتَّى نَسِيتُمْ ذِكْرِي بِاشْتِغَالِكُمْ بِالسُّخْرِيَةِ وَالضَّحِكِ، فَنَسَبَ ذَلِكَ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِكَوْنِهِمُ السَّبَبَ، وَجُمْلَةُ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا سَبَقَ، وَالْبَاءُ فِي «بِمَا صَبَرُوا» لِلسَّبَبِيَّةِ أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، أَيْ: لِأَنَّهُمُ الْفَائِزُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلْفِعْلِ قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَتَذْكِيرًا لَهُمْ كَمْ لَبِثُوا؟ لَمَّا سَأَلُوا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ كَائِنٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: اخْسَئُوا فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي طَلَبُوا الرُّجُوعَ إِلَيْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْ جَمِيعِ مَا لَبِثُوهُ فِي الْحَيَاةِ وَفِي الْقُبُورِ، وَقِيلَ: هُوَ سُؤَالٌ عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْقُبُورِ لِقَوْلِهِ: «فِي الْأَرْضِ» ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى الْأَرْضِ، وَرُدَّ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «1» وَانْتِصَابُ عَدَدَ سِنِينَ عَلَى التَّمْيِيزِ، لِمَا فِي كَمْ مِنَ الْإِبْهَامِ، وَسِنِينَ بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى أَنَّهَا نُونُ الْجَمْعِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخْفِضُهَا وَيُنَوِّنُهَا قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَذَابَ رُفِعَ عَنْهُمْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، فَنَسُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ فِي قُبُورِهِمْ وَقِيلَ: أَنْسَاهُمُ اللَّهُ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ مِنَ النَّفْخَةِ الْأُولَى إِلَى النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. ثُمَّ لَمَّا عَرَفُوا مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النِّسْيَانِ لِشِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ الْعَظِيمِ أَحَالُوا عَلَى غَيْرِهِمْ فَقَالُوا: فَسْئَلِ الْعادِّينَ أَيِ: الْمُتَمَكِّنِينَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَدَدِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّهُمُ الْحَفَظَةُ الْعَارِفُونَ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ وَأَعْمَارِهِمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَاسْأَلِ الْحَاسِبِينَ الْعَارِفِينَ بِالْحِسَابِ مِنَ الناس. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي

_ (1) . الأعراف 56 و 85.

«قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ» عَلَى الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَفَّارِ، أَوْ يَكُونُ أَمْرًا لِلْمَلِكِ بِسُؤَالِهِمْ، أَوِ التَّقْدِيرُ: قُولُوا كَمْ لَبِثْتُمْ، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ لِلْوَاحِدِ، وَالْمُرَادُ الْجَمَاعَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوِ الْمَلَكُ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ» كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (قَالَ) عَلَى الْخَبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيْ: مَا لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا لُبْثًا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَعَلِمْتُمُ الْيَوْمَ قِلَّةَ لُبْثِكُمْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي الْقُبُورِ أَوْ فِيهِمَا، فَكُلُّ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لُبْثِهِمْ. ثُمَّ زَادَ سُبْحَانَهُ فِي تَوْبِيخِهِمْ فَقَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً الْهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيرِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوَاضِعَ، أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمُوا شَيْئًا فَحَسِبْتُمْ، وَانْتِصَابُ عَبَثًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: عَابِثِينَ، أَوْ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: لِلْعَبَثِ. قَالَ بِالْأَوَّلِ سِيبَوَيْهِ وَقُطْرُبُ، وَبِالثَّانِي أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَجُمْلَةُ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «أَنَمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا» ، وَالْعَبَثُ فِي اللُّغَةِ: اللَّعِبُ، يُقَالُ: عَبَثَ يَعْبَثُ عَبَثًا فَهُوَ عَابِثٌ، أَيْ: لَاعِبٌ، وَأَصْلُهُ مِنْ قولهم عَبَثْتُ الْأَقِطَ: أَيْ خَلَطْتُهُ، وَالْمَعْنَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّ خَلْقَنَا لَكُمْ لِلْإِهْمَالِ كَمَا خُلِقَتِ الْبَهَائِمُ وَلَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تَرْجِعُونَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَنُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «تَرْجِعُونَ» بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ عَطْفُ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ عَلَى عَبَثًا، عَلَى مَعْنَى: أَنَمَا خَلَقْنَاكُمْ لِلْعَبَثِ وَلِعَدَمِ الرُّجُوعِ. ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ فَقَالَ: فَتَعالَى اللَّهُ أَيْ: تَنَزَّهَ عَنِ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ أَوْ عَنْ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا عَبَثًا، أَوْ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَلِكُ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الْمُلْكُ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْحَقُّ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَرَبًّا، لِمَا هُوَ دُونَ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَوَصْفُ الْعَرْشِ بِالْكَرِيمِ لِنُزُولِ الرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ مِنْهُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَنِ اسْتَوَى عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ بَيْتٌ كَرِيمٌ إِذَا كَانَ سَاكِنُوهُ كِرَامًا قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَإِسْمَاعِيلُ وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ الْكَرِيمُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِرَبٍّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَرْشِ. ثُمَّ زَيَّفَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الشِّرْكِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا فَقَالَ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يَعْبُدُهُ مَعَ اللَّهِ أَوْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ، وَجُمْلَةُ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ إِلَهًا، وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ جِيءَ بِهَا لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَالدَّلِيلُ الْوَاضِحُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَجُمْلَةُ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَقَوْلِكَ: مَنْ أَحْسَنَ إِلَى زَيْدٍ لَا أَحَقَّ مِنْهُ بِالْإِحْسَانِ، فَاللَّهُ مُثِيبُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ عَلَى حَذْفِ فَاءِ الْجَزَاءِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ قَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِفَتْحِ «أَنَّ» عَلَى التَّعْلِيلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ «لَا يُفْلِحُ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ مُضَارِعُ فَلَحَ بِمَعْنَى أفلح. ثم ختم هذه السورة بتعليم

_ (1) . الأنعام: 38.

رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ، وَقِيلَ: أَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأُمَّتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَوْنِهِ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَوَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِمَا قَبِلَهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ أَمَرَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى غُفْرَانِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا أُدْخِلَ الْكَافِرُ فِي قَبْرِهِ فَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النار قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ أتوب أعمل صَالِحًا، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ عَمَّرْتَ مَا كُنْتَ مُعَمَّرًا، فَيَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، فَهُوَ كَالْمَنْهُوشِ يُنَازِعُ «1» وَيَفْزَعُ، تَهْوِي إِلَيْهِ حَيَّاتُ الْأَرْضِ وَعَقَارِبُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا عَايَنَ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: نُرْجِعُكَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: إِلَى دَارَ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، بَلْ قَدِّمَا إِلَى اللَّهِ وأما الكافر فَيَقُولُونَ لَهُ: نُرْجِعُكَ، فَيَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ هو مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا حَضَرَ الْإِنْسَانَ الْوَفَاةُ يُجْمَعُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ يَمْنَعُهُ عَنِ الْحَقِّ فَيُجْعَلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَعْمَلُ صالِحاً قَالَ: أَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ حَيَّاتٌ سُودٌ، حَيَّةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَحَيَّةٌ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، يَقْرُصَانِهِ حَتَّى تَلْتَقِيَا فِي وَسَطِهِ، فَذَلِكَ الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ قال: حين ينفخ فِي الصُّورِ، فَلَا يَبْقَى حَيٌّ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ وَقَوْلُهُ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «2» فَقَالَ: إِنَّهَا مَوَاقِفُ، فَأَمَّا الْمَوْقِفُ الَّذِي لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ عِنْدَ الصَّعْقَةِ الْأُولَى لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ فِيهَا إِذَا صُعِقُوا، فَإِذَا كَانَتِ النَّفْخَةُ الْآخِرَةُ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَتَسَاءَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْآيَتَيْنِ فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا يَتَساءَلُونَ فَهَذَا فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى حِينَ لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْجَنَّةَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جمع الله الأوّلين والآخرين. وَفِي لَفْظٍ: يُؤْخَذُ بِيَدِ الْعَبْدِ أَوِ الْأَمَةِ يوم القيامة على رؤوس الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ قِبَلَهُ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ. وَفِي لَفْظٍ: مَنْ كَانَ لَهُ مَظْلَمَةٌ فَلْيَجِئْ فَلْيَأْخُذْ حَقَّهُ، فَيَفْرَحُ وَاللَّهِ الْمَرْءُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى وَالِدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ.

_ (1) . في الدر المنثور «ينام» (6/ 114) . (2) . الصافات: 27.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْأَنْسَابَ تَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ نَسَبِي وَسَبَبِي وَصِهْرِي» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْحَاكِمُ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «كُلُّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا نَسَبِي وَصِهْرِي» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «مَا بَالَ رِجَالٍ يَقُولُونَ: إِنَّ رَحِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْفَعُ قَوْمَهُ؟ بَلَى وَاللَّهِ إِنَّ رَحِمِي مَوْصُولَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنِّي أَيُّهَا النَّاسُ فَرَطٌ لَكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قَالَ: تَنْفُخُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي صِفَةِ النَّارِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قَالَ: «تَلْفَحُهُمْ لَفْحَةً فَتَسِيلُ لُحُومُهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَفَحَتْهُمْ لَفْحَةً فَمَا أَبْقَتْ لَحْمًا عَلَى عَظْمٍ إِلَّا أَلْقَتْهُ عَلَى أَعْقَابِهِمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ النَّارِ، وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قَالَ: تَشْوِيهِ النَّارُ فَتُقَلِّصُ شَفَتَهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِيَ شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُوحُ الرَّأْسِ النَّضِيجِ بَدَتْ أَسْنَانُهُمْ وَتَقَلَّصَتْ شِفَاهُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كالِحُونَ قَالَ: عَابِسُونَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَةِ أَهْلِ النار وما يقولون وَمَا يُقَالُ لَهُمْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ قَرَأَ فِي أُذُنِ مُصَابٍ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ فَبَرِئَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِمَاذَا قَرَأْتَ فِي أُذُنِهِ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مُوقِنًا قَرَأَ بِهَا عَلَى جَبَلٍ لَزَالَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ حَسَنٍ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ وَأَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ إِذَا أَمْسَيْنَا وَأَصْبَحْنَا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ، فَقَرَأْنَاهَا فَغَنِمْنَا وَسَلِمْنَا، اه.

المجلد الرابع

المجلد الرابع سورة النّور أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَا: أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «لَا تُنْزِلُوهُنَّ الْغُرَفَ وَلَا تُعْلِمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ» : يَعْنِي النِّسَاءَ، «وَعَلِمُوهُنَّ الْغَزَلَ وَسُورَةَ النُّورِ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلِّمُوا رِجَالَكُمْ سُورَةَ الْمَائِدَةِ، وَعَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ» وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ تَعَلَّمُوا سُورَةَ النِّسَاءِ، وَالْأَحْزَابِ، وَالنُّورِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) السُّورَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْمَنْزِلَةِ الشَّرِيفَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ السُّورَةُ مِنَ الْقُرْآنِ: سُورَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ «1» : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلِكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ أَيْ: مَنْزِلَةً، قَرَأَ الْجُمْهُورُ سُورَةٌ بِالرَّفْعِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ سُورَةٌ، وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ، قَالُوا: لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ، وَلَا يُبْتَدَأُ بِالنَّكِرَةِ فِي كُلِّ موضع. والوجه الثاني: أن يكون مُبْتَدَأٌ وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِكَوْنِهَا مَوْصُوفَةً بِقَوْلِهِ: أَنْزَلْناها وَالْخَبَرُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَيَكُونُ الْمَعْنَى: السُّورَةُ الْمُنَزَّلَةُ الْمَفْرُوضَةُ: كَذَا وَكَذَا، إِذِ السُّورَةُ عِبَارَةٌ عَنْ آيَاتٍ مَسْرُودَةٍ لَهَا مَبْدَأٌ وَمَخْتَمٌ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ تَعْلِيلِ الْمَنْعِ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِهَا كَوْنُهَا نَكِرَةً، فَهِيَ نَكِرَةٌ مُخَصَّصَةٌ بِالصِّفَةِ، وَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَى جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِهَا. وَقِيلَ: هِيَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ عَلَى تَقْدِيرِ: فِيمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ سورة، وردّ بأن مقتضى المقام بيان شَأْنِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، لَا بَيَانُ أَنَّ فِي جُمْلَةِ مَا أُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ سُورَةٌ شَأْنُهَا: كَذَا وَكَذَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بن عبد العزيز، وعيسى الثقفي، وعيس الْكُوفِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِالنَّصْبِ، وَفِيهِ أَوْجُهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ بِمَا بَعْدَهُ، تَقْدِيرُهُ: اتْلُ سُورَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ عَلَى مَا قِيلَ فِي بَابِ اشْتِغَالِ الْفِعْلِ عَنِ الْفَاعِلِ بِضَمِيرِهِ، أَيْ: أَنْزَلْنَا سُورَةً أَنْزَلْنَاهَا، فَلَا مَحَلَّ لِأَنْزَلْنَاهَا هَاهُنَا لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ فَإِنَّهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِسُورَةٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيْ: دونك سورة،

_ (1) . البيت للنابغة الذّبياني، على خلاف ما جاء في الأصل.

قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَرَدَّهُ أَبُو حَيَّانَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُ أَدَاةِ الْإِغْرَاءِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَنْزَلْنَاهَا، قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ حَالٌ مِنَ الْهَاءِ وَالْأَلِفِ وَالْحَالُ مِنَ الْمُكَنَّى يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي أَنْزَلْنَاهَا لَيْسَ عَائِدًا عَلَى سُورَةٍ، بَلْ عَلَى الْأَحْكَامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْزَلْنَا الْأَحْكَامَ حَالَ كَوْنِهَا سُورَةً مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وَفَرَضْناها بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: فَرَّضْنَاهَا بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: قَطَّعْنَاهَا فِي الْإِنْزَالِ نَجْمًا نَجْمًا، وَالْفَرْضُ الْقَطْعُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التشديد للتكثير أو للمبالغة، وَمَعْنَى التَّخْفِيفِ أَوْجَبْنَاهَا وَجَعَلْنَاهَا مَقْطُوعًا بِهَا، وَقِيلَ: أَلْزَمْنَاكُمُ الْعَمَلَ بِهَا، وَقِيلَ: قَدَّرْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْحُدُودِ، وَالْفَرْضُ: التَّقْدِيرُ، وَمِنْهُ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ «1» وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ أَيْ: أَنْزَلْنَا فِي غُضُونِهَا وَتَضَاعِيفِهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا بَيِّنَاتٍ: أَنَّهَا وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَدْلُولِهَا، وَتَكْرِيرُ أَنْزَلْنَا لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِإِنْزَالِ هَذِهِ السُّورَةِ، لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، هَذَا شُرُوعٌ فِي تَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالِارْتِفَاعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما أَوْ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِسُورَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالزِّنَا: هُوَ وَطْءُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ فِي فَرْجِهَا مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ وَلَا شُبْهَةِ نِكَاحٍ. وَقِيلَ: هُوَ إِيلَاجُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٍ شَرْعًا، وَالزَّانِيَةُ: هِيَ الْمَرْأَةُ الْمُطَاوِعَةُ لِلزِّنَا الْمُمَكِّنَةُ مِنْهُ كَمَا تُنْبِئُ عَنْهُ الصِّيغَةُ لَا الْمُكْرَهَةُ، وَكَذَلِكَ الزَّانِي، وَدُخُولُ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ الزَّانِيَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَاجْلِدُوا وَالْجَلْدُ: الضَّرْبُ، يُقَالُ: جَلَدَهُ إِذَا ضَرَبَ جِلْدَهُ، مِثْلَ بَطَنَهُ إِذَا ضَرَبَ بَطْنَهُ، وَرَأَسَهُ إِذَا ضَرَبَ رَأْسَهُ، وَقَوْلُهُ: مِائَةَ جَلْدَةٍ هُوَ حَدُّ الزَّانِي الْحُرِّ الْبَالِغِ الْبِكْرِ، وَكَذَلِكَ الزَّانِيَةُ، وَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ زِيَادَةٌ عَلَى هَذَا الْجَلْدِ، وَهِيَ تَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ والمملوكة فجلد كلّ واحد منها خَمْسُونَ جَلْدَةً لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ «2» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْإِمَاءِ، وَأُلْحِقَ بِهِنَّ الْعَبِيدُ لعدم الفارق، وأما من كان محصنا من الأحرار فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة، بإجماع أهل العلم وَبِالْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ لَفْظُهُ الْبَاقِي حُكْمُهُ وَهُوَ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ» وَزَادَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعَ الرَّجْمِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَا هُوَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي حَدِّ الزِّنَا مُسْتَوْفًى، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْحَبْسِ وَآيَةُ الْأَذَى اللَّتَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي ويحيى ابن يَعْمُرَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو شَيْبَةَ «الزَّانِيَةَ وَالزَّانِيَ» بِالنَّصْبِ، قِيلَ: وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ كَقَوْلِكَ زَيْدًا اضْرِبْ. وَأَمَّا الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ والزجاج فالرفع عندهم أوجه، وبه قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الزَّانِيَةِ عَلَى الزَّانِي هَاهُنَا أَنَّ الزِّنَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَ فِي النِّسَاءِ أَكْثَرَ حَتَّى كَانَ لَهُنَّ رَايَاتٌ تُنْصَبُ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ لِيَعْرِفَهُنَّ مَنْ أَرَادَ الْفَاحِشَةَ مِنْهُنَّ. وَقِيلَ: وَجْهُ التَّقْدِيمِ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْفِعْلِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِيهَا أَكْثَرُ وَعَلَيْهَا أَغْلَبُ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْعَارَ فِيهِنَّ أَكْثَرُ إِذْ مَوْضُوعُهِنَّ الْحَجْبَةُ وَالصِّيَانَةُ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الزَّانِيَةِ تَغْلِيظًا وَاهْتِمَامًا. وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأَئِمَّةِ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ، وَقِيلَ: لِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، لأن إقامة الحدود واجبة عليهم

_ (1) . القصص: 85. (2) . النساء: 25.

جَمِيعًا، وَالْإِمَامُ يَنُوبُ عَنْهُمْ، إِذْ لَا يُمْكِنُهُمُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ يُقَالُ: رَأَفَ يَرْأَفُ رَأْفَةً عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ، وَرَآفَةً: عَلَى وَزْنِ فَعَالَةٍ، مِثْلُ النَّشْأَةِ وَالنَّشَاءَةِ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنَى: الرِّقَّةِ وَالرَّحْمَةِ، وَقِيلَ: هِيَ أَرَقُّ الرَّحْمَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «رَأْفَةٌ» بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِهَا، وقرأ ابن جريج «رَآفَةٌ» بِالْمَدِّ كَفَعَالَةٍ، وَمَعْنَى «فِي دِينِ اللَّهِ» فِي طَاعَتِهِ وَحُكْمِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ «1» ثُمَّ قَالَ مُثَبِّتًا لِلْمَأْمُورِينَ وَمُهَيِّجًا لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ تَحُضُّهُ عَلَى أَمْرٍ: إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ الَّذِي فِيهِ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ، فَلَا تُعَطِّلُوا الْحُدُودَ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: لِيَحْضُرَهُ زِيَادَةً فِي التَّنْكِيلِ بِهِمَا، وَشُيُوعَ الْعَارِ عَلَيْهِمَا وَإِشْهَارَ فَضِيحَتِهِمَا، وَالطَّائِفَةُ: الْفِرْقَةُ الَّتِي تَكُونُ حَافَّةً حَوْلَ الشَّيْءِ، مِنَ الطَّوْفِ، وَأَقَلُّ الطَّائِفَةِ: ثَلَاثَةٌ، وَقِيلَ: اثْنَانِ، وَقِيلَ: وَاحِدٌ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ، وَقِيلَ: عَشَرَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شَيْئًا يَخْتَصُّ بِالزَّانِي وَالزَّانِيَةِ، فَقَالَ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً. قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَشْنِيعُ الزِّنَا وَتَشْنِيعُ أَهْلِهِ وَأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ مَعْنَى الزَّانِي لَا يَنْكِحُ: الْوَطْءُ لَا الْعَقْدُ، أَيْ: الزَّانِي لَا يزني إلا بزانية، والزانية إِلَّا بِزَانٍ، وَزَادَ ذِكْرَ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُشْرِكِ لِكَوْنِ الشِّرْكِ أَعَمَّ فِي الْمَعَاصِي مِنَ الزِّنَا. وَرَدَّ هَذَا الزَّجَّاجُ وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ النِّكَاحُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا بِمَعْنَى التَّزْوِيجِ، وَيُرَدُّ هَذَا الرَّدُّ بِأَنَّ النِّكَاحَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ ثَابِتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ «2» فقد بينه النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: الْوَطْءُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مَعْنَى الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً الزَّانِي لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُمْ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ هَذِهِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةٍ خَاصَّةٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فَتَكُونُ خَاصَّةً بِهَا كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ خاصة به قال مُجَاهِدٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَتَكُونُ خَاصَّةً بِهِمْ قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادِ بِالزَّانِي وَالزَّانِيَةِ الْمَحْدُودَانِ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ، فَلَا يَجُوزُ لِزَانٍ مَحْدُودٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا مَحْدُودَةً. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مَعْنًى لَا يَصِحُّ نَظَرًا كَمَا لَمْ يَثْبُتْ نَقْلًا. السَّادِسُ: أَنَّ الْآيَةَ هَذِهِ منسوخة بقوله سبحانه وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «3» قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. الْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُؤَسَّسٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ غَالِبَ الزُّنَاةِ لَا يَرْغَبُ إِلَّا فِي الزَّوَاجِ بِزَانِيَةٍ مَثْلِهِ، وَغَالِبُ الزَّوَانِي لَا يَرْغَبَنَّ إِلَّا فِي الزَّوَاجِ بِزَانٍ مِثْلِهُنَّ، وَالْمَقْصُودُ زَجْرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ نِكَاحِ الزَّوَانِي بَعْدَ زَجْرِهِمْ عَنِ الزِّنَا، وَهَذَا أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، وَسَبَبُ النُّزُولِ يَشْهَدُ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَزَوُّجِ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ قَدْ زَنَى هُوَ بِهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِجَوَازِ ذلك. وروي

_ (1) . يوسف: 76. [.....] (2) . البقرة: 230. (3) . النور: 32.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا زَنَى الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُمَا زَانِيَانِ أَبَدًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَمَعْنَى وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: نِكَاحُ الزَّوَانِي، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْفَسَقَةِ وَالتَّعَرُّضِ لِلتُّهْمَةِ وَالطَّعْنِ فِي النَّسَبِ. وَقِيلَ: هُوَ مَكْرُوهٌ فَقَطْ، وَعَبَّرَ بِالتَّحْرِيمِ عَنْ كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها قَالَ: بَيَّنَّاهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طريق عبيد الله ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ جَارِيَةً لِابْنِ عُمَرَ زَنَتْ فَضَرَبَ رِجْلَيْهَا وَظَهْرَهَا، فَقُلْتُ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ وَرَأَيْتُنِي أَخَذَتْنِي بِهَا رَأْفَةٌ؟ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنِي أَنْ أَقْتُلَهَا وَلَا أَنْ أَجْلِدَ رَأْسَهَا، وَقَدْ أَوْجَعْتُ حَيْثُ ضَرَبْتُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال: الطّائفة الرّجل فَمَا فَوْقَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِالنِّكَاحِ، وَلَكِنِ: الْجِمَاعِ، لَا يَزْنِي بِهَا حِينَ يَزْنِي إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً قَالَ: كُنَّ نِسَاءً فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَغِيَّاتٍ، فَكَانَتْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ تُدْعَى أُمَّ جَمِيلٍ فَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَزَوَّجُ إِحْدَاهُنَّ لِتُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهَا، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سليمان ابن يَسَارٍ نَحْوَهُ مُخْتَصَرًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ بَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَغَايَا آلِ فُلَانٍ، وَبَغَايَا آلِ فُلَانٍ، فَقَالَ اللَّهُ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً الْآيَةَ، فَأَحْكَمَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ الزِّنَا وَلَمْ يَعْنِ بِهِ التَّزْوِيجَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: الزَّانِي مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ مِثْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشْرِكَةٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَالزَّانِيَةُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا تَزْنِي إِلَّا بِزَانٍ مِثْلِهَا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشْرِكٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَحُرِّمَ الزِّنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا أُمَّ مَهْزُولٍ، وَكَانَتْ تُسَافِحُ وَتَشْتَرِطُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن يتزوّجها، فأنزل الله الزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدٌ، يَحْمِلُ الْأُسَارَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهَا عناق،

[سورة النور (24) : الآيات 4 إلى 10]

وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ، وَذَكَرَ قِصَّةً وَفِيهَا: فَأَتَيْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحُ عَنَاقًا؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، حَتَّى نَزَلَتِ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَرْثَدُ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَلَا تَنْكِحْهَا» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْآيَةِ قَالَ: كُنَّ نِسَاءً مَعْلُومَاتٍ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مِنْهُنَّ لِتُنْفِقَ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَغَايَا مُعْلِنَاتٍ كُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكُنَّ زَوَانِيَ مُشْرِكَاتٍ، فَحَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَهُنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَتْبَعُ امْرَأَةً فَأَصَبْتُ مِنْهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيَّ، وَقَدْ رَزَقَنِي اللَّهُ مِنْهَا تَوْبَةً فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ النَّاسُ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ هَذِهِ الْآيَةِ، إِنَّمَا كُنَّ نِسَاءً بَغَايًا مُتَعَالِنَاتٍ يَجْعَلْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ يَأْتِيهِنَّ النَّاسُ يُعْرَفْنَ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، تَزَوَّجْهَا فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ إِثْمٍ فَعَلَيَّ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لَا يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ إِنَّهُ زَنَى فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فجاؤوا بِهِ إِلَى عَلِيٍّ فَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وقال: لا تتزوّج إلا مجلودة مثلك. [سورة النور (24) : الآيات 4 الى 10] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ اسْتَعَارَ الرَّمْيَ لِلشَّتْمِ بِفَاحِشَةِ الزِّنَا لِكَوْنِهِ جِنَايَةً بِالْقَوْلِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ آخَرُ: رَمَانِي بأسر كنت منه ووالدي ... بريئا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوَى رَمَانِي وَيُسَمَّى هَذَا الشَّتْمُ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْخَاصَّةِ: قَذْفًا، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: النِّسَاءُ، وَخَصَّهُنَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ قَذْفَهُنَّ أَشْنَعُ وَالْعَارَ فِيهِنَّ أَعْظَمُ، وَيَلْحَقُ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ جَمَعْنَا فِي ذَلِكَ رِسَالَةً رَدَدْنَا بِهَا عَلَى بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَرَ لَمَّا نَازَعَ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْأَنْفُسُ الْمُحْصَنَاتُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ «1» فَإِنَّ الْبَيَانَ بِكَوْنِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ يُشْعِرُ بِأَنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ يَشْمَلُ غَيْرَ النِّسَاءِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْبَيَانِ كَثِيرُ مَعْنًى، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْفُرُوجَ كَمَا قَالَ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها «2» فَتَتَنَاوَلُ الْآيَةُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ. وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَ المحصنات وإن كان للنساء لكنها هَاهُنَا يَشْمَلُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ تَغْلِيبًا، وَفِيهِ أَنَّ تَغْلِيبَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا: الْعَفَائِفُ، وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ذِكْرُ الْإِحْصَانِ وَمَا يَحْتَمِلُهُ مِنَ الْمَعَانِي. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمَقْذُوفِ وَالْقَاذِفِ أَبْحَاثٌ مُطَوَّلَةٌ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، مِنْهَا مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُجَرَّدُ رَأْيٍ بَحْتٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَالْمُحْصَنَاتُ» بِفَتْحِ الصَّادِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِكَسْرِهَا. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ كَافِرًا أَوْ كَافِرَةً. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا أَنَّ الْعَبْدُ يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَبِيصَةُ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُجْلَدُ لِلْعَبْدِ إِذَا افْتَرَى عَلَيْهِ لِتَبَايُنِ مَرْتَبَتِهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شَرْطًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ فَقَالَ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أَيْ: يَشْهَدُونَ عَلَيْهِنَّ بِوُقُوعِ الزِّنَا مِنْهُنَّ، وَلَفْظُ ثُمَّ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الشُّهُودِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَذْفِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُجْتَمَعِينَ وَمُفْتَرِقِينَ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَسَنُ وَمَالِكٌ. وَإِذَا لَمْ تَكْمُلِ الشُّهُودُ أربعة كانوا قذفة يحدّون حدّ الْقَذْفِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَيَرُدُّ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جِلْدِهِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ» بِإِضَافَةِ أَرْبَعَةٍ إِلَى شُهَدَاءَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرٍو بِتَنْوِينِ أَرْبَعَةٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِعْرَابِ شُهَدَاءَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقِيلَ: هُوَ تَمْيِيزٌ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُمَيَّزَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ يُضَافُ إِلَيْهِ الْعَدَدُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْحَالَ لَا يَجِيءُ مِنَ النَّكِرَةِ الَّتِي لَمْ تُخَصَّصْ. وَقِيلَ: إِنَّ شُهَدَاءَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ نَعْتًا لِأَرْبَعَةٍ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ أَلِفُ التَّأْنِيثِ لَمْ يَنْصَرِفْ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شُهَدَاءُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أي: لَمْ يُحْضِرُوا أَرْبَعَةَ شُهَدَاءَ، وَقَدْ قَوَّى ابْنُ جِنِّيٍّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَيَدْفَعُ ذَلِكَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ إِنَّ تَنْوِينَ الْعَدَدِ وَتَرْكَ إِضَافَتِهِ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ فَقَالَ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً الْجَلْدُ: الضَّرْبُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُجَالَدَةُ: الْمُضَارَبَةُ فِي الْجُلُودِ أو بالجلود، ثم استعير للضرب بالعصي وَالسَّيْفِ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: أُجَالِدُهُمْ يَوْمَ الْحَدِيقَةِ حَاسِرًا ... كَأَنَّ يَدِي بِالسَّيْفِ مِخْرَاقُ لَاعِبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْجَلْدِ قَرِيبًا، وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر، وجلدة: منتصبة على التمييز، وجملة

_ (1) . النساء: 24. (2) . الأنبياء: 91.

وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً مَعْطُوفَةٌ عَلَى اجْلِدُوا، أَيْ: فَاجْمَعُوا لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: الْجَلْدِ، وَتَرْكِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِالْقَذْفِ غَيْرَ عُدُولٍ بَلْ فَسَقَةً كَمَا حَكَمَ اللَّهُ به عليهم فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَاللَّامُ فِي لَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنْ شَهَادَةٍ وَلَوْ تَأَخَّرَتْ عَلَيْهَا لَكَانَتْ صِفَةً لَهَا، وَمَعْنَى «أَبَدًا» : ماداموا فِي الْحَيَاةِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حُكْمَهُمْ بَعْدَ صُدُورِ الْقَذْفِ مِنْهُمْ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ رُجُوعِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ فَقَالَ: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْفِسْقُ: هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ بِالْمَعْصِيَةِ، وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أن هذا التأييد لِعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ هُوَ مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبٍ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَمَعْنَى التَّوْبَةِ قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ ذلِكَ مِنْ بَعْدِ اقْتِرَافِهِمْ لِذَنَبِ الْقَذْفِ، وَمَعْنَى وَأَصْلَحُوا إِصْلَاحُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا ذَنْبُ الْقَذْفِ وَمُدَارَكَةُ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالِانْقِيَادِ لِلْحَدِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هَلْ يَرْجِعُ إلى الجملتين قبله؟ وهي جُمْلَةُ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَجُمْلَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ، أَمْ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ؟ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى جملة الجلد، يُجْلَدُ التَّائِبُ كَالْمُصِرِّ، وَبَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ الْحُكْمِ بِالْفِسْقِ، فَمَحَلُّ الْخِلَافِ هَلْ يَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ، فَإِذَا تَابَ الْقَاذِفُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَزَالَ عَنْهُ الْفِسْقُ، لأن سبب ردّه هُوَ مَا كَانَ مُتَّصِفًا بِهِ مِنَ الْفِسْقِ بِسَبَبِ الْقَذْفِ، فَإِذَا زَالَ بِالتَّوْبَةِ بِالْإِجْمَاعِ كَانَتِ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً. وَقَالَ الْقَاضِي شُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَكْحُولٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إِلَى جُمْلَةِ الْحُكْمِ بِالْفِسْقِ، لَا إِلَى جُمْلَةِ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَيَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ عَنِ الْقَاذِفِ وَصْفُ الْفِسْقِ وَلَا تقبل شهادته أبدا. وذهب الشعبي والضحاك إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ قَالَ الْبُهْتَانَ، فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ التَّقْيِيدِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ دُونَ مَا قَبْلَهَا مَعَ كَوْنِ الْكَلَامِ وَاحِدًا فِي وَاقِعَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ خِلَافُ مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَأَوْلَوِيَّةُ الْجُمْلَةِ الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيدا لها لا تنفي كونه قَيْدًا لِمَا قَبْلَهَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ تَقْيِيدَ الْأَخِيرَةِ بِالْقَيْدِ الْمُتَّصِلِ بِهَا أَظْهَرُ مِنْ تَقْيِيدِ مَا قَبْلَهَا بِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مُجْمِعًا عَلَيْهِ، وَكَوْنُهُ أَظْهَرَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلَهَا ظَاهِرًا. وَقَدْ أَطَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ فِي الْقَيْدِ الْوَاقِعِ بَعْدَ جُمَلٍ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ الْفَنَّ، وَالْحَقُّ: هُوَ هَذَا، وَالِاحْتِجَاجُ بِمَا وَقَعَ تَارَةً مِنَ الْقُيُودِ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَتَارَةً إِلَى بَعْضِهَا لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَلَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ كَمَا وَقَعَ هُنَا مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ رُجُوعِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى جُمْلَةِ الْجَلْدِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ وَيُقَوِّيهِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ الْفِسْقُ الْمُتَسَبِّبُ عَنِ الْقَذْفِ قَدْ زَالَ، فَلَمْ يَبْقَ مَا يُوجِبُ الرَّدَّ لِلشَّهَادَةِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صُورَةِ تَوْبَةِ الْقَاذِفِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَأَهْلُ المدينة: إن

تَوْبَتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِأَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ الْقَذْفِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ، وَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِسَبَبِهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: إِنَّ تَوْبَتَهُ تَكُونُ بِأَنْ يُحَسِّنَ حَالَهُ، وَيُصْلِحَ عَمَلَهُ، وَيَنْدَمَ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ، وَيَعْزِمَ عَلَى تَرْكِ الْعُودِ إِلَى مَثَلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ ولا رجع عن قوله. ويؤيد هذه الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي التَّوْبَةِ فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِمِثْلِ هَذَا الْقَيْدِ. وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَمْحُو الذَّنْبَ، وَلَوْ كَانَ كُفْرًا فَتَمْحُو مَا هُوَ دُونَ الْكُفْرِ بِالْأَوْلَى، هَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، وَلَيْسَ مَنْ رَمَى غَيْرَهُ بِالزِّنَا بِأَعْظَمَ جُرْمًا مِنْ مُرْتَكِبِ الزِّنَا، وَالزَّانِي إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَإِذَا قَبِلَ اللَّهُ التَّوْبَةَ مِنَ الْعَبْدِ كَانَ الْعِبَادُ بِالْقَبُولِ أَوْلَى، مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَوْجُودٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْهَا قَوْلُهُ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا «1» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى الْجَمِيعِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَيْسَ الْقَاذِفُ بِأَشَدَّ جُرْمًا مِنَ الْكَافِرِ، فَحَقُّهُ إِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، قال: وقوله: أَبَداً أي: مادام قَاذِفًا، كَمَا يُقَالُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ أبدا فإن معناه: مادام كافرا، انتهى. وجملة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ لِلْقَاذِفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَصَيْرُورَتِهِ مَغْفُورًا لَهُ، مَرْحُومًا مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، غَيْرَ فَاسِقٍ وَلَا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ، وَلَا مَرْفُوعَ الْعَدَالَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِحُكْمِ الْقَذْفِ عَلَى الْعُمُومِ حُكْمَ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَذْفِ، وَهُوَ قَذْفُ الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي تَحْتَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لهم شهداء يشهدون بما رموهنّ به مِنَ الزِّنَا إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ شُهَدَاءُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى خَبَرِ يَكُنْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَوْ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْجُوحِ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ بِرَفْعِ أَرْبَعُ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَيْ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمُ الَّتِي تُزِيلُ عَنْهُ حَدَ الْقَذْفِ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو أَرْبَعَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْوَاجِبُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ وَاجِبَةٌ. وَقِيلَ: إِنَّ أَرْبَعَ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ: فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتِ وَقَوْلُهُ: بِاللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِشَهَادَةٍ أَوْ بِشَهَادَاتٍ، وَجُمْلَةِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ هِيَ الْمَشْهُودُ بِهِ، وَأَصْلُهُ عَلَى أَنَّهُ، فَحُذِفَ الْجَارُّ وَكُسِرَتْ إِنَّ، وعلق العامل عنها وَالْخامِسَةُ قَرَأَ السَّبْعَةُ وَغَيْرُهُمْ الْخَامِسَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى الابتداء، وخبرها أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حفص و «الخامسة» بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى وَتَشْهَدُ الشَّهَادَةَ الْخَامِسَةَ، وَمَعْنَى إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ أَيْ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ «أَنَّ» مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَقَرَأَ نَافِعٌ بِتَخْفِيفِهَا، فَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ يَكُونُ اسْمُ أَنَّ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَلَعْنَةُ اللَّهِ: مُبْتَدَأً، وَعَلَيْهِ: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ أَنَّ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ تَكُونُ لَعْنَةُ اللَّهِ اسْمَ أَنَّ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا تُخَفَّفُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ وَبَعْدَهَا الْأَسْمَاءُ إِلَّا وَأَنْتَ تُرِيدُ الثَّقِيلَةَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: لَا أَعْلَمُ الثقيلة إلا أجود في

_ (1) . المائدة: 33- 34.

العربية وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَيْ: عَنِ الْمَرْأَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الدُّنْيَوِيُّ: وَهُوَ الْحَدُّ، وَفَاعِلُ يَدْرَأُ قَوْلُهُ: أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَدَّ شَهَادَتُهَا أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ: أَنَّ الزَّوْجَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَالْخامِسَةَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَرْبَعٍ، أَيْ: وَتَشْهَدُ الْخَامِسَةَ كَذَلِكَ قَرَأَ حَفْصٌ وَالْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بالرفع عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ الزَّوْجُ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَتَخْصِيصُ الْغَضَبِ بِالْمَرْأَةِ لِلتَّغْلِيظِ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا أَصْلَ الْفُجُورِ وَمَادَّتَهُ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ يكثرن اللعن في العادة، ومع استكثار هنّ مِنْهُ لَا يَكُونُ لَهُ فِي قُلُوبِهِنَّ كَبِيرُ مَوْقِعٍ بِخِلَافِ الْغَضَبِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ جَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ لَنَالَ الْكَاذِبُ مِنْهُمَا عَذَابٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَثِيرَ تَوْبَتِهِ عَلَى مَنْ تَابَ وَعَظِيمَ حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ فَقَالَ: وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ أَيْ: يَعُودُ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ، وَرَجَعَ عَنْ مَعَاصِيهِ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِ وَالْمَغْفِرَةِ لَهُ: حَكِيمٌ فِيمَا شَرَعَ لِعِبَادِهِ مِنَ اللِّعَانِ وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُدُودِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفُسُوقِ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تَجُوزُ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ: إِنْ تُبْتَ قَبِلْتُ شَهَادَتَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: تَوْبَتُهُمْ إَكْذَابُهُمْ أَنْفُسَهُمْ، فَإِنَّ أَكْذَبُوا أَنْفُسَهُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ فَشَهَادَتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تُقْبَلُ. وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ عَنِ التَّابِعِينَ. وَقِصَّةُ قَذْفِ الْمُغِيرَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ مَرْوِيَّةٌ مِنْ طُرُقٍ مَعْرُوفَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكِ فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ والنبي صلّى الله عليه وسلم يقول: الله يعلم أن أحد كما كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا وَقَالُوا إِنَّهَا مُوجِبَةٌ، فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمَ فمضت، فقال النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» وَأَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُطَوَّلَةً. وَأَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يُسَمُّوا الرَّجُلَ وَلَا الْمَرْأَةَ. وَفِي آخِرِ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَالِي، قَالَ: لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا» . وَأَخْرَجَ البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل ابن سَعْدٍ قَالَ: «جَاءَ عُوَيْمِرٌ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عديّ، فقال: سل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ

[سورة النور (24) : الآيات 11 إلى 21]

رَجُلًا فَقَتَلَهُ، أَيُقْتَلُ بِهِ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَعَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِأَسْأَلَنَّهُ، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فدعا بهما فلاعن بينها. قَالَ عُوَيْمِرٌ: إِنِ انْطَلَقْتُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كَذَبْتُ عَلَيْهَا، فَفَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يأمره رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَصَارَتْ سُنَّةً لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ فَلَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أَرَاهُ إِلَّا كَاذِبًا، فَجَاءَتْ بِهِ مِثْلَ النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَفِيمَا ذكرناه كِفَايَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، قَالُوا: لَا يَجْتَمِعُ المتلاعنان أبدا. [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 21] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) خَبَرُ إِنَّ من قوله: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ هو عُصْبَةٌ ومِنْكُمْ صِفَةٌ لِعُصْبَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ويكون عُصْبَةٌ بَدَلًا مِنْ فَاعِلِ جَاءُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَنْسَقُ فِي الْمَعْنَى وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عُصْبَةً، وَجُمْلَةُ: لَا تَحْسَبُوهُ، وَإِنْ كَانَتْ طَلَبِيَّةً، فَجَعْلُهَا خَبَرًا يَصِحُّ بِتَقْدِيرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ، وَالْإِفْكُ: أَسْوَأُ الْكَذِبِ وَأَقْبَحُهُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مَنْ أَفَكَ الشَّيْءَ إِذَا قَلَبَهُ عَنْ وَجْهِهِ. فَالْإِفْكُ: هُوَ الْحَدِيثُ الْمَقْلُوبُ، وَقِيلَ: هُوَ الْبُهْتَانُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي الْآيَةِ مَا وَقَعَ مِنَ الْإِفْكِ عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ إِفْكٌ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ حَالِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خِلَافُ ذَلِكَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمَعْنَى الْقَلْبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ بِهِ أُولَئِكَ النَّفَرُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَسْتَحِقُّ الثَّنَاءَ بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَصَانَةِ وَشَرَفِ النَّسَبِ وَالسَّبَبِ لَا الْقَذْفَ، فَالَّذِينَ رَمَوْهَا بِالسُّوءِ قَلَبُوا الْأَمْرَ عَنْ وَجْهِهِ، فَهُوَ إِفْكٌ قَبِيحٌ، وَكَذِبٌ ظَاهِرٌ، وَالْعُصْبَةُ: هُمُ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، وَزَيْدُ بْنُ رَفَاعَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ وَمَنْ سَاعَدَهُمْ. وَقِيلَ: الْعُصْبَةُ

مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ: مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: الْجَمَاعَةُ الذين يَتَعَصَّبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَجُمْلَةُ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ إن كانت خبرا لإنّ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عُصْبَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ، خُوطِبَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَعَائِشَةُ وَصَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ الَّذِي قُذِفَ مَعَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَتَسْلِيَةٌ لَهُمْ، وَالشَّرُّ: مَا زَادَ ضُرُّهُ عَلَى نَفْعِهِ، وَالْخَيْرُ: مَا زَادَ نَفْعُهُ عَلَى ضُرِّهِ، وَأَمَّا الْخَيْرُ الَّذِي لَا شَرَّ فِيهِ فَهُوَ الْجَنَّةُ، وَالشَّرُّ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ فَهُوَ النَّارُ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ خَيْرًا لَهُمْ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، مَعَ بَيَانِ بَرَاءَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَيْرُورَةِ قِصَّتِهَا هَذِهِ شَرْعًا عَامًّا لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أَيْ: بِسَبَبِ تَكَلُّمِهِ بِالْإِفْكِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ قَرَأَ الْحَسَنُ وَالزَّهْرِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَحُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ أَبِي عُلَيَّةَ وَمُجَاهِدٌ وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِضَمِّ الْكَافِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ وَجْهٌ جَيِّدٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: فُلَانٌ تَوَلَّى عَظِيمَ كَذَا وَكَذَا: أَيْ أَكْبَرَهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: هُوَ بِالضَّمِّ مُعْظَمُ الْإِفْكِ، وَبِالْكَسْرِ الْبُدَاءَةُ بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْكَسْرِ الْإِثْمُ. فَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِي تَوَلَّى مُعْظَمَ الْإِفْكِ مِنَ الْعُصْبَةِ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِيهِمَا. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْ عُصْبَةِ الْإِفْكِ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ؟ فَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَقِيلَ: هُوَ حَسَّانُ، وَالْأَوَّلُ: هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وغيره أن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ جَلَدَ فِي الْإِفْكِ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً، وَهُمْ: مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَقِيلَ: جَلَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبيّ وحسان ابن ثَابِتٍ وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَلَمْ يَجْلِدْ مِسْطَحًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْقَذْفِ، وَلَكِنْ كَانَ يَسْمَعُ وَيَشِيعُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ. وَقِيلَ: لَمْ يَجْلِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَشْهُورُ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الَّذِينَ حُدُّوا: حَسَّانُ وَمِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِحَدِّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ عذري، قام النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ مِنَ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَةِ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ، وَسَمَّاهُمْ: حَسَّانُ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِجَلْدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَقِيلَ: لِتَوْفِيرِ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَحَدَّ مَنْ عَدَاهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَكْفِيرًا لِذَنْبِهِمْ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُدُودِ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهَا كَفَّارَةٌ لِمَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ» وَقِيلَ: تَرَكَ حَدَّهُ تَأَلُّفًا لِقَوْمِهِ وَاحْتِرَامًا لِابْنِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ صَالِحِي المؤمنين وإطفاء لثائرة الْفِتْنَةِ، فَقَدْ كَانَتْ ظَهَرَتْ مَبَادِيهَا مَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَمَنْ مَعَهُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. ثُمَّ صَرَفَ سُبْحَانَهُ الْخِطَابَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ فَقَالَ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً لَوْلَا: هَذِهِ هِيَ التَّحْضِيضِيَّةُ تَأْكِيدًا لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَمُبَالَغَةٌ فِي مُعَاتَبَتِهِمْ، أَيْ: كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ حِينَ سَمِعُوا مَقَالَةَ أَهْلِ الْإِفْكِ أَنْ يَقِيسُوا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَبْعُدُ فِيهِمْ، فَهُوَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَبْعَدُ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى بِأَنْفُسِهِمْ: بِأَهْلِ دِينِهِمْ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِنَّهُمْ يقتلون

_ (1) . النساء: 29.

أَنْفُسَهُمْ. قَالَ الْمُبَرِّدُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» قَالَ النَّحَّاسُ: بِأَنْفُسِهِمْ: بِإِخْوَانِهِمْ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَمِعُوا رَجُلًا يَقْذِفُ أَحَدًا وَيَذْكُرُهُ بِقَبِيحٍ لَا يَعْرِفُونَهُ بِهِ أَنْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ وَيُكَذِّبُوهُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ فِي الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ دَرَجَةَ الْإِيمَانِ وَالْعَفَافِ لَا يُزِيلُهَا الْخَبَرُ الْمُحْتَمَلُ وَإِنْ شَاعَ وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ أَيْ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْإِفْكِ: هَذَا إِفْكٌ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ، وَجُمْلَةُ لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ مِنْ تَمَامِ مَا يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ: وَقَالُوا هَلَّا جَاءَ الْخَائِضُونَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ عَلَى مَا قَالُوا: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ أَيِ: الْخَائِضُونَ فِي الْإِفْكِ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى هُمُ الْكَاذِبُونَ الْكَامِلُونَ فِي الْكَذِبِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ هذا خطاب للسامعين، وَفِيهِ زَجْرٌ عَظِيمٌ وَلَوْلا هَذِهِ: هِيَ لِامْتِنَاعِ الشيء لوجود غيره لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ أَيْ: بِسَبَبِ مَا خُضْتُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ، يُقَالُ: أَفَاضَ فِي الْحَدِيثِ، وَانْدَفَعَ وَخَاضَ. وَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَنِّي قَضَيْتُ عَلَيْكُمْ بِالْفَضْلِ فِي الدُّنْيَا بِالنِّعَمِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِمْهَالُ، وَالرَّحْمَةُ فِي الْآخِرَةِ بِالْعَفْوِ، لَعَاجَلْتُكُمْ بِالْعِقَابِ على ما خضتم به مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لَمَسَّكُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا، وَلَكِنْ بِرَحْمَتِهِ سَتَرَ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَرْحَمُ فِي الْآخِرَةِ مَنْ أَتَاهُ تَائِبًا. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمَسَّكُمْ أَوْ بِأَفَضْتُمْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ» مِنَ التَّلَقِّي، وَالْأَصْلُ: تَتَلَقَّوْنَهُ فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى يَرْوِيهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: بَلَغَنِي كَذَا وَكَذَا وَيَتَلَقَّوْنَهُ تَلَقِّيًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: يُلْقِيهِ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بن السميقع بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ الْقَافِ، مِنَ الْإِلْقَاءِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَاضِحٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ «تَتَلَقَّوْنَهُ» مِنَ التَّلَقِّي، وَهِيَ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ الْقَافِ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ وَلَقَ يَلِقُ وَلْقًا: إِذَا كَذَبَ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: جَاءُوا بِالْمُتَعَدِّي شَاهِدًا عَلَى غَيْرِ الْمُتَعَدِّي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ يَلْقُونَ فِيهِ فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ فَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ. قَالَ الْخَلِيلُ وَأَبُو عَمْرٍو: أَصْلُ الْوَلْقِ الْإِسْرَاعُ، يُقَالُ جَاءَتِ الْإِبِلُ تَلِقُ، أَيْ: تُسْرِعُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَمَّا رَأَوْا جَيْشًا عَلَيْهِمْ قَدْ طَرَقَ ... جَاءُوا بِأَسْرَابٍ من الشّأم ولق إنّ الحصين زلق وزمّلق ... جاءت به عنس «2» مِنَ الشَّامِ تَلِقُ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْ يُسْرِعُونَ فِيهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ أَيْ تَلْقُونَهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَخِيرَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْوَلْقِ، وَهُوَ الْإِسْرَاعُ بِالشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ كَعَدَدٍ فِي إِثْرِ عَدَدٍ، وَكَلَامٍ فِي إِثْرِ كَلَامٍ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَأَبُو جَعْفَرٍ «تَأْلِقُونَهُ» بِفَتْحِ التَّاءِ وَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَلَامٍ مَكْسُورَةٍ وَقَافٍ مَضْمُومَةٍ مِنَ الْأَلْقِ وَهُوَ الْكَذِبُ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ «تِيلَقُونَهُ» بِكَسْرِ التَّاءِ مِنْ فَوْقٍ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ وَلَامٌ مَفْتُوحَةٌ وَقَافٌ مَضْمُومَةٌ، وَهُوَ مضارع

_ (1) . البقرة: 54. (2) . العنس: الناقة القوية.

وَلِقَ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَمَعْنَى وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالْأَفْوَاهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا فِي الْخَارِجِ مُعْتَقَدًا فِي الْقُلُوبِ، وَقِيلَ: إِنَّ ذِكْرَ الْأَفْوَاهِ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: «يَطِيرُ بجناحيه» «1» وَنَحْوِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي تَحْسَبُونَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي وَقَعَ الْخَوْضُ فِيهِ، وَالْإِذَاعَةُ لَهُ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أَيْ: شَيْئًا يَسِيرًا لَا يَلْحَقُكُمْ فِيهِ إِثْمٌ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: عَظِيمُ ذَنْبِهِ وَعِقَابِهِ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا هَذَا عِتَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: هَلَّا إِذْ سَمِعْتُمْ حَدِيثَ الْإِفْكِ قُلْتُمْ تَكْذِيبًا لِلْخَائِضِينَ فِيهِ الْمُفْتَرِينَ لَهُ مَا يَنْبَغِي لَنَا وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَا يَصْدُرُ ذَلِكَ مِنَّا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ التَّعَجُّبُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ، وَأَصْلُهُ التَّنْزِيهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ، وَالْبُهْتَانُ: هُوَ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَيْ: هَذَا كَذِبٌ عَظِيمٌ لِكَوْنِهِ قِيلَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَصُدُورُهُ مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا من مثلها. ثم وعظ سبحانه الذين خاضوا في الإفك فقال: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أَيْ: يَنْصَحُكُمُ اللَّهُ، أَوْ يُحَرِّمُ عَلَيْكُمْ، أَوْ يَنْهَاكُمْ كَرَاهَةً أَنْ تَعُودُوا، أَوْ مِنْ أَنْ تَعُودُوا، أَوْ فِي أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِ هَذَا الْقَذْفِ مُدَّةَ حَيَاتِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْوُقُوعِ فِي مَثَلِهِ مَا دُمْتُمْ، وَفِيهِ تَهْيِيجٌ عَظِيمٌ وَتَقْرِيعٌ بَالِغٌ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِتَعْمَلُوا بِذَلِكَ وَتَتَأَدَّبُوا بِآدَابِ اللَّهِ وَتَنْزَجِرُوا عَنِ الْوُقُوعِ فِي مَحَارِمِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا تُبْدُونَهُ وَتُخْفُونَهُ حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرَاتِهِ لِخَلْقِهِ. ثُمَّ هَدَّدَ سُبْحَانَهُ الْقَاذِفِينَ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَسَامَعَ النَّاسَ بِعُيُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَذُنُوبِهِمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: يُحِبُّونَ أَنْ تفشوا الْفَاحِشَةُ وَتَنْتَشِرَ، مِنْ قَوْلِهِمْ شَاعَ الشَّيْءُ يَشِيعُ شُيُوعًا وَشَيْعًا وَشَيَعَانًا: إِذَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ، وَالْمُرَادُ بالذين آمنوا: المحصنون العفيفون، أَوْ: كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ، وَالْفَاحِشَةُ: هي فاحشة الزنا أو القول السّيّئ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ وَالْآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْمَعْلُومَاتِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إِلَّا مَا عَلَّمَكُمْ بِهِ وَكَشَفَهُ لَكُمْ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ عِظَمُ ذَنَبِ الْقَذْفِ، وَعُقُوبَةُ فَاعِلِهِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ هُوَ تَكْرِيرٌ لِمَا تَقَدَّمَ تَذْكِيرًا لِلْمِنَّةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ بترك المعاجلة لهم وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَمِنْ رَأْفَتِهِ بِعِبَادِهِ أَنْ لَا يُعَاجِلَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ وَجُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ رؤوف رَحِيمٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ: لَعَاجَلَكُمْ بالعقوبة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ الْخُطُوَاتُ: جَمْعُ خُطْوَةٍ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، وَالْخَطْوَةُ بِالْفَتْحِ: الْمَصْدَرُ، أَيْ: لَا تَتْبَعُوا مَسَالِكَ الشَّيْطَانِ وَمَذَاهِبَهُ وَلَا تَسْلُكُوا طَرَائِقَهُ الَّتِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «خُطُوَاتِ» بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ، وَقَرَأَ عاصم والأعمش بِضَمِّ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ قِيلَ: جَزَاءُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أُقِيمَ مَقَامَهُ مَا هُوَ عِلَّةٌ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَقَدِ ارْتَكَبَ الْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكِرَ لِأَنَّ دَأْبَهُ أَنْ يَسْتَمِرَ آمِرًا لِغَيْرِهِ بِهِمَا، وَالْفَحْشَاءُ: مَا أَفْرَطَ قُبْحُهُ، وَالْمُنْكِرُ: مَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ، وَضَمِيرُ إِنَّهُ: لِلشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: لِلشَّأْنِ، وَالْأَوْلَى

_ (1) . الأنعام: 38.

أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَنْ يَتَّبِعُ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، لِأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ صَارَ مُقْتَدِيًا بِهِ فِي الْأَمْرِ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانَهُ وَجَوَابُ لولا هو قوله: ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً أَيْ: لَوْلَا التَّفَضُّلُ وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ مَا طَهَّرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ نفسه من دنسها مادام حَيًّا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «زَكَى» بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: مَا طَهَّرَهُ اللَّهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ، أَيْ: مَا صَلُحَ. والأولى: تفسير زكى بِالتَّطَهُّرِ وَالتَّطْهِيرِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. قال الكسائي: إن قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ مُعْتَرِضٌ، وقوله: ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً جَوَابٌ لِقَوْلِهِ أَوَّلًا وَثَانِيًا: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ. وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ أَرْجَحُ لِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أَيْ: مِنْ عِبَادِهِ بِالتَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَهُ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَفِيهِ حَثٌّ بَالِغٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَتَهْيِيجٌ عَظِيمٌ لِعِبَادِهِ التَّائِبِينَ، وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ يَتَبِّعُ الشَّيْطَانَ وَيُحِبُّ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَزْجُرُ نَفْسَهُ بِزَوَاجِرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ حَدِيثَ عَائِشَةَ الطَّوِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ. حَاصِلُهُ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُوَ مَا وَقَعَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي شَأْنٍ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ هَوْدَجِهَا تَلْتَمِسُ عِقْدًا لَهَا انْقَطَعَ مِنْ جَزْعٍ، فَرَحَلُوا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهَا فِي هَوْدَجِهَا، فَرَجَعَتْ وَقَدِ ارْتَحَلَ الْجَيْشُ وَالْهَوْدَجُ مَعَهُمْ، فَأَقَامَتْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَمَرَّ بِهَا صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ، وَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْجَيْشِ، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَحَمَلَهَا عَلَيْهَا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الْإِفْكِ قَالُوا مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوهُ. هَذَا حَاصِلُ الْقِصَّةِ مَعَ طُولِهَا وَتَشَعُّبِ أَطْرَافِهَا فَلَا نُطَوُّلُ بِذِكْرٍ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ تَسْمِيَتُهُمْ: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى عَائِشَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَمِسْطَحٌ وَحَسَّانُ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، فَقُلْتُ: لَا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة ابن الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ كُلُّهُمْ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، قَالَ فَقَالَ لِي: فَمَا كَانَ جِرْمُهُ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنِي شَيْخَانِ مِنْ قَوْمِكِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هشام أَنَّهُمَا سَمِعَا عَائِشَةَ تَقُولُ: كَانَ مُسِيئًا فِي أَمْرِي. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ. حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ، حَدَّثَنَا عَمِّي قَالَ: دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: يَا سُلَيْمَانُ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. قَالَ: كَذَبْتَ هُوَ عَلِيٌّ. قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ، فَدَخَلَ الزُّهْرِيُّ فَقَالَ: يَا ابْنَ شِهَابٍ مَنِ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ؟ فَقَالَ: ابْنُ أُبَيٍّ. قَالَ: كَذَبْتَ هُوَ عَلِيٌّ. قَالَ: أَنَا أَكْذِبُ؟

[سورة النور (24) : الآيات 22 إلى 26]

لا أبالك، وَاللَّهِ لَوْ نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ الْكَذِبَ مَا كَذَبْتُ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ وَسَعِيدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعَلْقَمَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى عَائِشَةَ فَشَبَّبَ «1» وَقَالَ: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تَزِنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ قَالَتْ: لَكِنَّكَ لَسْتَ كَذَلِكَ، قُلْتُ: تَدَّعِينَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْكِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ فَقَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ بَعْضِ الْأَنْصَارِ أَنَّ امْرَأَةَ أَبِي أَيُّوبَ قَالَتْ لَهُ حِينَ قَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى وَذَلِكَ الكذب، أكنت أنت فاعلة يَا أُمَّ أَيُّوبَ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ وَأَطْيَبُ، إِنَّمَا هَذَا كَذِبٌ وَإِفْكٌ بَاطِلٌ فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ ذَكَرَ اللَّهُ مَنْ قَالَ مِنَ الْفَاحِشَةِ مَا قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ أَيْ: كَمَا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ وَصَاحِبَتُهُ. وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنْ أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبٍ أَنَّ أُمَّ أَيُّوبَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً قَالَ: يُحَرِّجُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْقَائِلُ الْفَاحِشَةَ، وَالَّذِي شَيَّعَ بِهَا فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً قَالَ: مَا اهْتَدَى أحد من الخلائق لشيء من الخير. [سورة النور (24) : الآيات 22 الى 26] وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) قَوْلُهُ: وَلا يَأْتَلِ أَيْ: يَحْلِفُ وَزْنُهُ يَفْتَعِلُ مِنَ الْأَلْيَةِ، وَهِيَ الْيَمِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَأَلَّى ابْنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّنِي ... إِلَى نِسْوَةٍ كَأَنَّهُنَّ مَفَايِدُ

_ (1) . جاء في سيرة ابن هشام [3/ 306] : قال حسان بن ثابت يعتذر من الذي كان قال في شأن عائشة رضي الله عنها.

وَقَوْلُ الْآخَرِ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ يُقَالُ: ائْتَلَى يَأْتَلِي إِذَا حَلَفَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ «1» وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ مِنْ أَلَوْتُ فِي كَذَا إِذَا قَصَرْتُ، وَمِنْهُ: لَمْ آلُ جُهْدًا، أَيْ: لَمْ أُقَصِّرْ، وَكَذَا مِنْهُ قَوْلُهُ: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا «2» ومنه قول الشاعر: وما المرء مادامت حَشَاشَةُ نَفْسِهِ ... بِمُدْرِكِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ وَلَا آلِ وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى بِدَلِيلِ سَبَبِ النُّزُولِ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي، وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ: الْغِنَى وَالسَّعَةُ فِي الْمَالِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: عَلَى أَنْ لَا يُؤْتُوا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْ لَا يُؤْتُوا فَحَذَفَ لَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكَ وَأَوْصَالِي وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارِ لَا، وَالْمَعْنَى: لَا يَحْلِفُوا عَلَى أَنْ لَا يُحْسِنُوا إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْإِحْسَانِ الْجَامِعِينَ لِتِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يُقَصِّرُوا فِي أَنْ يُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمْ شَحْنَاءُ لِذَنْبٍ اقْتَرَفُوهُ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ «أَنْ تُؤْتُوا» بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ. ثُمَّ عَلَّمَهُمْ سُبْحَانَهُ أَدَبًا آخَرَ فَقَالَ: وَلْيَعْفُوا عَنْ ذَنْبِهِمُ الَّذِي أَذْنَبُوهُ عَلَيْهِمْ وَجِنَايَتِهِمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا، مِنْ عَفَا الرَّبْعُ أَيْ: دَرَسَ، وَالْمُرَادُ: مَحْوُ الذَّنْبِ حَتَّى يَعْفُوَ كَمَا يَعْفُو أَثَرُ الرَّبْعِ وَلْيَصْفَحُوا بِالْإِغْضَاءِ عَنِ الْجَانِي وَالْإِغْمَاضِ عَنْ جِنَايَتِهِ، وَقُرِئَ بِالْفَوْقِيَّةِ فِي الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَرْغِيبًا عَظِيمًا لِمَنْ عَفَا وَصَفَحَ فَقَالَ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ بِسَبَبِ عَفْوِكُمْ وَصَفْحِكُمْ عَنِ الْفَاعِلِينَ لِلْإِسَاءَةِ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِعِبَادِهِ مَعَ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ، فَكَيْفَ لَا يَقْتَدِي الْعِبَادُ بِرَبِّهِمْ فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْمُسِيئِينَ إِلَيْهِمْ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ الْمُحْصَنَاتِ وَذَكَرَنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُحْصَنِينَ مِنَ الرِّجَالِ حُكْمُ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ النِّسَاءِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ خَاصَّةٌ أَوْ عَامَّةٌ؟ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ خَاصَّةٌ فِيمَنْ رَمَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ خَاصَّةٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ فِي عَائِشَةَ وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ دُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فَمَنْ قَذَفَ إحدى أزواج النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَمِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لِمَنْ رَمَى إِحْدَى أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُنَّ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ التَّوْبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا «3» وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْقَذْفِ وَلَمْ يَتُبْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ قَاذِفٍ وَمَقْذُوفٍ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ وَالْمُحَصَنِينَ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا قَرَّرَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السبب. وقيل: إنها

_ (1) . البقرة: 226. (2) . آل عمران: 18. (3) . النور: 5.

خَاصَّةٌ بِمُشْرِكِي مَكَّةَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْمَرْأَةِ إِذَا خَرَجَتْ مُهَاجِرَةً إِنَّمَا خَرَجَتْ لِتَفْجُرَ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ المؤمنون مِنَ الْقَذَفَةِ، فَالْمُرَادُ بِاللَّعْنَةِ الْإِبْعَادُ، وَضَرْبُ الْحَدِّ وَهَجْرُ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ، وَزَوَالُهُمْ عَنْ رُتْبَةِ الْعَدَالَةِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ خَاصَّةً كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي جَانِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَالْمُرَادُ بِالْغَافِلَاتِ: اللَّاتِي غَفَلْنَ عَنِ الْفَاحِشَةِ بِحَيْثُ لَا تَخْطُرُ بِبَالِهِنَّ وَلَا يَفْطِنَّ لَهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ النَّزَاهَةِ وَطَهَارَةِ الْجَيْبِ مَا لم يكن في المحصنات، ويقل: هُنَّ السَّلِيمَاتُ الصُّدُورِ النَّقِيَّاتُ الْقُلُوبِ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مُبَيِّنَةٌ لِوَقْتِ حُلُولِ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِهِمْ وَتَعْيِينُ الْيَوْمِ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ وَصْفٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَوْمَ تَشْهَدُ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ: أَبُو حاتم، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ: أَبُو عَبِيدٍ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ قَدْ حَالَ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ. وَالْمَعْنَى: تَشْهَدُ أَلْسِنَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقِيلَ: تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا عَمِلُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُنْطِقُهَا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَشْهُودُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ ذُنُوبُهُمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا، أَيْ: تَشْهَدُ هَذِهِ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا وَمَعَاصِيهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أَيْ: يَوْمَ تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة ويعطيهم اللَّهُ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهَا مُوَفَّرًا، فَالْمُرَادُ بِالدِّينِ هَاهُنَا: الْجَزَاءُ، وَبِالْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ. قَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «يُوفِيهِمْ» مُخَفَّفًا مَنْ أَوْفَى، وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ وَفَّى. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَمُجَاهِدٌ «الْحَقُّ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلَّهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِدِينِهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَلَوْلَا كَرَاهَةُ خِلَافِ النَّاسِ لَكَانَ الْوَجْهُ الرَّفْعَ، لِيَكُونَ نَعْتًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِتَكُونَ مُوَافِقَةً لِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ الْحَقَّ دِينَهُمْ» . وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، لِأَنَّهُ احْتَجَّ بِمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، وَلَا حُجَّةَ أَيْضًا فِيهِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ أنه في مصحف أبيّ كذلك جَازَ أَنْ يَكُونَ دِينُهُمْ بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أَيْ: وَيَعْلَمُونَ عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ لِذَلِكَ وَوُقُوعِهِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، الْمُبِينُ الْمُظْهِرُ لِلْأَشْيَاءِ كَمَا هِيَ فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ سُبْحَانَهُ الْحَقُّ لِأَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ الْحَقُّ دُونَ عِبَادَةِ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِالْحَقِّ، أَيْ: الْمَوْجُودُ لِأَنَّ نَقِيضَهُ الْبَاطِلُ وَهُوَ الْمَعْدُومُ. ثُمَّ خَتَمَ سُبْحَانَهُ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ فَقَالَ: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ أَيِ: الْخَبِيثَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، أَيْ: مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ لَا تَتَجَاوَزُهُمْ، وَكَذَا الْخَبِيثُونَ مُخْتَصُّونَ بِالْخَبِيثَاتِ لَا يَتَجَاوَزُونَهُنَّ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى: الْكَلِمَاتُ الْخَبِيثَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلْخَبِيثِينِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْخَبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ الْكَلِمَاتِ، وَالْكَلِمَاتُ الطَّيِّبَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ النَّاسِ، وَالطَّيِّبُونَ مِنَ النَّاسِ لِلطَّيِّبَاتِ مِنَ الْكَلِمَاتِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَاهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْخَبِيثَاتِ إِلَّا الخبيث من الرجال والنساء،

ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهَذَا ذَمٌّ لِلَّذِينَ قَذَفُوا عائشة بالخبث ومدح للذين برّؤوها. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِهِ: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً فَالْخَبِيثَاتُ: الزَّوَانِي، وَالطَّيِّبَاتُ: الْعَفَائِفُ، وَكَذَا الْخَبِيثُونَ وَالطَّيِّبُونَ، والإشارة بقوله: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ إِلَى الطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبَاتِ، أَيْ: هُمْ مبرّؤون مِمَّا يَقُولُهُ الْخَبِيثُونَ وَالْخَبِيثَاتُ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى أزواج النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةَ وَصَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ، وَقِيلَ: عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ فَقَطْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَمَعَ كَمَا قَالَ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ «1» وَالْمُرَادُ أَخَوَانِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي: هؤلاء المبرّؤون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَا لَا يَخْلُو عَنْهُ البشر من الذنوب وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو رِزْقُ الْجَنَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْتَلِ الْآيَةَ، يَقُولُ: لَا يُقْسِمُوا أَنْ لَا يَنْفَعُوا أَحَدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ مِمَّنْ تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَكَانَ قَرِيبًا لِأَبِي بَكْرٍ وَكَانَ فِي عِيَالِهِ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يُنِيلَهُ خَيْرًا أبدا، فأنزل الله وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ الْآيَةَ، قَالَتْ: فَأَعَادَهُ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عِيَالِهِ وَقَالَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا تَحَلَّلْتُهَا وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَمَوْا عَائِشَةَ بِالْقَبِيحِ وَأَفْشَوْا ذَلِكَ وَتَكَلَّمُوا فِيهَا، فَأَقْسَمَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَتَصَدَّقُوا عَلَى رَجُلٍ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَلَا يصلوه، فقال: لا يقسم أولو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يَصِلُوا أَرْحَامَهُمْ، وَأَنْ يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قَبْلِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ وَأَنْ يُعْفَى عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْآيَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هذه هي عائشة وأزواج النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُجْعَلْ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَوْبَةٌ، وَجُعِلَ لِمَنْ رَمَى امْرَأَةً مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ مِنْ غير أزواج النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ التَّوْبَةُ، ثُمَّ قَرَأَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا «2» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِفَ الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ فَجَحَدَ وَخَاصَمَ، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ جِيرَانُكَ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيُقَالُ: أَهْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيُقَالُ: احْلِفُوا فَيَحْلِفُونَ، ثُمَّ يُصْمِتُهُمُ اللَّهُ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا يَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ الْجَوَارِحِ عَلَى الْعُصَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ قَالَ: حِسَابُهُمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ في القرآن: الدين: فَهُوَ الْحِسَابُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ يومئذ يوفيهم الله الحقّ دينهم. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْخَبِيثاتُ قَالَ: مِنَ الكلام لِلْخَبِيثِينَ قال:

_ (1) . النساء: 11. [.....] (2) . النور: 4- 5.

[سورة النور (24) : الآيات 27 إلى 29]

مِنَ الرِّجَالِ وَالْخَبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْخَبِيثاتِ مِنَ الْكَلَامِ وَالطَّيِّباتُ مِنَ الْكَلَامِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ النَّاسِ وَالطَّيِّبُونَ مِنَ النَّاسِ لِلطَّيِّباتِ مِنَ الْكَلَامِ، نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ قَالُوا فِي زَوْجَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مَا قَالُوا مِنَ الْبُهْتَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ أَيْضًا، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ حِينَ رَمَاهَا الْمُنَافِقُونَ بِالْبُهْتَانِ وَالْفِرْيَةِ فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ هُوَ الْخَبِيثُ، فَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِأَنْ تَكُونَ لَهُ الْخَبِيثَةُ وَيَكُونُ لَهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيِّبًا، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ لَهُ الطَّيِّبَةُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ الطَّيِّبَةُ، وَكَانَتْ أَوْلَى بِأَنْ يكون لها الطيب، وفي قوله: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ قَالَ: هَاهُنَا بُرِئَّتْ عَائِشَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ نَزَلَ عُذْرِي مِنَ السَّمَاءِ، وَلَقَدْ خُلِقْتُ طَيِّبَةً وَعِنْدَ طيب، ولقد وعدت مغفرة وأجرا عظيما. [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) لِمَا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ الزَّجْرِ عَنِ الزِّنَا وَالْقَذْفِ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ الزَّجْرِ عَنْ دُخُولِ الْبُيُوتِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، فَرُبَّمَا يؤدّي إلى أحد الأمرين المذكورين، وأيضا إِنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ وَمَكَانِ خَلْوَتِهِ على حالة لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ دُخُولِ بُيُوتِ الْغَيْرِ إِلَى غَايَةٍ، هِيَ قَوْلُهُ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَالِاسْتِئْنَاسُ: الِاسْتِعْلَامُ والاستخبار، أي: حتى تستعلموا ما فِي الْبَيْتِ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ قَدْ عَلِمَ بِكُمْ وَتَعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ بِدُخُولِكُمْ، فَإِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ دَخَلْتُمْ، وَمِنْهُ قوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً أَيْ: عَلِمْتُمْ. قَالَ الْخَلِيلُ: الِاسْتِئْنَاسُ: الِاسْتِكْشَافُ، مِنْ أَنِسَ الشَّيْءَ: إِذَا أَبْصَرَهُ، كَقَوْلِهِ: إِنِّي آنَسْتُ ناراً أَيْ: أَبْصَرْتُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّهُ بِمَعْنَى وَتُؤْنِسُوا أَنْفُسَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَصْرِيفُ الْفِعْلِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنِسَ. وَمَعْنَى كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ هَذَا أَنَّهُ مِنَ الِاسْتِئْنَاسِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الِاسْتِيحَاشِ، لِأَنَّ الَّذِي يَطْرُقُ بَابَ غَيْرِهِ لَا يَدْرِي أَيُؤْذَنُ لَهُ أَمْ لَا؟ فَهُوَ كَالْمُسْتَوْحِشِ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ، فَإِذَا أُذِنَ لَهُ اسْتَأْنَسَ، فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ دُخُولِ تِلْكَ الْبُيُوتِ حَتَّى يُؤْذَنَ لِلدَّاخِلِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْإِنْسِ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَرَّفَ هَلْ ثَمَّ إِنْسَانٌ أَمْ لَا؟ وَقِيلَ: مَعْنَى الِاسْتِئْنَاسِ: الِاسْتِئْذَانُ، أَيْ: لَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جبير أنهم قرءوا «تَسْتَأْذِنُوا» قَالَ مَالِكٌ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ: الِاسْتِئْنَاسُ فِيمَا يَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: الِاسْتِئْذَانُ، وَقَوْلُهُ: وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها قَدْ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي بِأَنْ يَقُولَ:

السلام عليكم، أأدخل؟ مَرَّةً أَوْ ثَلَاثًا كَمَا سَيَأْتِي. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُقَدِّمُ الِاسْتِئْذَانَ عَلَى السَّلَامِ أَوِ الْعَكْسَ، فَقِيلَ: يقدم الاستئذان، فيقول: أأدخل سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لِتَقْدِيمِ الِاسْتِئْنَاسِ فِي الْآيَةِ عَلَى السَّلَامِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ يُقَدِّمُ السَّلَامَ عَلَى الاستئذان فيقول: السلام عليكم أأدخل، وَهُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْبَيَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِلْآيَةِ كَانَ هَكَذَا. وَقِيلَ: إِنْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى إِنْسَانٍ قَدَّمَ السَّلَامَ، وَإِلَّا قَدَّمَ الِاسْتِئْذَانَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الِاسْتِئْنَاسِ وَالتَّسْلِيمِ، أَيْ: دُخُولُكُمْ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الدُّخُولِ بَغْتَةً لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ: أُمِرْتُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّذَكُّرِ: الِاتِّعَاظُ، وَالْعَمَلُ بِمَا أُمِرُوا بِهِ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِي الْبُيُوتِ الَّتِي لِغَيْرِكُمْ أَحَدًا مِمَّنْ يُسْتَأْذَنُ عَلَيْهِ فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ بِدُخُولِهَا مِنْ جِهَةِ مَنْ يَمْلِكُ الْإِذْنَ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا، أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَكُمْ فِيهَا مَتَاعٌ، وَضَعَّفَهُ وَهُوَ حَقِيقٌ بِالضَّعْفِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحَدِ الْمَذْكُورِ أَهْلُ الْبُيُوتِ الَّذِينَ يَأْذَنُونَ لِلْغَيْرِ بِدُخُولِهَا، لَا مَتَاعَ الدَّاخِلِينَ إِلَيْهَا وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي: قَالَ لَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا، وَلَا تُعَاوِدُوهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَا تَنْتَظِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْذَنُوا لَكُمْ بَعْدَ أَمْرِهِمْ لَكُمْ بِالرُّجُوعِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرُّجُوعَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِلْحَاحِ، وَتَكْرَارِ الِاسْتِئْذَانِ، وَالْقُعُودِ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ: هُوَ أَزْكى لَكُمْ أَيْ: أَفْضَلُ «وَأَطْهَرُ» مِنَ التَّدَنُّسِ بِالْمُشَاحَّةِ عَلَى الدُّخُولِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ سَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَالْبُعْدِ مِنَ الرِّيبَةِ، وَالْفِرَارِ مِنَ الدَّنَاءَةِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ خَافِيَةٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أَيْ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي الدُّخُولِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إِلَى الْبُيُوتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَسْكُونَةٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْبُيُوتِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الْفَنَادِقُ الَّتِي فِي الطُّرُقِ السَّابِلَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِابْنِ السَّبِيلِ يَأْوِي إِلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالشَّعْبِيُّ: هِيَ حَوَانِيتُ الْقَيْسَارِيَّاتِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: لِأَنَّهُمْ جَاءُوا بِبِيُوعِهِمْ فَجَعَلُوهَا فِيهَا، وَقَالُوا لِلنَّاسِ: هَلُمَّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُرَادُ بِهَا الْخَرِبُ الَّتِي يَدْخُلُهَا النَّاسُ لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَفِي هَذَا أَيْضًا مَتَاعٌ. وَقِيلَ: هِيَ بُيُوتُ مَكَّةَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ شُرَكَاءُ فِيهَا، وَلَكِنْ قَدْ قَيَّدَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْبُيُوتَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا بِأَنَّهَا غَيْرُ مَسْكُونَةٍ. وَالْمَتَاعُ: الْمَنْفَعَةُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: فِيهَا مَنْفَعَةٌ لكم، ومنه قوله: «ومتّعوهنّ» وَقَوْلُهُمْ: أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ، وَقَدْ فَسَّرَ الشَّعْبِيُّ الْمَتَاعَ فِي كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ بِالْأَعْيَانِ الَّتِي تُبَاعُ. قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ الْجِهَازَ، وَلَكِنْ مَا سِوَاهُ مِنَ الْحَاجَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أَيْ: مَا تُظْهِرُونَ وما تخفون، وفيه وعيد لمن يَتَأَدَّبْ بِآدَابِ اللَّهِ فِي دُخُولِ بُيُوتِ الْغَيْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيٌّ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَكُونُ فِي بَيْتِي عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي لَا أُحِبُّ أَنْ يَرَانِي عَلَيْهَا أَحَدٌ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، فَيَأْتِينِي الْأَبُ فَيَدْخُلُ عَلَيَّ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ: وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الحالة، فنزلت:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ وَابْنُ مَنْدَهْ فِي غَرَائِبِ شُعْبَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا قَالَ: أَخْطَأَ الْكَاتِبُ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بن منصور وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيُّ قَالَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ «حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَتَسْتَأْذِنُوا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الِاسْتِئْنَاسُ: الاستئذان. وأخرج ابن أبي شيبة والحكيم الترمذي وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها هذا التسليم قد عرفنا فَمَا الِاسْتِئْنَاسُ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بِتَسْبِيحَةٍ وَتَكْبِيرَةٍ وَتَحْمِيدَةٍ وَيَتَنَحْنَحُ فَيُؤْذِنُ أَهْلَ الْبَيْتِ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الِاسْتِئْنَاسُ: أَنْ يَدْعُوَ الْخَادِمَ حَتَّى يَسْتَأْنِسَ أَهْلُ الْبَيْتِ الَّذِينَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ كَلَدَةَ «أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ فِي الْفَتْحِ بِلِبَأِ وَضَغَابِيسَ «1» ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِأَعْلَى الْوَادِي، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ارْجِعْ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ رِبْعِيٍّ، قَالَ: «حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ، فَقَالَ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ: اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟» . وَأَخْرَجَ ابن جرير عن عمرو بْنِ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَمَةٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا رَوْضَةُ: قَوْمِي إِلَى هَذَا فَعَلِّمِيهِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ فَجَاءَ أَبُو مُوسَى فَزِعًا، فَقُلْنَا لَهُ: مَا أَفْزَعَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ أَنْ آتِيَهُ فَأَتَيْتُهُ، فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ فَقُلْتُ: قَدْ جِئْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» قَالَ: لَتَأْتِيَنِي عَلَى هَذَا بِالْبَيِّنَةِ، فَقَالُوا: لَا يَقُومُ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ مَعَهُ لِيَشْهَدَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى: إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ مِدْرًى «2» يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ، قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهَا فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ. وَفِي لَفْظِ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ أَجْلِ البصر. وأخرج أبو يعلى وابن جرير

_ (1) . بلبأ وضغابيس: اللّبأ: أول اللّبن، والضّغابيس: صغار القثّاء. (2) . مدرى: المدرى والمدراة: شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط وأطول منه يسرّح به الشعر المتلبد.

[سورة النور (24) : الآيات 30 إلى 31]

وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: لَقَدْ طَلَبْتُ عُمْرِي كُلَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُهَا، أَنْ أَسْتَأْذِنَ عَلَى بَعْضِ إِخْوَانِي، فَيَقُولُ لِي ارْجِعْ، فَأَرْجِعُ وَأَنَا مُغْتَبِطٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَابْنُ جَرِيرٍ عن ابن عباس قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها فنسخ، واستثنى مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ. [سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الِاسْتِئْذَانِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ حُكْمِ النَّظَرِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ غَضُّ الْبَصَرِ مِنَ الْمُسْتَأْذِنِ، كَمَا قَالَ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ تَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، لِكَوْنِ قِطْعِ ذَرَائِعِ الزِّنَا الَّتِي مِنْهَا النَّظَرُ، هُمْ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِهَا، وَأَوْلَى بِذَلِكَ مِمَّنْ سِوَاهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرْعِيَّاتِ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ غُضُّوا يَغُضُّوا وَمَعْنَى غَضِّ الْبَصَرِ: إِطْبَاقُ الْجَفْنِ عَلَى الْعَيْنِ بِحَيْثُ تَمْتَنِعُ الرُّؤْيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَأَغُضُّ طَرَفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا و «من» فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَبْصارِهِمْ هِيَ: التَّبْعِيضِيَّةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ، وَبَيَّنُوهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا يَحْرُمُ وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ. وَقِيلَ: وَجْهُ التَّبْعِيضِ أَنَّهُ يُعْفَى لِلنَّاظِرِ أَوَّلَ نَظْرَةٍ تَقَعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مُبْهَمٌ يَكُونُ مُفَسَّرًا بِمَنْ، وقيل: إنها لابتداء الغاية. قال ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ: الْغَضُّ النُّقْصَانُ، يُقَالُ: غَضَّ فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ: أَيْ: وَضَعَ مِنْهُ، فَالْبَصَرُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ مَغْضُوضٌ مِنْهُ وَمَنْقُوصٌ فَتَكُونُ «مِنْ» صِلَةً لِلْغَضِّ، وَلَيْسَتْ لِمَعْنًى مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِ مَنْ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ حِفْظُهَا عَمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ سَتْرُ

فُرُوجِهِمْ عَنْ أَنْ يَرَاهَا مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ رُؤْيَتُهَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَالْكُلُّ يَدْخُلُ تَحْتَ حِفْظِ الْفَرْجِ. قِيلَ: وَوَجْهُ الْمَجِيءِ بِمِنْ فِي الْأَبْصَارِ دُونَ الْفُرُوجِ أَنَّهُ مُوَسَّعٌ فِي النَّظَرِ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنْهُ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ، بِخِلَافِ حِفْظِ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ مُضَيَّقٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْهُ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ. وَقِيلَ: الْوَجْهُ أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ كُلِّهِ كَالْمُتَعَذِّرِ، بِخِلَافٍ حِفْظِ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْغَضِّ وَالْحِفْظِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ أَزْكى لَهُمْ أي: أظهر لَهُمْ مِنْ دَنَسِ الرِّيبَةِ وَأَطْيَبُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِهَذِهِ الدَّنِيئَةِ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ صُنْعِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِمَنْ لَمْ يَغُضَّ بَصَرَهُ وَيَحْفَظْ فَرْجَهُ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ خَصَّ سُبْحَانَهُ الْإِنَاثَ بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ لِدُخُولِهِنَّ تَحْتَ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ تَغْلِيبًا كَمَا فِي سائر الخطابات القرآنية، وظهر التضعيف في يغضضن وَلَمْ يَظْهَرْ فِي يَغُضُّوا، لِأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ مِنَ الْأَوَّلِ مُتَحَرِّكَةٌ وَمِنَ الثَّانِي سَاكِنَةٌ وَهُمَا فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، وَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِالْغَضِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَبْلَ حِفْظِ الْفَرْجِ، لِأَنَّ النَّظَرَ وَسِيلَةٌ إِلَى عَدَمِ حِفْظِ الْفَرْجِ، وَالْوَسِيلَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمُتَوَسَّلِ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى: يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ كَمَعْنَى يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ نَظَرِ النِّسَاءِ إِلَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِنَّ حِفْظُ فُرُوجِهِنَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي حِفْظِ الرِّجَالِ لِفُرُوجِهِمْ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أَيْ: مَا يَتَزَيَّنَّ بِهِ مِنَ الْحِلْيَةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي النَّهْيِ عَنْ إِبْدَاءِ الزينة، نهى عَنْ إِبْدَاءِ مَوَاضِعِهَا مِنْ أَبْدَانِهِنَّ بِالْأَوْلَى. ثُمَّ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ، فَقَالَ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ظَاهِرِ الزينة ما هُوَ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الثِّيَابُ وَزَادَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْوَجْهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الْكُحْلُ وَالسِّوَاكُ وَالْخِضَابُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبْدِيَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُبْدِي شَيْئًا مِنَ الزِّينَةِ وَتُخْفِي كُلَّ شَيْءٍ مِنْ زِينَتِهَا، وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْهَا بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ ظَاهَرَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيَّ النَّهْيُ عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا كَالْجِلْبَابِ وَالْخِمَارِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا عَلَى الْكَفِّ وَالْقَدَمَيْنِ مِنَ الْحِلْيَةِ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالزِّينَةِ مَوَاضِعَهَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَى مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُهُ كَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا إِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ إِظْهَارِ الزِّينَةِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ إِظْهَارِ مَوَاضِعِهَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الزِّينَةُ تَشْمَلُ مَوَاضِعَ الزِّينَةِ وَمَا تَتَزَيَّنُ بِهِ النِّسَاءُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ مِنَ الْجَمِيعِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الزِّينَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: خِلْقِيَّةٌ، وَمُكْتَسَبَةٌ فَالْخِلْقِيَّةُ وَجْهُهَا فَإِنَّهُ أَصْلُ الزِّينَةِ، وَالزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ مَا تُحَاوِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي تَحْسِينِ خَلْقِهَا كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ «1» وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى ... وَإِذَا عُطِلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِسْكَانِ اللَّامِ الَّتِي للأمر. وقرأ أبو عمرو بكسرها

_ (1) . الأعراف: 31.

عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ أَصْلَ لَامِ الْأَمْرِ الْكَسْرُ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالْخُمُرُ جمع خمار، وَمِنْهُ: اخْتَمَرَتِ الْمَرْأَةُ وَتَخَمَّرَتْ. وَالْجُيُوبُ: جَمْعُ جَيْبٍ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْقَطْعِ مِنَ الدِّرْعِ وَالْقَمِيصِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَوْبِ وَهُوَ الْقَطْعُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ نِسَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ كُنَّ يُسْدِلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ، وكانت جيوبهنّ من الأمام واسعة، فكان تَنْكَشِفُ نُحُورُهُنَّ وَقَلَائِدُهُنَّ، فَأُمِرْنَ أَنْ يَضْرِبْنَ مَقَانِعَهُنَّ عَلَى الْجُيُوبِ لِتَسْتُرَ بِذَلِكَ مَا كَانَ يَبْدُو، وَفِي لَفْظِ الضَّرْبِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِلْقَاءِ الَّذِي هُوَ الْإِلْصَاقُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «بِخُمُرِهِنَّ» بِتَحْرِيكِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِسُكُونِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «جُيُوبِهِنَّ» بِضَمِّ الْجِيمِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِكَسْرِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي النَّحْوِيِّينَ لَا يُجَوِّزُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ مِنَ الضَّمَّةِ كَسْرَةً، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ، فَمُحَالٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ إِلَّا عَلَى الْإِيمَاءِ، وَقَدْ فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْجُيُوبَ بِمَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ مَعْنَى عَلَى جُيُوبِهِنَّ: عَلَى صُدُورِهِنَّ، فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: عَلَى مَوَاضِعِ جُيُوبِهِنَّ. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لِأَجْلِ مَا سَيَذْكُرُهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ الْبَعْلُ: هُوَ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدَّمَ الْبُعُولَةَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالزِّينَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَنِ الزَّوْجَةِ والسرية حلال لهم، ومثله قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ «1» ثُمَّ لَمَّا اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ الزَّوْجَ أَتْبَعَهُ بِاسْتِثْنَاءِ ذَوِي الْمَحَارِمِ فَقَالَ: أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ فَجَوَّزَ لِلنِّسَاءِ أَنْ يُبْدِينَ الزِّينَةَ لِهَؤُلَاءِ لِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَةِ وَعَدَمِ خَشْيَةِ الْفِتْنَةِ لِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنَ النُّفْرَةِ عَنِ الْقَرَائِبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَنْظُرَانِ إِلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، ذَهَابًا مِنْهُمَا إِلَى أَنَّ أَبْنَاءَ الْبُعُولَةِ لَمْ يُذْكَرُوا فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ قَوْلُهُ: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَالْمُرَادُ بِأَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ: ذُكُورُ أَوْلَادِ الْأَزْوَاجِ، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَأَوْلَادُ بَنَاتِهِنَّ وَإِنْ سَفَلُوا، وَكَذَا آبَاءُ الْبُعُولَةِ، وَآبَاءُ الْآبَاءِ، وَآبَاءُ الْأُمَّهَاتِ وَإِنْ عَلَوْا، وَكَذَلِكَ أَبْنَاءُ الْبُعُولَةِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَكَذَلِكَ أَبْنَاءُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ كَسَائِرِ الْمَحَارِمِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى مَا يَجُوزُ لَهُمْ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الرَّضَاعِ، وَهُوَ كَالنَّسَبِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ: لَيْسَ الْعَمُّ وَالْخَالُ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَمَعْنَى أَوْ نِسائِهِنَّ هُنَّ الْمُخْتَصَّاتُ بِهِنَّ الْمُلَابِسَاتِ لَهُنَّ بِالْخِدْمَةِ أَوِ الصُّحْبَةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِمَاءُ، وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ نِسَاءُ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ لَهُنَّ لِأَنَّهُنَّ لَا يَتَحَرَّجْنَ عَنْ وَصْفِهِنَّ لِلرِّجَالِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِضَافَةُ النِّسَاءِ إِلَيْهِنَّ تَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنَاتِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَشْمَلُ الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ أَوْ كَافِرِينَ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سلمة وابن عباس ومالك. وقال سعيد ابن الْمُسَيِّبِ: لَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ إِنَّمَا عَنَى بِهَا الْإِمَاءَ وَلَمْ يَعْنِ بِهَا الْعَبِيدَ. وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ الْمَمْلُوكُ إِلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَرُوِيَ عَنِ

_ (1) . المؤمنون: 5 و 6 والمعارج: 29 و 30.

ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ جريج أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ غَيْرِ: بِالْجَرِّ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنِ عَامِرٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَقِيلَ: عَلَى الْقَطْعِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّابِعِينَ: هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْقَوْمَ فَيُصِيبُونَ مِنْ طَعَامِهِمْ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَّا ذلك، ولا حاجة لهم في النساء قال مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ، وَمِنَ الرِّجَالِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَأَصْلُ الْإِرْبَةِ وَالْأَرَبِ وَالْمَأْرَبَةِ الْحَاجَةُ وَالْجَمْعُ مَآرِبُ، أَيْ: حَوَائِجُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سبحانه: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى «1» ومه قَوْلُ طَرَفَةَ: إِذَا الْمَرْءُ قَالَ الْجَهْلَ وَالْحَوْبَ «2» وَالْخَنَا ... تَقَدَّمَ يَوْمًا ثُمَّ ضَاعَتْ مَآرِبُهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِغَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ الْحَمْقَى الَّذِينَ لَا حَاجَةَ لَهُمْ فِي النِّسَاءِ، وَقِيلَ: الْبَلِهُ، وَقِيلَ: الْعِنِّينُ، وَقِيلَ: الْخَصِيُّ، وَقِيلَ: الْمُخَنَّثُ، وَقِيلَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، بَلِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ظَاهِرُهَا وَهُمْ مِنْ يَتْبَعُ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ ذَلِكَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيَدْخُلُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَيَخْرُجُ مَنْ عَدَاهُ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ الطِّفْلُ: يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ، أَوِ الْمُرَادِ بِهِ هُنَا الْجِنْسُ الْمَوْضُوعُ مَوْضِعَ الْجَمْعِ بِدَلَالَةِ وَصْفِهِ بِوَصْفِ الْجَمْعِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «أَوِ الْأَطْفَالِ» عَلَى الْجَمْعِ، يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ طِفْلٌ: مَا لَمْ يُرَاهِقِ الْحُلُمَ، وَمَعْنَى لَمْ يَظْهَرُوا: لَمْ يَطَّلِعُوا، من الظهور بمعنى الاطلاع، قال ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشهوة، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، يُقَالُ ظَهَرْتُ عَلَى كَذَا: إِذَا غَلَبَتُهُ وَقَهَرَتُهُ. وَالْمَعْنَى: لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَيَكْشِفُوا عَنْهَا لِلْجِمَاعِ، أَوْ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ لِلْجِمَاعِ. قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ «عَوْرَاتِ» بِسُكُونِ الْوَاوِ تَخْفِيفًا، وَهِيَ لُغَةُ جُمْهُورِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ الَّذِي أَنْشَدَهُ الفراء: أخو بيضات رائح متأوب ... رفيق بمسح الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ سَتْرِ مَا عَدَا الْوَجْهِ، وَالْكَفَّيْنِ مِنَ الْأَطْفَالِ، فَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ وَهُوَ الصحيح وقيل: يلزم لأنه قد يشتهي الْمَرْأَةُ. وَهَكَذَا اخْتُلِفَ فِي عَوْرَةِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي قَدْ سَقَطَتْ شَهْوَتُهُ، وَالْأَوْلَى: بَقَاءُ الْحُرْمَةِ كما كانت، فلا يحلّ النظر إلى عورته وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْشِفَهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ العلماء في حدّ العورة. قال القرطبي: أجمع المسلمون على أن السوأتين عَوْرَةٌ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إِلَّا وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: إِنَّ عَوْرَةَ الرَّجُلِ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أَيْ: لَا تَضْرِبُ الْمَرْأَةُ بِرِجْلِهَا إِذَا مَشَتْ لِيُسْمَعَ صَوْتُ خَلْخَالِهَا مَنْ يَسْمَعُهُ مِنَ الرِّجَالِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ذَاتُ خَلْخَالٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَسَمَاعُ هَذِهِ الزِّينَةِ أَشَدُّ تَحْرِيكًا لِلشَّهْوَةِ مِنْ إِبْدَائِهَا. ثُمَّ أَرْشَدَ عِبَادَهُ إلى التوبة عن المعاصي فقال سبحانه:

_ (1) . طه: 18. (2) . الحوب: بضم الحاء وفتحها الإثم. والخنا: الفحش.

وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيهِ الْأَمْرُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوبِهَا وَأَنَّهَا فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّوْبَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُرَغِّبُهُمْ فِي التَّوْبَةِ، فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ: تَفُوزُونَ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْبَةِ هُنَا هِيَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا تَقَرَّرَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقَاتِ الْمَدِينَةِ، فَنَظَرَ إلى امرأة وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ إِلَّا إِعْجَابًا بِهِ، فَبَيْنَمَا الرَّجُلُ يَمْشِي إِلَى جَنْبِ حَائِطٍ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، إِذِ اسْتَقْبَلَهُ الْحَائِطُ فَشَقَّ أَنْفَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَغْسِلُ الدَّمَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُعْلِمُهُ أَمْرِي، فَأَتَاهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: هَذَا عُقُوبَةُ ذَنْبِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ قَالَ: يَعْنِي مِنْ شَهَوَاتِهِمْ مِمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَلَيْسَتْ لَكَ الْأُخْرَى» وَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إيّاكم والجلوس على الطرقات، قالوا: يا رسول الله ما لنا بدّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: إِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا، قُلْتُ: إِذَا كَانَ أحدنا خاليا، قال: فالله أحقّ أن يستحيى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَتَبَ اللَّهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَزِنَا الْأُذُنَيْنِ السَّمَاعُ، وَزِنَا الْيَدَيْنِ الْبَطْشُ، وَزِنَا الرِّجْلَيْنِ الْخَطْوُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومَةٌ، فَمَنْ تَرَكَهَا مِنْ خَوْفِ اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ حَدَّثَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ كَانَتْ فِي نَخْلٍ لَهَا لَبَنِي حَارِثَةَ، فَجَعَلَ النِّسَاءُ يَدْخُلْنَ عَلَيْهَا غَيْرَ مُتَّزِرَاتٍ فَيَبْدُو مَا فِي أَرْجُلِهِنَّ، يَعْنِي الْخَلَاخِلَ، وَتَبْدُو صُدُورُهُنَّ وَذَوَائِبُهُنَّ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: مَا أَقْبَحَ هَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الْآيَةَ وَفِيهِ مَعَ كَوْنِهِ مُرْسَلًا مُقَاتِلٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ

مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ قَالَ: الزِّينَةُ السِّوَارُ وَالدُّمْلُجُ «1» وَالْخَلْخَالُ وَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قَالَ: الثِّيَابُ وَالْجِلْبَابُ. وَأَخْرَجَ ابن شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: الزِّينَةُ زِينَتَانِ: زِينَةٌ ظَاهِرَةٌ وَزِينَةٌ بَاطِنَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ، فَأَمَّا الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ فَالثِّيَابُ، وَأَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ فَالْكُحْلُ وَالسِّوَارُ وَالْخَاتَمُ. وَلَفْظُ ابْنُ جَرِيرٍ: فَالظَّاهِرَةُ مِنْهَا: الثِّيَابُ، وَمَا خَفِيَ: الْخَلْخَالَانِ، وَالْقُرْطَانِ، وَالسِّوَارَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قَالَ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قَالَ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: هُوَ خِضَابُ الْكَفِّ وَالْخَاتَمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. وَأَخْرَجَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَجْهُهَا وَكَفَّاهَا وَالْخَاتَمُ، وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: رُقْعَةُ الْوَجْهِ، وَبَاطِنُ الْكَفِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ قَالَ: الْقَلْبُ «2» وَالْفَتْخُ «3» ، وَضَمَّتْ طَرَفَ كُمِّهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَقَالَ: يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفِّهِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنْ عَائِشَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ: «رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُولَاتِ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شَقَقْنَ أَكْثَفَ مُرُوطِهِنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهَا بِلَفْظِ: أَخَذَ النِّسَاءُ أُزْرَهُنَّ فَشَقَقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها وَالزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الْوَجْهُ وَكُحْلُ الْعَيْنَيْنِ وَخِضَابُ الْكَفِّ وَالْخَاتَمُ، فَهَذَا تُظْهِرُهُ فِي بَيْتِهَا لِمَنْ دَخَلَ عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ الْآيَةَ، وَالزِّينَةُ الَّتِي تُبْدِيهَا لِهَؤُلَاءِ قُرْطُهَا وَقِلَادَتُهَا وَسِوَارُهَا، فَأَمَّا خَلْخَالُهَا وَمِعْضَدُهَا وَنَحْرُهَا وَشَعْرُهَا فَإِنَّهَا لَا تُبْدِيهِ إِلَّا لِزَوْجِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ نِسائِهِنَّ قَالَ: هُنَّ الْمُسْلِمَاتُ، لَا تبديه ليهودية، ولا لنصرانية، وَهُوَ النَّحْرُ وَالْقُرْطُ وَالْوِشَاحُ، وَمَا يَحْرُمُ أَنْ يَرَاهُ إِلَّا مَحْرَمٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَ نِسَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَانْهَ مَنْ قِبَلَكَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن ينظر إلى عورتها إلى أَهْلُ مِلَّتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا بَأْسَ أن يرى العبد

_ (1) . الدّملج: الحلّي يوضع في العضد. (2) . القلب: الأساور. (3) . قال في النهاية: الفتخ: خواتيم كبار توضع في الأيدي وربما في الأرجل.

[سورة النور (24) : الآيات 32 إلى 34]

شَعْرَ سَيِّدَتِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ قَدْ وُهِبَ لَهَا وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت بِهِ رَأْسُهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ به رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَلْقَى قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ» وَإِسْنَادُهُ فِي سنن أبي داود هكذا: حدّثنا محمد ابن عِيسَى حَدَّثَنَا أَبُو جُمَيْعٍ سَالِمُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ لَهُ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» ، وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ هَكَذَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ نبهان عن أُمَّ سَلَمَةَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ قَالَ: هَذَا الَّذِي لا تستحي مِنْهُ النِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ يَتْبَعُ الْقَوْمَ وَهُوَ مُغَفَّلٌ فِي عَقْلِهِ، لَا يَكْتَرِثُ لِلنِّسَاءِ وَلَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَتْبَعُ الرَّجُلَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ لَا يَغَارُ عَلَيْهِ وَلَا تَرْهُبُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَضَعَ خِمَارَهَا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هو المخنّث الذي لا يقوم قضيبه. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَجُلٌ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مُخَنَّثٌ، فَكَانُوا يَدْعُونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الإربة، فدخل النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً قَالَ: إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَلَا أَرَى هَذَا يَعْرِفُ مَا هَاهُنَا لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ» فَحَجَبُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ وَهُوَ أَنْ تَقْرَعَ الْخَلْخَالَ بِالْآخَرِ عِنْدَ الرِّجَالِ، أَوْ يَكُونُ فِي رِجْلِهَا خَلَاخِلُ فَتُحَرِّكُهُنَّ عِنْدَ الرِّجَالِ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الشيطان. [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) لَمَّا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ، وَحِفْظِ الْفُرُوجِ، أَرْشَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا يَحِلُّ لِلْعِبَادِ مِنَ النِّكَاحِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَسُكُونُ دَوَاعِي الزِّنَا، وَيَسْهُلُ بَعْدَهُ غَضُّ الْبَصَرِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ عَمَّا لَا يَحِلُّ، فَقَالَ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ الْأَيِّمُ: الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَالْجَمْعُ أَيَامَى، والأصل أيايم، والأيم بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَيَشْمَلُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ: اتَّفَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الأيم

فِي الْأَصْلِ هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ رَجُلٌ أَيِّمٌ وَامْرَأَةٌ أَيِّمٌ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي النِّسَاءِ، وَهُوَ كَالْمُسْتَعَارِ فِي الرجال، ومه قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: لِلَّهِ دَرُّ بَنِي عَلِيٍّ ... أَيِّمٍ مِنْهُمْ وَنَاكِحِ وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الْآخَرِ: لَقَدْ إِمْتُ حَتَّى لَامَنِي كُلُّ صاحب ... رجاء بسلمى أن تئيم كَمَا إِمْتُ وَالْخِطَابُ فِي الْآيَةِ: لِلْأَوْلِيَاءِ، وَقِيلَ: لِلْأَزْوَاجِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُنْكِحُ نَفْسَهَا، وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي النكاح هل هو مُبَاحٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، أَوْ وَاجِبٌ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ: الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِلَى الثَّانِي: مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِلَى الثَّالِثِ: بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: إِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي الْمَعْصِيَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ لَا يُخَالِفُونَ فِي الْوُجُوبِ مَعَ تِلْكَ الْخَشْيَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مَعَ عَدَمِهَا سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ المؤكدة لقوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بَعْدَ تَرْغِيبِهِ فِي النِّكَاحِ: «وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَلَكِنْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى مُؤَنِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَالْمُرَادُ بِالْأَيَامَى هُنَا: الْأَحْرَارُ وَالْحَرَائِرُ، وَأَمَّا الْمَمَالِيكُ فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «عِبَادِكُمْ» وَقَرَأَ الْحَسَنُ «عَبِيدِكُمْ» قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ وَإِمَاءَكُمْ بِالنَّصْبِ بِرَدِّهِ عَلَى الصَّالِحِينَ، وَالصَّلَاحُ: هُوَ الْإِيمَانُ. وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الصَّلَاحَ فِي الْمَمَالِيكِ دُونَ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَحْرَارِ الصَّلَاحُ بِخِلَافِ الْمَمَالِيكِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يُزَوِّجُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهُ مَالِكُهُ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكْرِهَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى الْكَلَامِ فِي الْأَحْرَارِ فَقَالَ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ لَا تَمْتَنِعُوا مِنْ تَزْوِيجِ الْأَحْرَارِ بِسَبَبِ فَقْرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَكُونُوا فَقُرَّاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَيَتَفَضَّلْ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: حَثَّ اللَّهُ عَلَى النِّكَاحِ وَأَعْلَمَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِنَفْيِ الْفَقْرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حَاصِلًا لِكُلِّ فَقِيرٍ إِذَا تَزَوَّجَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ. وَقَدْ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ لَا يَحْصُلُ لَهُمُ الْغِنَى إِذَا تَزَوَّجُوا. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّهُ يُغْنِيهِ بِغِنَى النَّفْسِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنْ يَكُونُوا فَقُرَاءَ إِلَى النِّكَاحِ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مَنْ فَضْلِهِ بِالْحَلَالِ لِيَتَعَفَّفُوا عَنِ الزِّنَا. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ «1» فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ هُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ هُنَاكَ، وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَمُقَرِّرَةٌ لها، والمراد أن سُبْحَانَهُ ذُو سَعَةٍ لَا يَنْقُصُ مِنْ سَعَةِ مُلْكِهِ غِنَى مَنْ يُغْنِيهِ مِنْ عِبَادِهِ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ، يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ وَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْعَاجِزِينَ عَنِ النِّكَاحِ، بَعْدَ بَيَانِ جَوَازِ مُنَاكَحَتِهِمْ، إِرْشَادًا لَهُمْ إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى فَقَالَ: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً اسْتَعَفَّ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ عفيفا، أي: ليطلب العفة عن الزنا

_ (1) . التوبة: 28.

وَالْحَرَامِ مَنْ لَا يَجِدُ نِكَاحًا، أَيْ: سَبَبَ نِكَاحٍ، وَهُوَ الْمَالُ. وَقِيلَ: النِّكَاحُ هُنَا مَا تُنْكَحُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، كَاللِّحَافِ: اسْمٌ لِمَا يُلْتَحَفُ بِهِ، وَاللِّبَاسِ: اسْمٌ لِمَا يُلْبَسُ، وَقَيَّدَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِتِلْكَ الْغَايَةِ، وَهِيَ حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ: يَرْزُقَهُمْ رِزْقًا يَسْتَغْنُونَ بِهِ وَيَتَمَكَّنُونَ بِسَبَبِهِ مِنَ النِّكَاحِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ، الْجُمْلَةِ الْأُولَى: وَهِيَ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ بِالْمَشِيئَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ وَعْدًا حَتْمًا، لَا مَحَالَةَ فِي حُصُولِهِ، لَكَانَ الْغِنَى وَالزَّوَاجُ مُتَلَازِمَيْنِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِعْفَافِ مَعَ الْفَقْرِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّهُ سَيُغْنَى عِنْدَ تَزَوُّجِهِ لَا مَحَالَةَ، فَيَكُونُ فِي تَزَوُّجِهِ مَعَ فَقْرِهِ تَحْصِيلٌ لِلْغِنَى، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِالِاسْتِعْفَافِ لِلْعَاجِزِ عَنْ تَحْصِيلِ مَبَادِئِ النِّكَاحِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وُقُوعُ الْغِنَى لَهُ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَنْكِحَ، فَإِنَّهُ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ نِكَاحًا إِذَا كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِأَسْبَابِهِ الَّتِي يَتَحَصَّلُ بِهَا، وَأَعْظَمُهَا: الْمَالُ. ثُمَّ لَمَّا رَغَّبَ سُبْحَانَهُ فِي تَزْوِيجِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، أَرْشَدَ الْمَالِكِينَ إِلَى طَرِيقَةٍ يَصِيرُ بِهَا الْمَمْلُوكُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْرَارِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الموصول في محل رفع، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: وَكَاتِبُوا الذين يبتغون الكتاب: كَالْمُكَاتَبَةِ، يُقَالُ: كَاتَبَ يُكَاتِبُ كِتَابًا وَمُكَاتَبَةً، كَمَا يُقَالُ قَاتَلَ يُقَاتِلُ قِتَالًا وَمُقَاتَلَةً. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هَاهُنَا اسْمُ عَيْنٍ لِلْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا كَاتَبُوا الْعَبْدَ كَتَبُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ كِتَابًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِينَ يَطْلُبُونَ كِتَابَ الْمُكَاتَبَةِ. وَمَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ فِي الشَّرْعِ: أَنْ يُكَاتِبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ مُنَجَّمًا، فَإِذَا أَدَّاهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَكاتِبُوهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا طَلَبَ الْكِتَابَةَ مِنْ سَيِّدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَاتِبَهُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ، وَهُوَ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَالْخَيْرُ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَالُ فَقَطْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَطَاوُسٌ وَمُقَاتِلٌ. وَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ إِنْ رَجَوْتُمْ عِنْدَهُمْ وَفَاءً، وَتَأْدِيَةً لِلْمَالِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَمَّا قَالَ: «فِيهِمْ» كَانَ الْأَظْهَرُ الِاكْتِسَابَ، وَالْوَفَاءَ وَأَدَاءَ الْأَمَانَةِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إِنَّ الْخَيْرَ: الدِّينُ وَالْأَمَانَةُ. وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْمَالُ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ لِمَوْلَاهُ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مَالٌ؟ قَالَ: وَالْمَعْنَى عِنْدَنَا إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْخَيْرَ هُنَا الْمَالُ أَنْكَرَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ مَالًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ عَلِمْتُ فِيهِ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَالْأَمَانَةَ، وَلَا يُقَالُ عَلِمْتُ فِيهِ الْمَالَ. هَذَا حَاصِلُ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أهل العلم في الخبر الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مِنَ الْوُجُوبِ، أما عكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بْنُ دِينَارٍ وَالضَّحَّاكُ: وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُكَاتِبَ مَمْلُوكَهُ، إِذَا طَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ وَعَلِمَ فِيهِ خَيْرًا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَتَمَسَّكُوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَأَلَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، فَكَذَا الْكِتَابَةُ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذِهِ حُجَّةٌ وَاهِيَةٌ وَشُبْهَةٌ دَاحِضَةٌ، وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ

عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ الْمَوَالِيَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُكَاتَبِينَ، فَقَالَ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ لِلْمَالِكِينَ بِإِعَانَةِ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ، إما بأن يعطوهم شيئا من المال، أو بأن يَحُطُّوا عَنْهُمْ مِمَّا كُوتِبُوا عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ عَدَمُ تَقْدِيرِ ذَلِكَ بِمِقْدَارٍ، وَقِيلَ: الثُّلُثُ، وَقِيلَ: الرُّبُعُ، وَقِيلَ: الْعُشْرُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِ الْمَوَالِي بِهَذَا الْأَمْرِ هُوَ كَوْنُ الْكَلَامِ فِيهِمْ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ مَعَهُمْ فَإِنَّهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِالْكِتَابَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقول: وَآتُوهُمْ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْوُلَاةِ بِأَنْ يُعْطُوا الْمُكَاتَبِينَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ حَظَّهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَفِي الرِّقابِ «1» ، وَلِلْمُكَاتَبِ أَحْكَامٌ مَعْرُوفَةٌ إِذَا وَفَّى بِبَعْضِ مَالِ الْكِتَابَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرْشَدَ الْمَوَالِيَ إِلَى نِكَاحِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْمَمَالِيكِ، نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِكْرَاهِ إِمَائِهِمْ عَلَى الزِّنَا فَقَالَ: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ وَالْمُرَادُ بِالْفَتَيَاتِ هُنَا: الْإِمَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْفَتَى وَالْفَتَاةُ قَدْ يُطْلَقَانِ عَلَى الْأَحْرَارِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَالْبِغَاءُ: الزِّنَا، مَصْدَرُ بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً إِذَا زَنَتْ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِزِنَا النِّسَاءِ، فَلَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا زَنَا إِنَّهُ بَغِيٌّ، وَشَرَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَتِهِمْ لِلتَّحَصُّنِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ تُرِدِ التَّحَصُّنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهَا مُكْرَهَةٌ عَلَى الزِّنَا، وَالْمُرَادُ بِالتَّحَصُّنِ هُنَا: التَّعَفُّفُ وَالتَّزَوُّجُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَيْدَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَيَامَى. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ، وَإِمَائِكُمْ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا. وَقِيلَ: هَذَا الشَّرْطُ مُلْغًى. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُكْرِهُونَهُنَّ وَهُنَّ يُرِدْنَ التَّعَفُّفَ، وَلَيْسَ لِتَخَصُّصِ النَّهْيِ بِصُورَةِ إِرَادَتِهِنَّ التَّعَفُّفَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ عَدَمِ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ الْأَمَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مُرِيدَةٍ لِلْحَلَالِ وَلَا لِلْحَرَامِ، كَمَا فِيمَنْ لَا رَغْبَةَ لها في النكاح كالصغيرة، فَتُوصَفُ بِأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ عَلَى الزِّنَا، مَعَ عَدَمِ إِرَادَتِهَا لِلتَّحَصُّنِ، فَلَا يَتِمُّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَصُّنِ هُنَا مُجَرَّدُ التَّعَفُّفِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَى مَنْ كَانَتْ تُرِيدُ الزَّوَاجَ أَنَّهَا مُرِيدَةٌ لِلتَّحَصُّنِ وهو بعيد، فقد قال الحبر ابن عباس: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَصُّنِ: التَّعَفُّفُ وَالتَّزَوُّجُ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُوَ مَا تَكْسِبُهُ الْأَمَةُ بِفَرْجِهَا، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا خَارِجٌ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْعَرَضَ هُوَ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى إِكْرَاهِ الْإِمَاءِ عَلَى الْبِغَاءِ فِي الْغَالِبِ، لِأَنَّ إِكْرَاهَ الرَّجُلِ لِأَمَتِهِ عَلَى الْبِغَاءِ لَا لِفَائِدَةٍ لَهُ أَصْلًا، لَا يَصْدُرُ مِثْلُهُ عَنِ الْعُقَلَاءِ، فَلَا يَدُلُّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكْرِهَهَا، إِذَا لَمْ يَكُنْ مُبْتَغِيًا بِإِكْرَاهِهَا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لِلْإِكْرَاهِ هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَادَتَهُمْ كَانَتْ كَذَلِكَ، لَا أَنَّهُ مَدَارٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِكْرَاهِ لَهُنَّ، وَهَذَا يُلَاقِي المعنى الأوّل ولا يخالفه وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ هَذَا مُقَرِّرٌ لِمَا قَبْلَهُ وَمُؤَكِّدٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ عُقُوبَةَ الْإِكْرَاهِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُكْرِهِينَ لَا إِلَى الْمُكْرَهَاتِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعِيدُ بْنُ جبير:

_ (1) . البقرة: 177.

فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُنَّ. قِيلَ: وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا غَيْرُ آثِمَةٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، فَرُبَّمَا لَا تَخْلُو فِي تَضَاعِيفِ الزِّنَا عَنْ شَائِبَةٍ مُطَاوَعَةٍ إِمَّا بِحُكْمِ الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، أَوْ يَكُونُ الْإِكْرَاهُ قَاصِرًا عَنْ حَدِّ الْإِلْجَاءِ الْمُزِيلِ لِلِاخْتِيَارِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُمْ: إِمَّا مُطْلَقًا، أَوْ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ. وَلَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ بَيَانِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، شَرَعَ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ بِصِفَاتٍ ثَلَاثٍ: الْأُولَى: أَنَّهُ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ، أَيْ: وَاضِحَاتٍ فِي أَنْفُسِهِنَّ أَوْ مُوَضَّحَاتٍ، فَتَدْخُلُ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ، أَيْ: مَثَلًا كَائِنًا مِنْ جِهَةِ أَمْثَالِ الَّذِينَ مَضَوْا مِنَ الْقَصَصِ الْعَجِيبَةِ، وَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لَهُمْ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ الْعَجَبَ مِنْ قِصَّةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، هُوَ كَالْعَجَبِ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ وَمَا اتُّهِمَا بِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ وَبَرَاءَتُهُمَا سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ مَوْعِظَةً يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُتَّقُونَ خَاصَّةً، فَيَقْتَدُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَيَنْزَجِرُونَ عَمَّا فِيهِ مِنَ النَّوَاهِي. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَّقِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً عَنْ سَمَاعِ الْمَوَاعِظِ، والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشمل عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى الْآيَةَ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالنِّكَاحِ وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُزَوِّجُوا أَحْرَارَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْغِنَى فَقَالَ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ مِنَ النِّكَاحِ يُنْجِزُ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ مِنَ الْغِنَى، قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ كَرَجُلٍ لَمْ يَلْتَمِسِ الْغِنَى فِي الْبَاءَةِ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ فِيهَا مَا وَعَدَ، فَقَالَ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْكِحُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَكُمْ بِالْمَالِ» . وَأَخْرَجَهُ ابن أبي شيبة وأبو داود في مراسيله عن عروة مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يذكر عائشة وهو مرسل. وأخرج عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّرْغِيبِ فِي مُطْلَقِ النِّكَاحِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً قَالَ: لِيَتَزَوَّجْ مَنْ لَا يَجِدُ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُغْنِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ السَّكَنِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ أبيه قال: كنت مملوكا لحويطب ابن عَبْدِ الْعُزَّى، فَسَأَلْتُهُ الْكِتَابَةَ فَأَبَى، فَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَأَلَنِي سِيرِينُ الْمُكَاتَبَةَ فَأَبَيْتُ عَلَيْهِ، فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: كَاتِبْهُ وَتَلَا فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فَكَاتَبْتُهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ إِسْنَادَهُ

[سورة النور (24) : الآيات 35 إلى 38]

صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ حِرْفَةً، وَلَا تُرْسِلُوهُمْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ المنذر وابن وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قَالَ: الْمَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمَانَةٌ وَوَفَاءٌ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِنْ عَلِمْتَ مُكَاتَبَكَ يَقْضِيكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِيلَةً، وَلَا تُلْقُوا مُؤْنَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ يعني: ضعوا عنهم من مُكَاتَبَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حِرْفَةٌ وَيَقُولُ: يُطْعِمُنِي مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الْآيَةَ: أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعَيِّنُوا فِي الرِّقَابِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَمَرَ اللَّهُ السَّيِّدَ أَنْ يَدَعَ لِلْمُكَاتَبِ الرُّبُعَ مِنْ ثَمَنِهِ. وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ بِفَرِيضَةٍ، وَلَكِنْ فِيهِ أَجْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالرُّويَانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ بُرَيْدَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: حَثَّ النَّاسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطُوهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٌ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يقول الجارية لَهُ: اذْهَبِي فَابْغِينَا شَيْئًا، وَكَانَتْ كَارِهَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ لهنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ هكذا كان يقرؤها، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ جَارِيَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: يُقَالُ لَهَا مُسَيْكَةُ، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا أُمَيْمَةُ، فَكَانَ يُرِيدُهُمَا عَلَى الزِّنَا، فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغِينَ إِمَاءَهُمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُكْرِهُونَ إِمَاءَهُمْ عَلَى الزِّنَا، يَأْخُذُونَ أُجُورَهُنَّ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ مِنْهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ وَحُلْوَانِ الكاهن. [سورة النور (24) : الآيات 35 الى 38] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)

لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا بَيَّنَ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ فَقَالَ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا، وَالِاسْمُ الشَّرِيفُ: مُبْتَدَأٌ، ونور السموات وَالْأَرْضِ: خَبَرُهُ، إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذو نور السموات وَالْأَرْضِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُرَادِ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ نُورٌ لِكَمَالِ جَلَالِهِ وَظُهُورِ عَدْلِهِ وبسط أَحْكَامَهُ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ نُورُ الْبَلَدِ وَقَمَرُ الزَّمَنِ وَشَمْسُ الْعَصْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: فَإِنَّكَ شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبُ ... إِذَا ظَهَرَتْ لَمْ يَبْقَ فيهنّ كوكب «1» وقول الآخر: هلّا خصصت من البلاد بمقصد ... قَمَرُ الْقَبَائِلِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَرْوِ لَيْلَةً ... فَقَدْ سَارَ مِنْهَا نُورُهَا وَجِمَالُهَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى ... نُورًا وَمِنْ فَلَقَ الصَّبَاحِ عَمُودَا وَمَعْنَى النُّورِ فِي اللُّغَةِ: الضِّيَاءُ، وَهُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ الْأَشْيَاءَ وَيُرِيَ الْأَبْصَارَ حَقِيقَةَ مَا تَرَاهُ، فَيَجُوزُ إِطْلَاقُ النُّورِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَدْحِ، وَلِكَوْنِهِ أَوْجَدَ الْأَشْيَاءِ الْمُنَوَّرَةِ وَأَوْجَدَ أَنْوَارَهَا وَنُورَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيِّ «الله نور السموات وَالْأَرْضَ» عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَفَاعِلِهِ ضَمِيرٌ يرجع إلى الله، والسموات مَفْعُولُهُ فَمَعْنَى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ صَيَّرَهُمَا مُنِيرَتَيْنِ بِاسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ أَهْلِهِمَا وَكَمَالِ تَدْبِيرِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ فِيهِمَا، كَمَا يُقَالُ: الْمَلِكُ نُورُ الْبَلَدِ، هَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَزْهَرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالْقُرَظِيُّ وَابْنُ عَرَفَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَمَثَلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَنْتَ لَنَا نُورٌ وغيث وعصمة ... ونبت لمن يرجو نداك وريق وَقَالَ هِشَامٌ الْجَوَالِيقِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُجَسِّمَةِ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَجِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ، وَقَوْلُهُ: مَثَلُ نُورِهِ مُبْتَدَأٌ. وَخَبَرُهُ كَمِشْكاةٍ أَيْ: صِفَةُ نُورِهِ الْفَائِضِ عَنْهُ، الظَّاهِرُ عَلَى الْأَشْيَاءِ كَمِشْكَاةِ، وَالْمِشْكَاةُ: الْكُوَّةُ فِي الْحَائِطِ غَيْرُ النَّافِذَةِ، كَذَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ جُمْهُورِهِمْ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْمِشْكَاةِ أَنَّهَا أَجْمَعُ لِلضَّوْءِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، مِنْ مِصْبَاحٍ أو غيره، وأصل المشكاة الوعاء يُجْعَلُ فِيهِ الشَّيْءُ. وَقِيلَ: الْمِشْكَاةُ عَمُودُ الْقِنْدِيلِ الَّذِي فِيهِ الْفَتِيلَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْقِنْدِيلُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَأَنَّ عَيْنَيْهِ مشكاتان في حجر

_ (1) . وفي رواية: إذا طلعت لم يبد منهن كوكب.

ثُمَّ قَالَ: فِيها مِصْباحٌ وَهُوَ السِّرَاجُ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: النُّورُ فِي الزُّجَاجِ، وَضَوْءُ النَّارِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وضوؤه يَزِيدُ فِي الزُّجَاجِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الزُّجَاجَ جِسْمٌ شَفَّافٌ يَظْهَرُ فِيهِ النُّورُ أَكْمَلَ ظُهُورٍ. ثُمَّ وَصَفَ الزُّجَاجَةَ فَقَالَ: الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أَيْ: مَنْسُوبٌ إِلَى الدُّرِّ لِكَوْنِ فِيهِ مِنَ الصَّفَاءِ وَالْحُسْنِ مَا يُشَابِهُ الدُّرَّ. وَقَالَ الضحاك: الكوكب الدّري: الزهرة. قرأ أبو عمرو «دِرِّيٌّ» بِكَسْرِ الدَّالِّ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: لَمْ أَسْمَعْ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: إِلَّا كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دِرِّيٌّ بِكَسْرِ الدَّالِّ، أَخَذُوهُ مَنْ دَرَأَتِ النُّجُومُ تَدْرَأُ إِذَا انْدَفَعَتْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الدَّالِّ مَهْمُوزًا، وأنكره الفراء والزجاج والمبرد. وقال أَبُو عُبَيْدٍ: إِنْ ضَمَمْتَ الدَّالَّ وَجَبَ أَنْ لَا تَهْمِزَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالدَّرَارِيُّ: هِيَ الْمَشْهُورَةُ مِنَ الْكَوَاكِبِ كَالْمُشْتَرِي وَالزُّهْرَةِ وَالْمِرِّيخِ وَمَا يُضَاهِيهَا مِنَ الثَّوَابِتِ. ثُمَّ وَصَفَ الْمِصْبَاحَ بِقَوْلِهِ: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وَمِنْ هَذِهِ: هِيَ الِابْتِدَائِيَّةُ، أَيْ: ابْتِدَاءُ إِيقَادِ الْمِصْبَاحِ مِنْهَا، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: يُوقَدُ مِنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ، وَالْمُبَارَكَةُ: الْكَثِيرَةُ الْمَنَافِعِ. وَقِيلَ: الْمُنَمَّاةُ، وَالزَّيْتُونُ مِنْ أَعْظَمِ الثِّمَارِ نَمَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ يَرْثِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ: لَيْتَ شِعْرِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرٍو ... وَلَيْتَ يَقُولُهَا الْمَحْزُونُ بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا بو ... رك نَبْعُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ قِيلَ: وَمِنْ بَرَكَتِهَا أَنَّ أَغْصَانَهَا تُورِقُ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا، وَهِيَ إِدَامٌ وَدِهَانٌ وَدِبَاغٌ وَوَقُودٌ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ، ثُمَّ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى هَذَا الْوَصْفِ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: إِنَّ الشَّرْقِيَّةَ هِيَ الَّتِي تُصِيبُهَا الشَّمْسُ إِذَا شَرَقَتْ، وَلَا تُصِيبُهَا إِذَا غَرَبَتْ. وَالْغَرْبِيَّةُ هِيَ الَّتِي تُصِيبُهَا إِذَا غَرَبَتْ، وَلَا تُصِيبُهَا إِذَا شَرَقَتْ. وَهَذِهِ الزَّيْتُونَةُ هِيَ فِي صَحْرَاءَ بِحَيْثُ لَا يَسْتُرُهَا عَنِ الشَّمْسِ شَيْءٌ لَا فِي حَالِ شُرُوقِهَا وَلَا فِي حَالِ غُرُوبِهَا، وَمَا كَانَتْ مِنَ الزَّيْتُونِ هَكَذَا فَثَمَرُهَا أَجْوَدُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ فِي دَوْحَةٍ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا، فَهِيَ غَيْرُ مُنْكَشِفَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ، حَكَى هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الَّتِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَفْسُدُ جَنَاهَا، وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ فِي الْوُجُودِ. وَرَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنُورِهِ وَلَوْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا لَكَانَتْ إِمَّا شَرْقِيَّةً وَإِمَّا غَرْبِيَّةً. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَدْ أَفْصَحَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: زَيْتُونَةٌ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ شَجَرَةٌ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا مِنْ شَجَرِ الشَّامِ، فَإِنَّ الشَّامَ لَا شَرْقِيٌّ وَلَا غَرْبِيٌّ، وَالشَّامُ: هِيَ الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ. وَقَدْ قُرِئَ «تُوقَدُ» بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الزُّجَاجَةِ دُونَ الْمِصْبَاحِ، وَبِهَا قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَأَيُّوبٌ وَسَلَامٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ وَحَفْصٌ يُوقَدُ بِالتَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَةً وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِّ، وقرأ الحسن والسلمي وأبو عمرو بْنُ الْعَلَاءِ وَأَبُو جَعْفَرٍ «تَوَقَّدَ» بِالْفَوْقِيَّةِ مَفْتُوحَةً، وَفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَفَتْحِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مِنْ تَوَقَّدَ يَتَوَقَّدُ، وَالضَّمِيرُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى الْمِصْبَاحِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا لِلْمِصْبَاحِ، وهو

أَشْبَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ الَّذِي يُنِيرُ وَيُضِيءُ، وَإِنَّمَا الزُّجَاجَةُ وِعَاءٌ لَهُ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ كَقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَمَنْ مَعَهُ إِلَّا أَنَّهُ ضَمَّ الدَّالَّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مُضَارِعٌ، وَأَصْلُهُ تَتَوَقَّدُ. ثُمَّ وَصَفَ الزَّيْتُونَةَ بِوَصْفٍ آخَرَ فَقَالَ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَمْسَسْهُ» بِالْفَوْقِيَّةِ، لِأَنَّ النَّارَ مُؤَنَّثَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ إِلَّا هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ السُّدِّيَّ رَوَى عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عباس أنه قرأ «يمسسه» بالتحتية لكونه تَأْنِيثِ النَّارِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الزَّيْتَ فِي صَفَائِهِ وَإِنَارَتِهِ يَكَادُ يُضِيءُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ أَصْلًا، وَارْتِفَاعُ نُورُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ نور، وعَلى نُورٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِنُورٍ مُؤَكِّدَةٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: هُوَ نُورٌ كَائِنٌ عَلَى نُورٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَالْمُرَادُ النَّارُ عَلَى الزَّيْتِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمِصْبَاحُ: نُورٌ، وَالزُّجَاجَةُ: نُورٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نُورُ الْإِيمَانِ وَنُورُ الْقُرْآنِ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ: أَيْ هِدَايَةً خَاصَّةً مُوَصِّلَةً إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا مُجَرَّدُ الدَّلَالَةِ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ أَيْ يُبَيِّنُ الْأَشْيَاءَ بِأَشْبَاهِهَا وَنَظَائِرِهَا تَقْرِيبًا لَهَا إِلَى الْأَفْهَامِ وَتَسْهِيلًا لِإِدْرَاكِهَا، لِأَنَّ إِبْرَازَ الْمَعْقُولِ فِي هَيْئَةِ الْمَحْسُوسِ وَتَصْوِيرَهُ بِصُورَتِهِ يَزِيدُهُ وُضُوحًا وَبَيَانًا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَعْقُولًا كَانَ أَوْ مَحْسُوسًا، ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ بم هُوَ مُتَعَلِّقٌ؟ فَقِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: كَمِشْكَاةٍ فِي بَعْضِ بُيُوتِ اللَّهِ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَثَلُ نُورِهِ كَمَا تَرَى فِي الْمَسْجِدِ نُورُ الْمِشْكَاةِ الَّتِي مِنْ صِفَتِهَا كَيْتَ وَكَيْتَ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمِصْبَاحٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ يَقُولُ: هُوَ حَالٌ لِلْمِصْبَاحِ وَالزُّجَاجَةِ وَالْكَوْكَبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهِيَ فِي بُيُوتٍ، وقيل: متعلق بتوقد، أَيْ: تُوقَدُ فِي بُيُوتٍ، وَقَدْ قِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ يُسَبِّحُ، أَيْ: يُسَبِّحُ لَهُ رِجَالٌ فِي بُيُوتٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: «فِيهَا» تَكْرِيرًا كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ جَالِسٌ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ اللَّهُ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ. قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ أنه من جلس في المسجد فَإِنَّمَا يُجَالِسُ رَبَّهُ. وَقَدْ قِيلَ: عَلَى تَقْدِيرِ تعلقه بمشكاة أو بمصباح أو بتوقد مَا الْوَجْهُ فِي تَوْحِيدِ الْمِصْبَاحِ وَالْمِشْكَاةِ وَجَمْعِ البيوت؟ وَلَا تَكُونُ الْمِشْكَاةُ الْوَاحِدَةُ وَلَا الْمِصْبَاحُ الْوَاحِدُ إِلَّا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي يُفْتَحُ أَوَّلُهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَيُخْتَمُ بالجمع كقوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «1» وَنَحْوِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى فِي بُيُوتٍ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُيُوتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ بَيْتٍ، أَوْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُيُوتِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْبُيُوتِ، عَلَى أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بُيُوتُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ أَنَّهَا بُيُوتُ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: الرَّابِعُ: هِيَ الْبُيُوتُ كلها، قال عِكْرِمَةُ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ الْأَرْبَعَةُ الْكَعْبَةُ، وَمَسْجِدُ قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، قال ابْنُ زَيْدٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ والباء من بيوت تُضَمُّ وَتُكْسَرُ كُلُّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي اللُّغَةِ، وَمَعْنَى أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ: أَمَرَ وَقَضَى، وَمَعْنَى تُرْفَعُ تُبْنَى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ «2» وقال الحسن

_ (1) . الطلاق: 1. [.....] (2) . البقرة: 127.

الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَى تُرْفَعُ تُعَظَّمُ، وَيُرْفَعُ شَأْنُهَا وَتُطَهَّرُ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ، وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالرَّفْعِ هُنَا مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ، وَمَعْنَى يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ كُلُّ ذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقِيلَ: هُوَ التَّوْحِيدُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ «يُسَبَّحُ» بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحِّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ إِلَّا ابْنَ وَثَّابٍ وَأَبَا حيوة فإنهما قرءا بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ أَحَدَ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ، ويكون رجال مرفوع عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَكَأَنَّهُ جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: مَنْ يُسَبِّحُهُ؟ فَقِيلَ: يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. الثَّانِي: أَنَّ رِجَالٌ مُرْتَفَعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ رِجَالٌ فَاعِلُ يُسَبِّحُ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ يَكُونُ الْفَاعِلُ أَيْضًا رِجَالٌ، وَإِنَّمَا أُنِّثَ الْفِعْلُ لِكَوْنِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُؤَنَّثِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا التَّسْبِيحِ مَا هُوَ؟ فَالْأَكْثَرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، قَالُوا: الْغُدُوُّ: صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالْآصَالُ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءَيْنِ، لِأَنَّ اسْمَ الْآصَالِ يَشْمَلُهَا، وَمَعْنَى بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ: بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، وَقِيلَ: صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ صَلَاةُ الضُّحَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ هُنَا: مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَهُ، وَهَذَا أَرْجَحُ مِمَّا قَبْلَهُ، لكونه المعنى الحقيقي، مع وجود دليل يدل عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِرِجَالٍ، أَيْ: لَا تَشْغَلُهُمُ التِّجَارَةُ وَالْبَيْعُ عَنِ الذِّكْرِ وَخَصَّ التِّجَارَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَمَ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ الذِّكْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: التِّجَارَةُ لِأَهْلِ الْجَلَبِ، وَالْبَيْعُ مَا بَاعَهُ الرَّجُلُ عَلَى بَدَنِهِ، وَخَصَّ قَوْمٌ التِّجَارَةَ هَاهُنَا بِالشِّرَاءِ لِذِكْرِ الْبَيْعِ بَعْدَهَا. وَبِمِثْلِ قَوْلِ الْفَرَّاءِ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فقال التجار: هم الجلاب المسافرون والباعة الْمُقِيمُونَ، وَمَعْنَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ: هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْأَذَانُ، وَقِيلَ: عَنْ ذِكْرِهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. أَيْ: يُوَحِّدُونَهُ وَيُمَجِّدُونَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ: عَنِ الصَّلَاةِ، وَيَرُدُّهُ ذِكْرُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الذِّكْرِ هُنَا. وَالْمُرَادُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ إِقَامَتُهَا لِمَوَاقِيتِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَحُذِفَتِ التَّاءُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَقُومُ مَقَامَهَا فِي ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ جَمَعَهَا الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ: ثَلَاثَةٌ تحذف تاءاتها ... مضافة عند جمع النُّحَاةِ وَهْيَ إِذَا شِئْتَ أَبُو عُذْرِهَا ... وَلَيْتَ شِعْرِي وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ فِي الِاسْتِشْهَادِ لِلْحَذْفِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا ... وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا أَيْ: عِدَةَ الْأَمْرِ، وَفِي هَذَا الْبَيْتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَذْفَ مَعَ الْإِضَافَةِ لَا يَخْتَصُّ بِتِلْكَ الثَّلَاثَةِ الْمَوَاضِعِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا حُذِفَتِ الْهَاءُ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَقَمْتَ الصَّلَاةَ إِقَامَةً، وَكَانَ الْأَصْلُ إِقْوَامًا، وَلَكِنْ قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلْفًا فَاجْتَمَعَتْ أَلْفَانِ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَبَقِيَ أَقَمْتُ الصَّلَاةَ إِقَامًا، فأدخلت الهاء عوضا من الْمَحْذُوفِ وَقَامَتِ الْإِضَافَةُ هَاهُنَا فِي التَّعْوِيضِ مَقَامَ الْهَاءِ الْمَحْذُوفَةِ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. انْتَهَى. وقد احتاج

مَنْ حَمَلَ ذِكْرَ اللَّهِ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَنْ يَحْمِلَ إِقَامَ الصَّلَاةِ عَلَى تَأْدِيَتِهَا فِي أَوْقَاتِهَا فِرَارًا مِنَ التَّكْرَارِ وَلَا مُلْجِئَ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ يُحْمَلُ الذِّكْرُ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا. وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ الْمَذْكُورَةِ: هِيَ الْمَفْرُوضَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ طَاعَةُ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصُ، إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مَالٌ يَخافُونَ يَوْماً أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ لَا ظَرْفٌ لَهُ، ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الْيَوْمَ بِقَوْلِهِ: تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ أَيْ: تَضْطَرِبُ وَتَتَحَوَّلُ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الْقُلُوبِ: انْتِزَاعُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا إِلَى الْحَنَاجِرِ فَلَا تَرْجِعُ إِلَى أَمَاكِنِهَا وَلَا تَخْرُجُ، وَالْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الْأَبْصَارِ: هُوَ أَنْ تَصِيرَ عَمْيَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُبْصِرَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الْقُلُوبِ أَنَّهَا تَكُونُ مُتَقَلِّبَةٌ بَيْنَ الطَّمَعِ فِي النَّجَاةِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَأَمَّا تقلب الأبصار فهو النظر مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ يُؤْخَذُونَ، وَإِلَى أَيِّ نَاحِيَةٍ يَصِيرُونَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَحَوُّلُ قُلُوبِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّكِّ إِلَى الْيَقِينِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «1» فَمَا كَانَ يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا غَيًّا يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ رُشْدًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ التَّقَلُّبُ عَلَى جَمْرِ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، أَيْ: أَحْسَنَ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ حَسْبَمَا وَعَدَهُمْ مِنْ تَضْعِيفِ ذَلِكَ إِلَى عَشَرَةِ أَمْثَالِهِ وَإِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ما يتفضل سبحانه به عليه زِيَادَةً عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَضُّلُ عَلَيْهِمْ بِمَا فَوْقَ الْجَزَاءِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَاسِبَهُ عَلَى مَا أَعْطَاهُ، أَوْ أَنَّ عَطَاءَهُ سُبْحَانَهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا سَبَقَهَا مِنَ الْوَعْدِ بِالزِّيَادَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِيهِمَا، نُجُومَهُمَا، وَشَمْسَهُمَا، وَقَمَرَهُمَا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيٌّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ الَّذِي أَعْطَاهُ الْمُؤْمِنُ كَمِشْكاةٍ وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ إِنَّهَا الَّتِي فِي سَفْحِ جَبَلٍ، لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ، وَلَا إِذَا غَرَبَتْ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ فَذَلِكَ مَثَلُ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ نُورٌ عَلَى نُورٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ كَمِشْكَاةٍ، وَهِيَ: الْكُوَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مَثَلُ نُورِهِ قَالَ: هِيَ خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نُورُهُ مِثْلَ نُورٍ الْمِشْكَاةَ، قَالَ: مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْهُ أَيْضًا اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال: هادي أهل السموات وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ مَثَلُ هُدَاهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكاةٍ يَقُولُ مَوْضِعُ الْفَتِيلَةِ، كَمَا يَكَادُ الزَّيْتُ الصَّافِي يُضِيءُ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، فَإِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ ازْدَادَ ضَوْءًا عَلَى ضَوْئِهِ، كَذَلِكَ يَكُونُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، يَعْمَلُ بِالْهُدَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعِلْمُ، فَإِذَا جَاءَهُ الْعِلْمُ ازْدَادَ هُدًى عَلَى هُدًى، وَنُورًا عَلَى نُورٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَفِيهِ مَقَالٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم والحاكم

_ (1) . ق: 22.

وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ قَالَ: هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي قَدْ جُعِلَ الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ فِي صَدْرِهِ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَهُ فَقَالَ: نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ فَبَدَأَ بِنُورِ نَفْسِهِ، ثم ذكر نور المؤمن، فقال نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ، فَكَانَ أُبَيُّ بْنُ كعب يقرؤها «مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ» فَهُوَ الْمُؤْمِنُ، جُعِلَ الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ فِي صَدْرِهِ كَمِشْكاةٍ قَالَ: فَصَدْرُ الْمُؤْمِنَ: الْمِشْكَاةُ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ النُّورُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ الَّذِي جُعِلَ فِي صَدْرِهِ فِي زُجاجَةٍ والزُّجاجَةُ قَلْبُهُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يَقُولُ كَوْكَبٌ مُضِيءٌ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وَالشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ: أَصْلُ الْمُبَارَكِ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتُهُ لَا شَرِيكَ لَهُ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قَالَ: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ الْتَفَّتْ بِهَا الشَّجَرُ، فَهِيَ خَضْرَاءُ نَاعِمَةٌ لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَتْ، لَا إِذَا طَلَعَتْ، وَلَا إِذَا غَرَبَتْ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُؤْمِنُ قَدْ أُجِيرَ مِنْ أَنْ يُضِلَّهُ شَيْءٌ مِنَ الْفِتَنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مردويه عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِمُحَمَّدٍ: كَيْفَ يَخْلُصُ نُورُ اللَّهِ مِنْ دُونِ السَّمَاءِ؟ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ ذَلِكَ لِنُورِهِ فَقَالَ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ الْمِشْكَاةُ: كُوَّةُ الْبَيْتِ فِيها مِصْباحٌ وَهُوَ السِّرَاجُ يَكُونُ فِي الزُّجَاجَةِ، وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ، فَسَمَّى طَاعَتَهُ نُورًا، ثُمَّ سَمَّاهَا أَنْوَاعًا شَتَّى لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قَالَ: وَهِيَ وَسَطُ الشَّجَرِ، لَا تَنَالُهَا الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ، وَلَا إِذَا غَرَبَتْ، وَذَلِكَ أَجْوَدُ الزَّيْتِ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ بِغَيْرِ نَارٍ نُورٌ عَلى نُورٍ يَعْنِي بِذَلِكَ: إيمان العبد وعمله يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ قَالَ: الْمِشْكَاةُ: جَوْفُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالزُّجَاجَةُ: قَلْبُهُ، وَالْمِصْبَاحُ: النُّورُ الَّذِي فِي قَلْبِهِ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ الشَّجَرَةُ: إِبْرَاهِيمُ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ لَا يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، ثُمَّ قَرَأَ مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن شَمَرِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى كَعْبٍ الْأَحْبَارِ، فَقَالَ: حَدِّثْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ قَالَ: مَثَلُ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمِشْكَاةٍ قَالَ: الْمِشْكَاةُ: الْكُوَّةُ ضَرَبَهَا اللَّهُ مثلا لفمه فِيهَا مِصْبَاحٌ، وَالْمِصْبَاحُ قَلْبُهُ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ وَالزُّجَاجَةُ: صَدْرُهُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ شَبَّهَ صَدْرَ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ، ثُمَّ رَجَعَ الْمِصْبَاحُ إِلَى قلبه فقال: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ قَالَ: يَكَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ، وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، كَمَا يَكَادُ الزَّيْتُ أَنْ يُضِيءَ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ. وَأَقُولُ: إِنَّ تَفْسِيرَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ بِهَذَا وَنَحْوِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَيْسَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَلَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنِ الْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ شَبِيهَةٌ بِالْأَلْغَازِ وَالتَّعْمِيَةِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمُ اسْتَبْعَدُوا تَمْثِيلَ نُورِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِنُورِ الْمِصْبَاحِ فِي الْمِشْكَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نُورُهُ مثل نور المشكاة

_ (1) . آل عمران: 67.

كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الِاسْتِبْعَادِ. فَإِنَّا قَدْ قَدَّمَنَا فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ مَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ، وَيُوَضِّحُ مَا هُوَ الْمُرَادُ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ وَأَبْلَغِ أُسْلُوبٍ، وَعَلَى مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَيُفِيدُهُ كَلَامُ الْفُصَحَاءِ، فَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ، لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا مِنْ لُغَةٍ. وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ كَعْبٍ الْأَحْبَارِ فِي هَذَا كَمَا قَدَّمْنَا، فَإِنْ كَانَ هُوَ سَبَبَ عُدُولِ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ الْأَجِلَّاءِ عَنِ الظَّاهِرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَلَيْسَ مِثْلُ كَعْبٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَقَدْ نَبَّهْنَاكَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ إِذَا كَانَ مُسْتَنَدُهُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَلَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَلَا يَسُوغُ لِأَجْلِهِ الْعُدُولُ عَنِ التَّفْسِيرِ الْعَرَبِيِّ، نَعَمْ! إِنْ صَحَّتْ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَنَدَ لِهَذِهِ التَّفَاسِيرِ الْمُخَالِفَةِ لِلظَّاهِرِ، وَتَكُونُ كَالزِّيَادَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْمُرَادِ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ فَالْوُقُوفُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مِنَ السَّبْعَةِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ قَالَ: هِيَ الْمَسَاجِدُ تُكْرَمُ وَيُنْهَى عَنِ اللَّغْوِ فيها وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُتْلَى فِيهَا كِتَابُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَهُمَا أَوَّلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ فَأَحَبَّ أَنْ يَذْكُرَهُمَا وَيُذَكِّرَ بِهِمَا عِبَادَهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي تَعْظِيمِ الْمَسَاجِدِ وَتَنْزِيهِهَا عَنِ الْقَذَرِ وَاللَّغْوِ وَتَنْظِيفِهَا وَتَطْيِيبِهَا أَحَادِيثُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ صَلَاةَ الضُّحَى لَفِي الْقُرْآنِ وَمَا يَغُوصُ عَلَيْهَا إِلَّا غَوَّاصٌ فِي قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: كَانُوا رِجَالًا يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ، فَإِذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ أَلْقَوْا مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَقَامُوا إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ، قَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ هَذَا الْمَثَلَ قَوْلَهُ: «كَمِشْكَاةٍ» لِأُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَكَانُوا أَتْجَرَ النَّاسِ وَأَبْيَعَهُمْ، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ تُلْهِيهِمْ تِجَارَتُهُمْ وَلَا بَيْعُهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ: عَنْ شُهُودِ الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. أَنَّهُ كَانَ فِي السُّوقِ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَأَغْلَقُوا حَوَانِيتَهُمْ، ثُمَّ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِيهِمْ نَزَلَتْ: رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى نَاسًا مِنْ أَهْلِ السُّوقِ سَمِعُوا الْأَذَانَ فتركوا أمتعتهم، فقال: هؤلاء الذين قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَخْرَجَ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ النَّاسَ فِي صعيد واحد يسمعهم الدّاعي وينفذهم الْبَصَرَ، فَيَقُومُ مُنَادٍ فَيُنَادِي: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ؟

[سورة النور (24) : الآيات 39 إلى 46]

فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ثُمَّ يَعُودُ فَيُنَادِي: أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ؟ فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ثُمَّ يَعُودُ فَيُنَادِي: لِيَقُمِ الَّذِينَ كَانُوا لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ثُمَّ يَقُومُ سَائِرُ النَّاسِ فَيُحَاسَبُونَ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا نحوه. [سورة النور (24) : الآيات 39 الى 46] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ، ذَكَرَ مَثَلًا لِلْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ الْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ هُنَا: هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ كَالصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَفَكِّ الْعَانِي وَعِمَارَةِ الْبَيْتِ وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ، وَالسَّرَابُ: مَا يُرَى فِي الْمَفَاوِزِ مِنْ لَمَعَانِ الشَّمْسِ عِنْدَ اشْتِدَادِ حَرِّ النَّهَارِ عَلَى صُورَةِ الْمَاءِ فِي ظَنِّ مَنْ يَرَاهُ، وَسُمِّيَ سَرَابًا لِأَنَّهُ يَسْرُبُ، أي: يجري كالماء يقال: سرب الفحل، أي: مضى وسار في الأرض، ويسمى: الآل أيضا. وقيل: الآل هو الذي يكون ضحى كَالْمَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: أَلَمْ أَنْضِ الْمَطِيَّ بِكُلِّ خَرْقٍ ... طَوِيلِ «1» الطُّولِ لَمَّاعِ السَّرَابِ وَقَالَ آخَرُ: فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهُمْ ... كَلَمْعِ سَرَابٍ بِالْفَلَا مُتَأَلِّقِ وَالْقِيعَةُ جَمْعُ قَاعٍ: وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُنْخَفِضُ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ الْمَاءُ، مِثْلُ جِيرَةٍ وَجَارٍ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قِيعَةٌ وَقَاعٌ وَاحِدٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْقَاعُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ، وَالْجَمْعُ: أَقْوُعٌ وَأَقْوَاعٌ وَقِيعَانٌ، صَارَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا، وَالْقِيعَةُ: مِثْلُ الْقَاعِ. قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يقول هو جمع يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً

_ (1) . كذا في الأصل، وفي ديوان امرئ القيس «أمقّ الطّول» والأمقّ: الطويل.

هَذِهِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِسَرَابٍ، وَالظَّمْآنُ: الْعَطْشَانُ، وَتَخْصِيصُ الْحُسْبَانِ بِالظَّمْآنِ مَعَ كَوْنِ الرَّيَّانِ يَرَاهُ كَذَلِكَ، لِتَحْقِيقِ التَّشْبِيهِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الطَّمَعِ حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أَيْ: إِذَا جَاءَ الْعَطْشَانُ ذَلِكَ الَّذِي حَسِبَهُ مَاءً لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا مِمَّا قَدَّرَهُ وَحَسِبَهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَوِّلُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَظُنُّونَهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَيَطْمَعُونَ فِي ثَوَابِهَا، فَإِذَا قَدِمُوا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجِدُوا مِنْهَا شَيْئًا، لِأَنَّ الْكُفْرَ أَحْبَطَهَا وَمَحَا أَثَرَهَا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاءَهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بشيء، أنه جاء الموضع الذي كان يحسبه فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ حَسْرَةِ الْكَفَرَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قُصَارَى أَمْرِهِمْ مُجَرَّدُ الْخَيْبَةِ كَصَاحِبِ السَّرَابِ فَقَالَ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أَيْ: وَجَدَ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ، أَيْ: جَزَاءَ عَمَلِهِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَوَلَّى مُدْبِرًا يَهْوَى حَثِيثًا ... وَأَيْقَنَ أَنَّهُ لَاقَى الْحِسَابَا وَقِيلَ: وَجَدَ وَعْدَ اللَّهِ بِالْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِهِ، وَقِيلَ: وَجَدَ أَمْرَ اللَّهَ عِنْدَ حَشْرِهِ، وَقِيلَ: وَجَدَ حُكْمَهُ وَقَضَاءَهُ عِنْدَ الْمَجِيءِ، وَقِيلَ: عِنْدَ الْعَمَلِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ «بَقِيعَاهِ» بَهَاءٍ مُدَوَّرَةٍ كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَزْهَاهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ «بِقِيعَاتٍ» بِتَاءٍ مَبْسُوطَةٍ. قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ مُتَوَلِّدَةً مِنْ إِشْبَاعِ الْعَيْنِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَجَمْعُ قِيعَةٍ عَلَى الثَّانِي. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ أَنَّهُمْ قَرَءُوا الظَّمْآنُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمُ الْهَمْزُ. أَوْ كَظُلُماتٍ مَعْطُوفٌ عَلَى كَسَرَابٍ، ضَرَبَ الله مثلا آخر لأعمال الكفار كما أنه تُشْبِهُ السَّرَابَ الْمَوْصُوفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، فَهِيَ أَيْضًا تُشْبِهُ الظُّلُمَاتِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ إِنْ مُثِّلَتْ بِمَا يُوجَدُ، فَمَثَلُهَا كَمَثَلِ السَّرَابِ، وَإِنْ مُثِّلَتْ بِمَا يُرَى، فَهِيَ كَهَذِهِ الظُّلُمَاتِ الَّتِي وَصَفَ. قَالَ أَيْضًا: إِنْ شِئْتَ مَثِّلْ بِالسَّرَابِ، وَإِنْ شِئْتَ مَثِّلْ بِهَذِهِ الظُّلُمَاتِ، فَأَوْ لِلْإِبَاحَةِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنَ القول في أَوْ كَصَيِّبٍ «1» قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْآيَةُ الْأُولَى: فِي ذِكْرِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ، وَالثَّانِيَةُ: فِي ذِكْرِ كَفْرِهِمْ، وَنَسَقُ الْكُفْرِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّهُ أَيْضًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَعِنْدَ الزَّجَّاجِ التَّمْثِيلُ وَقَعَ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ، وَعِنْدَ الْجُرْجَانِيِّ لِكُفْرِ الْكُفَّارِ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ اللُّجَّةُ: مُعْظَمُ الْمَاءِ، وَالْجَمْعُ: لُجَجٌ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُدْرَكُ لِعُمْقِهِ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْبَحْرَ بِصِفَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: يَغْشاهُ مَوْجٌ أَيْ: يَعْلُو هَذَا الْبَحْرَ مَوْجٌ فَيَسْتُرُهُ وَيُغَطِّيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الْمَوْجَ بِقَوْلِهِ: مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي: من فوق هذا الموج ثم وصف الموج الثاني فقال: مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ أَيْ: مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ الْمَوْجِ الثَّانِي سَحَابٌ، فَيَجْتَمِعُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِمْ خَوْفُ البحر وأمواجه، والسحاب المرتفع فَوْقَهُ. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ بعد مَوْجٌ، فَيَكُونُ الْمَوْجُ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتَّى كأنه بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَالْبَحْرُ أَخْوَفُ مَا يَكُونُ إِذَا تَوَالَتْ أَمْوَاجُهُ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ وُجُودُ السَّحَابِ مِنْ فَوْقِهِ، زَادَ الْخَوْفُ شِدَّةً، لِأَنَّهَا تَسْتُرُ النُّجُومَ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا مَنْ في البحر، ثم إذا أمطرت تلك السحب وَهَبَّتِ الرِّيحُ الْمُعْتَادَةُ فِي الْغَالِبِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، تَكَاثَفَتِ الْهُمُومُ، وَتَرَادَفَتِ الْغُمُومُ، وَبَلَغَ الْأَمْرُ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا غَايَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ أَيْ: هي ظلمات،

_ (1) . البقرة: 19.

أو هذه ظلمات متكاثفة مُتَرَادِفَةٌ، فَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيَانٌ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَتَعَاظُمِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْبَزِّيُّ «سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ» بِإِضَافَةِ سَحَابٍ إِلَى ظُلُمَاتٍ، وَوَجْهُ الْإِضَافَةِ أَنَّ السَّحَابَ يَرْتَفِعُ وَقْتَ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ، فَأُضِيفَ إِلَيْهَا لِهَذِهِ الْمُلَابَسَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْقَطْعِ وَالتَّنْوِينِ. وَمِنْ غَرَائِبِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ بِالظُّلُمَاتِ: أَعْمَالَ الْكَافِرِ، وَبِالْبَحْرِ اللُّجِّيِّ: قَلَبَهُ، وَبِالْمَوْجِ فَوْقَ الْمَوْجِ: مَا يَغْشَى قَلْبَهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ. وَالسَّحَابُ: الرَّيْنُ وَالْخَتْمُ وَالطَّبْعُ عَلَى قَلْبِهِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ هُوَ عَنْ لُغَةِ الْعَرَبِ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ. ثُمَّ بَالَغَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَفَاعِلُ أَخْرَجَ: ضَمِيرٌ يُعُودُ عَلَى مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ: إِذَا أَخْرَجَ الْحَاضِرُ فِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ أَوْ مَنِ ابْتُلِيَ بِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى، لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ كَادَ زَائِدَةٌ. وَالْمَعْنَى: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَرَهَا، كَمَا تَقُولُ: مَا كِدْتُ أَعْرِفُهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: يَعْنِي لَمْ يَرَهَا إِلَّا مِنْ بَعْدِ الْجَهْدِ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذَا أَنَّ الْمَعْنَى لَمْ يُقَارِبْ رُؤْيَتَهَا، فَإِذَنْ لَمْ يَرَهَا رُؤْيَةً بَعِيدَةً وَلَا قَرِيبَةً، وَجُمْلَةُ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِ أَعْمَالِ الْكَفَرَةِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ هِدَايَةً فَمَا لَهُ مِنْ هِدَايَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ لَمْ يَهْتَدِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ «1» ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ، أَوْ للرسول صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَلِمَهُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَمَعْنَى أَلَمْ تَرَ أَلَمْ تَعْلَمْ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ، أَيْ: قَدْ عَلِمْتَ عِلْمًا يَقِينِيًّا شَبِيهًا بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالتَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ فِي ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِهِ، وَمَعْنَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَنْ هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِيهِمَا مِنَ الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَسْبِيحُ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ مَا يُسْمَعُ مِنْ أَصْوَاتِهَا، وَيُشَاهَدُ مِنْ أَثَرِ الصَّنْعَةِ الْبَدِيعَةِ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّسْبِيحَ هُنَا هُوَ الصَّلَاةُ مِنَ الْعُقَلَاءِ، والتنزيه من غيرهم. وقد قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَشْمَلُ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَأَنَّ آثَارَ الصَّنْعَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْجَمَادَاتِ نَاطِقٌ وَمُخْبِرٌ بِاتِّصَافِهِ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ وَتَنَزُّهِهِ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيعٌ لِلْكُفَّارِ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ حَيْثُ جَعَلُوا الْجَمَادَاتِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّسْبِيحُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ شُرَكَاءَ لَهُ يَعْبُدُونَهَا كَعِبَادَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي حَمْلُ التَّسْبِيحِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ عُمُومِ الْمَجَازِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ بِالرَّفْعِ لِلطَّيْرِ وَالنُّصْبِ لِصَافَّاتٍ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَنْ، وَصَافَّاتٌ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ «وَالطَّيْرَ» بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ، وَصَافَّاتٍ حَالٌ أَيْضًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهِيَ أَجْوَدُ مِنَ الرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ بِرَفْعِهِمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَمَفْعُولُ صَافَّاتٍ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَجْنِحَتُهَا، وَخَصَّ الطَّيْرَ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهَا تَحْتَ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ لِعَدَمِ اسْتِمْرَارِ اسْتِقْرَارِهَا فِي الْأَرْضِ وَكَثْرَةِ لبثها في الهواء وَهُوَ لَيْسَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الصَّنْعَةِ الْبَدِيعَةِ الَّتِي تَقْدِرُ بِهَا تَارَةً عَلَى الطَّيَرَانِ، وَتَارَةً عَلَى الْمَشْيِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَذَكَرَ حَالَةً مِنْ حالات

_ (1) . أي في سورة الإسراء الآية: 44.

الطَّيْرِ، وَهِيَ كَوْنُ صُدُورِ التَّسْبِيحِ مِنْهَا حَالَ كونها صافات لأجنحتها، أن هَذِهِ الْحَالَةَ هِيَ أَغْرَبُ أَحْوَالِهَا، فَإِنَّ اسْتِقْرَارَهَا فِي الْهَوَاءِ مُسَبِّحَةً مِنْ دُونِ تَحْرِيكٍ لِأَجْنِحَتِهَا، وَلَا اسْتِقْرَارٍ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَعْظَمِ صُنْعِ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ. ثُمَّ زَادَ فِي الْبَيَانِ فَقَالَ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ، وَالضَّمِيرُ فِي عَلِمَ: يَرْجِعُ إِلَى كُلٍّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمُسَبِّحَاتِ لِلَّهِ قَدْ عَلِمَ صَلَاةَ الْمُصَلِّي، وَتَسْبِيحَ الْمُسَبِّحِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ مُصَلٍّ وَمُسَبِّحٍ قَدْ عَلِمَ صَلَاةَ نَفْسِهِ وَتَسْبِيحَ نَفْسِهِ. قِيلَ: وَالصَّلَاةُ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْبِيحِ، وَكُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ، وَالصَّلَاةُ قَدْ تُسَمَّى تَسْبِيحًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هُنَا الدُّعَاءُ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ قَدْ عَلِمَ دُعَاءَهُ وَتَسْبِيحَهُ. وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ أَنَّ صدور هذا التسبيح هو عن علم علمها الله ذلك وألهمها إليه، لا أَنَّ صُدُورَهُ مِنْهَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاتِّفَاقِ بِلَا رَوِيَّةٍ، وَفِي ذَلِكَ زِيَادَةُ دَلَالَةٍ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَعَظِيمِ شَأْنِهِ، كَوْنُهُ جَعَلَهَا مُسَبِّحَةً لَهُ عَالِمَةً بِمَا يَصْدُرُ مِنْهَا غَيْرَ جَاهِلَةٍ لَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: لَا تَخْفَى عَلَيْهِ طَاعَتُهُمْ وَلَا تَسْبِيحُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي عَلِمَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمُسَبِّحَةِ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ صلاته له وَتَسْبِيحَهُ إِيَّاهُ، وَالْأَوَّلُ: أَرْجَحُ لِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ عَلَى رَفْعِ كُلٌّ، وَلَوْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي عَلِمَ لِلَّهِ لَكَانَ نَصْبُ كُلٌّ أَوْلَى. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا قِرَاءَةُ طَائِفَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ عُلِمَ: عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَبْدَأَ مِنْهُ وَالْمَعَادَ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: له لا لغيره وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمَصِيرُ: الرُّجُوعُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا آخَرَ مِنَ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً الْإِزْجَاءُ: السَّوْقُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: إِنِّي أَتَيْتُكِ مِنْ أَهْلِي وَمِنْ وَطَنِي ... أُزْجِي حُشَاشَةَ نَفْسٍ مَا بِهَا رَمَقُ وَقَوْلُهُ أَيْضًا: أَسَرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجوزاء سارية ... تزجي الشّمال عَلَيْهِ جَامِدَ الْبَرَدِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسُوقُ السَّحَابَ سَوْقًا رَقِيقًا إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أَيْ: بَيْنَ أَجْزَائِهِ، فَيَضُمُّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَيَجْمَعُهُ بَعْدَ تَفَرُّقِهِ لِيَقْوَى وَيَتَّصِلَ وَيَكْثُفَ، وَالْأَصْلُ فِي التَّأْلِيفِ: الْهَمْزُ. وَقَرَأَ وَرْشٌ وقالون عن نافع يُؤَلِّفُ بِالْوَاوِ تَخْفِيفًا، وَالسَّحَابُ: وَاحِدٌ فِي اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ جَمْعٌ، وَلِهَذَا دَخَلَتْ بَيْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَجْزَاءَهُ فِي حُكْمِ الْمُفْرَدَاتِ لَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي بَيْنَهُ رَاجِعٌ إِلَى جُمْلَةِ السَّحَابِ، كَمَا تَقُولُ: الشَّجَرُ قَدْ جَلَسْتُ بَيْنَهُ، لِأَنَّهُ جَمْعٌ وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أَيْ: مُتَرَاكِمًا يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَالرَّكْمُ: جَمْعُ الشَّيْءِ، يُقَالُ: رَكَمَ الشَّيْءَ يَرْكُمُهُ رَكْمًا، أَيْ: جَمَعَهُ وَأَلْقَى بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَارْتَكَمَ الشَّيْءُ وَتَرَاكَمَ إِذَا اجْتَمَعَ، وَالرُّكَمَةُ: الطِّينُ الْمَجْمُوعُ، وَالرُّكَامُ: الرَّمْلُ الْمُتَرَاكِبُ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ الْوَدْقُ: الْمَطَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلَا أَرْضَ أَبَقَلَ إِبْقَالَهَا

وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَدَمْعُهُمَا وَدَقٌّ وَسَحٌّ وَدَيْمَةٌ ... وَسَكَبٌ وَتَوْكَافٌ وَتَنْهَمِلَانِ يُقَالُ: وَدَقَتِ السَّحَابُ فَهِيَ وادقة الْمَطَرُ يَدِقُ، أَيْ: قَطَرَ يَقْطُرُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْوَدْقَ الْبَرْقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا ... خُرُوجَ الْوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، وَمَعْنَى مِنْ خِلالِهِ مِنْ فُتُوقِهِ الَّتِي هِيَ مَخَارِجُ الْقَطْرِ، وَجُمْلَةُ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا هِيَ الْبَصَرِيَّةُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وابن مسعود والضحاك وَأَبُو الْعَالِيَةِ «مَنْ خَلَلِهِ» عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي خِلَالِ، هَلْ هُوَ مُفْرَدٌ كَحِجَابٍ؟ أَوْ جَمْعٌ كَجِبَالٍ؟ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِنْ سَمَاءٍ: مِنْ عَالٍ، لِأَنَّ السَّمَاءَ قَدْ تطلق على جهة العلوّ، ومعنى من جبال: من قطع عظام تشبه الجبال، ولفظ فيها في محل نصب على الحال، ومِنْ في مِنْ بَرَدٍ لِلتَّبْعِيضِ، وَهُوَ مَفْعُولُ يُنَزِّلُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يُنَزِّلُ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ بَرَدًا. وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ فِي مِنْ بَرَدٍ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا بَرَدٌ. وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السماء قدر جبال، أَوْ مِثْلَ جِبَالٍ مِنْ بَرَدٍ إِلَى الْأَرْضِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ مَنْ فِي مِنْ جِبَالٍ وفي بَرَدٍ زَائِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْجِبَالُ وَالْبَرَدُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ بَرَدًا يَكُونُ كَالْجِبَالِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مِنْ فِي مِنَ السماء لابتداء الغاية بلا خلاف ومِنْ فِي مِنْ جِبَالٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَتَكُونُ هِيَ وَمَجْرُورِهَا بَدَلًا مِنَ الْأُولَى بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ فَتَكُونُ عَلَى هَذَا هِيَ وَمَجْرُورِهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولُ الْإِنْزَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيُنَزِّلُ بَعْضَ جِبَالٍ: الثَّالِثُ: أَنَّهَا زَائِدَةٌ، أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ جِبَالًا. وَأَمَّا مِنْ فِي مِنْ بَرَدٍ فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ بَعْضَ جِبَالٍ الَّتِي هِيَ الْبَرَدُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ بَرَدٌ فِيهَا كَمَا تَقُولُ: هَذَا خَاتَمٌ فِي يَدِي مِنْ حَدِيدٍ، أَيْ: خَاتَمُ حَدِيدٍ فِي يَدِي، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ هَذَا خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ وَخَاتَمُ حَدِيدٍ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ بَرَدٍ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةً لِجِبَالٍ كَمَا كَانَ مِنْ حَدِيدٍ صِفَةً لِخَاتَمٍ وَيَكُونُ مَفْعُولُ يُنَزِّلُ مِنْ جِبَالٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْجِبَالِ بَرَدًا أَنْ يَكُونَ الْمُنَزَّلُ بَرَدًا. وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: شَيْئًا مِنْ جِبَالٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَاكْتَفَى بِالصِّفَةِ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُصِيبُ بِمَا يُنَزِّلُ مِنَ الْبَرَدِ مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ مِنْهُمْ، أَوْ يُصِيبُ بِهِ مَالَ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَالِ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَنْ مَثْلِ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ السَّنَا: الضَّوْءُ، أَيْ: يَكَادُ ضَوْءُ الْبَرْقِ الَّذِي فِي السَّحَابِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ مِنْ شِدَّةِ بَرِيقِهِ، وَزِيَادَةِ لَمَعَانِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ قَالَ الشَّمَّاخُ: وَمَا كَادَتْ إِذَا رَفَعَتْ سَنَاهَا ... لِيُبْصِرَ ضَوْءَهَا إِلَّا الْبَصِيرُ

وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحَ رَاهِبٍ ... أَهَانَ السَّلِيطَ فِي الذَّبَالِ الْمُفَتَّلِ فَالسَّنَا بِالْقَصْرِ: ضَوْءُ الْبَرْقِ، وَبِالْمَدِّ: الرِّفْعَةُ، كَذَا قَالَ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَيَحْيَى ابن وثاب سَنا بَرْقِهِ بِالْمَدِّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ الضَّوْءِ وَالصَّفَاءِ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الرِّفْعَةِ وَالشَّرَفِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَيَحْيَى أَيْضًا بِضَمِّ الْبَاءِ مِنْ بُرَقِهِ وَفَتْحِ الرَّاءِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ: وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ جَمْعُ بَرْقٍ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْبُرَقَةُ الْمِقْدَارُ مِنَ الْبَرْقِ وَالْبَرْقَةُ الْوَاحِدَةُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ «يُذْهِبُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنَ الْإِذْهَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ سَنا بالقصر، وبَرْقِهِ بفتح الباء، وسكون الراء، ويَذْهَبُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ مِنَ الذَّهَابِ، وَخَطَّأَ قِرَاءَةَ الْجَحْدَرِيِّ وَابْنِ الْقَعْقَاعِ الْأَخْفَشُ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَمَعْنَى ذَهَابِ الْبَرْقِ بِالْأَبْصَارِ: خَطْفُهُ إِيَّاهَا مِنْ شِدَّةِ الْإِضَاءَةِ وَزِيَادَةِ الْبَرِيقِ، وَالْبَاءُ فِي الْأَبْصَارِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: لِلْإِلْصَاقِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِمْ: زَائِدَةٌ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أَيْ: يُعَاقِبُ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: يُزِيدُ فِي أَحَدِهِمَا وَيُنْقِصُ الْآخَرَ، وَقِيلَ: يُقَلِّبُهُمَا بِاخْتِلَافِ مَا يُقَدِّرُهُ فِيهِمَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَقِيلَ: بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ تَغْيِيرُ النَّهَارِ بِظُلْمَةِ السَّحَابِ مَرَّةً وَبِضَوْءِ الشَّمْسِ أُخْرَى، وَتَغْيِيرُ اللَّيْلِ بِظُلْمَةِ السَّحَابِ تَارَةً، وَبِضَوْءِ الْقَمَرِ أُخْرَى، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَمَعْنَى الْعِبْرَةِ: الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ الَّتِي يَكُونُ بها الاعتبار، والمراد بأولي الأبصار: كل من له بصر ويبصر بِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا ثَالِثًا مِنْ عَجَائِبِ خَلْقِ الْحَيَوَانِ، وَبَدِيعِ صَنْعَتِهِ فَقَالَ: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ خَلَقَ وَالْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ، وَالدَّابَّةُ: كُلُّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانِ، يُقَالُ: دَبَّ يَدِبُّ فَهُوَ دَابٌّ، وَالْهَاءُ: لِلْمُبَالَغَةِ، وَمَعْنَى مِنْ ماءٍ مِنْ نُطْفَةٍ، وَهِيَ: الْمَنِيُّ، كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ الْمُرَادَ الْمَاءُ الْمَعْرُوفُ، لِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَنْزِيلُ الْغَالِبِ مَنْزِلَةِ الْكُلِّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِي الحيوانات من لا يتولد عَنْ نُطْفَةٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ، وَالْجَانُّ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ. ثُمَّ فَصَّلَ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ كُلِّ دَابَّةٍ فَقَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَهِيَ: الْحَيَّاتُ، وَالْحُوتُ، وَالدُّودُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ الْإِنْسَانُ وَالطَّيْرُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ لِقِلَّتِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى أَرْبَعٍ فَقَطْ وَإِنْ كَانَتِ الْقَوَائِمُ كَثِيرَةً، وَقِيلَ: لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بما يمشي على أكثر من أربع، ولا وجه لهذا فإن المراد التنبيه على بديع الصنع وكمال القدرة، فكيف يقال بعدم الِاعْتِدَادِ بِمَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ؟ وَقِيلَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَشْيِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفِ ذَلِكَ وَلَا جَاءَ بِمَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ» فَعَمَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَمِيعَ مَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ: كَالسَّرَطَانِ وَالْعَنَاكِبِ وَكَثِيرٍ مِنْ خِشَاشِ الْأَرْضِ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ مِمَّا ذَكَرَهُ هَاهُنَا، وَمِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ، كَالْجَمَادَاتِ مُرَكَّبِهَا وَبَسِيطِهَا، نَامِيهَا وَغَيْرِ نَامِيهَا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، بَلِ الْكُلُّ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دَاخِلٌ تَحْتِ قدرته

[سورة النور (24) : الآيات 47 إلى 57]

سُبْحَانَهُ لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ أَيِ: الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى بَيَانِ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بِتَوْفِيقِهِ لِلنَّظَرِ الصَّحِيحِ، وَإِرْشَادِهِ إِلَى التَّأَمُّلِ الصَّادِقِ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى طريق مستوي لَا عِوَجَ فِيهِ، فَيُتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إِلَى الْخَيْرِ التَّامِّ وَهُوَ نُعَيْمُ الْجَنَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ قَالَ: هو مثل ضربه الله لرجل عَطِشَ، فَاشْتَدَّ عَطَشُهُ، فَرَأَى سَرَابًا فَحَسِبَهُ مَاءً، فَطَلَبَهُ فَظَنَّ أَنَّهُ قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى أَتَى، فَلَمَّا أَتَاهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، وَقُبِضَ عِنْدَ ذَلِكَ، يَقُولُ: الْكَافِرُ كَذَلِكَ السَّرَابُ إِذَا أَتَاهُ الْمَوْتُ لَمْ يَجِدْ عَمَلَهُ يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَنْفَعُهُ إِلَّا كَمَا نَفَعَ السَّرَابُ الْعَطْشَانَ يَغْشاهُ مَوْجٌ يَعْنِي بِذَلِكَ: الْغِشَاوَةَ الَّتِي عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ بِقِيعَةٍ: بِأَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم من طريق السُّدِّيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْكُفَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِرْدًا عِطَاشًا، فَيَقُولُونَ: أَيْنَ الْمَاءُ؟ فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ السَّرَابُ، فَيَحْسَبُونَهُ مَاءً، فَيَنْطَلِقُونَ إِلَيْهِ فَيَجِدُونَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَيُوَفِّيهِمْ حِسَابَهُ، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» وَفِي إِسْنَادِهِ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِيهِ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قَالَ: الصَّلَاةُ لِلْإِنْسَانِ وَالتَّسْبِيحُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ خَلْقِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ قَالَ: بَسْطُ أَجْنِحَتِهِنَّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَقُولُ: ضَوْءُ بَرْقِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ. وَأَقُولُ: هَذِهِ الطُّيُورُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا تَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ، وَهَكَذَا غَيْرُهَا، كَالنَّعَامَةِ فَإِنَّهَا تَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الطَّيْرِ، فَهَذِهِ الْكُلِّيَّةُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عنه لا تصحّ. [سورة النور (24) : الآيات 47 الى 57] وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ مَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَقَالَ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ، وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَيَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ هَاهُنَا يَنْسُبُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمِ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَالطَّاعَةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ نِسْبَةً بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ، لَا عَنِ اعْتِقَادٍ صَحِيحٍ، وَلِهَذَا قَالَ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَيْ: مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْقَائِلِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مَا نَسَبُوهُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ دَعْوَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِعَدَمِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ أَيْ: مَا أُولَئِكَ الْقَائِلُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَيَشْمَلُ الْحُكْمُ بِنَفْيِ الْإِيمَانِ جَمِيعَ الْقَائِلِينَ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُمْ مِنْ تَوَلَّى انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ تَوَلَّى، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى. وَالْكَلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى حُكْمَيْنِ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ عَلَى بَعْضِهِمْ بِالتَّوَلِّي، وَالْحُكْمُ الثَّانِي عَلَى جَمِيعِهِمْ: بِعَدَمِ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِمَنْ تَوَلَّى: مَنْ تَوَلَّى عَنْ قَبُولِ حُكْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ رُؤَسَاءَ الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِتَوَلِّي هَذَا الْفَرِيقِ رُجُوعَهُمْ إِلَى الْبَاقِينَ، وَلَا يُنَافِي مَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا وُرُودِهَا عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فِي خُصُومَاتِهِمْ، فَقَالَ: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَيْ: لِيَحْكُمَ الرَّسُولُ بَيْنَهُمْ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وإِذا فِي قَوْلِهِ: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، أَيْ: فَاجَأَ فَرِيقٌ مِنْهُمُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْمُحَاكَمَةِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُذْعِنُونَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، فَقَالَ: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِذْعَانُ: الْإِسْرَاعُ مَعَ الطَّاعَةِ، يُقَالُ: أَذْعَنَ لِي بِحَقِّي، أَيْ: طَاوَعَنِي لِمَا كُنْتُ أَلْتَمِسُ مِنْهُ وَصَارَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مُذْعِنِينَ مُقِرِّينَ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: مُذْعِنِينَ: خَاضِعِينَ. ثُمَّ قَسَّمَ الْأَمْرَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ حُكُومَتِهِ إِذَا كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهَذِهِ الْهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ لَهُمْ، وَالْمَرَضُ: النِّفَاقُ، أَيْ: أَكَانَ هَذَا الْإِعْرَاضُ مِنْهُمْ بِسَبَبِ النِّفَاقِ الْكَائِنِ فِي قُلُوبِهِمْ أَمِ ارْتابُوا وَشَكُّوا فِي أَمْرِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَدْلِهِ فِي الْحُكْمِ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ وَالْحَيْفُ: الْمَيْلُ فِي الْحُكْمِ يُقَالُ: حَافَ فِي قَضِيَّتِهِ، أَيْ: جَارَ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي صَدَّرَهَا بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فَقَالَ: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، بَلْ لِظُلْمِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِعْرَاضُ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ لَمَا أَتَوْا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم، وفيه هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبٍ الْإِجَابَةِ إِلَى الْقَاضِي الْعَالِمِ بِحُكْمِ اللَّهِ، الْعَادِلِ فِي حُكْمِهِ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْحُكْمُ مِنْ قُضَاةٍ الْإِسْلَامِ الْعَالِمِينَ بِحُكْمِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْعَادِلِينَ فِي الْقَضَاءِ هُوَ حُكْمٌ بِحُكْمِ اللَّهِ،

وَحُكْمِ رَسُولِهِ، فَالدَّاعِي إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَيْهِمْ قَدْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، أَيْ: إِلَى حُكْمِهِمَا. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ دُعِيَ إِلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ أَنْ يُجِيبَ، مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْحَاكِمَ فَاسِقٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى الْحَاكِمِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بينه وبين خصمه فلم يجب بِأَقْبَحِ الذَّمِّ، فَقَالَ: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْآيَةَ. انْتَهَى، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مُقَصِّرًا، لَا يَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَعْقِلُ حُجَجَ اللَّهِ، وَمَعَانِيَ كَلَامِهِ، وَكَلَامِ رَسُولِهِ، بَلْ كَانَ جَاهِلًا جَهْلًا بَسِيطًا، وَهُوَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ جَهْلًا مُرَكَّبًا، وَهُوَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّهُ قَدْ عَرَفَ بَعْضَ اجْتِهَادَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَاطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الرَّأْيِ، فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ جَاهِلٌ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ، فَاعْتِقَادُهُ بَاطِلٌ فَمَنْ كَانَ مِنَ الْقُضَاةِ هَكَذَا، فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَعْلَمُ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ مِنْ قُضَاةِ الطَّاغُوتِ، وَحُكَّامِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ مَا عَرَفَهُ مِنْ عِلْمِ الرَّأْيِ إِنَّمَا رُخِّصَ فِي الْعَمَلِ بِهِ لِلْمُجْتَهِدِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يُرَخَّصْ فِيهِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَدَيْكَ هَذَا وَفَهِمْتَهُ حَقَّ فَهْمِهِ عَلِمْتَ أَنَّ التَّقْلِيدَ وَالِانْتِسَابَ إِلَى عَالِمٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ وَالتَّقَيُّدُ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ رِوَايَةِ وَرَأْيِ وَإِهْمَالِ مَا عَدَاهُ مِنْ أَعْظَمِ مَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ، وَالْفَوَاقِرِ الْمُوحِشَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي مُؤَلَّفِنَا الَّذِي سَمَّيْنَاهُ [الْقَوْلِ الْمُفِيدِ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ] وَفِي مُؤَلِّفِنَا الَّذِي سَمَّيْنَاهُ [أَدَبَ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ] فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ عَلَى حَقِيقَةِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي طَبَّقَتِ الْأَقْطَارَ الْإِسْلَامِيَّةَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِمَا. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ النِّفَاقِ، أَتْبَعَ بِمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَفْعَلُوهُ إِذَا دُعُوا إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ (قَوْلَ) عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَاسْمُهَا أَنْ يَقُولُوا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِرَفْعِ «قَوْلُ» عَلَى أَنَّهُ الِاسْمُ، وَأَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ وَمَا فِي حَيِّزِهَا الْخَبَرُ، وَقَدْ رَجَّحْتُ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى بِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ النُّحَاةِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَعْرِفَتَانِ، وَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَعْرَفَ، جُعِلَتِ الَّتِي هِيَ أَعْرَفُ اسْمًا. وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَقَدْ خَيَّرَ بَيْنَ كُلِّ مَعْرِفَتَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّقْ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ، وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَذَكَرْنَا مَنْ تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُضَاةِ، وَمَنْ لَا تَجِبُ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ: أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ لَا قَوْلًا آخَرَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَبَرِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ تَعْلِيمُ الْأَدَبِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ لِلْآخَرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا هَكَذَا بِحَيْثُ إِذَا سَمِعُوا الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ قَابَلُوهُ بِالطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: يَقُولُونَ سَمِعْنَا قَوْلَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَطَعْنَا أَمْرَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَكْرَهُونَهُ وَيَضُرُّهُمْ، ثُمَّ أَثْنَى سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَأُولئِكَ أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْفَائِزُونَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بِثَنَاءٍ آخَرَ، فَقَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ حُسْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرْغِيبِ مَنْ عَدَاهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي عِدَادِهِمْ وَالْمُتَابَعَةِ لَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّقْوَى

لَهُ. قَرَأَ حَفْصٌ وَيَتَّقْهِ بِإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى نِيَّةِ الْجَزْمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، لِأَنَّ جَزْمَ هَذَا الْفِعْلِ بِحَذْفِ آخِرِهِ، وَأَسْكَنَ الْهَاءَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ وَاخْتَلَسَ الْكَسْرَةَ يَعْقُوبُ وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَالْمُثَنَّى عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَحَفْصٍ وَأَشْبَعَ كَسْرَةَ الْهَاءِ الْبَاقُونَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَقِرَاءَةُ حَفْصٍ هِيَ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: لَمْ أَرْ زَيْدًا، وَلَمْ أَشْتَرْ طَعَامًا يُسْقِطُونَ الْيَاءَ لِلْجَزْمِ ثُمَّ يُسَكِّنُونَ الْحَرْفَ الَّذِي قَبْلَهَا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا دَقِيقًا وَقَوْلُ الْآخَرِ: عَجِبْتُ لِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ وَأَصْلُهُ يَلِدْ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَسُكُونِ الدَّالِ لِلْجَزْمِ، فَلَمَّا سَكَّنَ اللَّامَ الْتَقَى سَاكِنَانِ، فَلَوْ حَرَّكَ الْأَوَّلُ لَرَجَعَ إِلَى مَا وَقَعَ الْفِرَارُ مِنْهُ، فَحَرَّكَ ثَانِيهِمَا وَهُوَ الدَّالُّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حَرَّكَ الْأَوَّلَ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَبَقِيَ السُّكُونُ عَلَى الدَّالِ لِبَيَانِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا يَضُرُّ الرُّجُوعُ إِلَى مَا وَقَعَ الْفِرَارُ مِنْهُ، فَهَذِهِ الْحَرَكَةُ غَيْرُ تِلْكَ الْحَرَكَةِ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى، أَيْ: هُمُ الْفَائِزُونَ بِالنَّعِيمِ الدُّنْيَوِيِّ، وَالْأُخْرَوِيِّ، لَا مَنْ عَدَاهُمْ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَرِهُوا حُكْمَهُ، أَقْسَمُوا بِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ لَخَرَجُوا فَقَالَ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ أَيْ: لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن، وجهد أَيْمَانِهِمْ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ النَّاصِبِ لَهُ، أَيْ: أَقْسَمُوا بِاللَّهِ يَجْهَدُونَ أَيْمَانَهُمْ جَهْدًا. وَمَعْنَى جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: طَاقَةُ مَا قَدَرُوا أَنْ يَحْلِفُوا، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ جَهَدَ نَفْسَهُ: إِذَا بَلَغَ طَاقَتَهَا وَأَقْصَى وُسْعِهَا. وَقِيلَ: هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ: مُجْتَهِدِينَ فِي أَيْمَانِهِمْ، كَقَوْلِهِمُ: افْعَلْ ذَلِكَ جَهْدَكَ، وَطَاقَتَكَ، وَقَدْ خَلَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْوَجْهَيْنِ فَجَعَلَهُمَا وَاحِدًا. وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: لَيَخْرُجُنَ وَلَمَّا كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ هَذِهِ كَاذِبَةً، وَأَيْمَانُهُمْ فَاجِرَةً رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ لَا تُقْسِمُوا أَيْ: رُدَّ عَلَيْهِمْ زَاجِرًا لَهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ لَا تُقْسِمُوا، أَيْ: لَا تَحْلِفُوا عَلَى مَا تَزْعُمُونَهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ إِنْ أَمُرْتُمْ بِهِ، وَهَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَارْتِفَاعُ طَاعَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: طَاعَتُهُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِأَنَّهَا طَاعَةٌ نِفَاقِيَّةٌ لَمْ تَكُنْ عن اعتقاد، ويجوز أن تكون طاعة مُبْتَدَأً، لِأَنَّهَا قَدْ خُصِّصَتْ بِالصِّفَةِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مُقَدَّرًا، أَيْ: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَيْمَانِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَرْتَفِعَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لِتَكُنْ مِنْكُمْ طَاعَةٌ أَوْ لِتُوجَدْ، وَفِي هَذَا ضَعْفٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُحْذَفُ إِلَّا إِذَا تقدّم ما يشعر له. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، طَاعَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَطِيعُوا طَاعَةً إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَا تُضْمِرُونَهُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِمَا تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِ طَاعَتِهِمْ طَاعَةَ نِفَاقٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ طَاعَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، بِخُلُوصِ اعْتِقَادٍ، وَصِحَّةِ نِيَّةٍ، وَهَذَا التَّكْرِيرُ مِنْهُ تَعَالَى لِتَأْكِيدِ وُجُوبِ الطَّاعَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: قُلْ لَا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي حُكْمِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، وَقِيلَ:

إِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، فَالْأَوَّلُ: نَهْيٌ بِطْرِيقِ الرَّدِّ وَالتَّوْبِيخِ، وَالثَّانِي: أَمْرٌ بِطَرِيقِ التَّكْلِيفِ لَهُمْ، وَالْإِيجَابِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ تَوَلَّوْا خِطَابٌ لِلْمَأْمُورِينَ، وَأَصْلُهُ فَإِنْ تَتَوَلَّوْا فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا، وَفِيهِ رُجُوعٌ مِنَ الْخِطَابِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخِطَابِ لَهُمْ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْعِنَايَةِ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ أَيْ: فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَا حُمِّلَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ وَقَدْ فَعَلَ، وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ، أَيْ: مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَقَدْ صِرْتُمْ حَامِلِينَ لِلْحِمْلِ الثَّقِيلِ وَإِنْ تُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ تَهْتَدُوا إِلَى الْحَقِّ وَتَرْشُدُوا إِلَى الْخَيْرِ وَتَفُوزُوا بِالْأَجْرِ، وَجُمْلَةُ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَاللَّامُ: إِمَّا لِلْعَهْدِ، فَيُرَادُ بِالرَّسُولِ نَبِيُّنَا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَإِمَّا لِلْجِنْسِ، فَيُرَادُ كُلُّ رَسُولٍ، وَالْبَلَاغُ الْمُبِينُ: التَّبْلِيغُ الْوَاضِحُ، أَوِ الْمُوَضَّحُ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا مَاضِيًا وَتَكُونُ الْوَاوُ لِضَمِيرِ الْغَائِبِينَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مِمَّا أُمِرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يقول لَهُمْ، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَيُؤَيِّدُهُ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قِرَاءَةُ الْبَزِّيِّ فَإِنْ تَوَلَّوْا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً لِمَا فِيهَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ سَاكِنِينَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَنَّ طَاعَتَهُمْ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ سَبَبٌ لِهِدَايَتِهِمْ، وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَعَمِلَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ بِالِاسْتِخْلَافِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَهُوَ وَعْدٌ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالصَّحَابَةِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَعَمَلَ الصَّالِحَاتِ لَا يختص بهم، بل يمكن وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمَنْ عَمِلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَاللَّامُ فِي لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ جَوَابٌ لِلْوَعْدِ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْقَسَمِ، لِأَنَّهُ نَاجِزٌ لَا مَحَالَةَ، وَمَعْنَى لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ: لَيَجْعَلَنَّهُمْ فِيهَا خُلَفَاءَ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلُوكِ فِي مَمْلُوكَاتِهِمْ، وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، أَوْ بِالْمُهَاجِرِينَ، أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ أَرْضُ مَكَّةَ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كُلُّ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ اللَّهُ فِي أَرْضِهِ فَلَا يُخَصُّ ذَلِكَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ دُونَ غَيْرِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ كَمَا اسْتَخْلَفَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَمَحَلُّ الْكَافِ النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: اسْتِخْلَافًا كَمَا اسْتَخْلَفَ، وَجُمْلَةُ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ دَاخِلَةٌ تَحْتَ حُكْمِهِ كَائِنَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّمْكِينِ هُنَا: التَّثْبِيتُ وَالتَّقْرِيرُ، أَيْ: يَجْعَلُهُ اللَّهُ ثابتا مقرّرا يوسع لَهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَيُظْهِرُ دِينَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا: الْإِسْلَامُ، كَمَا فِي قوله: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «1» ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الِاسْتِخْلَافَ لَهُمْ أَوَّلًا، وَهُوَ جَعْلُهُمْ مُلُوكًا وَذَكَرَ التَّمْكِينَ ثَانِيًا، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمُلْكَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْعُرُوضِ والطروّ، بل على وجه الاستقرار والثبات،

_ (1) . المائدة: 3.

بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُلْكُ لَهُمْ وَلِعَقِبِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَجُمْلَةُ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو بَكْرٍ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَبْدَلَ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ الْحَسَنِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مَنْ بَدَّلَ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَزِيَادَةُ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ أَرْجَحُ مِنْ قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَزَعَمَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ أَنَّ بَيْنَ التَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ فَرْقًا، وَأَنَّهُ يُقَالُ بَدَّلْتُهُ، أَيْ: غَيَّرْتَهُ، وَأَبْدَلْتُهُ: أَزَلْتُهُ وَجَعَلْتُ غَيْرَهُ. قَالَ النَّحَّاسُ، وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُ لَهُمْ مَكَانَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الْأَعْدَاءِ أَمْنًا، وَيُذْهِبُ عَنْهُمْ أَسْبَابَ الْخَوْفِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَخْشَوْنَ إِلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَلَا يَرْجُونَ غَيْرَهُ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا بقليل في خوف شديد من المشركين، ولا يَخْرُجُونَ إِلَّا فِي السِّلَاحِ، وَلَا يُمْسُونَ وَيُصْبِحُونَ إلى عَلَى تَرَقُّبٍ لِنُزُولِ الْمَضَرَّةِ بِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ صَارُوا فِي غَايَةِ الْأَمْنِ وَالدَّعَةِ، وَأَذَلَّ اللَّهُ لَهُمْ شَيَاطِينَ الْمُشْرِكِينَ وَفَتَحَ عَلَيْهِمِ الْبِلَادَ، وَمَهَّدَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْهَا، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَجُمْلَةُ يَعْبُدُونَنِي فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً مَسُوَقَةً لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَجُمْلَةُ لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَعْبُدُونَنِي، أَيْ: يَعْبُدُونَنِي، غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِي فِي الْعِبَادَةِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يُرَاءُونَ بِعِبَادَتِي أَحَدًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يَخَافُونَ غَيْرِي، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يُحِبُّونَ غَيْرِي وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيْ: مَنْ كَفَرَ هَذِهِ النِّعَمَ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَعْدِ الصَّحِيحِ، أَوْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانٍ، فَأُولَئِكَ الْكَافِرُونَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْفِسْقِ. وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ وَالطُّغْيَانِ فِي الْكُفْرِ وَجُمْلَةُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: فَآمِنُوا وَاعْمَلُوا صَالِحًا وَأَقِيمُوا الصلاة، وقيل: معطوف على أَطِيعُوا اللَّهَ وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: فَلَا تَكْفُرُوا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ لِلتَّأْكِيدِ وَخَصَّهُ بِالطَّاعَةِ، لِأَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُطِيعُونَهُ فِيهِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ الْحَذْفُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، مِنْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَذْفِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَيِ: افْعَلُوا مَا ذَكَرَ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، رَاجِينَ أَنْ يَرْحَمَكُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قَرَأَ ابْنُ عامر وحمزة وأبو حيوة «لا يحسبنّ» بالتحتية بمعنى: لا يحسبنّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ، وَالْمَوْصُولُ: الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَمُعْجِزِينَ: الثَّانِي، لِأَنَّ الْحُسْبَانَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ وَأَبُو عَلِيٍّ. وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا بَصْرِيًّا وَلَا كُوفِيًّا إِلَّا وَهُوَ يُخَطِّئُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ، وَمُعْجِزِينَ مَعْنَاهُ: فَائِتِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَتَفْسِيرُ مَا بَعْدَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ الْآيَةَ قَالَ: أُنَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَجِهَادٍ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجُوا أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ خُصُومَةً، أو منازعة

عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا دُعِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحِقٌّ أَذْعَنَ وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ سَيَقْضِي لَهُ بِالْحَقِّ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَظْلِمَ فَدُعِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضَ وَقَالَ: أَنْطَلِقُ إِلَى فُلَانٍ، فَأَنْزَلَ الله سُبْحَانَهُ وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: هُمُ الظَّالِمُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَيْءٌ فَدَعَاهُ إِلَى حَكَمٍ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ، فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْمَتْنَ مَا لَفْظُهُ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: فَهُوَ ظَالِمٌ، فَكَلَامٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَا حَقَّ لَهُ، فَلَا يَصِحُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ انْتَهَى. وَأَقُولُ: أَمَّا كَوْنُ الْحَدِيثِ مُرْسَلًا فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا دَعْوَى كَوْنِهِ بَاطِلًا فَمُحْتَاجَةٌ إِلَى بُرْهَانٍ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ كَمَا ذَكَرْنَا، ويبعد كل البعد أن ينفق عَلَيْهِمْ مَا هُوَ بَاطِلٌ، وَإِسْنَادُهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ هَكَذَا: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُبَارَكٌ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ فَذَكَرَهُ. وَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ كَذَّابٌ وَلَا وَضَّاعٌ. وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دُعِيَ إِلَى سُلْطَانٍ فَلَمْ يُجِبْ، فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ» . انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ قُضَاةَ الْعَدْلِ وَحُكَّامَ الشَّرْعِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قَدَّمَنَا لَكَ قَرِيبًا هُمْ سَلَاطِينُ الدِّينِ الْمُتَرْجِمُونَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الْمَبِينُونَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى قَوْمٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ أَمْوَالِنَا لَخَرَجْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذلك في شَأْنُ الْجِهَادِ، قَالَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يَحْلِفُوا عَلَى شَيْءٍ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَالَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْسِمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَقُولُ: قَدْ عرفت طاعتكم، أَيْ: إِنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَأْخُذُونَ مِنَّا الْحَقَّ وَلَا يُعْطُونَا؟ قَالَ: فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ قَانِعٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الجعفي قال: قلت يا رسول الله، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ: إِنْ كَانَ عَلَيَّ إِمَامٌ فَاجْرٌ فَلَقِيتُ مَعَهُ أَهْلَ ضَلَالَةٍ أُقَاتِلُ أَمْ لَا؟ قَالَ: قَاتِلْ أَهْلَ الضَّلَالَةِ أَيْنَمَا وَجَدْتَهُمْ، وَعَلَى الْإِمَامِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ الْبَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الْآيَةَ. قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ وَنَحْنُ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ سِرًّا، وَهُمْ خَائِفُونَ لَا يُؤْمَرُونَ بِالْقِتَالِ، حَتَّى أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْقِتَالِ، وَكَانُوا بِهَا خَائِفِينَ يُمْسُونَ فِي السِّلَاحِ وَيُصْبِحُونَ فِي السِّلَاحِ، فَغَبَرُوا «1» بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا من أصحابه قال: يا رسول الله! أَبَدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا؟ مَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ فِيهِ السِّلَاحَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لن تغبروا إلا

_ (1) . غبر، يغبر غبورا: بقي. والغابرين: الماكثين الباقين.

[سورة النور (24) : الآيات 58 إلى 61]

يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَتْ فِيهِمْ حَدِيدَةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَأَظْهَرَ الله نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَأَمِنُوا وَوَضَعُوا السِّلَاحَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ نَبِيَّهُ فَكَانُوا كَذَلِكَ آمِنِينَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ حتى وقعوا فيما وَقَعُوا وَكَفَرُوا النِّعْمَةَ، فَأَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ الَّذِي كَانَ رُفِعَ عَنْهُمْ، وَاتَّخَذُوا الْحَجْرَ وَالشُّرَطَ، وَغَيَّرُوا فَغُيِّرَ مَا بِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَآوَتْهُمُ الْأَنْصَارُ، رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ عَنْ قوس واحدة، فَكَانُوا لَا يَبِيتُونَ إِلَّا فِي السِّلَاحِ وَلَا يُصْبِحُونَ إِلَّا فِيهِ، فَقَالُوا: أَتَرَوْنَ أَنَّا نَعِيشُ حَتَّى نَبِيتَ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ لَا نَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، فَنَزَلَتْ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً قَالَ: لَا يَخَافُونَ أَحَدًا غَيْرِي. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الْعَاصُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كُفْرٌ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، لَيْسَ الْكُفْرَ بِاللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قال: سابقين في الأرض. [سورة النور (24) : الآيات 58 الى 61] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ فَذَكَرَهُ هَاهُنَا عَلَى وَجْهٍ أخصّ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَدْخُلُ الْمُؤْمِنَاتُ فِيهِ تَغْلِيبًا كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْخِطَابَاتِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَاخْتَلَفُوا فِي

الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا حَيْثُ كَانُوا لَا أَبْوَابَ لَهُمْ وَلَوْ عَادَ الْحَالُ لَعَادَ الْوُجُوبُ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَأَنَّ حُكْمَهَا ثَابِتٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: إِنَّهَا خَاصَّةٌ بِالنِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ خَاصَّةٌ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ الصِّبْيَانُ مِنْكُمْ، أَيْ: مِنَ الْأَحْرَارِ، وَمَعْنَى ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَعَبَّرَ بالمرات عن الْأَوْقَاتِ، وَانْتِصَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ، أَيْ: ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ، ثُمَّ فَسَّرَ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ إِلَخْ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: ثَلَاثَ اسْتِئْذَانَاتٍ وَرَجَّحَ هَذَا أَبُو حَيَّانَ فَقَالَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثَلَاثُ اسْتِئْذَانَاتٍ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبْتُكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا ثَلَاثَ ضَرْبَاتٍ. وَيُرَدُّ بِأَنَّ الظَّاهِرَ هُنَا مَتْرُوكٌ للقرينة المذكورة، وهو التفسير بالثلاثة الأوقات. وقرأ الْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ الْحُلْمِ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْحُلْمُ مِنْ حَلَمَ الرَّجُلُ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَمِنَ الْحُلْمِ حَلُمَ بِضَمِّ اللَّامِ يَحْلِمُ بِكَسْرِ اللَّامِ، ثُمَّ فَسَّرَ سُبْحَانَهُ الثَّلَاثَ الْمَرَّاتِ فَقَالَ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقِيَامِ عَنِ الْمَضَاجِعِ، وَطَرْحِ ثِيَابِ النَّوْمِ، وَلُبْسِ ثِيَابِ الْيَقَظَةِ، وَرُبَّمَا يَبِيِتُ عُرْيَانًا، أَوْ عَلَى حَالٍ لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ فِيهَا، وَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ثَلَاثَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ مِنْ قَبْلِ، وَقَوْلُهُ: وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى محل مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ ومِنْ فِي مِنَ الظَّهِيرَةِ لِلْبَيَانِ، أَوْ بِمَعْنَى فِي، أَوْ بِمَعْنَى اللَّامِ. وَالْمَعْنَى: حِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمُ الَّتِي تَلْبَسُونَهَا فِي النَّهَارِ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ الظَّهِيرَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يتجرّدون من الثِّيَابِ لِأَجْلِ الْقَيْلُولَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْوَقْتَ الثَّالِثَ فَقَالَ: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْتُ التَّجَرُّدِ عَنْ الثِّيَابِ وَالْخَلْوَةِ بِالْأَهْلِ، ثُمَّ أَجْمَلَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بَعْدَ التَّفْصِيلِ فَقَالَ: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ ثَلاثُ عَوْراتٍ بِرَفْعِ ثَلَاثٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا يَصِحُّ الْبَدَلُ بِتَقْدِيرِ أَوْقَاتِ ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ نَفْسَ ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ مُبَالَغَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ بَدَلًا مِنَ الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلَخْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: أَعْنِي وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُنَّ ثَلَاثٌ. قَالَ أَبُو حاتم: النصب ضعيف مردود. وقال الفراء: الرفع أحبّ إليّ، قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى هذه الخصال ثلاث عورات. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ ثَلَاثَ عَوْرَاتٍ مُرْتَفِعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَا بَعْدَهَا. قَالَ: وَالْعَوْرَاتُ السَّاعَاتُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْعَوْرَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لِيَسْتَأْذِنْكُمْ أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَعَوْرَاتٌ جَمْعُ عَوْرَةٍ، وَالْعَوْرَةُ: فِي الْأَصْلِ الْخَلَلُ، ثُمَّ غَلَبَ فِي الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِيمَا يَهُمُّ حِفْظُهُ وَيَتَعَيَّنُ سَتْرُهُ،

أَيْ: هِيَ ثَلَاثُ أَوْقَاتٍ يَخْتَلُّ فِيهَا السَّتْرُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «عَوَرَاتٍ» بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ وَتَمِيمٍ فَإِنَّهُمْ يَفْتَحُونَ عَيْنَ فَعَلَاتٍ سَوَاءً كَانَ وَاوًا أَوْ يَاءً، وَمِنْهُ: أَخُو بَيَضَاتٍ رائح مُتَأَوِّبٌ ... رَفِيقٌ بِمَسْحِ الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ وَقَوْلُهُ: أَبُو بيضات رائح أَوْ مُبَعِّدٌ ... عَجْلَانَ ذَا زَادٍ وَغَيْرَ مُزَوَّدِ وَ «لَكُمُ» مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِثَلَاثِ عَوْرَاتٍ أَيْ: كَائِنَةٌ لَكُمْ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ عِلَّةِ وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ أَيْ: لَيْسَ عَلَى الْمَمَالِيكِ وَلَا عَلَى الصِّبْيَانِ جَنَاحٌ، أَيْ: إِثْمٌ فِي الدُّخُولِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ. وَمَعْنَى بَعْدَهُنَّ: بَعْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ، وهي: الأوقات المتخللة بين كلّ اثنين مِنْهَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ خَاصَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعِ صِفَةٍ لِثَلَاثِ عَوْرَاتٍ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فِيهَا. قَالَ أَبُو الْبَقَاءُ بَعْدَهُنَّ أَيْ: بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِمْ فِيهِنَّ، ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ وَالْمَجْرُورُ فَبَقِيَ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِمْ، ثُمَّ حُذِفَ الْمَصْدَرُ وَهُوَ الِاسْتِئْذَانُ، وَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ بِهِ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ، بَلِ الْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ وَلَا عَلَيْهِمْ، أَيِ: الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالصِّبْيَانِ جُنَاحٌ فِي عَدَمِ الِاسْتِئْذَانِ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَارْتِفَاعُ طَوَّافُونَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْعُذْرِ الْمُرَخَّصِ فِي تَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا كَقَوْلِكَ فِي الْكَلَامِ هُمْ خَدَمُكُمْ وَطَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، وَأَجَازَ أَيْضًا نَصْبَ طَوَّافِينَ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ، وَالْمُضْمَرُ فِي عَلَيْكُمْ مَعْرِفَةٌ وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُضْمَرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي عَلَيْكُمْ وَفِي بَعْضِكُمْ لِاخْتِلَافِ الْعَامِلَيْنِ. وَمَعْنَى طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، أَيْ: يَطُوفُونَ عَلَيْكُمْ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ فِي الْهِرَّةِ «إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ» أَيْ: هُمْ خَدَمُكُمْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْكُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَمَعْنَى بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بَعْضُكُمْ يَطُوفُ أَوْ طَائِفٌ عَلَى بَعْضٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهَا أَوْ مُؤَكِّدَةٌ لَهَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلًّا مِنْكُمْ يَطُوفُ عَلَى صَاحِبِهِ، الْعَبِيدُ عَلَى الْمَوَالِي، وَالْمَوَالِي عَلَى الْعَبِيدِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَمَّا قَرَعْنَا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ ... بِبَعْضٍ أَبَتْ عِيدَانُهُ أَنْ تُكَسَّرَا وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «طَوَّافِينَ» بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ سُبْحَانَهُ الدُّخُولَ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِأَنَّهَا كَانَتِ الْعَادَةُ أَنَّهُمْ لَا يَكْشِفُونَ عَوْرَاتِهِمْ فِي غَيْرِهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ التَّبْيِينِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى مَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كَثِيرُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَكَثِيرُ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِهِ وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا حُكْمَ الْأَطْفَالِ الْأَحْرَارِ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ بَعْدَ مَا بَيَّنَ فِيمَا مَرَّ حُكْمَ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، فِي أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ

فِي تَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ، فِيمَا عَدَا الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: فَلْيَسْتَأْذِنُوا يَعْنِي: الَّذِينَ بَلَغُوا الْحُلُمَ إِذَا دَخَلُوا عَلَيْكُمْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَالْكَافُ: نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: اسْتِئْذَانًا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالْمَوْصُولُ عِبَارَةٌ عَنِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَلَغُوا الْحُلُمَ يَسْتَأْذِنُونَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْكِبَارِ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالِاسْتِئْذَانِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، ثُمَّ كَرَّرَ مَا تَقَدَّمَ لِلتَّأْكِيدِ فَقَالَ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْحُلُمَ فَحَذَفَ الضَّمَّةَ لِثِقَلِهَا. قَالَ عَطَاءٌ: وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا إِذَا احْتَلَمُوا أَحْرَارًا كَانُوا أَوْ عَبِيْدًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوَاعِدِ مِنَ النِّسَاءِ: الْعَجَائِزُ اللَّاتِي قَعَدْنَ عَنِ الْحَيْضِ، وَالْوَلَدِ مِنَ الْكِبَرِ، وَاحِدَتُهَا قَاعِدٌ بِلَا هَاءٍ لِيَدُلَّ حَذْفُهَا عَلَى أَنَّهُ قُعُودُ الْكِبَرِ، كَمَا قَالُوا: امْرَأَةٌ حَامِلٌ لِيَدُلَّ بِحَذْفِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ حَمْلُ حَبَلٍ، وَيُقَالُ: قَاعِدَةٌ فِي بَيْتِهَا وَحَامِلَةٌ عَلَى ظَهْرِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُنَّ اللَّاتِي قَعَدْنَ عَنِ التَّزْوِيجِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً أَيْ: لَا يَطْمَعْنَ فيه لكبرهنّ. قال أَبُو عُبَيْدَةَ: اللَّاتِي قَعَدْنَ عَنِ الْوَلَدِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَقْعُدُ عَنِ الْوَلَدِ وَفِيهَا مُسْتَمْتَعٌ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الْقَوَاعِدِ فَقَالَ: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أَيِ: الثِّيَابَ الَّتِي تَكُونُ عَلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ كالجلباب ونحوه، لا الثِّيَابُ الَّتِي عَلَى الْعَوْرَةِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُنَّ ذَلِكَ لِانْصِرَافِ الْأَنْفُسِ عَنْهُنَّ، إِذْ لَا رَغْبَةَ لِلرِّجَالِ فِيهِنَّ، فَأَبَاحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُنَّ مَا لَمْ يُبِحْهُ لِغَيْرِهِنَّ، ثُمَّ اسْتَثْنَى حَالَةً مِنْ حَالَاتِهِنَّ فَقَالَ: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أَيْ: غَيْرَ مُظْهِرَاتٍ لِلزِّينَةِ الَّتِي أُمِرْنَ بِإِخْفَائِهَا فِي قوله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ وَالْمَعْنَى: مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرِدْنَ بِوَضْعِ الْجَلَابِيبِ إِظْهَارَ زَيَّنَتْهُنَّ، وَلَا مُتَعَرِّضَاتٍ بِالتَّزَيُّنِ، لِيَنْظُرَ إِلَيْهِنَّ الرِّجَالُ. وَالتَّبَرُّجُ التَّكَشُّفُ وَالظُّهُورُ لِلْعُيُونِ، وَمِنْهُ: بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ «1» وَبُرُوجُ السَّمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَفِينَةٌ بَارِجَةٌ، أَيْ: لَا غِطَاءَ عَلَيْهَا وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ أَيْ: وَأَنْ يَتْرُكْنَ وَضْعَ الثِّيَابِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُنَّ مِنْ وَضْعِهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ «أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ» بِزِيَادَةِ مِنْ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «وَأَنْ يَعْفُفْنَ» بِغَيْرِ سِينٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَثِيرُ السَّمَاعِ وَالْعِلْمِ أَوْ بَلِيغُهُمَا لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ منسوخة؟ قال بالأوّل: جماعة من العماء، وَبِالثَّانِي: جَمَاعَةٌ. قِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ إِلَيْهِمْ مَفَاتِيحَ أَبْوَابِهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِنَا، فَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: لَا نَدْخُلُهَا وَهُمْ غُيَّبٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ فَمَعْنَى الْآيَةِ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنِ الزَّمْنَى فِي أَكْلِهِمْ مِنْ بُيُوتِ أَقَارِبِهِمْ، أَوْ بُيُوتِ مَنْ يَدْفَعُ إِلَيْهِمُ الْمِفْتَاحَ إِذَا خَرَجَ لِلْغَزْوِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَجَلِّ مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنَ التَّوْقِيفِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ مُؤَاكَلَةِ الأصحاء حذرا مِنَ اسْتِقْذَارِهِمْ إِيَّاهُمْ وَخَوْفًا مِنْ تَأَذِّيِهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنِ الْأَعْمَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ البصر، وعن الأعرج

_ (1) . النساء: 78.

فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِهِ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ عَلَى الْمَشْيِ، عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ الْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ الْعَرَجِ، وَعَنِ الْمَرِيضِ فِيمَا يُؤَثِّرُ الْمَرَضُ فِي إِسْقَاطِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ عَنْ هَؤُلَاءِ هُوَ الْحَرَجُ فِي الْغَزْوِ، أَيْ: لَا حَرَجَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي تَأَخُّرِهِمْ عَنِ الْغَزْوِ. وَقِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَدْخَلَ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الزَّمْنَى إِلَى بَيْتِهِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا يُطْعِمُهُمْ إِيَّاهُ ذَهَبَ بِهِمْ إِلَى بُيُوتِ قَرَابَتِهِ، فَيَتَحَرَّجُ الزَّمْنَى مِنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ يُمَاثِلُكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَأْكُلُوا أَنْتُمْ وَمَنْ مَعَكُمْ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، أَيْ: وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنِ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ إِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ مُؤَاكَلَةِ الْأَصِحَّاءِ، أَوْ دُخُولِ بُيُوتِهِمْ فَيَكُونُ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ أُولَئِكَ بِاعْتِبَارِ التَّكَالِيفِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا وُجُودُ الْبَصَرِ وَعَدَمِ الْعَرَجِ وَعَدَمِ الْمَرَضِ، فَقَوْلُهُ: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ غَيْرِ مُتَّصِلٍ بِمَا قَبْلَهُ. وَمَعْنَى مِنْ بُيُوتِكُمْ الْبُيُوتُ الَّتِي فِيهَا مَتَاعُهُمْ وَأَهْلُهُمْ فَيَدْخُلُ بُيُوتَ الْأَوْلَادِ كَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي بُيُوتِهِمْ لِكَوْنِ بَيْتِ ابْنِ الرَّجُلِ بَيْتَهُ، فَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ بُيُوتَ الْأَوْلَادِ، وَذَكَرَ بُيُوتَ الْآبَاءِ، وَبُيُوتَ الْأُمَّهَاتِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَعَارَضَ بَعْضُهُمْ هَذَا فَقَالَ: هَذَا تَحَكُّمٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بَلِ الْأَوْلَى فِي الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ مُخَالِفًا لِهَؤُلَاءِ. وَيُجَابُ عَنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ بِأَنَّ رُتْبَةَ الْأَوْلَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآبَاءِ لَا تَنْقُصُ عَنْ رُتْبَةِ الْآبَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوْلَادِ، بَلْ لِلْآبَاءِ مَزِيدُ خُصُوصِيَّةٍ فِي أَمْوَالِ الْأَوْلَادِ لِحَدِيثِ «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَحَدِيثُ «وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ» ثُمَّ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا بُيُوتَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، بَلْ بُيُوتَ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، بَلْ بُيُوتَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، فَكَيْفَ يَنْفِي سُبْحَانَهُ الْحَرَجَ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَنْفِيِهِ عَنْ بُيُوتِ الْأَوْلَادِ؟ وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَوَازَ الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ هَؤُلَاءِ بِالْإِذْنِ مِنْهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُشْتَرَطُ الْإِذْنُ. قِيلَ: وَهَذَا إِذَا كَانَ الطَّعَامُ مَبْذُولًا، فَإِنْ كَانَ مُحَرَّزًا دُونَهُمْ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَكْلُهُ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَيِ: الْبُيُوتُ الَّتِي تَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِإِذْنِ أَرْبَابِهَا، وَذَلِكَ كَالْوُكَلَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْخُزَّانِ، فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِي بُيُوتِ مَنْ أَذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ بَيْتِهِ وَإِعْطَائِهِمْ مَفَاتِحَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا بُيُوتُ الْمَمَالِيكِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَلَكْتُمْ بِفَتْحِ الميم وتخفيف اللام. وقرأ سعيد ابن جُبَيْرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ مَعَ تَشْدِيدِهَا. وَقَرَأَ أَيْضًا «مَفَاتِيحَهُ» بِيَاءٍ بَيْنَ التَّاءِ وَالْحَاءِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ مَفاتِحَهُ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْمَفَاتِحُ: جَمْعُ مَفْتَحٍ، وَالْمَفَاتِيحُ: جَمْعُ مِفْتَاحٍ أَوْ صَدِيقِكُمْ أَيْ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ صَدِيقِكُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ قُرَابَةٌ، فَإِنَّ الصَّدِيقَ فِي الْغَالِبِ يَسْمَحُ لِصَدِيقِهِ بِذَلِكَ وَتَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ، وَالصَّدِيقُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: دَعَوْنَ الْهَوَى ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوبَنَا ... بِأَسْهُمِ أَعْدَاءَ وَهُنَّ صِدِيقُ وَمِثْلُهُ الْعَدُوُّ وَالْخَلِيطُ وَالْقَطِينُ وَالْعَشِيرُ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً انتصاب جميعا وأشتاتا عَلَى الْحَالِ. وَالْأَشْتَاتُ: جَمْعُ شَتٍّ، وَالشَّتُّ الْمَصْدَرُ: بِمَعْنَى التَّفَرُّقِ، يُقَالُ شَتَّ الْقَوْمُ، أَيْ: تَفَرَّقُوا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ حُكْمٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يتحرّج

أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ حَتَّى يَجِدَ لَهُ أَكِيلًا يُؤَاكِلُهُ فَيَأْكُلُ مَعَهُ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ كَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَعَ ضَيْفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَاتِمٍ: إِذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ ... أَكِيلًا فَإِنِّي لَسْتُ آكِلَهُ وَحْدِي فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ أَدَبٍ آخَرَ أَدَّبَ بِهِ عِبَادَهُ، أَيْ: إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا غَيْرَ الْبُيُوتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَيْ: عَلَى أَهْلِهَا الَّذِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ أَنْفُسِكُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْبُيُوتُ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: هِيَ الْمَسَاجِدُ، وَالْمُرَادُ سَلِّمُوا عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ صِنْفِكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسَاجِدِ أَحَدٌ، فَقِيلَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَقِيلَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ مُرِيدًا لِلْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. وَقَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: أَعْنِي أَنَّهَا الْبُيُوتُ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبُيُوتِ هُنَا هِيَ كُلُّ الْبُيُوتِ الْمَسْكُونَةِ وَغَيْرِهَا، فَيُسَلِّمُ عَلَى أَهْلِ المسكونة، وأما على غَيْرُ الْمَسْكُونَةِ فَيُسَلِّمُ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ فِي الْبُيُوتِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَانْتِصَابُ تَحِيَّةً عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَسَلِّمُوا مَعْنَاهُ فَحَيُّوا، أَيْ: تَحِيَّةً ثَابِتَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَيْ: إِنَّ اللَّهَ حَيَّاكُمْ بِهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ أَنْ تَفْعَلُوهَا طَاعَةً لَهُ، ثُمَّ وَصَفَ هَذِهِ التَّحِيَّةَ فَقَالَ: مُبارَكَةً أَيْ: كَثِيرَةَ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ، دَائِمَتَهَمَا طَيِّبَةً أَيْ: تَطِيبُ بِهَا نَفْسُ الْمُسْتَمِعِ، وَقِيلَ: حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ السَّلَامَ مُبَارَكٌ طَيِّبٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ تَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تَعْلِيلٌ لِذَلِكَ التَّبْيِينِ بِرَجَاءِ تَعَقُّلِ آيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَفَهْمِ مَعَانِيهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: بَلَغَنَا أَنْ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَامْرَأَتَهُ أَسْمَاءَ بِنْتَ مَرْشَدَةَ صَنَعَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ طَعَامًا، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَقْبَحَ هَذَا إِنَّهُ لَيَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا، وَهُمَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، غُلَامُهُمَا بِغَيْرِ إذن، فأنزل الله في ذلك يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَعْنِي: الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ قَالَ: مِنْ أَحْرَارِكُمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يُوَاقِعُوا نِسَاءَهُمْ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ لِيَغْتَسِلُوا، ثُمَّ يَخْرُجُوا إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرُوا الْمَمْلُوكِينَ وَالْغِلْمَانَ أَنْ لَا يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ إِلَّا بِإِذْنٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ثَعْلَبَةَ الْقُرَظِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوِيدٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ، فَقَالَ: إِذَا أَنَا وَضَعْتُ ثِيَابِي بَعْدَ الظَّهِيرَةِ لَمْ يَلِجْ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْخَدَمِ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، وَلَا أَحَدٌ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ مِنَ الْأَحْرَارِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَإِذَا وَضَعْتُ ثِيَابِي بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَمِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الصُّبْحِ» . وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوِيدٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا ابْنُ سَعْدٍ عَنْ سُوِيدِ بْنِ النُّعْمَانِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ: يَعْنِي آيَةَ الْإِذْنِ، وَإِنِّي لَآمُرُ جَارِيَتِي هَذِهِ، - لِجَارِيَةٍ قَصِيرَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى رَأْسِهِ- أَنْ تَسْتَأْذِنَ عَلَيَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،

قَالَ: تَرَكَ النَّاسُ ثَلَاثَ آيَاتٍ لَمْ يَعْمَلُوا بهنّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الْآيَةَ، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحُجُرَاتِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: إِذَا خَلَا الرَّجُلُ بِأَهْلِهِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ صَبِيٌّ وَلَا خَادِمٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْغَدَاةَ، وَإِذَا خَلَا بِأَهْلِهِ عِنْدَ الظُّهْرِ فَمِثْلَ ذَلِكَ. وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ فَأَمَّا مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ إِلَّا بِإِذْنٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ أَيْضًا: أَنْ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ فِي الثَّلَاثِ الْعَوْرَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ» وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لَهُمْ سُتُورٌ عَلَى أَبْوَابِهِمْ وَلَا حِجَابٌ فِي بُيُوتِهِمْ، فَرُبَّمَا فَجَأَ الرَّجُلَ خَادِمُهُ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ يَتِيمٌ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بَعْدُ بِالسُّتُورِ، فَبَسَطَ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ، فَاتَّخَذُوا السُّتُورَ وَاتَّخَذُوا الْحِجَابَ، فَرَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قَالَ: هِيَ عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، فَالِاطِّلَاعُ عَلَى الْعَوْرَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَمَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الذُّكُورِ يَكْرَهُهُ مِنَ الْإِنَاثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ أزواج النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي النِّسَاءِ أَنْ يَسْتَأْذِنَّ عَلَيْنَا. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْآيَةِ قَالَ: النِّسَاءُ فَإِنَّ الرِّجَالَ يستأذنون. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أبي عبد الرحمن السلمي في هذه الآية قال: هي في النساء خاصة، الرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار. وأخرج الفريابي عن موسى بن أبي عائشة قَالَ: سَأَلْتُ الشَّعْبِيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَمَنْسُوخَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: إِنَّهَا فِي حِجْرِي وَإِنِّي أُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ الْآيَةَ، فَلَمْ يُؤْمَرْ هَؤُلَاءِ بِالْإِذْنِ إِلَّا فِي هَؤُلَاءِ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ، قَالَ: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَالْإِذْنُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ خَلْقِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَيْكُمْ إِذْنٌ عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْهُ قَالَ: يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ وَأُخْتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنْ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، قَالَ: أستأذن عليها، قال: إني خادمها

_ (1) . الحجرات: 13.

أَفَأَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا كُلَّمَا دَخَلْتُ؟ قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ لَا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا» وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنْ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَيْضًا مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الْآيَةَ، فَنَسَخَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْهُ قَالَ: هِيَ الْمَرْأَةُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا أَنْ تَجْلِسَ فِي بَيْتِهَا بِدِرْعٍ وَخِمَارٍ، وتضع عنها الْجِلْبَابَ مَا لَمْ تَتَبَرَّجْ بِمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يقرأ «أن يضعن من ثِيَابَهُنَّ» وَيَقُولُ: هُوَ الْجِلْبَابُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابن عمر في الآية قال: تضع الجلباب وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ قَالَ: الْجِلْبَابُ وَالرِّدَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «1» قَالَتِ الْأَنْصَارُ: مَا بِالْمَدِينَةِ مَالٌ أَعَزُّ مِنَ الطعام كانوا يتحرّجون أن يأكلوا مَعَ الْأَعْمَى يَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يُبْصِرُ مَوْضِعَ الطَّعَامِ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ الْأَكْلَ مَعَ الْأَعْرَجِ يَقُولُونَ الصَّحِيحُ يَسْبِقُهُ إِلَى الْمَكَانِ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُزَاحِمَ، وَيَتَحَرَّجُونَ الْأَكْلَ مَعَ الْمَرِيضِ يَقُولُونَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْكُلَ مِثْلَ الصَّحِيحِ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا فِي بُيُوتِ أَقَارِبِهِمْ، فَنَزَلَتْ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى يَعْنِي: فِي الْأَكْلِ مَعَ الْأَعْمَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن مقسم نحوه. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِالْأَعْمَى أَوِ الْأَعْرَجِ أَوِ الْمَرِيضِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أَخِيهِ أَوْ بَيْتِ عَمِّهِ أَوْ بَيْتِ عَمَّتِهِ أَوْ بَيْتِ خَالِهِ أَوْ بَيْتِ خَالَتِهِ، فَكَانَ الزَّمْنَى يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا يَذْهَبُونَ بِنَا إِلَى بُيُوتِ غَيْرِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرْغَبُونَ فِي النَّفِيرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَدْفَعُونَ مَفَاتِيحَهُمْ إِلَى أُمَنَائِهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ إِنَّهُمْ أَذِنُوا لَنَا مِنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ زَمْنَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابن عباس قال: لما نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَالطَّعَامُ هُوَ أَفْضَلُ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ فَكَفَّ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ وَهُوَ الرَّجُلُ يُوَكِّلُ الرَّجُلَ بِضَيْعَتِهِ، وَالَّذِي رَخَّصَ اللَّهُ: أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَالتَّمْرَ وَيَشْرَبَ اللَّبَنَ، وَكَانُوا أَيْضًا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَحْدَهُ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُمْ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ

_ (1) . النساء: 29.

[سورة النور (24) : الآيات 62 إلى 64]

قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُخَالِطُهُمْ فِي طَعَامِهِمْ أَعْمًى وَلَا مَرِيضٌ وَلَا أَعْرَجُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُزَاحَمَةَ عَلَى الطَّعَامِ، فَنَزَلَتْ رُخْصَةً فِي مُؤَاكَلَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ مَا بَالُ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ ذُكِرُوا هُنَا؟ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ إِلَيْهِمْ مَفَاتِيحَ أَبْوَابِهِمْ، يَقُولُونَ قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِنَا، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُونَ لَا نَدْخُلُهَا وَهُمْ غُيَّبٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رُخْصَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ بَنِيَ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِ مَخْزَاةَ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَسُوقُ الزَّوْدَ الْحَفْلَ وَهُوَ جَائِعٌ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَأَبِي صَالِحٍ قالا: كان الْأَنْصَارُ إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الضَّيْفُ لَا يَأْكُلُونَ حَتَّى يَأْكُلَ الضَّيْفُ مَعَهُمْ، فَنَزَلَتْ رُخْصَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ خَرَجَ الْحَارِثُ غَازِيًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلَّفَ عَلَى أَهْلِهِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، فَحَرِجَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهِ، وَكَانَ مَجْهُودًا فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ صَدِيقِكُمْ قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتَ صَدِيقِكَ مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَتِهِ، ثُمَّ أَكَلْتَ مِنْ طَعَامِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ صَدِيقِكُمْ قَالَ: هَذَا شَيْءٌ قَدِ انْقَطَعَ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَبْوَابٌ، وَكَانَتِ السُّتُورُ مُرْخَاةً، فَرُبَّمَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْبَيْتَ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَرُبَّمَا وَجَدَ الطَّعَامَ وَهُوَ جَائِعٌ فَسَوَّغَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْكُلَهُ. وَقَالَ: ذَهَبَ ذَلِكَ، الْيَوْمَ الْبُيُوتُ فِيهَا أَهْلُهَا، فَإِذَا خَرَجُوا أَغْلَقُوا، فَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ يَقُولُ: إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ، وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمَ عَلَيْهِمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ قَالَ: هُوَ الْمَسْجِدُ إِذَا دَخَلْتَهُ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ غَيْرَ الْمَسْكُونِ، أَوِ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

جُمْلَةُ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْدِيرِ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَ «إِنَّمَا» مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَتِمُّ إِيمَانٌ وَلَا يَكْمُلُ حَتَّى يَكُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجُمْلَةُ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى آمَنُوا داخلة فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، أَيْ: إِذَا كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ، أَيْ: عَلَى أَمْرِ طَاعَةٍ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، نَحْوَ الْجُمُعَةِ وَالنَّحْرِ وَالْفِطْرِ وَالْجِهَادِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَسُمِّيَ الْأَمْرُ جَامِعًا: مُبَالَغَةً لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِحَاجَةٍ أَوْ عُذْرٍ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَقُومَ بِحِيَالِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حَيْثُ يَرَاهُ، فَيَعْرِفُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَامَ لِيَسْتَأْذِنَ فَيَأْذَنُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَإِذْنُ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يُشِيرَ بِيَدِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانُوا مَعَ نَبِيِّهِ فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْجَمَاعَةِ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْإِمَامِ لَا يُخَالِفُونَهُ وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ فِي جَمْعٍ مِنْ جُمُوعِهِمْ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ وَلَهُ أَنْ لَا يَأْذَنَ عَلَى مَا يَرَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: عَلَى أَمْرٍ جَمِيعٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ الْجَامِعَ، أَوِ الْجَمِيعَ، هُوَ الَّذِي يَعُمُّ نَفْعُهُ أَوْ ضَرَرُهُ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْجَلِيلُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى اجْتِمَاعِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّجَارِبِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلُّ أَمْرٍ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مَعَ الْإِمَامِ لَا يُخَالِفُونَهُ وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ إِلَّا بِإِذْنٍ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنِينَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا حَكَمَ أَوَّلًا بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الكاملي الْإِيمَانَ: هُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِهِمَا وَبَيْنَ الِاسْتِئْذَانِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أَيْ: إِذَا اسْتَأْذَنَ الْمُؤْمِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ الْأُمُورِ الَّتِي تُهِمُّهُمْ، فَإِنَّهُ يَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَيَمْنَعُ مَنْ شَاءَ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلِحَةُ الَّتِي يَرَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَرْشَدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ مُسَوَّغٍ، فَلَا يَخْلُو عَنْ شَائِبَةِ تَأْثِيرِ أَمْرِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ بَالِغٌ فِيهِمَا إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا غَايَةٌ لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: لَا تَجْعَلُوا دَعْوَتَهُ إِيَّاكُمْ كَالدُّعَاءِ مِنْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، فِي التَّسَاهُلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنِ الْإِجَابَةِ أَوِ الرُّجُوعِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، أَوْ رَفْعِ الصَّوْتِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى قُولُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فِي رِفْقٍ وَلِينٍ، وَلَا تَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ بِتَجَهُّمٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَهُمْ أَنْ يُشَرِّفُوهُ وَيُفَخِّمُوهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا تَتَعَرَّضُوا لِدُعَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ بِإِسْخَاطِهِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ مُوجَبَةٌ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً التَّسَلُّلُ: الْخُرُوجُ فِي خُفْيَةٍ، يُقَالُ تَسَلَّلَ فُلَانٌ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَاللِّوَاذُ مِنَ الْمُلَاوَذَةِ، وَهُوَ أَنْ تَسْتَتِرَ بِشَيْءٍ، مَخَافَةَ مَنْ يَرَاكَ، وَأَصْلُهُ أَنْ يلوذ هذا بذاك وَذَاكَ بِهَذَا، وَاللَّوْذُ مَا يُطِيفُ بِالْجَبَلِ، وَقِيلَ: اللِّوَاذُ الزَّوَغَانُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ فِي خُفْيَةٍ. وَانْتِصَابُ لِوَاذًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُتَلَاوِذِينَ، يَلُوذُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ، وَقِيلَ:

هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ هُوَ الْحَالُ فِي الْحَقِيقَةِ، أَيْ: يَلُوذُونَ لِوَاذًا. وَقَرَأَ زَيْدٌ بْنُ قُطَيْبٍ لِواذاً بِفَتْحِ اللَّامِ. وَفِي الْآيَةِ بَيَانُ مَا كَانَ يَقَعُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مُتَلَاوِذِينَ، يَنْضَمُّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ اسْتِتَارًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَثْقَلَ يَوْمٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، لِمَا يَرَوْنَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ، فَكَانُوا يَفِرُّونَ عَنِ الْحُضُورِ وَيَتَسَلَّلُونَ فِي خُفْيَةٍ، وَيَسْتَتِرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ. وَقِيلَ اللِّوَاذُ: الْفِرَارُ مِنَ الْجِهَادِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، ومنه قول حسان: وقريش تجول منّا لواذا ... لم تحافظ وخفّ مِنْهَا الْحُلُومُ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ الْفَاءُ: لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ: يُخَالِفُونَ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَعُدِّيَ فِعْلُ الْمُخَالَفَةِ بِعَنْ مَعَ كَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ أَوِ الصَّدِّ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لأنه الآمر بالحقيقة، وأَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ مَفْعُولُ يَحْذَرْ، وَفَاعِلُهُ: الْمَوْصُولُ. وَالْمَعْنَى: فَلْيَحْذَرِ الْمُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَوْ أَمْرِ رَسُولِهِ، أَوْ أَمْرِهِمَا جَمِيعًا، إِصَابَةَ فِتْنَةٍ لَهُمْ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي حَذَّرَهُمْ مِنْ إِصَابَتِهَا لَهُمْ، هِيَ فِي الدُّنْيَا، وَكَلِمَةُ أَوْ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ حَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَتَوَعَّدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ الْآيَةَ، فَيَجِبُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَتَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ، وَالْفِتْنَةُ هُنَا: غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِتَنِ، وقيل: هي القتل، وقيل: الزلازل، وقيل: تسلط سلطان جائر عليهم، وَقِيلَ: الطَّبْعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: عَنْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ زَائِدَةٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى بَعْدَ، كَقَوْلِهِ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «1» أَيْ: بَعْدَ أَمْرِ رَبِّهِ، وَالْأَوْلَى: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّضْمِينِ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَسْرِهَا، فَهِيَ مِلْكُهُ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيُّهَا الْعِبَادُ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، فَيُجَازِيكُمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُ هَاهُنَا: بِمَعْنَى عَلِمَ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، أَيْ: يَعْلَمُ ما أنتم عليه ويعلم يوم ترجعون إِلَيْهِ فَيُجَازِيكُمْ فِيهِ بِمَا عَمِلْتُمْ، وَتَعْلِيقُ عِلْمِهِ سبحانه بيوم يَرْجِعُونَ لَا بِنَفْسِ رَجْعِهِمْ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ عِلْمِهِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوَقْتِ وُقُوعِ الشَّيْءِ، يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِوُقُوعِهِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَيْ: يُخْبِرُهُمْ بِمَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لِلْمُنَافِقِينَ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عُرْوَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَا: لَمَّا أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ عَامَ الْأَحْزَابِ نَزَلُوا بِمَجْمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رَوْمَةِ: بِئْرٍ بِالْمَدِينَةِ، قَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ حَتَّى نَزَلُوا بِنَقَمَى إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ، وَجَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْخَبَرُ، فَضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وَأَبْطَأَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَجَعَلُوا يُورُّونَ بِالضَّعِيفِ مِنَ الْعَمَلِ، فَيَتَسَلَّلُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

_ (1) . الكهف: 50.

وَلَا إِذْنٍ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا نَابَتْهُ النَّائِبَةُ مِنَ الْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا يَذْكُرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي اللُّحُوقِ لِحَاجَتِهِ فَيَأْذَنُ لَهُ، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ رَجَعَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أُولَئِكَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هِيَ فِي الْجِهَادِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: عَلى أَمْرٍ جامِعٍ قَالَ: مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَامٌّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ الْآيَةَ قَالَ: يَعْنِي كَدُعَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا دَعَا أَخَاهُ بِاسْمِهِ، وَلَكِنْ وَقِّرُوهُ وَقُولُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَا نَبِيَّ اللَّهِ!. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: لَا تَصِيحُوا بِهِ مِنْ بَعِيدٍ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي الْحُجُرَاتِ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ «1» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ مُقَاتِلٍ، قَالَ: كَانَ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ لِرُعَافٍ أَوْ إِحْدَاثٍ حَتَّى يستأذن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، فيأذن له النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ، وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَثْقُلُ عَلَيْهِ الْخُطْبَةُ وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ إِذَا اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَامَ الْمُنَافِقُ إِلَى جَنْبِهِ يَسْتَتِرُ بِهِ حَتَّى يَخْرُجَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ- قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ النُّورِ- وَهُوَ جَاعِلٌ أُصْبُعَيْهِ تَحْتَ عَيْنَيْهِ- يقول: بكل شيء بصير.

_ (1) . الحجرات: 3.

سورة الفرقان

سورة الفرقان وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَهِيَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ حيان وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ أَسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تُقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأَتْ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْسِلْهُ، أَقْرِئْنَا هِشَامُ» فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ» : ثُمَّ قَالَ: «أَقْرِئْنَا عُمَرُ» ، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ على سبعة أحرف، فاقرؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) تَكَلَّمَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ وَأَهَمُّ، ثُمَّ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّهَا الْوَاسِطَةُ، ثُمَّ فِي الْمَعَادِ، لِأَنَّهُ الْخَاتِمَةُ. وَأَصْلُ تَبَارَكَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، حِسِّيَّةً كَانَتْ أَوْ عَقْلِيَّةً. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَبَارَكَ تَفَاعَلَ، مِنَ الْبَرَكَةِ. قَالَ: وَمَعْنَى الْبَرَكَةِ: الْكَثْرَةُ مِنْ كُلِّ ذِي خَيْرٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ تَبَارَكَ وَتَقَدَّسَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُمَا: الْعَظَمَةُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: تَبَارَكَ عَطَاؤُهُ، أَيْ: زَادَ وَكَثُرَ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: دَامَ وَثَبَتَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَاهَا فِي اللُّغَةِ، وَالِاشْتِقَاقُ مِنْ بَرَكَ الشَّيْءُ: إِذَا ثَبَتَ، وَمِنْهُ: بَرَكَ الْجَمَلُ، أَيْ: دَامَ وَثَبَتَ. وَاعْتَرَضَ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ بِأَنَّ التَّقْدِيسَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ذَا فِي شَيْءٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ:

هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَالْفَرْقَانُ: الْقُرْآنُ، وسمى فرقانا، لأنه يفرق بني الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِأَحْكَامِهِ، أَوْ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، والمراد بعبده نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. ثُمَّ عَلَّلَ التَّنْزِيلَ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً فَإِنَّ النِّذَارَةَ هِيَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِنْزَالِ، والمراد: محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَوِ الْفَرْقَانُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ هُنَا: الْإِنْسُ والجنّ، لأن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مُرْسَلًا إِلَى الثَّقَلَيْنِ، وَالنَّذِيرُ: الْمُنْذِرُ، أَيْ: لِيَكُونَ مُحَمَّدٌ مُنْذِرًا، أَوْ لِيَكُونَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ مُنْذِرًا، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ النَّذِيرُ هُنَا بِمَعْنَى المصدر للمبالغة، أي: ليكون إنزاله إِنْذَارًا، وَجَعْلُ الضَّمِيرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى، لِأَنَّ صُدُورَ الْإِنْذَارِ مِنْهُ حَقِيقَةٌ، وَمِنَ الْقُرْآنِ مَجَازٌ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى وَلِكَوْنِهِ أَقْرَبَ مَذْكُورٍ. وَقِيلَ: إِنَّ رُجُوعَ الضَّمِيرِ إِلَى الْفُرْقَانِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «1» ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتٍ أَرْبَعٍ: الْأُولَى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ الْآخَرُ بَدَلًا، أو بيانا للموصول الأوّل، والوصف أولى، وفيه تَنْبِيهٍ عَلَى افْتِقَارِ الْكُلِّ إِلَيْهِ فِي الْوُجُودِ وتوابعه من البقاء وَغَيْرِهِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى وَالْيَهُودِ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى طَوَائِفِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، وَالثَّنَوِيَّةِ، وَأَهْلِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أَيْ: قَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ بِحِكْمَتِهِ عَلَى مَا أَرَادَ، وَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ المفسرون: قدر له تقديرا مِنَ الْأَجَلِ وَالرِّزْقِ، فَجَرَتِ الْمَقَادِيرُ عَلَى مَا خَلَقَ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْخَلْقِ هُنَا مُجَرَّدُ الْإِحْدَاثِ، والإيجاد مجازا مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَوْجَدَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِتَزْيِيفِ مَذَاهِبِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَقَالَ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وَالضَّمِيرُ فِي اتَّخَذُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ، لِدَلَالَةِ نَفْيِ الشَّرِيكِ عَلَيْهِمْ، أَيِ: اتَّخَذَ الْمُشْرِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ- مُتَجَاوِزِينَ اللَّهَ- آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ: صِفَةٌ لِآلِهَةٍ، أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَغَلَّبَ الْعُقَلَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ فِي مَعْبُودَاتِ الكفار: الملائكة، وعزير، وَالْمَسِيحَ وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَيْ: يَخْلُقُهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنِ الْآلِهَةِ بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ جَرْيًا عَلَى اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ. وَقِيلَ: مَعْنَى وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَنَّ عَبَدَتَهُمْ يُصَوِّرُونَهُمْ. ثُمَّ لَمَّا وَصَفَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَصَفَ آلِهَةَ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَجْزِ الْبَالِغِ فَقَالَ: وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَجْلِبُوا لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُوا عَنْهَا ضَرَرًا، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الضُّرِّ لِأَنَّ دَفْعَهُ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ وَإِذَا كَانُوا بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الدَّفْعِ وَالنَّفْعِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ يَمْلِكُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَعْبُدُهُمْ. ثُمَّ زَادَ فِي بَيَانِ عَجْزِهِمْ فَنَصَّصَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَالَ: وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِمَاتَةِ الْأَحْيَاءِ، وَلَا إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَلَا بَعْثِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ، لِأَنَّ النُّشُورَ: الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ، يُقَالُ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى فَنُشِرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَبًا للميّت الناشر

_ (1) . الإسراء: 9. [.....]

وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ، وَتَزْيِيفِ مَذَاهِبِ الْمُشْرِكِينَ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ شُبَهِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ. فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ أَيْ: كَذِبٌ افْتَراهُ أَيِ: اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا: إِلَى الْقُرْآنِ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى الِاخْتِلَاقِ قَوْمٌ آخَرُونَ يَعْنُونَ مِنَ الْيَهُودِ. قِيلَ وَهُمْ: أَبُو فُكَيْهَةَ يَسَارٌ مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّ، وَعَدَّاسٌ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَجَبْرٌ مَوْلَى ابْنِ عَامِرٍ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي النَّحْلِ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سبحانه عليهم فقال: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً أَيْ: فَقَدْ قَالُوا ظُلْمًا هَائِلًا عظيما وكذبا ظاهرا، وانتصاب ظلما بجاؤوا، فَإِنَّ جَاءَ: قَدْ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ أَتَى، وَيُعَدَّى تَعْدِيَتَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَالْأَصْلُ، جَاءُوا بِظُلْمٍ. وَقِيلَ: هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ظُلْمًا لِأَنَّهُمْ نَسَبُوا الْقَبِيحَ إِلَى مَنْ هُوَ مُبَرَّأٌ مِنْهُ، فَقَدْ وَضَعُوا الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَهَذَا هُوَ الظُّلْمُ، وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ مِنْهُمْ زُورًا فظاهر، لأنهم قد كذبوا في هَذِهِ الْمَقَالَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ الشُّبْهَةَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ، وَمَا سَطَّرُوهُ مِنَ الْأَخْبَارِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَاحِدُ الْأَسَاطِيرِ: أُسْطُورَةٌ، مِثْلُ: أَحَادِيثَ، وَأُحْدُوثَةٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَسَاطِيرُ جَمْعُ أَسْطَارٍ مِثْلُ أَقَاوِيلَ وَأَقْوَالٍ اكْتَتَبَها أَيِ: اسْتَكْتَبَهَا أَوْ كَتَبَهَا لِنَفْسِهِ، وَمَحَلُّ اكْتَتَبَهَا: النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ أَسَاطِيرَ، أَوْ مَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ، لِأَنَّ أَسَاطِيرَ مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسَاطِيرُ مُبْتَدَأً، وَاكْتَتَبَهَا خَبَرَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اكْتَتَبَهَا جَمَعَهَا مِنَ الْكُتُبِ، وَهُوَ الْجَمْعُ، لَا مِنَ الْكِتَابَةِ بِالْقَلَمِ. وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ اكْتَتَبَها مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى: اكْتَتَبَهَا لَهُ كَاتِبٌ، لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ، ثُمَّ حذفت اللام فأفضى الفعل إلى ضمير فَصَارَ اكْتَتَبَهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ بَنَى الْفِعْلَ لِلضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ إِيَّاهُ، فَانْقَلَبَ مَرْفُوعًا مُسْتَتِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَنْصُوبًا بَارِزًا، كَذَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ، وَاعْتَرَضَهُ أَبُو حَيَّانَ فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أَيْ: تُلْقَى عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَسَاطِيرُ بَعْدَ مَا اكتتبها ليحفظها من أفواه من يمليها مِنْ ذَلِكَ الْمُكْتَتَبِ لِكَوْنِهِ أُمِيًّا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَقْرَأَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ بِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اكْتَتَبَهَا أَرَادَ اكْتِتَابَهَا فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أُمْلِيَتْ عَلَيْهِ فَهُوَ يَكْتُبُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا غَدْوَةً وَعَشِيًّا كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُعَلِّمُونَ مُحَمَّدًا طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَقِيلَ: مَعْنَى بُكَرَةً وَأَصِيلًا: دَائِمًا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فَأَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْتَرَى وَيُفْتَعَلُ بِإِعَانَةِ قَوْمٍ، وَكِتَابَةِ آخَرِينَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُلَفَّقَةِ وَأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ سَمَاوِيٌّ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَلِهَذَا عَجَزْتُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَلَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْهُ، وَخُصَّ السِّرُّ لِلْإِشَارَةِ إِلَى انْطِوَاءِ مَا أَنْزَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَسْرَارٍ بَدِيعَةٍ لَا تَبْلُغُ إِلَيْهَا عُقُولُ الْبَشَرِ، وَالسِّرُّ: الْغَيْبُ، أَيْ: يَعْلَمُ الْغَيْبَ الْكَائِنَ فِيهِمَا، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً تَعْلِيلٌ لِتَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ، أَيْ: إِنَّكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ بما تَفْعَلُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِهِ وَالظُّلْمِ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعَجِّلُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَبارَكَ تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ

[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 إلى 16]

وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ قال يهود فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً قَالَ: كَذِبًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ هُوَ الْقُرْآنُ، فِيهِ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَشَرَائِعُهُ وَدِينُهُ، وَفَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذِيرًا مِنَ اللَّهِ لِيُنْذِرَ النَّاسَ بَأْسَ اللَّهِ، وَوَقَائِعَهُ بِمَنْ خَلَا قَبْلَكُمْ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً قَالَ: بَيَّنَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ صَلَاحَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قَالَ: هِيَ الْأَوْثَانُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وهو الله الخالق الرزاق، وَهَذِهِ الْأَوْثَانُ تُخْلَقُ وَلَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَمْلِكُ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا: يَعْنِي بَعْثًا وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَذَا قَوْلُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ هُوَ الْكَذِبُ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى حَدِيثِهِ هَذَا، وَأَمْرِهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كذب الأوّلين وأحاديثهم. [سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 16] وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ مَا طَعَنُوا بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ، ذَكَرَ مَا طَعَنُوا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ وَفِي الْإِشَارَةِ هُنَا تَصْغِيرٌ لِشَأْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَسَمَّوْهُ رَسُولًا اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أَيْ: مَا بَالُهُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ كَمَا نَأْكُلُ وَيَتَرَدَّدُ فِي الْأَسْوَاقِ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ كَمَا نَتَرَدَّدُ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مُسْتَغْنِيًا عَنِ الطَّعَامِ وَالْكَسْبِ، وَمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، والاستفهام للاستنكار، وخبر الْمُبْتَدَأِ لِهَذَا الرَّسُولِ، وَجُمْلَةُ يَأْكُلُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَبِهَا تَتِمُّ فَائِدَةُ الْإِخْبَارِ كقوله: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ «1» والإنكار متوجه إلى السبب مع تحقيق الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ الْأَكْلُ وَالْمَشْيُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَبْعَدَ تَحَقُّقَ ذَلِكَ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ عِنْدَهُمْ تَهَكُّمًا وَاسْتِهْزَاءً. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ صَحَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ النُّبُوَّةِ فَمَا بَالُهُ لَمْ يُخَالِفْ حَالُهُ حَالَنَا لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً

_ (1) . المدثر: 49.

طَلَبُوا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصْحُوبًا بِمَلَكٍ يُعَضِّدُهُ وَيُسَاعِدُهُ، تَنَزَّلُوا عَنِ اقْتِرَاحِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلَكًا مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْأَكْلِ وَالْكَسْبِ، إِلَى اقْتِرَاحِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَلَكٌ يُصَدِّقُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَكُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى كَوْنِهِ جَوَابَ التَّحْضِيضِ. وَقُرِئَ «فَيَكُونُ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى أُنْزِلَ، وَجَازَ عَطْفُهُ عَلَى الماضي لأنه الْمُرَادَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ مَعْطُوفٌ عَلَى أُنْزِلَ، وَلَا يَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى فَيَكُونَ، وَالْمَعْنَى: أَوْ هَلَّا يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ، تَنَزَّلُوا مِنْ مَرْتَبَةِ نُزُولِ الْمَلَكِ مَعَهُ إِلَى اقْتِرَاحِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ كَنْزٌ يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ لِيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَكُونُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَقَتَادَةُ «يَكُونُ» بِالتَّحْتِيَّةِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْجَنَّةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وَقَرَأَ «نَأْكُلُ» بِالنُّونِ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَخَلَفٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَأْكُلُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ: بُسْتَانٌ نَأْكُلُ نَحْنُ مِنْ ثِمَارِهِ، أَوْ يَأْكُلُ هُوَ وَحْدَهُ مِنْهُ لِيَكُونَ لَهُ بِذَلِكَ مَزِيَّةٌ عَلَيْنَا حَيْثُ يَكُونُ أَكْلُهُ مِنْ جَنَّتِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ وَإِنْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ أَبْيَنَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ بَيِّنٌ وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً الْمُرَادُ بِالظَّالِمُونَ هُنَا: هُمُ الْقَائِلُونَ بِالْمَقَالَاتِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ مَعَ الْوَصْفِ بِالظُّلْمِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِهِ، أَيْ: مَا تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ بِالسِّحْرِ، وَقِيلَ: ذَا سِحْرٍ، وَهِيَ الرِّئَةُ، أَيْ: بَشَرًا لَهُ رِئَةٌ لَا مَلَكًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مِثْلِ هَذَا فِي سُبْحَانَ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى تَكْذِيبِكَ، وَالْأَمْثَالُ: هِيَ الْأَقْوَالُ النَّادِرَةُ وَالِاقْتِرَاحَاتُ الْغَرِيبَةُ، وَهِيَ مَا ذَكَرُوهُ هَاهُنَا فَضَلُّوا عَنِ الصَّوَابِ فَلَا يَجِدُونَ طَرِيقًا إِلَيْهِ، وَلَا وَصَلُوا إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ، بَلْ جَاءُوا بهذه المقالات الَّتِي لَا تَصْدُرُ عَنْ أَدْنَى الْعُقَلَاءِ وَأَقَلِّهِمْ تَمْيِيزًا، وَلِهَذَا قَالَ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أَيْ: لَا يَجِدُونَ إِلَى الْقَدْحِ فِي نُبُوَّةِ هَذَا النَّبِيِّ طَرِيقًا مِنَ الطُّرُقِ تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ أَيْ: تَكَاثَرَ خَيْرُ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ فِي الدُّنْيَا مُعَجَّلًا خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ. ثُمَّ فَسَّرَ الْخَيْرَ فَقَالَ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فجنات بَدَلٌ مِنْ خَيْرًا وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ جَعَلَ، وَهُوَ الْجَزْمُ، وَبِالْجَزْمِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِرَفْعِ يَجْعَلْ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ أَنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ مَاضِيًا جَازَ فِي جَوَابِهِ الْجَزْمُ وَالرَّفْعُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ هَاهُنَا فِي مَحَلِّ جَزْمٍ وَرَفْعٍ فَيَجُوزُ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ أَنْ يُجْزَمَ وَيُرْفَعَ. وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ. وَقُرِئَ بِإِدْغَامِ لَامِ لَكَ فِي لَامِ يَجْعَلْ لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ. وَقُرِئَ بِتَرْكِ الْإِدْغَامِ لِأَنَّ الْكَلِمَتَيْنِ مُنْفَصِلَتَانِ، وَالْقَصْرُ: الْبَيْتُ من الحجارة، لأن الساكن به مقصور على أَنْ يُوصَلَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ بَيْتُ الطِّينِ وبيوت الصوف والشعر. ثم أضرب سبحانه على تَوْبِيخِهِمْ بِمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لا يصدر عن العقلاء فقال: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أَيْ: بَلْ أَتَوْا بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَهُوَ تَكْذِيبُهُمْ بِالسَّاعَةِ، فَلِهَذَا لَا يَنْتَفِعُونَ بِالدَّلَائِلِ وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِيهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَعَدَّهُ لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ فَقَالَ: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أَيْ: نَارًا مُشْتَعِلَةً مُتَسَعِّرَةً، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ، وَالْحَالُ أَنَّا أَعْتَدْنَا. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: أَعْتَدْنَا، أَيْ: جَعَلْنَاهُ عَتِيدًا وَمُعَدًّا لَهُمْ إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً

هَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةٌ لسعيرا لِأَنَّهُ مُؤَنَّثٌ بِمَعْنَى النَّارِ، قِيلَ: مَعْنَى إِذَا رَأَتْهُمْ: إِذَا ظَهَرَتْ لَهُمْ فَكَانَتْ بِمَرْأَى النَّاظِرِ فِي الْبُعْدِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِذَا رَأَتْهُمْ خَزَنَتُهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الرُّؤْيَةَ مِنْهَا حَقِيقِيَّةٌ وَكَذَلِكَ التَّغَيُّظُ وَالزَّفِيرُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُدْرِكَةً هَذَا الْإِدْرَاكَ. وَمَعْنَى مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أَنَّهَا رَأَتْهُمْ وَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنْهُمْ، قِيلَ: بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَمَعْنَى التَّغَيُّظِ: أَنَّ لَهَا صَوْتًا يَدُلُّ عَلَى التَّغَيُّظِ عَلَى الْكُفَّارِ، أَوْ لِغَلَيَانِهَا صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَ الْمُغْتَاظِ. وَالزَّفِيرُ: هُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ الْجَوْفِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ سَمَاعُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْغَيْظِ وَهُوَ الصَّوْتُ، أَيْ: سَمِعُوا لَهَا صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَ الْمُتَغَيِّظِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: أَرَادَ عَلِمُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَسَمِعُوا لَهَا زَفِيرًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا، أَيْ: وَحَامِلًا رُمْحًا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: سَمِعُوا فِيهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا لِلْمُعَذَّبِينَ كما قال: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ «1» وفي واللام متقاربان، تقول: افعل هذا في الله وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً وُصِفَ الْمَكَانُ بِالضِّيقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى زِيَادَةِ الشِّدَّةِ وَتَنَاهِي الْبَلَاءِ عَلَيْهِمْ، وَانْتِصَابُ مُقَرَّنِينَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: إِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا حَالَ كَوْنِهِمْ مُقْرَّنِينَ، قَدْ قُرِنَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ بِالْجَوَامِعِ، مُصَفَّدِينَ بِالْحَدِيدِ، وَقِيلَ: مُكَتَّفِينَ، وَقِيلَ: قُرِنُوا مَعَ الشَّيَاطِينِ، أَيْ: قُرِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى شَيْطَانِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ دَعَوْا هُنالِكَ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الضَّيِّقِ ثُبُوراً أَيْ: هَلَاكًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: ثُبِرْنَا ثُبُورًا، وَقِيلَ: مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ هُنَالِكَ الْهَلَاكَ وَيُنَادُونَهُ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ، فَأُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً أَيْ: فَيُقَالُ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ، وَالْقَائِلُ لَهُمْ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، أَيِ: اتْرُكُوا دُعَاءَ ثُبُورٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْهَلَاكِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ: وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً وَالثُّبُورُ: مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَلِهَذَا لَمْ يُجْمَعْ، وَمِثْلُهُ: ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا كَثِيرًا، وَقَعَدَ قُعُودًا طَوِيلًا، فَالْكَثْرَةُ هَاهُنَا هِيَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الدُّعَاءِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ، لَا بِحَسَبِ كَثْرَتِهِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَالْمَعْنَى: لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ بالثبور وَاحِدًا وَادْعُوهُ أَدْعِيَةً كَثِيرَةً، فَإِنَّ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ لِطُولِ مُدَّتِهِ وَعَدَمِ تَنَاهِيهِ، وَقِيلَ: هَذَا تَمْثِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لِحَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ، مِنْ غير أن يكون هناك فول، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى إِنَّكُمْ وَقَعْتُمْ فِيمَا لَيْسَ ثُبُورُكُمْ فِيهِ وَاحِدًا بَلْ هُوَ ثُبُورٌ كَثِيرٌ لِأَنَّ الْعَذَابَ أَنْوَاعٌ، وَالْأَوْلَى: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْجَوَابِ عَلَيْهِمُ الدِّلَالَةُ عَلَى خُلُودِ عَذَابِهِمْ وَإِقْنَاطِهِمْ عَنْ حُصُولِ مَا يَتَمَنَّوْنَهُ مِنَ الْهَلَاكِ الْمُنَجِّي لَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ. ثُمَّ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَوْبِيخًا بَالِغًا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ فَقَالَ: قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى السَّعِيرِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ، أَيْ: أَتِلْكَ السَّعِيرُ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ، وَفِي إِضَافَةِ الْجَنَّةِ إِلَى الْخُلْدِ إِشْعَارٌ بِدَوَامِ نَعِيمِهَا وَعَدَمِ انْقِطَاعِهِ، وَمَعْنَى الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الَّتِي وُعِدَهَا الْمُتَّقُونَ، وَالْمَجِيءُ بِلَفْظِ خَيْرٍ هُنَا مَعَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي النَّارِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: السَّعَادَةُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ الشَّقَاوَةُ؟ وَقِيلَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّفْضِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِكَ: عِنْدَهُ خَيْرٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ كَمَا قَالَ:

_ (1) . هود: 106.

أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً أَيْ: كَانَتْ تِلْكَ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَمَصِيرًا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ أَيْ: مَا يَشَاءُونَهُ مِنَ النَّعِيمِ، وَضُرُوبِ الْمَلَاذِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ «1» وَانْتِصَابُ خَالِدِينَ عَلَى الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ معنى الخلود كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أَيْ: كَانَ مَا يَشَاءُونَهُ، وَقِيلَ: كَانَ الْخُلُودُ، وَقِيلَ: كَانَ الْوَعْدُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وُعِدَ المتقون، ومعنى الوعد المسؤول: الْوَعْدُ الْمُحَقَّقُ بِأَنْ يُسْأَلَ وَيُطْلَبَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «2» وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْأَلُ لَهُمُ الْجَنَّةَ كَقَوْلِهِ: وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ «3» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْوَعْدُ الْوَاجِبُ وَإِنْ لَمْ يُسْأَلْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وأبا سفيان بن حرب والنضر ابن الحارث وأبا البختري والأسود عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَزَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ ابن أُمَيَّةَ وَأُمِّيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَالْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ وَنَبِيهَ بْنَ الْحَجَّاجِ وَمُنَبِّهَ بْنَ الْحَجَّاجِ اجْتَمَعُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ وَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذَرُوا مِنْهُ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ إِنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ، قَالَ: فجاءهم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا بَعَثْنَا إِلَيْكَ لِنُعَذِّرَ مِنْكَ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالًا، جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا، وَإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ بِهِ الشَّرَفَ فَنَحْنُ نُسَوِّدُكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بِي مِمَّا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بما جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلِيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ فَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ مِنَّا شَيْئًا مِمَّا عَرَضْنَا عَلَيْكَ، أَوْ قَالُوا: فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ هَذَا فَسَلْ لِنَفْسِكَ وَسَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَكَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ وَيُرَاجِعُنَا عَنْكَ، وَسَلْهُ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ جِنَانًا وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ تُغْنِيكَ عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي، فَإِنَّكَ تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسُ الْمَعَاشَ كَمَا نَلْتَمِسُهُ، حَتَّى نَعْرِفَ فَضْلَكَ وَمَنْزِلَتَكَ مِنْ رَبِّكِ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، مَا أَنَا بِالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ. وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أَيْ: جَعَلْتُ بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ بَلَاءً لِتَصْبِرُوا، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَجْعَلَ الدُّنْيَا مَعَ رُسُلِي فَلَا يُخَالِفُونَ لَفَعَلْتُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْنَاكَ مِنْ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَمَفَاتِيحِهَا مَا لَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ قَبْلَكَ، وَلَا نُعْطِهَا أَحَدًا بَعْدَكَ، وَلَا يُنْقِصُكَ ذَلِكَ مِمَّا لك عند الله شيئا، وإن شئت

_ (1) . فصلت: 31. (2) . آل عمران: 194. (3) . غافر: 8.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 إلى 24]

جمعتها لك في الآخرة، فقال: اجمعها لِي فِي الْآخِرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً. وأخرج نحوه عن ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ، أَوِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ وَالِدَيْهِ، أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَدًا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهَلْ لَهَا من عينين؟ قال: نعم، أما سمعتم يَقُولُ: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» . وَأَخْرَجَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قَالَ: مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ، وَذَلِكَ إِذَا أُتِيَ بِجَهَنَّمَ تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، يَشِدُّ بِكُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَوْ تُرِكَتْ لَأَتَتْ عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً تَزْفِرُ زَفْرَةً لَا تَبْقَيْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمْعٍ إِلَّا بَدَتْ، ثُمَّ تَزْفِرُ الثَّانِيَةَ فَتُقْطَعُ الْقُلُوبُ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَتَبْلُغُ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لَيُسْتَكْرَهُونَ فِي النَّارِ كَمَا يُسْتَكْرَهُ الْوَتَدُ فِي الْحَائِطِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أبي الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً قَالَ: وَيْلًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً يَقُولُ: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ وَيْلًا وَاحِدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى حُلَّتَهُ مِنَ النَّارِ إِبْلِيسُ، فَيَضَعُهَا عَلَى حَاجِبَيْهِ وَيَسْحَبُهَا مِنْ خَلْفِهِ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ يُنَادِي: يَا ثُبُورَاهُ! وَيَقُولُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ! حَتَّى يَقِفَ عَلَى النَّاسِ فَيَقُولَ: يَا ثُبُورَاهُ! وَيَقُولُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ! فَيُقَالُ لَهُمْ: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا» . وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ هَكَذَا. حَدَّثَنَا عَفَّانُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَفِي عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا يقول: سلوا الذي وعدتكم تنجزوه. [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 24] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)

قَوْلُهُ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ، وَتَعْلِيقُ التَّذْكِيرِ بِالْيَوْمِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ كَمَا مَرَّ مِرَارًا. قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ الدُّورِيِّ «يَحْشُرُهُمْ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كانَ عَلى رَبِّكَ وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ عَلَى التَّعْظِيمِ مَا عَدَا الْأَعْرَجَ فَإِنَّهُ قَرَأَ «نَحْشِرُهُمْ» بِكَسْرِ الشِّينِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ قَلِيلَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ قَوِيَّةٌ فِي الْقِيَاسِ، لِأَنَّ يَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمُتَعَدِّي أَقْيَسُ مِنْ يَفْعُلُ بِضَمِّهَا، وردّه أبو حيان بِاسْتِوَاءِ الْمَضْمُومِ وَالْمَكْسُورِ إِلَّا أَنْ يَشْتَهِرَ أَحَدُهُمَا اتُّبِعَ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولِ نَحْشُرُ، وَغَلَّبَ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَنَحْوِهَا عَلَى الْعُقَلَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْمَسِيحِ تَنْبِيْهًا عَلَى أَنَّهَا جَمِيعًا مُشْتَرِكَةٌ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ صَالِحَةٍ لِكَوْنِهَا آلِهَةً، أَوْ لِأَنَّ مَنْ يَعْبُدُ مَنْ لَا يَعْقِلُ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْبُدُ مَنْ يَعْقِلُ مِنْهَا، فَغُلِّبَتِ اعْتِبَارًا بِكَثْرَةِ مَنْ يَعْبُدُهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُرَادُ الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَسِيحُ وَعُزَيْرٌ، بِدَلِيلِ خِطَابِهِمْ، وَجَوَابِهِمْ فِيمَا بَعْدُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ الْأَصْنَامُ خَاصَّةً، وَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ وَلَا تَتَكَلَّمُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَامِعَةً نَاطِقَةً، فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ «فَنَقُولُ» بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ كَمَا اخْتَارَ الْقِرَاءَةَ بِهَا فِي نَحْشُرُهُمْ، وَكَذَا أَبُو حَاتِمٍ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. وَالْمَعْنَى: أَكَانَ ضَلَالُهُمْ بِسَبَبِكُمْ، وَبِدَعْوَتِكُمْ لَهُمْ إِلَى عِبَادَتِكُمْ، أَمْ هُمْ ضَلُّوا عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ بِأَنْفُسِهِمْ لِعَدَمِ التَّفَكُّرِ فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْحَقِّ وَالتَّدَبُّرِ فِيمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الصَّوَابِ وَجُمْلَةُ قالُوا سُبْحانَكَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَمَعْنَى سُبْحَانَكَ: التَّعَجُّبُ مِمَّا قِيلَ لَهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَلَائِكَةً أَوْ أَنْبِيَاءَ مَعْصُومِينَ، أَوْ جَمَادَاتٍ لَا تَعْقِلُ، أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ أَيْ: مَا صَحَّ وَلَا اسْتَقَامَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ فَنَعْبُدُهُمْ، فَكَيْفَ نَدْعُو عِبَادَكَ إِلَى عِبَادَتِنَا نَحْنُ مَعَ كَوْنِنَا لَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ، وَالْوَلِيُّ يُطْلَقُ عَلَى التَّابِعِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَتْبُوعِ، هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ نَتَّخِذُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ «نُتَّخَذُ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ يَتَّخِذَنَا الْمُشْرِكُونَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِكَ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَحُذِفَتْ مِنَ الثَّانِيَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةُ: لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ «مِنْ» مَرَّتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَرَأَ لَقَالَ: أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ. وَقِيلَ: إِنَّ «مِنَ» الثَّانِيَةَ زَائِدَةٌ. ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ بَعْدَ هَذَا الْجَوَابِ ذَكَرُوا سَبَبَ تَرْكِ الْمُشْرِكِينَ لِلْإِيمَانِ فَقَالَ: وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ ضَلُّوا السَّبِيلَ، وَلَمْ يُضِلَّهُمْ غَيْرُهُمْ، وَالْمَعْنَى: مَا أَضْلَلْنَاهُمْ، وَلَكِنَّكَ يَا رَبِّ مَتَّعْتَهَمْ وَمَتَّعْتَ آبَاءَهُمْ بِالنِّعَمِ، وَوَسَّعْتَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ، وَأَطَلْتَ لَهُمُ الْعُمُرَ حَتَّى غَفَلُوا عَنْ ذِكْرِكَ، وَنَسُوا مَوْعِظَتَكَ، وَالتَّدَبُّرَ لِكِتَابِكَ وَالنَّظَرَ فِي عَجَائِبِ صُنْعِكَ، وَغَرَائِبِ مَخْلُوقَاتِكَ. وَقَرَأَ أَبُو عِيسَى الْأَسْوَدُ الْقَارِئُ «يُنْبَغَى» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: زَعْمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا لُغَةٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِنِسْيَانِ الذِّكْرِ هُنَا هُوَ تَرْكُ الشُّكْرِ وَكانُوا قَوْماً بُوراً أَيْ: وَكَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِكَ وَعَبَدُوا غَيْرَكَ

فِي قَضَائِكَ الْأَزَلِيِّ قَوْمًا بُورًا، أَيْ: هَلْكَى، مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَوَارِ وَهُوَ الْهَلَاكُ يُقَالُ: رَجُلٌ بَائِرٌ وَقَوْمٌ بُورٌ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمَاعَةُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ بَائِرٍ. وَقِيلَ: الْبَوَارُ: الْفَسَادُ. يُقَالُ: بَارَتْ بِضَاعَتُهُ، أَيْ: فَسَدَتْ، وَأَمْرٌ بَائِرٌ، أَيْ: فَاسِدٌ وَهِيَ لُغَةُ الْأَزْدِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لا خير فيهم، مأخوذ من بور الْأَرْضِ وَهُوَ تَعْطِيلُهَا مِنَ الزَّرْعِ فَلَا يَكُونُ فِيهَا خَيْرٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَوَارَ الْكَسَادُ، وَمِنْهُ بَارَتِ السِّلْعَةُ إِذَا كَسَدَتْ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقَالَ اللَّهُ عِنْدَ تَبَرِّي الْمَعْبُودِينَ مُخَاطِبًا لِلْمُشْرِكِينَ الْعَابِدِينَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ، أَيْ: فَقَدْ كَذَّبَكُمُ الْمَعْبُودُونَ بِمَا تَقُولُونَ، أَيْ: فِي قَوْلِكُمْ إِنَّهُمْ آلِهَةٌ فَما تَسْتَطِيعُونَ أَيِ: الْآلِهَةُ صَرْفاً أَيْ: دَفْعًا لِلْعَذَابِ عَنْكُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَقِيلَ: حِيلَةً وَلا نَصْراً أَيْ: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَمَا يَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَمَّا كَذَّبَهُمُ الْمَعْبُودُونَ صَرْفًا لِلْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَا نَصْرًا مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ «تَسْتَطِيعُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ حَفْصٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى بِمَا تَقُولُونَ: مَا تَقُولُونَ: مَا تَقُولُونَهُ مِنَ الْحَقِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَعْنَى فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ صَرْفًا عَنِ الحق الذي هداكم إِلَيْهِ، وَلَا نَصْرًا لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «بِمَا تَقُولُونَ» بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ «فَقَدْ كَذَبُوكُمْ» مُخَفَّفًا بِمَا يَقُولُونَ، أَيْ: كَذَبُوكُمْ فِي قَوْلِهِمْ وَكَذَا قَرَأَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مُجَاهِدٌ وَالْبَزِّيُّ وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً هَذَا وَعِيدٌ لِكُلِّ ظالم ويدخل تحته الذي فِيهِمُ السِّيَاقُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَالْعَذَابُ الْكَبِيرُ عَذَابُ النَّارِ، وَقُرِئَ «يُذِقْهُ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى خِطَابِ رَسُولِهِ مُوَضِّحًا لِبُطْلَانِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ فَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ إِلَّا صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ أَحَدًا مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا آكِلِينَ وَمَاشِينَ، وَإِنَّمَا حُذِفَ الْمَوْصُوفُ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ دَلِيلًا عَلَيْهِ، نَظِيرُهُ- وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ- أَيْ: وَمَا مِنَّا أَحَدٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَإِنَّمَا هِيَ صِلَةٌ لِمَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مِنْ أَنَّهُمْ فَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُمْ وَمَا بَعْدَهُ رَاجِعٌ إلى من الْمُقَدَّرَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «1» أَيْ: إِلَّا مَنْ يَرِدُهَا، وَبِهِ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَنَ الْمَوْصُولَةَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا وَأَنَّهُمْ، فَالْمَحْذُوفُ عِنْدَهُ الْوَاوُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «إِلَّا إِنَّهُمْ» بِكَسْرِ إِنَّ لِوُجُودِ اللَّامِ فِي خَبَرِهَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِلَّا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشَ حَكَى لَنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ فِي إنّ هذه الفتح وإن كن بَعْدَهَا اللَّامُ وَأَحْسَبُهُ وَهْمًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ. «يَمْشُونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَتَخْفِيفِ الشِّينِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَوْفٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الشِّينِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهِيَ بِمَعْنَى القراءة الأولى، قال الشاعر:

_ (1) . مريم: 71.

ومشّى بأعطان المباءة وابتغى ... قَلَائِصَ مِنْهَا صَعْبَةً وَرُكُوبَ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زهير: منه تظلّ سباع الجوّ ضَامِزَةً ... وَلَا تَمْشِي بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ «1» وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً هَذَا الْخِطَابُ عَامٌّ لِلنَّاسِ، وَقَدْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ عَبِيدِهِ فِتْنَةً لِبَعْضٍ فَالصَّحِيحُ فِتْنَةٌ لِلْمَرِيضِ وَالْغَنِيُّ فِتْنَةٌ لِلْفَقِيرِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْأَوَّلِ: كُفَّارُ الْأُمَمِ، وَبِالْبَعْضِ الثَّانِي: الرُّسُلُ، وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ: الِابْتِلَاءُ وَالْمِحْنَةُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّ الْبَعْضَ مِنَ النَّاسِ مُمْتَحَنٌ بِالْبَعْضِ مُبْتَلًى بِهِ فَالْمَرِيضُ يَقُولُ لِمَ لَمْ أُجْعَلْ كَالصَّحِيحِ؟ وَكَذَا كُلُّ صَاحِبِ آفَةٍ، وَالصَّحِيحُ مُبْتَلًى بِالْمَرِيضِ فَلَا يَضَّجِرُ مِنْهُ وَلَا يُحَقِّرُهُ، وَالْغَنِيُّ مُبْتَلًى بِالْفَقِيرِ يُوَاسِيهِ، وَالْفَقِيرُ مُبْتَلًى بِالْغَنِيِّ يَحْسُدُهُ، وَنَحْوُ هَذَا مِثْلُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ الشَّرِيفُ أَنْ يُسْلِمَ، وَرَأَى الْوَضِيعَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَنِفَ وَقَالَ لَا أُسْلِمُ بَعْدَهُ. فَيَكُونُ لَهُ عَلَيَّ السَّابِقَةُ وَالْفَضْلُ، فَيُقِيمُ عَلَى كفره، ذلك افْتِتَانُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَاخْتَارَ هَذَا الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَلَا وَجْهَ لِقَصْرِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إِنْ كَانُوا سَبَبَ النُّزُولِ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِجَعْلِ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ أَمْ لَا تَصْبِرُونَ، أَيْ: أَتَصَبِرُونَ عَلَى مَا تَرَوْنَ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ الشَّدِيدَةِ وَالِابْتِلَاءِ الْعَظِيمِ. قِيلَ: مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ هَاهُنَا مَوْقِعُ قَوْلِهِ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «2» ثُمَّ وَعَدَ الصَّابِرِينَ بِقَوْلِهِ: وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي: بكل من يصير وَمَنْ لَا يَصْبِرُ، فَيُجَازِي كُلًّا مِنْهُمَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. وَقِيلَ مَعْنَى أَتَصْبِرُونَ: اصْبِرُوا مِثْلُ قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «3» أَيِ: انْتَهُوا وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا هَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْ جُمْلَةِ شُبَهِهِمُ الَّتِي قَدَحُوا بِهَا فِي النُّبُوَّةِ، وَالْجُمْلَةُ معطوفة على وَقالُوا ما لِهذَا أَيْ: وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ بِلِقَاءِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: لَعَمْرُكَ مَا أَرْجُو إِذَا كُنْتُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي أَيْ لَا أُبَالِي، وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَخَافُونَ لِقَاءَ رَبِّهِمْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلُ أَيْ: لَمْ يَخَفْ، وَهِيَ لُغَةُ تِهَامَةَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وُضِعَ الرَّجَاءُ مَوْضِعَ الْخَوْفِ، وَقِيلَ: لَا يَأْمَلُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا ... شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ أَوْلَى، فَالْمَعْنَى: لَا يَأْمُلُونَ لِقَاءَ مَا وَعَدْنَا على الطاعة من الثواب، ومعلوم

_ (1) . الجوّ: البر الواسع. وضامزة: ساكتة، وكل ساكت فهو ضامز. والأراجيل: جمع أرجال، وأرجال جمع رجل. يصف الشاعر أسدا بأن الأسود والرّجال تخافه. (2) . هود: 7. (3) . المائدة: 91.

أَنَّ مَنْ لَا يَرْجُو الثَّوَابَ لَا يَخَافُ الْعِقَابَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَيْ: هَلَّا أُنْزِلُوا عَلَيْنَا فَيُخْبِرُونَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ، أَوْ هَلَّا أُنْزِلُوا عَلَيْنَا رُسُلًا يُرْسِلُهُمُ اللَّهُ أَوْ نَرى رَبَّنا عِيَانًا فَيُخْبِرُنَا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ. ثم أجاب سبحانه عن شبههم هَذِهِ فَقَالَ: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أَيْ: أَضْمَرُوا الِاسْتِكْبَارَ عَنِ الْحَقِّ وَالْعِنَادِ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ «1» وَالْعُتُوُّ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الطُّغْيَانِ وَالْبُلُوغُ إِلَى أَقْصَى غَايَاتِهِ، وَوَصْفِهِ بِالْكِبَرِ لِكَوْنِ التَّكَلُّمِ بِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنِيعَةِ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ وَالْعِظَمِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِإِرْسَالِ الْبَشَرِ حَتَّى طَلَبُوا إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ، بَلْ جَاوَزُوا ذَلِكَ إِلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُخَاطَبَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ دُونِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلَقَدْ بَلَغَ هَؤُلَاءِ الرَّذَالَةُ بِأَنْفُسِهِمْ مَبْلَغًا هِيَ أَحْقَرُ وَأَقَلُّ وَأَرْذَلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ تُعَدَّ مِنَ الْمُسْتَعِدِّينَ لَهُ، وَهَكَذَا مَنْ جَهِلَ قَدْرَ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّهِ، وَمَنْ جهلت نفسه قدره رأى غيره منه لَا يَرَى، وَانْتِصَابُ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ رُؤْيَةً لَيْسَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي طَلَبُوهُ وَالصُّورَةِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا، بَلْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ يَوْمُ ظُهُورِهِمْ لَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ عِنْدَ الْحَشْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُ هَذَا الظَّرْفِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ أَيْ: يُمْنَعُونَ الْبُشْرَى يَوْمَ يَرَوْنَ، أَوْ لَا تُوجَدُ لَهُمْ بُشْرَى فِيهِ، فَأَعْلَمَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يَرَوْنَ فِيهِ الْمَلَائِكَةَ، وَهُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ، أَوْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَدْ حَرَمَهُمُ اللَّهُ الْبُشْرَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُجْرِمُونَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الذي اجْتَرَمُوا الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً أَيْ: وَيَقُولُ الْكُفَّارُ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِمْ لِلْمَلَائِكَةِ حِجْرًا مَحْجُورًا، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهَا عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوٍّ وَهُجُومِ نَازِلَةٍ يَضَعُونَهَا مَوْضِعَ الِاسْتِعَاذَةِ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ: أَتَفْعَلُ كَذَا، فَيَقُولُ: حِجْرًا مَحْجُورًا، أَيْ: حَرَامًا عَلَيْكَ التَّعَرُّضُ لِي. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ: يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ: حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا أَصْبَحَتْ أَسْمَاءُ حِجْرًا مُحَرَّمًا ... وأصبحت من أدنى حموّتها حما «2» أَيْ: أَصْبَحَتْ أَسْمَاءُ حَرَامًا مُحَرَّمًا، وَقَالَ آخَرُ: حَنَّتْ إِلَى النَّخْلَةِ الْقُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا ... حِجْرٌ حَرَامٌ إِلَّا تِلْكَ الدَّهَارِيسُ وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْمَصَادِرِ الْمَنْصُوبَةِ بِأَفْعَالٍ مَتْرُوكٌ إِظْهَارُهَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَجَعَلَهَا مِنْ جُمْلَتِهَا وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً هَذَا وَعِيدٌ آخَرُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ أَعْمَالًا لَهَا صُورَةُ الْخَيْرِ: مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَأَمْثَالِهَا، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْإِثَابَةِ عَلَيْهَا إِلَّا الْكُفْرُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، فَمُثِّلَتْ حَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ بِحَالِ قَوْمٍ خَالَفُوا سُلْطَانَهُمْ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَدِمَ إِلَى مَا مَعَهُمْ مِنَ الْمَتَاعِ فَأَفْسَدَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِلَّا فَلَا قُدُومَ هَاهُنَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى قَدِمْنَا عَمَدْنَا وَقَصَدْنَا، يُقَالُ: قَدِمَ فُلَانٌ إِلَى أَمْرِ كَذَا إِذَا قَصَدَهُ أَوْ عَمَدَهُ، وَمِنْهُ قول الشاعر:

_ (1) . فاطر: 56. (2) . قاله رجل كانت له امرأة فطلقها وتزوجها أخوه، أي: أصبحت أخا زوجها بعد ما كنت زوجها.

وَقَدِمَ الْخَوَارِجُ الضُّلَّالُ ... إِلَى عِبَادِ رَبِّهِمْ فَقَالُوا إِنَّ دِمَاءَكُمْ لَنَا حَلَالُ وَقِيلَ: هُوَ قُدُومُ الْمَلَائِكَةِ، أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى، وَالْهَبَاءُ واحدة هباءة، والجمع أهباء. قال النضر ابن شُمَيْلٍ: الْهَبَاءُ التُّرَابُ الَّذِي تُطَيِّرُهُ الرِّيحُ كَأَنَّهُ دخان. وقال الزجاج: هو ما يدخل من الْكُوَّةِ مَعَ ضَوْءِ الشَّمْسِ يُشْبِهُ الْغُبَارَ، وَكَذَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ، وَالْمَنْثُورُ: الْمُفَرَّقُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ، لَمْ يَكْتَفِ سُبْحَانَهُ بِتَشْبِيهِ عَمَلِهِمْ بِالْهَبَاءِ حَتَّى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُتَفَرِّقٌ مُتَبَدِّدٌ وَقِيلَ: إِنَّ الْهَبَاءَ مَا أَذْرَتْهُ الرِّيَاحُ مِنْ يَابِسِ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَاءُ الْمُهْرَاقُ، وَقِيلَ الرَّمَادُ. وَالْأَوَّلُ: هُوَ الَّذِي ثَبَتَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَنَقَلَهُ الْعَارِفُونَ بِهَا. ثُمَّ مَيَّزَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْأَبْرَارِ مِنْ حَالِ الْفُجَّارِ فَقَالَ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أَيْ: أَفْضَلُ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَأَحْسَنُ مَقِيلًا أَيْ: مَوْضِعَ قَائِلَةٍ، وَانْتِصَابُ مُسْتَقَرًا عَلَى التَّمْيِيزِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَيْلُولَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفَ النَّهَارِ، إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، وإن لم يكن مع ذلك نوم. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ الْآيَةَ قَالَ: عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْماً بُوراً قَالَ: هَلْكَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ قَالَ: هُوَ الشِّرْكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: يُشْرِكُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ يَقُولُ: إِنَّ الرُّسُلَ قَبْلَ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانُوا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً قَالَ: بَلَاءٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ الْحَسَنِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً قَالَ: يَقُولُ الْفَقِيرُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَنِي غَنِيًّا مِثْلَ فُلَانٍ، وَيَقُولُ السَّقِيمُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَنِي صَحِيحًا مِثْلَ فُلَانٍ، وَيَقُولُ الْأَعْمَى لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَنِي بَصِيرًا مِثْلَ فُلَانٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً قَالَ: شِدَّةُ الْكُفْرِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً قَالَ: عَوْذًا مُعَاذًا، الْمَلَائِكَةُ تَقُولُهُ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ تَكُونَ الْبُشْرَى فِي الْيَوْمِ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً قَالَ: حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ نُبَشِّرَكُمْ بِمَا نُبَشِّرُ بِهِ الْمُتَّقِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً قَالَا: هِيَ كَلِمَةٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُهَا، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ شِدَّةٌ قَالَ: حَجْرًا مَحْجُورًا حَرَامًا مُحَرَّمًا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ

[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 إلى 34]

قَالَ: عَمَدْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْرٍ مِمَّنْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: هَباءً مَنْثُوراً قَالَ: الهباء شعاع الشمس الذي يدخل من الكوّة. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قال: الهباء وهيج الغبار يسطع، ثم يذهب فلا يبقى منه شيء، فجعل الله أعمالهم كذلك. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْهَبَاءُ الَّذِي يَطِيرُ مِنَ النَّارِ إِذَا اضْطَرَمَتْ يَطِيرُ مِنْهَا الشَّرَرُ. فَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: هُوَ مَا تَسْفِي الرِّيحُ وَتَبُثُّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُوَ الْمَاءُ الْمُهْرَاقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا قَالَ: فِي الْغُرَفِ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَا يَنْصَرِفُ النَّهَارُ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا. [سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 34] وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) قَوْلُهُ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا بَعْضَ حَوَادِثِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالتَّشَقُّقُ: التَّفَتُّحُ، قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو، تَشَقَّقُ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ، وَأَصْلُهُ تَتَشَقَّقُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ، بِتَشْدِيدِ الشِّينِ عَلَى الْإِدْغَامِ. وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ، وَاخْتَارَ الثَّانِيَةَ أَبُو حَاتِمٍ، وَمَعْنَى تَشَقُّقِهَا بِالْغَمَامِ: أَنَّهَا تَتَشَقَّقُ عَنِ الْغَمَامِ. قَالَ أَبُو علي الفارسي: تتشقق السَّمَاءُ وَعَلَيْهَا غَمَامٌ كَمَا تَقُولُ: رَكِبَ الْأَمِيرُ بِسِلَاحِهِ، أَيْ: وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَخَرَجَ بِثِيَابِهِ، أَيْ: وعليه ثيابه. ووجه ما قال أن الباء وعن يَتَعَاقَبَانِ كَمَا تَقُولُ: رَمَيْتُ بِالْقَوْسِ. وَعَنِ الْقَوْسِ. وَرُوِيَ أَنَّ السَّمَاءَ تَتَشَقَّقُ عَنْ سَحَابٍ رَقِيقٍ أَبْيَضَ. وَقِيلَ: إِنَّ السَّمَاءَ تَتَشَقَّقُ بِالْغَمَامِ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَتَشَقَّقُ السَّحَابُ بتشقق السماء، وقيل: إنها تتشقق لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذَا: وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ فِي بِالْغَمَامِ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ: بِسَبَبِ الْغَمَامِ، يَعْنِي بِسَبَبِ طُلُوعِهِ مِنْهَا كَأَنَّهُ الَّذِي تَتَشَقَّقُ بِهِ السَّمَاءُ، وقيل: إن الباء متعلقة بمحذوف، أي: ملتبسة بِالْغَمَامِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «وَنُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ» مُخَفَّفًا، مِنَ الْإِنْزَالِ بِنُونٍ بَعْدَهَا نُونٌ سَاكِنَةٌ وَزَايٌ مُخَفَّفَةٌ بِكَسْرَةٍ مُضَارِعُ أَنْزَلَ، وَالْمَلَائِكَةَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ وَنُزِّلَ بِضَمِّ النون

وَكَسْرِ الزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو رَجَاءٍ «نَزَّلَ» بِالتَّشْدِيدِ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَفَاعِلُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَقَرَأَ أُبَيُّ بن كعب «وأنزل الْمَلَائِكَةُ» وَقَدْ قُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِغَيْرِ هَذِهِ، وَتَأْكِيدُ هَذَا الْفِعْلِ بِقَوْلِهِ تَنْزِيلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّنْزِيلَ عَلَى نَوْعٍ غَرِيبٍ وَنَمَطٍ عَجِيبٍ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّ هَذَا تَنْزِيلُ رِضًا وَرَحْمَةً لَا تَنْزِيلُ سُخْطٍ وَعَذَابٍ. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ الْمُلْكُ: مُبْتَدَأٌ، وَالْحَقُّ: صِفَةٌ لَهُ، وَلِلرَّحْمَنِ: الْخَبَرُ كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ، أَيِ: الْمُلْكُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ لِلرَّحْمَنِ يَوْمَئِذٍ، لِأَنَّ الْمُلْكَ الَّذِي يَزُولُ وَيَنْقَطِعُ لَيْسَ بِمُلْكٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالظَّرْفِ أَنَّ ثُبُوتَ الْمُلْكِ الْمَذْكُورِ لَهُ سُبْحَانَهُ خَاصَّةً فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَأَمَّا فِيمَا عَدَاهُ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا فَلِغَيْرِهِ مُلْكٌ فِي الصُّورَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقِيًّا. وَقِيلَ: إِنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ هُوَ الظَّرْفُ، وَالْحَقُّ نَعْتٌ لِلْمُلْكِ. وَالْمَعْنَى: الْمُلْكُ الثَّابِتُ لِلرَّحْمَنِ خَاصٌّ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أَيْ: وَكَانَ هَذَا الْيَوْمُ مَعَ كَوْنِ الْمُلْكِ فِيهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ شَدِيدًا عَلَى الْكُفَّارِ لِمَا يُصَابُونَ بِهِ فِيهِ، وَيَنَالُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ بَعْدَ تَحْقِيقِ الْحِسَابِ، وَأَمَّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ يَسِيرٌ غَيْرُ عَسِيرٍ، لِمَا يَنَالُهُمْ فِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْبُشْرَى الْعَظِيمَةِ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ كَمَا انْتَصَبَ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ الظَّرْفُ الْأَوَّلُ، أَعْنِي يَوْمَ تَشَقَّقُ، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْعَضَّ هُنَا حَقِيقَةٌ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُوجِبَ لِتَأْوِيلِهِ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَيْظِ وَالْحَسْرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِ كُلُّ ظالم يرد ذلك المكان وينزل الْمَنْزِلَ، وَلَا يُنَافِيهِ وُرُودُ الْآيَةِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَقُولُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَمَقُولُ الْقَوْلِ هُوَ: يَا لَيْتَنِي إِلَخْ، وَالْمُنَادَىَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَا قَوْمِ! لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا: طَرِيقًا وَهُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ، وَمَشَيْتُ فِيهِ حَتَّى أُخَلَّصَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُضِلَّةِ، وَالْمُرَادُ اتباع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ عَلَى مُخَالَلَةِ الْكَافِرِ الَّذِي أَضَلَّهُ فِي الدُّنْيَا وَفُلَانٌ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَعْلَامِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: زَعَمَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ اسْتِعْمَالُ فُلَانٍ فِي الْفَصِيحِ إِلَّا حِكَايَةً، لَا يُقَالُ: جَاءَنِي فُلَانٌ، وَلَكِنْ يُقَالُ: قَالَ زَيْدٌ جَاءَنِي فُلَانٌ، لِأَنَّهُ اسْمُ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ عَلَمُ الِاسْمِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي كَلَامِ اللَّهِ. وَقِيلَ: فُلَانٌ كِنَايَةٌ عَنْ عَلَمِ ذُكُورِ مَنْ يَعْقِلُ، وَفُلَانَةٌ عَنْ عَلَمِ إِنَاثِهِمْ. وَقِيلَ: كِنَايَةٌ عَنْ نَكِرَةِ مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الذُّكُورِ، وَفُلَانَةٌ عَمَّنْ يَعْقِلُ مِنَ الْإِنَاثِ، وَأَمَّا الْفُلَانُ وَالْفُلَانَةُ، فَكِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَفُلُ يُخْتَصُّ بِالنِّدَاءِ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فِي لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلَانًا عَنْ فُلِ وَقَوْلِهِ: حَدِّثَانِي عَنْ فُلَانٍ وَفُلِ وَلَيْسَ فُلُ مُرَخَّمًا مِنْ فُلَانٍ خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ. وَزَعَمَ أَبُو حَيَّانَ أَنَّ ابْنَ عُصْفُورٍ وَابْنَ مَالِكٍ وَهِمَا فِي جَعْلِ فُلَانٍ كِنَايَةَ عَلَمِ مَنْ يَعْقِلُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «يَا وَيْلَتِي» بِالْيَاءِ الصَّرِيحَةِ، وَقَرَأَ الدُّورِيُّ بِالْإِمَالَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَتَرْكُ الْإِمَالَةِ أَحْسَنُ، لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ: الْيَاءُ فأبدلت الكسرة فتحة، والياء فِرَارًا مِنَ الْيَاءِ، فَمَنْ أَمَالَ رَجَعَ

إِلَى الَّذِي فَرَّ مِنْهُ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَضَلَّنِي هَذَا الَّذِي اتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا عَنِ الْقُرْآنِ، وعن الْمَوْعِظَةِ، أَوْ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ، بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي، وَتَمَكَّنْتُ مِنْهُ، وَقَدَرْتُ عَلَيْهِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا الْخَذْلُ: تَرْكُ الْإِغَاثَةِ، وَمِنْهُ خُذْلَانُ إِبْلِيسَ لِلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ يُوَالُونَهُ، ثُمَّ يَتْرُكُهُمْ عِنْدَ اسْتِغَاثَتِهِمْ بِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الظَّالِمِ، وَأَنَّهُ سَمَّى خَلِيلَهُ شَيْطَانًا بَعْدَ أَنْ جَعَلَهُ مُضِلًّا، أَوْ أَرَادَ بِالشَّيْطَانِ إِبْلِيسَ، لِكَوْنِهِ الذي حمله على مخاللة المضلين وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً مَعْطُوفٌ عَلَى وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَالْمَعْنَى: إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي جِئْتُ بِهِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرْتَنِي بِإِبْلَاغِهِ وَأَرْسَلْتَنِي بِهِ مَهْجُورًا، مَتْرُوكًا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَلَا قَبِلُوهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ هَجَرَ إِذَا هَذَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُ هَجْرًا وَهَذَيَانًا. وَقِيلَ: مَعْنَى مَهْجُورًا: مَهْجُورًا فِيهِ، ثُمَّ حُذِفَ الْجَارُّ، وَهَجْرُهُمْ فِيهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ سِحْرٌ، وَشِعْرٌ، وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُهُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ: إِنَّهُ حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ هَذَا تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الدَّاعِينَ إِلَى اللَّهِ عَدُوًّا يُعَادِيِهِ مِنْ مُجْرِمِي قَوْمِهِ، فَلَا تَجْزَعُ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّ هَذَا دَأْبُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ وَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ: كَفَى رَبُّكَ، وَانْتِصَابُ نصيرا وهاديا عَلَى الْحَالِ، أَوِ التَّمْيِيزِ: أَيْ يَهْدِي عِبَادَهُ إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً هَذَا مِنْ جُمْلَةِ اقْتِرَاحَاتِهِمْ وَتَعَنُّتَاتِهِمْ، أَيْ: هَلَّا نَزَّلَ اللَّهُ عَلَيْنَا هَذَا الْقُرْآنَ دُفْعَةً وَاحِدَةً غَيْرَ مُنَجَّمٍ. وَاخْتُلِفَ فِي قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَقِيلَ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: الْيَهُودُ، قَالُوا: هَلَّا أَتَيْتَنَا بِالْقُرْآنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ؟ وَهَذَا زَعْمٌ بَاطِلٌ وَدَعْوًى دَاحِضَةٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ نَزَلَتْ مُفَرَّقَةً كَمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَلَكِنَّهُمْ مُعَانِدُونَ، أَوْ جَاهِلُونَ لَا يَدْرُونَ بِكَيْفِيَّةِ نُزُولِ كُتُبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أَيْ: نَزَّلْنَا الْقُرْآنَ كَذَلِكَ مُفَرَّقًا، وَالْكَافُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، عَلَى أَنَّهَا نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ، أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّنْزِيلِ الْمُفَرَّقِ الَّذِي قَدَحُوا فِيهِ، وَاقْتَرَحُوا خِلَافَهُ نَزَّلْنَاهُ لِنُقَوِّيَ بِهَذَا التَّنْزِيلِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فُؤَادَكَ، فَإِنَّ إِنْزَالَهُ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ أَقْرَبُ إِلَى حِفْظِكَ لَهُ، وَفَهْمِكَ لِمَعَانِيهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ التَّثْبِيتِ، وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّ الْأَخْفَشَ قَالَ: إِنَّهَا جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ مَرْجُوحٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ لِيُثَبِّتَ بِالتَّحْتِيَّةِ، أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، أَعْنِي كَذَلِكَ، هِيَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَعْنَى كَذَلِكَ، أَيْ: كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، فَيُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يُبْتَدَأُ بِقَوْلِهِ: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ عَلَى مَعْنَى أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ مُتَفَرِّقًا لِهَذَا الْغَرَضِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا أَجْوَدُ وَأَحْسَنُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَكَانَ ذَلِكَ، أَيْ: إِنْزَالُ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أُجِيبُوا عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ نَبِيٍّ، فَكَانَ ذَلِكَ تَثْبِيتًا لِفُؤَادِهِ وَأَفْئِدَتِهِمْ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ:

كَذَلِكَ نَزَّلْنَاهُ، وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، وَمَعْنَى التَّرْتِيلِ: أَنْ يَكُونَ آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى بَيَّنَاهُ تَبْيِينًا، حُكِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَعْضُهُ فِي إِثْرِ بَعْضٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مَا أَعْلَمُ التَّرْتِيلَ إِلَّا التَّحْقِيقَ وَالتَّبْيِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ مَحْجُوجُونَ فِي كُلِّ أَوَانٍ مَدْفُوعٌ قَوْلُهُمْ بِكُلِّ وَجْهٍ وَعَلَى كُلِّ حَالَةٍ فَقَالَ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أَيْ: لَا يَأْتِيكَ. - يَا مُحَمَّدُ- الْمُشْرِكُونَ بِمَثَلٍ مِنْ أَمْثَالِهِمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا اقْتِرَاحَاتُهُمُ الْمُتَعَنِّتَةُ إِلَّا جِئْنَاكَ فِي مُقَابَلَةِ مَثَلِهِمْ بِالْجَوَابِ الْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي يُبْطِلُ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْمَثَلِ وَيَدْمَغُهُ وَيَدْفَعُهُ. فَالْمُرَادُ بِالْمَثَلِ هُنَا: السُّؤَالُ وَالِاقْتِرَاحُ، وَبِالْحَقِّ جَوَابُهُ الَّذِي يَقْطَعُ ذَرِيعَتَهُ، وَيُبْطِلُ شُبْهَتَهُ، وَيَحْسِمُ مَادَّتَهُ. وَمَعْنَى أَحْسَنَ تَفْسِيراً جِئْنَاكَ بِأَحْسَنِ تَفْسِيرٍ، فَأَحْسُنُ تَفْسِيرًا مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَقِّ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا جِئْناكَ مُفَرَّغٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا فِي حَالِ إِيتَائِنَا إِيَّاكَ ذَلِكَ. ثُمَّ أَوْعَدَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةَ وَذَمَّهُمْ فَقَالَ: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أَيْ: يُحْشَرُونَ كَائِنِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَالْمَوْصُولُ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: أُولَئِكَ، أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الذَّمِّ. وَمَعْنَى يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ: يُسْحَبُونَ عَلَيْهَا إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً أَيْ: مَنْزِلًا وَمَصِيرًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَأَخْطَأُ طَرِيقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا فِي النَّارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا قَالَ: يَجْمَعُ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ: الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالْبَهَائِمَ وَالسِّبَاعَ وَالطَّيْرَ وَجَمِيعَ الْخَلْقِ، فَتَنْشَقُّ السَّمَاءُ الدُّنْيَا فَيَنْزِلُ أَهْلُهَا وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَيُحِيطُونَ بِالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَجَمِيعِ الْخَلْقِ فَيَقُولُ أَهْلُ الْأَرْضِ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ فَيَقُولُونَ لا ثم تنشقّ السماء الثانية مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَفِي كُلِّ سَمَاءٍ أَكْثَرُ مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ يَنْزِلُ رَبُّنَا في ظلل مِنَ الْغَمَامِ وَحَوْلَهُ الْكُرُوبِيُّونَ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أهل السموات السَّبْعِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَجَمِيعِ الْخَلْقِ، لَهُمْ قُرُونٌ كعكوب الْقِثَّاءِ، وَهُمْ تَحْتَ الْعَرْشِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ لِلَّهِ تَعَالَى، مَا بَيْنَ أَخْمَصِ قَدَمِ أَحَدِهِمْ إِلَى كَعْبِهِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمِنْ رُكْبَتِهِ إِلَى فَخْذِهِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمِنْ فَخْذِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَإِسْنَادُهُ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ هَكَذَا: قَالَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حدّثنا الحسين، حدّثني الحجاج ابن مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَهْرَانَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ هَكَذَا: قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عمار بن الحارث، حدثنا مؤمل، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: صَحِيحٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا مُعَيْطٍ كَانَ يَجْلِسُ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ لَا يُؤْذِيِهِ، وَكَانَ رَجُلًا حَلِيمًا، وَكَانَ بَقِيَّةُ قُرَيْشٍ إِذَا جَلَسُوا مَعَهُ آذَوْهُ، وَكَانَ لِأَبِي مُعَيْطٍ خَلِيلٌ غَائِبٌ عَنْهُ بِالشَّامِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: صَبَأَ أَبُو

[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 إلى 44]

مُعَيْطٍ، وَقَدِمَ خَلِيلُهُ مِنَ الشَّامِ لَيْلًا فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: مَا فَعَلَ مُحَمَّدٌ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَتْ: أَشَدَّ مَا كَانَ أَمْرًا، فَقَالَ: مَا فَعَلَ خَلِيلِي أَبُو مُعَيْطٍ؟ فَقَالَتْ: صَبَأَ، فَبَاتَ بِلَيْلَةِ سُوءٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَاهُ أَبُو مُعَيْطٍ فَحَيَّاهُ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ التَّحِيَّةَ، فَقَالَ: مَالَكَ لَا تَرُدُّ عَلَيَّ تَحِيَّتِي؟ فَقَالَ: كَيْفَ أَرُدُّ عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: نعم، فَمَا يُبْرِئُ صُدُورَهُمْ إِنْ أَنَا فَعَلْتُهُ؟ قَالَ: تَأْتِيهِ فِي مَجْلِسِهِ فَتَبْزُقُ فِي وَجْهِهِ وَتَشْتُمُهُ بِأَخْبَثِ مَا تَعْلَمُ مِنَ الشَّتْمِ، فَفَعَلَ فَلَمْ يردّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ مَسْحَ وَجْهَهُ مِنَ الْبُزَاقِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتُكَ خَارِجًا مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ أَضْرِبُ عُنُقَكَ صَبْرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَخَرَجَ أَصْحَابُهُ أَبَى أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: اخْرُجْ مَعَنَا، قَالَ: وَعَدَنِي هَذَا الرَّجُلُ إِنْ وَجَدَنِي خَارِجًا مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقِي صَبْرًا، فَقَالُوا: لَكَ جَمَلٌ أَحْمَرُ لَا يُدْرَكُ، فَلَوْ كَانَتِ الْهَزِيمَةُ طِرْتَ عَلَيْهِ فَخَرَجَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ وَحَمَلَ بِهِ جَمَلُهُ فِي جُدُودٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَسِيرًا فِي سَبْعِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُدِّمَ إِلَيْهِ أَبُو مُعَيْطٍ فَقَالَ: أَتَقْتُلَنِي مِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ بِمَا بَزَقْتَ فِي وَجْهِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي مُعَيْطٍ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ أَنَّ خَلِيلَ أَبِي مُعَيْطٍ: هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عباس أيضا في قوله: يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قَالَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَعَقَبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهُمَا الْخَلِيلَانِ فِي جَهَنَّمَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ قَالَ: كَانَ عَدُوَّ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ وَعَدُوَّ مُوسَى قَارُونُ، وَكَانَ قَارُونُ ابْنَ عَمِّ مُوسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَمَا يَزْعُمُ نَبِيًّا فَلِمَ يُعَذِّبُهُ رَبُّهُ؟ أَلَّا يُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ وَالسُّورَةَ وَالسُّورَتَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ جَوَابَ مَا قَالُوا: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً إِلَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ قَالَ: لِنُشَدِّدَ بِهِ فُؤَادَكَ وَنَرْبِطَ عَلَى قَلْبِكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا قَالَ: رَسَّلْنَاهُ تَرْسِيلًا، يَقُولُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ يَقُولُ: لَوْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ سَأَلُوكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يجيب، ولكنا نمسك عليك، فإذا سألوك أجبت. [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)

اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ، ذَكَرَ سُبْحَانَهُ طَرَفًا مِنْ قَصَصِ الأولين تسلية له صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِأَنَّ تَكْذِيبَ قَوْمِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ لَهُمْ عَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخَاصٍّ بِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلم وهارُونَ عَطْفُ بَيَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْقَطْعِ ووَزِيراً الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَقِيلَ: حَالٌ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: مَعَهُ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَزِيرُ فِي اللُّغَةِ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَيُعْمَلُ بِرَأْيِهِ، وَالْوَزَرُ مَا يعتصم به، ومنه كَلَّا لا وَزَرَ «1» . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْوَزِيرِ فِي طه، وَالْوِزَارَةُ لَا تُنَافِي النُّبُوَّةَ، فَقَدْ كَانَ يُبْعَثُ فِي الزمن الواحد أنبياء، ويؤمرون بأن يوازر بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَدْ كَانَ هَارُونُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَزِيرًا لِمُوسَى، وَلِاشْتِرَاكِهِمَا فِي النُّبُوَّةِ قِيلَ لَهُمَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَالْآيَاتُ هِيَ التِّسْعُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ كَذَّبُوا بِهَا عِنْدَ أَمْرِ اللَّهِ لِمُوسَى وَهَارُونَ بِالذَّهَابِ بَلْ كَانَ التَّكْذِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذَا الْمَاضِيَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى عَادَةِ إِخْبَارِ اللَّهِ، أَيِ: اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا وُصِفُوا بِالتَّكْذِيبِ عِنْدَ الْحِكَايَةِ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيَانًا لِعِلَّةِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْعَذَابِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ آلَ حَالُهُمْ إِلَى أَنْ كَذَّبُوا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِوَصْفِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ، أَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ لِلْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ آيَاتِ الرِّسَالَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى «2» لَا يُنَافِي هَذَا لِأَنَّهُمَا إِذَا كَانَا مَأْمُورَيْنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَخْصِيصَ مُوسَى بِالْخِطَابِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ فِي الرِّسَالَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْخِطَابِ لِكَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ جَمِيعًا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: فَذَهَبَا إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوهُمَا فَدَمَّرْنَاهُمْ، أَيْ: أَهْلَكْنَاهُمْ إِثْرَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ إِهْلَاكًا عَظِيمًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّدْمِيرِ هُنَا: الْحُكْمُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ عَقِبَ بَعْثِ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَيْهِمْ، بَلْ بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ فِي نَصْبِ قَوْمَ أَقْوَالٌ: الْعَطْفُ عَلَى الْهَاءِ، وَالْمِيمِ فِي دَمَّرْنَاهُمْ، أَوِ النَّصْبُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيِ اذْكُرْ، أَوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ أَغْرَقْنَاهُمْ، أَيْ: أَغْرَقْنَا قَوْمَ نُوحٍ أَغْرَقْنَاهُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِأَغْرَقْنَاهُمُ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ مِنْ دُونِ تَقْدِيرٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ. وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّ أَغْرَقْنَا لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ حَتَّى يَعْمَلَ فِي الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ بِهِ، وَفِي قَوْمِ نُوحٍ. وَمَعْنَى لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا نُوحًا وَكَذَّبُوا مَنْ قَبْلَهَ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ كَذَّبَ نَبِيًّا فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ إِغْرَاقُهُمْ بِالطُّوفَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هُودٍ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً أَيْ: جَعَلْنَا إِغْرَاقَهُمْ، أَوْ قصتهم آيَةً، أَيْ: عِبْرَةً لِكُلِّ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ، يَتَّعِظُ بِهَا كُلُّ مُشَاهِدٍ لَهَا، وَسَامِعٍ لِخَبَرِهَا وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ الْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ: قَوْمُ نُوحٍ عَلَى الخصوص. ويجوز أن يكون المراد ككل مِنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ، وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ: هو عذاب الآخرة، وانتصاب

_ (1) . القيامة: 11. (2) . طه: 24.

عَادًا بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ، وَقِيلَ: عَلَى مَحَلِّ الظَّالِمِينَ، وَقِيلَ: عَلَى مَفْعُولِ جَعَلْنَاهُمْ وَثَمُودَ مَعْطُوفٌ عَلَى عَادًا، وَقِصَّةُ عَادٍ وَثَمُودَ قَدْ ذكرت فيما سبق وَأَصْحابَ الرَّسِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْبِئْرُ الَّتِي تَكُونُ غَيْرَ مَطْوِيَّةٍ، وَالْجَمْعُ رِسَاسٌ كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَهُمْ سَائِرُونَ إِلَى أرضهم ... تنابلة يحفرون الرِّسَاسَا قَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ بِئْرٌ بِإِنْطَاكِيَةَ، قَتَلُوا فِيهَا حَبِيبًا النَّجَّارَ، فَنُسِبُوا إِلَيْهَا وَهُوَ صَاحِبُ يس الذي قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ بِأَذْرَبِيجَانَ قَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ فَجَفَّتْ أَشْجَارُهُمْ وَزُرُوعُهُمْ، فَمَاتُوا جُوعًا وَعَطَشًا. وَقِيلَ: كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّجَرَ، وقيل: كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شُعَيْبًا فَكَذَّبُوهُ وَآذَوْهُ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا فَأَكَلُوهُ، وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّسَّ: هِيَ الْبِئْرُ الْمُعَطَّلَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَأَصْحَابُهَا أَهْلُهَا. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالرَّسُّ اسْمُ بِئْرٍ كَانَتْ لِبَقِيَّةِ ثَمُودَ، وَقِيلَ الرَّسُّ: مَاءٌ وَنَخْلٌ لِبَنِي أَسَدٍ، وَقِيلَ: الثَّلْجُ الْمُتَرَاكِمُ فِي الْجِبَالِ. وَالرَّسُّ: اسْمُ وَادٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرْنَ بِسَحْرَةٍ ... فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ وَالرَّسُّ أَيْضًا: الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْإِفْسَادُ بَيْنَهُمْ، فَهُوَ مِنَ الأضداد. وقيل: هم أصحاب حنظلة ابن صَفْوَانَ، وَهُمُ الَّذِينَ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالطَّائِرِ الْمَعْرُوفِ بِالْعَنْقَاءِ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالْقُرُونُ جَمْعُ قَرْنٍ، أَيْ: أَهْلُ قُرُونٍ، وَالْقَرْنُ: مِائَةُ سَنَةٍ، وَقِيلَ: مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيلَ: الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: بَيْنَ ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأُمَمِ. وَقَدْ يُذْكُرُ الذَّاكِرُ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً ثُمَّ يُشِيرُ إليها وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ وَأَنْذَرْنَا كُلًّا ضَرَبْنَا لَهُمُ الْأَمْثَالَ وَبَيَّنَّا لَهُمُ الْحُجَّةَ، وَلَمْ نَضْرِبْ لَهُمُ الْأَمْثَالَ الْبَاطِلَةَ كَمَا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ، فَجَعَلَهُ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يفسره ما بعده، لأن حذرنا وذكرنا وأنذرنا فِي مَعْنَى ضَرَبْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ الْأُمَمُ، أَيْ: كُلُّ الْأُمَمِ ضَرَبْنَا لَهُمُ الْأَمْثَالَ وَأما كُلًّا الْأُخْرَى: فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا، وَالتَّتْبِيرُ: الْإِهْلَاكُ بِالْعَذَابِ. قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتتته فَقَدْ تَبَّرْتَهُ. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ وَالْأَخْفَشُ: مَعْنَى تَبَّرْنا تَتْبِيراً دَمَّرْنَا تَدْمِيرًا أُبْدِلَتِ التَّاءُ وَالْبَاءُ مِنَ الدَّالِ وَالْمِيمِ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمُشَاهَدَتِهِمْ لِآثَارِ هَلَاكِ بَعْضِ الْأُمَمِ. وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ أَتَوْا، أَيْ: مُشْرِكُو مَكَّةَ عَلَى قَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ، وَهُوَ الْحِجَارَةُ، أَيْ: هَلَكَتْ بِالْحِجَارَةِ الَّتِي أُمْطِرُوا بِهَا، وَانْتِصَابُ مَطَرَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ: إِذِ الْمَعْنَى أَعْطَيْتُهَا وَأَوْلَيْتُهَا مَطَرَ السَّوْءِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إمطارا مثل مطر السوء، وقرأ أبو السموأل السَّوْءِ بِضَمِّ السِّينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ السَّوْءِ فِي بَرَاءَةٌ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ أَيْ: يَرَوْنَ الْقَرْيَةَ الْمَذْكُورَةَ عِنْدَ سَفَرِهِمْ إِلَى الشَّامِ لِلتِّجَارَةِ، فَإِنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِهَا، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: لَمْ يَكُونُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَمَّا سَبَقَ مِنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ لِتِلْكَ الْآثَارِ

إِلَى عَدَمِ رَجَاءِ الْبَعْثِ مِنْهُمُ الْمُسْتَلْزِمِ لِعَدَمِ رجاءهم لِلْجَزَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى يَرْجُونَ يَخَافُونَ وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَيْ: مَا يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُؤًا، أَيْ: مَهْزُوءًا بِكَ، قَصَرَ مُعَامَلَتَهُمْ لَهُ عَلَى اتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُ هُزُوًا، فَجَوَابُ إِذا هُوَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ وَقِيلَ: الْجَوَابُ محذوف، وهو قوله: أَهذَا الَّذِي وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً مُعْتَرِضَةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ قَائِلِينَ أَهَذَا إِلَخْ، وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْقَارِهِمْ لَهُ وَتَهَكُّمِهِمْ بِهِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: بَعَثَهُ اللَّهُ وَانْتِصَابُ رَسُولًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُرْسَلًا، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا أَيْ قَالُوا: إِنْ كَادَ هَذَا الرَّسُولُ لَيُضِلُّنَا: لَيَصْرِفُنَا عن آلهتنا فنترك عبادتها، وإن هُنَا هِيَ الْمُخَفَّفَةُ، وَضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِنَّهُ كَادَ أَنْ يَصْرِفَنَا عَنْهَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أَيْ: حَبَسْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى عِبَادَتِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَجَابَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أَيْ: حِينَ يَرَوْنَ عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ وَيَسْتَوْجِبُونَهُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ مَنْ هُوَ أَضَلُّ سَبِيلًا، أَيْ: أَبْعَدُ طَرِيقًا عَنِ الْحَقِّ وَالْهُدَى، أَهُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ؟ ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا تَمَسُّكَ لَهُمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ سِوَى التَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، فَقَالَ مُعَجِّبًا لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلْعِنَايَةِ كَمَا تَقُولُ عَلِمْتُ مُنْطَلِقًا زَيْدًا، أَيْ: أَطَاعَ هَوَاهُ طَاعَةً كَطَاعَةِ الْإِلَهِ، أَيِ: انْظُرْ إِلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ وَتَعَجَّبْ مِنْهُ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى الْآيَةِ لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا اتَّبَعَهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، أَيْ: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ حَفِيظًا وَكَفِيلًا حَتَّى تَرُدَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَتُخْرِجَهُ مِنَ الْكُفْرِ، وَلَسْتَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُطِيقُهُ، فَلَيْسَتِ الْهِدَايَةُ وَالضَّلَالَةُ مَوْكُولَتَيْنِ إِلَى مَشِيئَتِكَ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ. ثُمَّ انْتَقَلَ سُبْحَانَهُ مِنَ الْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ إِلَى إِنْكَارٍ آخَرَ فَقَالَ: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ أَيْ: أَتَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ مَا تَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَمِنَ الْمَوَاعِظِ، أَوْ يَعْقِلُونَ مَعَانِيَ ذَلِكَ وَيُفْهِمُونَهُ حَتَّى تَعْتَنِيَ بِشَأْنِهِمْ وَتَطْمَعَ في إيمانهم، ليسوا كَذَلِكَ، بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَعْقِلُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَهُمْ وَقَطَعَ مَادَّةَ الطَّمَعِ فِيهِمْ فَقَالَ: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أَيْ: مَا هُمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا يَسْمَعُونَهُ إِلَّا كَالْبَهَائِمِ الَّتِي هِيَ مَسْلُوبَةُ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ فَلَا تَطْمَعْ فِيهِمْ، فَإِنَّ فَائِدَةَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ مَفْقُودَةٌ، وَإِنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مَا يُقَالُ لَهُمْ وَيَعْقِلُونَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ كَانُوا كَالْفَاقِدِ لَهُ. ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَالْأَنْعَامِ إِلَى مَا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا أَيْ: أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ طَرِيقًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَهَائِمُ تَعْرِفُ رَبَّهَا وَتَهْتَدِي إِلَى مَرَاعِيهَا وَتَنْقَادُ لِأَرْبَابِهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقَادُونَ وَلَا يَعْرِفُونَ رَبَّهُمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانُوا أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ، لِأَنَّهُ لَا حِسَابَ عَلَيْهَا وَلَا عِقَابَ لَهَا، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانُوا أَضَلَّ لِأَنَّ الْبَهَائِمَ إِذَا لَمْ تَعْقِلْ صِحَّةَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ لَمْ تَعْتَقِدْ بُطْلَانَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمُ اعْتَقَدُوا الْبُطْلَانَ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً غمطا لِلْحَقِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً

قَالَ: عَوْنًا وَعَضُدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً قَالَ: أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: الرَّسُّ قَرْيَةٌ مِنْ ثَمُودَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الرَّسُّ بِئْرٌ بِأَذْرَبِيجَانَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ أَصْحَابِ الرَّسِّ قَالَ: صَاحِبُ يس الَّذِي قَالَ: يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ «1» فَرَسَّهُ قَوْمُهُ فِي بِئْرٍ بِالْأَحْجَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيًّا إِلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ إِلَّا ذَلِكَ الْأَسْوَدُ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ غَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ فَحَفَرُوا لَهُ بِئْرًا فَأَلْقُوهُ فِيهَا، ثُمَّ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ بِحَجَرٍ ضَخْمٍ، فَكَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَذْهَبُ فَيَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِحَطَبِهِ فَيَبِيعُهُ فَيَشْتَرِي بِهِ طَعَامًا وَشَرَابًا، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إِلَى تِلْكَ الْبِئْرِ، فَيَرْفَعُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ فَيُعِينُهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، فَيُدْلِي طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ثُمَّ يَرُدُّهَا كَمَا كَانَتْ، فَكَانَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ إِنَّهُ ذَهَبَ يَوْمًا يَحْتَطِبُ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فَجَمَعَ حَطَبَهُ وَحَزَّمَ حِزْمَتَهُ وَفَرَغَ مِنْهَا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَهَا وَجَدَ سِنَةً، فاضطجع فنام، فضرب الله على أذنه سبع سِنِينَ نَائِمًا، ثُمَّ إِنَّهُ ذَهَبَ فَتَمَطَّى فَتَحَوَّلَ لِشِقِّهِ الْآخَرِ فَاضْطَجَعَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِهِ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرَى، ثُمَّ إِنَّهُ ذَهَبَ فَاحْتَمَلَ حِزْمَتَهُ وَلَا يَحْسَبُ إِلَّا أَنَّهُ نَامَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَجَاءَ إِلَى الْقَرْيَةِ فَبَاعَ حِزْمَتَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى طَعَامًا وَشَرَابًا كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْحُفْرَةِ فِي مَوْضِعِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ فَالْتَمَسَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَقَدْ كَانَ بدّ لِقَوْمِهِ فِيهِ بُدٌّ فَاسْتَخْرَجُوهُ فَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْأَسْوَدِ مَا فَعَلَ؟ فَيَقُولُونَ مَا نَدْرِي حَتَّى قُبِضَ ذَلِكَ النَّبِيُّ، فَأَهَبَّ اللَّهُ الْأَسْوَدَ مِنْ نَوْمَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، إِنَّ ذَلِكَ الْأَسْوَدَ لَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: وَفِيهِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ، وَلَعَلَّ فِيهِ إِدْرَاجًا انْتَهَى. الْحَدِيثُ أَيْضًا مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ: الْقَرْنُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ عَامًا. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْقَرْنُ: سَبْعُونَ سَنَةً، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: الْقَرْنُ مِائَةُ سَنَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الْقَرْنُ مِائَةُ سَنَةٍ، وَقَالَ: القرن خَمْسُونَ سَنَةً، وَقَالَ الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ سُمِّيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ قَرْنًا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْتَهَى إِلَى مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ أَمْسَكَ، ثُمَّ يَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ. قَالَ اللَّهُ: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ قَالَ: هِيَ سَدُومُ قَرْيَةُ لُوطٍ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ قَالَ: الْحِجَارَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَعْبُدُ الْحَجَرَ الْأَبْيَضَ زَمَانًا مِنَ الدَّهْرِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِذَا وَجَدَ حَجَرًا أَحْسَنَ مِنْهُ رَمَى بِهِ وَعَبَدَ الْآخَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَهْوَى شيئا إلا اتبعه.

_ (1) . يس: 20. [.....]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 إلى 54]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) لِمَا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ جَهَالَةِ الْجَاهِلِينَ وَضَلَالَتِهِمْ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ مع ما فيها من عظم الْإِنْعَامِ، فَأَوَّلُهَا الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الظِّلِّ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ إِمَّا بَصَرِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا: أَلَمْ تُبْصِرْ إِلَى صُنْعِ رَبِّكَ؟ أَوْ أَلَمْ تُبْصِرْ إِلَى الظِّلِّ كَيْفَ مَدَّهُ رَبُّكَ؟ وَإِمَّا قَلْبِيَّةٌ، بِمَعْنَى الْعِلْمِ، فَإِنَّ الظِّلَّ مُتَغَيِّرٌ، وَكُلُّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٌ، وَلِكُلِّ حَادِثٍ مُوجِدٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَلَمْ تَرَ أَلَمْ تَعْلَمْ؟ وَهَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، قَالَ: وَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْقَلْبِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الظِّلِّ كَيْفَ مَدَّهُ رَبُّكَ؟ يَعْنِي: الظِّلَّ مِنْ وَقْتِ الْإِسْفَارِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهُوَ ظِلٌّ لَا شَمْسَ مَعَهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الظِّلُّ بِالْغَدَاةِ وَالْفَيْءُ بِالْعَشِيِّ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، سُمِّيَ فَيْئًا لِأَنَّهُ فَاءَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ يَصِفُ سَرْحَةً وَكَنَّى بِهَا عَنِ امْرَأَةٍ: فَلَا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلَا الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ تَذُوقُ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الظِّلُّ: مَا نَسَخَتْهُ الشَّمْسُ، وَالْفَيْءُ: مَا نَسَخَ الشَّمْسَ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ رُؤْبَةَ قَالَ: كُلُّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فزالت عنه فهو في فَيْءٌ وَظِلٌّ، وَمَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَهُوَ ظِلٌّ، انْتَهَى. وَحَقِيقَةُ الظِّلِّ أَنَّهُ أَمْرٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الضَّوْءِ الْخَالِصِ وَالظُّلْمَةِ الْخَالِصَةِ، وَهَذَا التوسط هُوَ أَعْدَلُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، لِأَنَّ الظُّلْمَةَ الْخَالِصَةَ يَكْرَهُهَا الطَّبْعُ وَيَنْفِرُ عَنْهَا الْحِسُّ، وَالضَّوْءُ الْكَامِلُ لِقُوَّتِهِ يُبْهِرُ الْحِسَّ الْبَصَرِيَّ وَيُؤْذِي بِالتَّسْخِينِ، وَلِذَلِكَ وصفت الجنة به بقوله: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «1» وَجُمْلَةُ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المعطوف والمعطوف عليه، أي: لو شاء سبحانه سكونه لجعله ساكنا ثابتا دائما مستقرا لا تنسخه الشمس. وقيل المعنى: لَوْ شَاءَ لَمَنْعَ الشَّمْسَ الطُّلُوعَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالتَّعْبِيرُ بِالسُّكُونِ عَنِ الْإِقَامَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ سَائِغٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَكَنَ فُلَانٌ بَلَدَ كَذَا: إِذَا أَقَامَ بِهِ وَاسْتَقَرَّ فِيهِ: وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَدَّ الظِّلَّ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهِ، أَيْ: جَعَلْنَاهَا عَلَامَةً يُسْتَدَلُّ بِهَا بِأَحْوَالِهَا عَلَى أَحْوَالِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظِّلَّ يَتْبَعُهَا كَمَا يُتْبَعُ الدَّلِيلُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَزِيدُ بِهَا وَيَنْقُصُ وَيَمْتَدُّ وَيَتَقَلَّصُ، وقوله: ثُمَّ قَبَضْناهُ معطوف

_ (1) . الواقعة: 30.

أَيْضًا عَلَى مَدَّ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهِ. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ قَبَضْنَا ذَلِكَ الظِّلَّ الْمَمْدُودَ، وَمَحَوْنَاهُ عِنْدَ إِيقَاعِ شُعَاعِ الشَّمْسِ مَوْقِعَهُ بِالتَّدْرِيجِ، حَتَّى انْتَهَى ذَلِكَ الْإِظْلَالُ إِلَى الْعَدَمِ وَالِاضْمِحْلَالِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ في الآية قبضه عن قِيَامِ السَّاعَةِ بِقَبْضِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ الْأَجْرَامُ النَّيِّرَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الظِّلَّ يَبْقَى فِي هَذَا الْجَوِّ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِذَا طَلُعَتِ الشَّمْسُ صَارَ الظِّلُّ مَقْبُوضًا، وَخَلْفَهُ فِي هَذَا الْجَوِّ شُعَاعُ الشَّمْسِ، فَأَشْرَقَتْ عَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى الْأَشْيَاءِ إِلَى وَقْتِ غُرُوبِهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَلَيْسَ هُنَاكَ ظِلٌّ، إِنَّمَا فِيهِ بَقِيَّةُ نُورِ النَّهَارِ، وَقَالَ قَوْمٌ: قَبَضَهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَغْرُبْ فَالظِّلُّ فِيهِ بَقِيَّةٌ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ زَوَالُهُ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ وَدُخُولِ الظَّلَمَةِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: ثُمَّ قَبَضْنَا ضِيَاءَ الشَّمْسِ بِالْفَيْءِ قَبْضاً يَسِيراً وَمَعْنَى إِلَيْنَا: أَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنَّ حُدُوثَهُ مِنْهُ. قَبْضًا يَسِيرًا، أَيْ عَلَى تَدْرِيجٍ قَلِيلًا قَلِيلًا بِقَدْرِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: يَسِيرًا سَرِيعًا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَسِيرًا عَلَيْنَا، أَيْ: يَسِيرًا قَبْضُهُ عَلَيْنَا لَيْسَ بِعَسِيرٍ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً شَبَّهَ سُبْحَانَهُ مَا يُسْتَرُ مِنْ ظَلَامِ اللَّيْلِ بِاللِّبَاسِ السَّاتِرِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَصَفَ اللَّيْلَ بِاللِّبَاسِ تَشْبِيهًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْتُرُ الأشياء ويغشاها، واللام متعلقة بجعل وَالنَّوْمَ سُباتاً أَيْ: وَجَعَلَ النَّوْمَ سُبَاتًا، أَيْ: رَاحَةً لَكُمْ لِأَنَّكُمْ تَنْقَطِعُونَ عَنِ الِاشْتِغَالِ، وَأَصْلُ السُّبَاتِ: التَّمَدُّدُ، يُقَالُ: سَبَتَتِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا، أَيْ نَقَضَتْهُ وَأَرْسَلَتْهُ. وَرَجُلٌ مَسْبُوتٌ: أَيْ مَمْدُودُ الْخِلْقَةِ. وقيل للنوم: ثبات، لِأَنَّهُ بِالتَّمَدُّدِ يَكُونُ، وَفِي التَّمَدُّدِ مَعْنَى الرَّاحَةِ. وَقِيلَ: السَّبْتُ: الْقَطْعُ، فَالنَّوْمُ انْقِطَاعٌ عَنِ الِاشْتِغَالِ، وَمِنْهُ سَبْتُ الْيَهُودِ لِانْقِطَاعِهِمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: السُّبَاتُ النَّوْمُ، وَهُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالرُّوحُ فِي بَدَنِهِ، أَيْ: جَعَلَنَا نَوْمَكُمْ رَاحَةً لَكُمْ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: السُّبَاتُ نَوْمٌ ثَقِيلٌ، أَيْ: جَعَلَنَا نَوْمَكُمْ ثَقِيلًا لِيَكْمُلَ الْإِجْمَامُ وَالرَّاحَةُ وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أَيْ: زَمَانَ بَعْثٍ مِنْ ذَلِكَ السُّبَاتِ، شَبَّهَ الْيَقَظَةَ بِالْحَيَاةِ كَمَا شَبَّهَ النَّوْمَ بِالسُّبَاتِ الشَّبِيهِ بِالْمَمَاتِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ السُّبَاتَ الْمَوْتُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِكَوْنِ النُّشُورِ فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قُرِئَ «الرِّيحُ» وَقُرِئَ «بُشْرًا» بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالنُّونِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فِي الْأَعْرَافِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً أَيْ: يُتَطَهَّرُ بِهِ كَمَا يُقَالُ وَضُوءٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الطَّهُورُ فِي اللُّغَةِ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ، وَالطُّهُورُ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الطَّهُورُ بِفَتْحِ الطَّاءِ الِاسْمُ، وَكَذَلِكَ الْوَضُوءُ وَالْوَقُودُ، وَبِالضَّمِّ الْمَصْدَرُ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَوْنُهُ بِنَاءَ مُبَالِغَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: الطَّهُورُ هُوَ الطَّاهِرُ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «1» يَعْنِي: طَاهِرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: خَلِيلِيَّ هَلْ فِي نَظْرَةٍ بَعْدَ تَوْبَةٍ ... أُدَاوِي بِهَا قَلْبِي عَلَيَّ فَجُورُ إِلَى رُجَّحِ الْأَكْفَالِ غِيدٍ مِنَ الظّبا ... عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ فَوَصَفَ الرِّيقَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ وَلَيْسَ بِمُطَهَّرٍ، وَرَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ثَعْلَبٌ، وهو راجع لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ الْأَزْهَرِيِّ لِذَلِكَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَأَمَّا وَصْفُ الشَّاعِرِ لِلرِّيقِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ، فَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، وَعَلَى كُلِّ حال

_ (1) . الإنسان: 21.

فَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1» وقال النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا» ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عِلَّةَ الْإِنْزَالِ فَقَالَ: لِنُحْيِيَ بِهِ أَيْ: بِالْمَاءِ الْمُنَزَّلِ مِنَ السَّمَاءِ بَلْدَةً مَيْتاً وَصَفَ الْبَلْدَةَ بميتا، وهي صفة للمذكر لأنها بِمَعْنَى الْبَلَدِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَرَادَ بِالْبَلَدِ الْمَكَانَ، وَالْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءِ هُنَا: إِخْرَاجُ النَّبَاتِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أَيْ: نُسَقِي ذَلِكَ الْمَاءَ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا وَأَبُو حَيَّانَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِ النُّونِ مِنْ «نَسْقِيهِ» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَ «مِنْ» فِي مِمَّا خَلَقْنَا لِلِابْتِدَاءِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُسْقِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَالْأَنْعَامُ: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَالْأَنَاسِيُّ: جَمْعُ إِنْسَانٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّهُ جَمْعُ إِنْسِيٍّ، وَلِلْفَرَّاءِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ جَمْعُ إِنْسَانٍ، وَالْأَصْلُ أَنَاسِينَ، مِثْلُ سَرْحَانَ وَسَرَاحِينَ، وَبُسْتَانٍ وَبَسَاتِينَ، فَجَعَلُوا الْبَاءَ عِوَضًا مِنَ النُّونِ وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ضَمِيرُ صَرَّفْنَاهُ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الدَّلَائِلِ، أَيْ: كَرَّرْنَا أَحْوَالَ الْإِظْلَالِ، وَذِكْرُ إِنْشَاءِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي سَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ لِيَتَفَكَّرُوا ويعتبروا فَأَبى أَكْثَرُ هُمْ إِلَّا كُفْرَانَ النِّعْمَةِ وَجَحْدَهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَهُوَ الْمَطَرُ، أَيْ: صَرَّفْنَا الْمَطَرَ بَيْنَهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، فنزيد منه فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ، وَنُنْقِصُ فِي بَعْضٍ آخَرَ مِنْهَا، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ حَيْثُ قَالَ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ وَقَوْلُهُ: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وقوله: اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ كَرَّرْنَا هَذَا الْقُرْآنَ بِإِنْزَالِ آيَاتِهِ بَيْنَ النَّاسِ لِيَذَّكَّرُوا بِهِ وَيَعْتَبِرُوا بِمَا فِيهِ، فَأَبَى أَكْثَرُهُمْ إِلَّا كُفُوراً بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الرِّيحِ، وَعَلَى رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَطَرِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقِيلَ: صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ وَابِلًا، وَطَشًّا، وَطَلًّا، وَرَذَاذًا، وَقِيلَ: تَصْرِيفُهُ تَنْوِيعُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الشُّرْبِ وَالسَّقْيِ وَالزِّرَاعَاتِ بِهِ وَالطَّهَارَاتِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً هُوَ قَوْلُهُمْ: فِي الْأَنْوَاءِ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا. قال النحاس: ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر هنا قولهم: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ «صَرَفْنَاهُ» مُخَفَّفًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «لِيَذْكُرُوا» مُخَفَّفَةُ الذَّالِ مِنَ الذِّكْرِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ مِنَ التَّذَكُّرِ وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أَيْ: رَسُولًا يُنْذِرُهُمْ كَمَا قَسَّمْنَا الْمَطَرَ بَيْنَهُمْ، وَلَكِنَّا لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ جَعَلْنَا نَذِيرًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَابِلْ ذَلِكَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فِيمَا يَدْعُونَكَ إِلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ آلِهَتِهِمْ، بَلِ اجْتَهِدْ فِي الدَّعْوَةِ وَاثْبُتْ فِيهَا وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، أَيْ: جَاهِدْهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ مَا فِيهِ مِنَ الْقَوَارِعِ، وَالزَّوَاجِرِ وَالْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: بِالسَّيْفِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً

_ (1) . الأنفال: 11.

لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ بَعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا لَمْ يَكُنْ عَلَى كُلِّ نَذِيرٍ إِلَّا مُجَاهَدَةُ الْقَرْيَةِ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا، وَحِينَ اقْتَصَرَ عَلَى نَذِيرٍ وَاحِدٍ لِكُلِّ الْقُرَى وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَلَا جَرَمَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ كُلُّ الْمُجَاهَدَاتِ، فَكَبُرَ جِهَادُهُ، وَعَظُمَ وَصَارَ جَامِعًا لِكُلِّ مُجَاهَدَةٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ الْبُعْدِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا رَابِعًا عَلَى التَّوْحِيدِ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ مَرَجَ: خَلَّى وَخَلَطَ وَأَرْسَلَ، يُقَالُ مَرَجْتُ الدَّابَّةَ وَأَمْرَجْتُهَا: إِذَا أَرْسَلْتُهَا فِي الْمَرْعَى وَخَلَّيْتُهَا تَذْهَبُ حَيْثُ تَشَاءُ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرْسَلَهُمَا وَأَفَاضَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: خَلَطَهُمَا فَهُمَا يَلْتَقِيَانِ، يُقَالُ مَرَجْتُهُ: إِذَا خَلَطْتُهُ، وَمَرَجَ الدِّينُ وَالْأَمْرُ: اخْتَلَطَ وَاضْطَرَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ «1» وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خَلَّى بَيْنَهُمَا، يُقَالُ مَرَجَتِ الدَّابَّةُ: إِذَا خَلَّيْتُهَا تَرْعَى. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْمَرْجُ الْإِجْرَاءُ، فَقَوْلُهُ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أَيْ أَجْرَاهُمَا. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَقُولُ قَوْمٌ أَمْرَجَ الْبَحْرَيْنِ مِثْلُ مَرَجَ، فَعَلَ وَأَفْعَلَ بِمَعْنًى هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ الْفُرَاتُ الْبَلِيغُ الْعُذُوبَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ مَرَجَهُمَا؟ فَقِيلَ: هَذَا عَذْبٌ، وَهَذَا مِلْحٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قِيلَ: سُمِّي الْمَاءُ الْحُلْوُ فُرَاتًا: لِأَنَّهُ يَفْرُتُ الْعَطَشُ، أَيْ: يَقْطَعُهُ وَيَكْسِرُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أَيْ: بَلِيغُ الْمُلُوحَةِ هَذَا مَعْنَى الْأُجَاجِ، وَقِيلَ: الْأُجَاجُ الْبَلِيغُ فِي الْحَرَارَةِ، وَقِيلَ: الْبَلِيغُ فِي الْمَرَارَةِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ مِلْحٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً الْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ، وَالْحَائِلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ قُدْرَتِهِ، يَفْصِلُ بينهما، وبمنعهما التَّمَارُجَ، وَمَعْنَى حِجْراً مَحْجُوراً سَتْرًا مَسْتُورًا يَمْنَعُ أَحَدُهُمَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِالْآخَرِ، فَالْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ، وَالْحَجْزُ: الْمَانِعُ. وَقِيلَ: مَعْنَى حِجْراً مَحْجُوراً هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُتَعَوِّذُ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ يَتَعَوَّذُ مِنْ صَاحِبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقِيلَ: حَدًّا مَحْدُودًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْبَحْرِ الْعَذْبِ: الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَجَيْحُونَ، وَمِنَ الْبَحْرِ الْأُجَاجِ: الْبِحَارُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْبَرْزَخُ بَيْنَهُمَا: الْحَائِلُ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مَعْنَى حِجْراً مَحْجُوراً حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ يَعْذُبَ هَذَا الْمَالِحُ بِالْعَذْبِ، أَوْ يُمَلَّحَ هَذَا الْعَذْبُ بِالْمَالِحِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ «2» ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَةً مِنْ أَحْوَالِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَالْمَاءِ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ هُنَا: مَاءُ النُّطْفَةِ، أَيْ: خَلَقَ مِنْ مَاءِ النُّطْفَةِ إِنْسَانًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَاءِ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يُرَادُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «3» وَالْمُرَادُ بِالنَّسَبِ: هُوَ الَّذِي لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: وَاشْتِقَاقُ الصِّهْرِ مِنْ صَهَرْتُ الشَّيْءَ: إِذَا خَلَطْتَهُ، وَسُمِّيَتِ الْمَنَاكِحُ صِهْرًا لِاخْتِلَاطِ النَّاسِ بِهَا. وَقِيلَ: الصِّهْرُ: قَرَابَةُ النِّكَاحِ فَقَرَابَةُ الزَّوْجَةِ: هُمُ الْأَخْتَانُ، وَقَرَابَةُ الزَّوْجِ: هُمُ الْأَحْمَاءُ، وَالْأَصْهَارُ: تَعُمُّهُمَا، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: النَّسَبُ سَبْعَةُ أَصْنَافٍ مِنَ الْقَرَابَةِ يَجْمَعُهَا قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَمِنْ هُنَا إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ «4» تَحْرِيمٌ بِالصِّهْرِ، وَهُوَ الْخُلْطَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْقَرَابَةَ، حَرَّمَ اللَّهُ سَبْعَةَ أَصْنَافٍ مِنَ النَّسَبِ وَسَبْعَةً مِنْ جِهَةِ الصِّهْرِ، قَدِ اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ على

_ (1) . ق: 5. (2) . الرحمن: 19 و 20. (3) . الأنبياء: 30. (4) . النساء: 23.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 55 إلى 67]

سِتَّةٍ مِنْهَا، وَالسَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا الرَّضَاعِ مِنْ جُمْلَةِ النَّسَبِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» . وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً أَيْ: بَلِيغَ الْقُدْرَةِ عَظِيمَهَا، وَمِنْ جُمْلَةِ قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ وَتَقْسِيمُهُ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ قَالَ: بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّكَ إِذَا صَلَّيْتَ الْفَجْرَ كَانَ بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا ظِلًّا، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّمْسَ دَلِيلًا فَقَبَضَ الظِّلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: مَدُّ الظِّلِّ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً قَالَ: دَائِمًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا يَقُولُ: طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً قَالَ: سَرِيعًا. وَأَخْرَجَ أَهْلُ السُّنَنِ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتَنُ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ كَلَامٌ طَوِيلٌ قَدِ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي شَرْحِنَا عَلَى المنتقى. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم والحاكم وصححه البيهقي فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا مِنْ عَامٍ بِأَقَلَّ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجاهِدْهُمْ بِهِ قَالَ: بِالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابن جرير عنه هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَعْنِي: خَلَطَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَيْسَ يُفْسِدُ الْعَذْبُ الْمَالِحَ وَلَيْسَ يُفْسِدُ الْمَالِحُ الْعَذْبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَحِجْراً مَحْجُوراً يَقُولُ: حَجَرَ أحدهما على الْآخَرِ بِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: سُئِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ «نَسَبًا وَصِهْرًا» فَقَالَ: مَا أَرَاكُمْ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُمُ النِّسَبَ، وَأَمَّا الصهر: فالأختان والصحابة. [سورة الفرقان (25) : الآيات 55 الى 67] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)

_ (1) . النساء: 22.

لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ قَبَائِحِ الْكُفَّارِ، وَفَضَائِحِ سِيرَتِهِمْ فَقَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ إِنْ عَبَدُوهُ وَلا يَضُرُّهُمْ إِنْ تَرَكُوهُ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً الظَّهِيرُ: الْمَظَاهِرُ، أَيِ: الْمُعَاوِنُ عَلَى رَبِّهِ بِالشِّرْكِ وَالْعَدَاوَةِ، وَالْمُظَاهَرَةُ عَلَى الرَّبِّ هِيَ الْمُظَاهَرَةُ عَلَى رَسُولِهِ أَوْ عَلَى دِينِهِ: قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّهُ يُتَابِعُ الشَّيْطَانَ وَيُعَاوِنُهُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ لِلْأَصْنَامِ مُعَاوَنَةٌ لِلشَّيْطَانِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ هَيِّنًا ذَلِيلًا، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ ظَهَرْتُ بِهِ: أَيْ جَعَلْتُهُ خَلْفَ ظَهْرِكَ لَمْ تَلْتَفِتْ إليه، ومنه قوله: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا «1» أَيْ: هَيِّنًا، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: تَمِيمُ بن قيس لَا تَكُونَنَّ حَاجَتِي ... بِظَهْرٍ فَلَا يَعْيَا عَلِيَّ جَوَابُهَا وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَهُوَ الصَّنَمُ قَوِيًّا غَالِبًا يَعْمَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ، لِأَنَّ الْجَمَادَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى دَفْعٍ وَنَفْعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّهِيرُ جَمْعًا كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ «2» وَالْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَ الْكَفَرَةِ مَظَاهِرٌ لِبَعْضٍ عَلَى رسول الله أو على الدين، وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِ هُنَا الْجِنْسُ، وَلَا يُنَافِيهِ كَوْنُ سَبَبِ النُّزُولِ هُوَ كَافِرٌ مُعَيَّنٌ كَمَا قِيلَ إِنَّهُ أَبُو جَهْلٍ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً أَيْ: مُبَشِّرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرًا لِلْكَافِرِينَ بالنار قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى الْقُرْآنِ مِنْ أَجْرٍ، أَوْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْإِرْسَالِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا فَلْيَفْعَلْ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِالطَّاعَةِ وَصَّوَرَ ذَلِكَ بِصُورَةِ الْأَجْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَقْصُودُ الْحُصُولِ. وَلَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُتَظَاهِرُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَطْلُبَ مِنْهُمْ أَجْرًا أَلْبَتَّةَ، أَمَرَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ الْمَضَارِّ، وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ فَقَالَ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَخَصَّ صِفَةَ الْحَيَاةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْحَيَّ هُوَ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ فِي الْمَصَالِحِ، وَلَا حَيَاةَ عَلَى الدَّوَامِ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، دُونَ الْأَحْيَاءِ الْمُنْقَطِعَةِ حَيَاتُهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا ضَاعَ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ، وَالتَّوَكُّلُ اعْتِمَادُ الْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أَيْ: نَزِّهْهُ عَنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ، وَقِيلَ: مَعْنَى سَبِّحْ: صَلِّ، وَالصَّلَاةُ: تُسَمَّى تَسْبِيحًا وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أَيْ: حَسْبُكَ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ يُرَادُ بِهَا الْمُبَالَغَةُ كَقَوْلِكَ: كَفَى بِاللَّهِ رَبًّا، وَالْخَبِيرُ: الْمُطَّلِعُ عَلَى الْأُمُورِ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ زَادَ فِي الْمُبَالَغَةِ، فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْأَعْرَافِ، وَالْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْحَيِّ، وَقَالَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَهُنَّ لِأَنَّهُ أَرَادَ النَّوْعَيْنِ، كَمَا قَالَ القطامي: ألم يحزنك أنّ حبال قيس ... وتغلب قد تباينتا انْقِطَاعًا فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ العرش بعد خلق السموات وَالْأَرْضِ كَمَا تُفِيدُهُ ثُمَّ فَيُقَالُ إِنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لَمْ تَدْخُلْ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ بَلْ على رفعه على السموات والأرض، والرحمن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف،

_ (1) . هود: 92. (2) . التحريم: 4.

وهو صفة أخرى للحيّ، وقد قرأه الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي اسْتَوَى، أَوْ يَكُونُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ، أَيْ: فَاسْأَلْ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكَحْ فَتَاتَهُمْ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنِ عَلِيٍّ «الرَّحْمَنِ» بِالْجَرِّ على أنه نعت للحيّ أو للموصول فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً الضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ إِلَى ما ذكر من خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ. وَالْمَعْنَى: فَاسْأَلْ بِتَفَاصِيلِ مَا ذُكِرَ إِجْمَالًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْأَخْفَشُ: الْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ، أَيْ: فَاسْأَلْ عنه، كقوله: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «1» ، وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: هَلَّا سَأَلْتِ الْخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ ... إِنْ كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تعلمي وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ وَالْمُرَادُ بِالْخَبِيرِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَفَاصِيلَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا هُوَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْعَرَبِ: لَوْ لَقِيتَ فُلَانًا لَلَقِيَكَ بِهِ الْأَسَدُ، أَيْ: لَلَقِيَكَ بلقائك إياه الأسد، فخبيرا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَاسْتَضْعَفَ الْحَالِيَّةَ أَبُو الْبَقَاءِ فَقَالَ: يَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ خَبِيرًا حَالًا مِنْ فَاعِلِ اسْأَلْ، لِأَنَّ الْخَبِيرَ لَا يُسْأَلُ إِلَّا عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «2» قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الرَّحْمَنِ إِذَا رَفَعْتَهُ بِاسْتَوَى. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي بِهِ زَائِدَةً. وَالْمَعْنَى: فَاسْأَلْهُ حَالَ كَوْنِهِ خَبِيرًا. وَقِيلَ: قَوْلُهُ بِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ «3» وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَقْرَبُ هَذِهِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ جَهِلُوا مَعْنَى الرَّحْمَنِ فَقَالَ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمْ قَالُوا مَا نَعْرِفُ الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون: مسيلمة. قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ أَنْكَرُوا فَقَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: لَا نَسْجُدُ لِلرَّحْمَنِ الَّذِي تَأْمُرُنَا بِالسُّجُودِ لَهُ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّحْتِيَّةِ فَالْمَعْنَى: أَنَسْجَدُ لِمَا يَأْمُرُنَا مُحَمَّدٌ بِالسُّجُودِ لَهُ. وَقَدْ قَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ لِما تَأْمُرُنا بِالْفَوْقِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدُ: يَعْنُونَ الرَّحْمَنَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى الْكُوفِيِّينَ فِي قِرَاءَتِهِمْ هَذَا التَّأْوِيلُ الْبَعِيدُ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِمَا يَأْمُرُنَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم فتصح الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا، وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى أَبْيَنَ وَزادَهُمْ نُفُوراً أَيْ: زَادَهَمُ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ نُفُورًا عن الدِّينِ وَبُعْدًا عَنْهُ، وَقِيلَ: زَادَهُمْ ذِكْرُ الرَّحْمَنِ تَبَاعُدًا مِنَ الْإِيمَانِ، كَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا لَوْ تَفَكَّرُوا فِيهِ لَعَرَفُوا وُجُوبَ السُّجُودِ لِلرَّحْمَنِ فَقَالَ: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً الْمُرَادُ بِالْبُرُوجِ: بُرُوجُ النُّجُومِ، أَيْ: مَنَازِلُهَا الِاثْنَا عَشَرَ، وَقِيلَ: هِيَ النُّجُومُ الْكِبَارُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَسُمِّيَتْ بُرُوجًا، وهي

_ (1) . المعارج: 1. (2) . البقرة: 91. (3) . النساء: 1.

الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ، لِأَنَّهَا لِلْكَوَاكِبِ كَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ لِمَنْ يَسْكُنُهَا، وَاشْتِقَاقُ الْبُرْجِ: مِنَ التَّبَرُّجِ، وَهُوَ الظُّهُورُ وَجَعَلَ فِيها سِراجاً أَيْ: شَمْسًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً قَرَأَ الْجُمْهُورُ سِراجاً بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «سُرُجًا» بِالْجَمْعِ، أَيِ: النُّجُومُ الْعِظَامُ الْوَّقَّادَةُ، وَرَجَّحَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فِي تَأْوِيلِ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ أَرَادَ الشَّمْسَ وَالْكَوَاكِبَ وَقَمَراً مُنِيراً أَيْ: يُنِيرُ الْأَرْضَ إِذَا طَلَعَ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ قَمَراً بِضَمِّ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ شَاذَّةٌ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْخِلْفَةُ كُلُّ شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ، اللَّيْلُ: خِلْفَةٌ لِلنَّهَارِ، وَالنَّهَارُ: خِلْفَةٌ لِلَّيْلِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ وَيَأْتِي بَعْدَهُ وَمِنْهُ خِلْفَةُ النَّبَاتِ، وَهُوَ وَرَقٌ يَخْرُجُ بَعْدَ الْوَرَقِ الْأَوَّلِ فِي الصَّيْفِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى: بِهَا الْعَيْنُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ «1» قَالَ الْفَرَّاءُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: يَقُولُ: يَذْهَبُ هَذَا وَيَجِيءُ هَذَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خِلْفَةٌ مِنَ الْخِلَافِ، هَذَا أَبْيَضُ، وَهَذَا أَسْوَدُ. وَقِيلَ: يَتَعَاقَبَانِ فِي الضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ذَوِي خِلْفَةٍ، أَيِ: اخْتِلَافٍ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ قرأ حَمْزَةُ مُخَفَّفًا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّشْدِيدِ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى: مِنَ الذِّكْرِ لِلَّهِ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ التَّذَكُّرِ لَهُ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ «يَتَذَكَّرُ» وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْمُتَذَكِّرَ الْمُعْتَبِرَ إِذَا نَظَرَ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي انْتِقَالِهِمَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ مِنْ نَاقِلٍ أَوْ أَرادَ شُكُوراً أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى مَا أَوْدَعَهُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالْأَلْطَافِ الْكَثِيرَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُذَكِّرُ وَيَتَذَكَّرُ يَأْتِيَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الله تعالى: وَاذْكُرُوا ما فِيهِ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ وَيَذْكُرُوا مَا فِيهِ وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ صَالِحِي عِبَادِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: الْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ، وَالْهَوْنُ: مَصْدَرٌ، وَهُوَ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْهَوْنَ مُتَعَلِّقٌ بِيَمْشُونَ، أَيْ: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ مَشْيًا هَوْنًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَتَأَوَّلَ هَذَا عَلَى أَنْ تَكُونَ أَخْلَاقُ ذَلِكَ الْمَاشِي هَوْنًا مُنَاسِبَةً لِمَشْيِهِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صِفَةُ الْمَشْيِ وَحْدُهُ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّهُ رُبَّ مَاشٍ هَوْنًا رُوَيْدًا وَهُوَ ذِئْبٌ أَطْلَسُ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتكفأ في مشيه كأنما فِي صَبَبٍ وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَذَى أَهْلِ الْجَهْلِ وَالسَّفَهِ فَلَا يَجْهَلُونَ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ وَلَا يُسَافِهُونَ أَهْلَ السَّفَهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ هَذَا السَّلَامُ مِنَ التَّسْلِيمِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ التَّسَلُّمِ تَقُولُ الْعَرَبُ سَلَامًا: أَيْ: تَسَلُّمًا مِنْكَ، أَيْ: بَرَاءَةً مِنْكَ، مَنْصُوبٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: قَالُوا سَلَّمْنَا سَلَامًا، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ: قَالُوا هَذَا اللَّفْظَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى سَلَامًا سَدَادًا، أَيْ:

_ (1) . العين: بكسر العين، جمع أعين وعيناء، وهي بقر الوحش، سميت بذلك لسعة أعينها، والأطلاء: جمع طلا، وهو البقرة وولد الظّبية الصغير، والمجثم: الموضع الذي يجثم فيه، أي يقام فيه. [.....]

يقول للجاهل كلاما يدفعه به بِرِفْقٍ وَلِينٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لَكِنَّهُ عَلَى قَوْلِهِ تَسْلِيمًا مِنْكُمْ، وَلَا خَيْرَ وَلَا شَرَّ بَيْنِنَا وَبَيْنَكُمْ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ بِحَرْبِهِمْ، ثُمَّ أُمِرُوا بِحَرْبِهِمْ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: أَخْطَأَ سِيبَوَيْهِ فِي هَذَا وَأَسَاءَ الْعِبَارَةَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا نَعْلَمُ لِسِيبَوَيْهِ كَلَامًا فِي مَعْنَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: فَنَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ. وَأَقُولُ: هَكَذَا يَكُونُ كَلَامُ الرَّجُلِ إِذَا تَكَلَّمَ فِي غَيْرِ عِلْمِهِ وَمَشَى فِي غَيْرِ طَرِيقَتِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُونَ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَا نُهُوا عَنْهُ، بَلْ أُمِرُوا بِالصَّفْحِ وَالْهَجْرِ الْجَمِيلِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى النَّسْخِ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: حَدَّثَنِي الْخَلِيلُ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا رَبِيعَةَ الْأَعْرَابِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ مَنْ رَأَيْتُ، فَإِذَا هُوَ عَلَى سَطْحٍ، فَسَلَّمْنَا فَرَدَّ عَلَيْنَا السَّلَامَ وَقَالَ لَنَا: اسْتَوُوا، فَبَقِينَا مُتَحَيِّرِينَ، وَلَمْ نَدْرِ مَا قَالَ، فَقَالَ لَنَا أَعْرَابِيٌّ إِلَى جَنْبِهِ: أَمَرَكُمْ أَنْ تَرْتَفِعُوا. قَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ مِنْ قول الله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «1» قَالَ: فَصَعِدْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ: هَلْ لَكَمَ فِي خبز وفطير وَلَبَنِ هَجِيرٍ؟ فَقُلْنَا: السَّاعَةَ فَارَقْنَاهُ، فَقَالَ: سَلَامًا، فَلَمْ نَدْرِ مَا قَالَ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إِنَّهُ سَالَمَكُمْ مُتَارَكَةً لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا شَرَّ. قَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً. وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً الْبَيْتُوتَةُ: هِيَ أَنْ يُدْرِكَكَ اللَّيْلُ نِمْتَ أَوْ لَمْ تَنَمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ فَقَدْ بَاتَ، نَامَ أَوْ لَمْ يَنَمْ، كَمَا يُقَالُ: بَاتَ فُلَانٌ قَلِقًا، وَالْمَعْنَى: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَقِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَبِتْنَا قِيَامًا عِنْدَ رَأْسِ جَوَادِنَا ... يُزَاوِلُنَا عَنْ نَفْسِهِ وَنُزَاوِلُهُ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أَيْ: هُمْ مَعَ طَاعَتِهِمْ مُشْفِقُونَ وَجِلُوْنَ خَائِفُونَ مِنْ عَذَابِهِ، وَالْغَرَامُ: اللَّازِمُ الدَّائِمُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَرِيمُ لِمُلَازَمَتِهِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُغْرَمٌ بِكَذَا، أَيْ: مُلَازِمٌ لَهُ مُولَعٌ بِهِ، هَذَا مَعْنَاهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: إِنْ يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ ... يُعْطِ جَزِيْلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْغَرَامُ: أَشَدُّ الْعَذَابِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْهَلَاكُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشَّرُّ، وَجُمْلَةُ إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَخْصُوصُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: هِيَ، وَانْتِصَابُ مُسْتَقَرًا عَلَى الْحَالِ أَوِ التَّمْيِيزِ، وَكَذَا مُقَامًا، قِيلَ: هُمَا مُتَرَادِفَانِ، وَإِنَّمَا عُطِفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِاخْتِلَافِ لَفْظَيْهِمَا، وَقِيلَ: بَلْ هُمَا مُخْتَلِفَانِ مَعْنًى: فَالْمُسْتَقَرُّ لِلْعُصَاةِ فإنهم يخرجون، والمقام للكفار يَخْلُدُونَ، وَسَاءَتْ: مِنْ أَفْعَالِ الذَّمِّ كَبِئْسَتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِكَلَامِهِمْ. ثُمَّ وَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالتَّوَسُّطِ فِي الْإِنْفَاقِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ وَيَحْيَىَ بْنُ وَثَّابٍ «يَقْتُرُوا» بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ، مِنْ قَتَرَ يَقْتُرُ كقعد يقعد، وقرأ أبو عمرو

_ (1) . البقرة: 29.

وَابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَهِيَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ حَسَنَةٌ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ قَتَرَ الرَّجُلُ عَلَى عِيَالِهِ يَقْتُرُ وَيَقْتُرُ قَتْرًا، وأقتر يقتر إقتارا، ومعنى الْجَمِيعِ: التَّضْيِيقُ فِي الْإِنْفَاقِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ مَنْ أَنْفَقَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْإِسْرَافُ، وَمَنْ أَمْسَكَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْإِقْتَارُ، وَمَنْ أَنْفَقَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْقَوَامُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يجيع وَلَا يَعْرَى، وَلَا يُنْفِقُ نَفَقَةً يَقُولُ النَّاسُ: قَدْ أَسْرَفَ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ طَعَامًا لِلتَّنَعُّمِ وَاللَّذَّةِ، وَلَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا لِلْجَمَالِ، وَلَكِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَسُدُّ عَنْهُمُ الْجُوعَ، وَيُقَوِّيهِمْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنَ اللِّبَاسِ مَا يَسْتُرُ عَوْرَاتِهِمْ، وَيَقِيهِمُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَمْ يَزِيدُوا عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يَبْخَلُوا كَقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «1» قَرَأَ حَسَّانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً بِكَسْرِ الْقَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، فَقِيلَ: هَمَا بِمَعْنًى، وَقِيلَ: الْقِوَامُ بِالْكَسْرِ: مَا يَدُومُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ وَيَسْتَقِرُّ، وَبِالْفَتْحِ: الْعَدْلُ وَالِاسْتِقَامَةُ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ. وَقِيلَ بِالْفَتْحِ: الْعَدْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَبِالْكَسْرِ: مَا يُقَامُ بِهِ الشَّيْءُ، لَا يُفْضَلُ عَنْهُ وَلَا يُنْقَصُ. وَقِيلَ بِالْكَسْرِ: السَّدَادُ وَالْمَبْلَغُ، وَاسْمُ كَانَ مُقَدَّرٌ فِيهَا، أَيْ: كَانَ إِنْفَاقُهُمْ بين ذلك قواما، وخبرها قواما، قاله الفراء. وروي عن الفراء قول آخر، وهو أن اسم كان بَيْنَ ذَلِكَ، وَتُبْنَى بَيْنَ عَلَى الْفَتْحِ لِأَنَّهَا مِنَ الظُّرُوفِ الْمَفْتُوحَةِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: مَا أَدْرِي مَا وَجْهُ هَذَا، لِأَنَّ بَيْنَ إِذَا كَانَتْ في موضع رفع رفعت. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً يَعْنِي أَبَا الْحَكَمِ الَّذِي سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ قَالَ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، يَقُولُ عَرَضٌ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ النُّجُومِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قَالَ: هِيَ هَذِهِ الِاثْنَا عَشَرَ بُرْجًا: أَوَّلُهَا: الْحَمَلُ، ثُمَّ الثَّوْرُ، ثُمَّ الْجَوْزَاءُ، ثُمَّ السَّرَطَانُ، ثُمَّ الْأَسَدُ، ثُمَّ السُّنْبُلَةُ، ثُمَّ الْمِيزَانُ، ثُمَّ الْعَقْرَبُ، ثُمَّ الْقَوْسُ، ثُمَّ الْجَدْيُ، ثُمَّ الدَّلْوُ، ثُمَّ الْحُوتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً قَالَ: أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا يقول: من فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ أَنْ يَعْمَلَهُ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ: وَمِنَ النَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ أَطَالَ صَلَاةَ الضُّحَى، فَقِيلَ لَهُ: صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ وِرْدِي شَيْءٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُتِمَّهُ، أَوْ قَالَ أَقْضِيَهُ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً قَالَ: بِالطَّاعَةِ وَالْعَفَافِ وَالتَّوَاضُعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هَوْناً عِلْمًا وَحِلْمًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً قَالَ: الدَّائِمُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حاتم

_ (1) . الإسراء: 29.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 إلى 77]

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لَا يُسْرِفُونَ فَيُنْفِقُوا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله. [سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 77] وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ إِتْيَانِهِمْ بِالطَّاعَاتِ شَرَعَ فِي بَيَانِ اجْتِنَابِهِمْ لِلْمَعَاصِي فَقَالَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ رَبًّا مِنَ الْأَرْبَابِ. وَالْمَعْنَى: لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، بَلْ يُوَحِّدُونَهُ وَيُخْلِصُونَ لَهُ الْعِبَادَةَ وَالدَّعْوَةَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أَيْ: حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ: بِمَا يَحِقُّ أَنْ تُقْتَلَ بِهِ النُّفُوسُ، مِنْ كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ وَلا يَزْنُونَ أَيْ: يَسْتَحِلُّونَ الْفُرُوجَ الْمُحَرَّمَةَ بِغَيْرِ نِكَاحٍ، وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أَيْ: شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ يَلْقَ فِي الْآخِرَةِ أَثاماً وَالْأَثَامُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْعِقَابُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: آثَمَهُ اللَّهُ يُؤْثِمُهُ أَثَامًا وَآثَامًا، أَيْ: جَازَاهُ جَزَاءَ الْإِثْمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ أَثَامًا وَادٍ فِي جَهَنَّمَ جَعَلَهُ اللَّهُ عِقَابًا لِلْكَفَرَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: جَبَلٌ فِيهَا. وَقُرِئَ «يُلَقَّ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَالْأَثَامُ وَالْإِثْمُ وَاحِدٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا جَزَاءُ الْآثَامِ فَأُطْلِقَ اسْمُ الشَّيْءِ عَلَى جَزَائِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ يَلْقَ أَيَّامًا جَمْعُ يَوْمٍ: يَعْنِي شَدَائِدَ، وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَيَّامِ، وَمَا أَظُنُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تَصِحُّ عَنْهُ يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُضاعَفْ، ويَخْلُدْ بِالْجَزْمِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «يُضَعَّفْ» بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَطَرْحِ الْأَلْفِ وَالْجَزْمِ، وَقَرَأَ طلحة ابن سُلَيْمَانَ «نُضَعِّفُ» بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُشَدَّدَةِ وَالْجَزْمِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بِالرَّفْعِ فِي الْفِعْلَيْنِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ «وَتَخْلُدْ» بِالْفَوْقِيَّةِ خِطَابًا لِلْكَافِرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عمرو أَنَّهُ قَرَأَ وَيَخْلُدْ بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ اللَّامِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَهِيَ غَلَطٌ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، وَوَجْهُ الْجَزْمِ فِي يُضَاعَفْ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ يَلْقَ لِاتِّحَادِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ عَلَيَّ اللَّهَ أَنْ تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعا والضمير في قوله: وَيَخْلُدْ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْعَذَابِ الْمُضَاعَفِ، أَيْ: يَخْلُدْ فِي الْعَذَابِ الْمُضَاعَفِ

مُهاناً ذَلِيلًا حَقِيرًا إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَقِيلَ: مُنْقَطِعٌ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: لَا يَظْهَرُ الِاتِّصَالُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وعمل عملا صَالِحًا فَلَا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ التَّضْعِيفِ انْتِفَاءُ الْعَذَابِ غَيْرِ الْمُضَعَّفِ. قال: والأولى عندي أن يكون مُنْقَطِعًا، أَيْ: لَكِنْ مَنْ تَابَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِ وَالزَّانِي. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَاتِلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ إِلَى الْمَذْكُورِينَ سَابِقًا، وَمَعْنَى تَبْدِيلِ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ، أَنَّهُ يَمْحُو عَنْهُمُ الْمَعَاصِيَ، وَيُثْبِتُ لَهُمْ مَكَانَهَا طَاعَاتٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يُكْتَبَ مَوْضِعَ كَافِرٍ مُؤْمِنٌ، وَمَوْضِعَ عَاصٍ مُطِيعٌ. قَالَ الْحَسَنُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ التَّبْدِيلُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا التَّبْدِيلُ فِي الدُّنْيَا، يُبَدِّلُ اللَّهُ لَهُمْ إِيمَانًا مَكَانَ الشِّرْكِ، وَإِخْلَاصًا مِنَ الشَّكِّ، وَإِحْصَانًا مِنَ الْفُجُورِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: لَيْسَ يَجْعَلُ مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ، وَلَكِنْ يَجْعَلُ مَكَانَ السَّيِّئَةِ التَّوْبَةَ، وَالْحَسَنَةَ مَعَ التَّوْبَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ السَّيِّئَاتِ تُبَدَّلُ بِحَسَنَاتٍ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهَمْ. وَقِيلَ: التَّبْدِيلُ عِبَارَةٌ عَنِ الْغُفْرَانِ، أَيْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، لَا أَنْ يُبَدِّلَهَا حَسَنَاتٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّبْدِيلِ: أَنْ يُوَفِّقَهُ لِأَضْدَادِ مَا سَلَفَ مِنْهُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً هَذِهِ الجملة مقرّرة لما قبله مِنَ التَّبْدِيلِ وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً أَيْ: مِنْ تَابَ عَمَّا اقْتَرَفَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَتُوبُ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، أَيْ: يَرْجِعُ إِلَيْهِ رُجُوعًا صَحِيحًا قَوِيًّا. قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْأُولَى فِيمَنْ تَابَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَنْ تَابَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَتْبَعُ تَوْبَتَهُ عَمَلًا صَالِحًا، فَلَهُ حُكْمُ التَّائِبِينَ أَيْضًا. وَقِيلَ: أَيْ مَنْ تَابَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُحَقِّقِ التَّوْبَةَ بِفِعْلِهِ، فَلَيْسَتْ تِلْكَ التَّوْبَةُ نَافِعَةً، بَلْ مَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَحَقَّقَ تَوْبَتَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَهُوَ الَّذِي تَابَ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، أَيْ: تَابَ حَقَّ التَّوْبَةِ، وَهِيَ النَّصُوحُ، وَلِذَلِكَ أُكِّدَ بِالْمَصْدَرِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ أَرَادَ التَّوْبَةَ وَعَزَمَ عَلَيْهَا فَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَالْخَبَرُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، كَذَا قِيلَ لِئَلَّا يتحد الشرط والجزاء، فإنه لا يقال من تَابَ فَإِنَّهُ يَتُوبُ، ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ التَّائِبِينَ الْعَامِلِينَ لِلصَّالِحَاتِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أَيْ: لَا يَشْهَدُونَ الشَّهَادَةَ الْكَاذِبَةَ، أَوْ لَا يَحْضُرُونَ الزُّورَ، وَالزُّورَ: هُوَ الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ، وَلَا يُشَاهِدُونَهُ وَإِلَى الثَّانِي ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الزُّورُ فِي اللُّغَةِ الْكَذِبُ وَلَا كَذِبَ فَوْقَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الزُّورَ هَاهُنَا: بِمَعْنَى الشِّرْكِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ يَشْهَدُونَ إِنْ كَانَ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَشْهَدُونَ شهادة الزور وإن كان من الشهود والحضور، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُسَاعِدُونَ أَهْلَ الْبَاطِلِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَحْضُرُونَ اللَّهْوَ وَالْغِنَاءَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْكَذِبَ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَالْأَوْلَى عَدَمُ التَّخْصِيصِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الزُّورِ، بَلِ الْمُرَادُ الَّذِينَ لَا يَحْضُرُونَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزُّورِ كائنا ما كَانَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أَيْ: مُعْرِضِينَ عَنْهُ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَيْهِ، وَاللَّغْوُ: كُلُّ سَاقِطٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. قَالَ الْحَسَنُ: اللَّغْوُ: الْمَعَاصِي كُلُّهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ

مَرُّوا بِذَوِي اللَّغْوِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يُكْرَمُ عَمَّا يَشِينُهُ، أَيْ: يَتَنَزَّهُ وَيُكْرِمُ نَفْسَهُ عَنِ الدُّخُولِ فِي اللَّغْوِ وَالِاخْتِلَاطِ بِأَهْلِهِ وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أَيْ: بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِمَا فِيهِ مَوْعِظَةٌ وَعِبْرَةٌ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أَيْ: لَمْ يَقَعُوا عَلَيْهَا حَالَ كَوْنِهِمْ صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَلَكِنَّهُمْ أَكَبُّوا عَلَيْهَا سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ، وَانْتَفَعُوا بِهَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَعْنَى لَمْ يَتَغَافَلُوا عَنْهَا، كَأَنَّهُمْ صُمٌّ لَمْ يَسْمَعُوهَا، وَعُمْيٌ لَمْ يُبْصِرُوهَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَيْسَ ثَمَّ خُرُورٌ، بَلْ كَمَا يُقَالُ قَعَدَ يَبْكِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ قَاعِدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَأَنَّ الْمُسْتَمِعَ لِلذِّكْرِ قَائِمٌ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ خُرُورًا، وَهُوَ السُّقُوطُ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ. قِيلَ الْمَعْنَى: إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، فَخَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، وَلَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لَمْ يَقْعُدُوا عَلَى حَالِهِمُ الْأَوَّلِ، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعُوا. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: لَيْسَ بِنَفْيٍ لِلْخُرُورِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتٌ لَهُ، وَنَفْيٌ لِلصَّمَمِ وَالْعَمَى، وَأَرَادَ أَنَّ النَّفْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقَيْدِ لَا إِلَى الْمُقَيَّدِ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ مِنِ: ابْتِدَائِيَّةٌ، أَوْ بَيَانِيَّةٌ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَذُرِّيَّاتِنا بِالْجَمْعِ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى «وَذُرِّيَّتِنَا» بِالْإِفْرَادِ، وَالذُّرِّيَّةُ: تَقَعُ عَلَى الجمع، كما في قوله: ذُرِّيَّةً ضِعافاً «1» وَتَقَعُ عَلَى الْفَرْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةً طيبة، وَانْتِصَابُ قُرَّةَ أَعْيُنٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، يُقَالُ: قَرَّتْ عَيْنُهُ قُرَّةً. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ، أَيْ: صَادَفَ فُؤَادُكَ مَا يُحِبُّهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: فِي قُرَّةِ الْعَيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: بَرْدُ دَمْعِهَا، لِأَنَّهُ دَلِيلُ السُّرُورِ وَالضَّحِكِ، كَمَا أَنَّ حَرَّهُ دَلِيلُ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ. وَالثَّانِي: نَوْمُهَا، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَ فَرَاغِ الْخَاطِرِ، وَذَهَابِ الْحُزْنِ. والثالث: حصول الرضا. وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أَيْ: قُدْوَةً يُقْتَدَى بِنَا فِي الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِمَامًا، وَلَمْ يَقُلْ أَئِمَّةً، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ. كَقَوْلِهِ: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «2» قَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ إِمَامًا، وَلَمْ يَقُلْ أَئِمَّةً كما قال للاثنين نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ «3» يَعْنِي: أَنَّهُ مِنَ الْوَاحِدِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْإِمَامُ جَمْعُ أَمٍّ مِنْ أمّ يؤم جَمْعٌ عَلَى فِعَالٍ، نَحْوَ صَاحِبٍ وَصِحَابٍ، وَقَائِمٍ وَقِيَامٍ. وَقِيلَ: إِنَّ إِمَامًا مَصْدَرٌ، يُقَالُ: أَمَّ فُلَانٌ فُلَانًا إِمَامًا، مِثْلَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ. وَقِيلَ أَرَادُوا: اجْعَلْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا إِمَامًا، وَقِيلَ أَرَادُوا: اجْعَلْنَا إِمَامًا وَاحِدًا لِاتِّحَادِ كَلِمَتِنَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ الْمَقْلُوبِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَاجْعَلِ الْمُتَّقِينَ لَنَا إِمَامًا، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ صَادِرٌ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الِانْفِرَادِ، وَأَنَّ عِبَارَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ: وَاجْعَلْنِي لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، وَلَكِنَّهَا حُكِيَتْ عِبَارَاتُ الْكُلِّ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ لِقَصْدِ الْإِيجَازِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً «4» وَفِي هَذَا إِبْقَاءُ إِمَامًا عَلَى حَالِهِ، وَمِثْلُ مَا فِي الْآيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا عَاذِلَاتِي لَا تَزِدْنَ مَلَامَتِي ... إِنَّ الْعَوَاذِلَ لَيْسَ لِي بِأَمِينِ أَيْ: أُمَنَاءَ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَعِنْدِي أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا ذُهِبَ بِهِ مَذْهَبُ الِاسْمِ وُحِّدَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: اجْعَلْنَا حُجَّةً لِلْمُتَّقِينَ، وَمِثْلُهُ الْبَيِّنَةُ، يُقَالُ: هَؤُلَاءِ بَيِّنَةُ فُلَانٍ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: قِيلَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرِّيَاسَةَ الدِّينِيَّةَ

_ (1) . النساء: 9. (2) . الحج: 5. (3) . الشعراء: 16. (4) . المؤمنون: 51.

مِمَّا يَجِبُ أَنْ تُطْلَبَ وَيُرَغَّبَ فِيهَا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ فِي الطَّاعَةِ الْمَبْلَغَ الَّذِي يُشَارُ إِلَيْهِمْ، وَيُقْتَدَى بِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَا بعده، والجملة مُسْتَأْنَفَةٌ. وَقِيلَ: إِنَّ أُوْلئِكَ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ، وَالْغُرْفَةُ: الدَّرَجَةُ الرَّفِيعَةُ، وَهِيَ أَعْلَى مَنَازِلِ الْجَنَّةِ وَأَفْضَلُهَا، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ لِكُلِّ بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ، وَالْجَمْعُ غُرَفٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْغُرْفَةُ الْجَنَّةُ، وَالْبَاءُ فِي «بِمَا صَبَرُوا» سَبَبِيَّةٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ والأعمش ويحيى ابن وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ يُلَقَّوْنَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْفَرَّاءُ، قَالَ: لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: فُلَانٌ يُلْقِي بِالسَّلَامِ وَالتَّحِيَّةِ وَالْخَيْرِ، وَقَلَّ مَا يَقُولُونَ يُلْقِي. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ بِالسَّلَامِ، قِيلَ: التَّحِيَّةُ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ وَالْمُلْكُ الْعَظِيمُ، وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى السَّلَامِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُحَيِّيهِمْ وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ التَّحِيَّةَ وَالسَّلَامَ هِيَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «1» وَقِيلَ مَعْنَى التَّحِيَّةِ: الدُّعَاءُ لَهُمْ بِطُولِ الْحَيَاةِ، وَمَعْنَى السَّلَامِ: الدُّعَاءُ لَهُمْ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُقِيمِينَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أَيْ: حَسُنَتِ الْغُرْفَةُ مُسْتَقَرًّا يَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، وَمُقَامًا يُقِيمُونَ بِهِ، وَهَذَا فِي مُقَابِلِ مَا تَقَدَّمَ من قوله: ساءت مستقرّا ومقاما قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ طَاعَةِ الْكُلِّ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُمْ لِيَنْتَفِعُوا بِالتَّكْلِيفِ، يُقَالُ: مَا عَبَأْتُ بِفُلَانٍ، أَيْ: مَا بَالَيْتُ بِهِ، وَلَا لَهُ عِنْدِي قَدْرٌ، وَأَصْلُ يَعْبَأُ مِنَ الْعِبْءِ، وَهُوَ الثِّقَلُ. قَالَ الْخَلِيلُ: مَا أَعْبَأُ بِفُلَانٍ: أَيْ: مَا أَصْنَعُ بِهِ كَأَنَّهُ يَسْتَقِلُّهُ وَيَسْتَحْقِرُهُ، وَيَدَّعِي أَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي. يُرِيدُ: أَيُّ وَزْنٍ يَكُونُ لَكُمْ عنده. والعبء: الثقل، وما اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَوْ نَافِيَةٌ، وَصَرَّحَ الْفَرَّاءُ بِأَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ عِنْدِي أَنَّ مَوْضِعَ مَا نَصْبٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ عِبْءٍ يَعْبَأُ بِكُمْ، أَيْ: أَيُّ مُبَالَاةٍ يُبَالِي بِكُمْ لَوْلا دُعاؤُكُمْ أَيْ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُ لِتَعْبُدُوهُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ، وَفَاعِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ لَمْ يَعْبَأْ بِكُمْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «2» وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، ثُمَّ خَصَّ الْكُفَّارَ مِنْهُمْ فَقَالَ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ «فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ» وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، أَيْ: لَوْلَا اسْتِغَاثَتُكُمْ إِلَيْهِ فِي الشَّدَائِدِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ، أَيْ: بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِكُمْ لَوْلَا دُعَاؤُكُمُ الْآلِهَةَ مَعَهُ. وَحَكَى ابْنُ جِنِّي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ كَقِرَاءَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ وَالنَّحَّاسُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ كَقِرَاءَتِهِمَا، وَمِمَّنْ قَالَ بأن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتبي والفارسي قالا: والأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه،

_ (1) . الأحزاب: 44. (2) . الذاريات: 56.

وجواب لولا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ لَمْ يُعَذِّبْكُمْ، وَيَكُونُ مَعْنَى فَقَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بِمَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بِالتَّوْحِيدِ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أَيْ: فَسَوْفَ يَكُونُ جَزَاءُ التَّكْذِيبِ لَازِمًا لَكُمْ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاللِّزَامِ هُنَا: مَا لَزِمَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لِزَامًا فَيْصَلًا، أَيْ: فَسَوْفَ يَكُونُ فَيْصَلًا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَسَوْفَ يَكُونُ تَكْذِيبُكُمْ لِزَامًا يَلْزَمُكُمْ فَلَا تُعْطَوْنَ التَّوْبَةَ، وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَى كَسْرِ اللَّامِ مِنْ لِزَامًا، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِصَخْرٍ: فَإِمَّا ينجو مِنْ خَسْفِ أَرْضٍ ... فَقَدْ لَقِيَا حُتُوفَهُمَا لِزَامًا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ لِزَامًا: عَذَابًا دَائِمًا، وَهَلَاكًا مُفْنِيًا، يُلْحِقُ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ: فَفَاجَأَهُ بِعَادِيَةٍ لِزَامٍ ... كَمَا يَتَفَجَّرُ الْحَوْضُ اللَّفِيفُ يعني باللزام: يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَبِاللَّفِيفِ: الْمُتَسَاقِطَ مِنَ الْحِجَارَةِ الْمُنْهَدِمَةِ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا السِّمَاكِ يَقْرَأُ «لِزَامًا» بِفَتْحِ اللَّامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ يَكُونُ مَصْدَرَ لَزِمَ، وَالْكَسْرُ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ» . وَأَخْرَجَا وَغَيْرُهُمَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَدْ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ الْآيَةَ، وَنَزَلَتْ قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «1» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي قَوْلِهِ: يَلْقَ أَثاماً قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الْآيَةَ. اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَشْرَكَ وقتل وزنا، فأنزل الله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ، يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَصَابُوا هَذَا فِي الشِّرْكِ، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فَأَبْدَلَهُمُ اللَّهُ بِالْكُفْرِ الْإِسْلَامَ، وَبِالْمَعْصِيَةِ الطَّاعَةَ، وَبِالْإِنْكَارِ الْمَعْرِفَةَ، وَبِالْجَهَالَةِ الْعِلْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَرَأْنَاهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِنِينَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ثُمَّ نَزَلَتْ إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرِحَ بِشَيْءٍ قَطُّ فَرَحَهُ بِهَا، وَفَرَحَهُ ب إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «2» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: هم المؤمنون

_ (1) . الزمر: 53. (2) . الفتح: 1.

كَانُوا مِنْ قَبْلِ إِيمَانِهِمْ عَلَى السَّيِّئَاتِ، فَرَغِبَ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ ذَلِكَ فَحَوَّلَهُمْ إِلَى الْحَسَنَاتِ، فَأَبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَهَنَّادٌ والترمذي وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يؤتى بالرجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُهَا وَيُنَحَّى عَنْهُ كِبَارُهَا، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا كَذَا، وَهُوَ يُقِرُّ، لَيْسَ يُنْكِرُ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ تَجِيءَ، فَيُقَالُ: أَعْطُوهُ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلَهَا حَسَنَةً» وَالْأَحَادِيثُ فِي تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَتَبْدِيلِهَا بِالْحَسَنَاتِ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قَالَ: إِنَّ الزُّورَ كَانَ صَنَمًا بِالْمَدِينَةِ يَلْعَبُونَ حَوْلَهُ كُلَّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرُّوا بِهِ مَرُّوا كِرَامًا لَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ قَالَ: يَعْنُونَ مَنْ يَعْمَلُ بِالطَّاعَةِ فَتَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً قَالَ: أَئِمَّةَ هُدًى يُهْتَدَى بِنَا وَلَا تَجْعَلْنَا أَئِمَّةَ ضَلَالَةٍ، لِأَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ السعادة: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا «1» وَلِأَهْلِ الشَّقَاوَةِ: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ «2» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ قَالَ: الْغُرْفَةُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، أَوْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ، أَوْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ. لَيْسَ فِيهَا فَصْمٌ وَلَا وَصْمٌ.. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ يَقُولُ: لَوْلَا إِيمَانُكُمْ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِمْ إذ لَمْ يَخْلُقْهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلَوْ كَانَتْ لَهُ بِهِمْ حَاجَةٌ لَحَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ، كَمَا حَبَّبَهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً قَالَ: مَوْتًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً قَالَ: الْقَتْلُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَالْقَمَرُ، والروم، والبطشة، واللّزام.

_ (1) . الأنبياء: 73. (2) . القصص: 41.

سورة الشعراء

سورة الشّعراء وَهِيَ: مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَا أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُورَةُ الشُّعَرَاءِ أنزلت بمكة، سوى خمس آيات آخرها نزلت بالمدينة، وهي [الآية: 197 و] «1» وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى آخرها. وأخرج القرطبي فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِيَ السَّبْعَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأَعْطَانِي الْمِئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ، وَأَعْطَانِي الطَّوَاسِينَ مَكَانَ الزَّبُورِ، وَفَضَّلَنِي بِالْحَوَامِيمِ وَالْمُفَصَّلِ، مَا قَرَأَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ السُّورَةَ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةَ مِنَ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَأُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْقُرْآنِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، وَأُعْطِيتُ الْمُفَصَّلَ نَافِلَةً» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا بِسُورَةِ الجمعة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قَوْلُهُ: طسم قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِإِمَالَةِ الطَّاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالزُّهْرِيُّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ مُشَبَّعًا. وَقَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَأَبُو عمرو وعاصم والكسائي بإدغام النون من «طسم» فِي الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ بِإِظْهَارِهَا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: الْإِدْغَامُ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ. قال النحاس: وحكى الزجاج في كتابه

_ (1) . ما بين حاصرتين مستدرك من تفسير الجلالين، وبه يصح الكلام.

فِيمَا يَجْرِي وَمَا لَا يَجْرِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: «طَا سِينَ مِيمُ» بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْمِيمِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا مَعْدِي كَرْبُ. وَقَرَأَ عِيسَى وَيُرْوَى عَنْ نَافِعٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «ط س م» هَكَذَا حُرُوفًا مُقَطَّعَةً فَيُوقَفُ عَلَى كُلِّ حَرْفٍ وَقْفَةً يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ إِنْ كَانَ اسْمًا لِلسُّورَةِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ: اذْكُرْ أَوِ اقْرَأْ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَسْرُودًا عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِلَى السُّورَةِ، وَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا وَمَا بَعْدَهَا خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ إِنْ جَعَلْنَا طسم مُبْتَدَأً، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْ طسم، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا: الْقُرْآنُ، وَالْمُبِينُ: الْمُبِينُ الْمُظْهِرُ، أَوِ الْبَيِّنُ الظَّاهِرُ إِنْ كَانَ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَيْ: قَاتِلٌ نَفْسَكَ وَمُهْلِكُهَا أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أَيْ: لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَالْبَخْعُ فِي الْأَصْلِ: أَنْ يُبْلَغَ بِالذَّبْحِ النُّخَاعُ، بِالنُّونِ، قَامُوسٌ، وَهُوَ عِرْقٌ فِي الْقَفَا، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ «بَاخِعُ نَفْسِكَ» بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْقَطْعِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّهَا جَزَاءٌ، قَالَ النحاس: وإنما يقال: إن مكسورة لأنها جزاء، هكذا المتعارف وَالْقَوْلُ فِي هَذَا مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ فِي كِتَابِهِ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبِ، مَفْعُولٍ لِأَجْلِهِ، وَالْمَعْنَى: لَعَلَّكَ قَاتِلٌ نَفْسَكَ لِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ، شَدِيدَ الْأَسَفِ لِمَا يَرَاهُ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ: وَجُمْلَةُ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا سَبَقَ مِنَ التَّسْلِيَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ نَشَأْ نَنْزِلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً تُلْجِئُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ قَدْ سَبَقَ الْقَضَاءُ بِأَنَّا لَا نَنْزِلُ ذَلِكَ، وَمَعْنَى فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أَنَّهُمْ صَارُوا مُنْقَادِينَ لَهَا، أَيْ: فَتَظَلُّ أَعْنَاقُهُمْ إِلَخْ، قِيلَ: وَأَصْلُهُ فَظَلُّوا لَهَا خَاضِعِينَ، فَأُقْحِمَتِ الْأَعْنَاقُ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّصْوِيرِ، لِأَنَّ الْأَعْنَاقَ مَوْضِعُ الْخُضُوعِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمَّا وُضِعَتِ الْأَعْنَاقُ بِصِفَاتِ الْعُقَلَاءِ أُجْرِيَتْ مَجْرَاهُمْ، وَوُصِفَتْ بِمَا يُوصَفُونَ بِهِ. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: خاضعين وخاضعة هُنَا سَوَاءٌ، وَاخْتَارَهُ الْمُبَرِّدُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا إِذَا ذَلَّتْ رِقَابُهُمْ ذُلُّوا، فَالْإِخْبَارُ عَنِ الرِّقَابِ إِخْبَارٌ عَنْ أَصْحَابِهَا، وَيَسُوغُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُتْرَكَ الْخَبَرُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَيُخْبَرَ عَنِ الثَّانِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: طُولَ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرْضِي فَأَخْبَرَ عَنِ اللَّيَالِي وَتَرَكَ الطُّولَ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: أَرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلَالِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْكِسَائِيُّ: إِنَّ الْمَعْنَى خَاضِعِيهَا هُمْ، وَضَعَّفَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْنَاقُهُمْ: كُبَرَاؤُهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ جَاءَنِي عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ: أَيْ رُؤَسَاءٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ: أَعْنَاقُهُمْ: جَمَاعَاتُهُمْ، يُقَالُ جَاءَنِي عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ: أَيْ جَمَاعَةٌ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ

بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَعَ اقْتِدَارِهِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ مُلْجَئِينَ إِلَى الْإِيمَانِ يَأْتِيهِمْ بِالْقُرْآنِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَأَنْ لَا يُجَدِّدَ لَهُمْ مَوْعِظَةً وَتَذْكِيرًا إِلَّا جَدَّدُوا مَا هُوَ نَقِيضُ الْمَقْصُودِ، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء، ومن في مِنْ ذِكْرٍ مزيدة لتأكيد العموم، و «من» فِي «مِنْ رَبِّهِمْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِيَّةِ مِنْ مَفْعُولِ يَأْتِيهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ كَذَّبُوا أَيْ بِالذِّكْرِ الَّذِي يَأْتِيهِمْ تَكْذِيبًا صَرِيحًا وَلَمْ يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ الْإِعْرَاضِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِعْرَاضَ بِمَعْنَى التَّكْذِيبِ، لِأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ وَلَمْ يَقْبَلْهُ فَقَدْ كَذَّبَهُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ ذِكْرُ التَّكْذِيبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى صُدُورِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، عَلَى وَجْهِ التَّصْرِيحِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَالْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ. ثُمَّ انْتَقَلُوا عَنْ هَذَا إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهُوَ التَّصْرِيحُ بِالتَّكْذِيبِ ثُمَّ انْتَقَلُوا عَنِ التَّكْذِيبِ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهُوَ الِاسْتِهْزَاءُ كَمَا يَدُلُّ عليه قوله: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَالْأَنْبَاءُ هِيَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ آجِلًا وَعَاجِلًا، وَسُمِّيَتْ أَنْبَاءَ لِكَوْنِهَا مِمَّا أَنْبَأَ عَنْهُ القرآن وقال: «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» وَلَمْ يَقُلْ مَا كَانُوا عَنْهُ مُعَرِضِينَ، أَوْ مَا كَانُوا بِهِ يُكَذِّبُونَ، لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ أَشَدُّ مِنْهُمَا وَمُسْتَلْزِمٌ لَهُمَا، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ، الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا لِلْمُتَأَمِّلِ فِيهَا، وَالنَّاظِرِ إِلَيْهَا، وَالْمُسْتَدِلِّ بِهَا أَعْظَمُ دَلِيلٍ، وَأَوْضَحُ بُرِهَانٍ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ الْهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ، فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ لَوْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ لَعَلِمُوا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، وَالْمُرَادُ بِالزَّوْجِ هُنَا الصِّنْفُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اللَّوْنُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى زَوْجٍ: نَوْعٌ، وَكَرِيمٍ: مَحْمُودٌ، وَالْمَعْنَى: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ نَافِعٍ، لَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْبَاتِهِ إِلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالْكَرِيمُ فِي الْأَصْلِ: الْحَسَنُ الشَّرِيفُ، يُقَالُ: نَخْلَةٌ كَرِيمَةٌ: أَيْ كَثِيرَةُ الثَّمَرَةِ، وَرَجُلٌ كَرِيمٌ: شَرِيفٌ فَاضِلٌ، وَكِتَابٌ كَرِيمٌ: إِذَا كَانَ مُرْضِيًا فِي مَعَانِيهِ، وَالنَّبَاتُ الْكَرِيمُ: هُوَ الْمُرْضِي فِي مَنَافِعِهِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: النَّاسُ مِثْلُ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَنْ صَارَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمَنْ صَارَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ، فَهُوَ لَئِيمٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، أَيْ: إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْإِنْبَاتِ فِي الْأَرْضِ لَدِلَالَةٌ بَيِّنَةٌ، وَعَلَامَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَبَدِيعِ صَنْعَتِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى ضَلَالَتِهِ مُصَمِّمٌ عَلَى جُحُودِهِ وَتَكْذِيبِهِ وَاسْتِهْزَائِهِ فَقَالَ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ: سَبْقٌ عِلْمِيٌّ فِيهِمْ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ هَكَذَا. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ كانَ هُنَا صِلَةٌ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أَيِ: الْغَالِبُ الْقَاهِرُ لِهَؤُلَاءِ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، مَعَ كَوْنِهِ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، وَلِذَلِكَ أَمْهَلَهُمْ وَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ مُنْتَقِمٌ مِنْ أَعْدَائِهِ رَحِيمٌ بِأَوْلِيَائِهِ، وَجُمْلَةُ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْإِعْرَاضِ وَالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَاتْلُ إِذْ نَادَى أو اذكر، والنداء: الدعاء، وأَنِ فِي قَوْلِهِ: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَوَصْفُهُمْ بِالظُّلْمِ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ الَّذِي ظَلَمُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَبَيْنَ الْمَعَاصِي الَّتِي ظَلَمُوا بِهَا غيرهم، كاستبعاد بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَبْحِ أَبْنَائِهِمْ،

وَانْتِصَابُ قَوْمَ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَعْنَى أَلا يَتَّقُونَ أَلَا يَخَافُونَ عِقَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَيَصْرِفُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عُقُوبَةَ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ أَلَا تَتَّقُونَ، وَجَاءَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ لِأَنَّهُمْ غُيَّبٌ وَقْتَ الْخِطَابِ، وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو حَازِمٍ «أَلَا تَتَّقُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: قال لَهُمْ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ «1» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَالْفَوْقِيَّةِ قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ أَيْ: قَالَ مُوسَى هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالْمَعْنَى: أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي فِي الرِّسَالَةِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي معطوفا عَلَى أَخَافُ، أَيْ: يَضِيقُ صَدْرِي لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ، وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي بِتَأْدِيَةِ الرِّسَالَةِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ يَضِيقُ وَلا يَنْطَلِقُ بِالْعَطْفِ عَلَى أَخَافُ كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وعيسى بن عمرو وَأَبُو حَيْوَةَ بِنَصْبِهِمَا عَطَفًا عَلَى يُكَذِّبُونِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ لَهُ وَجْهٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْوَجْهُ الرَّفْعُ، لِأَنَّ النَّصْبَ عَطْفٌ عَلَى يُكَذِّبُونِ وَهَذَا بَعِيدٌ فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أَيْ: أَرْسِلْ إليه جبريل بالوحي ليكون معي رسولا مؤازرا مظاهرا معاونا، ولم يذكر المؤازرة هُنَا لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كقوله في طه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً «2» وفي القصص فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي «3» ، وَهَذَا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَابِ طَلَبِ الْمُعَاوَنَةِ لَهُ بِإِرْسَالِ أَخِيهِ، لَا مِنْ بَابِ الِاسْتِعْفَاءِ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَلَا مِنَ التَّوَقُّفِ عَنِ الْمُسَارَعَةِ بِالِامْتِثَالِ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ الذَّنْبُ: هُوَ قَتْلُهُ لِلْقِبْطِيِّ، وَسَمَّاهُ ذَنْبًا بِحَسَبِ زَعْمِهِمْ: فَخَافَ مُوسَى أَنْ يَقْتُلُوهُ بِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ قَدْ يَحْصُلُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنِ الْفُضَلَاءِ، ثُمَّ أَجَابَهُ سُبْحَانَهُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الرَّدْعِ، وَطَرَفٍ مِنَ الزَّجْرِ قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا وَفِي ضِمْنِ هَذَا الْجَوَابِ إِجَابَةُ مُوسَى إِلَى مَا طَلَبَهُ مِنْ ضَمِّ أَخِيهِ إِلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَيْهِمَا كَأَنَّهُ قَالَ: ارْتَدِعْ يَا مُوسَى عَنْ ذَلِكَ وَاذْهَبْ أَنْتَ وَمَنِ اسْتَدْعَيْتَهُ وَلَا تَخَفْ مِنَ الْقِبْطِ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ وَفِي هَذَا تَعْلِيلٌ لِلرَّدْعِ عَنِ الْخَوْفِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى «4» وَأَرَادَ بِذَلِكَ سُبْحَانَهُ تَقْوِيَةَ قُلُوبِهِمَا وَأَنَّهُ مُتَوَلٍّ لِحِفْظِهِمَا وَكَلَاءَتِهِمَا وَأَجْرَاهُمَا مَجْرَى الْجَمْعِ، فَقَالَ: «مَعَكُمْ» لكون الِاثْنَيْنِ أَقَلُّ الْجَمْعِ، عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَرَادَ مُوسَى، وَهَارُونَ، وَمَنْ أُرْسِلَا إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هنا: مع بني إسرائيل، ومعكم، ومستمعون: خبران لأنّ، أو الخبر مستمعون، ومعكم مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْمَعِيَّةِ مِنَ الْمَجَازِ: لِأَنَّ الْمُصَاحِبَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، فالمراد معية النصرة والمعونةأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَوَحَّدَ الرَّسُولُ هُنَا وَلَمْ يُثَنِّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ «5» لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى رِسَالَةٍ، وَالْمَصْدَرُ يُوَحَّدُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمُرْسَلِ، فَإِنَّهُ يُثَنَّى مَعَ الْمُثَنَّى، وَيُجْمَعُ مَعَ الْجَمْعِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: رَسُولُ بِمَعْنَى رِسَالَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: إِنَّا ذَوَا رِسَالَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ألا أبلغ بني عمرو رسولا ... فإنّي عن فتاحتكم غني

_ (1) . آل عمران: 12. [.....] (2) . طه: 29. (3) . القصص: 34. (4) . طه: 46. (5) . طه: 47.

أَيْ: رِسَالَةً. وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَلَا مَنْ مُبَلِّغٌ عَنِّي خُفَافًا ... رَسُولًا بَيْتُ أَهْلِكِ مُنْتَهَاهَا أَيْ: رِسَالَةً. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ بِمَعْنَى: الِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا رَسُولِي وَوَكِيلِي، وَهَذَانِ رَسُولِي وَوَكِيلِي، وَهَؤُلَاءِ رَسُولِي وَوَكِيلِي، وَمِنْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا رَسُولُ ربّ العالمين، وقيل: إنهما لما كان متعاضدين متساندين في الرسالة، كانا بمنزلة رسول واحد. وأَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُفَسِّرَةٌ لِتَضَمُّنِ الْإِرْسَالِ الْمَفْهُومِ مِنَ الرَّسُولِ مَعْنَى الْقَوْلِ قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً أَيْ: قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى بَعْدَ أَنْ أَتَيَاهُ وَقَالَا لَهُ مَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ بِهِ، وَمَعْنَى «فِينَا» أَيْ: فِي حِجْرِنَا وَمَنَازِلِنَا، أَرَادَ بِذَلِكَ الْمَنَّ عَلَيْهِ، وَالِاحْتِقَارَ لَهُ، أَيْ: رَبَّيْنَاكَ لَدَيْنَا صَغِيرًا، وَلَمْ نَقْتُلْكَ فِيمَنْ قَتَلْنَا مِنَ الْأَطْفَالِ وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ فَمَتَى كَانَ هَذَا الَّذِي تَدَّعِيهِ؟ قِيلَ: لَبِثَ فِيهِمْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثم قرّره بِقَتْلِ الْقِبْطِيِّ فَقَالَ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ الْفَعْلَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ: الْمَرَّةُ مِنَ الْفِعْلِ، وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ فَعْلَتَكَ بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَالْفَتْحُ: أَوْلَى، لِأَنَّهَا لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا لِلنَّوْعِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا عَدَّدَ عَلَيْهِ النِّعَمَ ذَكَرَ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَأَرَادَ بِالْفِعْلِ قَتْلَ الْقِبْطِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أَيْ: مِنَ الْكَافِرِينَ لِلنِّعْمَةِ حَيْثُ قَتَلْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِي، وَقِيلَ الْمَعْنَى: مِنَ الْكَافِرِينَ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ إِلَهٌ، وَقِيلَ: مِنَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ فِي زَعْمِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أَيْ: قَالَ مُوسَى مُجِيبًا لِفِرْعَوْنَ: فَعَلْتُ هَذِهِ الْفَعْلَةَ الَّتِي ذَكَرْتَ، وَهِيَ قَتْلُ الْقِبْطِيِّ وَأَنَا إِذْ ذَاكَ مِنَ الضَّالِّينَ: أَيِ: الْجَاهِلِينَ، فَنَفَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ نَفْسِهِ الْكُفْرَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْجَهْلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعِلْمُ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مِنَ الْجَاهِلِينَ أَنَّ تِلْكَ الْوَكْزَةَ تَبْلُغُ الْقَتْلَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنَ النَّاسِينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ أَيْ: خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِكُمْ إِلَى مِدْيَنَ كَمَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أَيْ: نُبُوَّةً، أَوْ عِلْمًا وَفَهْمًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ تَعْلِيمُهُ التَّوْرَاةَ الَّتِي فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ قِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ مِنْ مُوسَى عَلَى جِهَةِ الْإِقْرَارِ بِالنِّعْمَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: نَعَمْ تِلْكَ التَّرْبِيَةُ نِعْمَةٌ تَمُنُّ بِهَا عَلَيَّ، وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ رِسَالَتِي، وَبِهَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ مُوسَى عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ، أَيْ: أَتَمُنُّ عَلَيَّ بِأَنْ رَبَّيْتَنِي وَلِيدًا، وَأَنْتَ قَدِ اسْتَعْبَدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَتَلْتَهُمْ وَهُمْ قَوْمِي؟. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُفَسِّرُونَ أَخْرَجُوا هَذَا عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ بِأَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ فِرْعَوْنُ نِعْمَةً عَلَى مُوسَى، وَاللَّفْظُ لَفْظُ خَبَرٍ، وَفِيهِ تَبْكِيتٌ لِلْمُخَاطَبِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّكَ لَوْ كُنْتَ لَا تَقْتُلُ أَبْنَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَكَانَتْ أُمِّي مُسْتَغْنِيَةً عَنْ قَذْفِي فِي الْيَمِّ، فَكَأَنَّكَ تَمُنُّ عَلَيَّ مَا كَانَ بَلَاؤُكَ سَبَبًا لَهُ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ الْأَزْهَرِيُّ بِأَبْسَطَ مِنْهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: يَقُولُ التَّرْبِيَةُ كَانَتْ بِالسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرْتَ مِنَ التَّعْبِيدِ، أَيْ: تَرْبِيَتُكَ إِيَّايَ كَانَتْ لِأَجْلِ التَّمَلُّكِ وَالْقَهْرِ لِقَوْمِي. وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيرَ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ: أَوَ تِلْكَ نِعْمَةٌ؟ قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَأَنْكَرَهُ النَّحَّاسُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْكَلَامَ إِنْكَارٌ قَالَ مَعْنَاهُ: أَوَ تِلْكَ نِعْمَةٌ؟ وَمَعْنَى أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: اتخذتهم عبيدا،

[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 إلى 51]

يُقَالُ: عَبَّدْتُهُ وَأَعْبَدْتُهُ بِمَعْنًى. كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بَدَلٌ مِنْ نِعْمَةٍ، وَالْجَرُّ بِإِضْمَارِ الْبَاءِ، وَالنَّصْبُ بِحَذْفِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ قَالَ: ذَلِيلِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ قَالَ: قَتْلُ النَّفْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ قَالَ: لِلنِّعْمَةِ، إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ لِيَعْلَمَ مَا الْكُفْرُ؟ وَفِي قَوْلِهِ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ قَالَ: مِنَ الْجَاهِلِينَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: قَهَرْتَهُمْ، وَاسْتَعْمَلْتَهُمْ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 51] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) لَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ قَوْلَ مُوسَى وَهَارُونَ: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ مُسْتَفْسِرًا لَهُمَا عَنْ ذَلِكَ، عَازِمًا عَلَى الِاعْتِرَاضِ لِمَا قَالَاهُ، فَقَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ جَاءَ فِي الِاسْتِفْهَامِ بِمَا الَّتِي يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنِ الْمَجْهُولِ، وَيُطْلَبُ بِهَا تَعْيِينُ الْجِنْسِ، فَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ قالَ مُوسَى رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا فَعَيَّنَ لَهُ مَا أَرَادَ بِالْعَالَمِينَ، وَتَرَكَ جَوَابَ مَا سَأَلَ عَنْهُ فِرْعَوْنُ، لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ جِنْسِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا جِنْسَ لَهُ، فَأَجَابَهُ مُوسَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تَتَّضِحُ لِكُلِّ سَامِعٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الرَّبُّ وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهَذَا أَوْلَى بِالْإِيقَانِ قالَ فِرْعَوْنُ

لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ أَيْ: لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْأَشْرَافِ، أَلَا تَسْتَمِعُونَ مَا قَالَهُ، يَعْنِي: مُوسَى مُعَجِّبًا لَهُمْ مِنْ ضَعْفِ الْمَقَالَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَتَسْمَعُونَ وَتَعْجَبُونَ، وَهَذَا مِنَ اللَّعِينِ مُغَالَطَةٌ، لَمَّا لَمْ يَجِدْ جَوَابًا عَنِ الْحُجَّةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا عَلَيْهِ مُوسَى، فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى مَا قال فرعون، أو رد عَلَيْهِ حَجَّةً أُخْرَى، هِيَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ الْحُجَّةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِينَ لَهُ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَأَوْضَحَ لَهُمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ مَرْبُوبٌ لَا رَبٌّ كَمَا يَدَّعِيهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الرَّبَّ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ آبَاءَكُمُ الْأَوَّلِينَ وَخَلَقَكُمْ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَنْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْكُمْ، مَخْلُوقٌ كَخَلْقِكُمْ، وَلَهُ آبَاءٌ قَدْ فَنَوْا كَآبَائِكُمْ، فَلَمْ يُجِبْهُ فِرْعَوْنُ عِنْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ، بَلْ جَاءَ بِمَا يُشَكِّكُ قَوْمَهُ وَيُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مُوسَى مِمَّا لَا يَقُولُهُ الْعُقَلَاءُ، فَ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَاصِدًا بِذَلِكَ الْمُغَالَطَةَ، وَإِيقَاعَهُمْ فِي الْحَيْرَةِ، مُظْهِرًا أَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِمَا قَالَهُ مُوسَى، مستهزىء بِهِ، فَأَجَابَهُ مُوسَى عِنْدَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ تَكْمِيلٌ لِجَوَابِهِ الْأَوَّلِ، فَ قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما وَلَمْ يَشْتَغِلْ مُوسَى بِدَفْعِ مَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْجُنُونِ، بَلْ بَيَّنَ لِفِرْعَوْنَ شُمُولَ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ رُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، لَكِنْ فيه تصريح بإسناد حركات السموات وَمَا فِيهَا، وَتَغْيِيرِ أَحْوَالِهَا وَأَوْضَاعِهَا، تَارَةً بِالنُّورِ، وَتَارَةً بِالظُّلْمَةِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَثْنِيَةِ الضَّمِيرِ في وَما بَيْنَهُما الأوّل لجنسي السموات وَالْأَرْضِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: تَنَقَّلْتُ فِي أَشْرَفِ التَّنَقُّلِ ... بَيْنَ رِمَاحَيْ نَهْشَلٍ وَمَالِكٍ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ، أَيْ: إِنْ كُنْتَ يَا فِرْعَوْنُ، وَمِنْ مَعَكَ مِنَ الْعُقَلَاءِ عَرَفْتَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا جَوَابَ لِسُؤَالِكَ إِلَّا مَا ذَكَرْتُ لَكَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّعِينَ لَمَّا انْقَطَعَ عَنِ الْحُجَّةِ رَجَعَ إِلَى الِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّغَلُّبِ، فَ قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أَيْ: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ أَهْلِ السِّجْنِ، وَكَانَ سِجْنُ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ إِذَا سَجَنَ أَحَدًا لَمْ يُخْرِجْهُ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ لَاطَفَهُ طَمَعًا فِي إِجَابَتِهِ وَإِرْخَاءً لِعِنَانِ الْمُنَاظَرَةِ مَعَهُ، مُرِيدًا لِقَهْرِهِ بِالْحُجَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي بَابِ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ، فَعَرَضَ لَهُ عَلَى وَجْهٍ يُلْجِئُهُ إِلَى طَلَبِ الْمُعْجِزَةِ فَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أَيْ: أَتَجْعَلُنِي مِنَ الْمَسْجُونِينَ، وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ يَتَبَيَّنُ بِهِ صِدْقِي، وَيَظْهَرُ عِنْدَهُ صِحَّةُ دَعْوَايَ، وَالْهَمْزَةُ: هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْوَاوُ: لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا مَرَّ مِرَارًا، فَلَمَّا سمع فرعون ذلك طلب ما عرضه مُوسَى فَ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَاكَ، وَهَذَا الشَّرْطُ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَبْرَزَ مُوسَى الْمُعْجِزَةَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَاشْتِقَاقُ الثُّعْبَانِ مِنْ ثَعَبْتُ الْمَاءَ فِي الْأَرْضِ فَانْثَعَبَ: أَيْ فَجَّرْتُهُ فَانْفَجَرَ، وَقَدْ عَبَّرَ سُبْحَانَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَكَانَ الثُّعْبَانِ: بِالْحَيَّةِ بِقَوْلِهِ فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى «1» وفي موضع: بالجانّ، فقال: كَأَنَّها جَانٌّ «2» وَالْجَانُّ: هُوَ الْمَائِلُ إِلَى الصِّغَرِ، وَالثُّعْبَانُ: هُوَ المائل إلى الكبر، والحية: جنس يشمل

_ (1) . طه: 20. (2) . النمل: 10.

الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ، وَمَعْنَى فَماذا تَأْمُرُونَ مَا رَأْيُكُمْ فِيهِ، وَمَا مَشُورَتُكُمْ فِي مِثْلِهِ؟ فَأَظْهَرَ لَهُمُ الْمَيْلَ إِلَى مَا يَقُولُونَهُ تَأْلُّفًا لَهُمْ، وَاسْتِجْلَابًا لِمَوَدَّتِهِمْ، لِأَنَّهُ قَدْ أَشْرَفَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى الزَّوَالِ، وَقَارَبَ مَا كَانَ يُغَرِّرُ بِهِ عَلَيْهِمُ الِاضْمِحْلَالَ، وَإِلَّا فَهُوَ أَكْبَرُ تِيهًا، وَأَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ مِثْلَ هَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ الْمُشْعِرَةِ بِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِمْ، وَوَاحِدٌ مِنْهُمْ، مَعَ كَوْنِهِ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ يَدَّعِي أَنَّهُ إِلَهُهُمْ، وَيُذْعِنُونَ لَهُ بِذَلِكَ وَيُصَدِّقُونَهُ فِي دَعْوَاهُ، وَمَعْنَى أَرْجِهْ وَأَخاهُ أَخِّرْ أَمْرَهُمَا، مِنْ أَرْجَأْتُهُ إِذَا أَخَّرْتُهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى احْبِسْهُمَا وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ وَهُمُ الشُّرَطُ الَّذِينَ يَحْشُرُونَ النَّاسَ، أَيْ: يَجْمَعُونَهُمْ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ هَذَا مَا أَشَارُوا بِهِ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّحَّارِ الْعَلِيمِ: الْفَائِقُ فِي مَعْرِفَةِ السِّحْرِ وَصَنْعَتِهِ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ هُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ «1» وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ حَثًّا لَهُمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لِيُشَاهِدُوا مَا يَكُونُ مِنْ مُوسَى والسحرة ولمن تكون الغلبة، وكان ذَلِكَ ثِقَةٌ مِنْ فِرْعَوْنَ بِالظُّهُورِ وَطَلَبًا أَنْ يَكُونَ بِمَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يُؤْمِنَ بِمُوسَى أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنْ مُوسَى الْمَوْقِعَ الَّذِي يُرِيدُهُ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ: هِيَ الْغَالِبَةُ، وَحُجَّةَ الْكَافِرِينَ: هِيَ الدَّاحِضَةُ، وَفِي ظُهُورِ حُجَّةِ اللَّهِ بِمَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ، زِيَادَةٌ فِي الِاسْتِظْهَارِ لِلْمُحِقِّينَ، وَالِانْقِهَارِ لِلْمُبْطِلِينَ، وَمَعْنَى لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ نَتَّبِعُهُمْ فِي دِينِهِمْ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ وَالْمُرَادُ بِاتِّبَاعِ السَّحَرَةِ فِي دِينِهِمْ: هُوَ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ دِينُ السَّحَرَةِ إِذْ ذَاكَ، وَالْمَقْصُودُ الْمُخَالَفَةُ لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُوسَى، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ السَّحَرَةُ مِنْ مُوسَى الْجَزَاءَ عَلَى مَا سَيَفْعَلُونَهُ ف قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً أَيْ: لَجَزَاءً تَجْزِينَا بِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ، وَقِيلَ: أَرَادُوا إِنَّ لَنَا ثَوَابًا عَظِيمًا، ثُمَّ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِظُهُورِ غَلَبَتِهِمْ لِمُوسَى، فَقَالُوا: إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ فَوَافَقَهُمْ فرعون على ذلك وقالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أَيْ: نَعَمْ لَكُمْ ذَلِكَ عِنْدِي مَعَ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ، وَهِيَ كَوْنُكُمْ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ لَدَيَّ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ وَفِي آيَةٍ أُخْرَى قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ «2» فيحمل ماهنا عَلَى أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا بَعْدَ أَنْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرًا لَهُمْ بِفِعْلِ السِّحْرِ، بَلْ أَرَادَ أَنْ يَقْهَرَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَيُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَيْسَ هُوَ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي أَرَادُوا مُعَارَضَتَهُ بِهِ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا عِنْدَ الْإِلْقَاءِ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُمْ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ قَسَمٌ، وَجَوَابُهُ: إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ، وَالثَّانِي: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالْبَاءُ: لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: نَغْلِبُ بِسَبَبِ عِزَّتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعِزَّةِ الْعَظَمَةُ فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا مُسْتَوْفًى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَلْقَفُ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنِ الْإِفْكِ، بِإِخْرَاجِ الشَّيْءِ عن صورته الحقيقة فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أَيْ: لَمَّا شَاهَدُوا ذَلِكَ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ صُنْعُ صَانِعٍ حَكِيمٍ لَيْسَ مِنْ صَنِيعِ الْبَشَرِ، وَلَا مِنْ تَمْوِيهِ السَّحَرَةِ، آمَنُوا بِاللَّهِ، وَسَجَدُوا لَهُ وَأَجَابُوا دَعْوَةَ مُوسَى، وَقَبِلُوا نُبُوَّتَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى أُلْقِيَ، وَمَنْ فَاعِلُهُ لِوُقُوعِ التَّصْرِيحِ بِهِ، وَعِنْدَ سُجُودِهِمْ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ رَبِّ مُوسَى عَطْفُ بَيَانٍ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَضَافُوهُ سُبْحَانَهُ إليهما لأنهما

_ (1) . طه: 59. (2) . الأعراف: 115.

الْقَائِمَانِ بِالدَّعْوَةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَفِيهِ تَبْكِيتٌ لِفِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَبٍّ، وَأَنَّ الرَّبَّ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ هَذَا، فَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَرَأَى سُجُودَهُمْ لِلَّهِ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أَيْ: بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنِّي، ثُمَّ قَالَ مُغَالِطًا لِلسَّحَرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمُوهِمًا لِلنَّاسِ أَنَّ فِعْلَ مُوسَى سِحْرٌ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ السِّحْرِ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وَإِنَّمَا اعْتَرَفَ لَهُ بِكَوْنِهِ كَبِيرُهُمْ، مَعَ كَوْنِهِ لَا يُحِبُّ الِاعْتِرَافَ بِشَيْءٍ يَرْتَفِعُ بِهِ شَأْنُ مُوسَى، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ، أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى أَبْهَرُ مِمَّا جَاءَ بِهِ السَّحَرَةُ، فَأَرَادَ أَنْ يُشَكِّكَ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي شَاهَدْتُمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَاقَ عَلَى مَا فَعَلَهُ هَؤُلَاءِ السَّحَرَةُ، فَهُوَ فِعْلُ كَبِيرِهِمْ، وَمَنْ هُوَ أُسْتَاذُهُمُ الَّذِي أَخَذُوا عَنْهُ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ، فَلَا تَظُنُّوا أَنَّهُ فِعْلٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّهُ مِنْ فِعْلِ الرَّبِّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ مُوسَى، ثُمَّ تَوَعَّدَ أُولَئِكَ السَّحَرَةَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ لِمَا قَهَرَتْهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ، فَقَالَ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَجْمَلَ التَّهْدِيدَ أَوَّلًا: لِلتَّهْوِيلِ، ثُمَّ فَصَّلَهُ فَقَالَ: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أَيْ: لَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِيمَا يَلْحَقُنَا مِنْ عِقَابِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَزُولُ، وَنَنْقَلِبُ بَعْدَهُ إِلَى رَبِّنَا، فَيُعْطِينَا مِنَ النَّعِيمِ الدَّائِمِ مَا لَا يُحَدُّ، وَلَا يُوصَفُ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: لَا ضَيْرَ وَلَا ضَرَرَ وَلَا ضُرَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنْشَدَ أَبُو عبيدة: فإنّك لا يضورك بَعْدَ حَوْلٍ ... أَظَبْيٌ كَانَ أُمَّكَ أَمْ حِمَارُ «1» قال الجوهري: ضاره يضوره ضَيْرًا وَضُورًا: أَيْ ضَرَّهُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: لَا يَنْفَعُنِي ذَلِكَ وَلَا يَضُورُنِي إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا ثُمَّ عَلَّلُوا هَذَا بِقَوْلِهِمْ: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْبِ أَنْ، أَيْ: لِأَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ كَسْرَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مُجَازَاةً، وَمَعْنَى أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَوَّلَ مُؤْمِنِي زَمَانِهِمْ، وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ آمَنُ مَعَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَهُمُ الشِّرْذِمَةُ الْقَلِيلُونَ الَّذِينَ عَنَاهُمْ فِرْعَوْنُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ يَقُولُ: مُبِينٌ: لَهُ خَلْقُ حَيَّةٍ وَنَزَعَ يَدَهُ يَقُولُ: وَأَخْرَجَ مُوسَى يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ تَلْمَعُ لِلنَّاظِرِينَ لِمَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَرَاهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ قَالَ: كَانُوا بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. قَالَ: وَيُقَالُ بَلَغَ ذَنَبُ الْحَيَّةِ مِنْ وَرَاءِ الْبُحَيْرَةِ يَوْمَئِذٍ. قَالَ: وَهَرَبُوا وَأَسْلَمُوا فِرْعَوْنَ، وَهَمَّتْ بِهِ، فَقَالَ: خُذْهَا يَا مُوسَى، وَكَانَ مِمَّا بَلَى النَّاسَ بِهِ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَضَعُ عَلَى الْأَرْضِ شَيْئًا، أَيْ: يُوهِمُهُمْ أَنَّهُ لَا يُحْدِثُ فَأَحْدَثَ يَوْمَئِذٍ تَحْتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا ضَيْرَ قَالَ: يَقُولُونَ لَا يُضِيرُنَا الَّذِي تَقُولُ، وَإِنْ صَنَعْتَ بِنَا وَصَلَبْتَنَا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ يَقُولُونَ: إِنَّا إلى ربنا راجعون، وهو

_ (1) . البيت لخداش بن زهير، ومعناه: لا تبالي بعد قيامك بنفسك واستغنائك عن أبويك من انتسبت إليه من شريف أو وضيع، وضرب المثل بالظبي أو الحمار.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 إلى 68]

مُجَازِينَا بِصَبْرِنَا عَلَى عُقُوبَتِكَ إِيَّانَا، وَثَبَاتِنَا عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْكُفْرِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا كَانُوا كَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ، من آمن بآياته حين رأوها. [سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) قَوْلُهُ: أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا، وَسَمَّاهُمْ عِبَادَهُ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى، وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ، أي: يتبعكم فرعون وقومه ليردّوكم، وفَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُ مَسِيرَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْحَاشِرِينَ: الْجَامِعُونَ لِلْجَيْشِ مِنَ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي فِيهَا أَتْبَاعُ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ لَدَيْهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ يُرِيدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالشِّرْذِمَةُ: الْجَمْعُ الْحَقِيرُ الْقَلِيلُ، وَالْجَمْعُ: شَرَاذِمُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشِّرْذِمَةُ: الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ، وَالْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، وَثَوْبٌ شَرَاذِمُ: أَيْ قِطَعٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: جَاءَ الشِّتَاءُ وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منها النّوّاق «1» قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ عُصْبَةٌ قَلِيلَةٌ وَقَلِيلُونَ، وَكَثِيرَةٌ وَكَثِيرُونَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الشِّرْذِمَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ النَّاسِ غير الكثير، وجمعها: الشراذم. قال المفسرون: وكان الشرذمة الذين قللهم سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَلَا يُحْصَى عَدَدُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ يُقَالُ: غَاظَنِي كَذَا وَأَغَاظَنِي، وَالْغَيْظُ: الْغَضَبُ، وَمِنْهُ: التَّغَيُّظُ وَالِاغْتِيَاظُ، أَيْ: غَاظُونَا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ مِنِّي وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ قرئ حذرون وحاذرون وحذرون بِضَمِّ الذَّالِ، حَكَى ذَلِكَ الْأَخْفَشُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَاذِرُ: الَّذِي يَحْذَرُكَ الْآنَ، وَالْحَذِرُ: الْمَخْلُوقُ كَذَلِكَ لَا تَلْقَاهُ إِلَّا حَذِرًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَاذِرُ: الْمُسْتَعِدُّ، وَالْحَذِرُ: الْمُتَيَقِّظُ، وَبِهِ قَالَ الْكِسَائِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ. قَالَ النَّحَّاسُ: حَذِرُونَ قِرَاءَةُ الْمَدَنِيِّينَ، وأبي عمرو، وحاذرون: قراءة أهل الكوفة، قال: أبو عبيدة يذهب إلى مَعْنَى: حَذِرُونَ وَحَاذِرُونَ وَاحِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: حَذِرٌ أُمُورًا لَا تُضِيرُ وَحَاذِرٌ ... ما ليس ينجيه من الأقدار

_ (1) . النّوّاق: من الرجال الذي يروّض الأمور ويصلحها قاله في الصّحاح. وجاء في اللسان: «التّواق» وهو: ابنه.

فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ يَعْنِي: فِرْعَوْنَ، وَقَوْمَهَ، أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَفِيهَا الْجَنَّاتُ، وَالْعُيُونُ، وَالْكُنُوزُ، وَهِيَ: جَمْعُ جَنَّةٍ، وَعَيْنٍ، وَكَنْزٍ، وَالْمُرَادُ بِالْكُنُوزِ: الْخَزَائِنُ، وَقِيلَ: الدَّفَائِنُ، وَقِيلَ: الْأَنْهَارُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعُيُونَ الْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ: عُيُونُ الْمَاءِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَقَامِ الْكَرِيمِ فَقِيلَ: الْمَنَازِلُ الْحِسَانُ، وَقِيلَ: الْمَنَابِرُ، وَقِيلَ: مَجَالِسُ الرُّؤَسَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، وَقِيلَ: مَرَابِطُ الْخَيْلِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وجوههم ... وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، أَيْ: أَخْرَجْنَاهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ الَّذِي وَصَفْنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ، أَيْ: مَقَامٌ كَرِيمٌ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَقَامِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَمَعْنَى وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ: جَعَلْنَاهَا مِلْكًا لَهُمْ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى فَأَخْرَجْنَاهُمْ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْحَارِثُ الدِّينَارِيُّ بِوَصْلِهَا، وَتَشْدِيدِ التَّاءِ، أَيْ: فَلَحِقُوهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُشْرِقِينَ، أَيْ: دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الشُّرُوقِ. يُقَالُ شَرِقَتِ الشَّمْسُ شُرُوقًا. إِذَا طَلَعَتْ كَأَصْبَحَ وَأَمْسَى أَيْ: دَخَلَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَقِيلَ: دَاخِلِينَ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، كَأَنْجَدَ، وَأَتْهَمَ، وَقِيلَ: مَعْنَى مُشْرِقِينَ: مُضِيئِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ شَرِقَتِ الشَّمْسُ: إِذَا طَلَعَتْ، وَأَشْرَقَتْ: إِذَا أَضَاءَتْ فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قرأ الجمهور تَراءَا بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَالْمَعْنَى: تَقَابَلَا، بِحَيْثُ يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ صَاحِبَهُ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَقُرِئَ تَراءَتِ الْفِئَتانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أَيْ: سَيُدْرِكُنَا جَمْعُ فِرْعَوْنَ، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ اسْمُ مَفْعُولٍ مَنْ أَدْرَكَ، وَمِنْهُ حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ «1» وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ بِفَتْحِ الدَّالِ مُشَدَّدَةٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ كَذَلِكَ يَقُولُ النَّحْوِيُّونَ الْحُذَّاقُ، إِنَّمَا يَقُولُونَ مُدْرَكُونَ بِالتَّخْفِيفِ: مُلْحَقُونَ وَبِالتَّشْدِيدِ مُجْتَهِدُونَ فِي لِحَاقِهِمْ. قَالَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سِيبَوَيْهَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِنَّا لَمُتَتَابِعُونَ فِي الْهَلَاكِ عَلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ قَالَ مُوسَى هَذِهِ الْمَقَالَةَ زَجْرًا لَهُمْ وَرَدْعًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَكُمْ، وَذَكَّرَهُمْ وَعَدَ اللَّهِ بِالْهِدَايَةِ وَالظَّفَرِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ مَعِيَ رَبِّي بِالنَّصْرِ وَالْهِدَايَةِ سَيَهْدِينِ، أَيْ: يَدُلُّنِي عَلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ، فَلَمَّا عَظُمَ الْبَلَاءُ عَلَى بني إسرائيل، ورأوا من الجيوش مالا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ لَمَّا قَالَ مُوسَى: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ، فَأَمَرَهُ بِضَرْبِ الْبَحْرِ، وَبِهِ نَجَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهَلَكَ عَدُوُّهُمْ، والفاء في فَانْفَلَقَ فصيحة، أي:

_ (1) . يونس: 90.

فَضَرَبَ، فَانْفَلَقَ، فَصَارَ اثَّنَيْ عَشَرَ فَلْقًا، بِعَدَدِ الْأَسْبَاطِ، وَقَامَ الْمَاءُ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ، وَعَنْ يَسَارِهِ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَالْفِرْقُ: الْقِطْعَةُ مِنَ البحر، وقريء فِلْقٍ بِلَامٍ بَدَلَ الرَّاءِ، وَالطَّوْدُ: الْجَبَلُ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَبَيْنَا الْمَرْءُ فِي الْأَحْيَاءِ طَوْدٌ ... رَمَاهُ النَّاسُ عَنْ كَثَبٍ فَمَالَا وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ: حَلُّوا بِأَنْقَرَةَ يَسِيلُ عَلَيْهِمُ ... مَاءُ الْفُرَاتِ يَجِيءُ مِنْ أَطْوَادِ وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أَيْ: قَرَّبْنَاهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، يَعْنِي: فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى أَوْ لَيْلَةٍ سَلَفَتْ ... فِيهَا النُّفُوسُ إِلَى الْآجَالِ تَزْدَلِفُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَزْلَفْنَا: جَمَعْنَا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّيْلَةِ المزدلفة: ليلة جمع، وثم: ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْبَعِيدِ. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: وَأَزْلَفْنَا: قَرَبَّنَا مِنَ النَّجَاةِ، وَالْمُرَادُ بِالْآخَرِينَ: مُوسَى وَأَصْحَابَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَزَلَفْنَا ثُلَاثِيًّا، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ «وَأَزْلَقْنَا» بِالْقَافِ: أَيْ أَزْلَلْنَا وَأَهْلَكْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَزْلَقَتِ الْفَرَسُ إِذَا أَلْقَتْ وَلَدَهَا وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ بِمُرُورِهِمْ فِي الْبَحْرِ، بَعْدَ أَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ طُرُقًا يَمْشُونَ فِيهَا ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يَعْنِي: فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ بِإِطْبَاقِ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ أَنْ دَخَلُوا فِيهِ مُتَّبِعِينَ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّا صَدَرَ بَيْنَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَفِي ذَلِكَ آيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقُدْرَةٌ بَاهِرَةٌ مِنْ أَدَلِّ الْعَلَامَاتِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ: مَا كَانَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَعَ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ فِيمَا بَعْدُ إِلَّا الْقَلِيلُ، كَحِزْقِيلَ وَابْنَتِهِ، وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَالْعَجُوزِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَكْثَرَ مَنْ كَانَ مَعَ فِرْعَوْنَ عِنْدَ لَحَاقِهِ بِمُوسَى، فَإِنَّهُمْ هَلَكُوا فِي الْبَحْرِ جَمِيعًا بَلِ الْمُرَادُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَصْلِ وَمَنْ كَانَ مُتَابِعًا لَهُ وَمُنْتَسِبًا إِلَيْهِ، هَذَا غَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ: إِنَّ كانَ زَائِدَةٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَا سَمِعُوا الْمَوْعِظَةَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أَيِ: الْمُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِهِ الرَّحِيمُ بِأَوْلِيَائِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ قَالَ: سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ أَصْحَابُ مُوسَى الَّذِينَ جَازُوا الْبَحْرَ اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا، فَكَانَ فِي كُلِّ طَرِيقٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا كُلُّهُمْ وَلَدُ يَعْقُوبَ» وَأَخْرُجُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا بِسَنَدٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَاهٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ فِرْعَوْنُ عَدُوُّ اللَّهِ، حَيْثُ أَغْرَقَهُ اللَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي سَبْعِينَ قَائِدًا، مَعَ كُلِّ قَائِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَكَانَ مُوسَى مَعَ سَبْعِينَ أَلْفًا، حَيْثُ عَبَرُوا

[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 إلى 104]

الْبَحْرَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ طَلَائِعُ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ فِي أَثَرِهِمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا عَلَى بَهِيمٍ. وَأَقُولُ: هَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُضْطَرِبَةُ، قَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ مَا يُمَاثِلُهَا فِي الِاضْطِرَابِ وَالِاخْتِلَافِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ قَالَ: الْمَنَابِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كَالطَّوْدِ قَالَ: كَالْجَبَلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَزْلَفْنا قَالَ: قربنا. وأخرج الفريابي وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مُوسَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَضَلَّ الطَّرِيقَ، فَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا أَنْ لَا نَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ حَتَّى نَنْقُلَ تَابُوتَهُ مَعَنَا، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَيُّكُمْ يَدْرِي أَيْنَ قَبْرُهُ؟ فَقَالُوا: مَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَكَانَ قَبْرِهِ إِلَّا عَجُوزٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مُوسَى فَقَالَ: دُلِّينَا عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تُعْطِيَنِي حُكْمِي، قَالَ: وَمَا حُكْمُكِ؟ قَالَتْ: أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّهُ ثَقُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: أَعْطِهَا حُكْمَهَا، فَأَعْطَاهَا حُكْمَهَا، فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ إِلَى بُحَيْرَةٍ مُسْتَنْقَعَةٍ مَاءً، فَقَالَتْ لَهُمْ: أَنْضِبُوا عَنْهَا الْمَاءَ. فَفَعَلُوا، قَالَتْ: احْفُرُوا، فَحَفَرُوا، فَاسْتَخْرَجُوا قَبْرَ يُوسُفَ، فَلَمَّا احْتَمَلُوهُ إِذَا الطَّرِيقُ مِثْلُ ضوء النهار» . [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 104] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) قَوْلُهُ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْعَامِلِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَالْمُرَادُ بِنَبَأِ إِبْرَاهِيمَ: خَبَرُهُ، أَيِ: اقْصُصْ عَلَيْهِمْ يَا مُحَمَّدُ خَبَرَ إِبْرَاهِيمَ وَحَدِيثَهُ، وإِذْ قالَ مَنْصُوبٌ بِنَبَأِ إِبْرَاهِيمَ،

أَيْ: وَقْتَ قَوْلِهِ: لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ وَقِيلَ: إِذْ بَدَلٌ مِنْ نَبَأٍ، بَدَلُ اشْتِمَالٍ، فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ: اتْلُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَعْنَى مَا تَعْبُدُونَ: أَيُّ شَيْءٍ تَعْبُدُونَ؟ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِلْزَامَهُمُ الْحُجَّةَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أَيْ: فنقيم على عبادتها مستمرين لَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، يُقَالُ ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا: إِذَا فَعَلَهُ نَهَارًا، وَبَاتَ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا فَعَلَهُ لَيْلًا، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى عِبَادَتِهَا نَهَارًا، لَا لَيْلًا، وَالْمُرَادُ مِنَ الْعُكُوفِ لَهَا: الْإِقَامَةُ عَلَى عِبَادَتِهَا، وَإِنَّمَا قَالَ لَهَا لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْعُكُوفَ لِأَجْلِهَا، فَلَمَّا قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ مُنَبِّهًا عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ قَالَ الْأَخْفَشُ: فِيهِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: هَلْ يَسْمَعُونَ مِنْكُمْ، أَوْ هَلْ يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُمْ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ: هَلْ يُسْمِعُونَكُمْ أَصْوَاتَهُمْ وَقْتَ دُعَائِكُمْ لَهُمْ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ أَوْ يَضُرُّونَ أَيْ: يَضُرُّونَكُمْ إِذَا تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهُمْ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ لَا تَسْمَعُ، وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَضُرُّ، فَلَا وَجْهَ لِعِبَادَتِهَا، فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ هِيَ كَذَلِكَ أَقَرُّوا بِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ لَهَا مِنْ بَابِ اللَّعِبِ وَالْعَبَثِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَوْرَدَ عَلَيْهِمُ الْخَلِيلُ هَذِهِ الْحُجَّةَ الْبَاهِرَةَ، لَمْ يَجِدُوا لَهَا جَوَابًا إِلَّا رُجُوعَهُمْ إِلَى التَّقْلِيدِ الْبَحْتِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، أَيْ: يَفْعَلُونَ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ لِهَذِهِ الْأَصْنَامِ، مَعَ كَوْنِهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ: سَلْبُ السَّمْعِ، والنفع، والضر عنها، وهذا الجواب هو العصي الَّتِي يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا كُلُّ عَاجِزٍ، وَيَمْشِي بِهَا كُلُّ أَعْرَجَ، وَيَغْتَرُّ بِهَا كُلُّ مَغْرُورٍ، وَيَنْخَدِعُ لَهَا كُلُّ مَخْدُوعٍ فَإِنَّكَ لَوْ سَأَلْتَ الْآنَ هَذِهِ الْمُقَلِّدَةَ لِلرِّجَالِ الَّتِي طَبَّقَتِ الْأَرْضَ بِطُولِهَا وَالْعَرْضِ، وَقُلْتَ لَهُمْ: مَا الْحُجَّةُ لَهُمْ عَلَى تَقْلِيدِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَخْذِ بِكُلِّ مَا يَقُولُهُ فِي الدِّينِ، وَيَبْتَدِعُهُ مِنَ الرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلدَّلِيلِ، لَمْ يَجِدُوا غَيْرَ هَذَا الْجَوَابِ وَلَا فَاهُوا بِسِوَاهُ، وَأَخَذُوا يُعَدِّدُونَ عَلَيْكَ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى تَقْلِيدِ هَذَا مِنْ سَلَفِهِمْ، وَاقْتِدَاءٍ بأقواله وأفعاله وهم قد ملؤوا صُدُورَهُمْ هَيْبَةً، وَضَاقَتْ أَذْهَانُهُمْ عَنْ تَصَوُّرِهِمْ، وَظَنُّوا أنهم خير أهل الأرض وأعلمهم وأورعهم، فَلَمْ يَسْمَعُوا لِنَاصِحٍ نُصْحًا وَلَا لِدَاعٍ إِلَى الْحَقِّ دُعَاءً، وَلَوْ فَطَنُوا لَوَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي غُرُورٍ عَظِيمٍ، وَجَهْلٍ شَنِيعٍ، وَإِنَّهُمْ كَالْبَهِيمَةِ الْعَمْيَاءِ، وأولئك الأسلاف كالعمي الذين يقودون البهائم العمي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كَبَهِيمَةٍ عَمْيَاءَ قَادَ زِمَامَهَا ... أَعْمَى عَلَى عِوَجِ الطّريق الجائر فَعَلَيْكَ أَيُّهَا الْعَامِلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الْمُبَرَّأِ مِنَ التَّعَصُّبِ، وَالتَّعَسُّفِ، أَنْ تُورِدَ عَلَيْهِمْ حُجَجَ اللَّهِ، وَتُقِيمَ عَلَيْهِمْ بَرَاهِينَهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا انْقَادَ لَكَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَسْتَحْكِمْ دَاءُ التَّقْلِيدِ فِي قَلْبِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَدِ اسْتَحْكَمَ فِي قَلْبِهِ هَذَا الدَّاءُ، فَلَوْ أَوْرَدْتَ عَلَيْهِ كُلَّ حُجَّةٍ، وَأَقَمْتَ عَلَيْهِ كُلَّ بُرْهَانٍ، لَمَا أَعَارَكَ إِلَّا أُذُنًا صَمَّاءَ، وَعَيْنًا عَمْيَاءَ، وَلَكِنَّكَ قَدْ قُمْتَ بِوَاجِبِ الْبَيَانِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، وَالْهِدَايَةُ بِيَدِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» وَلَمَّا قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قالَ الْخَلِيلُ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ أَيْ: فَهَلْ أَبْصَرْتُمْ وَتَفَكَّرْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ، وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَضُرُّ، حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّكُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ وَجَهَالَةٍ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ هذه الأصنام التي يعبدونها.

_ (1) . القصص: 56.

فَقَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ عَدُوًّا لَهُ مَعَ كَوْنِهِمْ جَمَادًا أَنَّهُ إِنْ عَبَدَهُمْ كَانُوا لَهُ عَدُوًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ: فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهُمْ لِأَنَّ مَنْ عَادَيْتَهُ عَادَاكَ، وَالْعَدُوُّ كَالصَّدِيقِ، يُطْلَقُ على الواحد، والمثنى، والجماعة المذكر وَالْمُؤَنَّثِ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: مَنْ قَالَ عَدُوَّةُ اللَّهِ فَأَثْبَتَ الْهَاءَ، قَالَ: هِيَ بِمَعْنَى الْمُعَادِيَةِ، وَمَنْ قَالَ عَدُوٌّ للمؤنث والجمع بِمَعْنَى النَّسَبِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي آبَاؤُهُمُ الْأَقْدَمُونَ، لِأَجْلِ عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ، وَرَدَّ بِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ فِيمَا عَبَدُوهُ لَا فِي الْعَابِدِينَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ الْأَصْنَامَ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِمَّا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ. قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: تَقْدِيرُهُ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي، فَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَجَعَلَ إِلَّا بِمَعْنَى: دُونَ، وَسِوَى كَقَوْلِهِ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «1» أَيْ: دُونَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: إِنَّ الْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ عَبَدَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ وَصَفَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أَيْ: فَهُوَ يُرْشِدُنِي إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوْصُولَ مُبْتَدَأٌ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ بَدَلًا مِنْ رَبِّ، وَأَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ بِتَقْدِيرِ: أَعْنِي، أَوْ أَمْدَحُ، وَقَدْ وَصَفَ الْخَلِيلُ رَبَّهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِأَجْلِهِ، فَإِنَّ الْخَلْقَ، وَالْهِدَايَةَ، وَالرِّزْقَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَدَفْعُ ضُرِّ الْمَرَضِ، وَجَلْبُ نَفْعِ الشِّفَاءِ، وَالْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ، وَالْمَغْفِرَةُ لِلذَّنْبِ، كُلُّهَا نِعَمٌ يَجِبُ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِبَعْضِهَا، فَضْلًا عَنْ كُلِّهَا أَنْ يَشْكُرَ الْمُنْعِمَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الشُّكْرِ الَّتِي أَعْلَاهَا وَأَوْلَاهَا الْعِبَادَةُ، وَدُخُولُ هَذِهِ الضَّمَائِرِ فِي صُدُورِ هَذِهِ الْجُمَلِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَسْنَدَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ رِعَايَةً لِلْأَدَبِ مَعَ الرَّبِّ، وَإِلَّا فَالْمَرَضُ وَغَيْرُهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُحْيِينِ الْبَعْثُ، وَحَذْفُ الْيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لكونها رؤوس الْآيِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ هَضْمًا لِنَفْسِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الطَّمَعَ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ فِي حَقِّهِ، وَبِمَعْنَى الرَّجَاءِ فِي حَقِّ سِوَاهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «خَطَايَايَ» قَالَا: لَيْسَتْ خَطِيئَتُهُ وَاحِدَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: خَطِيئَةٌ بِمَعْنَى خَطَايَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قال مجاهد: يعني بخطيئة قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا «2» ، وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ «3» ، وَقَوْلُهُ إِنَّ سَارَةَ أُخْتُهُ، زَادَ الْحَسَنُ: وَقَوْلَهُ للكوكب هذا رَبِّي «4» وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْخَطَايَا بِمَا فَسَّرَهَا بِهِ مُجَاهِدٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَنْبِيَاءُ بَشَرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ عَلَيْهِمُ الْخَطِيئَةُ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَا تَكُونُ مِنْهُمُ الْكَبِيرَةُ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَالْمُرَادُ بِيَوْمِ الدِّينِ: يَوْمُ الْجَزَاءِ لِلْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْخَطَايَا بِمَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ وَمَنْ مَعَهُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ تِلْكَ مَعَارِيضُ، وَهِيَ أَيْضًا إِنَّمَا صَدَرَتْ عَنْهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَاوَلَةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ. ثُمَّ لَمَّا فرغ الخليل من الثناء

_ (1) . الدخان: 56. (2) . الأنبياء: 63. [.....] (3) . الصافات: 89. (4) . الأنعام: 76.

عَلَى رَبِّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِنِعَمِهِ عَقَّبَهُ بِالدُّعَاءِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ: الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ، وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ، وَقِيلَ: الْمَعْرِفَةُ بِحُدُودِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ إِلَى آخِرِهِ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يَعْنِي: بِالنَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِي، وَقِيلَ: بِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أَيِ: اجْعَلْ لِي ثَنَاءً حَسَنًا فِي الْآخِرِينَ، الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدِي إِلَى يوم القيامة. قال القتبي: وُضِعَ اللِّسَانُ مَوْضِعَ الْقَوْلِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ. لِأَنَّ الْقَوْلَ يَكُونُ بِهِ، وَقَدْ تُكَنِّي الْعَرَبُ بِهَا عَنِ الْكَلِمَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: إِنِّي أَتَتْنِي لِسَانٌ لَا أُسِرُّ بِهَا «1» وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ سبحانه إبراهيم ذلك بقوله: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ «2» فَإِنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَتَمَسَّكُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: قِيلَ مَعْنَى سُؤَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ، فَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَرَادَ الدُّعَاءَ الْحَسَنَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا أَيْضًا، فَإِنَّ لِسَانَ الصِّدْقِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ مِنْ وَرَثَةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ، هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، أَيْ: وَارِثًا مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، لَمَّا طَلَبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدَّعْوَةِ الْأُولَى سَعَادَةَ الدُّنْيَا، طَلَبَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ، وَهِيَ جَنَّةُ النَّعِيمِ، وَجَعَلَهَا مِمَّا يُورَثُ، تَشْبِيهًا لِغَنِيمَةِ الْآخِرَةِ بغنيمة الدنيا، وقد تقدّم تفسير مَعْنَى الْوِرَاثَةِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ كَانَ أَبُوهُ قَدْ وعد أَنَّهُ يُؤَمِنُ بِهِ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَسُورَةِ مَرْيَمَ، وَمَعْنَى «مِنَ الضَّالِّينَ» مِنَ الْمُشْرِكِينَ الضالين عن طريق الهداية، وكان زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أَيْ: لا تفضحني على رؤوس الْأَشْهَادِ بِمُعَاتَبَتِي، أَوْ لَا تُعَذِّبْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ لَا تُخْزِنِي بِتَعْذِيبِ أَبِي، أَوْ بِبَعْثِهِ فِي جُمْلَةِ الضَّالِّينَ. وَالْإِخْزَاءُ يُطْلَقُ عَلَى الْخِزْيِ: وهو الهوان، وعلى الخزاية، وهي الحياء، ويَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمِ يَبْعَثُونَ، أَيْ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ فِيهِ الْمَالُ وَالْبَنُونَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَالِابْنُ: هُوَ أَخَصُّ الْقَرَابَةِ، وَأَوْلَاهُمْ بِالْحِمَايَةِ، وَالدَّفْعِ، وَالنَّفْعِ، فَإِذَا لَمْ يَنْفَعْ، فَغَيْرُهُ مِنَ الْقُرَابَةِ وَالْأَعْوَانِ بِالْأَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قِيلَ: هُوَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِلَّا حَالَ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، فَقَدَّرَ مُضَافًا مَحْذُوفًا. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ بَدَلٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، أَوْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، إِذِ التَّقْدِيرُ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ فَاعِلِ يَنْفَعُ، فَيَكُونُ مَرْفُوعًا. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِلَّا مَالُ مَنْ أَوْ بَنُو مَنْ فَإِنَّهُ يَنْفَعُ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْقَلْبِ السَّلِيمِ، فَقِيلَ: السَّلِيمُ مِنَ الشِّرْكِ، فَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ يَسْلَمُ منها أحد، قاله

_ (1) . وعجز البيت: من علو لا عجب منها ولا سخر. (2) . الصافات: 78.

أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ: الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، لِأَنَّ قَلْبَ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ مَرِيضٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْقَلْبُ الْخَالِي عَنِ الْبِدْعَةِ الْمُطْمَئِنُّ إِلَى السُّنَةِ، وَقِيلَ: السَّالِمُ مِنْ آفَةِ الْمَالِ، وَالْبَنِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: السَّلِيمُ: الْخَالِصُ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: السَّلِيمُ فِي اللُّغَةِ: اللَّدِيغُ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ قُلِبَ كَاللَّدِيغِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا تَحْرِيفٌ وَتَعْكِيسٌ لِمَعْنَى الْقُرْآنِ. قَالَ الرَّازِّيُّ: أَصَحُّ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: سَلَامَةُ النَّفْسِ عَنِ الْجَهْلِ، وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أَيْ: قُرِّبَتْ، وَأُدْنِيَتْ لَهُمْ لِيَدْخُلُوهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قُرْبُ دُخُولِهِمْ إِيَّاهَا وَنَظَرِهِمْ إِلَيْهَا وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ أَيْ: جُعِلَتْ بَارِزَةً لَهُمْ، وَالْمُرَادُ بالغاوين: الكافرين، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا أُظْهِرَتْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا الْمُؤْمِنُونَ لِيَشْتَدَّ حُزْنُ الْكَافِرِينَ وَيَكْثُرَ سُرُورُ الْمُؤْمِنِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَالْأَنْدَادِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ فَيَدْفَعُونَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ أَوْ يَنْتَصِرُونَ بِدَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَهَذَا كُلُّهُ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ لَهُمْ، وَقَرَأَ مَالِكُ بن دينار «وبرّزت» بفتح الباء والراء مبنيا لِلْفَاعِلِ فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ أَيْ: أُلْقُوا فِي جَهَنَّمَ هُمْ: يَعْنِي الْمَعْبُودِينَ وَالْغَاوُونَ. يَعْنِي الْعَابِدِينَ لَهُمْ. وَقِيلَ مَعْنَى كُبْكِبُوا: قُلِبُوا عَلَى رؤوسهم، وَقِيلَ: أُلْقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقِيلَ: جُمِعُوا، مأخوذ من الكبكبة وهي الجماعة قاله الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ كَوْكَبِ الشَّيْءِ: أَيْ مُعْظَمُهُ، وَالْجَمَاعَةُ مِنَ الْخَيْلِ كَوْكَبٌ وَكَبْكَبَةٌ، وَقِيلَ: دُهْدِهُوا، وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ، وَأَصْلُهُ كُبِّبُوا بِبَاءَيْنِ، الْأُولَى مُشَدَّدَةٌ مِنْ حَرْفَيْنِ، فَأُبْدِلَ مِنَ الْبَاءِ الْوُسْطَى الْكَافُ. وَقَدْ رَجَّحَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْمَعْنَى: طَرْحُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَرَجَّحَ ابن قتيبة أن المعنى: القوا على رؤوسهم. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي كُبْكِبُوا لِقُرَيْشٍ، وَالْغَاوُونَ: الْآلِهَةُ، وَالْمُرَادُ بِجُنُودِ إِبْلِيسَ: شَيَاطِينُهُ الَّذِينَ يُغْوُونَ الْعِبَادَ، وَقِيلَ: ذُرِّيَّتُهُ وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ يَدْعُو إِلَى عبادة الأصنام، وأَجْمَعُونَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ فِي كُبْكِبُوا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَجُمْلَةُ قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالُوا حِينَ فُعِلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ، وَمَقُولُ الْقَوْلِ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَجُمْلَةُ: وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي جَهَنَّمَ مُخْتَصِمِينَ، وَ «إِنْ» فِي إِنْ كُنَّا: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ فَارِقَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، أَيْ: قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّ الشَّأْنَ كَوْنُنَا فِي ضَلَالٍ وَاضِحٍ ظَاهِرٍ، وَالْمُرَادُ بِالضَّلَالِ هُنَا: الْخَسَارُ، وَالتَّبَارُ، وَالْحَيْرَةُ عَنِ الْحَقِّ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ، أَعْنِي إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ هُوَ كَوْنُهُمْ فِي الضَّلَالِ الْمُبِينِ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ هُوَ الضَّلَالُ، وَقِيلَ: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: ضَلَلْنَا وَقْتَ تَسْوِيَتِنَا لَكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِنَّ «إِنْ» فِي إِنْ كُنَّا: نَافِيَةٌ وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ: مَا كُنَّا إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ يَشْفَعُونَ لَنَا مِنَ الْعَذَابِ كَمَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أَيْ: ذِي قَرَابَةٍ، وَالْحَمِيمُ: الْقَرِيبُ الَّذِي تَوَدُّهُ وَيَوَدُّكَ، وَوَحَّدَ الصَّدِيقَ لِمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَالْمُذَكَّرِ، وَالْمُؤَنَّثِ، وَالْحَمِيمُ: مَأْخُوذٌ مِنْ حَامَّةِ الرَّجُلِ، أَيْ: أَقْرِبَائِهِ، وَيُقَالُ: حَمَّ الشَّيْءُ وَأَحَمَّ: إِذَا قَرُبَ مِنْهُ، وَمِنْهُ الْحُمَّى لِأَنَّهُ يُقَرِّبُ مِنَ الْأَجَلِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَرِيبُ حَمِيمًا لِأَنَّهُ يَحْمَى لِغَضَبِ صَاحِبِهِ، فَجَعَلَهُ مَأْخُوذًا مِنَ الْحَمِيَّةِ، فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 إلى 135]

هَذَا مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ التَّمَنِّي، الدَّالِّ عَلَى كَمَالِ التَّحَسُّرِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: فَلَيْتَ لَنَا كَرَةً، أَيْ: رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا، وَجَوَابُ التَّمَنِّي: فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: نَصِيرَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ نَبَأِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْآيَةُ: الْعِبْرَةُ وَالْعَلَامَةُ، وَالتَّنْوِينُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَالتَّفْخِيمِ وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ: أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، وَهُمْ: قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ. وَقِيلَ: وَمَا كَانَ أَكْثَرُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ بِمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أَيْ: هُوَ الْقَاهِرُ لِأَعْدَائِهِ الرَّحِيمُ بِأَوْلِيَائِهِ، أَوِ الرَّحِيمُ لِلْأَعْدَاءِ، بِتَأْخِيرِ عُقُوبَتِهِمْ، وَتَرْكِ مُعَاجَلَتِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يَعْنِي: بِأَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ قَالَ: اجْتِمَاعُ أَهْلِ الْمِلَلِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا وَاغْفِرْ لِأَبِي قَالَ: امْنُنْ عَلَيْهِ بِتَوْبَةٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مُغْفِرَتَكَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي. فيقول أبوه: فاليوم لا أعصينّك، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تَخِزِيَنِي يَوْمَ يَبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ» وَالذِّيخُ: هُوَ الذَّكَرُ مِنَ الضِّبَاعِ، فَكَأَنَّهُ حَوَّلَ آزَرَ إِلَى صُورَةِ ذِيخٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فَكُبْكِبُوا فِيها قَالَ: جُمِعُوا فِيهَا هُمْ وَالْغاوُونَ قَالَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَالْآلِهَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً قَالَ: رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى تَحِلَّ لَنَا الشفاعة كما حلت لهؤلاء. [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 135] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)

قَوْلُهُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ أَنَّثَ الْفِعْلَ لِكَوْنِهِ مُسْنَدًا إِلَى قَوْمٍ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، أَوِ الْأُمَّةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ، وَأَوْقَعَ التَّكْذِيبَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا إِلَّا الرَّسُولَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا فَقَدْ كَذَّبَ الرُّسُلَ، لِأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ يَأْمُرُ بِتَصْدِيقِ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: كَذَّبُوا نُوحًا فِي الرِّسَالَةِ، وَكَذَّبُوهُ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ مَجِيءِ الْمُرْسَلِينَ بَعْدَهُ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَيْ: أَخُوهُمْ مِنْ أَبِيهِمْ، لَا أَخُوهُمْ فِي الدِّينِ. وَقِيلَ: هِيَ أُخُوَّةُ الْمُجَانَسَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ، يُرِيدُونَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَلا تَتَّقُونَ أَيْ: أَلَا تَتَّقُونَ اللَّهَ بِتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَتُجِيبُونَ رَسُولَهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أَيْ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أَمِينٌ فِيمَا أُبَلِّغُكُمْ عَنْهُ، وَقِيلَ: أَمِينٌ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا أَمَانَتَهُ وَصِدْقَهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أَيِ: اجْعَلُوا طَاعَةَ اللَّهِ وِقَايَةً لَكُمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَأَطِيعُونِ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَتَرْكِ الشِّرْكِ، والقيام بفرائض الدين وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أَيْ: مَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ أَجْرًا عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَلَا أَطْمَعُ فِي ذَلِكَ مِنْكُمْ إِنْ أَجْرِيَ الَّذِي أَطْلُبُهُ وَأُرِيدُهُ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي: على الله، مَا أَجْرِي إِلَّا عَلَيْهِ، وَكَرَّرَ قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ فِي النُّفُوسِ، مَعَ كَوْنِهِ عَلَّقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَبَبٍ، وَهُوَ الْأَمَانَةُ فِي الْأَوَّلِ، وَقَطْعُ الطَّمَعِ فِي الثَّانِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي عُقُوقِي وَقَدْ رَبَّيْتُكَ صَغِيرًا، أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي عقوقي، وقد علمتك كبيرا، وقدّم الْأَمْرُ بِتَقْوَى اللَّهِ عَلَى الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ، لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ عِلَّةٌ لِطَاعَتِهِ قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ الِاسْتِفْهَامُ: لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَنُؤْمِنُ لَكَ، وَالْحَالُ أَنَّ قَدِ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، وَهُمْ جَمْعُ أَرْذَلَ، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ: أَرْذَالٌ، وَالْأُنْثَى: رُذْلَى، وَهُمُ الْأَقَلُّونَ جَاهًا، وَمَالًا، وَالرَّذَالَةُ: الْخِسَّةُ والذلة، استرذلوهم لقلة أموالهم وجاههم، أو لاتّضاع أَنْسَابُهُمْ. وَقِيلَ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ الْخَسِيسَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هُودٍ. وقرأ ابن مسعود والضحاك ويعقوب الحضرمي «وأتباعك الْأَرْذَلُونَ» قَالَ النَّحَّاسُ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ تَتْبَعُهَا الْأَسْمَاءُ كَثِيرًا. وَأَتْبَاعٌ: جَمْعُ تَابِعٍ، فَأَجَابَهُمْ نُوحٌ بِقَوْلِهِ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ كَانَ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: وَمَا عِلْمِي بعملهم، أَيْ: لَمْ أُكَلَّفِ الْعِلْمَ بِأَعْمَالِهِمْ، إِنَّمَا كُلِّفْتُ أَنْ أَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالِاعْتِبَارِ بِهِ، لَا بِالْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ، وَالْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَكَأَنَّهُمْ أَشَارُوا بِقَوْلِهِمْ: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ إِلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَنْ نَظَرٍ صَحِيحٍ فَأَجَابَهُمْ بِهَذَا. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنِّي لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سَيَهْدِيهِمْ وَيُضِلُّكُمْ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أَيْ: مَا حِسَابُهُمْ، وَالتَّفْتِيشُ عَنْ ضَمَائِرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ إِلَّا عَلَى اللَّهِ لَوْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الشُّعُورِ وَالْفَهْمِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَشْعُرُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ ابن أبي عبلة وابن السميقع وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو زُرْعَةَ بِالتَّحْتِيَّةِ، كَأَنَّهُ تَرَكَ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ وَالْتَفَتَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالصِّنَاعَاتُ لَا تَضُرُّ فِي بَابِ الدِّيَانَاتِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا جَوَابٌ مِنْ نُوحٍ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِمْ مِنْ طَلَبِ الطَّرْدِ لَهُمْ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَيْ: مَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُوَضِّحٌ لِمَا أَمَرَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهَا قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أَيْ: إِنْ لَمْ تَتْرُكْ عَيْبَ دِينِنَا وَسَبَّ آلِهَتِنَا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ بِالْحِجَارَةِ، وقيل: من

الْمَشْتُومِينَ، وَقِيلَ: مِنَ الْمَقْتُولِينَ، فَعَدَلُوا بَعْدَ تِلْكَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نُوحٍ إِلَى التَّجَبُّرِ، وَالتَّوَعُّدِ، فَلَمَّا سَمِعَ نُوحٌ قَوْلَهُمْ هَذَا: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ أَيْ: أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِي، وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلِي وَلَا أَجَابُوا دُعَائِي فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً الْفَتْحُ: الْحُكْمُ، أَيِ: احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ حُكْمًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْفَتْحِ وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا دَعَا رَبَّهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَالَ: فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أَيِ: السَّفِينَةِ الْمَمْلُوءَةِ، وَالشَّحْنُ: مَلْءُ السَّفِينَةِ بِالنَّاسِ، وَالدَّوَابِّ، وَالْمَتَاعِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ أَيْ: ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدَ إِنْجَائِهِمُ الْبَاقِينَ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أَيْ: عَلَامَةً، وَعِبْرَةً عَظِيمَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ كَانَ زَائِدَةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهَ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أَيِ: الْقَاهِرُ لِأَعْدَائِهِ، الرَّحِيمُ بِأَوْلِيَائِهِ كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ أَنَّثَ الْفِعْلَ بِاعْتِبَارِ إِسْنَادِهِ إِلَى الْقَبِيلَةِ، لِأَنَّ عَادًا اسْمُ أَبِيهِمُ الْأَعْلَى. وَمَعْنَى تَكْذِيبِهِمُ الْمُرْسَلِينَ، مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يُكَذِّبُوا إِلَّا رَسُولًا وَاحِدًا، قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ قَرِيبًا إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِ نُوحٍ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا، وَكَذَا قَوْلُهُ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءٌ. أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ الرِّيعُ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ جَمْعُ رِيعَةٍ، يُقَالُ كَمْ رِيعُ أَرْضِكَ؟ أَيْ: كَمِ ارْتِفَاعُهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرِّيعُ: الِارْتِفَاعُ جَمْعُ رِيعَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: الرِّيعُ الطَّرِيقُ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ. وَإِطْلَاقُ الرِّيعِ عَلَى مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذي الرمة: طراق الخوافي مشرق فوق ريعة ... ندي لَيْلَةٍ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ وَقِيلَ: الرِّيعُ الْجَبَلُ، وَاحِدُهُ: رِيعَةٌ، وَالْجَمْعُ: أَرْيَاعٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْفَجُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ الثَّنَيَّةُ الصَّغِيرَةُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ الْمَنْظَرَةُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّكُمْ تَبْنُونَ بِكُلِّ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ عَلَمًا تَعْبَثُونَ بِبُنْيَانِهِ، وَتَلْعَبُونَ بِالْمَارَّةِ، وَتَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، لِأَنَّكُمْ تُشْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ الْبِنَاءِ الْمُرْتَفِعِ عَلَى الطَّرِيقِ فتؤذون المارة، وتسخرون منهم. وقال الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ عَبَثُ الْعَشَّارِينَ بِأَمْوَالِ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الرِّيعُ: الصَّوْمَعَةُ، وَالرِّيعُ: الْبُرْجُ يَكُونُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَالرِّيعُ: التَّلُّ الْعَالِي، وَفِي الرِّيعِ لُغَتَانِ كَسْرُ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ الْمَصَانِعُ: هِيَ الْأَبْنِيَةُ الَّتِي يَتَّخِذُهَا النَّاسُ مَنَازِلَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ بِنَاءٍ مُصَنَّعَةٍ مِنْهُ وَبِهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ، ومنه قول الشاعر: تركنا ديارهم منهم قفارا ... وهدّمنا الْمَصَانِعَ وَالْبُرُوجَا وَقِيلَ: هِيَ الْحُصُونُ الْمُشَيَّدَةُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهَا مَصَانِعُ الْمَاءِ الَّتِي تُجْعَلُ تَحْتَ الْأَرْضِ وَاحِدَتُهَا مَصْنَعَةٌ وَمَصْنَعٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: بُلِينَا وَمَا تُبْلَى النُّجُومُ الطَّوَالِعُ ... وَتَبْقَى الْجِبَالُ بَعْدَنَا وَالْمَصَانِعُ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا يَدُلُّ صَرِيحًا عَلَى مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَصْنُعَةُ بِضَمِّ النون الحوض

[سورة الشعراء (26) : الآيات 136 إلى 159]

يُجَمَّعُ فِيهِ مَاءُ الْمَطَرِ، وَالْمَصَانِعُ: الْحُصُونُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: الْمَصَانِعُ عِنْدَنَا بِلُغَةِ الْيَمَنِ: الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ. وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ رَاجِينَ أَنْ تَخْلُدُوا، وَقِيلَ: إِنَّ لَعَلَّ هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ، أَيْ: هَلْ تَخْلُدُونَ، كَقَوْلِهِمْ لَعَلَّكَ تَشْتُمُنِي، أَيْ: هَلْ تشتمني. وقال الفراء: كيما تخلدوا: لا تَتَفَكَّرُونَ فِي الْمَوْتِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: كَأَنَّكُمْ بَاقُونَ مُخَلَّدُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَخْلُدُونَ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ بِالتَّشْدِيدِ. وَحَكَى النَّحَّاسُ أَنَّ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ «كَأَنَّكُمْ مُخَلَّدُونَ» وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «كَيْ تَخْلُدُوا» وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ الْبَطْشُ السَّطْوَةُ وَالْأَخْذُ بِالْعُنْفِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الْبَطْشُ الْعَسْفُ قَتْلًا بِالسَّيْفِ وَضَرْبًا بِالسَّوْطِ. وَالْمَعْنَى: فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ظُلْمًا، وقيل: هو القتل على الغضب، قال الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: قِيلَ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذَا أَرَدْتُمُ الْبَطْشَ، لِئَلَّا يَتَّحِدَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءَ، وَانْتِصَابُ جَبَّارِينَ: عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ، وَأَمَّا فِي الْحَقِّ، فَالْبَطْشُ بِالسَّوْطِ وَالسَّيْفِ جَائِزٌ. ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الظُّلْمِ، وَالْعُتُوِّ، وَالتَّمَرُّدِ، وَالتَّجَبُّرِ، أمرهم بالتقوى فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أَجْمَلَ التَّقْوَى ثُمَّ فَصَّلَهَا بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَأَعَادَ الْفِعْلَ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أَيْ: بَسَاتِينَ، وَأَنْهَارٍ، وَأَبْيَارٍ. ثُمَّ وَعَظَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنْ كَفَرْتُمْ وَأَصْرَرْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَلَمْ تَشْكُرُوا هَذِهِ النِّعَمَ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ الدُّنْيَوِيُّ وَالْأُخْرَوِيُّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ أَيْ: أَنُصَدِّقُكَ؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ: الْحَوَّاكُونَ «1» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَفَلَةُ النَّاسِ وَأَرَاذِلُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ قَالَ: الْمُمْتَلِئُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمَشْحُونُ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هُوَ الْمُوَقَّرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُوَ الْمُثْقَلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا: بِكُلِّ رِيعٍ قَالَ: عَلَمًا تَعْبَثُونَ قَالَ: تَلْعَبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا بِكُلِّ رِيعٍ قَالَ: شَرَفٌ. وَأَخْرَجُوا أَيْضًا عَنْهُ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ قَالَ: كَأَنَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا جَبَّارِينَ قَالَ: أَقْوِيَاءُ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 136 الى 159] قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

_ (1) . جمع حائك وهو الخياط. وكان أتباع النبي نوح عليه السلام حاكة وحجّامين.

أَيْ: وَعْظُكَ وَعَدَمُهُ سَواءٌ عِنْدَنَا لَا نُبَالِي بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا نَلْتَفِتُ إِلَى مَا تَقُولُهُ. وَقَدْ رَوَى الْعَبَّاسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَرَوَى بِشْرٌ عَنِ الْكِسَائِيِّ «أَوَعَظْتَ» بِإِدْغَامِ الظَّاءِ فِي التَّاءِ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ حَرْفَ الظَّاءِ حَرْفُ إِطْبَاقٍ، إِنَّمَا يُدْغَمُ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ جِدًّا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ وَالْأَعْمَشِ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِظْهَارِ الظَّاءِ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ، وَدَعَوْتَنَا إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ: عَادَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا. وَقِيلَ المعنى: ما هذا الذي نحن عليه إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، وَعَادَتُهُمْ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: إِنَّ مَعْنَى خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: خُلُقُ الْأَوَّلِينَ عِنْدَ الْفَرَّاءُ بِمَعْنَى: عَادَةُ الْأَوَّلِينَ. وَحَكَى لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: خُلُقُ الْأَوَّلِينَ مَذْهَبُهُمْ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ. وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ. قَالَ: وَحَكَى لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ مَعْنَى: خُلُقُ الْأَوَّلِينَ تَكْذِيبُهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالُوا مَا هَذَا الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ إِلَّا كَذِبُ الْأَوَّلِينَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ. قَالَ: وَالْخُلُقُ وَالِاخْتِلَاقُ الْكَذِبُ، وَمِنْهُ قوله: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً «1» قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ «خَلْقُ الْأَوَّلِينَ» بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: مَعْنَاهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: اخْتِلَاقُهُمْ وَكَذِبُهُمْ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: عَادَتُهُمْ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا بُدَّ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخُلُقُ: الدِّينُ، وَالْخُلُقُ: الطَّبْعُ، وَالْخُلُقُ: الْمُرُوءَةُ. وَقَرَأَ أَبُو قِلَابَةَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهِيَ تَخْفِيفٌ لِقِرَاءَةِ الضَّمِّ لَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ: هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَا هَذَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ إِلَّا عَادَةُ الْأَوَّلِينَ وَفِعْلُهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُمْ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أَيْ: عَلَى مَا نَفْعَلُ مِنَ الْبَطْشِ وَنَحْوِهِ مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ الْآنَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ أَيْ: بِالرِّيحِ كَمَا صَرَّحَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِذَلِكَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا قَرِيبًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ هُودٍ وَقَوْمِهِ، ذَكَرَ قِصَّةَ صَالِحٍ وَقَوْمِهِ، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ الْحِجْرَ فَقَالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قِصَّةِ هُودٍ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: أَتُتْرَكُونَ فِي هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَعْطَاكُمُ اللَّهُ، آمِنِينَ مِنَ الْمَوْتِ وَالْعَذَابِ، بَاقِينَ فِي الدُّنْيَا. وَلَمَّا أَبْهَمَ النِّعَمَ فِي هَذَا فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ والهضيم: النضيج الرَّخْصُ اللِّينُ اللَّطِيفُ، وَالطَّلْعُ: مَا يَطْلُعُ مِنَ الثَّمَرِ، وَذَكَرَ النَّخْلَ مَعَ دُخُولِهِ تَحْتَ الْجَنَّاتِ، لِفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَشْجَارِ، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُونَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِلَفْظٍ يَعُمُّهُ وَغَيْرَهَ، كَمَا يَذْكُرُونَ النَّعَمَ، وَلَا يَقْصِدُونَ إِلَّا الْإِبِلَ، وَهَكَذَا يَذْكُرُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يُرِيدُونَ إِلَّا النَّخْلَ. قَالَ زُهَيْرٌ:

_ (1) . العنكبوت: 17.

كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرَبِي مُقَتَّلَةً ... مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقًا وَسُحُقًا: جَمْعُ سُحُوقٍ، وَلَا يُوصَفُ بِهِ إِلَّا النَّخْلُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْجَنَّاتِ غَيْرُ النَّخْلِ مِنَ الشَّجَرِ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي مَعْنَى هَضِيمٍ إِثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا: أَحْسَنُهَا وَأَوْفَقُهَا لِلُّغَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ النَّحْتُ: النَّجْرُ وَالْبَرْيُ، نَحَتَهُ يَنْحِتُهُ بِالْكَسْرِ بَرَاهُ، وَالنِّحَاتَةُ: الْبِرَايَةُ، وَكَانُوا يَنْحِتُونَ بُيُوتَهُمْ مِنَ الْجِبَالِ، لَمَّا طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ، وَتَهَدَّمَ بِنَاؤُهُمْ مِنَ الْمَدَرِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ ذَكْوَانَ «فَرِهِينَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «فَارِهِينَ» بِالْأَلْفِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالْفَرَهُ: النَّشَاطُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا: «فَارِهِينَ» : حَاذِقِينَ بِنَحْتِهَا، وَقِيلَ: مُتَجَبِّرِينَ، وَ «فَرِهِينَ» : بَطِرِينَ أَشِرِينَ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: شَرِهِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَيِّسِيِنَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُعْجَبِينَ نَاعِمِينَ آمِنِينَ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: فَرِحِينَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقْوِيَاءُ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ أَيِ: الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ، ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُسْرِفِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أَيْ: ذَلِكَ دَأْبُهُمْ يَفْعَلُونَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُمُ الصَّلَاحُ الْبَتَّةَ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أَيِ: الَّذِينَ أُصِيبُوا بِالسِّحْرِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: الْمُسَحَّرُ هُوَ الْمُعَلَّلُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ، فَيَكُونُ الْمُسَحَّرُ الَّذِي لَهُ سَحْرٌ، وَهُوَ الرِّئَةُ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ مِثْلُنَا، تَأْكُلُ، وَتَشْرَبُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ إِنَّكَ تَأْكُلُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَتُسَحَّرُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ أَوْ لَبِيَدٍ «1» : فَإِنَّ تسألينا فيم نحن فإنّنا ... عصافير من هذا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ أَيْضًا: أَرَانَا مَوْضِعَيْنِ لِحَتْمِ غَيْبٍ ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ قَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْمُسَحَّرُ: الْمَخْلُوقُ بِلُغَةِ رَبِيعَةَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي قَوْلِكَ وَدَعْوَاكَ قالَ هذِهِ ناقَةٌ اللَّهِ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أَيْ: لَهَا نَصِيبٌ مِنَ الْمَاءِ، وَلَكُمْ نَصِيبٌ مِنْهُ مَعْلُومٌ، لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَشْرَبُوا فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ نَصِيبُهَا، وَلَا هِيَ تَشْرَبُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ نَصِيبُكُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الشِّرْبُ الْحَظُّ مِنَ الْمَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: فأما المصدر، فيقال فيه شرب شربا، وأكثرها الْمَضْمُومُ، وَالشَّرْبُ: بِفَتْحِ الشِّينِ جَمْعُ شَارِبٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الشِّرْبُ بِالْكَسْرِ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِيهِمَا، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالضَّمِّ فِيهِمَا وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَيْ: لَا تَمَسُّوهَا بِعَقْرٍ، أَوْ ضَرْبٍ، أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يَسُوؤُهَا، وَجَوَابُ النَّهْيِ: فَيَأْخُذَكُمْ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ عَلَى عَقْرِهَا، لَمَّا عَرَفُوا أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْظَرَهُمْ ثَلَاثًا، فَظَهَرَتْ عَلَيْهِمُ الْعَلَامَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَنَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْدِي عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، وَظُهُورِ آثَارِهِ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فِي

_ (1) . البيت في ديوان لبيد ص (56) .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 إلى 191]

هَذِهِ السُّورَةِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا تَفْسِيرُ قِصَّةِ صَالِحٍ وَقَوْمِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ قَالَ: مُعْشِبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: أَيْنَعَ وَبَلَغَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَرْطَبَ وَاسْتَرْخَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فارِهِينَ قَالَ: حَاذِقِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: فارِهِينَ أَشِرِينَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: شَرِهِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ قَالَ: من المخلوقين، وأنشد قول لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ: فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ .. الْبَيْتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَها شِرْبٌ قَالَ: إِذَا كَانَ يومها أصدرتهم لبنا ما شاؤوا. [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 191] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْقِصَّةَ السَّادِسَةَ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ قَوْمِهِمْ، وَهِيَ: قِصَّةُ لُوطٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا تَفْسِيرُ قِصَّةِ لُوطٍ مُسْتَوْفًى فِي الْأَعْرَافِ، قَوْلُهُ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ الذُّكْرَانُ: جَمْعُ الذَّكَرِ، ضِدُّ الْأُنْثَى، وَمَعْنَى تَأْتُونَ: تَنْكِحُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِيْنَ، وَهُمْ بَنُو آدَمٍ، أَوْ كُلُّ حَيَوَانٍ، وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالْغُرَبَاءِ عَلَى ما تقدّم

فِي الْأَعْرَافِ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أَيْ: وَتَتْرُكُونَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِأَجْلِ اسْتِمْتَاعِكُمْ بِهِ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَرَادَ بِالْأَزْوَاجِ: جِنْسَ الْإِنَاثِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أَيْ: مُجَاوِزُونَ لِلْحَدِّ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَمِنْ جُمْلَتِهَا هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي تَرْتَكِبُونَهَا مِنَ الذُّكْرَانِ قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْنَا، وَتَقْبِيحِ أَمْرِنَا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ مِنْ بَلَدِنَا الْمَنْفِيِّينَ عَنْهَا قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ وَهُوَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ إِتْيَانِ الذُّكْرَانِ مِنَ الْقالِينَ الْمُبْغِضِينَ لَهُ، وَالْقَلْيُ: الْبُغْضُ، قَلَيْتُهُ أَقْلِيهِ قَلًا وَقِلَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَسْتُ بِمَقْلِيِّ الْخِلَالِ وَلَا قَالِي «1» وَقَالَ الْآخَرُ: وَمَالَكَ عِنْدِي إِنْ نَأَيْتَ قِلَاءُ «2» ثُمَّ رَغِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ مُحَاوَرَتِهِمْ، وَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُنَجِّيَهُ فَقَالَ: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أَيْ مِنْ عَمَلِهِمُ الْخَبِيثِ، أَوْ مِنْ عُقُوبَتِهِ الَّتِي سَتُصِيبُهُمْ، فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دُعَاءَهُ، وَقَالَ: فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ أَيْ أَهْلَ بَيْتِهِ، وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَأَجَابَ دَعْوَتَهُ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ هِيَ امْرَأَةُ لُوطٍ، وَمَعْنَى مِنَ الْغَابِرِينَ: مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْهَرَمِ، أَيْ: بَقِيَتْ حَتَّى هَرِمَتْ. قَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ لِلذَّاهِبِ غَابِرٌ، وَلِلْبَاقِي غَابِرٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَا تَكْسَعِ الشَّوْلَ بِأَغْبَارِهَا ... إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَنِ النَّاتِجُ وَالْأَغْبَارُ: بَقِيَّةُ الْأَلْبَانِ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: مَا مَضَى وَمَا غَبَرَ، أَيْ: مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أَيْ: أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْخَسْفِ وَالْحَصْبِ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يَعْنِي: الْحِجَارَةَ فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَطَرُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ «لَيْكَةَ» بِلَامٍ وَاحِدَةٍ وَفَتْحِ التَّاءِ جَعَلُوهُ اسْمًا غَيْرَ مُعَرَّفٍ بِأَلْ مُضَافًا إِلَيْهِ أَصْحَابُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «الْأَيْكَةِ» مُعَرَّفًا، وَالْأَيْكَةُ: الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، وَهِيَ الْغَيْضَةُ، وَلَيْكَةُ: اسْمٌ لِلْقَرْيَةِ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ اسْمٌ لِلْغَيْضَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَأَمَّا مَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ أَنَّ لَيْكَةَ اسْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، وَأَنَّ الْأَيْكَةَ اسْمُ الْبَلَدِ كُلِّهِ، فَشَيْءٌ لَا يَثْبُتُ، وَلَا يُعْرَفُ مَنْ قَالَهُ، وَلَوْ عُرِفَ لَكَانَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ جَمِيعًا عَلَى خِلَافِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: الْأَيْكَةُ تَعْرِيفُ أَيْكَةٍ، فَإِذَا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا أُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى اللَّامِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْأَيْكَةُ غَيْضَةٌ تُنْبِتُ السِّدْرَ وَالْأَرَاكَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ نَاعِمِ الشَّجَرِ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ

_ (1) . البيت لامرئ القيس، وصدره: صرفت الهوى عنهنّ من خشية الرّدى (2) . البيت للحارث بن حلّزة، وصدره: عليك السّلام لا مللت قريبة

لَمْ يَقُلْ أَخُوهُمْ كَمَا قَالَ فِي الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فِي النَّسَبِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَدْيَنَ قَالَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ نَسَبِهِ فِي الْأَعْرَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. قَوْلُهُ: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أَيْ أَتِمُّوا الْكَيْلَ لِمَنْ أَرَادَهُ وَعَامَلَ بِهِ، وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ: النَّاقِصِينَ لِلْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، يُقَالُ أَخْسَرْتُ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ: أَيْ نَقَصْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ «1» ثُمَّ زَادَ سُبْحَانَهُ فِي الْبَيَانِ فَقَالَ: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أَيْ: أَعْطُوا الْحَقَّ بِالْمِيزَانِ السَّوِيِّ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ تَفْسِيرِ هَذَا فِي سُورَةِ سُبْحَانَ، وَقَدْ قُرِئَ «بِالْقُسْطَاسِ» مَضْمُومًا وَمَكْسُورًا وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ الْبَخْسُ: النَّقْصُ، يُقَالُ بَخَسَهُ حَقَّهُ: إِذَا نَقَصَهُ، أَيْ: لَا تَنْقُصُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمُ الَّتِي لَهُمْ، وَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا تَفْسِيرُ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فِيهَا، وَفِي غَيْرِهَا. وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَقَرَأَ أَبُو حُصَيْنٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ بِضَمِّهِمَا وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ مَعَ سُكُونِ الْبَاءِ، وَالْجِبِلَّةُ: الْخَلِيقَةُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، يَعْنِي: الْأُمَمَ الْمُتَقَدِّمَةَ، يُقَالُ: جُبِلَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا، أَيْ: خُلِقَ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْخَلْقُ يُقَالُ لَهُ جِبِلَّةٌ بِكَسْرِ الْحَرْفَيْنِ الْأَوَّلِينَ، وَبِضَمِّهِمَا مَعَ تَشْدِيدِ اللَّامِ فِيهِمَا، وَبِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، وَضَمُّهُ وَفَتْحُهَا، قَالَ الْهَرَوِيُّ: الْجِبِلَّةُ وَالْجُبُلَّةُ وَالْجُبْلُ وَالْجُبَلُ لُغَاتٌ، وَهُوَ الْجَمْعُ ذُو الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: جِبِلًّا كَثِيراً أَيْ: خَلْقَا كَثِيرًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ ... فِيمَا يَمُرُّ عَلَى الْجِبِلَّةِ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مُسْتَوْفًى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ إِنْ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، عَمِلَتْ فِي ضَمِيرِ شَأْنٍ مُقَدَّرٍ، وَاللَّامُ: هِيَ الْفَارِقَةُ، أَيْ: فِيمَا تَدَّعِيهِ عَلَيْنَا مِنَ الرِّسَالَةِ، وَقِيلَ: هِيَ النَّافِيَةُ، وَاللَّامُ: بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ: مَا نَظُنُّكَ إلا مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ كَانَ شُعَيْبٌ يَتَوَعَّدُهُمْ بِالْعَذَابِ إِنْ لم يؤمنوا، فقالوا له هذا القول عنتا وَاسْتِبْعَادًا وَتَعْجِيزًا. وَالْكِسَفُ: الْقِطْعَةُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْكِسَفُ: جَمْعُ كِسْفَةٍ، مَثْلُ سِدْرٍ وَسِدْرَةٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكِسْفَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَعْطِنِي كِسْفَةً مِنْ ثَوْبِكَ، وَالْجَمْعُ كِسَفٌ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ سُبْحَانَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَاكَ قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ فَكَذَّبُوهُ فَاسْتَمَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وَالظُّلَّةُ: السَّحَابُ، أقامها الله فوق رؤسهم، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ نَارًا فَهَلَكُوا، وَقَدْ أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا اقْتَرَحُوا، لِأَنَّهُمْ إِنْ أَرَادُوا بِالْكِسَفِ الْقِطْعَةَ مِنَ السَّحَابِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهَا الْقِطْعَةَ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ مِنْ جِهَتِهَا، وَأَضَافَ الْعَذَابَ إِلَى يَوْمِ الظُّلَّةِ، لَا إِلَى الظُّلَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَذَابًا غَيْرَ عَذَابِ الظُّلَّةِ، كَذَا قيل. ثم وصف سبحانه

_ (1) . المطففين: 3.

هَذَا الْعَذَابَ الَّذِي أَصَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ عَلَيْهِمُ الَّتِي لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُسْتَوْفًى فَلَا نُعِيدُهُ، وَفِي هَذَا التَّكْرِيرِ لِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَصِ مِنَ التَّهْدِيدِ، وَالزَّجْرِ، وَالتَّقْرِيرِ، وَالتَّأْكِيدِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَفْهَمُ مَوَاقِعَ الْكَلَامِ، وَيَعْرِفُ أَسَالِيبَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ قَالَ: تَرَكْتُمْ أَقْبَالَ النِّسَاءِ إِلَى أَدْبَارِ الرِّجَالِ، وَأَدْبَارِ النِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ قَالَ: هِيَ امْرَأَةُ لُوطٍ غُبِرَتْ فِي عَذَابِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ «لَيْكَةِ» قَالَ: هِيَ الْأَيْكَةُ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ قَالَ: كَانُوا أَصْحَابَ غَيْضَةٍ مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى مَدْيَنَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ وَلَمْ يَقُلْ أَخُوهُمْ شُعَيْبٌ. لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِمْ أَلا تَتَّقُونَ كَيْفَ لَا تَتَّقُونَ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي رَسُولٌ أَمِينٌ، لَا تَعْتَبِرُونَ مِنْ هَلَاكِ مَدْيَنَ، وَقَدْ أُهْلِكُوا فِيمَا يَأْتُونَ، وَكَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ مَعَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ اسْتَنُّوا بِسُنَّةِ أَصْحَابِ مَدْيَنَ، فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ فِي الْعَاجِلِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ يعني القرون الأولين الذي أُهْلِكُوا بِالْمَعَاصِي وَلَا تَهْلَكُوا مِثْلَهُمْ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ يَعْنِي مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ يَعْنِي: قِطَعًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ سَمُومًا مِنْ جَهَنَّمَ، فَأَطَافَ بِهِمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَنْضَجَهُمُ الْحُرُّ، فَحَمِيَتْ بُيُوتُهُمْ، وَغَلَتْ مِيَاهُهُمْ فِي الْآبَارِ، وَالْعُيُونِ، فَخَرَجُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَمَحَلَّتِهِمْ هَارِبِينَ، وَالسَّمُومُ مَعَهُمْ، فَسَلَّطَ الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم، فَغَشِيَتْهُمْ حَتَّى تَقَلْقَلَتْ فِيهَا جَمَاجِمُهُمْ، وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرَّمْضَاءَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، حَتَّى تَسَاقَطَتْ لُحُومُ أَرْجُلِهِمْ، ثُمَّ نَشَأَتْ لَهُمْ ظُلَّةٌ كَالسَّحَابَةِ السوداء، فلما رأوها ابتدروها يَسْتَغِيثُونَ بِظِلِّهَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا جَمِيعًا أَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَهَلَكُوا، وَنَجَّى اللَّهُ شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عنه قال: الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ الْخَلْقُ الْأَوَّلِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حَرًّا شَدِيدًا فَأَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ، فَدَخَلُوا أَجْوَافَ الْبُيُوتِ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَجْوَافَهَا، فَأَخَذَ بِأَنْفُسِهِمْ، فَخَرَجُوا مِنَ الْبُيُوتِ هَرَبًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَحَابَةً، فَأَظَلَّتْهُمْ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَلَذَّةً، فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا تَحْتَهَا، أَسْقَطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا، فَذَلِكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: مَنْ حَدَّثَكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَذَابَ يَوْمِ الظُّلَّةِ فَكَذِّبْهُ. أَقُولُ: فَمَا نَقُولُ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ هَاهُنَا؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ هُوَ الْبَحْرَ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ تَأْوِيلَ كتابه بدعوة نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ مُخْتَصًّا بِمَعْرِفَةِ هَذَا الْحَدِيثِ دُونَ غيره

[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 إلى 227]

مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثِ عَذَابِ الظُّلَّةِ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ فَقَدْ وَصَّانَا بِتَكْذِيبِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ علمه ولم يعلمه غيره. [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 227] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى مَا نَزَّلَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ، أَيْ: وَإِنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ، أَوْ وَإِنَّ الْقُرْآنَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، قِيلَ: وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ذُو تَنْزِيلٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَنْزِيلٌ: بِمَعْنَى مُنَزَّلٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ نَزَلَ مُخَفَّفًا، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ مُشَدَّدًا، والرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالرُّوحُ الْأَمِينُ جِبْرِيلُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ «1» أَنَّهُ تَلَاهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْقَلْبِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مُدْرِكٍ مِنَ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: إِنَّ عَلَى قَلْبِكَ ولتكون متعلقان بنزل، وقيل: يجوز أن يتعلقا بتنزيل، والأوّل: أولى، قرئ نُزِّلَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَكُونُ الرُّوحُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَرْفُوعًا عَلَى النِّيَابَةِ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ عِلَّةٌ لِلْإِنْزَالِ، أَيْ: أَنْزَلَهُ لِتُنْذِرَهُمْ بِمَا تَضْمَّنَهُ مِنَ التَّحْذِيرَاتِ والإنذار وَالْعُقُوبَاتِ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُنْذِرِينَ، أَيْ: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِهَذَا اللِّسَانِ، وَجَوَّزَ أَبُو البقاء أن يكون بدلا من «ربه» ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِنَزَلَ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِلِاعْتِنَاءِ بِذِكْرِ الْإِنْذَارِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا،

_ (1) . البقرة: 97.

بلسان الرسول العربي، لئلا يقول مشركو الْعَرَبِ لَسْنَا نَفْهَمُ مَا تَقُولُهُ بِغَيْرِ لِسَانِنَا، فَقَطَعَ بِذَلِكَ حُجَّتَهُمْ وَأَزَاحَ عِلَّتَهُمْ وَدَفَعَ مَعْذِرَتَهُمْ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي: هَذَا الْقُرْآنَ بِاعْتِبَارِ أَحْكَامِهِ الَّتِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالزُّبُرُ: الْكُتُبُ، الْوَاحِدُ: زَبُورٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ مِثْلِ هَذَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِيهَا هُوَ نَفْسُهُ، لَا مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ الْهَمْزَةُ: لِلْإِنْكَارِ، وَالْوَاوُ: لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ وَالدَّلَالَةُ، أَيْ: أَلَمْ يَكُنْ لِهَؤُلَاءِ عَلَامَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَأَنَّهُ تَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَنَّهُ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْعُمُومِ، أَوْ مَنْ آمَنَ منهم عبد اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَإِنَّمَا صَارَتْ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ حُجَّةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ وَيُصَدِّقُونَهُمْ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «تَكُنْ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وآية بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ، وَخَبَرُهَا: أَنْ يَعْلَمَهُ إِلَخْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً، وَقَرَأَ الباقون «يكن» بالتحتية، وآية بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ يَكُنْ، وَاسْمُهَا أَنْ يعلمه لهم قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْ يَعْلَمَهُ: اسْمُ يَكُنْ، وَآيَةً: خبره. أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمُ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ حَقٌّ عَلَامَةً وَدِلَالَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانُوا يُخْبِرُونَ بِوُجُودِ ذِكْرِهِ فِي كتبهم، وكذا قال الفراء، ووجهها قِرَاءَةِ الرَّفْعِ بِمَا ذَكَرْنَا. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ نَظَرٌ، لِأَنَّ جَعْلَ النَّكِرَةِ اسْمًا وَالْمَعْرِفَةِ خَبَرًا غَيْرُ سَائِغٍ، وَإِنْ وَرَدَ شَاذًّا فِي مِثْلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَلَا يَكُ مَوْقِفٌ مِنْكَ الْوَدَاعَا وَقَوْلِ الْآخَرِ: وَكَانَ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءٌ وَلَا وَجْهَ لِمَا قِيلَ: إِنَّ النَّكِرَةَ قَدْ تَخَصَّصَتْ بِقَوْلِهِمْ: «لَهُمْ» لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْحَالُ صِفَةٌ فِي الْمَعْنَى فَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي التَّوْجِيهِ: مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ أَنَّ يَكُنْ تَامَّةٌ وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ أَيْ: لَوْ نَزَّلْنَا الْقُرْآنَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَعْجَمِينَ، الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ قِرَاءَةً صَحِيحَةً مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ مَعَ انْضِمَامِ إِعْجَازِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الرَّجُلِ الْأَعْجَمِيِّ لِلْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ بِلُغَةِ الْعَجَمِ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ بِلُغَتِهِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَقَالُوا: مَا نَفْقَهُ هَذَا وَلَا نَفْهَمُهُ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ «1» يُقَالُ: رَجُلٌ أَعْجَمُ وَأَعْجَمِيٌّ: إِذَا كَانَ غَيْرَ فَصِيحِ اللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا، وَرَجُلٌ عَجَمِيٌّ: إِذَا كَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْعَجَمِ، وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا، إِلَّا أَنَّ الْفَرَّاءَ أَجَازَ أَنْ يُقَالَ: رَجُلٌ عَجَمِيٌّ: بِمَعْنَى أَعْجَمِيٍّ وَقَرَأَ الْحَسَنُ «عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِيِّينَ» وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْجَحْدَرَيُّ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جَنِّي: أَصْلُ الْأَعْجَمِينَ: الْأَعْجَمِيِّينَ، ثُمَّ حُذِفَتْ يَاءُ النَّسَبِ، وَجُعِلَ جَمْعُهُ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ دَلِيلًا عَلَيْهَا كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ

_ (1) . فصلت: 44.

أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ السَّلْكِ سَلَكْنَاهُ، أَيْ: أَدْخَلْنَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ حَتَّى فَهِمُوا مَعَانِيَهُ، وَعَرَفُوا فَصَاحَتَهُ، وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: سَلَكْنَا الشِّرْكَ، وَالتَّكْذِيبَ، فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. وَقَالَ عكرمة: سلكناه الْقَسْوَةَ. وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي الْقُرْآنِ وجملة لا يُؤْمِنُونَ تحتمل على وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الِاسْتِئْنَافُ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ، وَالْإِيضَاحِ لِمَا قَبْلَهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي سَلَكْنَاهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُجْرِمِينَ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الْجَزْمَ فِي لَا يُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْمُجَازَاةِ، وَزَعَمَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ، إِذَا وَضَعَتْ لَا مَوْضِعَ كَيْلَا مِثْلَ هَذَا رُبَّمَا جَزَمَتْ مَا بَعْدَهَا، وَرُبَّمَا رَفَعَتْ، فَتَقُولُ رَبَطْتُ الْفَرَسَ لَا يَنْفَلِتُ بِالرَّفْعِ، وَالْجَزْمِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: إِنْ لَمْ أَرْبِطْهُ يَنْفَلِتْ، وَأُنْشِدَ لِبَعْضِ بَنِيَ عَقِيلٍ: وَحَتَّى رَأَيْنَا أَحْسَنَ الْفِعْلِ بَيْنَنَا ... مساكنة لا يقرف الشّرّ قارف بالرفع، ومن الجزم قول الآخر: لطالما حلّأتماها لا ترد ... فخلّياها والسّجال تَبْتَرِدْ «1» قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي لَا يُؤْمِنُونَ، خَطَأٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِلَا جَازِمٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، وَهِيَ مُشَاهَدَتُهُمْ للعذاب الأليم فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي: فجأة «و» الحال أنّهم لَا يَشْعُرُونَ بِإِتْيَانِهِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ فَتَأْتِيَهُمْ بِالْفَوْقِيَّةِ، أَيِ: السَّاعَةُ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ، لكنه قد دلّ الْعَذَابِ عَلَيْهَا فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَيْ: مُؤَخَّرُونَ وَمُمْهَلُونَ. قَالُوا هَذَا تَحَسُّرًا عَلَى مَا فَاتَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَتَمَنِّيًا لِلرَّجْعَةِ إِلَى الدُّنْيَا، لِاسْتِدْرَاكِ مَا فَرَطَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ الِاسْتِعْجَالُ لِلْعَذَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ لِقَوْلِهِ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنَ الْبُعْدِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلْمَعْنَى الظَّاهِرِ، فَإِنَّ مَعْنَى هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ طَلَبُ النَّظْرَةِ وَالْإِمْهَالُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَالْمُرَادُ بِهِ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ، وَالْإِنْكَارُ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2» وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا «3» أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، كَمَا مَرَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَمَعْنَى أَرَأَيْتَ: أَخْبِرْنِي، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، أَيْ: أَخْبِرْنِي إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ فِي الدُّنْيَا مُتَطَاوِلَةً، وَطَوَّلْنَا لَهُمُ الْأَعْمَارَ ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ مَا: هِيَ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ: شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ، كَوْنَهُمْ مُمَتَّعِينَ ذَلِكَ التَّمَتُّعَ الطَّوِيلَ، وَ «مَا» فِي مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَصْدَرِيَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْصُولَةَ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ التَّقْرِيرِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا الْأُولَى نَافِيَةً، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ تَمْتِيعُهُمْ شَيْئًا، وَقُرِئَ يُمْتَعُونَ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ، وتخفيف التاء من أمتع الله

_ (1) . حلّأها: منعها من ورود الماء. والسّجال: جمع سجل، وهو الدلو الضخمة المملوءة ماء. وتبترد: تشرب الماء لتبرد به كبدها. (2) . الأنفال: 32. [.....] (3) . الأعراف: 70.

زِيدًا بِكَذَا وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ مِنْ: مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ: وَمَا أَهْلَكْنَا قَرْيَةً مِنَ الْقُرَى إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ. وَجُمْلَةُ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِقَرْيَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْهَا، وَسَوَّغَ ذَلِكَ سَبْقُ النَّفْيِ، وَالْمَعْنَى: مَا أَهْلَكْنَا قَرْيَةً مِنَ الْقُرَى إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِمْ، وَالْإِعْذَارِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَقَوْلُهُ: ذِكْرى بِمَعْنَى تَذْكِرَةٍ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْعِلَّةِ، أَوِ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: ذِكْرَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: يَذْكُرُونَ ذِكْرَى. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَعْنَى إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ إِلَّا لَهَا مُذَكِّرُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْذَارُنَا ذِكْرَى، أَوْ ذَلِكَ ذِكْرَى. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى هِيَ ذِكْرَى، أَوْ يُذَكِّرُهُمْ ذِكْرَى، وَقَدْ رَجَّحَ الْأَخْفَشُ أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَما كُنَّا ظالِمِينَ فِي تَعْذِيبِهِمْ، فقد قدّمنا الحجة إليهم وأنذرناهم، وأعذرناهم، وَأَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ أَيْ: بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا رَدٌّ لِمَا زَعَمَهُ الْكَفَرَةُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيَاطِينُ عَلَى الْكَهَنَةِ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ مَا نَسَبَهُ الْكُفَّارُ إِلَيْهِمْ أَصْلًا إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لِلْقُرْآنِ، أَوْ لِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ لَمَعْزُولُونَ مَحْجُوبُونَ، مَرْجُومُونَ بِالشُّهُبِ. وَقَرَأَ الحسن وابن السميقع والأعمش «وما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ» بِالْوَاوِ وَالنُّونِ إِجْرَاءً لَهُ مجرى جمع السَّلَامَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ. قَالَ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: هَذَا مِنْ غَلَطِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِشُبْهَةٍ لَمَّا رَأَى الْحَسَنُ فِي آخِرِهِ يَاءً وَنُونًا، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِالْجَمْعِ السَّالِمِ فَغَلِطَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: غَلِطَ الشَّيْخُ: يَعْنِي الْحَسَنُ، فَقِيلَ: ذَلِكَ لِلنَّضِرِ بْنِ شُمَيْلٍ فَقَالَ: إِنْ جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ رُؤْبَةَ وَالْعَجَّاجِ وَذَوِيهِمَا جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ وَصَاحِبِهِ: يَعْنِي مُحَمَّدَ بن السميقع مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْرَءَا بِذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ سَمِعَا فِيهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: إِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ مِنْ شَاطَ يَشِيطُ كَانَ لِقِرَاءَتِهِمَا وَجْهٌ. قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: دَخَلْنَا بَسَاتِينَ مِنْ وَرَائِهَا بَسَاتُونَ. ثم لما قرّر سبحانه حقيقة الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِهِ، أَمَرَ نَبِيَّهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِدُعَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ فَقَالَ: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وخطاب النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنْهُ، مَعْصُومًا مِنْهُ، لِحَثِّ الْعِبَادِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَنَهْيِهِمْ عَنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيَّ، وَأَعَزُّهُمْ عِنْدِي، وَلَوِ اتَّخَذْتَ مَعِيَ إِلَهًا لَعَذَّبْتُكَ، فَكَيْفَ بِغَيْرِكَ مِنَ الْعِبَادِ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ خَصَّ الْأَقْرَبِينَ لِأَنَّ الِاهْتِمَامَ بِشَأْنِهِمْ أَوْلَى، وهدايتهم إلى الحق أقوم. قيل: هم قريش، وَقِيلَ بَنُو هَاشِمٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ دَعَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قُرَيْشًا، فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ، فَذَلِكَ مِنْهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيَانٌ لِلْعَشِيرَةِ الْأَقْرَبِينَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُقَالُ: خَفَضَ جَنَاحَهُ إِذَا أَلَانَهُ، وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ حَسَنَةٌ. وَالْمَعْنَى: أَلِنْ جَنَاحَكَ، وَتَوَاضَعْ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَظْهَرَ لَهُمُ الْمَحَبَّةَ وَالْكَرَامَةَ، وَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ فَإِنْ عَصَوْكَ أَيْ: خَالَفُوا أَمْرَكَ وَلَمْ يَتَّبِعُوكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ أَيْ: مِنْ عَمَلِكُمْ، أَوْ مِنَ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُشَارِفُونَ لِلْإِيمَانِ، الْمُصَدِّقُونَ بِاللِّسَانِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْخُلَّصَ لَا يَعْصُونَهُ وَلَا يُخَالِفُونَهُ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ مَا

يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ عِنْدَ عِصْيَانِهِمْ لَهُ فَقَالَ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أَيْ: فَوِّضْ أُمُورَكَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى قَهْرِ الْأَعْدَاءِ، وَهُوَ الرَّحِيمُ لِلْأَوْلِيَاءِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ «فَتَوَكَّلْ» بِالْفَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «وَتَوَكَّلْ» بِالْوَاوِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى يَكُونُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ كَالْجُزْءِ مِمَّا قَبْلَهَا مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ مَا بَعْدَ الْوَاوِ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهَا، عَطْفُ جُمْلَةٍ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ أَيْ: حِينَ تَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ وَحْدَكَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حِينَ تَقُومُ: حَيْثُمَا كُنْتَ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أَيْ: وَيَرَاكَ إِنْ صَلَّيْتَ فِي الْجَمَاعَةِ رَاكِعًا وَسَاجِدًا وَقَائِمًا، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: يَرَاكَ فِي الْمُوَحِّدِينَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ حَتَّى أَخْرَجَكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «يَرَاكَ» حِينَ تَقُومُ قِيَامُهُ إِلَى التَّهَجُّدِ، وَقَوْلُهُ: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ يُرِيدُ تَرَدُّدَكَ فِي تَصَفُّحِ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ وَتَقَلُّبَ بَصَرِكَ فِيهِمْ، كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُهُ: الْعَلِيمُ بِهِ. ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَبَيَّنَهُ فَقَالَ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ أَيْ: عَلَى مَنْ تَتَنَزَّلُ، فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَفِيهِ بَيَانُ اسْتِحَالَةِ تَنَزُّلِ الشَّيَاطِينِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ وَالْأَفَّاكُ: الْكَثِيرُ الْإِفْكِ، وَالْأَثِيمُ: كَثِيرُ الْإِثْمِ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ كُلُّ مَنْ كَانَ كَاهِنًا، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ ثُمَّ يَأْتُونَ إِلَيْهِمْ فَيُلْقُونَهُ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يُلْقُونَ السَّمْعَ أَيْ: مَا يَسْمَعُونَهُ مِمَّا يَسْتَرِقُونَهُ، فَتَكُونَ جُمْلَةُ «يُلْقُونَ السَّمْعَ» عَلَى هَذَا رَاجِعَةً إِلَى الشَّيَاطِينِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ الشَّيَاطِينِ مُلْقِينَ السَّمْعَ، أَيْ: مَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى إِلَى الْكُهَّانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ الشَّيَاطِينَ يُلْقُونَ السَّمْعَ: أَيْ يُنْصِتُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى لِيَسْتَرِقُوا مِنْهُمْ شَيْئًا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّمْعِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْمَسْمُوعِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: نَفْسَ حَاسَّةِ السَّمْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ «يُلْقُونَ السَّمْعَ» رَاجِعَةً إِلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَمَعْنَى الْإِلْقَاءِ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مَا تُلْقِيِهِ إِلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَصْدُقُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا، وَتَكْذُبُ الْمِائَةُ الْكَلِمَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَجُمْلَةُ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، أَيْ: وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْكَهَنَةِ كَاذِبُونَ فِيمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، لِأَنَّهُمْ يَضُمُّونَ إِلَى مَا يَسْمَعُونَهُ كَثِيرًا مِنْ أَكَاذِيبِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا يُلْقُونَهُ مِنَ السَّمْعِ، أَيِ: الْمَسْمُوعِ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ رَاجِعَةً إِلَى الشَّيَاطِينِ، أَيْ: وَأَكْثَرُ الشَّيَاطِينِ كَاذِبُونَ فِيمَا يُلْقُونَهُ إِلَى الْكَهَنَةِ مِمَّا يَسْمَعُونَهُ، فَإِنَّهُمْ يَضُمُّونَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْكَذِبِ. وَقَدْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَصْفُ الْأَفَّاكِينَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَاذِبُونَ بَعْدَ مَا وُصِفُوا جَمِيعًا بِالْإِفْكِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَفَّاكِ الَّذِي يُكْثِرُ الْكَذِبَ لَا الَّذِي لَا يَنْطِقُ إِلَّا بِالْكَذِبِ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ أَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَصْدُقُ مِنْهُمْ فِيمَا يَحْكِي عَنِ الشَّيَاطِينِ، وَالْغَرَضُ الَّذِي سيق لِأَجْلِهِ هَذَا الْكَلَامُ، رَدُّ مَا كَانَ يَزْعُمُهُ الْمُشْرِكُونَ، مِنْ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُلْقِي إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ السَّمْعَ مِنَ الْكَهَنَةِ، بِبَيَانِ أَنَّ الْأَغْلَبَ عَلَى الْكَهَنَةِ الْكَذِبُ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحْوَالِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَّا الصِّدْقُ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَمَا زَعَمُوا، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَهَنَةَ يُعَظِّمُونَ الشَّيَاطِينَ. وَهَذَا النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِرِسَالَتِهِ إِلَى النَّاسِ يَذُمُّهُمْ وَيَلْعَنُهُمْ وَيَأْمُرُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُمْ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ قَدْ قَالَ قَائِلٌ مِنَ

المشركين: إن النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ شَاعِرٌ، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ الشُّعَرَاءِ وَمُنَافَاةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ لِمَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمْ، أَيْ: يُجَارِيهِمْ وَيَسْلُكُ مَسْلَكَهُمْ وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَتِهِمُ الْغَاوُونَ، أَيِ: الضَّالُّونَ عَنِ الْحَقِّ، وَالشُّعَرَاءُ: جَمْعُ شَاعِرٍ، وَالْغَاوُونَ: جَمْعُ غَاوٍ، وَهُمْ ضُلَّالُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَقِيلَ: الزَّائِلُونَ عَنِ الْحَقِّ، وقيل: الذي يَرَوُونَ الشِّعْرَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْهِجَاءِ وَمَا لَا يجوز، وقيل: المراد شعر الْكُفَّارِ خَاصَّةً. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَالشُّعَرَاءُ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ «الشُّعَرَاءَ» بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَشَيْبَةُ وَالْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ يَتْبَعُهُمْ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ قَبَائِحَ شُعَرَاءِ الْبَاطِلِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَالْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ، يُقَالُ: هَامَ يَهِيمُ هَيْمًا وَهَيْمَانًا إِذَا ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ، أَيْ: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْكَذِبِ يَخُوضُونَ، وَفِي كُلِّ شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ الزُّورِ يَتَكَلَّمُونَ، فَتَارَةً يُمَزِّقُونَ الْأَعْرَاضَ بِالْهِجَاءِ، وَتَارَةً يَأْتُونَ مِنَ الْمُجُونِ بِكُلِّ مَا يَمُجُّهُ السَّمْعُ، وَيَسْتَقْبِحُهُ الْعَقْلُ، وَتَارَةً يَخُوضُونَ فِي بَحْرِ السَّفَاهَةِ، وَالْوَقَاحَةِ، وَيَذُمُّونَ الْحَقَّ، وَيَمْدَحُونَ الْبَاطِلَ، وَيَرْغَبُونَ فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى فِعْلِ الْمُنْكِرَاتِ، كَمَا تَسْمَعُهُ فِي أَشْعَارِهِمْ مِنْ مَدْحِ الْخَمْرِ، وَالزِّنَا، وَاللِّوَاطِ، وَنَحْوِ هَذِهِ الرَّذَائِلِ الْمَلْعُونَةِ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ أَيْ: يَقُولُونَ فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا، وَهُمْ كَذَبَةٌ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ يَدُلُّونَ بِكَلَامِهِمْ عَلَى الْكَرَمِ، وَالْخَيْرِ، وَلَا يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ يَنْسُبُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَفْعَالِ الشَّرِّ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى فِعْلِهِ، كَمَا تَجِدُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَشْعَارِهِمْ، مِنَ الدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ، وَالزَّوْرِ الْخَالِصِ الْمُتَضَمِّنِ لِقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَنَّهُمْ فَعَلُوا بِهِنَّ كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَافْتِرَاءٌ بَحْتٌ. ثُمَّ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ الشُّعَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، الَّذِينَ أَغْلَبُ أَحْوَالِهِمْ تَحَرِّي الْحَقِّ، وَالصِّدْقِ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ: دَخَلُوا فِي حِزْبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَمِلُوا بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً فِي أَشْعَارِهِمْ وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا كَمَنْ يَهْجُو مِنْهُمْ مَنْ هَجَاهُ، أَوْ يَنْتَصِرُ لِعَالِمٍ، أَوْ فَاضِلٍ، كَمَا كَانَ يَقَعُ مِنْ شُعَرَاءِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهْجُونَ مَنْ يَهْجُوهُ، وَيَحْمُونَ عَنْهُ، وَيَذُبُّونَ عَنْ عِرْضِهِ، وَيُكَافِحُونَ شُعَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ، وَيُنَافِحُونَهُمْ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مِنَ انْتَصَرَ بِشِعْرِهِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَافَحَ أَهْلَ الْبِدْعَةِ، وَزَيَّفَ مَا يَقُولُهُ شُعَرَاؤُهُمْ، مِنْ مَدْحِ بِدْعَتِهِمْ، وَهَجْوِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا مِنْ شُعَرَاءِ الرَّافِضَةِ، وَنَحْوِهِمْ، فَإِنَّ الِانْتِصَارَ لِلْحَقِّ بِالشِّعْرِ، وَتَزْيِيفَ الْبَاطِلِ بِهِ، مِنْ أَعْظَمِ الْمُجَاهَدَةِ، وَفَاعِلُهُ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْمُنْتَصِرِينَ لِدِينِهِ، الْقَائِمِينَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْقِيَامِ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشِّعْرَ فِي نَفْسِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ، فَقَدْ يَبْلُغُ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ مِنْهُ إِلَى قِسْمِ الْحَرَامِ. وَقَدْ يَبَلُغُ مَا فِيهِ خَيْرٌ مِنْهُ إِلَى قِسْمِ الْوَاجِبِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي ذَمِّهِ وَذَمِّ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ أُخَرُ فِي إِبَاحَتِهِ وَتَجْوِيزِهِ، وَالْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ يَطُولُ، وَسَنَذْكُرُ فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. ثُمَّ خَتَمَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِآيَةٍ جَامِعَةٍ لِلْوَعِيدِ كُلِّهِ فَقَالَ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: سَيَعْلَمُ تَهْوِيلًا عَظِيمًا، وَتَهْدِيدًا شَدِيدًا، وَكَذَا فِي إِطْلَاقِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَإِبْهَامِ أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، وَخَصَّصَ هَذِهِ الْآيَةَ بَعْضُهُمْ بِالشُّعَرَاءِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ. وَقَوْلُهُ: أَيَّ

مُنْقَلَبٍ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يَنْقَلِبُونَ مُنْقَلَبًا أَيَّ مُنْقَلَبٍ، وَقُدِّمَ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ سَيَعْلَمُ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِيهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ «أَيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُونَ» بِالْفَاءِ مَكَانَ الْقَافِ، وَالتَّاءِ مَكَانَ الْبَاءِ مِنَ الِانْفِلَاتِ بِالنُّونِ وَالْفَاءِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ الباقون والباء، من الانقلاب بالنون، والقاف والموحدة، وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ: أَنَّ الظَّالِمِينَ يَطْمَعُونَ فِي الِانْفِلَاتِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَالِانْفِكَاكِ مِنْهُ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ: هَذَا الْقُرْآنُ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ قَالَ: جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ قَالَ: جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: الرُّوحُ الْأَمِينُ قَالَ: الرُّوحُ الأمين: جبريل، رَأَيْتُ لَهُ سِتَّمِائَةِ جَنَاحٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ قَدْ نَشَرَهَا، فِيهَا مِثْلَ رِيشِ الطَّوَاوِيسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ قَالَ: بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَرَبِيٍّ مَا فَهِمُوهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ قَالَ: بِلِسَانِ جُرْهُمٍ. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ أَيْضًا عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِهِمْ فَآمَنَ بِكِتَابِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا وَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، يَا مَعْشَرَ بَنِي قُصَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولا نفعا، يا معشر بني عبد مناف أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، إِلَّا أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا وَسَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا» . وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ قَالَ: لِلصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ يَقُولُ: قِيَامُكَ وَرُكُوعُكَ وَسُجُودُكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قَالَ: يَرَاكَ وَأَنْتَ مَعَ السَّاجِدِينَ تَقُومُ وَتَقْعُدُ مَعَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل ترون قبلتي هاهنا؟ فو الله مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ وَلَا رُكُوعُكُمْ، وَإِنِّي لأراكم من وراء ظهري» . وأخرج ابن أبي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قَالَ: مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ حَتَّى أُخْرِجْتَ نَبِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ

مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سأل أناس النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ قَالَ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا! قَالَ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطِفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقْذِفَهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ «فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَهَاجَى رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْآخِرُ مِنْ قَوْمٍ آخرين، وكان مع كلّ واحد مهما غُوَاةٌ مِنْ قَوْمِهِ وَهُمُ السُّفَهَاءُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَالشُّعَراءُ إِلَى قَوْلِهِ: مَا لَا يَفْعَلُونَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنِّي مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى قَوْلِهِ: يَنْقَلِبُونَ وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قَالَ: هُمُ الْكُفَّارُ يَتَّبِعُونَ ضُلَّالَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ قَالَ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرُ قَوْلِهِمْ يَكْذِبُونَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا قَالَ: رَدُّوا عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَهْجُونَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا وَالشُّعَراءُ قَالَ: الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمُ الَّذِينَ كانوا يهجون النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قَالَ: قَالَ غُوَاةُ الْجِنِّ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنَ الْكَلَامِ يَأْخُذُونَ. ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ. يَعْنِي حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ وَكَعْبَ بْنَ مَالِكٍ كَانُوا يَذُبُّونَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ بِهِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ الْغاوُونَ قَالَ: هُمُ الرُّوَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَيْضًا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ «أنه قال للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فِي الشُّعَرَاءِ مَا أَنْزَلَ فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لكأنّ ما ترمونهم به نفح النَّبْلِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يَنْشُدُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» . وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا الشُّعَرَاءُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الْإِسْلَامِ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ أَنْ يَقُولُوا شِعْرًا يَتَغَنَّى بِهِ الْحُورُ الْعِيِنُ لِأَزْوَاجِهِنَّ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِينَ مَاتُوا فِي الشِّرْكِ يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ، وَالثُّبُورِ فِي النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» قَالَ: وَأَتَاهُ قُرَيْظَةُ بْنُ كَعْبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالُوا: إِنَّا نَقُولُ الشِّعْرَ وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقرءوا فقرؤوا وَالشُّعَراءُ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَقَالَ: أَنْتُمْ هُمْ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً قال: أَنْتُمْ هُمْ وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا فَقَالَ: أَنْتُمْ هُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: اهْجُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ جبريل معك.

وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَهْجُوكَ، فَقَامَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي فِيهِ، فَقَالَ: «أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ ثبّت الله؟» فقال: نعم يا رسول، قُلْتُ: ثَبَّتَ اللَّهُ مَا أَعْطَاكَ مِنْ حُسْنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا مِثْلَ مَا نَصَرَا قَالَ: «وَأَنْتَ، فَفَعَلَ اللَّهُ بِكَ مِثْلَ ذَلِكَ» ثُمَّ وَثَبَ كَعْبٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ؟ فَقَالَ: «أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ هَمَّتْ؟» قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتُ: هَمَّتْ سُخَيْنَةُ «1» أَنْ تُغَالِبَ رَبَّهَا ... فَلَتَغْلِبَنَّ مَغَالِبَ الْغَلَّابِ فَقَالَ: «أَمَا إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَ ذَلِكَ لَكَ» ثُمَّ قَامَ حَسَّانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي فِيهِ، وَأَخْرَجَ لِسَانًا لَهُ أَسْوَدَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ شِئْتَ لَفَرَيْتُ بِهِ الْمُرَادَ، ائْذَنْ لِي فِيهِ، فَقَالَ: «اذْهَبْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَلْيُحَدِّثْكَ حَدِيثَ الْقَوْمِ وَأَيَّامَهُمْ وَأَحْسَابَهُمْ، وَاهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بِحَسَّانَ وَهُوَ يُنْشِدُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَحَظَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، فَسَكَتَ ثُمَّ الْتَفَتَ حَسَّانُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أُنْشِدُكَ بِاللَّهِ هَلْ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟» قَالَ: نَعَمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا وَمِنَ الْبَيَانِ سحرا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا يَرِيهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» . قَالَ فِي الصحاح: ورى الْقَيْحُ جَوْفَهُ يَرِيهِ وَرَيًّا: إِذَا أَكَلَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رَوَىَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «حَسَنُ الشِّعْرِ كَحَسَنِ الْكَلَامِ وَقَبِيحُ الشِّعْرِ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ الشَّامِيِّ وَحَدِيثُهُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ صَحِيحٌ فِيمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ. قَالَ: وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: هِيهِ فأنشدته بَيْتًا، فَقَالَ: هِيهِ، حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخَرِّبُونَ الْبَيْتَ.

_ (1) . في القرطبي: جاءت سخينة: والسخينة: طعام حار يتّخذ من دقيق وسمن- وقيل: من دقيق وتمر- أغلظ من الحساء وأرقّ من العصيدة، وكانت قريش تكثر من أكلها، فعيّرت بها حتى سمّوا سخينة.

سورة النمل

سورة النّمل هي ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ النَّمْلِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) قَوْلُهُ: طس قَدْ مَرَّ الْكَلَامُ مُفَصَّلًا فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ، وَهَذِهِ الْحُرُوفُ إِنْ كَانَتِ اسْمًا لِلسُّورَةِ، فَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا اسْمُ هَذِهِ السُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْحُرُوفُ اسْمًا لِلسُّورَةِ، بَلْ مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، فَلَا مَحَلَّ لَهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إِلَى نَفْسِ السُّورَةِ، لِأَنَّهَا قَدْ ذُكِرَتْ إِجْمَالًا بِذِكْرِ اسْمِهَا، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: آياتُ الْقُرْآنِ وَالْجُمْلَةُ: خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَكِتابٍ مُبِينٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِجَرِّ كِتَابٍ عَطْفًا عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ: تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَآيَاتُ كِتَابٍ مُبِينٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَكِتابٍ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ بَعْضِ الصِّفَاتِ عَلَى بَعْضٍ، مَعَ اتِّحَادِ الْمَدْلُولِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، أَوْ نَفْسَ السُّورَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «وَكِتَابٌ مُبِينٌ» بِرَفْعِهِمَا عَطْفًا عَلَى آيَاتُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، أَيْ: وَآيَاتُ كِتَابٍ مُبِينٍ، فَقَدْ وَصَفَ الْآيَاتِ بِالْوَصْفَيْنِ: الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مَقْرُوءًا، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى كَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا مُعْجِزًا، وَالْكِتَابِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مَكْتُوبًا، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى كَوْنِهِ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ، مَعَ اتِّحَادِ الْمَدْلُولِ، ثُمَّ ضَمَّ إِلَى الْوَصْفَيْنِ وَصَفًّا ثَالِثًا، وَهِيَ: الْإِبَانَةُ

لمعانيه لمن يقرؤه، أَوْ هُوَ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى: بَانَ مَعْنَاهُ، وَاتَّضَحَ إِعْجَازُهُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ. وَقُدِّمَ وَصْفُ الْقُرْآنِيَّةِ هُنَا، نَظَرًا إِلَى تَقَدُّمِ حال القرآنية على حال الكتابية وأخّره في سورة فَقَالَ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ «1» نَظَرًا إِلَى حَالَتِهِ الَّتِي قَدْ صَارَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ، وَالْكِتَابَةُ سَبَبُ الْقِرَاءَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ هُنَا، وَتَنْكِيرُ الْكِتَابِ، وَتَعْرِيفُ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، وَتَنْكِيرُ الْقُرْآنِ فَلِصَلَاحِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْآيَاتِ أَوْ مِنَ الْكِتَابِ، أَيْ: تِلْكَ آيَاتٌ هَادِيَةٌ وَمُبَشِّرَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ: هُوَ هُدًى، أَوْ هُمَا خَبِرَانِ آخَرَانِ لِتِلْكَ، أَوْ هُمَا مَصْدَرَانِ مَنْصُوبَانِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يَهْدِي هُدًى وَيُبَشِّرُ بُشْرًى. ثُمَّ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمُ الْهُدَى وَالْبُشْرَى فَقَالَ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، أَوْ يَكُونُ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا، أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ مَرْفُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ. وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَكَرَّرَ الضَّمِيرَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَصْرِ، أَيْ: لَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ حَقَّ الْإِيقَانِ إِلَّا هَؤُلَاءِ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَجَعَلَ الْخَبَرَ مضارعا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَهْلَ السَّعَادَةِ ذَكَرَ بَعْدَهَمْ أَهْلَ الشَّقَاوَةِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمُ الْكُفَّارُ، أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ قِيلَ: الْمُرَادُ زَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَعْمَالَهُمُ السَّيِّئَةَ حَتَّى رَأَوْهَا حَسَنَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ زَيَّنَ لَهُمُ الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ، وَذَكَرَ لَهُمْ مَا فِيهَا مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّا جَعَلْنَا جَزَاءَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ أَنْ زَيَّنَّا لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أَيْ: يَتَرَدَّدُونَ فِيهَا، مُتَحَيِّرِينَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، لَا يَهْتَدُونَ إِلَى طَرِيقَةٍ، وَلَا يَقِفُونَ عَلَى حَقِيقَةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى يَعْمَهُونَ: يَتَمَادَوْنَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَلْعَبُونَ، وَفِي مَعْنَى التَّحَيُّرِ. قَالَ الشَّاعِرُ: ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى بالحائرين الْعُمَّهِ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُوْلئِكَ إِلَى الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ قِيلَ: فِي الدُّنْيَا، كَالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ بِعَذَابِ الدنيا، قوله بعده: وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أَيْ: هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ خُسْرَانًا، وَأَعْظَمُهُمْ خَيْبَةً، ثُمَّ مَهَّدَ سُبْحَانَهُ مُقَدِّمَةً نَافِعَةً لِمَا سَيَذْكُرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْعَجِيبَةِ، فَقَالَ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أَيْ: يُلْقَى عَلَيْكَ فَتَلْقَاهُ، وَتَأْخُذَهُ مِنْ لَدُنْ كَثِيرِ الْحِكْمَةِ، وَالْعَلَمِ، قِيلَ: إِنَّ لَدُنْ هَاهُنَا: بِمَعْنَى عِنْدَ. وَفِيهَا لُغَاتٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ وَهُوَ ذاكر. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ إِذْ نَصْبٌ، الْمَعْنَى: اذْكُرْ إِذْ قَالَ مُوسَى، أَيِ: اذْكُرْ قِصَّتَهُ إِذْ قَالَ لِأَهْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِهِ: امْرَأَتُهُ فِي مَسِيرِهِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِذْ ذَاكَ إِلَّا زَوْجَتُهُ بِنْتُ شُعَيْبٍ، فَكَنَّى عَنْهَا بِلَفْظِ الْأَهْلِ، الدَّالِّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَمِثْلُهُ قوله: امْكُثُوا ومعنى

_ (1) . الحجر: 1.

إِنِّي آنَسْتُ نَارًا أَبْصَرْتُهَا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ السِّينُ تَدُلُّ عَلَى بُعْدِ مَسَافَةِ النَّارِ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِتَنْوِينِ شِهَابٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى قَبَسٍ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ قَبَسٌ بَدَلًا مِنْ شِهَابٍ، أَوْ صِفَةً لَهُ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مَقْبُوسٍ، وعلى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ: آتِيكُمْ بِشُعْلَةِ نَارٍ مَقْبُوسَةٍ، أَيْ: مَأْخُوذَةٍ مِنْ أَصْلِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ نَوَّنَ جَعَلَ قَبَسٍ مِنْ صِفَةِ شِهَابٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذِهِ الْإِضَافَةُ كَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَصَلَاةُ الْأُولَى، وأضاف الشَّيْءَ إِلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ أَسْمَائِهِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هِيَ إِضَافَةُ النَّوْعِ إِلَى الْجِنْسِ كَمَا تَقُولُ: ثَوْبُ خَزٍّ، وَخَاتَمُ حَدِيدٍ. قَالَ: وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ بِشِهَابٍ قَبَسًا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَوْ بَيَانٌ، أَوْ حَالٌ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أَيْ: رَجَاءٌ أَنْ تَسْتَدْفِئُوا بِهَا، أَوْ لِكَيْ تَسْتَدْفِئُوا بِهَا مِنَ الْبَرْدِ، يُقَالُ: صَلَى بِالنَّارِ وَاصْطَلَى بِهَا: إِذَا اسْتَدْفَأَ بِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ أَبْيَضَ ذِي نُورٍ فَهُوَ شِهَابٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الشِّهَابُ: النَّارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ: كَأَنَّمَا كَانَ شِهَابًا وَاقِدًا ... أَضَاءَ ضَوْءًا ثُمَّ صَارَ خَامِدًا وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَصْلُ الشِّهَابِ عُودٌ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ جَمْرَةٌ، وَالْآخَرُ لَا نَارَ فِيهِ، وَالشِّهَابُ: الشُّعَاعُ الْمُضِيءُ، وَقِيلَ: لِلْكَوْكَبِ شِهَابٌ، ومه قَوْلُ الشَّاعِرِ: فِي كَفِّهِ صَعْدَةٌ «1» مُثَقَّفَةٌ ... فِيهَا سِنَانٌ كَشُعْلَةِ الْقَبَسِ فَلَمَّا جاءَها أَيْ: جَاءَ النَّارَ مُوسَى نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِمَا فِي النِّدَاءِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، أَوْ هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ، أَيْ: بِأَنْ بُورِكَ، وَقِيلَ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: بِأَنْ قَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ اسْمِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالْأَوْلَى: أَنَّ النَّائِبَ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مُوسَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ «أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا» حَكَى ذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: بَارَكَكَ اللَّهُ، وَبَارَكَ فِيكِ، وَبَارَكَ عَلَيْكِ، وَبَارَكَ لَكَ، وَكَذَلِكَ حَكَى هَذَا الْفَرَّاءُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، وَلَمْ يَقُلْ بُورِكَ عَلَى النَّارِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ بَارَكَكَ اللَّهُ، أَيْ: بُورِكَ عَلَى مَنْ فِي النَّارِ، وَهُوَ مُوسَى، أَوْ عَلَى مَنْ فِي قُرْبِ النَّارِ، لَا أَنَّهُ كَانَ فِي وَسَطِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ فِي النَّارِ مَلَائِكَةٌ، وَالنَّارُ هُنَا هي مجرّد نور، ولكن ظَنَّ مُوسَى أَنَّهَا نَارٌ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا وَجَدَهَا نُورًا. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جبير أن المراد بمن فِي النَّارِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، أَيْ: نُورُهُ. وَقِيلَ: بُورِكَ مَا فِي النَّارِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَعَلَهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمَذْهَبُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّارِ النُّورُ، ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهَ فَقَالَ: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وفيه تعجيب لموسى من ذلك يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الْقَاهِرُ الْحَكِيمُ فِي أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ! مَنِ الَّذِي نَادَانِي؟ فَأَجَابَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ، لِيَعْرِفَ مَا أَجْرَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى يَدِهِ مِنَ الْمُعْجِزَةِ الخارقة، وجملة وَأَلْقِ عَصاكَ معطوفة على

_ (1) . الصّعدة: القناة التي تنبت مستقيمة.

بُورِكَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ فَصَارَتْ حَيَّةً فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ قَالَ الزَّجَّاجُ: صَارَتِ الْعَصَا تَتَحَرَّكُ كَمَا يَتَحَرَّكُ الْجَانُّ، وَهِيَ الْحَيَّةُ الْبَيْضَاءُ، وَإِنَّمَا شَبَّهَهَا بِالْجَانِّ فِي خِفَّةِ حَرَكَتِهَا، وَشَبَّهَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالثُّعْبَانِ لِعِظَمِهَا، وَجَمْعُ الْجَانِّ: جِنَانٌ، وَهِيَ الْحَيَّةُ الْخَفِيفَةُ الصَّغِيرَةُ الْجِسْمِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا صَغِيرَةٌ، وَلَا كَبِيرَةٌ وَلَّى مُدْبِراً مِنَ الْخَوْفِ وَلَمْ يُعَقِّبْ أَيْ: لَمْ يَرْجِعْ، يُقَالُ: عَقَّبَ فُلَانٌ إِذَا رَجَعَ، وَكُلُّ رَاجِعٍ مُعَقِّبٌ، وَقِيلَ: لَمْ يَقِفْ وَلَمْ يَلْتَفِتْ. وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، لِأَنَّ التَّعْقِيبَ هُوَ الْكَرُّ بَعْدَ الْفَرِّ، فَلَمَّا وَقَعَ منه ذلك قال الله سبحانه: يا مُوسى لَا تَخَفْ أَيْ: مِنَ الْحَيَّةِ وَضَرَرِهَا إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أَيْ: لَا يَخَافُ عِنْدِي مَنْ أَرْسَلْتُهُ بِرِسَالَتِي، فَلَا تَخَفْ أَنْتَ. قِيلَ: وَنَفْيُ الْخَوْفِ عَنِ الْمُرْسَلِينَ لَيْسَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، بَلْ فِي وَقْتِ الْخِطَابِ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ إِذْ ذَاكَ مُسْتَغْرِقُونَ. ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَقَالَ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: لَكِنَّ مَنْ أَذْنَبَ فِي ظُلْمِ نَفْسِهِ بِالْمَعْصِيَةِ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً أَيْ: تَوْبَةً وَنَدَمًا بَعْدَ سُوءٍ أَيْ: بَعْدَ عَمَلِ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، وَإِنَّمَا يَخَافُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ ظَلَمَ. إِلَّا مِنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ إِلَخْ. كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. قَالَ النَّحَّاسُ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَحْذُوفٍ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ شَيْءٍ لَمْ يُذْكَرْ. وَرُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ مِنَ الْمَذْكُورِ، لَا مِنَ الْمَحْذُوفِ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، بِإِتْيَانِ الصَّغَائِرِ الَّتِي لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ، وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَّاسُ، وَقَالَ: عَلِمَ مَنْ عَصَى مِنْهُمْ، فَاسْتَثْنَاهُ فَقَالَ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ غَفَرْتُ لَهُ كَآدَمَ وَدَاوُدَ وَإِخْوَةِ يُوسُفَ وَمُوسَى بِقَتْلِهِ الْقِبْطِيِّ. وَلَا مَانِعَ مِنْ الْخَوْفِ بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ، فإن نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الَّذِي غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ كَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ الْمُرَادُ بِالْجَيْبِ هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَفِي الْقَصَصِ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ «1» وَفِي أَدْخِلَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي اسْلُكْ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أَيْ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، أَوْ نَحْوِهُ مِنَ الْآفَاتِ، فَهُوَ احْتِرَاسٌ. وَقَوْلُهُ: «تَخْرُجُ» جَوَابُ أَدْخِلْ يَدَكَ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أَدْخِلْ يَدَكَ تَدْخُلْ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ، وَلَا حَاجَةَ لِهَذَا الْحَذْفِ، وَلَا مُلْجِئَ إِلَيْهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتْ عَلَى مُوسَى مَدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ لَا كُمَّ لَهَا وَلَا إِزَارَ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ وَأَخْرَجَهَا فَإِذَا هِيَ تَبْرُقُ كَالْبَرْقِ، وَقَوْلُهُ: فِي تِسْعِ آياتٍ قَالَ أَبُو الْبَقَاءُ: هُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ فَاعِلِ تَخْرُجْ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْهَبْ فِي تِسْعِ آيَاتٍ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَلْقِ عَصَاكَ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جُمْلَةِ تِسْعِ آيَاتٍ، أَوْ مَعَ تِسْعِ آيَاتٍ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَهُمَا آيَتَانِ مِنْ تِسْعٍ، يَعْنِي: الْعَصَا وَالْيَدَ، فَتَكُونُ الْآيَاتُ إِحْدَى عَشْرَةَ: هَاتَانِ، وَالْفَلْقُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالْطَمْسَةُ، وَالْجَدْبُ فِي بَوَادِيهِمْ، وَالنُّقْصَانُ فِي مَزَارِعِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، يَعْنِي الْيَدَ دَاخِلَةٌ فِي تِسْعِ آيَاتٍ، وَكَذَا قَالَ الْمَهْدَوِيُّ، وَالْقُشَيْرِيُّ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: تَقُولُ خَرَجْتُ فِي عَشَرَةِ نفر، وأنت أحدهم، أي:

_ (1) . القصص: 32.

خَرَجْتُ عَاشِرُ عَشَرَةٍ، فَفِي بِمَعْنَى مَنْ لِقُرْبِهَا مِنْهَا كَمَا تَقُولُ خُذْ لِي عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ فِيهَا فَحْلَانِ، أَيْ: مِنْهَا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَهَلْ يَنْعَمَنَّ مَنْ كَانَ آخِرُ عَهْدِهِ ... ثَلَاثِينَ شَهْرًا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ فِي: بِمَعْنَى مِنْ، وَقِيلَ: فِي بِمَعْنَى مَعَ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ: إِنَّكَ مَبْعُوثٌ، أَوْ مُرْسَلٌ إِلَى فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً أَيْ: جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا الَّتِي عَلَى يَدِ مُوسَى حَالَ كَوْنِهَا مُبْصِرَةً، أَيْ: وَاضِحَةً بَيِّنَةً، كَأَنَّهَا لِفَرْطِ وُضُوحِهَا تُبْصِرُ نَفْسَهَا كَقَوْلِهِ: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مُبْصِرَةً، عَلَى أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَقَتَادَةُ مَبْصَرَةً بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالصَّادِ، أَيْ: مَكَانًا يَكْثُرُ فِيهِ التَّبَصُّرُ، كَمَا يُقَالُ: الْوَلَدُ مَجْبَنَةٌ وَمَبْخَلَةٌ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ: لَمَّا جَاءَتْهُمْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، أَيْ: سِحْرٌ وَاضِحٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أَيْ: كَذَّبُوا بِهَا حَالَ كَوْنِ أَنْفُسِهِمْ مُسْتَيْقِنَةً لَهَا، فَالْوَاوُ لِلْحَالِ، وَانْتِصَابُ ظُلْماً وَعُلُوًّا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: ظَالِمِينَ عَالِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَا عَلَى الْعِلَّةِ، أَيِ: الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الظُّلْمِ وَالْعُلُوِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا نَعْتَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: جَحَدُوا بِهَا جُحُودًا، ظُلْمًا وَعُلُوًّا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَالْبَاءُ فِي «وَجَحَدُوا بِهَا» زَائِدَةٌ، أَيْ: وَجَحَدُوهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ: وَجَحَدُوا بِهَا ظُلْمًا وَعُلُوًّا، أَيْ: شِرْكًا وَتَكَبُّرًا عَنْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أَيْ: تَفَكَّرْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ مُعْتَبَرًا لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَقَدْ كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمُ الْإِغْرَاقَ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الْهَائِلَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ يَعْنِي تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَفْسَهُ، كَانَ نُورَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الشَّجَرَةِ وَمَنْ حَوْلَها يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ اللَّهُ فِي النُّورِ، نُودِيَ مِنَ النُّورِ وَمَنْ حَوْلَها قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: نَادَاهُ اللَّهُ وَهُوَ فِي النُّورِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ قَالَ: بُورِكَتِ النَّارُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا» أَمَّا النَّارُ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ بُورِكَ قَالَ: قُدِّسَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ رُفِعَ لَأَحْرَقَتْ سَبَحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ.

[سورة النمل (27) : الآيات 15 إلى 26]

ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . وَالْحَدِيثُ أَصْلُهُ مُخَرَّجٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ من حديث عمرة بْنِ مُرَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ عَلَى مُوسَى جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ لَا تَبْلُغُ مِرْفَقَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ فَأَدْخَلَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا قَالَ: تَكَبُّرُا وَقَدِ اسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ، وَهَذَا من التقديم والتأخير. [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 26] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) لَمَّا فَرَغَ سبحانه من قصة موسى، شرع فِي قِصَّةِ دَاوُدَ، وَابْنِهِ سُلَيْمَانَ، وَهَذِهِ الْقِصَصُ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا هِيَ كَالْبَيَانِ وَالتَّقْرِيرِ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ وَالتَّنْوِينُ فِي عِلْماً إِمَّا لِلنَّوْعِ، أَيْ: طَائِفَةً مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: عِلْمًا كَثِيرًا، والواو فِي قَوْلِهِ: وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ، لِأَنَّ هَذَا الْمَقَامَ مَقَامُ الْفَاءِ فَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ آتَيْنَاهُمَا عِلْمًا فَعَمِلَا بِهِ وَقَالَا الْحَمْدُ لله، ويؤيده أن الشكر باللسان، إنا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِعَمَلِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: فَضَّلَنَا بِالْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَتَسْخِيرِ الطَّيْرِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَلَمْ يُفَضِّلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْكُلِّ تَوَاضُعًا مِنْهُمْ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَارْتِفَاعِ مَحَلِّهِ، وَأَنَّ نِعْمَةَ الْعِلْمِ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ الَّتِي يُنْعِمُ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّ مَنْ أُوتِيَهُ فَقَدْ أُوتِيَ فَضْلًا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادِ، وَمُنِحَ شَرَفًا جَلِيلًا وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي: ورثه الْعِلْمَ وَالنُّبُوَّةَ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ لِدَاوُدَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا فَوَرِثَ سُلَيْمَانُ مِنْ بَيْنِهِمْ نُبُوَّتَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ وِرَاثَةُ الْمَالِ، لِمَ يَخُصَّ سُلَيْمَانَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، فَهَذِهِ الْوِرَاثَةُ هِيَ وِرَاثَةٌ مَجَازِيَّةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العلماء ورثة الأنبياء» وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ قَالَ سُلَيْمَانُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مُخَاطِبًا لِلنَّاسِ، تَحَدُّثًا بما أنعم

اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَشَكَرَ النِّعْمَةَ الَّتِي خَصَّهُ بِهَا، وَقَدَّمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْطِقُ الطَّيْرِ كَلَامُ الطَّيْرِ فَجُعِلَ كَمَنْطِقِ الرَّجُلِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: عَجِيبٌ لَهَا أَنْ يَكُونَ غِنَاؤُهَا ... فَصِيحًا وَلَمْ يَغْفِرْ بِمَنْطِقِهَا فَمَا «1» وَمَعْنَى الْآيَةِ فَهِمْنَا مَا يَقُولُ الطَّيْرُ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ عُلِّمَ مَنْطِقَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الطَّيْرَ لِأَنَّهُ كَانَ جُنْدًا مِنْ جُنْدِهِ يَسِيرُ مَعَهُ لِتَظْلِيلِهِ مِنَ الشَّمْسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّمَا عُلِّمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ خَاصَّةً، وَلَا يُعْتَرَضُ ذَلِكَ بِالنَّمْلَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الطَّيْرِ، وَكَثِيرًا مَا تَخْرُجُ لَهَا أَجْنِحَةٌ فَتَطِيرُ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ النَّمْلَةُ الَّتِي سَمِعَ كَلَامَهَا وَفَهِمَهُ، وَمَعْنَى وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كُلُّ شَيْءٍ تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ: كَالْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَالِ وَتَسْخِيرِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ وَالرِّيَاحِ وَالْوَحْشِ وَالدَّوَابِّ، وَكُلِّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَجَاءَ سُلَيْمَانُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَالْمُرَادُ نَفْسُهُ، بَيَانًا لِحَالِهِ مِنْ كَوْنِهِ مُطَاعًا لَا يُخَالَفُ، لَا تَكْبُرًا، وَتَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّعْلِيمِ وَالْإِيتَاءِ لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أَيِ: الظَّاهِرُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، أَوِ الْمُظْهِرُ لِفَضِيلَتِنَا وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ الْحَشْرُ: الْجَمْعُ، أَيْ: جُمِعَ لَهُ جُنُودُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ. وَقَدْ أَطَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذِكْرِ مِقْدَارِ جُنْدِهِ وَبَالَغَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مُبَالَغَةً تَسْتَبْعِدُهَا الْعُقُولُ وَلَا تَصِحُّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَ فِي الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ: لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَزْعَةٌ تَرُدُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، فَيَقِفُونَ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ، يُقَالُ وَزَعَهُ يَزَعُهُ وَزْعًا: كَفَّهُ، وَالْوَازِعُ فِي الْحَرْبِ: الْمُوَكَّلُ بِالصُّفُوفِ يَزَعُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ، أَيْ: يَرُدُّهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... وَقُلْتُ أَلَمًا أَصِحْ وَالشَّيْبُ وَازِعُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَمَنْ لَمْ يَزَعْهُ لُبُّهُ وَحَيَاؤُهُ ... فَلَيْسَ لَهُ مِنْ شِيبِ فَوْدَيْهِ وَازِعُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَلَا يَزَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنِ الْهَوَى ... مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَافِرُ الْعَقْلِ كَامِلُهُ وَقِيلَ: مِنَ التَّوْزِيعِ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ، يُقَالُ: الْقَوْمُ أَوْزَاعٌ: أي طوائف حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ حتى هي التي يبتدأ بَعْدَهَا الْكَلَامُ، وَيَكُونُ غَايَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى فَهُمْ يُوزَعُونَ إِلَى حُصُولِ هَذِهِ الْغَايَةِ، وَهُوَ إِتْيَانُهُمْ عَلَى وَادِ النَّمْلِ، أَيْ: فَهُمْ يَسِيرُونَ مَمْنُوعًا بَعْضُهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ بَعْضٍ حَتَّى إِذَا أتوا إلخ، وعلى واد النمل متعلق باتوا، وَعُدِّيَ بِعَلَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَحْمُولِينَ عَلَى الرِّيحِ فَهُمْ مُسْتَعْلُونَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَطَعُوا الْوَادِيَ وَبَلَغُوا

_ (1) . جاء في اللسان مادة فغر: قال حميد يصف حمامة: عجبت لها أنّى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما

آخِرَهُ، وَوَقَفَ الْقُرَّاءُ جَمِيعُهُمْ عَلَى وَادٍ بِدُونِ يَاءٍ اتِّبَاعًا لِلرَّسْمِ حَيْثُ لَمْ تُحْذَفْ لِالْتِقَاءِ الساكنين كقوله: الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ «1» إِلَّا الْكِسَائِيَّ فَإِنَّهُ وَقَفَ بِالْيَاءِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَذْفِ إِنَّمَا هُوَ الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ بِالْوَصْلِ. قَالَ كَعْبٌ: وَادِ النَّمْلِ بِالطَّائِفِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ بِالشَّامِ قالَتْ نَمْلَةٌ هَذَا جَوَابُ إِذَا، كَأَنَّهَا لَمَّا رَأَتْهُمْ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى الْوَادِي، فَرَّتْ وَنَبَّهَتْ سَائِرَ النَّمْلِ مُنَادِيَةً لَهَا قَائِلَةً: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ جَعَلَ خِطَابَ النَّمْلِ كَخِطَابِ الْعُقَلَاءِ لِفَهْمِهَا لِذَلِكَ الْخِطَابِ، وَالْمَسَاكِنُ: هِيَ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي يَسْكُنُ النَّمْلُ فِيهَا. قِيلَ: وَهَذِهِ النَّمْلَةُ الَّتِي سَمِعَهَا سُلَيْمَانُ هِيَ أُنْثَى، بِدَلِيلِ تَأْنِيثِ الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهَا. وَرَدَّ هَذَا أَبُو حَيَّانَ فقال: إلحاق التَّاءِ فِي قَالَتْ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّمْلَةَ مُؤَنَّثَةٌ، بَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي المذكر قالت، لأن نَمْلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِالتَّاءِ فَهِيَ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ الْمُذَكَّرُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ بِتَذْكِيرِ الْفِعْلِ، وَلَا بِتَأْنِيثِهِ، بَلْ يَتَمَيَّزُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ «2» ، وَلَا بِالتَّعَرُّضِ لِاسْمِ النَّمْلَةِ، وَلِمَا ذُكِرَ مِنَ الْقِصَصِ الْمَوْضُوعَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ. وَقَرَأَ الحسن وطلحة ومعمر بن سليمان «نملة» والنمل بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ النُّونِ، بِزِنَةِ رَجُلٍ وَسَمُرَةٍ. وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بِضَمَّتَيْنِ فِيهِمَا. لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ الْحَطْمُ: الْكَسْرُ، يُقَالُ حَطَمْتُهُ حَطْمًا: أَيْ كَسَرْتُهُ كَسَرَا، وَتَحَطَّمَ تَكَسَّرَ، وَهَذَا النَّهْيُ هُوَ فِي الظَّاهِرِ لِلنَّمْلِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لِسُلَيْمَانَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْأَمْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: أَمَّا تَخْرِيجُهُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا على قراءة الأعمش، «لَا يَحْطِمْكُمْ» بِالْجَزْمِ بِدُونِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ نُونِ التَّوْكِيدِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الشِّعْرِ، شَبَّهُوهُ بِالنَّهْيِ حَيْثُ كَانَ مَجْزُومًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ «ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُنَّ» وَقَرَأَ شَهْرُ بْنُ حوشب «مسكنكم» وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وَعِيسَى الْهَمْدَانِيُّ «لَا يُحَطِّمَنَّكُمْ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الحاء وتشديد الطاء، وقرأ ابن أبي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ بِسُكُونِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَحْطِمَنَّكُمْ، أَيْ: لَا يَشْعُرُونَ بِحَطْمِكُمْ وَلَا يَعْلَمُونَ بِمَكَانِكُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: وَالنَّمْلُ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ سُلَيْمَانَ يَفْهَمُ مَقَالَتَهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها قرأ ابن السميقع «ضَحِكًا» وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ ضَاحِكًا: حَالًا مُؤَكَّدَةً لِأَنَّهُ قَدْ فُهِمَ الضَّحِكُ مِنَ التَّبَسُّمِ، وَقِيلَ: هِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ لِأَنَّ التَّبَسُّمَ أَوَّلُ الضَّحِكِ، وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ التَّبَسُّمُ قَدْ يَكُونُ لِلْغَضَبِ كَانَ الضَّحِكُ مُبَيِّنًا لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ ضَحِكَ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ التَّبَسُّمُ لَا غَيْرَ، وَعَلَى قراءة ابن السميقع يَكُونُ ضَحِكًا: مَصْدَرًا مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَانَ ضَحِكَ سُلَيْمَانَ تَعَجُّبًا مِنْ قَوْلِهَا، وَفَهْمِهَا، وَاهْتِدَائِهَا إِلَى تَحْذِيرِ النَّمْلِ وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وقد تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى أَوْزِعْنِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: «فهم يوزعون» قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَحَقِيقَةُ أَوْزِعْنِي: اجْعَلْنِي أَزِعُ شُكْرَ نِعَمِكَ عِنْدِي وَأَكُفُّهُ، وَأَرْتَبِطُهُ لَا يَنْفَلِتُ

_ (1) . الفجر: 9. (2) . كان يغني عن ذلك كله الرجوع إلى كتب اللغة وفيها: النملة: واحدة النمل للذكر والأنثى.

عَنِّي، حَتَّى لَا أَنْفَكَّ شَاكِرًا لَكَ، انْتَهَى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَوْزِعْنِي أَيْ: أَلْهِمْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، يُقَالُ: فُلَانٌ مُوزَعٌ بِكَذَا، أَيْ: مُولَعٌ بِهِ، انْتَهَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَصْلُهُ مِنْ وَزِعَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كُفَّنِي عَمَّا يُسْخِطُكَ انْتَهَى. وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِأَوْزِعْنِي هُوَ: أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ مَعْنَى أَوْزِعْنِي: امْنَعْنِي أَنْ أَكْفُرَ نِعْمَتَكَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ، وَمَعْنَى وَعَلَى وَالِدَيَّ: الدُّعَاءُ مِنْهُ بِأَنْ يُوزِعَهُ اللَّهُ شُكْرَ نِعْمَتِهِ عَلَى وَالِدَيْهِ، كَمَا أَوْزَعَهُ شُكْرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمَا إِنْعَامٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ مِنْهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ طَلَبَ أَنْ يُضِيفَ اللَّهُ لَهُ لَوَاحِقَ نِعَمِهِ إِلَى سَوَابِقِهَا، وَلَا سِيَّمَا النِّعَمُ الدِّينِيَّةُ، فَقَالَ: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ أَيْ: عَمَلًا صَالِحًا تَرْضَاهُ مِنِّي، ثُمَّ دَعَا أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْآخِرَةِ دَاخِلًا فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ الطَّلَبُ بِهَا، فَقَالَ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ وَالْمَعْنَى: أَدْخِلْنِي فِي جُمْلَتِهِمْ، وَأَثْبِتِ اسْمِي فِي أَسْمَائِهِمْ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَتِهِمْ إِلَى دَارِ الصَّالِحِينَ، وَهِيَ الْجَنَّةُ، اللَّهُمَّ وَإِنِّي أَدْعُوكَ بِمَا دَعَاكَ بِهِ هَذَا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ فَتَقَبَّلْ ذَلِكَ مِنِّي وَتَفَضَّلْ عَلَيَّ بِهِ، فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ فَفَضْلُكَ هُوَ سَبَبُ الْفَوْزِ بِالْخَيْرِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُنَادِيَةٌ بِأَعْلَى صَوْتٍ، وَأَوْضَحِ بَيَانٍ بِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّفَضُّلِ مِنْكَ، لَا بالعمل منهم كما قال رسولك الصادق المصدوق فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» إذا لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَفَضُّلُكَ الْوَاسِعُ فَتَرْكُ طَلَبِهِ مِنْكَ عَجْزٌ، وَالتَّفْرِيطُ فِي التَّوَسُّلِ إِلَيْكَ بِالْإِيصَالِ إِلَيْهِ تَضْيِيعٌ، ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ بِلْقِيسَ، وَمَا جَرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ، وَذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْهُدْهُدِ فَقَالَ: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ التَّفَقُّدُ: تَطَلُّبُ مَا غَابَ عَنْكَ وَتَعَرُّفُ أَحْوَالِهِ، وَالطَّيْرُ: اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ مَا يَطِيرُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَطَلَّبَ مَا فَقَدَ مِنَ الطَّيْرِ، وَتَعَرَّفَ حَالَ مَا غَابَ مِنْهَا، وَكَانَتِ الطَّيْرُ تَصْحَبُهُ فِي سَفَرِهِ، وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أَيْ: مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ؟ فَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْكَلَامِ الْمَقْلُوبِ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ كَثِيرًا، وَقِيلَ: لَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ الْقَلْبِ، بَلْ هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَانِعِ لَهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْهُدْهُدِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَالِي لَا أَرَاهُ هَلْ ذَلِكَ لِسَاتِرٍ يَسْتُرُهُ عَنِّي، أَوْ لِشَيْءٍ آخَرَ؟ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ غَائِبٌ فَقَالَ: أَمْ كَانَ من الغائبين، وأم هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ، قَرَأَ ابْنُ كثير وابن محيصن وهشام وأيوب «مالي» بفتح الياء، وكذلك قرءوا فِي يس وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي «1» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَقَرَأَ بِإِسْكَانِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الَّتِي فِي يس، وَإِسْكَانِ الَّتِي هُنَا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: لِأَنَّ هَذِهِ الَّتِي هُنَا اسْتِفْهَامٌ، وَالَّتِي فِي يس نَفْيٌ، وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْإِسْكَانَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ. اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْعَذَابِ الشَّدِيدِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ جميعا. وقال يزيد ابن رُومَانَ: هُوَ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَ جَنَاحَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَحْبِسَهُ مَعَ أَضْدَادِهِ، وَقِيلَ: أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ خِدْمَتِهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ، لَا عَلَى قَدْرِ الْجَسَدِ. وَقَوْلُهُ عَذَابًا اسْمُ مَصْدَرٍ أَوْ مصدر على

_ (1) . يس: 22.

حَذْفِ الزَّوَائِدِ كَقَوْلِهِ: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «1» أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ بِنُونِ التَّأْكِيدِ الْمُشَدَّدَةِ بَعْدَهَا نُونُ الْوِقَايَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ فَقَطْ، وَهِيَ نُونُ التوكيد، وقرأ عيسى ابن عُمَرَ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ غَيْرِ مَوْصُولَةٍ بِالْيَاءِ، وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: هُوَ الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ فِي غَيْبَتِهِ «فمكث» ابن عُمَرَ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ غَيْرِ مَوْصُولَةٍ بِالْيَاءِ، وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: هُوَ الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ فِي غَيْبَتِهِ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أَيِ: الْهُدْهُدُ مَكَثَ زَمَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «مَكُثَ» بِضَمِّ الْكَافِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحْدَهُ بِفَتْحِهَا، وَمَعْنَاهُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ: أَقَامَ زَمَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَكَثَ يَمْكُثُ مُكُوثًا كَقَعَدَ يَقْعُدُ قُعُودًا. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي مَكَثَ لِسُلَيْمَانَ. وَالْمَعْنَى: بَقِيَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ التَّفَقُّدِ وَالتَّوَعُّدِ زَمَانًا غَيْرَ طَوِيلٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أَيْ: عَلِمْتُ مَا لَمْ تَعْلَمْهُ مِنَ الْأَمْرِ، وَالْإِحَاطَةُ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَلَعَلَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَكَثَ الْهُدْهُدُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَجَاءَ فَعُوتِبَ عَلَى مَغِيبِهِ، فَقَالَ مُعْتَذِرًا عَنْ ذَلِكَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ إِدْغَامُ التَّاءَ فِي الطَّاءِ، فيقال: حطّ، وَإِدْغَامُ الطَّاءِ فِي التَّاءِ فَيُقَالُ: أَحَتُّ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ سَبَإٍ بِالصَّرْفِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ، نُسِبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ ... قد عضّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَتَرْكِ الصَّرْفِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَدِينَةٍ، وَأَنْكَرَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ رَجُلٍ وَقَالَ: سَبَأٌ اسْمُ مَدِينَةٍ تُعْرَفُ بِمَأْرِبِ اليمن، بينها وَبَيْنَ صَنْعَاءَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ امْرَأَةٍ سُمِّيَتْ بِهَا الْمَدِينَةُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ، كَمَا فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَفِيَ هَذَا عَلَى الزَّجَّاجِ فَخَبِطَ خَبْطَ عَشْوَاءَ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الرُّؤَاسِيَّ سَأَلَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنْ سَبَأٍ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَبُو عَمْرٍو أَجَلَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ هَذَا، قَالَ: وَالْقَوْلُ فِي سَبَأٍ مَا جَاءَ التَّوْقِيفُ فِيهِ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْمُ رَجُلٍ، فَإِنْ صَرَفْتَهُ فَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ اسْمًا لِلْحَيِّ، وَإِنْ لَمْ تَصْرِفْهُ جَعَلْتَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ، مِثْلَ ثَمُودَ، إِلَّا أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ الصَّرْفُ، انْتَهَى. وَأَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ سَبَأً اسْمٌ لِمَدِينَةٍ بِالْيَمَنِ كَانَتْ فِيهَا بِلْقِيسُ، وَهُوَ أَيْضًا اسْمُ رَجُلٍ مِنْ قَحْطَانَ! وَهُوَ سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ بْنِ هُودٍ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا أَنَّ الْهُدْهُدَ جَاءَ إِلَى سُلَيْمَانَ بِخَبَرِ مَا عَايَنَهُ فِي مَدِينَةِ سَبَأٍ مِمَّا وَصَفَهُ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذَا الْبَحْثِ مِنَ الْمَأْثُورِ مَا يُوَضِّحُ هَذَا وَيُؤَيِّدُهُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْهُدْهُدَ جَاءَ سُلَيْمَانَ مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ بِخَبَرٍ يَقِينٍ، وَالنَّبَأُ: هُوَ الْخَبَرُ الْخَطِيرُ الشَّأْنِ، فَلَمَّا قَالَ الْهُدْهُدَ لِسُلَيْمَانَ مَا قَالَ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَهِيَ: بِلْقِيسُ بِنْتُ شُرَحْبِيلَ، وَجَدَهَا الْهُدْهُدُ تَمْلِكُ أَهْلَ سَبَأٍ، وَالْجُمْلَةُ هَذِهِ كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرُ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: ذَلِكَ النَّبَأُ الْيَقِينُ هُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ تَمْلُكُ هَؤُلَاءِ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ مُبَالَغَةٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَحْتَاجُهَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي زَمَانِهَا شَيْئًا، فَحَذَفَ شَيْئًا لِأَنَّ الْكَلَامَ قد دلّ عليه وَلَها

_ (1) . نوح: 17.

عَرْشٌ عَظِيمٌ أَيْ: سَرِيرٌ عَظِيمٌ، وَوَصَفَهُ بِالْعِظَمِ لِأَنَّهُ كَمَا قِيلَ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ، طُولُهُ ثَمَانُونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَارْتِفَاعُهُ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، مُكَلَّلٍ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ، وَالزَّبَرْجَدِ الْأَخْضَرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَرْشِ هُنَا الْمُلْكُ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى لِقَوْلِهِ: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّازِمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهَا امْرَأَةٌ مَلِكَةٌ عَلَى مَدَائِنِ الْيَمَنِ، ذَاتُ مُلْكٍ عَظِيمٍ وَسَرِيرٍ عَظِيمٍ، وَكَانَتْ كَافِرَةً مِنْ قَوْمٍ كُفَّارٍ وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: يَعْبُدُونَهَا مُتَجَاوِزِينَ عِبَادَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، قِيلَ: كَانُوا مَجُوسًا، وَقِيلَ: زَنَادِقَةً وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا، وَهِيَ عِبَادَةُ الشَّمْسِ وَسَائِرُ أَعْمَالِ الْكُفْرِ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أَيْ: صَدَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّزْيِينِ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى ذَلِكَ أَلَّا يَسْجُدُوا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ «أَلَّا» . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَقْفُ عَلَى فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ غَيْرُ تَامٍّ عِنْدَ مَنْ شَدَّدَ أَلَّا، لأنَّ الْمَعْنَى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَلَّا يَسْجُدُوا. قَالَ النَّحَّاسُ: هِيَ أَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهَا لَا، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ زَيَّنَ لَهُمْ أَنْ لَا يَسْجُدُوا لِلَّهِ بِمَعْنَى لِئَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ في موضع نصب يصدّهم، أَيْ: فَصَدَّهُمْ أَلَا يَسْجُدُوا بِمَعْنَى لِئَلَّا يَسْجُدُوا، فَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَفْعُولٌ لَهُ. وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ: إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَعْمَالَهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ السَّبِيلِ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا: لَا يَهْتَدُونَ، أَيْ: فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ، وَتَكُونُ (لَا) عَلَى هَذَا زَائِدَةً كَقَوْلِهِ: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ وعلى قراءة الجمهور ليس هَذِهِ الْآيَةُ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ بِتَرْكِ السُّجُودِ: إِمَّا بِالتَّزْيِينِ أَوْ بِالصَّدِّ أَوْ بِمَنْعِ الِاهْتِدَاءِ، وَقَدْ رَجَّحَ كَوْنَهُ عِلَّةً لِلصَّدِّ الزَّجَّاجُ، وَرَجَّحَ الْفَرَّاءُ كَوْنَهُ عِلَّةً لِزَيَّنَ، قَالَ: زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ لِئَلَّا يَسْجُدُوا، ثُمَّ حُذِفَتِ اللَّامُ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ «أَلَّا» . قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَا كُنْتُ أَسْمَعُ الْأَشْيَاخَ يَقْرَءُونَهَا إِلَّا بِالتَّخْفِيفِ عَلَى نِيَّةِ الْأَمْرِ، فَتَكُونُ «أَلَا» عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ حَرْفَ تَنْبِيهٍ وَاسْتِفْتَاحٍ وَمَا بعدها حرف نداء، واسجدوا فِعْلَ أَمْرٍ، وَكَانَ حَقُّ الْخَطِّ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا «أَلَا يَا اسْجُدُوا» ، وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْقَطُوا الْأَلِفَ من يا وهمزة الوصل من اسجدوا وَوَصَلُوا الْيَاءَ بِسِينِ اسْجُدُوا، فَصَارَتْ صُورَةُ الْخَطِّ أَلَا يَسْجُدُوا، وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: أَلَا يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا، وَقَدْ حَذَفَتِ الْعَرَبُ الْمُنَادَى كَثِيرًا فِي كَلَامِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا يَا اسلمي يا دارميّ عَلَى الْبِلَى ... وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَلَا يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلِمِي ثمَّتَ اسْلِمِي ... ثَلَاثَ تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكَلَّمِ وقول الآخر أيضا: أر يَا اسْلِمِي يَا هِنْدُ هِنْدُ بَنِي بَكْرٍ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ تَقْتَضِي وُجُوبَ السُّجُودِ دُونَ قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ،

وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلِقِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ وَجْهٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ فِيهَا انْقِطَاعُ الْخَبَرِ عَنْ أَمْرِ سَبَأٍ ثُمَّ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِهِمْ، وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ خَبَرٌ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا انْقِطَاعَ فِي وَسَطِهِ، وَكَذَا قَالَ النَّحَّاسُ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ جُمْلَةُ أَلَّا يَسْجُدُوا مُعْتَرِضَةً مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ، أَوْ مِنْ كَلَامِ سُلَيْمَانَ، أَوْ من كلام الله سبحانه. وفي قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «هَلْ لَا تَسْجُدُوا» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «أَلَّا تَسْجُدُوا» بِالْفَوْقِيَّةِ أَيْضًا الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: يُظْهِرُ مَا هُوَ مَخْبُوءٌ وَمَخْفِيٌّ فِيهِمَا، يُقَالُ: خَبَأْتُ الشَّيْءَ أَخْبَؤُهُ خَبْأً، وَالْخَبْءُ مَا خَبَّأْتَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْخَبْءَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْقَطْرِ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: خَبْءُ الْأَرْضِ كُنُوزُهَا وَنَبَاتُهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَبْءُ السِّرُّ. قَالَ النَّحَّاسُ، أي: ما غاب في السموات وَالْأَرْضِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «الْخَبَ» بِفَتْحِ الْبَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ تَخْفِيفًا، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَعِكْرِمَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ «الْخَبَا» بِالْأَلْفِ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ سِيبَوَيْهِ حَكَى عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ الْأَلِفَ تُبَدَّلُ مِنَ الْهَمْزَةِ إِذَا كَانَ قَبْلَهَا سَاكِنٌ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ الله «يخرج الخبء من السموات والأرض» . قال الفراء: ومن وفي يَتَعَاقَبَانِ، وَالْمَوْصُولُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ نَعْتًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، أو بيانا له، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَجُمْلَةُ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى يُخْرِجُ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّحْتِيَّةِ فِي الْفِعْلَيْنِ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرَيُّ وعيسى بن عمر وحفص وَالْكِسَائِيُّ بِالْفَوْقِيَّةِ لِلْخِطَابِ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَلِكَوْنِ الضَّمَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ ضَمَائِرَ غَيْبَةٍ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَلِكَوْنِ قِرَاءَةِ الزُّهْرِيِّ وَالْكِسَائِيِّ فِيهَا الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ وَالْخِطَابُ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَهَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ الْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُخْرِجُ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ مِنَ الْخَفَاءِ بِعِلْمِهِ لَهُ كَمَا يُخْرِجُ مَا خَفِيَ فِي السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ بَعْدَ مَا وَصَفَ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَجَلِيلِ سُلْطَانِهِ وَوُجُوبِ تَوْحِيدِهِ وَتَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ قَالَ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ الْعَظِيمِ بِالْجَرِّ نَعَتًا لِلْعَرْشِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالرَّفْعِ نَعَتًا لِلرَّبِّ، وَخُصَّ الْعَرْشُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمَرْفُوعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْعِمْ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ حَمْدُهُ أَفْضَلُ مِنْ نِعْمَتِهِ لَوْ كُنْتَ لَا تَعْرِفُ ذَلِكَ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَفْضَلُ مِمَّا أُعْطِي دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ. أَقُولُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا فَهِمَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا حَمِدَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا فَضَّلَهُمَا بِهِ مِنَ النِّعَمِ، فَمِنْ أَيْنَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَمْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ نِعْمَتِهِ؟ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ قَالَ: وِرْثُهُ نَبُّوَّتُهُ وَمُلْكُهُ وَعِلْمُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِي قَالَ: «خَرَجَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ، فمرّ على

نَمْلَةٍ مُسْتَلْقِيَةٍ عَلَى قَفَاهَا رَافِعَةٍ قَوَائِمَهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ لَيْسَ بِنَا غِنًى عَنْ رِزْقِكَ، فَإِمَّا أَنْ تَسْقِيَنَا وَإِمَّا أَنْ تُهْلِكَنَا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلنَّاسِ: ارْجِعُوا فَقَدْ سُقِيتُمْ بِدَعْوَةِ غَيْرِكُمْ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: أُعْطِيَ سُلَيْمَانُ مُلْكَ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فَمَلَكَ سُلَيْمَانُ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، مَلَكَ أَهْلَ الدُّنْيَا كُلَّهُمْ، مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالدَّوَابِّ، وَالطَّيْرِ، وَالسِّبَاعِ، وَأُعْطِيَ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَنْطِقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي زَمَانِهِ صُنِعَتِ الصَّنَائِعُ الْمُعْجِبَةُ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْدِعَ عِلْمَ اللَّهِ وَحِكْمَتَهُ أَخَاهُ، وَوَلَدُ دَاوُدَ كَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ رَجُلًا أَنْبِيَاءً بلا رسالة. قال الذهبي: وَقَدْ رُوِيَتْ قِصَصٌ فِي عِظَمِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ لَا تَطِيبُ النَّفْسُ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَالْإِمْسَاكُ عَنْ ذِكْرِهَا أَوْلَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ يُوزَعُونَ قَالَ يُدْفَعُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ يُوزَعُونَ قَالَ: جُعِلَ لِكُلِّ صِنْفٍ وَزَعَةٌ، تُرَدُّ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا، لِئَلَّا تَتَقَدَّمَهُ فِي السَّيْرِ كَمَا تَصْنَعُ الْمُلُوكُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَوْزِعْنِي قَالَ: أَلْهِمْنِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ كَيْفَ تَفَقَّدَ سُلَيْمَانُ الْهُدْهُدَ مِنْ بَيْنِ الطَّيْرِ؟ قَالَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ نَزَلَ مَنْزِلًا فَلَمْ يَدْرِ مَا بَعْدَ الْمَاءِ، وَكَانَ الْهُدْهُدُ يَدُلُّ سُلَيْمَانَ عَلَى الْمَاءِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ فَفَقَدَهُ، قِيلَ: كَيْفَ ذَاكَ وَالْهُدْهُدُ يُنْصَبُ لَهُ الْفَخُّ، يُلْقَى عَلَيْهِ التُّرَابُ، وَيَضَعُ لَهُ الصَّبِيُّ الْحِبَالَةَ فَيُغَيِّبُهَا فَيَصِيدُهُ؟ فَقَالَ: إِذَا جَاءَ الْقَضَاءُ ذَهَبَ الْبَصَرُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً قَالَ: أَنْتِفُ رِيشَهُ كُلَّهُ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ اسْمُ هُدْهُدِ سُلَيْمَانَ غَبَرَ. وَأَقُولُ: مِنْ أَيْنَ جَاءَ عِلْمُ هَذَا لِلْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ؟ وَهَكَذَا مَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ اسْمَ النَّمْلَةِ حَرَسُ، وَأَنَّهَا مِنْ قَبِيلَةٍ يقال لها بنو الشيصان، وَأَنَّهَا كَانَتْ عَرْجَاءَ، وَكَانَتْ بِقَدْرِ الذِّئْبِ، وَهُوَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْرَعُ النَّاسِ عَنْ نَقْلِ الْكَذِبِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَسَنِ إِسْنَادٌ مُتَّصِلٌ بِسُلَيْمَانَ، أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَهَذَا الْعِلْمُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ لَا نُصَدِّقَهُمْ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ، فإن ترخص بِالرِّوَايَةِ عَنْهُمْ لِمِثْلِ مَا رُوِيَ «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» فَلَيْسَ ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِلَا شَكٍّ، بل فيما يذكر عَنْهُمْ مِنَ الْقِصَصِ الْوَاقِعَةِ لَهُمْ، وَقَدْ كَرَّرْنَا التَّنْبِيهَ عَلَى مِثْلِ هَذَا عِنْدَ عُرُوضِ ذِكْرِ التَّفَاسِيرِ الْغَرِيبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قَالَ: خَبَرُ الْحَقِّ الصِّدْقُ الْبَيِّنُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ حُجَّةٌ وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَيُّ سُلْطَانٍ كَانَ لِلْهُدْهُدِ؟ يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّلْطَانِ الْحُجَّةُ لَا السُّلْطَانُ الَّذِي هُوَ الْمُلْكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ قَالَ: اطَّلَعَتْ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا

[سورة النمل (27) : الآيات 27 إلى 40]

وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ قَالَ: سَبَأٌ بِأَرْضِ الْيَمَنِ، يُقَالُ لَهَا مَأْرِبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ قَالَ: بِخَبَرٍ حَقٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ قَالَ: كَانَ اسْمُهَا بِلْقِيسَ بِنْتَ ذِي شِيرَةَ، وَكَانَتْ صَلْبَاءَ شعراء. وروي عن الحسن وقتادة وَزُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا بِلْقِيسُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِنْتُ ذِي شَرْحٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «أحد أَبَوَيْ بِلْقِيسَ كَانَ جِنِّيًّا» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ قَالَ: سَرِيرٌ كَرِيمٌ مِنْ ذَهَبٍ وَقَوَائِمُهُ مِنْ جَوْهَرٍ وَلُؤْلُؤٍ حَسَنُ الصَّنْعَةِ غَالِي الثَّمَنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يُخْرِجُ الْخَبْءَ قَالَ: يَعْلَمُ كُلَّ خَبِيئَةٍ فِي السَّمَاءِ والأرض. [سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 40] قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) جُمْلَةُ قالَ سَنَنْظُرُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: قَالَ سُلَيْمَانُ لِلْهُدْهُدِ: سَنَنْظُرُ فِيمَا أَخْبَرْتَنَا بِهِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَصَدَقْتَ فِيمَا قُلْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولُ سَنَنْظُرُ، وَأَمْ هِيَ الْمُتَّصِلَةُ، وَقَوْلُهُ: أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ أَمْ كَذَبْتَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: مِنَ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِالْكَذِبِ وَصَارَ خُلُقًا لَهُمْ. وَالنَّظَرُ هُوَ التَّأَمُّلُ وَالتَّصَفُّحُ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى الْبَحْثِ عَنِ الْأَخْبَارِ، وَالْكَشْفِ عَنِ الْحَقَائِقِ، وَعَدَمِ قَبُولِ خَبَرِ الْمُخْبِرِينَ تَقْلِيدًا لَهُمْ، وَاعْتِمَادًا عَلَيْهِمْ، إِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُلَيْمَانُ هَذَا النَّظَرَ الَّذِي وَعَدَ بِهِ فَقَالَ: اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أَيْ: إِلَى أَهْلِ سَبَأٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فِي أَلْقِهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِي اللَّفْظِ وَحَذْفُهَا، وَإِثْبَاتُ الْكَسْرَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَبِضَمِّ الْهَاءِ وَإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَبِحَذْفِ الْوَاوِ وَإِثْبَاتِ الضَّمَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَبِإِسْكَانِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ بِهَذِهِ اللُّغَةِ الْخَامِسَةِ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ. وَقَرَأَ قَالُونُ بِكَسْرِ الْهَاءِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ. وَرُوِيَ عَنْ هِشَامٍ وَجْهَانِ: إِثْبَاتُ الْيَاءِ

لَفَظًا وَحَذْفُهَا مَعَ كَسْرِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي اللَّفْظِ، وَقَوْلُهُ: بِكِتابِي هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ صِفَةً لِلْكِتَابِ، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ بَيَانًا لَهُ، وَخَصَّ الْهُدْهُدَ بِإِرْسَالِهِ بِالْكِتَابِ لِأَنَّهُ الْمُخْبِرُ بِالْقِصَّةِ، وَلِكَوْنِهِ رَأَى مِنْهُ مِنْ مَخَايِلِ الْفَهْمِ، والعلم، وما يَقْتَضِي كَوْنَهُ أَهْلًا لِلرِّسَالَةِ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أَيْ تَنَحَّ عَنْهُمْ، أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِ التَّنَحِّي بَعْدَ دَفْعِ الْكِتَابِ مِنْ أَحْسَنِ الْآدَابِ الَّتِي يَتَأَدَّبُ بِهَا رُسُلُ الْمُلُوكِ، وَالْمُرَادُ: التَّنَحِّي إِلَى مَكَانٍ يَسْمَعُ فِيهِ حَدِيثَهُمْ، حَتَّى يُخْبِرَ سُلَيْمَانَ بِمَا سَمِعَ، وَقِيلَ: مَعْنَى التَّوَلِّي: الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ أَيْ: تَأَمَّلْ وَتَفَكَّرْ فِيمَا يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَمَا يَتَرَاجَعُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْكَلَامِ قالَتْ أي: بلقيس يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبَ الْهُدْهُدُ فَأَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ، فَسَمِعَهَا تَقُولُ: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِلَخْ، وَوَصَفَتِ الْكِتَابَ بِالْكَرِيمِ، لِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ عَظِيمٍ فِي نَفْسِهَا، فَعَظَّمَتْهُ إِجْلَالًا لِسُلَيْمَانَ، وَقِيلَ: وَصَفَتْهُ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى كَلَامٍ حَسَنٍ، وَقِيلَ: وَصَفَتْهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ وَصَلَ إِلَيْهَا مَخْتُومًا بِخَاتَمِ سُلَيْمَانَ، وَكَرَامَةُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا، ثُمَّ بَيَّنَتْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْكِتَابُ فَقَالَتْ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَيْ: وَإِنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ وَتَضَمَّنَهُ مِنَ الْقَوْلِ مُفْتَتَحٌ بِالتَّسْمِيَةِ وبعد التسمية أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى أَيْ: لَا تَتَكَبَّرُوا كَمَا يَفْعَلُهُ جبابرة الملوك، وأن هي المفسرة، وقيل: مصدرية، ولا: نَاهِيَةٌ، وَقِيلَ: نَافِيَةٌ، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ كِتَابٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ أَنْ لَا تَعْلُوا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ» بِكَسْرِهِمَا عَلَى الاستئناف، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحهما عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَقَرَأَ أَبَيٌّ «إِنَّ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّ بِسْمِ اللَّهِ» بِحَذْفِ الضَّمِيرَيْنِ وإسكان النونين على أنهما مُفَسِّرَتَانِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «وَإِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ» بِزِيَادَةِ الْوَاوِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عن أبيّ. وقرأ أشهب العقيلي وابن السميقع «أن لا تغلو» بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْغُلُوِّ، وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْكِبَرِ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أَيْ: مُنْقَادِينَ لِلدِّينِ، مؤمنين بما جئت به قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي الْمَلَأُ: أَشْرَافُ الْقَوْمِ، وَالْمَعْنَى يَا أَيُّهَا الْأَشْرَافُ أَشِيرُوا عَلَيَّ وَبَيِّنُوا لِي الصَّوَابَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَأَجِيبُونِي بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَزْمُ، وَعَبَّرَتْ عَنِ الْمَشُورَةِ بِالْفَتْوَى، لِكَوْنِ فِي ذَلِكَ حَلٌّ لِمَا أَشْكَلَ مِنَ الْأَمْرِ عَلَيْهَا، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا قَرَأَتْ بِلْقِيسُ الْكِتَابَ، جَمَعَتْ أَشْرَافَ قَوْمِهَا وَقَالَتْ لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِي إِلَيَّ، يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي، وَكَرَّرَ قَالَتْ لِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ بِمَا قَالَتْهُ لَهُمْ، ثُمَّ زَادَتْ فِي التَّأَدُّبِ وَاسْتِجْلَابِ خَوَاطِرِهِمْ لِيَمْحَضُوهَا النُّصْحَ، وَيُشِيرُوا عَلَيْهَا بِالصَّوَابِ فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ أَيْ: مَا كُنْتُ مُبْرِمَةً أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ حَتَّى تَحْضُرُوا عِنْدِي، وَتُشِيرُوا عليّ، ف قالُوا مجيبين لها نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ في العدد والعدّة وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ عِنْدَ الْحَرْبِ وَاللِّقَاءِ، لَنَا مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالنَّجْدَةِ مَا نَمْنَعُ بِهِ أَنْفُسَنَا، وَبَلَدَنَا، وَمَمْلَكَتَنَا. ثُمَّ فَوَّضُوا الْأَمْرَ إِلَيْهَا لِعِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ رَأْيِهَا، وَقُوَّةِ عَقْلِهَا فَقَالُوا: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أَيْ: مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِكِ وَنَظَرِكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ أَيْ: تَأَمَّلِي مَاذَا تَأْمُرِينَا بِهِ فَنَحْنُ سَامِعُونَ لِأَمْرِكِ مُطِيعُونَ لَهُ، فَلَمَّا سَمِعَتْ تَفْوِيضَهُمُ الْأَمْرَ إِلَيْهَا قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها أَيْ: إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً مِنَ الْقُرَى خرّبوا مبانيها، وغيروا مغانيها، وأتلفوا

أَمْوَالَهَا، وَفَرَّقُوا شَمْلَ أَهْلِهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أَيْ: أَهَانُوا أَشْرَافَهَا، وَحَطُّوا مَرَاتِبَهُمْ، فَصَارُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَذِلَّةً وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَتِمَّ لَهُمُ الْمُلْكُ، وَتُسْتَحْكَمَ لَهُمُ الْوَطْأَةُ وَتَتَقَرَّرُ لَهُمْ فِي قُلُوبِهِمُ الْمَهَابَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: إِذَا دَخَلُوهَا عَنْوَةً عَنْ قِتَالٍ وَغَلَبَةٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهَا هَذَا، تَحْذِيرُ قَوْمِهَا مِنْ مَسِيرِ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِمْ وَدُخُولِهِ بِلَادَهُمْ، وَقَدْ صَدَّقَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا قَالَتْ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ يَفْعَلُونَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَقْفٌ تَامٌّ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهَا: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ وَقِيلَ: هَذِهِ الجملة من تمام كلامها، فتكون من جُمْلَةَ مَقُولِ قَوْلِهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. ثُمَّ لَمَّا قَدَّمَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ، وَبَيَّنَتْ لَهُمْ مَا فِي دُخُولِ الْمُلُوكِ إِلَى أَرْضِهِمْ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، أَوْضَحَتْ لَهُمْ وَجْهَ الرَّأْيِ عِنْدَهَا، وَصَرَّحَتْ لَهُمْ بِصَوَابِهِ فَقَالَتْ: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ أَيْ: إِنِّي أُجَرِّبُ هَذَا الرَّجُلَ بِإِرْسَالِ رُسُلِي إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ كَانَ مَلِكًا أَرْضَيْنَاهُ بِذَلِكَ، وَكُفِينَا أَمْرَهُ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يُرْضِهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ غَايَةَ مَطْلَبِهِ وَمُنْتَهَى أَرَبِهِ هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى الدِّينِ، فَلَا يُنْجِينَا مِنْهُ إِلَّا إِجَابَتُهُ وَمُتَابَعَتُهُ وَالتَّدَيُّنُ بِدِينِهِ وَسُلُوكُ طَرِيقَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَتْ: فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مرسلة، وبم: مُتَعَلِّقٌ بِيَرْجِعُ، وَالْمَعْنَى: إِنِّي نَاظِرَةٌ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ رُسُلِيَ الْمُرْسَلُونَ بِالْهَدِيَّةِ، مِنْ قَبُولٍ أَوْ رَدٍّ فَعَامِلَةٌ بِمَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ، وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْهَدِيَّةِ، وَسَيَأْتِي فِي آخر البحث بين مَا هُوَ أَقْرَبُ مَا قِيلَ إِلَى الصَّوَابِ وَالصِّحَّةِ فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ أَيْ: فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُهَا الْمُرْسَلُ بِالْهَدِيَّةِ سُلَيْمَانَ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْمُضْمَرِ الْجِنْسُ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ جَمَاعَةً كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهَا: «بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ» وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ «فَلَمَّا جَاءُوا سُلَيْمَانَ» أَيِ: الرُّسُلُ، وَجُمْلَةُ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ مُسْتَأْنَفَةٌ، جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، والاستفهام للإنكار، أَيْ: قَالَ مُنْكِرًا لِإِمْدَادِهِمْ لَهُ بِالْمَالِ، مَعَ عُلُوِّ سُلْطَانِهِ، وَكَثْرَةِ مَالِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِإِدْغَامِ نُونِ الْإِعْرَابِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ، وَالْبَاقُونَ بِنُونَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِدْغَامٍ، وَأَمَّا الْيَاءُ فَإِنَّ نَافِعًا وَأَبَا عَمْرٍو وَحَمْزَةَ يُثْبِتُونَهَا وَصْلًا، وَيَحْذِفُونَهَا وَقْفًا، وَابْنُ كَثِيرٍ يُثْبِتُهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَالْبَاقُونَ يَحْذِفُونَهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ يَقْرَأُ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أَيْ: مَا آتَانِي مِنَ النُّبُوَّةِ، وَالْمُلْكِ الْعَظِيمِ، وَالْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ مِنَ المال الذي هذه الهدية من جملته. قرأ أبو عمرو ونافع وحفص «آتَانِيَ اللَّهُ» بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ، وَحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. ثُمَّ إِنَّهُ أَضْرَبَ عَنِ الْإِنْكَارِ الْمُتَقَدِّمِ فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ تَوْبِيخًا لَهُمْ بِفَرَحِهِمْ بِهَذِهِ الْهَدِيَّةِ فَرَحَ فَخْرٍ وَخُيَلَاءَ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَفْرَحُ بِهَا، وَلَيْسَتِ الدُّنْيَا مِنْ حَاجَتِي، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَعْطَانِي مِنْهَا، مَا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ أَكْرَمَنِي بِالنُّبُوَّةِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْإِضْرَابِ مِنْ سُلَيْمَانَ بَيَانُ السَّبَبِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى الْهَدِيَّةِ مَعَ الْإِزْرَاءِ بِهِمْ، وَالْحَطِّ عَلَيْهِمْ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها أَيْ: قَالَ سُلَيْمَانُ لِلرَّسُولِ: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ: أَيْ: إِلَى بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا، وَخَاطَبَ الْمُفْرَدَ هَاهُنَا بَعْدَ خِطَابِهِ لِلْجَمَاعَةِ فِيمَا قَبْلُ، إِمَّا لِأَنَّ الَّذِي سَيَرْجِعُ هُوَ الرَّسُولُ فَقَطْ، أَوْ خَصَّ أَمِيرَ الرُّسُلِ بِالْخِطَابِ هُنَا، وَخَاطَبَهُمْ مَعَهُ فِيمَا سَبَقَ افْتِنَانًا فِي الْكَلَامِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ «ارْجِعُوا» وَقِيلَ: إِنَّ الضمير يرجع إلى الهدهد، واللام في

لنأتيهم جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُ ابْنَ كَيْسَانَ يَقُولُ: هِيَ لَامُ تَوْكِيدٍ وَلَامُ أَمْرٍ وَلَامُ خَفْضٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْحُذَّاقُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ لِأَنَّهُمْ يَرُدُّونَ الشَّيْءَ إِلَى أَصْلِهِ، وَهَذَا لَا يَتَهَيَّأُ إِلَّا لِمَنْ دُرِّبَ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَمَعْنَى «لا قبل لهم» : لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهَا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ صِفَةٌ لِجُنُودٍ وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ، أَيْ: لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْ أَرْضِهِمُ الَّتِي هُمْ فِيهَا أَذِلَّةً أَيْ: حَالُ كَوْنِهِمْ أَذِلَّةً بَعْدَ مَا كَانُوا أَعِزَّةً، وَجُمْلَةُ وَهُمْ صاغِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، قِيلَ: وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ الصَّغَارَ هُوَ الذِّلَّةُ، وَقِيلَ: إِنَّ المراد بالصغار هنا الأسر والاستعباد، وَقِيلَ: إِنَّ الصَّغَارَ الْإِهَانَةُ الَّتِي تَسَبَّبَ عَنْهَا الذِّلَّةُ. وَلَمَّا رَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى بِلْقِيسَ تَجَهَّزَتْ لِلْمَسِيرِ إِلَى سُلَيْمَانَ، وَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ ف قالَ سليمان: يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها أَيْ: عَرْشِ بِلْقِيسَ الَّذِي تَقَدَّمَ وَصْفُهُ بِالْعِظَمِ قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أَيْ: قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي هِيَ وَقَوْمُهَا مُسْلِمِينَ. قِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ سُلَيْمَانُ أَخْذَ عَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ وَيُسْلِمُوا، لِأَنَّهَا إِذَا أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَ قَوْمُهَا لَمْ يَحِلَّ أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ سُلَيْمَانَ هِيَ بَعْدَ مَجِيءِ هَدِيَّتِهَا وَرَدِّهِ إِيَّاهَا وَبَعْثِهِ الْهُدْهُدَ بِالْكِتَابِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَقِيلَ: اسْتِدْعَاءُ الْعَرْشِ قَبْلَ وُصُولِهَا لِيُرِيَهَا الْقُدْرَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَجْعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ عَقْلَهَا، وَلِهَذَا قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها إِلَخْ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ صِدْقَ الْهُدْهُدِ فِي وَصْفِهِ لِلْعَرْشِ بِالْعِظَمِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالتَّاءِ، وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي وابن السميقع وَأَبُو السِّمَالِ «عِفْرِيَهْ» بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَهَا تَاءُ تَأْنِيثٍ مُنْقَلِبَةٍ هَاءً رُوَيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيَّانَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ. وَالْعِفْرِيتُ: الْمَارِدُ الْغَلِيظُ الشَّدِيدُ. قَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ لِلشَّدِيدِ إِذَا كَانَ مَعَهُ خُبْثٌ وَدَهَاءٌ عِفْرٌ وَعِفْرِيَهْ وَعِفْرِيتٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الدَّاهِيَةُ، وَقِيلَ: هُوَ رَئِيسُ الْجِنِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ «عِفْرٌ» بِكَسْرِ الْعَيْنِ جَمْعُهُ عَلَى عِفَارٍ، وَمِمَّا وَرَدَ مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ مُطَابِقًا لقراءة الجمهور وما أَنْشَدَهُ الْكِسَائِيُّ: فَقَالَ شَيْطَانٌ لَهُمْ عِفْرِيتٌ ... مَا لَكُمْ مُكْثٌ وَلَا تَبْيِيتٌ «1» وَمِمَّا وَرَدَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عِفْرِيَةٍ ... مُصَوَّبٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ مُنْقَضِبُ وَمَعْنَى قَوْلِ الْعِفْرِيتِ أَنَّهُ سَيَأْتِي بِالْعَرْشِ إِلَى سُلَيْمَانَ، قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ لِلْحُكُومَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ إِنِّي لِقَوِيٌّ عَلَى حَمْلِهِ أَمِينٌ عَلَى مَا فِيهِ. قِيلَ: اسْمُ هَذَا الْعِفْرِيتِ كُودَنْ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: ذَكْوَانُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ دَعْوَانُ، وقيل: صخر. وقوله:

_ (1) . في القرطبي 13/ 203: إذ قال شيطانهم العفريت ... ليس لكم ملك ولا تثبيت

آتِيكَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ، وَأَصْلُهُ أَأْتِيكَ بِهَمْزَتَيْنِ، فَأُبْدِلَتِ الثَّانِيَةُ أَلِفًا، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: اسْمُ هَذَا الَّذِي عِنْدَهُ عَلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ آصِفُ بْنُ بَرْخِيَا، وَهُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ وَزِيرًا لِسُلَيْمَانَ، وَكَانَ يَعْلَمُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ هُوَ سُلَيْمَانُ نَفْسُهُ، وَيَكُونُ الْخِطَابُ عَلَى هَذَا لِلْعِفْرِيتِ: كَأَنَّ سُلَيْمَانَ اسْتَبْطَأَ مَا قَالَهُ الْعِفْرِيتُ، فَقَالَ لَهُ تَحْقِيرًا لَهُ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ وَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ، وَقِيلَ: الْخِضْرُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ. وَالْمُرَادُ بِالطَّرْفِ: تَحْرِيكُ الْأَجْفَانِ وَفَتْحِهَا للنظر وارتداده انضمامها. وقيل: هو بمعنى الْمَطْرُوفِ، أَيِ: الشَّيْءِ الَّذِي يَنْظُرُهُ، وَقِيلَ: هُوَ نَفْسُ الْجَفْنِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ سُرْعَةِ الْأَمْرِ كما تقول لصاحبه: افْعَلْ ذَلِكَ فِي لَحْظَةٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ: انْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ فَمَا طَرَفَ حَتَّى جَاءَ بِهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَالْمَعْنَى: حَتَّى يَعُودَ إِلَيْكَ طَرْفُكَ بَعْدَ مَدِّهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ: ثُمَّ الثَّالِثُ: فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قِيلَ: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَذِنَ لَهُ سُلَيْمَانُ فَدَعَا اللَّهَ فَأَتَى بِهِ، فَلَمَّا رَآهُ سُلَيْمَانُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ، أَيْ: رَأَى الْعَرْشَ حَاضِرًا لَدَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى حُضُورِ الْعَرْشِ، لِيَبْلُوَنِي: أَيْ لِيَخْتَبِرَنِي أَشْكُرُهُ بِذَلِكَ وَأَعْتَرِفُ أَنَّهُ مِنْ فَضْلِهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، أَمْ أَكْفُرُ بِتَرْكِ الشُّكْرِ، وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى لِيَنْظُرَ: أَأَشْكَرُ أَمْ أَكْفُرُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى لِيَبْلُوَنِي لِيَتَعَبَّدَنِي، وَهُوَ مَجَازٌ، وَالْأَصْلُ فِي الِابْتِلَاءِ: الِاخْتِبَارُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالشُّكْرِ تَمَامَ النِّعْمَةِ وَدَوَامَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ نَفْعُ ذَلِكَ إِلَّا إِلَى الشَّاكِرِ وَمَنْ كَفَرَ بِتَرْكِ الشُّكْرِ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِهِ كَرِيمٌ فِي تَرْكِ الْمُعَاجَلَةِ بِالْعُقُوبَةِ بِنَزْعِ نِعَمِهِ عَنْهُ وَسَلْبِهِ مَا أَعْطَاهُ مِنْهَا، وأم فِي «أَمْ أَكْفُرُ» هِيَ الْمُتَّصِلَةُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ كُنْ قَرِيبًا مِنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ فَانْطَلَقَ بِالْكِتَابِ حَتَّى إِذَا تَوَسَّطَ عَرْشَهَا أَلْقَى الْكِتَابَ إليها فقرىء عَلَيْهَا فَإِذَا فِيهِ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ كِتابٌ كَرِيمٌ قَالَ: مَخْتُومٌ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتُبُ «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» حَتَّى نَزَلَتْ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَفْتُونِي فِي أَمْرِي قال: جمعت رؤوس مَمْلَكَتِهَا، فَشَاوَرَتْهُمْ فِي رَأْيِهَا، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ وَرَأْيُهَا عَلَى أَنْ يَغْزُوَهُ، فَسَارَتْ حَتَّى إِذَا كَانَتْ قَرِيبَةً قَالَتْ: أَرْسِلُ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ، فَإِنْ قَبِلَهَا فَهُوَ مَلِكٌ أُقَاتِلُهُ، وَإِنَّ رَدَّهَا تَابَعْتُهُ فَهُوَ نَبِيٌّ. فَلَمَّا دَنَتْ رُسُلُهَا مِنْ سُلَيْمَانَ عَلِمَ خَبَرَهُمْ، فَأَمَرَ الشَّيَاطِينَ فَمَوَّهُوا أَلْفَ قَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَلَمَّا رَأَتْ رُسُلُهَا قُصُورَ الذَّهَبِ قَالُوا: مَا يَصْنَعُ هَذَا بِهَدِيَّتِنَا، وَقُصُورُهُ ذَهَبٌ وفضة، فلما دخلوا عليه بهديتها قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فَقَالَ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ: ارْفَعْ بَصَرَكَ فَرَفْعَ بَصَرَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ طَرَفُهُ فَإِذَا هُوَ بِسَرِيرٍ

[سورة النمل (27) : الآيات 41 إلى 44]

قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها فَنَزَعَ مِنْهُ فُصُوصَهُ وَمَرَافِقَهُ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَ قِيلَ لَهَا أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وأمر الشياطين فجعلوا لها صرحا ممرّدا من قوارير فيها تماثيل السمك، فيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا فَإِذَا فِيهَا شَعْرٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِصَنْعَةِ النُّورَةِ فَصُنِعَتْ، فَقِيلَ لَهَا: َّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها قَالَ: إِذَا أَخَذُوهَا عَنْوَةً أَخْرَبُوهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ قال: أرسلت لبنة مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا قَدِمُوا إِذَا حِيطَانُ الْمَدِينَةِ من ذهب فذلك قوله: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ الْآيَةَ. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ أَهَدَتْ لَهُ صَفَائِحَ الذَّهَبِ فِي أَوْعِيَةِ الدِّيبَاجِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَوَارِي لِبَاسُهُنَّ لِبَاسُ الْغِلْمَانِ، وَغِلْمَانٌ لِبَاسُهُمْ لِبَاسُ الْجَوَارِي. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَهْدَتْ مِائَتَيْ فَرَسٍ عَلَى كُلِّ فَرَسٍ غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ، وَعَلَى كُلِّ فَرَسٍ لَوْنٌ لَيْسَ عَلَى الْآخَرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتِ الْهَدِيَّةُ جَوَاهِرَ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ: طَائِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: اسْمُ الْعِفْرِيتِ: صَخْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قَالَ: مِنْ مَجْلِسِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ قَالَ: هُوَ آصِفُ بْنُ بَرْخِيَا، وَكَانَ صَدِيقًا يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن مُجَاهِدٍ قَالَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا أَنْظُرُ فِي كِتَابِ رَبِّي، ثُمَّ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» قَالَ: فَتَكَلَّمَ ذَلِكَ الْعَالِمُ بِكَلَامٍ دَخَلَ الْعَرْشَ فِي نَفَقٍ تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ قَالَ: قَالَ لِسُلَيْمَانَ انْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَمَا أَطْرَفَ حَتَّى جَاءَهُ بِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَجْرِ عَرْشُ صَاحِبَةِ سَبَأٍ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَلَكِنِ انْشَقَّتْ بِهِ الْأَرْضُ، فَجَرَى تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى ظَهَرَ بَيْنَ يدي سليمان. [سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44] قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) قَوْلُهُ: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها التَّنْكِيرُ: التَّغْيِيرُ، يَقُولُ: غَيِّرُوا سَرِيرَهَا إِلَى حَالٍ تُنْكِرُهُ إِذَا رَأَتْهُ. قِيلَ: جَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ، وَقِيلَ: غُيِّرَ بِزِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا أَمَرَ بِتَنْكِيرِهِ لِأَنَّ

الشَّيَاطِينَ قَالُوا لَهُ إِنَّ فِي عَقْلِهَا شَيْئًا، فَأَرَادَ أَنْ يَمْتَحِنَهَا، وَقِيلَ: خَافَتِ الْجِنُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا سُلَيْمَانُ، فَيُولَدُ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ فَيَبْقَوْنَ مُسَخَّرِينَ لِآلِ سُلَيْمَانَ أَبَدًا، فَقَالُوا لِسُلَيْمَانَ إِنَّهَا ضَعِيفَةُ الْعَقْلِ وَرِجْلُهَا كَرِجْلِ الْحِمَارِ، وَقَوْلُهُ: نَنْظُرْ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَبِالْجَزْمِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ أَبُو حَيَّانَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَتَهْتَدِي إِلَى مَعْرِفَتِهِ، أَوْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى ذَلِكَ فَلَمَّا جاءَتْ أَيْ: بِلْقِيسُ إِلَى سُلَيْمَانَ قِيلَ لَهَا، وَالْقَائِلُ هُوَ سُلَيْمَانُ، أَوْ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ أَهكَذا عَرْشُكِ لَمْ يَقُلْ هَذَا عَرْشُكِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ تَلْقِينًا لَهَا فَلَا يَتِمُّ الِاخْتِبَارُ لِعَقْلِهَا قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ قَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلَتْ تَعْرِفُ وَتُنْكِرُ وَتَعْجَبُ مِنْ حُضُورِهِ عِنْدَ سُلَيْمَانَ، فَقَالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَرَفَتْهُ وَلَكِنَّهَا شَبَّهَتْ عَلَيْهِمْ كَمَا شَبَّهُوا عَلَيْهَا، وَلَوْ قِيلَ لَهَا: أَهَذَا عَرْشُكِ؟ لَقَالَتْ: نَعَمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَتْ حَكِيمَةً، قَالَتْ: إِنْ قَلْتُ هُوَ خَشِيتُ أَنْ أَكْذِبَ، وَإِنْ قُلْتُ لَا خَشِيتُ أَنْ أَكْذِبَ، فَقَالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ، وَقِيلَ: أَرَادَ سُلَيْمَانُ أَنْ يُظْهِرَ لَهَا أَنَّ الْجِنَّ مُسَخَّرُونَ لَهُ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ قِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ بِلْقِيسَ، أَيْ: أُوتِينَا الْعِلْمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْعَرْشِ «وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» مُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ، أَيْ: أتينا الْعِلْمَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ بِلْقِيسَ، وَقِيلَ: أُوتِينَا الْعِلْمَ بِإِسْلَامِهَا وَمَجِيئِهَا طَائِعَةً مِنْ قَبْلِهَا، أَيْ: مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهَا، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ قَوْمِ سُلَيْمَانَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَرْجَحُ مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بَيَانٌ لِمَا كَانَ يَمْنَعُهَا مِنْ إِظْهَارِ مَا ادَّعَتْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَفَاعِلُ صَدَّ هُوَ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، أَيْ: مَنَعَهَا مِنْ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ مَا كَانَتْ تَعْبُدُهُ، وَهِيَ الشَّمْسُ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَيْ صَدَّهَا عِبَادَتُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقِيلَ: فَاعِلُ صَدَّ هُوَ اللَّهُ، أَيْ: مَنَعَهَا اللَّهُ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِهِ فَتَكُونُ «مَا» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَقِيلَ: الْفَاعِلُ سُلَيْمَانُ، أَيْ: وَمَنَعَهَا سُلَيْمَانُ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْبَيَانِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَجُمْلَةُ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ تَعْلِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَيْ: سَبَبُ تَأَخُّرِهَا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمَنْعِ مَا كَانَتْ تَعْبُدُهُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ مُتَّصِفِينَ بِالْكُفْرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «إِنَّهَا» بِالْكَسْرِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيَّانَ بِالْفَتْحِ. وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجُمْلَةَ بَدَلٌ مِمَّا كَانَتْ تَعْبُدُ. وَالثَّانِي أَنَّ التَّقْدِيرَ: لِأَنَّهَا كَانَتْ تعبد، فسقط حرف التعليل يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّرْحُ: القصر. وقال الزجاج: الصرح الصحن. يُقَالُ هَذِهِ صَرْحَةُ الدَّارِ وَقَاعَتُهَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الصَّرْحُ بَلَاطٌ اتُّخِذَ لَهَا مِنْ قَوَارِيرَ وَجُعِلَ تَحْتَهُ مَاءٌ وَسَمَكٌ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ أَنَّ الصَّرْحَ كُلُّ بِنَاءٍ عَالٍ مرتفع، وأن الممرّد الطويل لَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها أَيْ: فَلَمَّا رَأَتِ الصَّرْحَ بَيْنَ يَدَيْهَا حَسِبَتْ أَنَّهُ لُجَّةٌ، وَاللُّجَّةُ مُعْظَمُ الْمَاءِ، فَلِذَلِكَ كَشَفَتْ عَنْ ساقيها لتخوض الماء، فلما فعلت ذلك الَ سليمان نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ الْمُمَرَّدُ الْمَحْكُوكُ الْمُمَلَّسُ، ومنه الأمر، وتمرّد الرجل إذا لم تخرج لحيته، قال الْفَرَّاءُ. وَمِنْهُ الشَّجَرَةُ الْمَرْدَاءُ الَّتِي لَا وَرَقَ لَهَا. وَالْمُمَرَّدُ أَيْضًا الْمُطَوَّلُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحِصْنِ: مَارِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: غَدَوْتُ صَبَاحًا بَاكِرًا فَوَجَدْتُهُمْ ... قُبَيْلَ الضُّحَى فِي السَّابِرِيِّ الْمُمَرَّدِ أَيِ: الدُّرُوعِ الْوَاسِعَةِ الطَّوِيلَةِ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِلْقِيسُ ذَلِكَ أذعنت واستسلمت، والَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي

[سورة النمل (27) : الآيات 45 إلى 53]

أَيْ: بِمَا كُنْتُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِكَ، وَقِيلَ: بِالظَّنِّ الَّذِي تَوَهَّمَتْهُ فِي سُلَيْمَانَ، لِأَنَّهَا تَوَهَّمَتْ أَنَّهُ أَرَادَ تَغْرِيقَهَا فِي اللُّجَّةِ، وَالْأَوَّلُ أولى أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ مُتَابِعَةً لَهُ دَاخِلَةً فِي دِينِهِ لَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الْتَفَتَتْ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، قِيلَ: لِإِظْهَارِ مَعْرِفَتِهَا بِاللَّهِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهَا الْتَفَتَتْ لِمَا فِي هَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَسْمَاءِ، وَلِكَوْنِهِ عَلَمًا لِلذَّاتِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها قَالَ: زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ لِ نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي قَالَ: لِنَنْظُرْ إِلَى عَقْلِهَا فَوُجِدَتْ ثَابِتَةُ الْعَقْلِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها قَالَ: مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: لَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً قَالَ: بَحْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي أَثَرٍ طَوِيلٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بكر ابن أَبِي شَيْبَةَ: مَا أَحْسَنَهُ مِنْ حَدِيثٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ حِكَايَتِهِ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: بَلْ هُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَلَعَلَّهُ مِنْ أَوْهَامِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْأَقْرَبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ أَنَّهَا مُتَلَقَّاةُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا يُوجَدُ فِي صُحُفِهِمْ، كَرِوَايَاتِ كَعْبٍ وَوَهْبٍ سَامَحَهُمَا اللَّهُ، فِيمَا نَقَلَا إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَوَابِدِ وَالْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ، مِمَّا كَانَ، وَمِمَّا لَمْ يَكُنْ، وَمِمَّا حُرِّفَ وَبُدِّلَ وَنُسِخَ، انْتَهَى، وَكَلَامُهُ هَذَا هُوَ شُعْبَةٌ مِمَّا قَدْ كَرَّرْنَاهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَنَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَى ذَلِكَ غَيْرِي. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِمِثْلِ هَذَا الْحَافِظِ المنصف. وأخرج البخاري في تاريخه والعقيلي عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَنْ صُنِعَتْ لَهُ الْحَمَّامَاتُ سُلَيْمَانُ» وروي عنه مرفوعا من طرق أُخْرَى رَوَاهَا الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عُدَيٍّ فِي الْكَامِلِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِلَفْظِ «أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ سُلَيْمَانُ فَلَمَّا وَجَدَ حَرَّهُ قَالَ أَوَّهُ من عذاب الله» . [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا معطوف على قوله: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَاللَّامُ: هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ جُمْلَةِ بَيَانِ قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ وصالِحاً عطف بيان،

وأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ تفسير للرسالة، وأن: هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: بِأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَإِذَا، فِي فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ هي: الفجائية، أي: ففاجؤوا التفرق والاختصام، والمراد بال فَرِيقانِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ وَالْكَافِرُونَ، وَمَعْنَى الِاخْتِصَامِ: أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يُخَاصِمُ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخُصُومَةَ بَيْنَهُمْ في صالح، هل هو مرسل أو لَا؟ وَقِيلَ: أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ: صَالِحٌ، وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ: جميع قومه، وهو ضعيف قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أَيْ: قَالَ صَالِحٌ لِلْفَرِيقِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ، مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟ قَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْعَذَابِ قَبْلَ الرَّحْمَةِ. وَالْمَعْنَى: لِمَ تُؤَخِّرُونَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجْلِبُ إِلَيْكُمُ الثَّوَابَ، وَتُقَدِّمُونَ الْكُفْرَ الَّذِي يَجْلِبُ إِلَيْكُمُ الْعُقُوبَةَ؟ وَقَدْ كَانُوا لِفَرْطِ كُفْرِهِمْ يَقُولُونَ: ائْتِنَا يَا صَالِحُ بِالْعَذَابِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ هَلَّا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، وَتَتُوبُونَ إِلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ رَجَاءً أَنْ تُرْحَمُوا أَوْ كَيْ تُرْحَمُوا فَلَا تُعَذَّبُوا، فَإِنَّ اسْتِعْجَالَ الْخَيْرِ، أَوْلَى مِنِ اسْتِعْجَالِ الشَّرِّ، وَوَصْفُ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ سَيِّئَةٌ مَجَازًا، إِمَّا لِأَنَّ الْعِقَابَ مِنْ لَوَازِمِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يُشْبِهُهُ فِي كَوْنِهِ مَكْرُوهًا، فَكَانَ جَوَابُهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الْإِرْشَادِ الصَّحِيحِ وَالْكَلَامِ اللَّيِّنِ أَنَّهُمْ قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أَصْلُهُ: تَطَيَّرْنَا، وَقَدْ قُرِئَ بِذَلِكَ، والتطير: التشاؤم، أي: تشاءمنا بك، وَبِمَنْ مَعَكَ مِمَّنْ أَجَابَكَ، وَدَخَلَ فِي دِينِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَصَابَهُمْ قَحْطٌ، فَتَشَاءَمُوا بِصَالِحٍ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ أَكْثَرُ النَّاسِ طِيَرَةً، وَأَشْقَاهُمْ بِهَا، وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا سَفَرًا، أَوْ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ، نَفَرُوا طَائِرًا مِنْ وَكْرِهِ، فَإِنْ طَارَ يَمْنَةً سَارُوا، وَفَعَلُوا مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ طَارَ يَسْرَةً تَرَكُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قالَ لَهُمْ صَالِحٌ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: ليس ذلك بسبب الطير الَّذِي تَتَشَاءَمُونَ بِهِ، بَلْ سَبَبُ ذَلِكَ عِنْدَ الله، وهو مَا يُقَدِّرُهُ عَلَيْكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشُّؤْمَ الَّذِي أَصَابَكُمْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، ثُمَّ أَوْضَحَ لَهُمْ سَبَبَ مَا هُمْ فِيهِ بِأَوْضَحِ بَيَانٍ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أَيْ: تُمْتَحَنُونَ، وَتُخْتَبَرُونَ، وَقِيلَ: تُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِكُمْ، وَقِيلَ: يَفْتِنُكُمْ غَيْرُكُمْ، وَقِيلَ: يَفْتِنُكُمُ الشَّيْطَانُ بِمَا تَقَعُونَ فِيهِ مِنَ الطِّيَرَةِ، أَوْ بِمَا لِأَجْلِهِ تَطَيَّرُونَ، فَأَضْرَبَ عَنْ ذِكْرِ الطَّائِرِ إِلَى مَا هُوَ السَّبَبُ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي فِيهَا صَالِحٌ، وَهُوَ الْحِجْرُ تِسْعَةُ رَهْطٍ أَيْ: تِسْعَةُ رِجَالٍ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَشْرَافِ، وَالرَّهْطُ: اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا رُؤَسَاءَ يَتْبَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَالْجَمْعُ: أَرْهُطٌ وَأَرَاهِطُ، وَهَؤُلَاءِ التِّسْعَةُ هُمْ أَصْحَابُ قُدَارَ عَاقِرِ النَّاقَةِ، ثُمَّ وُصِفَ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أَيْ: شَأْنُهُمْ وَعَمَلُهُمُ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ صَلَاحٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ التِّسْعَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: احْلِفُوا بِاللَّهِ، هَذَا عَلَى أَنَّ تَقَاسَمُوا: فِعْلُ أَمْرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا ماضيا مفسرا لقالوا، كَأَنَّهُ قِيلَ مَا قَالُوا، فَقَالَ: تَقَاسَمُوا. أَوْ يَكُونَ حَالًا عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، أَيْ: قَالُوا ذَلِكَ مُتَقَاسِمِينَ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَصْلُحُونَ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ» وَلَيْسَ فِيهَا قَالُوا، وَاللَّامُ فِي لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ: لَنَأْتِيَنَّهُ بَغْتَةً فِي وَقْتِ الْبَيَاتِ، فَنَقْتُلُهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالنُّونِ لِلْمُتَكَلِّمِ، فِي لَنَبِيتَنَّهُ، وَفِي لَنَقُولَنَّ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ

والكسائي بالفوقية على خطاب بعضهم لبعضهم، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وحميد بالتحتية فيهما، والمراد بوليّ صَالِحٍ: رَهْطُهُ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أَيْ: مَا حَضَرْنَا قَتْلَهُمْ وَلَا نَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ، وَقَتَلَ أَهْلَهُ، وَنَفْيُهُمْ لِشُهُودِهِمْ لِمَكَانِ الْهَلَاكِ، يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ شُهُودِهِمْ لِنَفْسِ الْقَتْلِ بِالْأَوْلَى، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَهْلِكَ بِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالسُّلَمِيُّ مَهْلَكَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ والمفضل بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فِيمَا قُلْنَاهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ تَحَالَفُوا أن يبيتوا صالحا وأهله، ثم ينكروا عن أَوْلِيَائِهِ أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَا رَأَوْهُ وَكَانَ هَذَا مَكْرًا مِنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: وَمَكَرُوا مَكْراً أَيْ: بِهَذِهِ الْمُحَالَفَةِ وَمَكَرْنا مَكْراً جَازَيْنَاهُمْ بِفِعْلِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِمَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَيِ: انْظُرْ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ أَمْرُهُمُ الَّذِي بَنَوْهُ عَلَى الْمَكْرِ، وَمَا أَصَابَهُمْ بِسَبَبِهِ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِهَا، فَمَنْ كَسَرَ جَعَلَهُ اسْتِئْنَافًا. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: مَنْ كَسَرَ اسْتَأْنَفَ، وَهُوَ يُفَسِّرُ بِهِ مَا كَانَ قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ تَابِعًا لِلْعَاقِبَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: الْعَاقِبَةُ إِنَّا دَمَّرْنَاهُمْ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ، يَكُونُ التَّقْدِيرُ بأنا دمرناهم، أو لأنا دمرناهم، وكان تامة، وعاقبة فَاعِلٌ لَهَا، أَوْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ عَاقِبَةُ، أَوْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَانَ نَاقِصَةً وكيف خَبَرَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهَا أَنَّا دَمَّرَنَا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ أَنْ دَمَّرْنَاهُمْ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ دَمَّرَ التِّسْعَةَ الرَّهْطَ الْمَذْكُورِينَ، وَدَمَّرَ قَوْمَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِمْ لِذَلِكَ، وَمَعْنَى التَّأْكِيدِ بِأَجْمَعِينَ، أَنَّهُ لَمْ يَشِذَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا سَلِمَ مِنَ الْعُقُوبَةِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِمْ، وَجُمْلَةُ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ خَاوِيَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فَانْظُرْ إِلَى بُيُوتِهِمْ حَالَ كَوْنِهَا خَاوِيَةً، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَالنَّحَّاسُ، أَيْ: خَالِيَةً عَنْ أَهْلِهَا خَرَابًا، لَيْسَ بِهَا سَاكِنٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: نَصْبُ خَاوِيَةً عَلَى الْقِطَعِ، وَالْأَصْلُ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمُ الْخَاوِيَةُ، فَلَمَّا قُطِعَ مِنْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ نُصِبَتْ، كَقَوْلِهِ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً وَقَرَأَ عاصم بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِرَفْعِ «خَاوِيَةٌ» عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَبُيُوتَهُمْ بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ خَبَرٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَخَاوِيَةٌ خَبَرٌ آخَرَ، وَالْبَاءُ فِي بِما ظَلَمُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بسبب ظلمهم إِنَّ فِي ذلِكَ التدمير والإهلاك لَآيَةً عَظِيمَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ: يَتَّصِفُونَ بِالْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ صَالِحُ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَكانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ طائِرُكُمْ قَالَ: مَصَائِبُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ، وَقَالُوا حِينَ عَقَرُوهَا: نُبَيِّتُ صَالِحًا وَأَهْلَهُ فَنَقْتُلَهُمْ، ثُمَّ نَقُولُ لِأَوْلِيَاءِ صَالِحٍ: مَا شَهِدْنَا مِنْ هَذَا شَيْئًا، وَمَا لَنَا بِهِ عِلْمٌ، فَدَمَّرَهُمُ اللَّهُ أجمعين.

[سورة النمل (27) : الآيات 54 إلى 66]

[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 66] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) انْتِصَابُ لُوطًا: بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ معطوف على أرسلنا، أي: وأرسلنا لوطا، وإِذْ قالَ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ اذْكُرْ وَالْمَعْنَى: وَأَرْسَلْنَا لُوطًا وَقْتَ قَوْلِهِ: لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أَيِ: الْفِعْلَةَ الْمُتَنَاهِيَةَ فِي الْقُبْحِ وَالشَّنَاعَةِ، وَهُمْ أَهْلُ سَدُومَ، وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مُتَضَمِّنَةٌ لِتَأْكِيدِ الْإِنْكَارِ، أَيْ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا فَاحِشَةٌ. وَذَلِكَ أَعْظَمُ لِذُنُوبِكُمْ، عَلَى أَنَّ تُبْصِرُونَ مِنْ بَصَرِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْعِلْمُ، أَوْ بِمَعْنَى النَّظَرِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَتِرُونَ حَالَ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ عُتُوًّا وَتَمَرُّدًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الْأَعْرَافِ مُسْتَوْفًى أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً فِيهِ تَكْرِيرٌ لِلتَّوْبِيخِ مَعَ التَّصْرِيحِ، بِأَنَّ تِلْكَ الْفَاحِشَةَ: هِيَ اللُّوَاطَةُ، وَانْتِصَابُ شَهْوَةٍ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: لِلشَّهْوَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِتْيَانًا شَهْوَةً، أَوْ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْحَالِ، أَيْ: مُشْتَهِينَ لَهُمْ مِنْ دُونِ النِّساءِ أَيْ: مُتَجَاوِزِينَ النِّسَاءَ اللَّاتِي هُنَّ مَحَلٌّ لِذَلِكَ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ التَّحْرِيمَ، أَوِ الْعُقُوبَةَ عَلَى هذه المعصية، واختار الخليل، وسيبويه تخفيف الهمزة من أإنكم فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ جَوَابَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهَا إِلَّا أَنْ قَالُوا، أَيْ: إِلَّا قَوْلُهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِرَفْعِ جَوَابٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ، وَخَبَرُهَا مَا بَعْدَهُ، ثُمَّ عَلَّلُوا مَا أَمَرُوا بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْإِخْرَاجِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ: أَيْ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ، قَالُوا ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ بِهِمْ فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أَيْ: قَدَّرْنَا أَنَّهَا مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ، وَمَعْنَى قَدَّرْنَا قَضَيْنَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ قَدَّرْنَا بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ مَعَ دَلَالَةِ زِيَادَةِ الْبِنَاءِ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى

وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً هَذَا التَّأْكِيدُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْمَطَرِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: سَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مَطَرَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْمُنْذَرِينَ الَّذِينَ أُنْذِرُوا فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ فِي الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: قِيلَ لِلُوطٍ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى هَلَاكِهِمْ، وَخَالَفَهُ جماعة فقالوا: إن هذا خطاب لنبينا صلّى الله عليه وسلم، أي: قل الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى هَلَاكِ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَكُلُّ مَا فِيهِ فَهُوَ مُخَاطِبٌ بِهِ، إِلَّا مَا لَمْ يَصِحَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِغَيْرِهِ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِعِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى: أَمَةُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فِي ذلك الأنبياء وأتباعهم آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: آللَّهُ الَّذِي ذَكَرْتَ أَفْعَالَهُ وَصِفَاتِهُ الدَّالَّةَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ خَيْرٌ، أَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَهَذِهِ الْخَيْرِيَّةُ لَيْسَتْ بِمَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ، بَلْ هِيَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ فَيَكُونُ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، إِذْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ أَصْلًا. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: السَّعَادَةُ أَحَبُّ إِلَيْكَ، أَمِ الشَّقَاوَةُ، وَلَا خَيْرَ فِي الشَّقَاوَةِ أَصْلًا. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَثْوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ، أَمْ عُقَابُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ؟ وَقِيلَ: قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ جَرْيًا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ خَيْرًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْخَبَرُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُشْرِكُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ «يُشْرِكُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَ «أم» في «يشركون» هي المتصلة، وأما فِي قَوْلِهِ: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ المنقطعة. وقال أبو حاتم: تقديره آلهتكم خير أم من خلق السموات وَالْأَرْضَ وَقَدَرَ عَلَى خَلْقِهِنَّ؟ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَعِبَادَةُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ أَوْثَانِكُمْ خَيْرٌ، أَمْ عِبَادَةُ من خلق السموات وَالْأَرْضَ؟ فَتَكُونُ أَمْ عَلَى هَذَا مُتَّصِلَةً، وَفِيهَا مَعْنَى التَّوْبِيخِ، وَالتَّهَكُّمِ، كَمَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «أَمَنْ» بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً أَيْ: نَوْعًا مِنَ الْمَاءِ، وَهُوَ الْمَطَرُ فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ جَمْعُ حَدِيقَةٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَدِيقَةُ الْبُسْتَانُ الَّذِي عَلَيْهِ حَائِطٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَائِطٌ فَهُوَ الْبُسْتَانُ، وَلَيْسَ بِحَدِيقَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: الْحَدَائِقُ النَّخْلُ ذاتَ بَهْجَةٍ أَيْ ذَاتَ حُسْنٍ وَرَوْنَقٍ. وَالْبَهْجَةُ: هِيَ الْحُسْنُ الَّذِي يَبْتَهِجُ بِهِ مَنْ رَآهُ وَلَمْ يَقُلْ ذَوَاتَ بَهْجَةٍ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ جَمَاعَةُ حَدَائِقَ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَيْ مَا صَحَّ لَكُمْ أَنْ تفعلوا ذلك، ومعنى هذا النفي الحظر والمنع مَنْ فَعَلَ هَذَا، أَيْ: مَا كَانَ لِلْبَشَرِ وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدِرَتِهِمْ لِعَجْزِهِمْ عَنْ إِخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ مُوَبِّخًا لَهُمْ وَمُقَرِّعًا أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أَيْ: هَلْ مَعْبُودٌ مع الله الذي تقدّم ذكر بعض أفعاله حتى يقرن به، ويجعل له شَرِيكًا لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَقُرِئَ «أَإِلَهًا مَعَ اللَّهِ» بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: أَتَدْعُونَ إِلَهًا. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ تَقْرِيعِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ، وَانْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ سُوءِ حَالِهِمْ مَعَ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَقَالَ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَيْ: يَعْدِلُونَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، أَوْ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا فَقَالَ: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً الْقَرَارُ: الْمُسْتَقِرُّ، أَيْ: دَحَاهَا وسوّاها بحيث

يُمْكِنُ الِاسْتِقْرَارُ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: «أمن خلق السموات وَالْأَرْضَ» وَلَا مُلْجِئَ لِذَلِكَ، بَلْ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا إِضْرَابٌ، وَانْتِقَالٌ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ بِمَا قَبْلَهَا، إِلَى التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ بِشَيْءٍ آخَرَ وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً الْخِلَالُ: الْوَسَطُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ في قوله: وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً «1» وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أَيْ: جِبَالًا ثَوَابِتَ تُمْسِكُهَا، وَتَمْنَعُهَا مِنَ الْحَرَكَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً الْحَاجِزُ: الْمَانِعُ، أَيْ: جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ مِنْ قُدْرَتِهِ حَاجِزًا، وَالْبَحْرَانِ هُمَا: الْعَذْبُ وَالْمَالِحُ، فَلَا يختلط أحدها بِالْآخَرِ، فَلَا هَذَا يُغَيِّرُ ذَاكَ، وَلَا ذَاكَ يَدْخُلُ فِي هَذَا، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أَيْ: إِذَا أثبت أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ فَهَلْ إِلَهٌ فِي الْوُجُودِ يَصْنَعُ صُنْعَهُ وَيَخْلُقُ خَلْقَهُ؟ فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ بِهِ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَوْحِيدُ رَبِّهِمْ، وَسُلْطَانُ قُدْرَتِهِ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ هذا الاستدلال مِنْهُ سُبْحَانَهُ، بِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إِلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ، والمضطر: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الِاضْطِرَارِ: وَهُوَ الْمَكْرُوبُ الْمَجْهُودُ الَّذِي لَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُذْنِبُ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي عَرَاهُ ضُرٌّ مِنْ فَقْرٍ أَوْ مَرَضٍ، فَأَلْجَأَهُ إِلَى التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ. وَاللَّامُ فِي الْمُضْطَرِّ لِلْجِنْسِ لَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَقَدْ لَا يُجَابُ دُعَاءُ بَعْضِ الْمُضْطَرِّينَ، لِمَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، بِسَبَبٍ يُحْدِثُهُ الْعَبْدُ، يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِجَابَةِ دُعَائِهِ، وَإِلَّا فَقَدَ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِجَابَةَ دُعَاءِ الْمُضْطَرِّ إِذَا دَعَاهُ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْوَجْهُ فِي إجابة الْمُضْطَرِّ أَنَّ ذَلِكَ الِاضْطِرَارَ الْحَاصِلَ لَهُ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الْإِخْلَاصُ، وَقَطْعُ النَّظَرِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَ الْمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَإِنْ كَانُوا كَافِرِينَ فَقَالَ: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ «2» وَقَالَ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ «3» فَأَجَابَهُمْ عِنْدَ ضَرُورَتِهِمْ، وَإِخْلَاصِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَيَعُودُونَ إِلَى شِرْكِهِمْ وَيَكْشِفُ السُّوءَ أَيِ: الَّذِي يَسُوءُ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَقِيلَ: هُوَ الضُّرُّ، وَقِيلَ: هُوَ الْجَوْرُ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَيْ: يَخْلُفُ كُلُّ قَرْنٍ مِنْكُمُ الْقَرْنَ الَّذِي قَبْلَهُ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ، وَالْمَعْنَى: يُهْلِكُ قَرْنًا، وَيُنْشِئُ آخَرِينَ، وَقِيلَ: يَجْعَلُ أَوْلَادَكُمْ خَلَفًا مِنْكُمْ، وَقِيلَ: يَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ خَلَفًا مِنَ الْكُفَّارِ، يَنْزِلُونَ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الَّذِي يُوَلِّيكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ الْجِسَامَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَيْ: تَذَكُّرًا قَلِيلًا مَا تَذْكُرُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَيْ: يُرْشِدُكُمْ فِي اللَّيَالِي الْمُظَلَّمَاتِ إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْبَرِّ أَوِ الْبَحْرِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ: مَفَاوِزُ الْبَرِّ الَّتِي لَا أَعْلَامَ لَهَا، وَلُجَجُ الْبِحَارِ، وَشَبَّهَهَا بِالظُّلُمَاتِ لِعَدَمِ مَا يَهْتَدُونَ بِهِ فِيهَا وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا: الْمَطَرُ، أَيْ: يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ، وَقَبْلَ نُزُولِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَيُوجِدُهُ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ وُجُودِ مَا يَجْعَلُونَهُ شريكا له أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ سبحانه هو الخالق فألزمهم

_ (1) . الكهف: 33. (2) . يونس: 22. (3) . العنكبوت: 65. [.....]

الْإِعَادَةَ، أَيْ: إِذَا قَدَرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَدَرَ عَلَى الْإِعَادَةِ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ، أَيْ: هُوَ خَيْرٌ أَمْ مَا تَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لَهُ، مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ حَتَّى تجعلوه شريكا له قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ: حجتكم على أن الله سُبْحَانَهُ شَرِيكًا، أَوْ هَاتُوا حُجَّتَكُمْ أَنَّ ثَمَّ صَانِعًا يَصْنَعُ كَصُنْعِهِ، وَفِي هَذَا تَبْكِيتٌ لَهُمْ، وَتَهَكُّمٌ بِهِمْ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ أَيْ: لَا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السموات وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ في قوله: إلا الله منقطع، أي: اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَرَفْعُ مَا بَعْدَ إِلَّا مَعَ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا هُوَ عَلَى اللُّغَةِ التَّمِيمِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ «1» وَقِيلَ: إِنَّ فَاعِلَ يَعْلَمُ: هُوَ مَا بعد إلا، ومن في السموات: مفعوله، والغيب بدل من مَنْ: أَيْ لَا يَعْلَمُ غَيْبَ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ مَنْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِلَّا اللَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَنْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا رُفِعَ مَا بَعْدَ إِلَّا لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا خَبَرٌ، كَقَوْلِهِمْ: مَا ذَهَبَ أَحَدٌ إِلَّا أَبُوكَ، وَهُوَ كَقَوْلِ الزجاج. قال الزجاج: ومن نَصَبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أَيْ: لَا يَشْعُرُونَ مَتَى يُنْشَرُونَ مِنَ الْقُبُورِ، وأيان مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَيَّ وَإِنَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَالضَّمِيرُ لِلْكَفَرَةِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: إِيَّانَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وهي لغة بني سليم، وهي منصوبة بيبعثون، ومعلقة بيشعرون، فَتَكُونُ هِيَ، وَمَا بَعْدَهَا، فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: وَمَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ، وَمَعْنَى أَيَّانَ: مَعْنَى مَتَى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «ادَّارَكَ» وَأَصْلُ ادَّارَكَ تَدَارَكَ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ، وَجِيءَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ لِيُمْكِنَ الِابْتِدَاءُ بِالسَّاكِنِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحُمَيْدٌ «بَلْ أَدْرَكَ» من الإدراك. وقرأ عطاء ابن يَسَارٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالْأَعْمَشُ «بَلَ ادَّرَكَ» بِفَتْحِ لَامِ بَلْ، وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ «بَلْ أَدْرَكَ» عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْمَشُ وَالْأَعْرَجُ «بَلَى ادّراك» بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي بَلْ، وَبِهَمْزَةِ قَطْعٍ، وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ «بَلْ تَدَارَكَ» وَمَعْنَى الْآيَةِ: بَلْ تَكَامَلَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا كُلَّ مَا وُعِدُوا بِهِ وَعَايَنُوهُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: تَتَابَعَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ مَعْنَاهَا كمل عِلْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْمُعَايَنَةِ، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْعِلْمُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُكَذِّبِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ أَيْ: لَمْ يُدْرِكْ عِلْمُهُمْ عِلْمَ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: بَلْ ضَلَّ وَغَابَ علمهم في الآخرة، فليس لهم فيها عِلْمٌ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ: كَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، فَافْتَعَلَ، وَتَفَاعَلَ، قَدْ يَجِيئَانِ لِمَعْنًى، وَالْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: هِيَ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ كَأَنَّهُ وَجَّهَهُ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ قِرَاءَاتٌ أُخَرُ، لَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِذِكْرِهَا وَتَوْجِيهِهَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أَيْ: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا فِي شَكٍّ مِنَ الْآخِرَةِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ فَقَالَ: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ فَلَا يُدْرِكُونَ شيئا من دلائلها لاختلال بصائرهم

_ (1) . البيت لعامر بن الحارث وعجزه: وبقر ملمّع كنوس.

[سورة النمل (27) : الآيات 67 إلى 82]

التي يكون بها الإدراك، وعمون جَمْعُ عَمٍ: وَهُوَ مَنْ كَانَ أَعْمَى الْقَلْبِ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ جَهْلِهِمْ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى شَيْءٍ، مِمَّا يُوَصِّلُ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا، فَمَنْ قَالَ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى أَعْنِي بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهُ كَمُلَ عِلْمُهُمْ وَتَمَّ مَعَ الْمُعَايَنَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إِلَخْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ، وَالتَّبْكِيتُ لَهُمْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْيِيدِ قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إِلَخْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَيَظْهَرُ ظُهُورًا بَيِّنًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى. قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَالْأَوْلَى: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْمِيمِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ والنسائي والطبراني عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَلْجَهْمِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى مَا تَدْعُو؟ قَالَ: «أَدْعُو اللَّهَ وَحْدَهُ الَّذِي إِنْ مَسَّكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشْفَهُ عَنْكَ» هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَبَيَّنَ اسْمَ الصَّحَابِيِّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ الْهُجَيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ الْهُجَيْمِيِّ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «ثلاث مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمْ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفرية» وقالت في آخره: «ومن زعم أنّه يخبر النّاس بما يكون في غد، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ قَالَ: حِينَ لَا يَنْفَعُ الْعِلْمُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ «بَلِ ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» قَالَ: لَمْ يُدْرَكْ عِلْمُهُمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي أَنَّهُ قَرَأَهَا بِالِاسْتِفْهَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا «بَلِ ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» يَقُولُ: غَابَ عِلْمُهُمْ. [سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 82] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ (82)

لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي شَكٍّ مِنَ الْبَعْثِ، وَأَنَّهُمْ عَمُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِهِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ غَايَةَ شُبَهِهِمْ، وَهِيَ مُجَرَّدُ اسْتِبْعَادِ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ بَعْدَ صَيْرُورِتِهِمْ تُرَابًا فقال: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ وَالْعَامِلُ فِي إِذَا مَحْذُوفٌ، دَلَّ عَلَيْهِ مُخْرَجُونَ، تَقْدِيرُهُ: أَنُبْعَثُ، أَوْ نُخْرَجُ إِذَا كُنَّا؟ وَإِنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ مُخْرَجُونَ، لِتَوَسُّطِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَإِنَّ وَلَامُ الِابْتِدَاءِ بَيْنَهُمَا. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِاسْتِفْهَامَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ. وَقَرَأَ عاصم وحمزة باستفهامين، إلا أنهما حَقَّقَا الْهَمْزَتَيْنِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ بِهَمْزَةٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عامر وورش ويعقوب «أإذا» بِهَمْزَتَيْنِ «وَإِنَّنَا» بِنُونَيْنِ عَلَى الْخَبَرِ، وَرَجَّحَ أَبُو عبيدة قِرَاءَةَ نَافِعٍ، وَرَدَّ عَلَى مَنْ جَمَعَ بَيْنَ اسْتِفْهَامَيْنِ وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمُ اسْتَنْكَرُوا وَاسْتَبْعَدُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءَ، بَعْدَ أَنْ قَدْ صَارُوا تُرَابًا، ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ الِاسْتِبْعَادَ بِمَا هُوَ تَكْذِيبٌ لِلْبَعْثِ فَقَالُوا: لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا يَعْنُونَ الْبَعْثَ نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ وَعْدِ مُحَمَّدٍ لَنَا، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ الْإِنْكَارِ، مُصَدَّرَةً بِالْقَسَمِ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ إِنْ هَذَا الْوَعْدَ بِالْبَعْثِ إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَحَادِيثُهُمْ وَأَكَاذِيبُهُمُ الْمُلَفَّقَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْأَسَاطِيرِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ، ثُمَّ أَوْعَدَهُمْ سُبْحَانَهُ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْبَعْثِ، فَأَمَرَهُمْ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، الْمُكَذِّبَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَمَا عُوقِبُوا بِهِ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ فَقَالَ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْبَعْثِ، وَمَعْنَى النَّظَرِ: هُوَ مُشَاهَدَةُ آثَارِهِمْ بِالْبَصَرِ، فَإِنَّ فِي الْمُشَاهَدَةِ زِيَادَةَ اعْتِبَارٍ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَانْظُرُوا بِقُلُوبِكُمْ وَبَصَائِرِكُمْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِمْ «1» ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَمْرِهِمْ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنِ الْإِصْرَارِ على الكفر وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ الضَّيْقُ: الْحَرَجُ، يُقَالُ: ضَاقَ الشَّيْءُ ضَيْقًا بِالْفَتْحِ، وَضِيقًا بِالْكَسْرِ قُرِئَ بِهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ فِي صَدْرِ فُلَانٍ ضَيْقٌ وَضِيقٌ وَهُوَ مَا تَضِيقُ عَنْهُ الصُّدُورُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخرة سُورَةِ النَّحْلِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أَيْ: بِالْعَذَابِ الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي ذَلِكَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ يُقَالُ رَدِفْتُ الرَّجُلَ وَأَرْدَفْتُهُ إِذَا رَكِبْتُ خَلْفَهُ، وَرَدِفَهُ إِذَا اتَّبَعَهُ وَجَاءَ فِي أَثَرِهِ، وَالْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي بِهِ تُوعَدُونَ تَبِعَكُمْ وَلَحِقَكُمْ، فَتَكُونُ اللَّامُ زَائِدَةً لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ بِمَعْنَى: اقْتَرَبَ لَكُمْ، وَدَنَا لَكُمْ، فَتَكُونُ غَيْرَ زَائِدَةٍ. قَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: مَعْنَى رَدِفَ لَكُمْ تَبِعَكُمْ، قَالَ وَمِنْهُ رِدْفُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهَا مِنْ خَلْفِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ: عَادَ السَّوَادُ بَيَاضًا فِي مَفَارِقِهِ ... لَا مَرْحَبًا بِبَيَاضِ الشَّيْبِ إِذْ رَدِفَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَأَرْدَفَهُ لُغَةٌ فِي رَدِفَهُ، مِثْلُ تَبِعَهُ وَأَتْبَعَهُ بِمَعْنًى. قَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ نَهْدٍ: إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظَّنُونَا

_ (1) . هذه العبارة وما قبلها تفسير لقوله تعالى: «المكذبين» التي وردت في الأصل بدلا من قوله تعالى: الْمُجْرِمِينَ وهو خطأ والصحيح ما أثبت.

قَالَ الْفَرَّاءُ: رَدِفَ لَكُمْ: دَنَا لَكُمْ وَلِهَذَا قِيلَ لَكُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ «رَدَفَ لَكُمْ» بِفَتْحِ الدَّالِّ وَهِيَ لُغَةٌ، وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَزِفَ لَكُمْ» وَارْتِفَاعُ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أَيْ: عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ رَدِفَ، وَالْمُرَادُ: بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرُبَ، وَدَنَا، وَأَزِفَ بَعْضُ ذَلِكَ، قِيلَ: هُوَ عَذَابُهُمْ بِالْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فَضْلَهُ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ فَقَالَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فِي تَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ وَيَكُونُ تَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ مِنْ جُمْلَةِ أَفْضَالِهِ سُبْحَانَهُ وَإِنْعَامِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ فَضْلَهُ وَإِنْعَامَهُ وَلَا يَعْرِفُونَ حَقَّ إِحْسَانِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي صُدُورِهِمْ، فَقَالَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أَيْ: مَا تُخْفِيهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُكِنُّ» بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَكَنَّ. وَقَرَأَ ابن محيصن وابن السميقع وَحُمَيْدٌ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْكَافِ، يُقَالُ كَنَنْتُهُ: بِمَعْنَى سَتَرْتُهُ، وَخَفَيْتُ أَثَرَهُ وَما يُعْلِنُونَ وَمَا يُظْهِرُونَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَا مِنْ شَيْءٍ غَائِبٍ، وَأَمْرٍ يَغِيبُ عَنِ الْخَلْقِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، إِلَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي اللوح المحفوظ، وغائبة: هي من الصفات الغالبة، وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: الْغَائِبَةُ هُنَا: هِيَ الْقِيَامَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عِلْمُ مَا يَسْتَعْجِلُونَ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ مُبَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ غَابَ عَنِ الْخَلْقِ. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: الْغَائِبَةُ هُنَا جَمِيعُ مَا أَخْفَى اللَّهُ عَنْ خَلْقِهِ، وَغَيْبُهُ عَنْهُمْ مُبَيَّنٌ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ ما يستعجلونه من العذاب، فإنه موقت بِوَقْتٍ، وَمُؤَجَّلٌ بِأَجَلٍ عِلْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُونَهُ قَبْلَ أَجْلِهِ الْمَضْرُوبِ لَهُ؟ إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ تَفَرَّقُوا فِرَقًا، وَتَحَزَّبُوا أَحْزَابًا، يَطْعَنُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَلَوْ أُخِذُوا بِهِ لَوَجَدُوا فِيهِ مَا يَرْفَعُ اخْتِلَافَهُمْ، وَيَدْفَعُ تَفَرُّقَهُمْ وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَتَابَعَ رَسُولَهُ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ، وَمِنْ جَمْلَتِهِمْ مَنْ آمَنَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ أَيْ: يَقْضِي بين المختلفين من بين إِسْرَائِيلَ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَيُجَازِي الْمُحِقَّ، وَيُعَاقِبُ الْمُبْطِلَ، وَقِيلَ: يَقْضِي بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيُظْهِرُ مَا حَرَّفُوهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِحُكْمِهِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ. وَقَرَأَ جَنَاحٌ بِكَسْرِهَا وَفَتَحِ الْكَافِ، جَمْعُ حِكْمَةٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، وَالْعَلِيمُ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ، أَوِ الْكَثِيرُ الْعِلْمِ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّوَكُّلِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ، فَقَالَ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالْمَعْنَى: فَوِّضْ إِلَيْهِ أَمْرَكَ، وَاعْتَمَدْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَاصِرُكَ. ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِعِلَّتَيْنِ: الْأُولَى قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أَيِ: الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: الْمَظْهِرُ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ الْمَوْتَى فِي انْتِفَاءِ الْجَدْوَى بِالسَّمَاعِ، أَوْ كَحَالِ الصُّمِّ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَلَا يَفْهَمُونَ، وَلَا يَهْتَدُونَ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا قَوِيًّا فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِمْ، شَبَّهَ الْكُفَّارَ بِالْمَوْتَى الَّذِينَ لَا حِسَّ لَهُمْ وَلَا عَقْلَ، وَبِالصُّمِّ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ الْمَوَاعِظَ، وَلَا يُجِيبُونَ الدُّعَاءَ إِلَى اللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ جُمْلَةً لِتَكْمِيلِ التَّشْبِيهِ، وَتَأْكِيدِهِ فَقَالَ: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أَيْ: إِذَا أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ إِعْرَاضًا تَامًّا، فَإِنَّ الْأَصَمَّ لَا

يَسْمَعُ الدُّعَاءَ إِذَا كَانَ مُقْبِلًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مُعْرِضًا عَنْهُ مُوَلِّيًا مُدْبِرًا. وَظَاهِرُ نَفْيِ إِسْمَاعِ الْمَوْتَى الْعُمُومُ، فَلَا يُخَصُّ مِنْهُ إِلَّا مَا وَرَدَ بِدَلِيلٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَاطَبَ الْقَتْلَى فِي قُلَيْبِ بَدْرٍ، فَقِيلَ له: يا رسول الله! إنما تكلم أجساد لَا أَرْوَاحَ لَهَا، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ الْمُشَيِّعِينَ لَهُ إِذَا انْصَرَفُوا. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «لَا يَسْمَعُ» بِالتَّحْتِيَّةِ مَفْتُوحَةٌ وَفَتْحُ الْمِيمِ، وَفَاعِلُهُ الصُّمُّ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «تُسْمِعُ» بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ أَسْمَعَ. قَالَ قَتَادَةُ الْأَصَمُّ إِذَا وَلَّى مُدْبِرًا ثُمَّ نَادَيْتَهُ لَمْ يَسْمَعْ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَسْمَعُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ. ثُمَّ ضَرَبَ الْعَمَى مَثَلًا لَهُمْ فَقَالَ: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أَيْ: مَا أَنْتَ بِمُرْشِدِ مَنْ أَعْمَاهُ اللَّهُ عَنِ الْحَقِّ إِرْشَادًا يُوصِّلُهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «1» قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ هَادِي إِلَى الْعُمْيِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ وَأَبُو حَيَّانَ «بِهَادٍ الْعُمْيَ» بِتَنْوِينِ هَادٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ «تَهْدِي» فِعْلًا مُضَارِعًا، وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ «وَمَا أَنْ تَهْدِيَ الْعُمْيَ» إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أَيْ: مَا تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ لَا مَنْ يَكْفُرُ، وَالْمُرَادُ بِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْآيَاتِ مَنْ يُصَدِّقُ الْقُرْآنَ، وَجُمْلَةُ فَهُمْ مُسْلِمُونَ تَعْلِيلٌ لِلْإِيمَانِ، أَيْ: فَهُمْ مُنْقَادُونَ مُخْلِصُونَ. ثُمَّ هَدَّدَ الْعِبَادَ بِذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَهْوَالِهَا: فَقَالَ: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى وُقُوعِ الْقَوْلِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ قَتَادَةُ: وَجَبَ الْغَضَبُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَقَّ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: حَقَّ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: وَجَبَ السُّخْطُ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ مَجِيءِ السَّاعَةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ فُنُونِ الْأَهْوَالِ الَّتِي كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَهَا، وَقِيلَ: وَقَعَ الْقَوْلُ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ وَذَهَابِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: إِذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ. والحاصل أن المراد بوقع: وَجَبَ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ: مَضْمُونُهُ، أَوْ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ على المفعول، أي: القول، وَجَوَابُ الشَّرْطِ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الدَّابَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: إِنَّهَا فَصِيلُ نَاقَةِ صَالِحٍ يَخْرُجُ عِنْدَ اقْتِرَابِ الْقِيَامَةِ وَيَكُونُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: هِيَ دَابَّةٌ ذَاتُ شَعْرٍ، وَقَوَائِمَ طِوَالٍ، يُقَالُ لَهَا الْجَسَّاسَةُ. وَقِيلَ: هِيَ دَابَّةٌ عَلَى خِلْقَةِ بَنِي آدَمَ، وَهِيَ فِي السَّحَابِ وَقَوَائِمُهَا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: رَأَسُهَا رَأْسُ ثَوْرٍ، وَعَيْنُهَا عَيْنُ خِنْزِيرٍ، وَأُذُنُهَا أُذُنُ فِيلٍ، وَقَرْنُهَا قَرْنُ إِيَّلٍ، وَعُنُقُهَا عُنُقُ نَعَامَةٍ، وَصَدْرُهَا صَدْرُ أَسَدٍ، وَلَوْنُهَا لَوْنُ نَمِرٍ وَخَاصِرَتُهَا خَاصِرَةُ هِرٍّ، وَذَنَبُهَا ذَنَبُ كَبْشٍ، وَقَوَائِمُهَا قَوَائِمُ بَعِيرٍ، بَيْنَ كُلِّ مِفْصَلٍ وَمِفْصَلٍ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا. وَقِيلَ: هِيَ الثُّعْبَانُ الْمُشْرِفُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ الَّتِي اقْتَلَعَهَا الْعُقَابُ، حِينَ أَرَادَتْ قُرَيْشٌ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَقِيلَ: هِيَ دَابَّةٌ مَا لَهَا ذَنَبٌ وَلَهَا لِحْيَةٌ، وَقِيلَ: هِيَ إِنْسَانٌ نَاطِقٌ مُتَكَلِّمٌ يُنَاظِرُ أَهْلَ البدع ويراجع الكفار، وقيل: غير ذلك ممالا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ، وَقَدْ رَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَاخْتُلِفَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ تَخْرُجُ؟ فَقِيلَ: مِنْ جَبَلِ الصَّفَا بِمَكَّةَ، وَقِيلَ: تَخْرُجُ مِنْ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ. وَقِيلَ:

_ (1) . القصص: 56.

لَهَا ثَلَاثُ خَرْجَاتٍ: خَرْجَةٌ فِي بَعْضِ الْبَوَادِي حَتَّى يَتَقَاتَلَ عَلَيْهَا النَّاسُ، وَتُكْثُرَ الدِّمَاءُ ثُمَّ تَكْمُنُ، وَتَخْرُجُ فِي الْقُرَى، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ، وَأَكْرَمِهَا وَأَشْرَفِهَا، وَقِيلَ: تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَقِيلَ: تَخْرُجُ فِي تِهَامَةَ، وَقِيلَ: مِنْ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ مِنْ حَيْثُ فَارَ التَّنُّورُ، وَقِيلَ: مِنْ أَرْضِ الطَّائِفِ، وَقِيلَ: مِنْ صَخْرَةٍ مِنْ شِعْبِ أَجْيَادَ، وَقِيلَ مِنْ صَدْعٍ فِي الْكَعْبَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: «تُكَلِّمُهُمْ» فَقِيلَ: تُكَلِّمُهُمْ بِبُطْلَانِ الْأَدْيَانِ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: تُكَلِّمُهُمْ بِمَا يَسُوءُهُمْ، وَقِيلَ: تُكَلِّمُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ أَيْ: بِخُرُوجِهَا لِأَنَّ خُرُوجَهَا مِنَ الْآيَاتِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُكَلِّمُهُمْ» مِنَ التَّكْلِيمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ «تَنَبِّئُهُمْ» وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ: تَكْلَمُهُمْ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْكَافِ مِنَ الْكَلْمِ، وَهُوَ الْجَرْحُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: أَيْ تَسِمُهُمْ وَسْمًا، وَقِيلَ: تَجْرَحُهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْكَلْمِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ الْجَرْحُ، وَالتَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِفَتْحِ «أَنَّ» قَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ «بِأَنَّ النَّاسَ» وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «بِأَنَّ النَّاسَ» بِالْبَاءِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَوْضِعُهَا نَصْبٌ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهَا، أَيْ: تُخْبِرُهُمْ أَنَّ النَّاسَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالَّذِي تَكَلَّمَ النَّاسُ بِهِ هُوَ قَوْلُهُ: أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ كَمَا قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا تَكُونُ مِنْ كَلَامِ الدَّابَّةِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَجَزَمَ بِهِ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ كَسْرَ «إِنَّ» هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ أَيْ تَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّ النَّاسَ» إِلَخْ، فَيَرْجِعُ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى عَلَى هَذَا إِلَى مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ فِي الْآيَةِ: هُمُ النَّاسُ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مُكَلَّفٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْكُفَّارُ خَاصَّةً، وَقِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ قَالَ: اقْتَرَبَ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ قَالَ: يَعْلَمُ مَا عَمِلُوا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وَما مِنْ غائِبَةٍ الْآيَةَ. يَقُولُ: مَا مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً إِلَّا يَعْلَمُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ قَالَ: إِذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ يَنْهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ فَسَّرَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا أُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ قَالَ: تُحَدِّثُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ كَلَامُهَا تُنْبِئُهُمُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن أَبِي دَاوُدَ نُفَيْعٍ الْأَعْمَى قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: تُكَلِّمُهُمْ يَعْنِي هَلْ هُوَ مِنَ التَّكْلِيمِ بِاللِّسَانِ أَوْ مِنَ الْكَلْمِ وَهُوَ الْجُرْحُ، فَقَالَ: كُلُّ

[سورة النمل (27) : الآيات 83 إلى 93]

ذَلِكَ وَاللَّهِ تَفْعَلُ تُكَلِّمُ الْمُؤْمِنَ وَتَكْلِمُ الْكَافِرَ، أَيْ: تَجْرَحُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ليس ذلك حديث ولا كلام وَلَكِنَّهَا سِمَةٌ تَسِمُ مَنْ أَمَرَهَا اللَّهُ بِهِ، فَيَكُونُ خُرُوجُهَا مِنَ الصَّفَا لَيْلَةَ مِنًى، فَيُصْبِحُونَ بَيْنَ رَأْسِهَا وَذَنَبِهَا لَا يُدْحَضُ دَاحِضٌ وَلَا يُجْرَحُ جَارِحٌ، حَتَّى إِذَا فَرَغَتْ مِمَّا أَمَرَهَا اللَّهُ بِهِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ وَنَجَا مَنْ نَجَا، كَانَ أَوَّلُ خُطْوَةٍ تَضَعُهَا بِأَنْطَاكِيَةَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الدَّابَّةُ ذَاتُ وَبَرٍ وَرِيشٍ مُؤَلِّفَةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ تَخْرُجُ بِعَقِبٍ مِنَ الْحَاجِّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ فَتَسِمُ عَلَى خَرَاطِيمِهِمْ، ثُمَّ يَعْمُرُونَ فِيكُمْ حَتَّى يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ مِمَّنِ اشْتَرَيْتَهَا؟ فَيَقُولُ: مِنَ الرَّجُلِ الْمُخَطَّمِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ للدّابّة ثلاث خَرَجَاتٍ» ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَدَّمْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ رَفَعَهُ قَالَ: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةً» . وَأَخْرَجَ سعيد بن منصور ونعيم ابن حَمَّادٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَخْرُجُ مِنْ بَعْضِ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخْرُجُ دَابَّةُ الْأَرْضِ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ، فَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْخَاتَمِ، وَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْعَصَا، حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى الْخِوَانِ، يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ» . وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّابَّةَ فَقَالَ: لَهَا ثَلَاثُ خَرَجَاتٍ مِنَ الدَّهْرِ» وَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَفِي صِفَتِهَا، وَمَكَانِ خُرُوجِهَا، وَمَا تَصْنَعُهُ، وَمَتَى تَخْرُجُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا صَحِيحٌ، وَبَعْضُهَا حَسَنٌ، وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ. وَأَمَّا كَوْنُهَا تَخْرُجُ. وَكَوْنُهَا مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، فَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ صَحِيحَةٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ كَحَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ» وَذَكَرَ مِنْهَا الدَّابَّةَ فَإِنَّهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَكَحَدِيثِ «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالِ، وَالدَّابَّةِ» فَإِنَّهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَكَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضحى» فإنه في صحيح مسلم أيضا. [سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 93] وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ طَرَفًا مُجْمَلًا مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ، فِعْلٌ مَحْذُوفٌ خوطب به النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَشْرِ هُوَ حَشْرُ الْعَذَابِ بَعْدَ الْحَشْرِ الْكُلِّيِّ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، وَمِنْ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ كَالزُّمْرَةِ، وَمِنْ فِي مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا بَيَانِيَّةٌ فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ: يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُسْتَوْفًى، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَدْفَعُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ: وَكَمْ وَزَعْنَا مِنْ خَمِيسٍ جَحْفَلِ «1» وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَاذْكُرْ يا محمد، يوم نَجْمَعُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ جَمَاعَةً مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِنَا، فَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَشْرِ، يَرُدُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، أَوْ يَدْفَعُونَ، أَيِ: اذْكُرْ لَهُمْ هَذَا أَوْ بَيِّنْهُ تَحْذِيرًا لَهُمْ وَتَرْهِيبًا حَتَّى إِذا جاؤُ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي الَّتِي أَنْزَلْتُهَا عَلَى رُسُلِي، وأمرتهم بإبلاغها إليكم «و» الحال أنكم لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً بَلْ كَذَّبْتُمْ بِهَا بَادِئَ بَدْءٍ، جَاهِلِينَ لَهَا غَيْرَ نَاظِرِينَ فِيهَا، وَلَا مُسْتَدِلِّينَ عَلَى صِحَّتِهَا، أَوْ بُطْلَانِهَا تَمَرُّدًا، وَعِنَادًا وَجُرْأَةً عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رُسُلِهِ، وَفِي هَذَا مَزِيدُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمًا فَقَدْ كَذَّبَ فِي تَكْذِيبِهِ، وَنَادَى عَلَى نَفْسِهِ بِالْجَهْلِ، وَعَدَمِ الْإِنْصَافِ، وَسُوءِ الْفَهْمِ، وَقُصُورِ الْإِدْرَاكِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَنْ تَصَدَّى لِذَمِّ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ لِذَمِّ عِلْمٍ هُوَ مُقَدَّمَةٌ مِنْ مُقَدَّمَاتِهَا، وَوَسِيلَةٌ يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَيْهَا، وَيُفِيدُ زِيَادَةَ بَصِيرَةٍ فِي مَعْرِفَتِهَا، وَتَعَقُّلِ مَعَانِيهَا كَعُلُومِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِأَسْرِهَا، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ عِلْمًا، وَعِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى بَيَانِ قَوَاعِدِ اللُّغَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَهَكَذَا كُلُّ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي لَهَا مَزِيدُ نَفْعٍ فِي فَهْمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ نَادَى عَلَى نَفْسِهِ، بِأَرْفَعِ صَوْتٍ، بِأَنَّهُ جَاهِلٌ مُجَادِلٌ بِالْبَاطِلِ، طَاعِنٌ عَلَى الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، مُسْتَحِقٌّ لِأَنْ تَنْزِلَ بِهِ قَارِعَةٌ مِنْ قَوَارِعِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي تَزْجُرُهُ عَنْ جَهْلِهِ، وَضَلَالِهِ، وَطَعْنِهِ عَلَى مَا لَا يَعْرِفُهُ، وَلَا يَعْلَمُ بِهِ، وَلَا يُحِيطُ بِكُنْهِهِ حَتَّى يَصِيرَ عِبْرَةً لِغَيْرِهِ، وَمَوْعِظَةً يَتَّعِظُ بِهَا أَمْثَالُهُ مِنْ ضِعَافِ الْعُقُولِ وَرِكَاكِ الأديان، ورعاع المتلبسين بالعلم زورا وكذبا، وأما في قوله: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْمَعْنَى: أَمْ أَيُّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حَتَّى شَغَلَكُمْ ذَلِكَ عَنِ النَّظَرِ فِيهَا، وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهَا، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى طَرِيقِ التَّبْكِيتِ لَهُمْ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ قَرِيبًا، وَالْبَاءُ فِي بِما ظَلَمُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: وَجَبَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ الظُّلْمِ، الَّذِي أَعْظَمُ أَنْوَاعِهِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ عِنْدَ وُقُوعِ الْقَوْلِ عَلَيْهِمِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ يَنْطِقُونَ بِهِ، أَوْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْقَوْلِ لِمَا يَرَوْنَهُ مِنَ الْهَوْلِ العظيم.

_ (1) . وعجزه: وكم حبونا من رئيس مسحل.

وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: يُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَلَا يَنْطِقُونَ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ خَوَّفَهُمْ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَعَلَى الْحَشْرِ، وَعَلَى النُّبُوَّةِ مُبَالَغَةً فِي الْإِرْشَادِ وَإِبْلَاءً لِلْمَعْذِرَةِ، فَقَالَ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أَيْ: جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِلسُّكُونِ، وَالِاسْتِقْرَارِ، وَالنَّوْمِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنَ الظُّلْمَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يسعون فيه للمعاش، والنهار مبصرا ليبصروا فيها مَا يَسْعَوْنَ لَهُ مِنَ الْمَعَاشِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُمْ، وَوَصْفُ النَّهَارِ: بِالْإِبْصَارِ، وَهُوَ وَصْفٌ لِلنَّاسِ، مُبَالَغَةٌ فِي إِضَاءَتِهِ كَأَنَّهُ يُبْصِرُ مَا فِيهِ. قِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. وَالتَّقْدِيرُ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ مُظْلِمًا لِيَسْكُنُوا، وَحَذَفَ مُظْلِمًا لِدَلَالَةِ مُبْصِرًا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي الْإِسْرَاءِ وَفِي يُونُسَ إِنَّ فِي ذلِكَ الْمَذْكُورِ لَآياتٍ أَيْ: عَلَامَاتٍ وَدَلَالَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَامَةً أُخْرَى لِلْقِيَامَةِ فَقَالَ: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «وَيَوْمَ نَحْشُرُ» مَنْصُوبٌ بِنَاصِبِهِ الْمُتَقَدِّمِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْمَعْنَى: وَذَلِكُمْ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالصُّورُ: قَرْنٌ يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. والنفخات في الصور ثلاث: نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْبَعْثِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَفْخَتَانِ، وَإِنَّ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ رَاجِعَةً إِلَى نَفْخَةِ الصَّعْقِ، أَوْ إِلَى نَفْخَةِ الْبَعْثِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقُشَيْرِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ النَّفْخَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا يَوْمَ النُّشُورِ مِنَ الْقُبُورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: خَافُوا وَانْزَعَجُوا لِشِدَّةِ مَا سَمِعُوا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَزَعِ هُنَا: الْإِسْرَاعُ وَالْإِجَابَةُ إِلَى النِّدَاءِ، مِنْ قَوْلِهِمْ فَزِعْتُ إِلَيْكَ فِي كَذَا: إِذَا أَسْرَعْتُ إِلَى إِجَابَتِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي مَعَ كَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى مُضَارِعٍ لِلدَّلَالَةِ على تحقيق الْوُقُوعِ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَعْنَى إِذَا نفخ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أَيْ: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يَفْزَعَ عِنْدَ تِلْكَ النَّفْخَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ مَنْ وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ لَهُ، فَقِيلَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ وَالْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: الْحُورُ الْعَيْنُ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كَافَّةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ شَامِلًا لِجَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «آتُوهُ» عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مُضَافًا إِلَى الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «أَتَوْهُ» فِعْلًا مَاضِيًا، وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ «وَكُلٌّ أَتَاهُ» . قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ مَنْ قَرَأَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي فَقَدْ وَحَّدَ عَلَى لَفْظِ كُلٍّ، وَمَنْ قَرَأَ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ فَقَدْ جَمَعَ عَلَى مَعْنَاهُ، وَهُوَ غَلَطٌ ظاهر، فإن كلا القراءتين لا توحيد فيهما، بَلِ التَّوْحِيدُ فِي قِرَاءَةِ قَتَادَةَ فَقَطْ، وَمَعْنَى «دَاخِرِينَ» صَاغِرِينَ ذَلِيلِينَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «دَاخِرِينَ» وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ «دَخِرِينَ» بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً مَعْطُوفٌ عَلَى «يُنْفَخُ» . وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلرُّؤْيَةِ، وَ «تَحْسَبُهَا جَامِدَةً» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَرَى، أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ. لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةٌ، وَقِيلَ: هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَهَذِهِ هِيَ الْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ لِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَمَعْنَى «تَحْسَبُهَا جَامِدَةً» :

أَيْ قَائِمَةً سَاكِنَةً، وَجُمْلَةُ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَهِيَ تَسِيرُ سَيْرًا حَثِيثًا كَسَيْرِ السَّحَابِ الَّتِي تسيرها الرياح. قال القتبي: وَذَلِكَ أَنَّ الْجِبَالَ تُجْمَعُ، وَتُسَيَّرُ وَهِيَ فِي رُؤْيَةِ الْعَيْنِ كَالْقَائِمَةِ وَهِيَ تَسِيرُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَهَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً «1» قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ تَحْسَبُهَا بِفَتْحِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ انْتِصَابُ صُنْعَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَغَيْرِهِمَا، أَيْ: صَنَعَ اللَّهُ ذَلِكَ صُنْعًا، وقيل: هو مصدر مؤكد لقوله: «يوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: انْظُرُوا صُنْعَ اللَّهِ، وَمَعْنَى «الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» الَّذِي أَحْكَمَهُ، يُقَالُ رَجُلٌ تِقْنٌ: أَيْ حَاذِقٌ بِالْأَشْيَاءِ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ صَنَعَ مَا صَنَعَ، وَأَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ. وَالْخَبِيرُ: الْمُطَّلِعُ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالضَّمَائِرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ، أَيْ: مَنْ جَاءَ بِجِنْسِ الْحَسَنَةِ فَلَهُ مِنَ الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْهَا، أَيْ: أَفْضَلُ مِنْهَا وَأَكْثَرُ، وَقِيلَ: خَيْرٌ حَاصِلٌ مِنْ جِهَتِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ هُنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: هِيَ الْإِخْلَاصُ، وَقِيلَ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَالتَّعْمِيمُ أَوْلَى، وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ السَّلَفِ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: «إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ» وَقِيلَ: بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: «وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ» . قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ بِالتَّنْوِينِ وَفَتْحِ مِيمِ يَوْمَئِذٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِفَتْحِهَا مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِضَافَةِ فَزَعٍ إِلَى يَوْمَئِذٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا أَعْجَبُ إِلَيَّ لِأَنَّهُ أَعَمُّ التَّأْوِيلَيْنِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: الْأَمْنُ مِنْ فَزَعِ جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَعَ التَّنْوِينِ يَكُونُ الْأَمْنُ مِنْ فَزَعٍ دُونَ فَزَعٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ، فَلَا يَتِمُّ التَّرْجِيحُ بِمَا ذَكَرَ، فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَزَعِ هَاهُنَا هُوَ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الْمَذْكُورُ في قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «2» ، وَوَجْهُ قِرَاءَةِ نَافِعٍ أَنَّهُ نَصَبَ يَوْمَ عَلَى الظرفية، لكونه الْإِعْرَابِ فِيهِ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ، وَلَمَّا كَانَتْ إِضَافَةُ الْفَزَعِ إِلَى ظَرْفٍ غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ بُنِيَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ كَلَامٌ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَةِ هُنَا الشِّرْكُ، وَوَجْهُ التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ: «فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» فَهَذَا الْجَزَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمِثْلِ سَيِّئَةِ الشِّرْكِ، وَمَعْنَى «فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» أَنَّهُمْ كُبُّوا فِيهَا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَأُلْقُوا فِيهَا وَطُرِحُوا عَلَيْهَا، يُقَالُ كَبَبْتُ الرَّجُلَ: إِذَا أَلْقَيْتَهُ لِوَجْهِهِ فَانْكَبَّ وَأَكَبَّ، وَجُمْلَةُ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ يُقَالُ ذَلِكَ، وَالْقَائِلُ: خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، أَيْ: مَا تُجْزَوْنَ إِلَّا جَزَاءَ عَمَلِكُمْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ بيان أحوال المبدأ والمعاد أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَخُصَّ اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْمُرَادُ بالبلدة: مكة، وإنما خصّها من سَائِرِ الْبِلَادِ لِكَوْنِ فِيهَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَلِكَوْنِهَا أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَى رَسُولِهِ، وَالْمَوْصُولُ: صِفَةٌ للربّ، وهكذا قرأ الجمهور. قرأ ابن عباس وابن مسعود التي حرّمها

_ (1) . النبأ: 20. (2) . الأنبياء: 103.

عَلَى أَنَّ الْمَوْصُولَ صِفَةٌ لِلْبَلْدَةِ، وَمَعْنَى «حَرَّمَهَا» جَعَلَهَا حَرَمًا آمِنًا لَا يُسْفَكُ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُظْلَمُ فِيهَا أَحَدٌ، وَلَا يُصْطَادُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ خَلْقًا وَمِلْكًا وَتَصَرُّفًا، أَيْ: وَلِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيِ: الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ الْمُسْتَسْلِمِينَ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «أَنْ أَكُونَ» أَنْ أَثْبُتَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أَيْ: أُدَاوِمَ تِلَاوَتَهُ وَأُوَاظِبَ عَلَى ذَلِكَ. قِيلَ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ هُنَا إِلَّا تِلَاوَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، أَيْ: فَمَنِ اهْتَدَى عَلَى الْعُمُومِ، أَوْ فَمَنِ اهْتَدَى بِمَا أَتْلُوهُ عَلَيْهِ، فَعَمِلَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْعَمَلِ بشرائعه. قرأ الجمهور وَأَنْ أَتْلُوَا بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ بَعْدَ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ التِّلَاوَةِ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ، أَوْ مِنَ التِّلْوِ، وَهُوَ الِاتِّبَاعُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ «وَأَنِ اتْلُ» بِحَذْفِ الواو أمرا له صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَذَا وَجَّهَهُ الْفَرَّاءُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِجَمِيعِ الْمَصَاحِفِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أَيْ: وَمَنْ ضَلَّ بِالْكُفْرِ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْهِدَايَةِ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ، وَقَدْ فَعَلْتُ بِإِبْلَاغِ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ، وَلَيْسَ عَلَيَّ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَوَبَالُ ضَلَالِهِ عَلَيْهِ، وَأُقِيمَ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ مَقَامَهُ لِكَوْنِهِ كَالْعِلَّةِ لَهُ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيَّ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: سَيُرِيكُمْ آياتِهِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ، أَيْ: سَيُرِيكُمُ اللَّهُ آيَاتِهِ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَفِي غَيْرِكُمْ فَتَعْرِفُونَها أَيْ: تَعْرِفُونَ آيَاتِهِ، وَدَلَائِلَ قُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ لَا تَنْفَعُ الْكُفَّارَ، لِأَنَّهُمْ عَرَفُوهَا حِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ، وَذَلِكَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ. ثُمَّ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَهُوَ كَلَامٌ مِنْ جِهَتِهِ سُبْحَانَهُ، غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الْكَلَامِ الَّذِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ، وَفِيهِ تَرْهِيبٌ شَدِيدٌ، وَتَهْدِيدٌ عَظِيمٌ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «تَعْمَلُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: داخِرِينَ قَالَ: صَاغِرِينَ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً قَالَ: قَائِمَةً صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ قَالَ: أَحْكَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ قَالَ: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَأَوْثَقَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قَالَ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ قَالَ: هِيَ الشِّرْكُ، وَإِذَا صَحَّ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُتَعَيَّنٌ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِحَقِّهَا، وَمَا يَجِبُ لَهَا، فَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ كُلُّ طَاعَةٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ: جَاءَ الْإِيمَانُ وَالشِّرْكُ يَجْثُوَانِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ: انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَقُولُ لِلشِّرْكِ: انْطَلِقِ أَنْتَ وَأَهْلُكَ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها يعني قول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ يَعْنِي الشِّرْكَ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ

من حديث أبي هريرة وأنس نحوه مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ يَعْنِي شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها يَعْنِي بِالْخَيْرِ الْجَنَّةَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ يَعْنِي الشِّرْكَ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ وَقَالَ هَذِهِ تُنْجِي، وَهَذِهِ تُرْدِي» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَالْخَرَائِطِيُّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ قَالَ: بِالشِّرْكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قَالَ: لَهُ مِنْهَا خَيْرٌ، يَعْنِي مِنْ جِهَتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قال: ثواب. وأخرج عنه أيضا قال: البلدة مكة.

سورة القصص

سورة القصص وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وعطاء وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ النَّجَّارِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْقَصَصِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَ ذَلِكَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: بِالْجُحْفَةِ وَقْتَ هجرة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِيهَا مِنَ الْمَدَنِيِّ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إلى قوله: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ: قَالَ السُّيُوطِيُّ: سَنَدُهُ جَيِّدٌ عَنْ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يَقْرَأَ علينا طسم المئين، فَقَالَ: مَا هِيَ مَعِي، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمَنْ أَخَذَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، فَأَتَيْتُ خَبَّابًا فَقُلْتُ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ طسم أَوْ طس؟ فَقَالَ: كُلٌّ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأه. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) الْكَلَامُ فِي فَاتِحَةِ هذه السُّورَةِ قَدْ مَرَّ فِي فَاتِحَةِ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهَا، فَلَا نُعِيدُهُ، وَكَذَلِكَ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ: مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَآيَاتُ: بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون تلك في موضع نصب بنتلو، وَالْمُبِينُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ.

قَالَ الزَّجَّاجُ: مُبِينُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى أَظْهَرَ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: أَيْ نُوحِي إِلَيْكَ مِنْ خَبَرِهِمَا مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ التِّلَاوَةَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُ. وَقِيلَ: إِنَّ مَفْعُولَ نَتْلُو مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: نَتْلُو عَلَيْكَ شَيْئًا مِنْ نَبَئِهِمَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ: مَزِيدَةً عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ، أَيْ: نَتْلُو عَلَيْكَ نَبَأَ مُوسَى، وَفِرْعَوْنَ، وَالْأَوْلَى: أَنْ تَكُونَ لِلْبَيَانِ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ، كَمَا ذُكِرَ، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ، وَلَا مُلْجِئَ لِلْحُكْمِ بِزِيَادَتِهَا، وَالْحَقُّ: الصِّدْقُ، وَجُمْلَةُ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَعْدَهَا مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَا أَجْمَلَهُ مِنَ النَّبَأِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَى عَلَا تَكَبَّرَ، وَتَجَبَّرَ بِسُلْطَانِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: أَرْضُ مِصْرَ. وَقِيلَ مَعْنَى عَلَا: ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَقِيلَ: عَلَا عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أَيْ: فِرَقًا وَأَصْنَافًا فِي خِدْمَتِهِ، يُشَايِعُونَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَيُطِيعُونَهُ، وَجُمْلَةُ يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ حَالِ الْأَهْلِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ فِرَقًا، وأصنافا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِطَائِفَةٍ، وَالطَّائِفَةُ: هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَجُمْلَةُ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ بَدَلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لِلْبَيَانِ، أَوْ حَالًا، أَوْ صِفَةً كَالَّتِي قَبْلَهَا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ كَوْنِهَا بَدَلًا مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ فِرْعَوْنُ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ، وَيَتْرُكُ النِّسَاءَ، لِأَنَّ الْمُنَجِّمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ أَخْبَرُوهُ أَنَّهُ يَذْهَبُ مُلْكُهُ عَلَى يَدِ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْعَجَبُ مِنْ حُمْقِ فِرْعَوْنَ، فَإِنَّ الْكَاهِنَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، إِنْ كَانَ صَادِقًا عِنْدَهُ، فَمَا يَنْفَعُ الْقَتْلُ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَلَا مَعْنَى لِلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعَاصِي، وَالتَّجَبُّرِ، وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ الْقَتْلَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِفْسَادِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ جَاءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ. وَاسْتِحْضَارِ صورتها، أَيْ: نُرِيدُ أَنْ نَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ اسْتِضْعَافِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَالْوَاوُ فِي «وَنُرِيدُ» لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةِ «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا» وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا اسْمِيَّةً، لِأَنَّ بَيْنَهُمَا تَنَاسُبًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِلتَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ يَسْتَضْعِفُ، بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، كما في قول الشاعر: نجوت وأرهنهم مالكا «1» والأوّل أولى وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي: قتادة فِي الْخَيْرِ وَدُعَاةً إِلَيْهِ، وَوُلَاةً عَلَى النَّاسِ وَمُلُوكًا فِيهِمْ وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لِمُلْكِ فِرْعَوْنَ، وَمَسَاكِنِ الْقِبْطِ، وَأَمْلَاكِهِمْ، فَيَكُونُ مُلْكُ فِرْعَوْنَ فِيهِمْ، وَيَسْكُنُونَ فِي مَسَاكِنِهِ، وَمَسَاكِنَ قَوْمِهِ، وَيَنْتَفِعُونَ بِأَمْلَاكِهِ، وَأَمْلَاكِهِمْ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: نَجْعَلَهُمْ مُقْتَدِرِينَ عَلَيْهَا، وَعَلَى أَهْلِهَا، مُسَلَّطِينَ عَلَى ذَلِكَ يَتَصَرَّفُونَ به كيف شاؤوا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «نُمَكِّنَ» بِدُونِ لَامٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «لِنُمَكِّنَ» بِلَامِ الْعِلَّةِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما قَرَأَ الْجُمْهُورُ نُرِيَ بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ «ويرى» بفتح الياء

_ (1) . البيت لعبد الله بن همام السلولي، وصدره: فلما خشيت أظافيرهم. [شرح ابن عقيل: الشاهد رقم 192] .

التَّحْتِيَّةِ وَالرَّاءِ، وَالْفَاعِلُ فِرْعَوْنُ. وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَلْصَقُ بِالسِّيَاقِ، لِأَنَّ قَبْلَهَا نُرِيدُ، وَنَجْعَلُ، وَنُمَكِّنُ بِالنُّونِ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ «وَيُرِي فِرْعَوْنَ» بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ: أَيْ وَيُرِي اللَّهُ فِرْعَوْنَ، وَمَعْنَى مِنْهُمْ مِنْ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ الْمَوْصُولُ: هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الله يريهم، أو يرون هم الذين كَانُوا يَحْذَرُونَ مِنْهُ وَيَجْتَهِدُونَ فِي دَفْعِهِ مِنْ ذَهَابِ مُلْكِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ عَلَى يَدِ الْمَوْلُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ أَيْ: أَلْهَمْنَاهَا، وَقَذَفْنَا فِي قَلْبِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي يُوحَى إِلَى الرُّسُلِ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ رُؤْيَا فِي مَنَامِهَا، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بِمَلِكٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ يُعْلِمُهَا بِذَلِكَ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً، وَإِنَّمَا كَانَ إِرْسَالُ الْمَلِكِ إِلَيْهَا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ عَلَى نَحْوِ تَكْلِيمِ الْمَلِكِ لِلْأَقْرَعِ، وَالْأَبْرَصِ، وَالْأَعْمَى، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ سَلَّمَتْ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ فَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ نَبِيًّا، وأن في «أن أرضعيه» هي الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّ فِي الْوَحْيِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: بِأَنْ أَرْضِعِيهِ، وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِكَسْرِ نُونِ أَنْ وَوَصْلِ هَمْزَةِ أَرْضِعِيهِ فَالْكَسْرُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَحَذْفُ هَمْزَةِ الْوَصْلِ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ مِنْ فِرْعَوْنَ بِأَنْ يَبْلُغَ خَبَرُهُ إِلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَهُوَ بَحْرُ النِّيلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي أَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ طه وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي أَيْ: لَا تَخَافِي عَلَيْهِ الْغَرَقَ، أَوِ الضَّيْعَةَ، وَلَا تَحْزَنِي لِفِرَاقِهِ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عَنْ قَرِيبٍ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ بِهِ نَجَاتُهُ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ نُرْسِلُهُمْ إِلَى الْعِبَادِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ هِيَ الْفَصِيحَةُ، وَالِالْتِقَاطُ: إِصَابَةُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، وَالْمُرَادُ بِآلِ فِرْعَوْنَ: هُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا التَّابُوتَ الَّذِي فِيهِ مُوسَى مِنَ الْبَحْرِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ بَعْدَ مَا جَعَلَتْهُ فِي التَّابُوتِ، فَالْتَقَطَهُ مَنْ وَجَدَهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَاللَّامُ فِي لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً لام العاقبة، ووجه ذلك أنهم إنما أَخَذُوهُ لِيَكُونَ لَهُمْ وَلَدًا، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا لِيَكُونَ عَدُوًّا، فَكَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ نَتِيجَةً لِفِعْلِهِمْ، وَثَمَرَةً لَهُ شُبِّهَتْ بِالدَّاعِي الَّذِي يَفْعَلُ الْفَاعِلُ الْفِعْلَ لِأَجْلِهِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ «1» وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ ... وَدُورُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَحَزَنًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ، وَحُزْنًا: بِضَمِّ الْحَاءِ، وَسُكُونِ الزَّايِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى: أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَهُمَا لغتان كالعدم والعدم،

_ (1) . هذا صدر البيت، وعجزه: فكلكم يضير إلى يباب.

وَالرَّشَدِ وَالرُّشْدِ، وَالسَّقَمِ وَالسُّقْمِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلِهَا، أَوْ لِلِاعْتِرَاضِ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَمَعْنَى خَاطِئِينَ: عَاصِينَ آثِمِينَ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِمْ، وَأَقْوَالِهِمْ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَطَأِ الْمُقَابِلِ لِلصَّوَابِ، وَقُرِئَ خَاطِينَ بِيَاءٍ مِنْ دُونِ هَمْزَةٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَلَكِنَّهَا خُفِّفَتْ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ خَطَا يخطو، أي: تجاوز الصواب وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ أَيْ: قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لِفِرْعَوْنَ، وَارْتِفَاعُ قُرَّةُ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَا تَقْتُلُوهُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَكَانَ قَوْلُهَا لِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا لَهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا وَأَخْرَجَتْهُ مِنَ التَّابُوتِ، وَخَاطَبَتْ بِقَوْلِهَا «لَا تَقْتُلُوهُ» فِرْعَوْنَ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ قَوْمِهِ، أَوْ فِرْعَوْنَ وَحْدَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْظِيمِ لَهُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لَا تَقْتُلُوهُ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ» وَيَجُوزُ نَصْبُ قُرَّةٍ بِقَوْلِهِ لَا تَقْتُلُوهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا قَالَتْ: لَا تَقْتُلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ أَتَى بِهِ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ وَلَيْسَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ عَلَّلَتْ مَا قَالَتْهُ بِالتَّرَجِّي مِنْهَا لِحُصُولِ النَّفْعِ مِنْهُ لَهُمْ، أَوِ التَّبَنِّي لَهُ فَقَالَتْ: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فَنُصِيبَ مِنْهُ خَيْرًا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَانَتْ لَا تَلِدُ فَاسْتَوْهَبَتْهُ مِنْ فِرْعَوْنَ فَوَهَبَهُ لَهَا، وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ عَلَى خَطَأٍ فِي الْتِقَاطِهِ، وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّ هَلَاكَهُمْ عَلَى يَدِهِ، فَتَكُونُ حَالًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: هِيَ مِنْ كَلَامِ الْمَرْأَةِ، أَيْ: وَبَنُو إِسْرَائِيلَ لَا يَدْرُونَ أَنَّا الْتَقَطْنَاهُ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا. وَقَدْ حَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ السُّدِّيِّ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: «لَا تَقْتُلُوهُ» مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ وَاعْتَرَضَهُ بِكَلَامٍ يَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ، وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ ضَعْفُ إِسْنَادِهِ وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَارِغٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ أَمْرِ مُوسَى، كَأَنَّهَا لَمْ تَهْتَمَّ بِشَيْءٍ سِوَاهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: خَالِيًا مِنْ ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ زَيْدٍ: فَارِغًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ: «وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي» ، وَذَلِكَ لِمَا سَوَّلَ الشَّيْطَانُ لَهَا مِنْ غَرَقِهِ وَهَلَاكِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: فَارِغًا مِنَ الْخَوْفِ وَالْغَمِّ لِعِلْمِهِا أَنَّهُ لَمْ يَغْرَقْ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَحْيِ إِلَيْهَا، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: نَاسِيًا ذَاهِلًا. وَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: نَافِرًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَالِهًا، كادت تقول وابناه مِنْ شِدَّةِ الْجَزَعِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَادَتْ تَصِيحُ شَفَقَةً عَلَيْهِ مِنَ الْغَرَقِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ بِوُقُوعِهِ فِي يَدِ فِرْعَوْنَ، طَارَ عَقْلُهَا مِنْ فَرْطِ الْجَزَعِ، وَالدَّهَشِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: الْأَوَّلُ، وَالَّذِينَ قَالُوهُ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى فَهُوَ فَارِغٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ فَارِغًا مِنَ الْغَمِّ غَلَطٌ قَبِيحٌ لِأَنَّ بَعْدَهُ «إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا» وَقَرَأَ فَضَالَةُ بْنُ عَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ السميقع وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «فَزِعًا» بِالْفَاءِ وَالزَّايِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْفَزَعِ، أَيْ خَائِفًا وَجِلًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «قَرِعًا» بِالْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ قَرِعَ رَأْسُهُ: إِذَا انْحَسَرَ شَعْرُهُ، وَمَعْنَى وَأَصْبَحَ: وَصَارَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مَضَى الْخُلَفَاءُ فِي أَمْرٍ رَشِيدِ ... وَأَصْبَحَتِ الْمَدِينَةُ لِلْوَلِيدِ

إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنَّهَا كَادَتْ لَتُظْهِرُ أَمْرَ مُوسَى، وَأَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ فَرْطِ مَا دَهَمَهَا مِنَ الدَّهَشِ، وَالْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، مِنْ بَدَا يَبْدُو: إِذَا ظَهَرَ، وَأَبْدَى يُبْدِي: إِذَا أَظْهَرَ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ كَانَتْ لَتُبْدِي بِاسْمِهِ لِضِيقِ صَدْرِهَا، لَوْلَا أَنْ رَبْطَنَا عَلَى قَلْبِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى الرَّبْطِ عَلَى الْقَلْبِ: إِلْهَامُ الصَّبْرِ وَتَقْوِيَتُهُ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَوْلَا أَنْ رَبْطَنَا عَلَى قَلْبِهَا لَأَبْدَتْ، وَاللَّامُ فِي لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِرَبْطِنَا، وَالْمَعْنَى: رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِوَعْدِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: «إنا رادوه إليك» . وقيل: وَالْبَاءُ فِي: «لَتُبْدِي بِهِ» زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَالْمَعْنَى: لتبديه كما تقول أخذت الحبل وبالحبل. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَتُبْدِي الْقَوْلَ بِهِ وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ أَيْ: قَالَتْ أُمِّ مُوسَى لِأُخْتِ مُوسَى وَهِيَ مَرْيَمُ «1» قُصِّيهِ، أَيْ: تَتَبَّعِي أَثَرَهُ وَاعْرِفِي خَبَرَهُ، وَانْظُرِي أَيْنَ وَقَعَ وَإِلَى مَنْ صَارَ؟ يُقَالُ قَصَصْتُ الشَّيْءَ: إِذَا اتَّبَعْتَ أَثَرَهُ مُتَعَرِّفًا لِحَالِهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أَيْ: أَبْصَرَتْهُ عَنْ بُعْدٍ، وَأَصْلُهُ عَنْ مَكَانِ جَنْبٍ، وَمِنْهُ الأجنبي. قال الشاعر: فلا تحرمنّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ ... فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ الدِّيَارِ غَرِيبُ «2» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ «عَنْ جُنُبٍ» : عَنْ جَانِبٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَبْصَرَتْ إِلَيْهِ مُتَجَانِفَةً مُخَاتِلَةً، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ جَانِبٍ، وَمَحَلُّ عَنْ جَنْبٍ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ إِمَّا مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ: بَصُرَتْ بِهِ مُسْتَخْفِيَةً كَائِنَةً عَنْ جَنْبٍ، وَإِمَّا مِنَ الْمَجْرُورِ، أَيْ: بَعِيدًا مِنْهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «بَصُرَتْ» بِهِ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّ الصَّادِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِكَسْرِهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَبْصَرَتْهُ وَبَصُرَتْ بِهِ بِمَعْنًى، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «عَنْ جُنُبٍ» بِضَمَّتَيْنِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِهِمَا. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ بِضَمِّ الْجِيمِ، وسكون النون. وقال أبو عمرو ابن الْعَلَاءِ: إِنَّ مَعْنَى «عَنْ جُنُبٍ» عَنْ شَوْقٍ. قَالَ: وَهِيَ لُغَةُ جُذَامَ يَقُولُونَ: جَنَّبْتُ إِلَيْكَ، أَيِ: اشْتَقْتُ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهَا تَقُصُّهُ، وَتَتَّبِعُ خَبَرَهُ، وَأَنَّهَا أُخْتُهُ وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ الْمَرَاضِعُ جَمْعُ مُرْضِعٍ، أَيْ: مَنَعْنَاهُ أَنْ يَرْضَعَ مِنَ الْمُرْضِعَاتِ. وَقِيلَ: الْمَرَاضِعُ جَمْعُ مَرْضَعٍ بِفَتْحِ الضَّادِ، وَهُوَ الرِّضَاعُ أَوْ مَوْضِعُهُ، وَهُوَ الثَّدْيُ، وَمَعْنَى مِنْ قَبْلُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَرُدَّهُ إِلَى أُمِّهِ، أَوْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَهُ أُمُّهُ، أَوْ مِنْ قَبْلِ قَصِّهَا لِأَثَرِهِ، وَقَدْ كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ طَلَبَتْ لِمُوسَى الْمُرْضِعَاتِ لِيُرْضِعْنَهُ، فَلَمْ يَرْضَعْ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَعِنْدَ ذلك فَقالَتْ أَيْ: أُخْتُهُ لَمَّا رَأَتِ امْتِنَاعَهُ مِنَ الرِّضَاعِ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أَيْ: يَضْمَنُونَ لَكُمُ الْقِيَامَ بِهِ، وَإِرْضَاعَهُ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ أَيْ: مُشْفِقُونَ عَلَيْهِ لَا يُقَصِّرُونَ فِي إِرْضَاعِهِ وَتَرْبِيَتِهِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقَالُوا لَهَا مَنْ هُمْ؟ فَقَالَتْ أُمِّي، فَقِيلَ لَهَا: وَهَلْ لِأُمِّكِ لَبَنٌ؟ قَالَتْ نَعَمْ لَبَنُ أَخِي هَارُونَ: فَدَلَّتْهُمْ عَلَى أُمِّ مُوسَى فَدَفَعُوهُ إِلَيْهَا، فَقَبِلَ ثَدْيَهَا، وَرَضِعَ مِنْهُ، وَذَلِكَ مَعْنَى

_ (1) . هي مريم بنت عمران وافق اسمها اسم مريم أم عيسى عليه السلام. (2) . البيت لعلقمة بن عبدة، قاله يخاطب به الحارث بن جبلة يمدحه، وكان أسر أخاه شأسا ...

[سورة القصص (28) : الآيات 14 إلى 24]

قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بِوَلَدِهَا وَلا تَحْزَنَ عَلَى فِرَاقِهِ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ أَيْ: جَمِيعَ وَعْدِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا وَعَدَهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ حَقٌّ لَا خَلْفَ فِيهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ: أَكْثَرُ آلِ فِرْعَوْنَ لَا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ، بَلْ كَانُوا فِي غَفْلَةٍ عَنِ الْقَدَرِ وَسِرِّ الْقَضَاءِ، أَوْ أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهَا بِأَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً قَالَ: فَرَّقَ بَيْنَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً قَالَ: يَسْتَعْبِدُ طَائِفَةً مِنْهُمْ وَيَدَعُ طَائِفَةً، وَيَقْتُلُ طَائِفَةً، وَيَسْتَحْيِي طَائِفَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً قَالَ: يُوسُفُ وَوَلَدُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حاتم عن قتادة فِي قَوْلِهِ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ قَالَ: هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أَيْ: وُلَاةَ الْأَمْرِ وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ أَيِ: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ بَعْدَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ قَالَ مَا كَانَ الْقَوْمُ حَذَّرُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَيْ: أَلْهَمْنَاهَا الَّذِي صَنَعَتْ بِمُوسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ قَالَ: أَنْ يَسْمَعَ جِيرَانُكِ صَوْتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً قَالَ: فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً قَالَ: خَالِيًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ ذِكْرِ مُوسَى. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ قَالَ: تَقُولُ: يَا ابْنَاهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ أَيِ: اتْبَعِي أَثَرَهُ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ قَالَ: عَنْ جَانِبٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ: «أَمَا شَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَكُلْثُومَ أُخْتَ مُوسَى، وَامْرَأَةَ فِرْعَوْنَ؟ قَالَتْ: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ الله» وأخرج ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ مَرْفُوعًا بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا، وَفِي آخِرِهِ أَنَّهَا قَالَتْ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ قال: لا يؤتى بمرضع فيقبلها. [سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 24] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ مَا خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

قوله: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قد تقدّم الْكَلَامُ فِي بُلُوغِ الْأَشُدِّ فِي الْأَنْعَامِ، وَقَدْ قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ: هُوَ الْحُلُمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً «1» الْآيَةَ، وَأَقْصَاهُ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: الْأَشُدُّ مَا بَيْنَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ إِلَى الثَّلَاثِينَ، وَالِاسْتِوَاءُ مِنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: الِاسْتِوَاءُ هُوَ بُلُوغُ الْأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: الِاسْتِوَاءُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُشْعِرُ بِالْمُغَايَرَةِ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً الْحُكْمُ الْحِكْمَةُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ. وَالْعِلْمُ: الْفَهْمُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْفِقْهُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْعِلْمُ بِدِينِهِ، وَدِينِ آبَائِهِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الَّذِي جَزَيْنَا أُمَّ مُوسَى لَمَّا اسْتَسْلَمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ وَأَلْقَتْ وَلَدَهَا فِي الْبَحْرِ وَصَدَّقَتْ بِوَعْدِ اللَّهِ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ عَلَى إِحْسَانِهِمْ، وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ أَيْ: وَدَخَلَ مُوسَى مَدِينَةَ مِصْرَ الْكُبْرَى، وَقِيلَ: مَدِينَةً غَيْرَهَا مِنْ مَدَائِنِ مِصْرَ، وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، إِمَّا مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ: مُسْتَخْفِيًا، وَإِمَّا مِنَ الْمَفْعُولِ. قِيلَ: لَمَّا عَرَفَ مُوسَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فِي دينه عاب ما عليه فِرْعَوْنَ، وَفَشَا ذَلِكَ مِنْهُ، فَأَخَافُوهُ فَخَافَهُمْ، فَكَانِ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ إِلَّا مُسْتَخْفِيًا قِيلَ: كَانَ دُخُولُهُ بَيْنَ الْعِشَاءِ، وَالْعَتَمَةِ، وَقِيلَ: وَقْتَ الْقَائِلَةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: طَلَبَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ وَقْتَ غَفْلَةِ أَهْلِهَا، فَدَخَلَ عَلَى حِينِ عِلْمٍ مِنْهُمْ، فكان منه ما حكى الله سبحانه بِقَوْلِهِ: فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ أَيْ: مِمَّنْ شَايَعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أَيْ: مِنَ الْمُعَادِينَ لَهُ عَلَى دِينِهِ وَهُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ أي: طلب أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُعِينَهُ عَلَى خَصْمِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَأَغَاثَهُ لِأَنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ. قِيلَ: أَرَادَ الْقِبْطِيُّ أَنْ يُسَخِّرَ الْإِسْرَائِيلِيَّ لِيَحْمِلَ حَطَبًا لِمَطْبَخِ فِرْعَوْنَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى فَوَكَزَهُ مُوسى الْوَكْزُ: الضَّرْبُ بِجُمْعِ الْكَفِّ، وَهَكَذَا اللَّكْزُ، وَاللَّهْزُ. وَقِيلَ: اللَّكْزُ عَلَى اللِّحَى، وَالْوَكْزُ: عَلَى الْقَلْبِ. وَقِيلَ: ضَرَبَهُ بِعَصَاهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «فَلَكَزَهُ» وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ «فَنَكَزَهُ» بِالنُّونِ. قَالَ الأصمعي: نكزه بالنون: ضربه ودفعه. قال

_ (1) . النساء: 6.

الْجَوْهَرِيُّ: اللَّكْزُ الضَّرْبُ عَلَى الصَّدْرِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ: يَعْنِي أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ لَكْزٌ. وَاللَّهْزُ: الضَّرْبُ بِجَمِيعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّدْرِ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. فَقَضى عَلَيْهِ أَيْ: قَتَلَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَتَيْتَ عَلَيْهِ وَفَرَغْتَ مِنْهُ: فَقَدْ قَضَيْتَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَدْ عَضَّهُ فَقَضَى عَلَيْهِ الْأَشْجَعُ «1» قِيلَ: لَمْ يَقْصِدْ مُوسَى قَتْلَ الْقِبْطِيِّ، وَإِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَهُ، فَأَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ وَإِنَّمَا قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَعَ أَنَّ الْمَقْتُولَ كَافِرٌ حَقِيقٌ بِالْقَتْلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ مَأْمُورًا بِقَتْلِ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: إِنْ تِلْكَ الْحَالَةَ حَالَةُ كَفٍّ عَنِ الْقِتَالِ لِكَوْنِهِ مَأْمُونًا عِنْدَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ. ثُمَّ وَصَفَ الشَّيْطَانَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ أَيْ: عَدُوٌّ لِلْإِنْسَانِ يَسْعَى فِي إِضْلَالِهِ، ظَاهِرُ الْعَدَاوَةِ وَالْإِضْلَالِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ «هَذَا» إِلَى عَمَلِ الْمَقْتُولِ لِكَوْنِهِ كَافِرًا مُخَالِفًا لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الإشارة إِلَى الْمَقْتُولِ نَفْسِهِ: يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ جُنْدِ الشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ. ثُمَّ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا وَقَعَ مِنْهُ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَوَجْهُ اسْتِغْفَارِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُلَ حَتَّى يُؤْمَرَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ تَرْكِهِ لِلْأَوْلَى كَمَا هُوَ سُنَّةُ الْمُرْسَلِينَ، أَوْ أَرَادَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بِقَتْلِ هَذَا الْكَافِرِ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَوْ يَعْرِفُ ذَلِكَ لَقَتَلَنِي بِهِ، وَمَعْنَى فَاغْفِرْ لِي: فَاسْتُرْ ذَلِكَ عَلَيَّ، لَا تُطْلِعْ عَلَيْهِ فِرْعَوْنَ، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا زَالَ نَادِمًا عَلَى ذَلِكَ، خَائِفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ بِسَبَبِهِ، حَتَّى إِنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ طَلَبِ النَّاسِ الشَّفَاعَةَ منه يقول: إني قتلت نفسا لم أومر بِقَتْلِهَا، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الصحيح. وقد قيل: إن هذا كان من قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِهِ سِنَّ التَّكْلِيفِ وَإِنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ، مُحَافِظَةٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالْقَتْلُ الْوَاقِعُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَمْدٍ فَلَيْسَ بِكَبِيرَةٍ، لِأَنَّ الْوَكْزَةَ فِي الْغَالِبِ لَا تَقْتُلُ. ثُمَّ لَمَّا أَجَابَ اللَّهُ سُؤَالَهُ وَغَفَرَ لَهُ مَا طَلَبَ مِنْهُ مَغْفِرَتَهُ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ هَذِهِ الْبَاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَاءَ الْقَسَمِ، وَالْجَوَابُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: أُقْسِمُ بِإِنْعَامِكَ عَلَيَّ لَأَتُوبَنَّ وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ كَالتَّفْسِيرِ لِلْجَوَابِ، وَكَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُظَاهِرَ مُجْرِمًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هذه الباء هي باء السببية بِمَحْذُوفٍ، أَيِ: اعْصِمْنِي بِسَبَبِ مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: «فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا» مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ اسْتِعْطَافٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وتوصل إلى إنعامه بإنعامه و «ما» فِي قَوْلِهِ: «بِمَا أَنْعَمْتَ» إِمَّا مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ: هُوَ مَا آتَاهُ مِنَ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ أَوْ بِالْمَغْفِرَةِ، أو الجميع، وَأَرَادَ بِمُظَاهَرَةِ الْمُجْرِمِينَ: إِمَّا صُحْبَةُ فِرْعَوْنَ وَالِانْتِظَامُ فِي جُمْلَتِهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ أَوْ مُظَاهَرَتُهُ عَلَى مَا فِيهِ إِثْمٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: لَيْسَ قَوْلُهُ: فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ خَبَرًا بل هو دعاء،

_ (1) . البيت لجرير، وصدره: أيفايشون وقد رأوا حفّاثهم ومعنى «يفايشون» : يفاخرون. والحفّاث والأشجع: من الحيّات.

أَيْ: فَلَا تَجْعَلُنِي يَا رَبِّ ظَهِيرًا لَهُمْ. قَالَ الْكِسَائِيُّ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ «فَلَا تَجْعَلُنِي يَا رَبِّ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ» وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى اللَّهُمَّ! فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: إِنَّ جَعْلَهُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ أَوْفَى، وَأَشْبَهُ بِنَسَقِ الْكَلَامِ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ أَيْ: دَخَلَ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي قَتَلَ فِيهَا الْقِبْطِيَّ، وَخَائِفًا: خَبَرُ أَصْبَحَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالْخَبَرُ: فِي الْمَدِينَةِ، وَيَتَرَقَّبُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا ثَانِيَةً، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ خَائِفًا، وَمَفْعُولُ يَتَرَقَّبُ: مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: يَتَرَقَّبُ الْمَكْرُوهَ أَوْ يَتَرَقَّبُ الْفَرَحَ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ إِذَا هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، وَالْمَوْصُولُ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ يَسْتَصْرِخُهُ، أَيْ: فَإِذَا صَاحِبُهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي اسْتَغَاثَهُ بِالْأَمْسِ يُقَاتِلُ قِبْطِيًّا آخَرَ أَرَادَ أَنْ يُسَخِّرَهُ، وَيَظْلِمَهُ كَمَا أَرَادَ الْقِبْطِيُّ الَّذِي قَدْ قَتَلَهُ مُوسَى بِالْأَمْسِ، وَالِاسْتِصْرَاخُ الِاسْتِغَاثَةُ، وَهُوَ مِنَ الصراخ، وذلك أن المستغيث يصوّت فِي طَلَبِ الْغَوْثِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ... كَانَ الْجَوَابُ لَهُ قَرْعُ الظَّنَابِيبِ «1» قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أَيْ: بَيِّنُ الْغَوَايَةِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ تُقَاتِلُ مَنْ لَا تَقْدِرُ عَلَى مُقَاتَلَتِهِ وَلَا تُطِيقُهُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ لَهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ بِالْأَمْسِ لِقَتْلِ رَجُلٍ يُرِيدُ الْيَوْمَ أَنْ يَتَسَبَّبَ لِقَتْلِ آخَرَ فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما أَيْ: يَبْطِشَ بِالْقِبْطِيِّ الَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لِمُوسَى، وَلِلْإِسْرَائِيلِيِّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ معنى يبطش واختلاف القراء فيه قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ الْقَائِلُ: هُوَ الْإِسْرَائِيلِيُّ لَمَّا سَمِعَ مُوسَى يَقُولُ لَهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ وَرَآهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْطِشَ بِالْقِبْطِيِّ ظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ، فَقَالَ لِمُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ فَلَمَّا سَمِعَ الْقِبْطِيُّ ذَلِكَ أَفْشَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْقِبْطِيَّ بِالْأَمْسِ حَتَّى أَفْشَى عَلَيْهِ الْإِسْرَائِيلِيُّ، هَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ هُوَ الْقِبْطِيُّ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ مِنْ جِهَةِ الْإِسْرَائِيلِيِّ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الْقِبْطِيِّ قَبْلَ هَذَا بِلَا فَصْلٍ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَدُوٌّ لَهُمَا، وَلَا مُوجِبَ لِمُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ، حَتَّى يَلْزَمَ عَنْهُ أنه الْمُؤْمِنَ بِمُوسَى الْمُسْتَغِيثَ بِهِ الْمَرَّةَ الْأُولَى، وَالْمَرَّةَ الْأُخْرَى هُوَ الَّذِي أَفْشَى عَلَيْهِ، وَأَيْضًا إِنَّ قَوْلَهُ: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ لَا يَلِيقُ صُدُورُ مِثْلِهِ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ، وَإِنَّ: فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُرِيدُ هِيَ النَّافِيَةُ، أَيْ: مَا تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْجَبَّارُ فِي اللُّغَةِ: الَّذِي لَا يَتَوَاضَعُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْقَاتِلُ بِغَيْرِ حَقٍّ: جَبَّارٌ. وَقِيلَ: الْجَبَّارُ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مِنَ الضَّرْبِ، وَالْقَتْلِ، وَلَا يَنْظُرُ فِي الْعَوَاقِبِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ أَيِ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ بَيْنَ النَّاسِ وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الرجل حزقيل، وهو مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، وَقِيلَ: اسْمُهُ شَمْعُونُ، وَقِيلَ: طَالُوتُ، وَقِيلَ: شَمْعَانُ. وَالْمُرَادُ بِأَقْصَى الْمَدِينَةِ: آخِرُهَا وَأَبْعَدُهَا، وَيَسْعَى يَجُوزُ أن يكون

_ (1) . الظّنابيب: جمع ظنبوب، وهو حرف العظم اليابس من الساق، والمراد: سرعة الإجابة.

فِي مَحَلِّ رَفْعِ صِفَةٍ لِرَجُلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ لَفْظَ رَجُلٍ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فَقَدْ تَخَصَّصَ بقوله: من أقصى المدينة قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ أَيْ: يَتَشَاوَرُونَ فِي قَتْلِكَ وَيَتَآمَرُونَ بِسَبَبِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِقَتْلِكَ. وَقَالَ أبو عبيد: يتشاورون فيك ليقتلوك: يعني أشراف قَوْمِ فِرْعَوْنَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: ائْتَمَرَ الْقَوْمُ وَتَآمَرُوا: أَيْ أَمَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ «1» قَالَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ: أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شِيمَةً ... وَفِي كُلِّ حَادِثَةٍ يُؤْتَمَرُ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فِي الْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ، وَاللَّامِ لِلْبَيَانِ لِأَنَّ مَعْمُولَ الْمَجْرُورِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَخَرَجَ مُوسَى مِنَ الْمَدِينَةِ حَالَ كَوْنِهِ خَائِفًا مِنَ الظَّالِمِينَ مُتَرَقِّبًا لُحُوقَهُمْ بِهِ، وَإِدْرَاكَهُمْ لَهُ، ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ بِأَنْ يُنْجِيَهُ مِمَّا خَافَهُ قَائِلًا: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ: خَلِّصْنِي مِنَ القوم الكافرين، وادفعهم عني، وحل بين وَبَيْنَهُمْ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ أَيْ: نَحْوَ مَدْيَنَ قَاصِدًا لَهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ سَلَكَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي تِلْقَاءَ مَدْيَنَ فِيهَا، انْتَهَى. يقال: دار تِلْقَاءَ دَارِ فُلَانٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ اللِّقَاءِ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقَرْيَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ سُلْطَانِ فِرْعَوْنَ، وَلِهَذَا خَرَجَ إِلَيْهَا قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أَيْ: يُرْشِدَنِي نَحْوَ الطَّرِيقِ الْمُسْتَوِيَةِ إِلَى مَدْيَنَ وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أَيْ: وَصَلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَسْتَقُونَ مِنْهُ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ أَيْ: وَجَدَ عَلَى الْمَاءِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مَوَاشِيَهُمْ، وَلَفْظُ الْوُرُودِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْمَوْرِدِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْبُلُوغِ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: فَلَمَّا وَرَدْنَا الماء زرقا حمامه «2» وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْوُرُودِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «3» وقيل: مدين اسم للقبيلة لا للقرية، وَهِيَ غَيْرُ مُنْصَرِفَةٍ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أَيْ: مِنْ دُونِ النَّاسِ الَّذِينَ يَسْقُونَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجِهَةِ الَّتِي جَاءَ مِنْهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: فِي مَوْضِعٍ أَسْفَلَ مِنْهُمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ أَيْ: تَحْبِسَانِ أَغْنَامَهُمَا مِنَ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرَغَ النَّاسُ وَيَخْلُوَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَاءِ، وَمَعْنَى الذَّوْدِ: الدَّفْعُ وَالْحَبْسُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أبيت على باب القوافي كأنّما ... أذود سِرْبًا مِنَ الْوَحْشِ نُزَّعَا أَيْ: أَحْبِسُ وَأَمْنَعُ، وَوَرَدَ الذَّوْدُ: بِمَعْنَى الطَّرْدِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَقَدْ سَلَبَتْ عَصَاكَ بَنُو تَمِيمٍ ... فَمَا تَدْرِي بأيّ عصى تذود

_ (1) . الطلاق: 6. [.....] (2) . هو من المعلقة، وعجزه: وضعن عصيّ الحاضر المتخيّم (3) . مريم: 71.

أَيْ: تَطْرُدُ قالَ مَا خَطْبُكُما أَيْ: قَالَ مُوسَى لِلْمَرْأَتَيْنِ: مَا شَأْنُكُمَا لَا تَسْقِيَانِ غَنَمَكُمَا مَعَ النَّاسِ؟ وَالْخَطْبُ: الشَّأْنُ، قِيلَ: وَإِنَّمَا يُقَالُ مَا خَطْبُكَ لِمُصَابٍ، أَوْ مُضْطَهَدٍ، أَوْ لِمَنْ يَأْتِي بِمُنْكَرٍ قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ أَيْ: إِنَّ عَادَتَنَا التَّأَنِّي حَتَّى يَصْدُرَ النَّاسُ عَنِ الْمَاءِ، وَيَنْصَرِفُوا مِنْهُ حَذَرًا مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ، أَوْ عَجْزًا عَنِ السَّقْيِ مَعَهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُصْدِرُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ مُضَارِعُ أَصْدَرَ الْمُتَعَدِّي بِالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الدَّالِ مِنْ صَدَرَ يَصْدُرُ لَازِمًا، فَالْمَفْعُولُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مَحْذُوفٌ، أَيْ: يُرْجِعُونَ مَوَاشِيَهُمْ، وَالرِّعَاءُ: جَمْعُ رَاعٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «الرِّعَاءُ» بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِفَتْحِهَا. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ: هُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامُ الصِّفَةِ، فَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. وَقُرِئَ «الرُّعَاءُ» بِالضَّمِّ اسْمُ جَمْعٍ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ «نُسْقِي» بِضَمِّ النُّونِ مِنْ أَسْقَى وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ عَالِي السِّنِّ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِهِمَا، أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْقِيَ مَاشِيَتَهُ مِنَ الْكِبَرِ، فَلِذَلِكَ احْتَجْنَا وَنَحْنُ امْرَأَتَانِ ضَعِيفَتَانِ أَنْ نَسْقِيَ الْغَنَمَ لِعَدَمِ وُجُودِ رَجُلٍ يَقُومُ لَنَا بِذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَهُمَا سَقَى لَهُمَا رَحْمَةً لَهُمَا، أَيْ: سَقَى أَغْنَامَهُمَا لِأَجْلِهِمَا ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنَ السَّقْيِ لَهُمَا تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ. أَيِ انْصَرَفَ إِلَيْهِ، فَجَلَسَ فِيهِ، قِيلَ: كان هذا الظل ظل سمرة هنالك. ثُمَّ قَالَ لَمَّا أَصَابَهُ مِنَ الْجُهْدِ وَالتَّعَبِ مُنَادِيًا لِرَبِّهِ: إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ أَيَّ خَيْرٍ كَانَ فَقِيرٌ أَيْ: مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ، قِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ الطَّعَامَ، وَاللَّامُ فِي لِمَا أَنْزَلْتَ مَعْنَاهَا إِلَى: قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ هُوَ فَقِيرٌ لَهُ، وَإِلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي أَمَالِيهِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قَالَ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَاسْتَوى قَالَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمُعَمَّرِينَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ قَالَ: الْأَشُدُّ مَا بَيْنَ الثَّمَانِيَ عَشْرَةَ إِلَى الثَّلَاثِينَ، وَالِاسْتِوَاءُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، فَإِذَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ أَخَذَ فِي النُّقْصَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها قَالَ: نِصْفُ النَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ قَالَ: إِسْرَائِيلِيٌّ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ قَالَ: قِبْطِيٌّ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ الْقِبْطِيِّ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قَالَ: فَمَاتَ، قَالَ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى مُوسَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ: هُوَ صَاحِبُ مُوسَى الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ هُوَ الَّذِي اسْتَصْرَخَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَنْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ فَهُوَ جَبَّارٌ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ؟ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَا يَكُونُ الرَّجُلُ جَبَّارًا حَتَّى يَقْتُلَ نَفْسَيْنِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ مُوسَى خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، جَائِعًا لَيْسَ مَعَهُ زَادٌ حَتَّى انتهى إلى مدين، وعَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَامْرَأَتَانِ جَالِسَتَانِ

بِشِيَاهِهِمَا فَسَأَلَهُمَا مَا خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ قَالَ: فَهَلْ قُرْبَكُمَا مَاءٌ؟ قَالَتَا: لَا، إِلَّا بِئْرٌ عَلَيْهَا صَخْرَةٌ قَدْ غُطِّيَتْ بِهَا لَا يُطِيقُهَا نفر، قال فانطلقا فَأَرِيَانِيهَا، فَانْطَلَقَتَا مَعَهُ، فَقَالَ بِالصَّخْرَةِ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا، ثم استقى لهم سَجْلًا وَاحِدًا فَسَقَى الْغَنَمَ، ثُمَّ أَعَادَ الصَّخْرَةَ إِلَى مَكَانِهَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَسَمِعَتَا، قَالَ: فَرَجَعَتَا إِلَى أَبِيهِمَا فَاسْتَنْكَرَ سُرْعَةَ مَجِيئِهِمَا، فَسَأَلَهُمَا فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا: انْطَلِقِي فادعيه فأتت، ف قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَمَشَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهَا امْشِي خَلْفِي، فَإِنِّي امْرُؤٌ مِنْ عُنْصُرِ إِبْرَاهِيمَ لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَرَى مِنْكِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيَّ، وَأَرْشِدِينِي الطَّرِيقَ فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ: لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ لَهَا أَبُوهَا: مَا رَأَيْتِ مِنْ قُوَّتِهِ وَأَمَانَتِهِ؟ فَأَخْبَرَتْهُ بِالْأَمْرِ الَّذِي كَانَ، قَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ فَإِنَّهُ قَلَبَ الْحَجَرَ وَحْدَهُ، وَكَانَ لَا يَقْلِبُهُ إِلَّا النَّفَرُ. وَأَمَّا أَمَانَتُهُ فَقَالَ امْشِي خَلْفِي وَأَرْشِدِينِي الطَّرِيقَ لِأَنِّي امْرُؤٌ مِنْ عُنْصُرِ إِبْرَاهِيمَ لَا يَحِلُّ لِي مِنْكِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ. قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنْ مُوسَى لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، فَلَمَّا فَرَغُوا أَعَادُوا الصَّخْرَةَ عَلَى الْبِئْرِ وَلَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا عَشَرَةُ رِجَالٍ، فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَتَيْنِ، قَالَ: مَا خَطْبُكُمَا؟ فَحَدَّثَتَاهُ، فَأَتَى الْحَجَرَ، فَرَفَعَهُ وَحْدَهُ، ثُمَّ اسْتَقَى، فَلَمْ يَسْتَقِ إِلَّا ذَنُوبًا وَاحِدًا حَتَّى رُوِيَتِ الْغَنَمُ، فَرَجَعَتِ الْمَرْأَتَانِ إِلَى أَبِيهِمَا فَحَدَّثَتَاهُ، وَتَوَلَّى مُوسَى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. فقال: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ وَاضِعَةً ثَوْبَهَا عَلَى وَجْهِهَا لَيْسَتْ بِسَلْفَعٍ مِنَ النِّسَاءِ خَرَّاجَةً وَلَّاجَةً «1» قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَقَامَ مَعَهَا مُوسَى، فَقَالَ لَهَا: امْشِي خَلْفِي وَانْعَتِي لِيَ الطَّرِيقَ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُصِيبَ الرِّيحُ ثِيَابَكِ، فَتَصِفُ لِي جَسَدَكِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى أَبِيهَا قَصَّ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قَالَ: يَا بُنَيَّةُ مَا عِلْمُكِ بِأَمَانَتِهِ وَقُوَّتِهِ؟ قَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ فَرَفْعُهُ الْحَجَرَ وَلَا يُطِيقُهُ إِلَّا عَشَرَةُ رِجَالٍ، وَأَمَّا أَمَانَتُهُ فَقَالَ امْشِي خَلْفِي وَانْعَتِي لِيَ الطَّرِيقَ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ تُصِيبَ الرِّيحُ ثِيَابَكِ فَتَصِفُ لِي جَسَدَكِ، فزاده ذلك رغبة فيه، ف قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ: فِي حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالْوَفَاءِ بِمَا قُلْتُ قالَ مُوسَى ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ فَزَوَّجَهُ وَأَقَامَ مَعَهُ يَكْفِيهِ وَيَعْمَلُ فِي رِعَايَةِ غَنَمِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَزَوَّجَهُ صُفُورَا وَأُخْتُهَا شَرْفَا، وَهُمَا اللَّتَانِ كَانَتَا تَذُودَانِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ لِطُرُقٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: إن إسناده صحيح. السلفع مِنَ النِّسَاءِ الْجَرِيئَةُ السَّلِيطَةُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ قَالَ: وَرَدَ الْمَاءَ حَيْثُ وَرَدَ وَإِنَّهُ لَتَتَرَاءَى خُضْرَةُ الْبَقْلِ فِي بَطْنِهِ مِنَ الْهُزَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ

_ (1) . المقصود: أنها ليست جريئة على الرجال، وأنها من اللواتي يقرن في بيوتهن.

[سورة القصص (28) : الآيات 25 إلى 32]

وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَمَانِ لَيَالٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طعام إلّا ورق الشجر، وخرج حافيا، فلما وَصَلَ إِلَيْهَا حَتَّى وَقَعَ خُفُّ قَدَمِهِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: تَذُودانِ تَحْبِسَانِ غَنَمَهُمَا حَتَّى يَنْزِعَ النَّاسُ وَيَخْلُوَ لَهُمَا الْبِئْرُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَقَدْ قَالَ مُوسَى: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلَتْ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وَهُوَ أَكْرَمُ خَلْقِهِ عَلَيْهِ، وَلَقَدِ افْتَقَرَ إِلَى شِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَقَدْ لَصِقَ بَطْنُهُ بِظَهْرِهِ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: مَا سَأَلَ إِلَّا الطَّعَامَ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: سَأَلَ فِلَقًا مِنَ الْخُبْزِ يَشُدُّ بِهَا صُلْبَهُ مِنَ الجوع. [سورة القصص (28) : الآيات 25 الى 32] فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قَوْلُهُ: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ فَذَهَبَتَا إِلَى أَبِيهِمَا سَرِيعَتَيْنِ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمَا الْإِبْطَاءَ فِي السَّقْيِ، فَحَدَّثَتَاهُ بِمَا كَانَ مِنَ الرَّجُلُ الَّذِي سَقَى لَهُمَا. فَأَمَرَ الْكُبْرَى مِنْ بِنْتَيْهِ، وَقِيلَ: الصُّغْرَى أَنْ تَدْعُوَهُ لَهُ فَجَاءَتْهُ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُمَا ابْنَتَا شُعَيْبٍ. وَقِيلَ: هُمَا ابْنَتَا أَخِي شُعَيْبٍ، وَأَنَّ شُعَيْبًا كَانَ قَدْ مَاتَ. وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَمَحَلُّ «تَمْشِي» النصب على الحال من فاعل جاءت، وعَلَى اسْتِحْياءٍ حَالٌ أُخْرَى، أَيْ: كَائِنَةٌ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ حَالَتَيِ الْمَشْيِ وَالْمَجِيءِ فَقَطْ، وَجُمْلَةُ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالَتْ لَهُ لَمَّا جَاءَتْهُ؟ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا أَيْ: جَزَاءَ سَقْيِكَ لَنَا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ الْقَصَصُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الْمَفْعُولُ: أَيِ الْمَقْصُوصُ يَعْنِي أَخْبَرَهُ بِجَمِيعِ مَا اتَّفَقَ لَهُ مِنْ عِنْدِ قتله القبطيّ إلى عند

_ (1) . قال في القاموس: الخف بالضم: ما أصاب الأرض من باطن القدم.

وُصُولِهِ إِلَى مَاءِ مَدْيَنَ قالَ شُعَيْبٌ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ: فِرْعَوْنَ وَأَصْحَابِهِ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى مدين، وللرازي في هذا الموضع إِشْكَالَاتٍ بَارِدَةٍ جِدًّا لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذْكَرَ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْجَوَابُ عَلَيْهَا يَظْهَرُ لِلْمُقَصِّرِ فَضْلًا عَنِ الْكَامِلِ، وَأَشَفُّ مَا جَاءَ بِهِ أَنْ مُوسَى كَيْفَ أَجَابَ الدَّعْوَةَ الْمُعَلَّلَةَ بِالْجَزَاءِ لِمَا فَعَلَهُ مِنَ السَّقْيِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ اتَّبَعَ سُنَّةَ اللَّهِ فِي إِجَابَةِ دَعْوَةِ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْإِجَابَةُ لِأَجْلِ أَخْذِ الْأَجْرِ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ، وَلِهَذَا وَرَدَ أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ إِلَيْهِ الطَّعَامَ قَالَ: إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَبِيعُ دِينَنَا بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ الْقَائِلَةُ هِيَ الَّتِي جَاءَتْهُ، أَيِ: اسْتَأْجِرْهُ لِيَرْعَى لَنَا الْغَنَمَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَشْرُوعَةً. وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى جَوَازِهَا وَمَشْرُوعِيَّتِهَا جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ إِلَّا الْأَصَمَّ فَإِنَّهُ عَنْ سَمَاعِ أَدِلَّتِهَا أَصَمٌّ، وَجُمْلَةُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ تَعْلِيلٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهَا مِنَ الْإِرْشَادِ لِأَبِيهَا إِلَى اسْتِئْجَارِ مُوسَى، أَيْ: إِنَّهُ حَقِيقٌ بِاسْتِئْجَارِكَ لَهُ لِكَوْنِهِ جَامِعًا بَيْنَ خَصْلَتَيِ: الْقُوَّةِ، وَالْأَمَانَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ أَنَّ أَبَاهَا سَأَلَهَا عَنْ وَصْفِهَا لَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ، فَأَجَابَتْهُ بِمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ عَرْضِ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ لَهَا عَلَى الرَّجُلِ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا ثَبَتَ مِنْ عَرْضِ عُمَرَ لِابْنَتِهِ حَفْصَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ، وَالْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ فِي أَيَّامِ الصَّحَابَةِ أَيَّامِ النُّبُوَّةِ، وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْ عَرْضِ الْمَرْأَةِ لِنَفْسِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ أَيْ: عَلَى أَنْ تَكُونَ أَجِيرًا لِي ثَمَانِيَ سِنِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ عَلَى أَنْ تَجْعَلَ ثَوَابِي أَنْ تَرْعَى غَنَمِي ثَمَانِيَ سِنِينَ، وَمَحَلُّ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ مُضَارِعُ أجرته، ومفعوله الثاني: محذوف، أي: نفسك وثَمانِيَ حِجَجٍ ظَرْفٌ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ: أَجَرْتُ دَارِي وَمَمْلُوكِي غَيْرَ مَمْدُودٍ وَمَمْدُودًا وَالْأَوَّلُ أَكْثَرٌ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أَيْ: إِنْ أَتْمَمْتَ مَا اسْتَأْجَرْتُكَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّعْيِ عَشْرَ سِنِينَ فَمِنْ عِنْدِكَ، أَيْ: تَفَضُّلًا مِنْكَ لَا إِلْزَامًا مِنِّي لَكَ، جَعَلَ مَا زَادَ عَلَى الثَّمَانِيَةِ الْأَعْوَامِ إِلَى تَمَامِ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ، مَوْكُولًا إِلَى الْمُرُوءَةِ، وَمَحَلُّ فَمِنْ عِنْدِكَ الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: فَهِيَ مِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بِإِلْزَامِكَ إِتْمَامَ الْعَشْرَةِ الْأَعْوَامِ، وَاشْتِقَاقُ الْمَشَقَّةُ مِنَ الشَّقِّ، أَيْ: شَقَّ ظَنَّهُ نِصْفَيْنِ، فَتَارَةً يَقُولُ: أَطِيقُ، وَتَارَةً يَقُولُ: لَا أَطِيقُ. ثُمَّ رَغَّبَهُ فِي قَبُولِ الْإِجَارَةِ فَقَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالْوَفَاءِ، وَقِيلَ: أَرَادَ الصَّلَاحَ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ صَلَاحُ الْمُعَامَلَةِ فِي تِلْكَ الْإِجَارَةِ تَحْتَ الْآيَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَقَيَّدَ ذَلِكَ بِالْمَشِيئَةِ تَفْوِيضًا لِلْأَمْرِ إِلَى تَوْفِيقِ اللَّهِ وَمَعُونَتِهِ. ثُمَّ لما فرغ شعيب من كلامه قرره موسى ف قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ، وجملة أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ شرطية وجوابها فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَالْمُرَادُ بِالْأَجَلَيْنِ: الثَّمَانِيَةُ الْأَعْوَامِ، وَالْعَشَرَةُ الْأَعْوَامِ، وَمَعْنَى قَضَيْتُ: وَفَّيْتُ بِهِ، وَأَتْمَمْتُهُ، وَالْأَجَلَيْنِ مَخْفُوضٌ بِإِضَافَةٍ أَيَّ إِلَيْهِ، وَمَا زَائِدَةٌ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: «مَا» فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِإِضَافَةِ أَيَّ إِلَيْهَا، وَ «الْأَجَلَيْنِ» بَدْلٌ مِنْهَا، وَقَرَأَ الْحَسَنُ (أَيْمَا) بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ مسعود (أيّ الأجلين ما قَضَيْتُ) وَمَعْنَى فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ فَلَا ظُلْمَ عَلَيَّ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا قَضَيْتُهُ مِنَ الْأَجَلَيْنِ، أَيْ: كَمَا لَا أُطَالِبُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَانِيَةِ الْأَعْوَامِ لَا أُطَالِبُ

بالنقصان على العشرة. وقيل المعنى: كَمَا لَا أُطَالِبُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ الْأَعْوَامِ، لَا أُطَالِبُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَانِيَةِ الْأَعْوَامِ، وَهَذَا أَظْهَرُ. وَأَصْلُ الْعُدْوَانِ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي غَيْرِ مَا يَجِبُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَقَدْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ لَا عُدْوَانَ عَلَيْهِ إِذَا أَتَمَّهُمَا، وَلَكِنَّهُ جَمَعَهُمَا لِيَجْعَلَ الْأَوَّلَ كَالْأَتَمِّ فِي الْوَفَاءِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ (عُدْوَانَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِكَسْرِهَا وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ أَيْ: عَلَى مَا نَقُولُ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْجَارِيَةِ بَيْنَنَا شَاهِدٌ وَحَفِيظٌ، فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدِنَا إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ مُوسَى، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ شُعَيْبٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِوُقُوعِهِ فِي جُمْلَةِ كَلَامِ مُوسَى فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ هُوَ أَكْمَلُهُمَا وَأَوْفَاهُمَا، وَهُوَ الْعَشْرَةُ الْأَعْوَامِ كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ الْبَحْثِ، وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ وَسارَ بِأَهْلِهِ إِلَى مِصْرَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَذْهَبُ بِأَهْلِهِ حَيْثُ شَاءَ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا أَيْ: أَبْصَرَ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَلِي الطُّورَ نَارًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ طه مُسْتَوْفًى قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ وَهَذَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ طه وَفِي سُورَةِ النَّمْلِ أَوْ جَذْوَةٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَالسُّلَمِيُّ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ بِفَتْحِهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الجذوة والجذوة والجذوة: الجمرة، والجمع جذا وجذا وجذا. قَالَ مُجَاهِدٌ فِي الْآيَةِ: أَنَّ الْجَذْوَةَ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَمْرِ فِي لُغَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الْقِطْعَةُ الْغَلِيظَةُ مِنَ الْخَشَبِ كان في طرفها نار أو لم يكن، ومما يُؤَيِّدُ أَنَّ الْجَذْوَةَ: الْجَمْرَةُ قَوْلُ السُّلَمِيِّ: وَبُدِّلَتْ بَعْدَ الْمِسْكِ وَالْبَانِ شِقْوَةٌ ... دُخَانُ الْجَذَا فِي رَأْسِ أَشْمَطَ شَاحِبِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أَيْ: تَسْتَدْفِئُونَ بِالنَّارِ فَلَمَّا أَتاها أَيْ: أَتَى النَّارَ الَّتِي أَبْصَرَهَا، وَقِيلَ: أَتَى الشَّجَرَةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِعَدَمِ تَقَدُّمِ الذِّكْرِ لِلشَّجَرَةِ نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالْأَيْمَنُ: صِفَةٌ لِلشَّاطِئِ، وَهُوَ مِنَ الْيُمْنِ: وَهُوَ الْبَرَكَةُ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ الْمُقَابِلِ لِلْيَسَارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُوسَى، أَيِ: الَّذِي يَلِي يَمِينَهُ دُونَ يَسَارِهِ، وَشَاطِئُ الْوَادِي: طَرَفُهُ، وَكَذَا شَطُّهُ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَجَمْعُ الشَّاطِئِ أَشْطَاءٌ، وَقَوْلُهُ: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مُتَعَلِّقٌ بِنُودِيَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الشاطئ، ومِنَ الشَّجَرَةِ بَدَلُ اشْتِمَالِ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ، لِأَنَّ الشَّجَرَةَ كَانَتْ نَابِتَةً عَلَى الشَّاطِئِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يَقُولُ شَاطِئَ الْأَوْدِيَةِ وَلَا يُجْمَعُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي الْبُقْعَةِ بِضَمِّ الْبَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو سَلَمَةَ وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ بِفَتْحِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ حَكَاهَا أَبُو زيد أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ أَنْ: هِيَ الْمُفَسِّرَةُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَجُمْلَةُ النِّدَاءِ مُفَسِّرَةٌ لَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ «إِنِّي» عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَوْ عَلَى تَضْمِينِ النِّدَاءِ مَعْنَاهُ. وَقُرِئَ بِالْفَتْحِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَقَوْلُهُ: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ معطوف على أَنْ يا مُوسى وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ فِي طه وَالنَّمْلِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَلْقَاهَا فَصَارَتْ ثُعْبَانًا فَاهْتَزَّتْ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ فِي سُرْعَةِ حَرَكَتِهَا مَعَ عِظْمِ جِسْمِهَا وَلَّى مُدْبِراً أَيْ: مُنْهَزِمًا، وَانْتِصَابُ مُدْبِرًا عَلَى الْحَالِ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُعَقِّبْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ أيضا على الحال، أي: لم يرجع يَا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ هُنَا مُسْتَوْفًى فَلَا نُعِيدُهُ،

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ جَنَاحُ الْإِنْسَانِ: عَضُدُهُ، وَيُقَالُ لِلْيَدِ كُلِّهَا: جَنَاحٌ، أَيِ: اضْمُمْ إِلَيْكَ يَدَيْكَ الْمَبْسُوطَتَيْنِ لِتَتَّقِيَ بِهِمَا الْحَيَّةَ كَالْخَائِفِ الْفَزِعِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ: الْأُولَى: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جيبك، والثانية: واضمم إليك جناحك، والثالثة: وأدخل يَدَكَ فِي جَيْبِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالضَّمِّ: التَّجَلُّدُ وَالثَّبَاتُ عِنْدَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا، وَمَعْنَى مِنَ الرَّهْبِ مِنْ أَجْلِ الرَّهْبِ، وَهُوَ الْخَوْفُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ (الرَّهَبِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَاءِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وقرأ حَفْصٌ وَالسُّلَمِيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكُوفِيُّونَ إِلَّا حَفْصًا بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِالْجَنَاحِ: عَصَاهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: الرَّهَبُ: الْكُمُّ بِلُغَةِ حِمْيَرَ وبني حنيفة. وقال الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ لِآخَرَ: أَعْطِنِي مَا فِي رَهَبِكَ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّهَبِ، فَقَالَ الْكُمُّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهُ: اضْمُمْ إِلَيْكَ يَدَكَ وَأَخْرِجْهَا مِنَ الْكُمِّ فَذانِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَصَا واليد بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أَيْ: حُجَّتَانِ نَيِّرَتَانِ، وَدَلِيلَانِ وَاضِحَانِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «فَذَانِكَ» بِتَخْفِيفِ النُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِتَشْدِيدِهَا، قِيلَ: وَالتَّشْدِيدُ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَشِبْلٌ وَأَبُو نوفل بياء تَحْتِيَّةٍ بَعْدَ نُونٍ مَكْسُورَةٍ، وَالْيَاءُ بَدَلٌ مِنْ إِحْدَى النُّونَيْنِ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَقِيلَ: لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كائنان منه، وكذلك قوله إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: مُرْسَلَانِ، أَوْ وَاصِلَانِ إِلَيْهِمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ مُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي الظُّلْمِ خَارِجِينَ عَنِ الطَّاعَةِ أَبْلَغَ خُرُوجٍ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ: تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قَالَ: جَاءَتْ مُسْتَتِرَةً بِكُمِّ دِرْعِهَا عَلَى وَجْهِهَا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي الْهُذَيْلِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ مُوسَى عَلَى شُعَيْبٍ إِذَا هُوَ بِالْعَشَاءِ، فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ: كُلْ، قَالَ مُوسَى: أَعُوذُ بِاللَّهِ، قَالَ: وَلِمَ؟ أَلَسْتَ بِجَائِعٍ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عِوَضًا عَمَّا سَقَيْتُ لَهُمَا، وَأَنَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ لَا نَبِيعُ شَيْئًا مِنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، قَالَ: لَا وَاللَّهِ وَلَكِنَّهَا عَادَتِي، وَعَادَةُ آبَائِي، نَقْرِي الضَّيْفَ وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ، فَجَلَسَ مُوسَى فَأَكَلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ شُعَيْبًا هُوَ الَّذِي قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ. وأخرج سعيد بن منصور وابن شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قال: كان صاحب موسى يثرون بن أَخِي شُعَيْبٍ النَّبِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الذي استأجر موسى يثرى صَاحِبُ مَدْيَنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عنه قال: كان اسم ختن «1» موسى يثرون. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يَقُولُ أُنَاسٌ إِنَّهُ شُعَيْبٌ، وَلَيْسَ بِشُعَيْبٍ، وَلَكِنَّهُ سَيِّدُ الْمَاءِ يَوْمَئِذٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ الْمُنْذِرِ السُّلَمِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ سُورَةَ طسم حَتَّى إِذَا بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى قَالَ: «إِنَّ مُوسَى أَجَرَ نَفْسَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ أَوْ عَشْرًا عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وطعام بطنه، فلمّا وفّى

_ (1) . الختن: زوج البنت أو الأخت وكل ما يكون من قبل المرأة كالأب والأخ.

الْأَجَلَ- قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا- فَلَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ، فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ غَنَمُهُ» الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَفِي إِسْنَادِهِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَسَنِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الْبَلَاطِيُّ ضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَإِسْنَادُهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ هَكَذَا: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عن الحارث ابن يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ، قال: سمعت عتبة بن النّدّر السُّلَمِيَّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ، وَيُنْظَرُ فِي بَقِيَّةِ رِجَالِ السَّنَدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَنَسٍ طَرَفًا مِنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عنه نحوه، قوله: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مُوسَى لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ سَيَقْضِي أَكْثَرَ الْأَجَلَيْنِ بَلْ قَالَ: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُوسَى قَضَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِي ذرّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سُئِلْتَ أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْ خَيْرَهُمَا وَأَبَرَّهُمَا، وَإِنْ سُئِلَتْ: أَيَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُلِ الصُّغْرَى مِنْهُمَا، وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ فَقَالَتْ: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ سَأَلَكَ الْيَهُودُ أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْ: أَوْفَاهُمَا، وَإِنْ سَأَلُوكَ أَيَّهُمَا تَزَوَّجَ؟ فَقُلِ: الصُّغْرَى مِنْهُمَا» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا، قَالَ: وَإِنْ سُئِلْتَ أَيَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُلِ: الصُّغْرَى مِنْهُمَا» قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ يُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُوَيْدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا رِوَايَاتُ أَنَّهُ قَضَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ فَلَهَا طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حاتم عن طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ سَارَ بِأَهْلِهِ، فَضَلَّ الطَّرِيقَ، وَكَانَ فِي الشِّتَاءِ فَرُفِعَتْ لَهُ نَارٌ، فَلَمَّا رَآهَا ظَنَّ أَنَّهَا نَارٌ، وَكَانَتْ مِنْ نُورِ اللَّهِ قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ فَإِنْ لَمْ أَجِدْ خَبَرًا آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ مِنَ الْبَرْدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ لَعَلِّي أَجِدُ مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ، وَكَانُوا قَدْ ضَلُّوا الطَّرِيقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَوْ جَذْوَةٍ قَالَ: شِهَابٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يُخَالِفُ مَا قَالَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ذُكِرَتْ لِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي أَوَى إِلَيْهَا مُوسَى، فَسِرْتُ إِلَيْهَا يَوْمِي وَلَيْلَتِي حَتَّى صَبَّحْتُهَا، فَإِذَا هِيَ سَمُرَةٌ خَضْرَاءُ تَرِفُّ، فَصَلَّيْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَسَلَّمْتُ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِعِيرِي وَهُوَ جَائِعٌ، فَأَخَذَ مِنْهَا مَلْآنَ فِيهِ فَلَاكَهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُسِيغَهُ فَلَفَظَهُ، فَصَلَّيْتُ عَلَى النَّبِيِّ وَسَلَّمْتُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ قال: يدك.

[سورة القصص (28) : الآيات 33 إلى 43]

[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 43] قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) لَمَّا سَمِعَ موسى قول الله سبحانه: فذانك برهانان إلى فرعون طَلَبَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُقَوِّيَ قَلْبَهُ، فَ قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً يَعْنِي: الْقِبْطِيَّ الَّذِي وَكَزَهُ فَقَضَى عَلَيْهِ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بِهَا وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً لِأَنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِ مُوسَى حَبْسَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَالْفَصَاحَةُ لُغَةً الْخُلُوصُ، يُقَالُ: فَصُحَ اللَّبَنُ وَأَفْصَحَ فَهُوَ فَصِيحٌ، أَيْ: خَلَصَ مِنَ الرَّغْوَةِ، وَمِنْهُ فَصُحَ الرَّجُلُ: جَادَتْ لُغَتُهُ، وَأَفْصَحَ: تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَقِيلَ: الْفَصِيحُ الَّذِي يَنْطِقُ، وَالْأَعْجَمُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ. وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْبَيَانِ فَالْفَصَاحَةُ: خُلُوصُ الْكَلِمَةِ عَنْ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ وَالْغَرَابَةِ وَمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ، وَفَصَاحَةُ الْكَلَامِ: خُلُوصُهُ مِنْ ضَعْفِ التَّأْلِيفِ وَالتَّعْقِيدِ، وَانْتِصَابُ رِدْءاً عَلَى الْحَالِ، وَالرِّدْءُ: الْمُعِينُ، مِنْ أَرْدَأْتُهُ: أَيْ أَعَنْتُهُ، يُقَالُ فُلَانٌ رِدْءُ فُلَانٍ: إِذَا كَانَ يَنْصُرُهُ وَيَشُدُّ ظَهْرَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ أَصْرَمَ كَانَ رِدْئِي ... وَخَيْرُ النَّاسِ فِي قَلٍّ وَمَالِ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْهَمْزِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَرْدَى عَلَى الْمِائَةِ: إِذَا زَادَ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْمَعْنَى أَرْسِلْهُ مَعِيَ زِيَادَةً فِي تَصْدِيقِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كَأَنَّ كُعُوبَهُ ... نَوَى الْقَسْبِ قَدْ أَرْدَى ذِرَاعًا عَلَى الْعَشْرِ وَرُوِيَ الْبَيْتُ فِي الصِّحَاحِ بِلَفْظِ قَدْ أَرْبَى، وَالْقَسْبُ الصَّلْبُ، وَهُوَ الثَّمَرُ الْيَابِسُ الَّذِي يَتَفَتَّتُ فِي الْفَمِ، وَهُوَ صَلْبُ النَّوَاةِ يُصَدِّقُنِي قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ يُصَدِّقُنِي بِالرَّفْعِ عَلَى الاستئناف، أو الصفة لردءا، أو لحال مِنْ مَفْعُولِ أَرْسِلْهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ يُصَدِّقُونَ أَيْ: فِرْعَوْنُ

وَمَلَؤُهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعِي هَارُونُ لِعَدَمِ انْطِلَاقِ لِسَانِي بِالْمُحَاجَّةِ قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ أَيْ: نُقَوِّيكَ بِهِ، فَشَدُّ الْعَضُدِ كِنَايَةٌ عَنِ التَّقْوِيَةِ، وَيُقَالُ فِي دُعَاءِ الْخَيْرِ: شَدَّ اللَّهُ عَضُدَكَ، وَفِي ضِدِّهِ: فَتَّ اللَّهُ فِي عَضُدِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ عَضُدَكَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ الْحُسَيْنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بضمها. وروي عن الحسن أيضا أنه بِضَمَّةٍ وَسُكُونٍ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِفَتْحِهِمَا وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أَيْ: حُجَّةً وَبُرْهَانًا. أَوْ تَسَلُّطًا عَلَيْهِ، وَعَلَى قَوْمِهِ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بالأذى ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة، وبِآياتِنا مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ: أَيْ تَمْتَنِعَانِ مِنْهُمْ بِآيَاتِنَا، أَوِ اذْهَبَا بِآيَاتِنَا. وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُهُ يَصِلُونَ، وَمَا أَضْعَفَ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَابْنُ جَرِيرٍ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ بِآيَاتِنَا، وَأَوَّلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ: أَوْلَاهَا، وَفِي «أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ» : تَبْشِيرٌ لَهُمَا وَتَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِهِمَا فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ الْبَيِّنَاتُ: الْوَاضِحَاتُ الدَّلَالَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ إِطْلَاقِ الْآيَاتِ، وَهِيَ جَمْعٌ عَلَى الْعَصَا وَالْيَدِ فِي سُورَةِ طه قالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أَيْ: مُخْتَلَقٌ مَكْذُوبٌ، اخْتَلَقْتَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ وَما سَمِعْنا بِهذا الَّذِي جِئْتَ بِهِ مِنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، أَوْ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا السِّحْرِ فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أَيْ: كَائِنًا، أَوْ وَاقِعًا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ يُرِيدُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لِئَلَّا يُصَرِّحَ لَهُمْ بِمَا يُرِيدُهُ قَبْلَ أَنْ يُوَضِّحَ لَهُمُ الْحُجَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقالَ مُوسى بِالْوَاوِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «قَالَ مُوسَى» بِلَا وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عاصما «ومن يكون لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ» بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّ اسْمَ يَكُونُ عَاقِبَةُ الدَّارِ. وَالتَّذْكِيرُ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ، وَلِأَنَّهُ تَأْنِيثٌ مَجَازِيٌّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (تَكُونُ) بِالْفَوْقِيَّةِ، وَهِيَ أَوْضَحُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَالْمُرَادُ بِالدَّارِ هُنَا الدُّنْيَا وَعَاقِبَتُهَا هِيَ الدَّارُ الْآخِرَةُ، وَالْمَعْنَى: لِمَنْ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ؟ وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لِلشَّأْنِ، أَيْ: إِنَّ الشَّأْنَ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، أَيْ: لَا يَفُوزُونَ بِمَطْلَبِ خَيْرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِعَاقِبَةِ الدار: خاتمة الخير، وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي تَمَسَّكَ اللَّعِينُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ مُغَالَطَةً لِقَوْمِهِ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَبُّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى تَكَبُّرِهِ وَتَجَبُّرِهِ، وَإِيهَامِ قَوْمِهِ بِكَمَالِ اقتداره، فقال: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أَيِ: اطْبُخْ لِيَ الطِّينَ حَتَّى يَصِيرَ آجُرًّا فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً أَيِ: اجْعَلْ لِي مِنْ هَذَا الطِّينِ الَّذِي تُوقِدُ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ آجُرًّا صَرْحًا: أَيْ قَصْرًا عَالِيًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أَيْ: أَصْعَدُ إِلَيْهِ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ وَالطُّلُوعُ، وَالِاطِّلَاعُ: وَاحِدٌ، يُقَالُ طَلَعَ الْجَبَلَ وَاطَّلَعَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: أَرْضُ مِصْرَ، وَالِاسْتِكْبَارُ: التَّعْظِيمُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، بَلْ بِالْعُدْوَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ يَدْفَعُ بِهَا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَلَا شُبْهَةَ يَنْصِبُهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ أَيْ: فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وَالْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ: الْبَعْثُ وَالْمَعَادُ، قَرَأَ نَافِعٌ وَشَيْبَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَيَعْقُوبُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «لَا يَرْجِعُونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى: أَبُو حَاتِمٍ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةِ: أَبُو عُبَيْدٍ

فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ بَعْدَ أَنْ عَتَوْا فِي الْكُفْرِ وَجَاوَزُوا الْحَدَّ فِيهِ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أَيْ: طَرَحْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْكَلَامِ فِي هَذَا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ الخطاب لنبينا محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَيِ: انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ آخِرُ أَمْرِ الْكَافِرِينَ، حِينَ صَارُوا إِلَى الْهَلَاكِ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أَيْ: صَيَّرْنَاهُمْ رُؤَسَاءَ مَتْبُوعِينَ مُطَاعِينَ فِي الْكَافِرِينَ، فَكَأَنَّهُمْ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّمَادِي فِيهِ، يَدْعُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلَى النَّارِ لِأَنَّهُمُ اقْتَدَوْا، وَسَلَكُوا طَرِيقَتَهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ. وقيل المعنى: إنه يَأْتَمَّ بِهِمْ، أَيْ: يَعْتَبِرْ بِهِمْ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَيَتَّعِظْ بِمَا أُصِيبُوا بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ أَيْ: لَا يَنْصُرُهُمْ أَحَدٌ وَلَا يَمْنَعُهُمْ مَانِعٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أَيْ: طَرْدًا وَإِبْعَادًا، أَوْ أَمَرْنَا الْعِبَادَ بِلَعْنِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ ذَكَرَهُمْ لَعَنَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ الْمَقْبُوحُ: الْمَطْرُودُ الْمُبْعَدُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ كَيْسَانَ: مَعْنَاهُ مِنَ الْمُهْلَكِينَ الْمَمْقُوتِينَ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: قَبَحَ اللَّهُ فُلَانًا قَبْحًا وَقُبُوحًا: أَبْعَدَهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: قَبَحْتُ وَجْهَهُ بِالتَّخْفِيفِ: بِمَعْنَى قَبَّحْتُ بِالتَّشْدِيدِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا قَبَّحَ اللَّهُ الْبَرَاجِمَ كُلَّهَا ... وَقَبَّحَ يَرْبُوعًا وَقَبَّحَ دَارِمَا وَقِيلَ: الْمَقْبُوحُ الْمُشَوَّهُ الْخِلْقَةِ، وَالْعَامِلُ فِي (يَوْمَ) مَحْذُوفٌ يُفَسِّرُهُ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقُبِّحُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعٍ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، أَيْ: وَأَتْبَعْنَاهُمْ لَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى لَعْنَةً عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَلَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يَعْنِي التوراة ومِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى أَيْ: قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ وَخَسَفْنَا بِقَارُونَ، وَانْتِصَابُ بَصائِرَ لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ حَالٌ، أَيْ: آتَيْنَاهُ الْكِتَابَ لِأَجْلِ يَتَبَصَّرُ بِهِ النَّاسُ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ بَصَائِرَ النَّاسِ يُبْصِرُونَ بِهِ الْحَقَّ، وَيَهْتَدُونَ إِلَيْهِ وَيُنْقِذُونَ أَنْفُسَهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ بِالِاهْتِدَاءِ بِهِ وَرَحْمَةً لَهُمْ مِنَ اللَّهِ رَحِمَهُمْ بِهَا لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ فيشكرون الله ويؤمنون به وَيُجِيبُونَ دَاعِيَهُ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ من طريق عليّ بن أبي أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي كَيْ يُصَدِّقَنِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا قال فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي قَالَ جِبْرِيلُ: يَا رَبِّ طغى عبدك فأذن لِي فِي هَلْكِهِ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ هُوَ عَبْدِي وَلَنْ يَسْبِقَنِي، لَهُ أَجْلٌ يَجِيءُ ذَلِكَ الْأَجَلُ، فَلَمَّا قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «1» قَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ سَبَقَتْ دَعْوَتُكَ فِي عَبْدِي وَقَدْ جَاءَ أَوَانُ هَلَاكِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَلِمَتَانِ قَالَهُمَا فِرْعَوْنُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وَقَوْلِهِ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قَالَ: كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ عَامًا فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» «2» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ أَوَّلُ مَنْ طَبَخَ الْآجُرَّ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ

_ (1) . النازعات: 24. (2) . النازعات: 25.

[سورة القصص (28) : الآيات 44 إلى 57]

مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا وَلَا قَرْنًا وَلَا أُمَّةً وَلَا أَهْلَ قَرْيَةٍ بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ مُنْذُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ غَيْرَ الْقَرْيَةِ الَّتِي مُسِخَتْ قِرَدَةً، أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى. وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عن أبي سعيد موقوفا. [سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 57] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، أَيْ: وَمَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ بِجَانِبِ الْجَبَلِ الْغَرْبِيِّ، فَيَكُونُ مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بِجَانِبِ الْوَادِي الْغَرْبِيِّ: أَيْ حَيْثُ نَاجَى مُوسَى رَبَّهُ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أَيْ: عَهِدْنَا إِلَيْهِ، وَأَحْكَمْنَا الْأَمْرَ مَعَهُ بِالرِّسَالَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ لِذَلِكَ حَتَّى تَقِفَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَتَحْكِيَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِكَ. وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى تَفَاصِيلِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْحُضُورِ عِنْدَهَا مِنْ نَبِيِّنَا محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْمُشَاهَدَةِ لَهَا مِنْهُ، وَانْتَفَى بِالْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتَلَقَّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَا عَلَّمَهُ مُعَلِّمٌ مِنْهُمْ، كَمَا قَدَّمْنَا تَقْرِيرَهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِوَحْيٍ مِنْهُ إِلَى رَسُولِهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلِكِ النَّازِلِ بِذَلِكَ، فَهَذَا الْكَلَامُ هُوَ عَلَى طَرِيقَةِ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ «1» وقيل: معنى

_ (1) . آل عمران: 44.

إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ إِذْ كَلَّفْنَاهُ وَأَلْزَمْنَاهُ، وَقِيلَ: أَخْبَرْنَاهُ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيُ كَوْنِهِ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ نَفْيَ كَوْنِهِ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْضُرَ وَلَا يَشْهَدُ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّاهِدِينَ: السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِلْمِيقَاتِ وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أَيْ: خَلَقْنَا أُمَمًا بَيْنَ زَمَانِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَزَمَانِ مُوسَى فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ طَالَتْ عَلَيْهِمُ الْمُهْلَةُ وَتَمَادَى عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَتَغَيَّرَتِ الشَّرَائِعُ، وَالْأَحْكَامُ وَتُنُوسِيَتِ الْأَدْيَانُ، فَتَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ وَنَسَوْا عَهْدَهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ «1» ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَهِدَ إِلَى مُوسَى عُهُودًا فِي محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَفِي الْإِيمَانِ بِهِ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَضَتِ الْقُرُونُ بَعْدَ الْقُرُونِ نَسَوْا تِلْكَ الْعُهُودَ، وَتَرَكُوا الْوَفَاءَ بِهَا وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أَيْ: مُقِيمًا بَيْنَهُمْ كَمَا أَقَامَ مُوسَى حَتَّى تَقْرَأَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَبَرَهُمْ وَتَقُصَّ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِكَ يُقَالُ: ثَوَى يَثْوِي ثَوَاءً وَثُوِيًّا فَهُوَ ثَاوٍ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: لَقَدْ كَانَ فِي حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ ... تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأَمُ سَائِمُ وَقَالَ الْعَجَّاجُ: فَبَاتَ حَيْثُ يَدْخُلُ الثَّوِيُّ يَعْنِي الضَّيْفَ الْمُقِيمَ. وَقَالَ آخَرُ: طَالَ الثَّوَاءُ عَلَى رَسُولِ الْمَنْزِلِ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أَيْ: تَقْرَأُ عَلَى أَهْلِ مَدْيَنَ آيَاتِنَا، وَتَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: تُذَكِّرُهُمْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ خَبَرُ ثَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الْخَبَرُ، وَثَاوِيًا حَالٌ. وَجَعَلَهَا الْفَرَّاءُ مُسْتَأْنَفَةً كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَا أَنْتَ تَتْلُو عَلَى أُمَّتِكَ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أَيْ: أَرْسَلْنَاكَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَنْزَلَنَا عَلَيْكَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عَلِمْتَهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّكَ لَمْ تشاهد قصص الأنبياء، ولا تليت عليك، ولكن أَوْحَيْنَاهَا إِلَيْكَ، وَقَصَصْنَاهَا عَلَيْكَ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا أَيْ: وَمَا كُنْتَ يَا محمد بجانب الجبل، المسمى بالطور إِذْ نَادَيْنَا مُوسَى لَمَّا أَتَى إِلَى الْمِيقَاتِ مع السبعين. وقيل: المنادي هو أمة محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَالَ وَهْبٌ: وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَضْلَ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ قَالَ: يَا رَبِّ أَرِنِيهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ: إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَهُمْ وَإِنْ شِئْتَ نَادَيْتُهُمْ فَأَسْمَعْتُكَ صَوْتَهُمْ، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، فَقَالَ اللَّهُ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! فَأَجَابُوا مِنْ أَصْلَابِ آبَائِهِمْ. فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: مَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ كَلَّمْنَا مُوسَى فَنَادَيْنَا أُمَّتَكَ، وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَيُقَوِّيهِ وَيُرَجِّحُهُ فِي آخِرِ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أَيْ: وَلَكِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ رحمة منا بكم، وقيل: ولكن أَرْسَلَنَا بِالْقُرْآنِ رَحْمَةً لَكُمْ، وَقِيلَ: عَلَّمْنَاكَ، وَقِيلَ: عَرَّفْنَاكَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مَنْصُوبٌ: يَعْنِي: رَحْمَةً عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: وَلَكِنْ رَحِمْنَاكَ رَحْمَةً. وَقَالَ الزجاج: هو مفعول

_ (1) . الحديد: 16.

مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِكَ لِأَجْلِ الرَّحْمَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَيْ لَمْ تَشْهَدْ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا تُلِيَتْ عَلَيْكَ، وَلَكِنْ بَعَثْنَاكَ، وَأَوْحَيْنَاهَا إِلَيْكَ لِلرَّحْمَةِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ خَبَرٌ لِكَانَ مُقَدَّرَةً، أَيْ: وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ رَحْمَةً. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو حَيْوَةَ رَحْمَةٌ بِالرَّفْعِ على تقدير: وَلَكِنْ أَنْتَ رَحْمَةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ الْمُقَدَّرَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا تَامَّةٌ، وَاللَّامُ فِي لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَقْدِيرِهِ، وَالْقَوْمُ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِهِمْ نذير ينذرهم قبله صلّى الله عليه وسلم، وجملة «ما أتاهم» إلخ صفة لقوما لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَيْ: يَتَّعِظُونَ بِإِنْذَارِكَ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لَوْلَا هَذِهِ: هِيَ الِامْتِنَاعِيَّةُ، وَأَنْ وَمَا فِي حَيِّزِهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَتَقْدِيرُهُ مَا أَرْسَلَنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا، يَعْنِي: أَنَّ الْحَامِلَ عَلَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ هُوَ إِزَاحَةُ عِلَلِهِمْ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ «1» وقد رواه ابْنُ عَطِيَّةَ لَعَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْوَاحِدِيُّ فَقَالَ: وَالْمَعْنَى لَوْلَا أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِتَرْكِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ لَعَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ بِكُفْرِهِمْ، وَقَوْلُهُ: فَيَقُولُوا عَطْفٌ عَلَى تُصِيبُهُمْ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا هُوَ فِي حَيِّزِ لَوْلَا، أَيْ: فَيَقُولُوا: رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا وَلَوْلَا هَذِهِ الثَّانِيَةُ: هِيَ التَّحْضِيضِيَّةُ، أَيْ: هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنْ عِنْدِكَ، وَجَوَابُهَا هُوَ فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ لِكَوْنِهِ جَوَابًا لِلتَّحْضِيضِ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: الْآيَاتُ التَّنْزِيلِيَّةُ الظَّاهِرَةُ الْوَاضِحَةُ، وَإِنَّمَا عَطَفَ الْقَوْلَ عَلَى تُصِيبُهُمْ لِكَوْنِهِ هُوَ السَّبَبُ لِلْإِرْسَالِ، وَلَكِنَّ الْعُقُوبَةَ لَمَّا كَانَتْ هِيَ السَّبَبَ لِلْقَوْلِ، وكان وجوده بوجودهما جعلت العقوبة كَأَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ لِإِرْسَالِ الرُّسُلِ بِوَاسِطَةِ الْقَوْلِ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بهذه الآيات، ومعنى الآيات أَنَّا لَوْ عَذَّبْنَاهُمْ لَقَالُوا: طَالَ الْعَهْدُ بِالرُّسُلِ وَلَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا، وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ لَهُمْ، وَلَا عُذْرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارُ الرُّسُلِ، وَلَكِنَّا أَكْمَلْنَا الْحُجَّةَ، وَأَزَحْنَا الْعِلَّةَ، وَأَتْمَمْنَا الْبَيَانَ بِإِرْسَالِكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَيْ: فَلَمَّا جَاءَ أَهْلَ مَكَّةَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِ الله وهو محمد وما أنزل عليه من القرآن تعنتا منهم وجدالا بالباطل قالوا: هَلَّا أُوتِيَ هَذَا الرَّسُولُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا، التَّوْرَاةُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَأَجَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقَوْلِ، أَوْ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِآيَاتِ مُوسَى كَمَا كَفَرُوا بِآيَاتِ مُحَمَّدٍ، وَجُمْلَةُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ كفرهم وعنادهم، والمراد بقولهم: سِحْرانِ مُوسَى وَمُحَمَّدٌ، وَالتَّظَاهُرُ: التَّعَاوُنُ، أَيْ: تَعَاوَنَا عَلَى السحر، والضمير في قوله: «أو لم يَكْفُرُوا» لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: هُوَ لِلْيَهُودِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّ الْيَهُودَ لَا يَصِفُونَ مُوسَى بِالسِّحْرِ، إِنَّمَا يَصِفُهُ بِذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَأَمْثَالُهُمْ إِلَّا أَنْ يُرَادَ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ مُوسَى كَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَإِنَّهُمْ وَصَفُوا مُوسَى وَهَارُونَ بِالسِّحْرِ، وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْيَهُودِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِمَنْ كَفَرَ بِمُوسَى، وَمَنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الذين كفروا وَصَفُوهُ بِالسِّحْرِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَصَفُوهُ أَيْضًا بالسحر. وقيل: المعنى: أو لم يَكْفُرِ الْيَهُودُ فِي عَصْرِ مُحَمَّدٍ بِمَا أُوتِيَ موسى من قبله بالبشارة

_ (1) . النساء: 165.

بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ (سَاحِرَانِ) وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ (سِحْرَانِ) يَعْنُونَ: التَّوْرَاةَ، وَالْقُرْآنَ، وَقِيلَ: الْإِنْجِيلُ، وَالْقُرْآنُ. قَالَ بِالْأَوَّلِ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ بِالثَّانِي أَبُو زَيْدٍ. وقيل: إن الضمير في «أو لم يَكْفُرُوا» لِلْيَهُودِ، وَأَنَّهُمْ عَنَوْا بِقَوْلِهِمْ (سَاحِرَانِ) عِيسَى وَمُحَمَّدًا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ أَيْ: بِكُلٍّ مِنْ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ، أَوْ مِنْ مُوسَى وَهَارُونَ، أَوْ مِنْ مُوسَى وَعِيسَى عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ، فَالْمُرَادُ: التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ، أَوِ الْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَقْرِيرٌ لِمَا تَقَدَّمَهَا مِنْ وصف النبيين بالسحر، أو ومن وصف الكتابين به، وتأكيد لذلك. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ قَوْلًا يَظْهَرُ بِهِ عَجْزُهُمْ، فَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ فَأْتُوا بِكِتَابٍ هُوَ أَهْدَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، وَأَتَّبِعْهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَقَدْ جَزَمَهُ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ لِذَلِكَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِرَفْعِ أَتَّبِعُهُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ: فَأَنَا أَتَّبِعُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ صِفَةٌ لِلْكِتَابِ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَهَكُّمٌ بِهِ. وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْكُوفِيِّينَ أَقْوَى مِنْ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهُ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى الْكِتَابَيْنِ لَا إِلَى الرَّسُولَيْنِ، وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِنْ كُنْتُمْ فِيمَا وَصَفْتُمْ بِهِ الرَّسُولَيْنِ، أَوِ الْكِتَابَيْنِ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أَيْ: لَمْ يَفْعَلُوا مَا كَلَّفْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِكِتَابٍ هُوَ أَهْدَى مِنَ الْكِتَابَيْنِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أَيْ: آرَاءَهُمُ الزَّائِغَةَ، وَاسْتِحْسَانَاتِهِمُ الزَّائِفَةَ، بِلَا حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ بِالْإِيمَانِ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَتَعْدِيَةُ يَسْتَجِيبُوا بِاللَّامِ هُوَ أَحَدُ الْجَائِزَيْنِ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أَيْ: لَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْهُ، بَلْ هُوَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ فِي الضَّلَالِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، وَتَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَصَّلْنَا» بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِتَخْفِيفِهَا، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَتْبَعْنَا بَعْضَهُ بَعْضًا، وَبَعَثْنَا رَسُولًا بَعْدَ رَسُولٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: مَعْنَاهُ أَتْمَمْنَا. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَالسُّدِّيُّ: بَيَّنَّا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَصَلْنَا لَهُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا بِخَيْرِ الْآخِرَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ عاينوا الآخرة في الدنيا، والأولى: أَوْلَى. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ وَصْلِ الْحِبَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَقُلْ لِبَنِي مَرْوَانَ ما بال ذمّتي ... وحبل ضعيف لا يزال يوصّل وقال امرؤ القيس: يقلّب كفّيه بخيط موصّل «1» الضمير فِي «لَهُمْ» عَائِدٌ إِلَى قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: إِلَى اليهود، وقيل: للجميع لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فيكون التذكير سَبَبًا لِإِيمَانِهِمْ مَخَافَةَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلْ بِمَنْ قَبْلَهُمْ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أَيْ: مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ، وَالْمَوْصُولُ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ. هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ طائفة من بني إسرائيل آمنوا

_ (1) . وصدره: درير كخذروف الوليد أمرّه. ودرير: سريع. والخذروف: شيء يدوره الصبي في يده، ويسمع له صوت، ويسمى الخرارة. وأمرّه: أحكم فتله.

بِالْقُرْآنِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَائِرِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي «مِنْ قَبْلِهِ» يَرْجِعُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالضَّمِيرُ فِي «بِهِ» رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِلَى مُحَمَّدٍ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ أَيْ: وَإِذَا يُتْلَى الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ قَالُوا صَدَّقْنَا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا أَيِ: الْحَقُّ الَّذِي نَعْرِفُهُ الْمُنَزَّلُ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أَيْ: مُخْلِصِينَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ، أَوْ مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، لِمَا نَعْلَمُهُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ التَّبْشِيرِ بِهِ، وَأَنَّهُ سَيُبْعَثُ آخِرَ الزَّمَانِ، وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أي: الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَالْبَاءُ فِي بِما صَبَرُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ، وَثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَالْكِتَابِ الْآخِرِ، وَبِالنَّبِيِّ الْأَوَّلِ، وَالنَّبِيِّ الآخر وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ الدرء: أَيْ: يَدْفَعُونَ بِالِاحْتِمَالِ، وَالْكَلَامِ الْحَسَنِ مَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الْأَذَى. وَقِيلَ: يَدْفَعُونَ بِالطَّاعَةِ الْمَعْصِيَةَ، وَقِيلَ: بالتوبة والاستغفار من الذنوب، وَقِيلَ: بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الشِّرْكَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أَيْ: يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي الطَّاعَاتِ، وَفِيمَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ. ثُمَّ مَدَحَهُمْ سُبْحَانَهُ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّغْوِ فَقَالَ: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ تَكَرُّمًا، وَتَنَزُّهًا، وَتَأَدُّبًا بِآدَابِ الشَّرْعِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً «1» ، وَاللَّغْوُ هُنَا: هُوَ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الشَّتْمِ لَهُمْ، وَلِدِينِهِمْ، وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا يَلْحَقُنَا مِنْ ضَرَرِ كُفْرِكُمْ شَيْءٌ، وَلَا يَلْحَقُكُمْ مِنْ نَفْعِ إِيمَانِنَا شَيْءٌ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا السَّلَامِ سَلَامَ التَّحِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ سَلَامُ المتاركة، ومعناه أمنة لكم، وَسَلَامَةٌ لَا نُجَارِيكُمْ، وَلَا نُجَاوِبُكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أَيْ: لَا نَطْلُبُ صُحْبَتَهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا نُرِيدُ أَنْ نَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالسَّفَهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا نُحِبُّ دِينَكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ مِنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هِدَايَتَهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أَيِ: الْقَابِلِينَ لِلْهِدَايَةِ، الْمُسْتَعِدِّينَ لَهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي بَرَاءَةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَيْ: قَالَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ وَمَنْ تَابَعَهُمْ: إِنْ نَدْخُلْ فِي دِينِكَ يَا محمد نتخطف من أرضنا، أي: يتخطفنا الْعَرَبُ مِنْ أَرْضِنَا: يَعْنُونَ مَكَّةَ، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ أَعْذَارِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَتَعْلِلَاتِهِمُ الْعَاطِلَةِ، وَالتَّخَطُّفُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ الِانْتِزَاعُ بِسُرْعَةٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «نَتَخَطَّفْ» بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، وَقَرَأَ الْمِنْقَرِيُّ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَدًّا مُصَدَّرًا بِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِ، وَالتَّقْرِيعِ فَقَالَ: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أَيْ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ حَرَمًا ذَا أَمْنٍ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عَدَّاهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى جَعَلَ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً «2» ، ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الْحَرَمَ بِقَوْلِهِ: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ: تُجْمَعُ إِلَيْهِ الثَّمَرَاتُ على اختلاف أنواعها من الأراضي

_ (1) . الفرقان: 72. (2) . العنكبوت: 67.

الْمُخْتَلِفَةِ، وَتُحَمَلُ إِلَيْهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُجْبَى» بِالتَّحْتِيَّةِ اعْتِبَارًا بِتَذْكِيرِ كُلِّ شَيْءٍ، وَوُجُودِ الْحَائِلِ بَيْنَ الفعل وبين ثمرات، وأيضا ليس بتأنيث ثَمَرَاتٍ بِحَقِيقِيٍّ، وَاخْتَارَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ أَبُو عُبَيْدٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَرَأَ نَافِعٌ بِالْفَوْقِيَّةِ اعْتِبَارًا بِثَمَرَاتٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا ثَمَراتُ بِفَتْحَتَيْنِ، وَقَرَأَ أَبَانُ بِضَمَّتَيْنِ، جَمْعُ ثُمُرٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لِأَنَّ مَعْنَى يُجْبَى: نَرْزُقُهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: نَسُوقُهُ إِلَيْهِمْ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: رَازِقِينَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِفَرْطِ جَهْلِهِمْ وَمَزِيدِ غَفْلَتِهِمْ، وَعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ فِي أَمْرِ مَعَادِهِمْ، وَرَشَادِهِمْ، لِكَوْنِهِمْ مِمَّنْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جرير وابن أبي حاتم وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مَعًا فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا قَالَ: نُودُوا يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَاسْتَجَبْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَنِي. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ المنذر وابن عساكر عنه وَجْهٍ آخَرَ بِنَحْوِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ وَأَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ فِي الْإِبَانَةِ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا مَا كَانَ النِّدَاءُ وَمَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ؟ قَالَ: «كَتَبَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ بِأَلْفَيْ عَامٍ، ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى عَرْشِهِ، ثُمَّ نَادَى: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، أَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَغْفِرُونِي، فَمَنْ لَقِيَنِي مِنْكُمْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدِي، وَرَسُولِي صَادِقًا أَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ» . وَأَخْرَجَ الْخُتُلِّيُّ فِي الدِّيبَاجِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا مَرْفُوعًا قَالَ نُودُوا: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا دَعَوْتُمُونَا إِذِ اسْتَجَبْنَا لَكُمْ، وَلَا سَأَلْتُمُونَا إِذْ أَعْطَيْنَاكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «إِنَّ اللَّهَ نَادَى: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، قَالَ: فَأَجَابُوا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَأَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالُوا: لَبَّيْكَ أَنْتَ رَبُّنَا حَقًّا، وَنَحْنُ عَبِيدُكَ حَقًّا، قَالَ: صَدَقْتُمْ أَنَا رَبُّكُمْ، وَأَنْتُمْ عَبِيدِي حَقًّا، قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي، وَأَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، فَمَنْ لَقِيَنِي مِنْكُمْ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ يَقُولُ: رَبِّ لَمْ يَأْتِنِي كِتَابٌ وَلَا رَسُولٌ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا إِلَخْ: قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ يَعْنِي بِالْكِتَابَيْنِ: التَّوْرَاةُ وَالْفُرْقَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم وأبو القاسم البغوي والباوردي وَابْنُ قَانِعٍ الثَّلَاثَةُ فِي مَعَاجِمَ الصَّحَابَةِ. وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ فِي عَشَرَةِ رَهْطٍ أَنَا أَحَدُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ قَالَ: يَعْنِي مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ

[سورة القصص (28) : الآيات 58 إلى 70]

الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا. وَعَبَدٌ مَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِسَيِّدِهِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْمُسَيَّبِ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ لَمَّا امْتَنَعَ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ قُرَيْشٍ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ نَتَّبِعْكَ يَتَخَطَّفْنَا النَّاسُ، فَنَزَلَتْ وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ: ثمرات الأرض. [سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 70] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قَوْلُهُ: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أَيْ: مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ كَانُوا فِي خَفْضِ عَيْشٍ، وَدَعَةٍ وَرَخَاءٍ، فَوَقَعَ مِنْهُمُ الْبَطَرُ فَأُهْلِكُوا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْبَطَرُ: الطُّغْيَانُ عِنْدَ النِّعْمَةِ. قَالَ عَطَاءٌ: عَاشُوا فِي الْبَطَرِ فَأَكَلُوا رِزْقَ اللَّهِ، وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْمَازِنِيُّ: مَعْنَى بَطِرَتْ مَعِيشَتَها بَطِرَتْ فِي مَعِيشَتِهَا، فَلَمَّا حُذِفَتْ «فِي» تَعَدَّى الْفِعْلُ كقوله: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «1» وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ كَمَا تقول: أبطرك مالك وبطرته، ونظيره عنده قوله تعالى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ «2» وَنَصْبُ الْمَعَارِفِ عَلَى التَّمْيِيزِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ مَعْنَى التَّفْسِيرِ أَنْ تَكُونَ النَّكِرَةُ دَالَّةً عَلَى الْجِنْسِ. وَقِيلَ: إِنْ مَعِيشَتَهَا مَنْصُوبَةٌ ببطرت عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى جَهِلَتْ فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: لَمْ يسكنها أحد بعدهم إلّا زمنا قليلا،

_ (1) . الأعراف: 155. [.....] (2) . البقرة: 130.

كَالَّذِي يَمُرُّ بِهَا مُسَافِرًا، فَإِنَّهُ يَلْبَثُ فِيهَا يَوْمًا، أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، أَوْ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَسْكُنُهَا فِيهَا إِلَّا أَيَّامًا قَلِيلَةً، لِشُؤْمِ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ مَعَاصِيهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَسَاكِنِ، أَيْ: لَمْ تُسْكَنْ بَعْدَ هَلَاكِ أَهْلِهَا إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمَسَاكِنِ وَأَكْثَرُهَا، خَرَابٌ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا وَارِثًا يَرِثُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، وَمَحَلُّ جُمْلَةِ «لَمْ تُسْكَنِ» الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ ثَانٍ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أَيْ: وَمَا صَحَّ، وَلَا اسْتَقَامَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُهْلِكَ الْقُرَى الْكَافِرَةَ، أَيِ: الْكَافِرُ أَهْلُهَا حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يُنْذِرُهُمْ، وَيَتْلُوَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ النَّاطِقَةَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَعَدَّهُ مِنَ الثَّوَابِ لِلْمُطِيعِ، وَالْعِقَابِ لِلْعَاصِي، وَمَعْنَى أُمِّهَا: أَكْبَرُهَا وَأَعْظَمُهَا، وَخَصَّ الْأَعْظَمَ مِنْهَا بِالْبَعْثَةِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ فِيهَا أَشْرَافَ الْقَوْمِ، وَأَهْلَ الْفَهْمِ وَالرَّأْيِ، وَفِيهَا: الْمُلُوكُ وَالْأَكَابِرُ، فَصَارَتْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَالْأُمِّ لِمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: أُمُّ الْقُرَى: أَوَّلُهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأُمِّ الْقُرَى هُنَا مَكَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ «1» الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ، وَجُمْلَةُ «يَتْلُو آيَاتِنَا» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: تَالِيًا عَلَيْهِمْ وَمُخْبِرًا لَهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ سَيَنْزِلُ بِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِينَ لِأَهْلِ الْقُرَى بَعْدَ أَنْ نَبْعَثَ إِلَى أُمِّهَا رَسُولًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ إِلَّا حَالَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ قَدِ اسْتَحَقُّوا الْإِهْلَاكَ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، وَتَأْكِيدِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ «2» ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها الْخِطَابُ لِكُفَّارِ مَكَّةَ، أَيْ: وَمَا أُعْطِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ مُدَّةَ حَيَاتِكُمْ، أَوْ بَعْضَ حَيَاتِكُمْ، ثُمَّ تَزُولُونَ عَنْهُ، أَوْ يَزُولُ عَنْكُمْ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَذَلِكَ إِلَى فَنَاءٍ وَانْقِضَاءٍ وَما عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ثَوَابِهِ وَجَزَائِهِ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ الزَّائِلِ الْفَانِي لِأَنَّهُ لَذَّةٌ خَالِصَةٌ عَنْ شَوْبِ الْكَدَرِ وَأَبْقى لِأَنَّهُ يَدُومُ أَبَدًا، وَهَذَا يَنْقَضِي بِسُرْعَةٍ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَنَّ الْبَاقِيَ أَفْضَلُ مِنَ الْفَانِي، وَمَا فِيهِ لَذَّةٌ خَالِصَةٌ غَيْرُ مَشُوبَةٍ أَفْضَلُ مِنَ اللَّذَّاتِ الْمَشُوبَةِ، بِالْكَدَرِ الْمُنَغَّصَةِ بِعَوَارِضِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ، وقرئ بنصب «متاع» على المصدرية، أي: متمتعون مَتَاعَ الْحَيَاةِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «يَعْقِلُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقِرَاءَتُهُمْ أَرْجَحُ لِقَوْلِهِ: وَما أُوتِيتُمْ أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ أَيْ: وَعَدْنَاهُ بِالْجَنَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى، فَهُوَ لَاقِيهِ، أَيْ: مُدْرِكُهُ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَأُعْطِيَ مِنْهَا بَعْضَ مَا أَرَادَ مَعَ سُرْعَةِ زَوَالِهِ وَتَنْغِيصِهِ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَتَّعْناهُ دَاخِلٌ مَعَهُ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ مُؤَكِّدٌ لِإِنْكَارِ التَّشَابُهِ وَمُقَرِّرٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ هَذَا الَّذِي مَتَّعْنَاهُ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ بِالنَّارِ، وَتَخْصِيصُ المحضرين بالذين أحضروا للعذاب اقتضاء الْمَقَامُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: لَيْسَ حَالُهُمَا سَوَاءً، فَإِنَّ الْمَوْعُودَ بِالْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَظْفَرَ بما وعده بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ نَصِيبُهُ مِنَ الدنيا، وهذا حال

_ (1) . آل عمران: 96. (2) . هود: 117.

الْمُؤْمِنِ. وَأَمَّا حَالُ الْكَافِرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّمْتِيعِ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا يَسْتَوِي فِيهِ هُوَ وَالْمُؤْمِنُ، وَيَنَالُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَظَّهُ مِنْهُ، وَهُوَ صَائِرٌ إِلَى النَّارِ، فَهَلْ يَسْتَوِيَانِ؟ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «ثُمَّ هُوَ» بِضَمِّ الهاء. وقرأ الكسائي وقالوا بِسُكُونِ الْهَاءِ إِجْرَاءً لِثُمَّ مَجْرَى الْوَاوِ وَالْفَاءِ، وَانْتِصَابُ يَوْمَ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ بِالْعَطْفِ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، أَيْ: يَوْمَ يُنَادِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَيَقُولُ لَهُمْ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَكُمْ وَيَشْفَعُونَ لَكُمْ، وَمَفْعُولَا يَزْعُمُونَ مَحْذُوفَانِ، أَيْ: تَزْعُمُونَهُمْ شُرَكَائِي لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أَيْ: حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ العذاب، وهم رؤساء الضلال الذين اتخذوهم أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ. وقال قتادة: هم الشيطان رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَيْ: دَعَوْنَاهُمْ إِلَى الْغَوَايَةِ يَعْنُونَ الْأَتْبَاعَ أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أَيْ: أَضْلَلْنَاهُمْ كَمَا ضَلَلْنَا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مِنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: أن رؤساء الضلال أو الشياطين تبرّؤوا ممن أطاعهم. قال الزجاج: برىء بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَصَارُوا أَعْدَاءً. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «1» وَهَؤُلَاءِ مُبْتَدَأٌ، وَالَّذِينَ أَغْوَيْنَا صِفَتُهُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَغْوَيْنَاهُمْ، وَالْخَبَرُ: أَغْوَيْنَاهُمْ، وَكَمَا أَغْوَيْنَا: نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَقِيلَ: إِنَّ خَبَرَ هَؤُلَاءِ هُوَ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا، وَأَمَّا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا فَكَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهُ، وَرَجَّحَ هَذَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَاعْتَرَضَ الْوَجْهَ الْأَوَّلِ، وَرَدَّ اعْتِرَاضَهُ أَبُو الْبَقَاءِ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَقِيلَ إِنَّ «مَا» فِي مَا كَانُوا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ إِيَّانَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أَيْ: قِيلَ لِلْكُفَّارِ مِنْ بَنِي آدَمَ هَذَا الْقَوْلُ، وَالْمَعْنَى: اسْتَغِيثُوا بِآلِهَتِكُمُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا لِيَنْصُرُوكُمْ وَيَدْفَعُوا عَنْكُمْ فَدَعَوْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَلَا نَفَعُوهُمْ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ وَرَأَوُا الْعَذابَ أي: التابع والمتبوع قد غَشِيَهُمْ، لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ قَالَ الزَّجَّاجُ: جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لَأَنْجَاهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَرَوُا الْعَذَابَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ مَا دَعَوْهُمْ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا لَعَلِمُوا أَنَّ الْعَذَابَ حَقٌّ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ لَدَفَعُوا بِهِ الْعَذَابَ. وَقِيلَ: قَدْ آنَ لَهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا لَوْ كَانُوا يَهْتَدُونَ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَوْمَ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى ما قبله، أي: مَا كَانَ جَوَابُكُمْ لِمَنْ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ لَمَّا بَلَّغُوكُمْ رِسَالَاتِي فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ أَيْ: خَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ حَتَّى صَارُوا كَالْعُمْيِ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ، وَالْأَصْلُ فَعَمُوا عَنِ الْأَنْبَاءِ، وَلَكِنَّهُ عَكَسَ الْكَلَامَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْأَنْبَاءُ: الْأَخْبَارُ، وإنما سمى حججهم أخبارا، لَمْ تَكُنْ مِنَ الْحُجَّةِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هِيَ: أَقَاصِيصُ، وَحِكَايَاتٌ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ وَلَا يَدْرُونَ بِمَا يُجِيبُونَ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عُذْرٌ، وَلَا حُجَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «عَمِيَتْ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَجَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ إِنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ

_ (1) . الزخرف: 67.

وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ وَأَدَّى الْفَرَائِضَ وَاجْتَنَبَ الْمَعَاصِيَ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، أَيِ: الْفَائِزِينَ بِمَطَالِبِهِمْ مِنْ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَعَسَى وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ لِلرَّجَاءِ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ عَلَى مَا هُوَ عَادَةُ الْكِرَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ التَّرَجِّيَ هُوَ مِنَ التَّائِبِ الْمَذْكُورِ، لَا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ أَيْ: يَخْلُقُهُ. وَيَخْتارُ مَا يَشَاءُ أن يختاره لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» وَهَذَا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ، وَاخْتَارُوهُمْ، أَيِ: الِاخْتِيَارُ إِلَى اللَّهِ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أَيِ: التَّخَيُّرُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَنْ يَخْتَارَ، بَلِ الِاخْتِيَارُ هُوَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «2» وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابٌ عَنِ الْيَهُودِ حَيْثُ قَالُوا لَوْ كَانَ الرَّسُولُ إِلَى مُحَمَّدٍ غَيْرَ جِبْرِيلَ لَآمَنَّا بِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَقْفُ عَلَى «وَيَخْتَارُ» تَامٌّ عَلَى أَنَّ مَا نَافِيَةٌ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بيختار، وَالْمَعْنَى: وَيَخْتَارُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ فِيهِ الْخِيَرَةُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْوَقْفِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنْ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: وَيَخْتَارُ لِوِلَايَتِهِ الْخِيَرَةَ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذَا فِي غَايَةٍ مِنَ الضَّعْفِ. وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ كَانَ تَامَّةً، وَيَكُونُ لَهُمُ الْخِيَرَةُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ جِدًّا. وَقِيلَ إِنَّ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: يَخْتَارُ اخْتِيَارَهُمْ، وَالْمَصْدَرُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيْ: وَيَخْتَارُ مُخْتَارَهُمْ، وَهَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِكَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ. وَالرَّاجِحُ أَوَّلُ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ «3» وَالْخِيَرَةُ: التَّخَيُّرُ، كَالطِّيرَةِ فَإِنَّهَا التَّطَيُّرُ، اسْمَانِ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالَ الْمَصْدَرِ، ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ فَقَالَ: سُبْحانَ اللَّهِ أَيْ: تَنَزَّهَ تَنَزُّهًا خَاصًّا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَازِعَهُ مُنَازِعٌ، وَيُشَارِكَهُ مُشَارِكٌ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: عَنِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَهُمْ شُرَكَاءَ لَهُ، أَوْ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أَيْ: تُخْفِيهِ مِنَ الشِّرْكِ، أَوْ مِنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مِنْ جَمِيعِ مَا يُخْفُونَهُ مِمَّا يُخَالِفُ الْحَقَّ وَما يُعْلِنُونَ أَيْ: يُظْهِرُونَهُ مِنْ ذَلِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُكِنُّ» بِضَمِّ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْكَافِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ، وَضَمِّ الْكَافِ. ثُمَّ تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالتَّفَرُّدِ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ فَقَالَ: وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى أَيِ: الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَيِ: الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ يَقْضِي بَيْنَ عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بِالْبَعْثِ فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، لَا تَرْجِعُونَ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ لَمْ نُهْلِكْ قَرْيَةً بِإِيمَانٍ، وَلَكِنَّهُ أَهْلَكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ إِذَا ظَلَمَ أَهْلُهَا، وَلَوْ كَانَتْ مَكَّةُ آمَنَتْ لَمْ يَهْلَكُوا مَعَ مَنْ هَلَكَ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا وَظَلَمُوا فَبِذَلِكَ هَلَكُوا. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا بن آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي» الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ عَنْ عَبْدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: «يحشر النّاس

_ (1) . الأنبياء: 23. (2) . الزخرف: 31. (3) . الأحزاب: 36.

[سورة القصص (28) : الآيات 71 إلى 88]

يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْوَعَ مَا كَانُوا وَأَعْطَشَ مَا كَانُوا وَأَعْرَى مَا كَانُوا، فَمَنْ أَطْعَمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَطْعَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ كَسَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَسَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ سَقَى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَقَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ كَانَ فِي رِضَا اللَّهِ كَانَ اللَّهُ عَلَى رِضَاهُ» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ قَالَ: الْحُجَجُ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ قَالَ: بِالْأَنْسَابِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحيح في تَعْلِيمُ الِاسْتِخَارَةِ وَكَيْفِيَّةِ صَلَاتِهَا وَدُعَائِهَا فَلَا نُطَوِّلُ بذكره. [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 88] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً السَّرْمَدُ: الدَّائِمُ الْمُسْتَمِرُّ،

مِنَ السَّرْدِ، وَهُوَ الْمُتَابَعَةُ، فَالْمِيمُ زَائِدَةٌ، وَمِنْهُ قول طَرَفَةُ: لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ... نَهَارِي ولا ليلي عليّ بِسَرْمَدِ وَقِيلَ: إِنَّ مِيمَهُ أَصْلِيَّةٌ، وَوَزْنُهُ فَعْلَلٌ لَا فَعْمَلٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، بَيَّنَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَهَّدَ لَهُمْ أَسْبَابَ الْمَعِيشَةِ لِيَقُومُوا بِشُكْرِ النِّعْمَةِ. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّهْرُ الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ لَيْلًا دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْحَرَكَةِ فِيهِ، وَطَلَبِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِمَّا يَقُومُ بِهِ الْعَيْشُ، مِنَ الْمَطَاعِمِ، وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ، ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَيْ: هَلْ لَكُمْ إِلَهٌ مِنَ الْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَرْفَعَ هَذِهِ الظُّلْمَةَ الدَّائِمَةَ عَنْكُمْ بِضِيَاءٍ، أَيْ: بِنُورٍ تَطْلُبُونَ فِيهِ الْمَعِيشَةَ، وَتُبْصِرُونَ فِيهِ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَتَصْلُحُ بِهِ ثِمَارُكُمْ، وَتَنْمُو عِنْدَهُ زَرَائِعُكُمْ، وَتَعِيشُ فِيهِ دَوَابُّكُمْ أَفَلا تَسْمَعُونَ هَذَا الْكَلَامَ سَمَاعَ فَهْمٍ، وَقَبُولٍ، وَتَدَبُّرٍ، وَتَفَكُّرٍ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِوُجُودِ النَّهَارِ، امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِوُجُودِ اللَّيْلِ فَقَالَ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أَيْ: جَعَلَ جَمِيعَ الدَّهْرِ الَّذِي تَعِيشُونَ فِيهِ نَهَارًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَيْ: تَسْتَقِرُّونَ فِيهِ مِنَ النَّصَبِ، وَالتَّعَبِ، وَتَسْتَرِيحُونَ مِمَّا تُزَاوِلُونَ مِنْ طَلَبِ الْمَعَاشِ، وَالْكَسْبِ أَفَلا تُبْصِرُونَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ الْعَظِيمَةَ إِبْصَارَ مُتَّعِظٍ مُتَيَقِّظٍ، حَتَّى تَنْزَجِرُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَإِذَا أَقَرُّوا بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَدْ لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ، وَبَطَلَ مَا يَتَمَسَّكُونَ بِهِ مِنَ الشُّبَهِ السَّاقِطَةِ، وَإِنَّمَا قَرَنَ سُبْحَانَهُ بِالضِّيَاءِ قَوْلَهُ: أَفَلا تَسْمَعُونَ لِأَنَّ السَّمْعَ يُدْرِكُ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ مِنْ دَرْكِ مَنَافِعِهِ وَوَصْفِ فَوَائِدِهِ، وَقَرَنَ بِاللَّيْلِ قَوْلَهُ: أَفَلا تُبْصِرُونَ لِأَنَّ الْبَصَرَ يُدْرِكُ مَا لَا يُدْرِكُهُ السَّمْعُ مِنْ ذَلِكَ «1» وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أَيْ: فِي اللَّيْلِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أَيْ: فِي النَّهَارِ، بِالسَّعْيِ فِي الْمَكَاسِبِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ: وَلِكَيْ تَشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا ... لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ السُّكُونُ فِي النَّهَارِ مُمْكِنًا، وَطَلَبُ الرِّزْقِ فِي اللَّيْلِ مُمْكِنًا، وَذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الْقَمَرِ عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ عِنْدَ الِاسْتِضَاءَةِ بِشَيْءٍ بِمَا لَهُ نُورٌ كَالسِّرَاجِ، لَكِنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ نَادِرٌ مُخَالِفٌ لِمَا يَأْلَفُهُ الْعِبَادُ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ هَذَا لِاخْتِلَافِ الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّهُمْ يُنَادَوْنَ مَرَّةً، فَيَدْعُونَ الْأَصْنَامَ، وَيُنَادَوْنَ أُخْرَى، فَيَسْكُتُونَ، وَفِي هَذَا التَّكْرِيرِ أَيْضًا تَقْرِيعٌ بَعْدَ تَقْرِيعٍ، وَتَوْبِيخٌ بَعْدَ تَوْبِيخٍ، وَقَوْلُهُ: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَطْفٌ عَلَى يُنَادِي، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّحَقُّقِ، وَالْمَعْنَى: وَأَخْرَجْنَا مِنْ أكل أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ شَهِيدًا يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: عُدُولُ كُلِّ أُمَّةٍ، والأوّل: أولى.

_ (1) . الصواب: أنه قرن السمع بالليل لأن الليل يتطلب حاسة السمع أكثر من غيرها. وقرن البصر مع النهار لأنه يعتمد على الضياء.

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «1» ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَقُولُهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ بِقَوْلِهِ: فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ أَيْ: حُجَّتَكُمْ وَدَلِيلَكُمْ بِأَنَّ مَعِي شُرَكَاءَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اعْتَرَفُوا، وَخَرِسُوا عَنْ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ، وَلِذَا قَالَ: فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ: غَابَ عَنْهُمْ وَبَطَلَ، وَذَهَبَ مَا كَانُوا يَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ فِي الدُّنْيَا بِأَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ يَسْتَحِقُّونَ الْعِبَادَةَ. ثُمَّ عَقَّبَ سُبْحَانَهُ حَدِيثَ أَهْلِ الضَّلَالِ بِقِصَّةِ قَارُونَ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ بَدِيعِ الْقُدْرَةِ، وَعَجِيبِ الصُّنْعِ فَقَالَ: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى قَارُونُ عَلَى وَزْنِ فَاعُولِ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُمْتَنِعٌ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ مُشْتَقٍّ مِنْ قَرَنْتُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْ كَانَ قَارُونُ مِنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ لَانْصَرَفَ. قَالَ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ ابْنُ عَمِّ مُوسَى، وَهُوَ قَارُونُ بْنُ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، وَمُوسَى هُوَ ابْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ عَمَّ مُوسَى لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَجَعَلَهُ أَخًا لِعِمْرَانَ، وَهُمَا ابْنَا قَاهِثَ. وَقِيلَ: هُوَ ابْنُ خَالَةِ مُوسَى، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْرَأُ لِلتَّوْرَاةِ مِنْهُ، فَنَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ، وَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ مُوسَى، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَبَغى عَلَيْهِمْ أَيْ: جَاوَزَ الْحَدَّ في التجبر، والتكبر عَلَيْهِمْ، وَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ مُوسَى، وَكَفَرَ بِاللَّهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: بَغْيُهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: اسْتِخْفَافُهُ بِهِمْ لِكَثْرَةِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَغْيُهُ بِنِسْبَتِهِ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمَالِ إِلَى نَفْسِهِ، لِعِلْمِهِ وَحِيلَتِهِ. وَقِيلَ: كَانَ عَامِلًا لِفِرْعَوْنَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ وَظَلَمَهُمْ، وَقِيلَ: كَانَ بَغْيُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنَاسِبُ مَعْنَى الْآيَةِ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ جَمْعُ كَنْزٍ: وَهُوَ الْمَالُ الْمُدَّخَرُ. قَالَ عَطَاءٌ: أَصَابَ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ يُوسُفَ، وَقِيلَ: كَانَ يَعْمَلُ الْكِيمْيَاءَ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ مَوْصُولَةٌ، صِلَتُهَا إِنَّ وَمَا فِي حَيِّزِهَا، وَلِهَذَا كُسِرَتْ. وَنَقَلَ الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ مَنْعَ الْمَكْسُورَةِ، وَمَا فِي حَيِّزِهَا صِلَةَ الَّذِي، وَاسْتَقْبَحَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِوُرُودِهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ مَا يُفْتَحُ بِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَفَاتِحِ: الْخَزَائِنُ، فَيَكُونُ وَاحِدُهَا مَفْتَحَ بِفَتْحِ الْمِيمِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ الْمَفَاتِحَ: الْخَزَائِنُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ كقوله: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ «2» قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ فَإِنَّهُ قَالَ: الْأَشْبَهُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ مَفَاتِحَهُ: خَزَائِنُ مَالِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ جَمْعُ مِفْتَاحٍ، وَهُوَ مَا يُفْتَحُ به الباب، وهذا قول قتادة ومجاهد لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ وَهِيَ وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا صِلَةُ مَا الْمَوْصُولَةُ، يُقَالُ نَاءَ بِحِمْلِهِ: إِذَا نَهَضَ بِهِ مُثْقَلًا، وَيُقَالُ نَاءَ بِي الْحِمْلُ: إِذَا أَثْقَلَنِي، وَالْمَعْنَى: يُثْقِلُهُمْ حَمْلُ الْمَفَاتِحِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَالْمَعْنَى: لَتَنُوءُ بِهَا الْعُصْبَةُ: أَيْ: تَنْهَضُ بِهَا. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: نُؤْتُ بِالْحِمْلِ: إِذَا نَهَضْتَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحِمْلِ وَقَفْ وَقَالَ الْفَرَّاءُ، مَعْنَى تَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ: تُمِيلُهُمْ بِثِقْلِهَا كَمَا يُقَالُ: يَذْهَبُ بِالْبُؤْسِ، وَيَذْهَبُ الْبُؤْسُ، وَذَهَبْتُ بِهِ، وَأَذْهَبْتُهُ، وَجِئْتُ بِهِ، وَأَجَأَتْهُ وَنُؤْتُ بِهِ، وَأَنَأْتُهُ، وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَاسُ، وَبِهِ قَالَ كثير من السلف،

_ (1) . النساء: 41. (2) . الأنعام: 59.

وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّأْيِ، وَهُوَ الْبُعْدُ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَرَأَ بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ «لِيَنُوءَ» بِالْيَاءِ، أَيْ: لِيَنُوءَ الْوَاحِدُ مِنْهَا أَوِ الْمَذْكُورُ، فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ بِالْعُصْبَةِ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي يَتَعَصَّبُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. قِيلَ: هِيَ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشْرَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الْعَشْرَةِ إِلَى الْخَمْسَةَ عشرة، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْعَشْرَةِ إِلَى الْعِشْرِينَ، وَقِيلَ: مِنَ الْخَمْسَةِ إِلَى الْعَشْرَةِ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: سَبْعُونَ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِتَنُوءُ، وَقِيلَ: بِآتَيْنَاهُ، وَقِيلَ: بِبَغَى. وَرَدَّهُمَا أَبُو حَيَّانَ بِأَنَّ الْإِيتَاءَ وَالْبَغْيَ لَمْ يَكُونَا ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ اذْكُرْ، وَالْمُرَادُ بِقَوْمِهِ هُنَا: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مُوسَى وَهُوَ جَمْعٌ أُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدُ، وَمَعْنَى لَا تَفْرَحْ: لَا تَبْطَرْ وَلَا تَأْشَرْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ الْبَطِرِينَ الْأَشِرِينَ الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَا تَفْرَحْ بِالْمَالِ، فَإِنَّ الْفَرِحَ بِالْمَالِ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا تُفْسِدْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدِّي أَمَانَةً ... وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْكَ الْوَدَائِعُ أَيْ: أَفْسَدَتْكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْفَرِحِينَ وَالْفَارِحِينَ: سَوَاءٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى الْفَرِحِينَ: الَّذِينَ هُمْ فِي حَالِ الْفَرَحِ، وَالْفَارِحِينَ: الَّذِينَ يَفْرَحُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى لَا تَفْرَحْ لَا تَبْغِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ الْبَاغِينَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَبْخَلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْبَاخِلِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ أَيْ: وَاطْلُبْ فِيمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الدَّارَ الْآخِرَةَ، فَأَنْفِقْهُ فِيمَا يَرْضَاهُ اللَّهُ لَا فِي التَّجَبُّرِ وَالْبَغْيِ. وَقُرِئَ «وَاتَّبِعْ» وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ فِي دُنْيَاهُ لآخرته، ونصيب الإنسان: عمره الصالح. قال الزجاج: لَا تَنْسَ أَنْ تَعْمَلَ لِآخِرَتِكَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ نَصِيبِ الْإِنْسَانِ مِنَ الدُّنْيَا، الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ لِآخِرَتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَا تُضِّيعْ حَظَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ، فِي تَمَتُّعِكَ بِالْحَلَالِ، وَطَلَبِكَ إِيَّاهُ، وَهَذَا أَلْصَقُ بِمَعْنَى النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أَيْ: أَحْسِنْ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: أَطِعِ اللَّهَ وَاعْبُدْهُ كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِحْسَانِ فَقَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ أَيْ: لَا تَعْمَلْ فِيهَا بِمَعَاصِي اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي قَالَ قَارُونُ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ رَدًّا عَلَى مَنْ نَصَحَهُ بِمَا تَقَدَّمَ، أَيْ: إِنَّمَا أُعْطِيتُ مَا أُعْطِيتُ مِنَ الْمَالِ لِأَجْلِ عِلْمِي، فَقَوْلُهُ: «عَلَى عِلْمٍ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَعِنْدِي إِمَّا ظَرْفٌ لِأُوتِيتُهُ، وَإِمَّا صِلَةٌ لِلْعِلْمِ، وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا لِمَا نَالَهُ مِنَ الدُّنْيَا. قِيلَ: هُوَ عِلْمُ التَّوْرَاةِ، وَقِيلَ: عِلْمُهُ بِوُجُوهِ الْمَكَاسِبِ، وَالتِّجَارَاتِ، وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ الْكُنُوزِ وَالدَّفَائِنِ، وَقِيلَ: عِلْمُ الْكِيمْيَاءِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ آتَانِي هَذِهِ الْكُنُوزَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِاسْتِحْقَاقِي إِيَّاهَا لِفَضْلِ عِلْمِهِ مِنِّي. وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ، وَأَنْكَرَ مَا عَدَاهُ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ هَذَا فَقَالَ: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً الْمُرَادُ بِالْقُرُونِ: الْأُمَمُ الْخَالِيَةُ، وَمَعْنَى أَكْثَرُ جَمْعًا: أَكْثَرُ مِنْهُ جَمْعًا لِلْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ، أَوِ الْقُوَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى فَضِيلَةٍ لَمَا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ. وَقِيلَ: الْقُوَّةُ الْآلَاتُ، والجمع:

الْأَعْوَانُ. وَهَذَا الْكَلَامُ خَارِجٌ مَخْرَجَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِقَارُونَ، لِأَنَّهُ قَدْ قَرَأَ التَّوْرَاةَ، وَعَلِمَ عِلْمَ الْقُرُونِ الْأُولَى، وَإِهْلَاكَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أَيْ: لَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ اسْتِعْتَابٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ «1» فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ «2» وَإِنَّمَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ كَمَا فِي قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «3» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَسْأَلُ الْمَلَائِكَةُ غَدًا عَنِ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُمْ يُعْرَفُونَ بِسِيمَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ سُودَ الْوُجُوهِ، زُرْقَ الْعُيُونِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُسْأَلُ الْمُجْرِمُونَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ لِظُهُورِهَا وَكَثْرَتِهَا، بَلْ يَدْخُلُونَ النَّارَ. وَقِيلَ: لَا يُسْأَلُ مُجْرِمُو هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ ذُنُوبِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى «قَالَ» وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَ «فِي زِينَتِهِ» مُتَعَلِّقٌ بِخَرَجَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ خَرَجَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الزِّينَةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةً، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ خَرَجَ فِي زِينَةٍ انْبَهَرَ لَهَا مَنْ رَآهَا، وَلِهَذَا تَمَنَّى النَّاظِرُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِثْلُهَا، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَهَا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أَيْ: نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ الدُّنْيَا. وَاخْتُلِفَ فِي هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَقِيلَ: هُمْ مِنْ مُؤْمِنِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَهُمْ أَحْبَارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالُوا لِلَّذِينَ تَمَنَّوْا: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ أَيْ: ثَوَابُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا تَمَنَّوْنَهُ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَا تَمَنَّوْا عَرَضَ الدُّنْيَا الزَّائِلَ الَّذِي لَا يَدُومُ وَلا يُلَقَّاها أَيْ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا الْأَحْبَارُ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقِيلَ: إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا الصَّابِرُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُصَبِّرُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الشَّهَوَاتِ فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ يُقَالُ: خُسِفَ الْمَكَانُ يُخْسَفُ خُسُوفًا: ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ، وَخَسَفَ به الأرض خسفا: أي غاب به فِيهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ غَيَّبَهُ، وَغَيَّبَ دَارَهُ فِي الْأَرْضِ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: مَا كَانَ لَهُ جَمَاعَةٌ يَدْفَعُونَ ذَلِكَ عَنْهُ وَما كانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مِنَ المُنْتَصِرِينَ مِنَ الْمُمْتَنِعِينَ مِمَّا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْخَسْفِ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ أَيْ: مُنْذُ زَمَانٍ قَرِيبٍ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أَيْ: يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَنَدِّمًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ مِنَ التَّمَنِّي. قَالَ النَّحَاسُ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي هَذَا مَا قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ، وَيُونُسُ، وَالْكِسَائِيُّ أَنَّ الْقَوْمَ تَنَبَّهُوا فَقَالُوا: وَيْ! وَالْمُتَنَدِّمُ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ فِي خِلَالِ نَدَمِهِ: وَيْ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيْ: كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ، وَيُقَالُ: وَيْكَ، وَقَدْ تَدْخُلُ وَيْ عَلَى كَأَنْ الْمُخَفَّفَةِ، وَالْمُشَدَّدَةِ، وَيْكَأَنَّ اللَّهَ. قَالَ الْخَلِيلُ: هِيَ مَفْصُولَةٌ تَقُولُ وي، ثم تبتدئ فتقول كَأَنَّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ كَلِمَةُ تَقْرِيرٍ كَقَوْلِكَ: أَمَا تَرَى صُنْعَ اللَّهِ، وَإِحْسَانَهُ، وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَةُ تَنْبِيهٍ بِمَنْزِلَةِ أَلَا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: إِنَّمَا هو وَيْلُكَ فَأُسْقِطَتْ لَامُهُ، وَمِنْهُ قَوْلٌ عَنْتَرَةَ: وَلَقَدْ شَفَا نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا ... قَوْلُ الْفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرُ أَقْدِمِ وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مَعْنَى وَيْكَأَنَّ الله: أعلم أن الله. وقال القتبي: مَعْنَاهَا بِلُغَةِ حِمْيَرَ رَحْمَةٌ، وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى أَلَمْ تَرَ؟ وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ كَلِمَةُ تَفَجُّعٍ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا برحمته، وعصمنا

_ (1) . النحل: 84. (2) . فصلت: 24. (3) . الحجر: 92.

مِنْ مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَارُونُ مِنَ الْبَطَرِ، وَالْبَغْيِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْنَا بِمَا وَقَعَ مِنَّا من ذلك التمني لَخَسَفَ بِنا كَمَا خَسَفَ بِهِ. قَرَأَ حَفْصٌ «لَخَسَفَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أَيْ: لَا يَفُوزُونَ بِمَطْلَبٍ مِنْ مَطَالِبِهِمْ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ أَيِ: الْجَنَّةُ، وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ لَهَا، وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: تِلْكَ الَّتِي سَمِعْتَ بِخَبَرِهَا، وَبَلَغَكَ شَأْنُهَا نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أَيْ: رِفْعَةً وَتَكَبُّرًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلا فَساداً أَيْ: عَمَلًا بِمَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا، وَذِكْرُ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ مُنْكَرَيْنِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، يَدُلُّ عَلَى شُمُولِهِمَا لِكُلِّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عُلُوٌّ، وَأَنَّهُ فَسَادٌ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِنَوْعٍ خَاصٍّ، أَمَّا الْفَسَادُ: فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْهُ، كَائِنًا مَا كَانَ، وَأَمَّا الْعُلُوُّ: فَالْمَمْنُوعُ مِنْهُ مَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّكَبُّرِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالتَّطَاوُلِ عَلَى النَّاسِ، وَلَيْسَ مِنْهُ طَلَبُ الْعُلُوِّ فِي الْحَقِّ، وَالرِّئَاسَةِ فِي الدِّينِ، وَلَا مَحَبَّةُ اللِّبَاسِ الْحَسَنِ، وَالْمَرْكُوبِ الْحَسَنِ، وَالْمَنْزِلِ الْحَسَنِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: إِلَّا مِثْلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَرَضَ عَلَيْكَ الْعَمَلَ بِمَا يُوجِبُهُ الْقُرْآنُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَرَضَ عَلَيْكَ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ وَفَرَائِضَهُ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: أَيْ إِلَى مَكَّةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزَّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ: إِنَّ الْمَعْنَى: لَرَادُّكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ، يُقَالُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْمَعَادُ، أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَعُودُونَ فِيهِ أَحْيَاءً. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ وَأَبُو صَالِحٍ: لَرَادُّكَ إِلَى معاد الْجَنَّةِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ «إِلَى مَعَادٍ» : إِلَى الْمَوْتِ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ هَذَا جَوَابٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ لَمَّا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وإنك فِي ضَلَالٍ، وَالْمُرَادُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى هُوَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ: الْمُشْرِكُونَ، وَالْأَوْلَى: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ حَالَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ وَيُجَازِيهَا بِمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أَيْ: مَا كُنْتَ تَرْجُو أَنَّا نُرْسِلُكَ إِلَى الْعِبَادِ، وَنُنَزِّلُ عَلَيْكَ القرآن. وقيل: ما كنت ترجوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ بِرَدِّكَ إِلَى مَعَادِكَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ إِلْقَاؤُهُ عَلَيْكَ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أُلْقِيَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا لِأَجْلِ الرَّحْمَةِ مِنْ رَبِّكَ. وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، وَبِهِ جَزَمَ الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ أَيْ: عَوْنًا لَهُمْ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لَهُمْ بِمُدَارَاتِهِمْ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أَيْ: لَا يَصُدُّنَّكَ يَا مُحَمَّدُ الْكَافِرُونَ وَأَقْوَالُهُمْ وَكَذِبُهُمْ وَأَذَاهُمْ عَنْ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِهَا بَعْدَ إِذْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ إِلَيْكَ وَفُرِضَتْ عَلَيْكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الصَّادِ مِنْ صَدَّهُ يَصُدُّهُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ، مِنْ أَصَدَّهُ بِمَعْنَى صَدَّهَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أَيِ: ادْعُ النَّاسَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ، وَالْعَمَلِ بِفَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ صَلَّى الله عليه وسلم

لَا يَكُونُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَإِنَّهُ تَعْرِيضٌ لِغَيْرِهِ. ثُمَّ وَحَّدَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ وَوَصَفَهَا بِالْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ فَقَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أَيْ: إِلَّا ذَاتَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَجْهَهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ كَانَ مَرْفُوعًا بِمَعْنَى كُلُّ شَيْءٍ غَيْرَ وَجْهِهِ هَالِكٌ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرِ: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ وَالْمَعْنَى كُلُّ أَخٍ غَيْرُ الْفَرْقَدَيْنِ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ لَهُ الْحُكْمُ أَيِ الْقَضَاءُ النافذ بِمَا شَاءَ، وَيَحْكُمُ بِمَا أَرَادَ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عِنْدَ الْبَعْثِ لِيَجْزِيَ الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَرْمَداً قَالَ: دَائِمًا: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَضَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ قَالَ: يَكْذِبُونَ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى قَالَ: كَانَ ابْنُ عَمِّهِ، وَكَانَ يَتَّبِعُ الْعِلْمَ حَتَّى جَمَعَ عِلْمًا، فَلَمْ يَزَلْ فِي أَمْرِهِ ذَلِكَ حَتَّى بَغَى عَلَى مُوسَى وَحَسَدَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ آخُذَ الزَّكَاةَ، فَأَبَى فَقَالَ: إِنَّ موسى يريد أن يأكل أموالكم وَجَاءَكُمْ بِأَشْيَاءَ فَاحْتَمَلْتُمُوهَا، فَتَحْتَمِلُونَ أَنْ تُعْطُوهُ أَمْوَالَكُمْ؟ فَقَالُوا لَا نَحْتَمِلُ فَمَا تَرَى، فَقَالَ لَهُمْ: أَرَى أَنْ أُرْسِلَ إِلَى بَغِيٍّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنُرْسِلُهَا إِلَيْهِ، فَتَرْمِيهِ بِأَنَّهُ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهَا، فَقَالُوا لَهَا: نُعْطِيكِ حُكْمَكِ عَلَى أَنْ تَشْهَدِي عَلَى مُوسَى أَنَّهُ فَجَرَ بِكِ، قَالَتْ: نَعَمْ فَجَاءَ قَارُونُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: اجْمَعْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخْبِرْهُمْ بِمَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ نَعَمْ، فَجَمَعَهُمْ فَقَالُوا لَهُ: مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَصِلُوا الرحم وكذا وَكَذَا، وَأَمَرَنِي إِذَا زَنَا وَقَدْ أُحْصِنَ أَنْ يُرْجَمَ، قَالُوا: وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَإِنَّكَ قَدْ زَنَيْتَ. قَالَ أَنَا؟ فَأَرْسَلُوا للمرأة فجاءت، مَا تَشْهَدِينَ عَلَى مُوسَى؟ فَقَالَ لَهَا مُوسَى: أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ إِلَّا مَا صَدَقْتِ. قَالَتْ: أَمَّا إذ أنشدتني بِاللَّهِ، فَإِنَّهُمْ دَعَوْنِي، وَجَعَلُوا لِي جُعْلًا عَلَى أن أقذفك بنفسي، وأنا أشهد أنك بريء، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا يَبْكِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مَا يُبْكِيكَ؟ قَدْ سَلَّطْنَاكَ على الأرض، فمرها فتعطيك، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَعْقَابِهِمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا مُوسَى! يَا مُوسَى! فَقَالَ: خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رَكْبِهِمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ يَا موسى! يا موسى! فقال: خذيهم إِلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا مُوسَى! يَا موسى! فقال: خذيهم، فَغَشِيَتْهُمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ يَا مُوسَى: سَأَلَكَ عِبَادِي، وَتَضَرَّعُوا إِلَيْكَ، فَلَمْ تُجِبْهُمْ وَعِزَّتِي لَوْ أَنَّهُمْ دَعَوْنِي لَأَجَبْتُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ خُسِفَ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: كَانَتْ مَفَاتِيحُ كُنُوزِ قَارُونَ مِنْ جُلُودٍ، كُلُّ مِفْتَاحٍ مِثْلُ الْإِصْبَعِ، كُلُّ مِفْتَاحٍ عَلَى خِزَانَةٍ عَلَى حِدَةٍ، فَإِذَا رَكِبَ حُمِلَتِ الْمَفَاتِيحُ عَلَى سَبْعِينَ بَغْلًا أَغَرَّ مُحَجَّلًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: وَجَدْتُ فِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ بِغَالَ مَفَاتِيحِ خَزَائِنِ قَارُونَ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ لَا يَزِيدُ مِفْتَاحٌ مِنْهَا عَلَى إِصْبَعٍ لِكُلِّ مِفْتَاحٍ كَنْزٌ. قُلْتُ: لَمْ أَجِدْ فِي الْإِنْجِيلِ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ خَيْثَمَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ

أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ قَالَ: تُثْقِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: لَا يَرْفَعُهَا الْعُصْبَةُ مِنَ الرِّجَالِ أُولُو الْقُوَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْعُصْبَةُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ قَالَ: الْمَرِحِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا قَالَ: أَنْ تَعْمَلَ فِيهَا لِآخِرَتِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ بَغْلٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَقْوَالٌ فِي بَيَانِ مَا خَرَجَ بِهِ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الزِّينَةِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ مَرْفُوعًا، بَلْ هِيَ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا عَرَّفْنَاكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ إِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رَفَعَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فَمَنْ ظَفَرَ بِكِتَابِهِ فَلْيَنْظُرْ فِيهِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ قَالَ: خَسَفَ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى. وَأَخْرَجَ الْمَحَامِلِيُّ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً قَالَ: التَّجَبُّرُ فِي الْأَرْضِ وَالْأَخْذُ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَعِكْرِمَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ قَالَ: بَغْيًا فِي الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُوَ الشَّرَفُ، وَالْعُلُوُّ عِنْدَ ذوي سلطانهم. إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلتَّقَوِّي بِهِ عَلَى الْحَقِّ، فَهُوَ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، لَا مِنْ خِصَالِ الشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ شِسْعُ نَعْلِهِ أَفْضَلَ مِنْ شِسْعِ نَعْلِ صَاحِبِهِ، فَيَدْخُلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ لَا لِمُجَرَّدِ التَّجَمُّلِ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي حَسَنًا وَنَعْلِي حَسَنَةً، أَفَمِنَ الْكِبْرِ ذَلِكَ؟ قَالَ لَا، إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، يَعْنِي تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ إِلَخْ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ وَالتَّوَاضُعِ مِنَ الْوُلَاةِ وَأَهْلِ الْقُدْرَةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَلْقَى إِلَيْهِ وِسَادَةً، فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ لَا تَبْغِي عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا فَأَسْلَمَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُحْفَةِ حِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مردويه، والبيهقي، من طرق ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قَالَ: إِلَى مَكَّةَ، زَادَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ كَمَا أَخْرَجَكَ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ

_ (1) . الذي جلس على الأرض هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي قال: أشهد أنك ... إلخ، هو عدي بن حاتم. [.....]

قَالَ: الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قَالَ: مَعَادُهُ الْجَنَّةُ، وَفِي لَفْظٍ مَعَادُهُ آخِرَتُهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَالدَّيْلَمِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «1» قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ «2» قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ كُلُّ نَفْسٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ قَالَ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وجهه.

_ (1) . الرحمن: 26. (2) . آل عمران: 185.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهَا مَكِّيَّةً، أَوْ مَدَنِيَّةً، أَوْ بَعْضِهَا مَكِّيًّا، وَبَعْضِهَا مَدَنِيًّا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا، أَخْرَجَهُ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالنَّحَّاسُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عباس، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ، ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مكية إلا عشر آيات من أوّلها، وَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ سَلَّامٍ. وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ رَابِعٌ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الأولى: بالعنكبوت، أو الروم، وفي الثانية: بيس. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَحَسِبَ النَّاسُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وأَنْ يُتْرَكُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِحَسِبَ، وَهِيَ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ، وأَنْ يَقُولُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ: لِأَنْ يَقُولُوا، أَوْ بِأَنْ يَقُولُوا، أَوْ عَلَى أَنْ يَقُولُوا، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ أَنْ يُتْرَكُوا، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ النَّاسَ لَا يُتْرَكُونَ بِغَيْرِ اخْتِبَارٍ وَلَا ابْتِلَاءٍ أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ أَيْ: وَهُمْ لَا يُبْتَلَوْنَ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَأَنْفُسِهِمْ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا حَسِبُوا،

بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَخْتَبِرَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُخْلِصُ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَالصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ، فَالْآيَةُ مَسُوقَةٌ لِإِنْكَارِ ذَلِكَ الْحُسْبَانِ وَاسْتِبْعَادِهِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِامْتِحَانِ بِأَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: أَحَسِبُوا أَنْ نَقْنَعَ مِنْهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا إِنَّا مُؤْمِنُونَ فَقَطْ، وَلَا يُمْتَحَنُونَ بِمَا تَتَبَيَّنُ بِهِ حَقِيقَةُ إِيمَانِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. قَالَ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ لَا يُبْتَلَوْنَ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَأَنْفُسِهِمْ بِالْقَتْلِ، وَالتَّعْذِيبِ، وَسَيَأْتِي فِي بَيَانِ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يُوَضِّحُ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَظَاهِرُهَا شُمُولُ كُلِّ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ نَازِلَةً فِي سَبَبٍ خَاصٍّ، فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْجُودٌ حُكْمُهَا بَقِيَّةَ الدَّهْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِتْنَةَ مِنَ اللَّهِ بَاقِيَةٌ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَسْرِ وَنِكَايَةِ الْعَدُوِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ يَخْتَبِرُ مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا اخْتَبَرَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، كَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا وَقَعَ مَعَ قَوْمِهِمْ مِنَ الْمِحَنِ، وَمَا اخْتَبَرَ اللَّهُ بِهِ أَتْبَاعَهُمْ، وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي نَزَلَتْ بِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «فَلَيَعْلَمَنَّ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، أَيْ: لَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ الصَّادِقَ، وَالْكَاذِبَ فِي قَوْلِهِمْ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَهُمْ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ. وَالْمَعْنَى: أَيْ يُعْلِمُ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْآخِرَةِ بِمَنَازِلِهِمْ، أَوْ يُعْلِمُ النَّاسَ بِصِدْقِ مِنْ صَدَقَ، وَيَفْضَحُ الْكَاذِبِينَ بِكَذِبِهِمْ، أَوْ يَضَعُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ عَلَامَةً تَشْتَهِرُ بِهَا، وَتَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهَا أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا أَيْ: يَفُوتُونَا وَيُعْجِزُونَا قَبْلَ أَنْ نُؤَاخِذَهُمْ بِمَا يَعْمَلُونَ، وَهُوَ سَادٌّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ حَسِبَ، وَأَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ أَيْ: بِئْسَ الَّذِي يَحْكُمُونَهُ حُكْمَهُمْ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: «مَا» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى سَاءَ شَيْئًا أَوْ حُكْمًا يَحْكُمُونَ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَعْنَى سَاءَ الشَّيْءُ أَوِ الْحُكْمُ حُكْمُهُمْ، وَجَعَلَهَا ابْنُ كَيْسَانَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: سَاءَ حُكْمُهُمْ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أَيْ: مَنْ كَانَ يَطْمَعُ، وَالرَّجَاءُ: بِمَعْنَى الطَّمَعِ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: الرَّجَاءُ هُنَا: بِمَعْنَى الْخَوْفِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَخَافُ الْمَوْتَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ: إِذَا لَسَعَتْهُ الدَّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا «1» قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ: مَنْ كَانَ يَرْجُو ثَوَابَ لِقَاءِ اللَّهِ، أَيْ: ثَوَابَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ، فَالرَّجَاءُ عَلَى هَذَا: مَعْنَاهُ الْأَمَلُ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ أَيِ: الْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ لِلْبَعْثِ آتٍ لَا مَحَالَةَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَعْمَلْ لِذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً «2» وَمَنْ فِي الْآيَةِ الَّتِي هُنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَالْجَزَاءُ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ، ويجوز أن تكون

_ (1) . وعجز البيت: وحالفها في بيت نوب عوامل. (2) . الكهف: 110.

مَوْصُولَةً، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي جَوَابِهَا تَشْبِيهًا لَهَا بِالشَّرْطِيَّةِ. وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ مَا لَا يَخْفَى وَهُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ الْعَلِيمُ بِمَا يُسِرُّونَهُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ أَيْ: مَنْ جَاهَدَ الْكُفَّارَ وَجَاهَدَ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ، أَيْ: ثَوَابُ ذَلِكَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ نَفْعِ ذَلِكَ شَيْءٌ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فلا يحتاج إلى طاعاتهم كَمَا لَا تَضُرُّهُ مَعَاصِيهِمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَمَنْ جَاهَدَ عَدُوَّهُ لِنَفْسِهِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ الله، فليس لله حاجة بجهاده، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أَيْ: لِنُغَطِّيَنَّهَا عَنْهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، بِسَبَبِ مَا عَمِلُوا مِنَ الصَّالِحَاتِ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: بِأَحْسَنِ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ، وَقِيلَ: بِجَزَاءِ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِأَحْسَنَ: مُجَرَّدُ الْوَصْفِ لَا التَّفْضِيلُ لِئَلَّا يَكُونَ جَزَاؤُهُمْ بِالْحُسْنِ مَسْكُوتًا عنه، وقيل: يعطيهم أكثر وَأَحْسَنَ مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلُهُ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «1» وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً انْتِصَابُ حُسْنًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِيصَاءً حَسَنًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ: أَيْ: ذَا حُسْنٍ. هَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: تَقْدِيرُهُ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ حَسَنًا، فَهُوَ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إِذْ تَشْكُونَا ... وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينَا خَيْرًا بِهَا كَأَنَّمَا خَافُونَا أَيْ: يُوصِينَا أَنْ نَفْعَلَ بِهَا خَيْرًا، وَمِثْلُهُ قَوْلِ الحطيئة: وصّيت مِنْ بَرَّةَ قَلْبًا حُرًّا ... بِالْكَلْبِ خَيْرًا وَالْحَمَاةِ شَرًّا قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ: أَنْ يَفْعَلَ بِوَالِدَيْهِ مَا يَحْسُنُ، وَقِيلَ: هُوَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَوَصَّيْنَاهُ أَمْرًا ذَا حُسْنٍ، وَقِيلَ: هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى التَّضْمِينِ، أَيْ: أَلْزَمْنَاهُ حُسْنًا، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: وَوَصَّيْنَاهُ بِحُسْنٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يَحْسُنُ حُسْنًا، وَمَعْنَى الْآيَةِ: التَّوْصِيَةُ لِلْإِنْسَانِ بِوَالِدَيْهِ بِالْبِرِّ بِهِمَا، وَالْعَطْفِ عَلَيْهِمَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «حُسْنًا» بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ السين، وقرأ أبو رجاء، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ بِفَتْحِهِمَا، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ «إِحْسَانًا» وَكَذَا فِي مُصْحَفٍ أُبَيٍّ وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما أَيْ: طَلَبَا مِنْكَ، وَأَلْزَمَاكَ أَنْ تُشْرِكَ بِي إِلَهًا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ بِكَوْنِهِ إِلَهًا فَلَا تُطِعْهُمَا، فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَعَبَّرَ بِنَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ نَفْيِ الْإِلَهِ لِأَنَّ مَا لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ، فَكَيْفَ بِمَا عُلِمَ بُطْلَانُهُ؟ وَإِذَا لَمْ تَجُزْ طَاعَةُ الْأَبَوَيْنِ فِي هَذَا الْمَطْلَبِ مَعَ الْمُجَاهَدَةِ مِنْهُمَا لَهُ، فَعَدَمُ جَوَازِهَا مع تجرّد الطَّلَبِ بِدُونِ مُجَاهَدَةٍ مِنْهُمَا أَوْلَى، وَيُلْحَقُ بِطَلَبِ الشِّرْكِ مِنْهُمَا سَائِرُ مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا طَاعَةَ لَهُمَا فِيمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ: أُخْبِرُكُمْ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، وَطَالِحِهَا، فَأُجَازِيَ كُلًّا مِنْكُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الابتداء وخبره

_ (1) . الأنعام: 160.

لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أَيْ: فِي زُمْرَةِ الرَّاسِخِينَ فِي الصَّلَاحِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي مَدْخَلِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ الْجَنَّةُ كَذَا قِيلَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أَيْ: فِي شَأْنِ اللَّهِ وَلِأَجْلِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْكُفْرِ مَعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَكَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْمَعَاصِي مَعَ أَهْلِ الطَّاعَاتِ، مِنْ إِيقَاعِ الْأَذَى عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ بِهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ الَّتِي هِيَ مَا يُوقِعُونَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذَى كَعَذابِ اللَّهِ أَيْ: جَزِعَ مِنْ أَذَاهُمْ. فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ فِي الشِّدَّةِ، وَالْعِظَمِ كَعَذَابِ اللَّهِ، فَأَطَاعَ النَّاسَ كَمَا يُطِيعُ اللَّهَ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُنَافِقُ إِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ رَجَعَ عَنِ الدِّينِ فَكَفَرَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْأَذِيَّةِ فِي اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ أَيْ: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفَتْحٌ وَغَلَبَةٌ لِلْأَعْدَاءِ وَغَنِيمَةٌ يَغْنَمُونَهَا مِنْهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَيْ: دَاخِلُونَ مَعَكُمْ فِي دِينِكُمْ، وَمُعَاوِنُونَ لَكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أَيْ: هُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَكَيْفَ يَدَّعُونَ هَذِهِ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةَ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ قَوْمٌ مِمَّنْ كَانَ فِي إِيمَانِهِمْ ضَعْفٌ، كَانُوا إِذَا مَسَّهُمُ الْأَذَى مِنَ الْكُفَّارِ وَافَقُوهُمْ. وَإِذَا ظَهَرَتْ قُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَنَصَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْطِنٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا، وَمَا قَبْلَهُ: الْمُنَافِقُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ. فَإِذَا أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ مِنَ اللَّهِ أَوْ مُصِيبَةٌ افْتَتَنُوا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِمَكَّةَ، كَانُوا يُؤْمِنُونَ، فَإِذَا أُوذُوا رَجَعُوا إِلَى الشِّرْكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا النَّظْمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِلَى قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا نَازِلٌ فِي الْمُنَافِقِينَ لِمَا يَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ، وَلِقَوْلِهِ: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ فَإِنَّهَا لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا وَتَأْكِيدِهِ: أَيْ: لَيُمَيِّزَنَّ اللَّهُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَيَظْهَرُ إِخْلَاصُ الْمُخْلِصِينَ، وَنِفَاقُ الْمُنَافِقِينَ، فَالْمُخْلِصُ الَّذِي لَا يَتَزَلْزَلُ بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْأَذَى، وَيَصْبِرُ فِي اللَّهِ حَقَّ الصَّبْرِ، وَلَا يَجْعَلُ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ. وَالْمُنَافِقُ الَّذِي يَمِيلُ هَكَذَا وَهَكَذَا، فَإِنْ أَصَابَهُ أَذًى مِنَ الْكَافِرِينَ وَافَقَهُمْ وَتَابَعَهُمْ، وَكَفَرَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ خَفَقَتْ رِيحُ الْإِسْلَامِ، وَطَلَعَ نَصْرُهُ، وَلَاحَ فَتْحُهُ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا اللَّامُ فِي «لِلَّذِينَ آمَنُوا» هِيَ: لَامُ التَّبْلِيغِ، أَيْ: قَالُوا مُخَاطِبِينَ لَهُمْ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، أَيْ: قَالُوا لَهُمُ اسْلُكُوا طَرِيقَتَنَا، وَادْخُلُوا فِي دِينِنَا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أَيْ: إِنْ كَانَ اتِّبَاعُ سَبِيلِنَا خَطِيئَةً تُؤَاخَذُونَ بِهَا عِنْدَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، كَمَا تَقُولُونَ فَلْنَحْمِلْ ذَلِكَ عَنْكُمْ، فَنُؤَاخِذْ بِهِ دُونَكُمْ، وَاللَّامُ فِي لِنَحْمِلْ: لَامُ الْأَمْرِ، كَأَنَّهُمْ أَمَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزُّجَاجُ: هُوَ أَمْرٌ فِي تَأْوِيلِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ: إِنْ تَتَّبِعُوا سَبِيلَنَا نَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأُولَى: بَيَانِيَّةٌ. وَالثَّانِيَةُ: مَزِيدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ: وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ شَيْئًا مِنْ خَطِيئَاتِهِمُ الَّتِي الْتَزَمُوا بِهَا وَضَمِنُوا لَهُمْ حَمْلَهَا، ثُمَّ وَصَفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْكَذِبِ فِي هَذَا التَّحَمُّلِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فِيمَا ضَمِنُوا بِهِ مِنْ حَمْلِ خطاياهم. قَالَ الَمَهَدَوِيُّ: هَذَا التَّكْذِيبُ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنِ اتَّبَعْتُمْ سَبِيلَنَا حَمَلْنَا خَطَايَاكُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ يَرْجِعُ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْخَبَرِ، أُوقِعَ عَلَيْهِ التَّكْذِيبُ كَمَا يُوقَعُ عَلَى الْخَبَرِ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أي:

أَوْزَارَهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالْأَثْقَالِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهَا ذُنُوبٌ عَظِيمَةٌ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أَيْ: أَوْزَارًا مَعَ أَوْزَارِهِمْ. وَهِيَ أَوْزَارُ مَنْ أَضَلُّوهُمْ، وَأَخْرَجُوهُمْ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «1» ومثله قوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ: يَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الْأَكَاذِيبَ الَّتِي كَانُوا يَأْتُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي قَوْلُهُمْ ونحن الْكُفَلَاءُ بِكُلِّ تَبِعَةٍ تُصِيبُكُمْ مِنَ اللَّهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا الْآيَةَ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي نَاسٍ كَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ، لَمَّا أُنْزِلَتْ آيَةُ الْهِجْرَةِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ إِقْرَارُ، وَلَا إِسْلَامٌ حَتَّى تُهَاجِرُوا، قَالَ: فَخَرَجُوا عَامِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاتَّبَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَرَدُّوهُمْ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ فِيكُمْ كَذَا وكذا، فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فَخَرَجُوا فَاتَّبَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَمِنْهُمْ مَنْ نَجَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «2» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ بِأَخْصَرَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ إِذْ كَانَ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ اللَّهُ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَسُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارٍ، وَعَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ. فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحِدٍ إِلَّا وَقَدْ أَتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلَّا بِلَالٌ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَسْبِقُونا قَالَ: أَنْ يُعْجِزُونَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَتْ أُمِّي لَا آكُلُ طَعَامًا، وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ فَامْتَنَعَتْ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، حَتَّى جَعَلُوا يَشْجُرُونَ فَاهَا بِالْعَصَا «3» ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ، وَقَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَذَكَرَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «لقد أوذيت في الله وما

_ (1) . النحل: 25. (2) . النحل: 110. (3) . الشّجر: مفتح الفم، والمقصود: ادخلوا في شجره عودا حتى يفتحوه.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 إلى 27]

يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا ما واراه إِبِطُ بِلَالٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ قَالَ: يَرْتَدُّ عَنْ دين الله إذا أوذي في الله. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 27] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) أَجْمَلَ سُبْحَانَهُ قِصَّةَ نُوحٍ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وفيه تثبيت للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ نُوحًا لَبِثَ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُو قَوْمَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَأَنْتَ أَوْلَى بِالصَّبْرِ لِقِلَّةِ مُدَّةِ لُبْثِكَ، وَكَثْرَةِ عَدَدِ أُمَّتِكَ. قِيلَ: وَوَقَعَ فِي النَّظْمِ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَلَمْ يَقُلْ: تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ، لِأَنَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ تَحْقِيقَ الْعَدَدِ بِخِلَافِ الثَّانِي، فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ عُمْرِ نُوحٍ، وَسَيَأْتِي آخِرَ الْبَحْثِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا جَمِيعُ عُمْرِهِ. فَقَدْ تَلَبَّثَ فِي غَيْرِهِمْ قَبْلَ اللُّبْثِ فِيهِمْ، وَقَدْ تَلَبَّثَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ بِالطُّوفَانِ، وَالْفَاءِ فِي فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ لِلتَّعْقِيبِ، أَيْ: أَخَذَهُمْ عَقِبَ تَمَامِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالطُّوفَانُ: يُقَالُ لِكُلِّ شَيْءٍ كَثِيرٍ، مُطِيفٍ بِجَمْعٍ، مُحِيطٍ بِهِمْ، مِنْ مَطَرٍ، أَوْ قَتْلٍ، أَوْ مَوْتٍ قَالَهُ النَّحَّاسُ: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْمَطَرُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْغَرَقُ، وَقِيلَ: الْمَوْتُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَفْنَاهُمْ طُوفَانُ مَوْتٍ جَارِفٍ

وَجُمْلَةُ وَهُمْ ظالِمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الظُّلْمِ وَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِمْ مَا وَعَظَهُمْ بِهِ نُوحٌ، وَذَكَّرَهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ بِطُولِهَا فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ أَيْ: أَنْجَيْنَا نُوحًا وَأَنْجَيْنَا مَنْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَتْبَاعِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ وَجَعَلْناها أَيِ: السَّفِينَةَ آيَةً لِلْعالَمِينَ أَيْ: عِبْرَةً عَظِيمَةً لَهُمْ، وَفِي كَوْنِهَا آيَةً وُجُوهٌ: أَحُدُهَا أَنَّهَا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى الْجُودِيِّ مُدَّةً مَدِيدَةً. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ سَلَّمَ السَّفِينَةَ مِنَ الرِّيَاحِ الْمُزْعِجَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَاءَ غِيضَ قَبْلَ نَفَاذِ الزَّادِ. وَهَذَا غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِوَصْفِ السَّفِينَةِ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا آيَةً، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ فِي جَعَلْنَاهَا إِلَى الْوَاقِعَةِ، أَوْ إِلَى النَّجَاةِ، أَوْ إِلَى الْعُقُوبَةِ بِالْغَرَقِ. وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ انْتِصَابُ إِبْرَاهِيمَ بِالْعَطْفِ عَلَى نُوحًا. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْهَاءِ فِي جَعَلْنَاهَا وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ إِبْرَاهِيمَ. وَإِذْ قَالَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيمَ وَقْتَ قَوْلِهِ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ، أَوْ جَعَلْنَا إِبْرَاهِيمَ آيَةً وَقْتَ قَوْلِهِ هَذَا، أَوْ وَاذْكُرْ إِبْرَاهِيمَ وَقْتَ قَوْلِهِ، عَلَى أَنَّ الظَّرْفَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ أَيْ: أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ وَخُصُّوهُ بِهَا وَاتَّقُوهُ أَنْ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَلَا خَيْرَ فِي الشِّرْكِ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ خَاطَبَهُمْ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمًا تُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ مَا هُوَ خَيْرٌ، وَمَا هُوَ شَرٌّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَإِبْرَاهِيمَ» بِالنَّصْبِ، وَوَجْهُهُ مَا قَدَّمْنَا. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: وَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِبْرَاهِيمُ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً بَيَّنَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَالْأَوْثَانُ: هِيَ الْأَصْنَامُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّنَمُ مَا يُتَّخَذُ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ نُحَاسِ، وَالْوَثَنُ: مَا يُتَّخَذُ مِنْ جَصٍّ أَوْ حِجَارَةٍ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْوَثَنُ: الصَّنَمُ، وَالْجَمْعُ: أَوْثَانٌ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أَيْ: وَتَكْذِبُونَ كَذِبًا عَلَى أَنَّ مَعْنَى تَخْلُقُونَ تَكْذِبُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: تَعْمَلُونَ وَتَنْحِتُونَ، أَيْ: تَعْمَلُونَهَا وَتَنْحِتُونَهَا لِلْإِفْكِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى تَخْلُقُونَ تَنْحِتُونَ، أَيْ: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ أَوْثَانًا، وَأَنْتُمْ تَصْنَعُونَهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَخْلُقُونَ» بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الخاء، وضم اللام مضارع خلق، وإفكا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَقَتَادَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَاللَّامُ مُشَدَّدَةٌ، وَالْأَصْلُ تَتَخَلَّقُونَ. وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَهُ قَرَأَ بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَكْسُورَةً. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَفُضَيْلُ بْنُ وَرْقَانَ «أَفِكًا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْكَذِبِ، أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: خَلْقًا أَفِكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَرْزُقُوكُمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أَيِ: اصْرِفُوا رَغْبَتَكُمْ فِي أَرْزَاقِكُمْ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ الَّذِي عِنْدَهُ الرِّزْقُ كُلُّهُ، فَاسْأَلُوهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَوَحِّدُوهُ دُونَ غَيْرِهِ وَاشْكُرُوا لَهُ أَيْ: عَلَى نَعْمَائِهِ، فَإِنَّ الشُّكْرَ مُوجِبٌ لِبَقَائِهَا وَسَبَبٌ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهَا، يُقَالُ شَكَرْتُهُ، وَشَكَرْتُ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ بِالْبَعْثِ لَا إِلَى غَيْرِهِ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ قِيلَ: هَذَا مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ: وَإِنْ تُكَذِّبُونِي فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِغَيْرِي مِمَّنْ قَبْلَكُمْ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: أَيْ: وَإِنْ تُكَذِّبُوا مُحَمَّدًا فَذَلِكَ عَادَةُ الْكُفَّارِ مَعَ مَنْ سَلَفَ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ لقومه الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ

عَلَيْهِ هِدَايَتُهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قرأ الجمهور «أو لم يَرَوْا» بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كأنه قال: أو لم يَرَ الْأُمَمُ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ، وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ لِقُرَيْشٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «كَيْفَ يُبْدِئُ» بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ مِنْ أَبْدَأَ يُبْدِئُ. وَقَرَأَ الزُّبَيْرِيُّ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِهَا مِنْ بَدَأَ يَبْدَأُ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ «كَيْفَ بَدَأَ» وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يَخْلُقُهُمُ اللَّهُ ابْتِدَاءً؟ نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ إِلَى الدُّنْيَا، ثُمَّ يَتَوَفَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ، وَسَائِرُ النَّبَاتَاتِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ قُدْرَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْإِيجَادِ، فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَالْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ، وَالْوَاوُ: لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَأْمُرَ قَوْمَهُ بِالْمَسِيرِ فِي الْأَرْضِ لِيَتَفَكَّرُوا وَيَعْتَبِرُوا فَقَالَ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمْ، وَطَبَائِعِهِمْ، وَأَلْسِنَتِهِمْ، وَانْظُرُوا إِلَى مَسَاكِنِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَآثَارِهِمْ لِتَعْلَمُوا بِذَلِكَ كَمَالَ قُدْرَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: سِيرُوا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي بَدَأَ النَّشْأَةَ الْأُولَى، وَخَلَقَهَا عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ يُنْشِئُهَا نَشْأَةً ثَانِيَةً عِنْدَ الْبَعْثِ، وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، دَاخِلَةٌ مَعَهَا فِي حَيِّزِ الْقَوْلِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعليل لما قبلها. قرأ الجمهور ب «النَّشْأَةَ» بِالْقَصْرِ وَسُكُونِ الشِّينِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِالْمَدِّ وَفَتْحُ الشِّينِ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالرَّأْفَةِ وَالرَّآفَةِ. وَهِيَ مُنْتَصِبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِحَذْفِ الزَّوَائِدِ، وَالْأَصْلُ: الْإِنْشَاءَةُ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ أَيْ: هُوَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ تَعْذِيبَهُ، وَهُمُ الْكُفَّارُ وَالْعُصَاةُ، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ رَحْمَتَهُ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ، الْمُصَدِّقُونَ لِرُسُلِهِ، الْعَامِلُونَ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أَيْ: تُرْجَعُونَ، وَتُرَدُّونَ لَا إِلَى غَيْرِهِ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا مَنْ فِي السَّمَاءِ بِمُعْجِزِينَ اللَّهَ فِيهَا. قَالَ: وَهُوَ كَمَا فِي قَوْلِ حَسَّانَ: فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ أَيْ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، وَيَنْصُرُهُ سَوَاءٌ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «1» أَيْ: إِلَّا مَنْ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَلَا أَهْلُ السَّمَاءِ فِي السَّمَاءِ إِنْ عَصَوْهُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَلَا فِي السَّمَاءِ لَوْ كُنْتُمْ فِيهَا، كَمَا تَقُولُ: لَا يَفُوتُنِي فُلَانٌ هَاهُنَا وَلَا بِالْبَصْرَةِ، يَعْنِي: وَلَا بِالْبَصْرَةِ لَوْ صَارَ إِلَيْهَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَعْنَى وَلَا مَنْ فِي السَّمَاءِ، عَلَى أَنَّ مَنْ لَيْسَتْ مَوْصُولَةً بَلْ نَكِرَةً، وَفِي السَّمَاءِ صِفَةٌ لَهَا، فَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ، وَرَدَّ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ وَرَجَّحَ مَا قَالَهُ قُطْرُبٌ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ مِنْ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ وَلِيٌّ يُوَالِيكُمْ، وَلَا نَصِيرٌ يَنْصُرُكُمْ، وَيَدْفَعُ عَنْكُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ المراد بالآيات: الآيات

_ (1) . الصافات: 164.

التَّنْزِيلِيَّةُ، أَوِ التَّكْوِينِيَّةُ، أَوْ جَمِيعُهُمَا، وَكَفَرُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ، أَيْ: أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَمَا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمَا أَخْبَرَتْهُمْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْكَافِرِينَ بِالْآيَاتِ وَاللِّقَاءِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أَيْ: إِنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا آيِسُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لَمْ يَنْجَعْ فِيهِمْ مَا نَزَلَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، وَلَا مَا أَخْبَرَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ. وَقِيلَ المعنى: أنهم ييأسون يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَهِيَ الْجَنَّةُ. والمعنى أنهم أويسوا مِنَ الرَّحْمَةِ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ الْإِشَارَةَ لِلتَّأْكِيدِ، وَوَصَفَ الْعَذَابَ بِكَوْنِهِ أَلِيمًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ هَذَا رُجُوعٌ إِلَى خِطَابِ إِبْرَاهِيمَ بَعْدَ الِاعْتِرَاضِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ خِطَابِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ قل سيروا في الأرض خطاب لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْكَلَامُ فِي سِيَاقِهِ سابقا ولا حقا، أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عِنْدِ الْمُشَاوَرَةِ بَيْنَهُمُ: افْعَلُوا بِإِبْرَاهِيمَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيقِهِ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ وَجَعَلَهَا عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا إِنَّ فِي ذلِكَ أَيْ: فِي إِنْجَاءِ اللَّهِ لِإِبْرَاهِيمَ لَآياتٍ بَيِّنَةً، أَيْ: دَلَالَاتٍ وَاضِحَةً، وَعَلَامَاتٍ ظَاهِرَةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، حَيْثُ أَضْرَمُوا تِلْكَ النَّارَ الْعَظِيمَةَ، وَأَلْقَوْهُ فِيهَا، وَلَمْ تَحْرِقْهُ، وَلَا أَثَّرَتْ فِيهِ أَثَرًا، بَلْ صَارَتْ إِلَى حَالَةٍ مُخَالِفَةٍ لِمَا هُوَ شَأْنُ عُنْصُرِهَا مِنَ الْحَرَارَةِ وَالْإِحْرَاقِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ فَهُمْ عَنْ ذَلِكَ غَافِلُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ «جَوَابَ قَوْمِهِ» عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَمَا بَعْدَهُ اسْمُهَا. وَقَرَأَ سَالِمٌ الْأَفْطَسُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالْحَسَنُ بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ، وَمَا بَعْدَهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْخَبَرِ وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ: أَيْ لِلتَّوَادُدِ بَيْنَكُمْ، وَالتَّوَاصُلِ لِاجْتِمَاعِكُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا، وَلِلْخَشْيَةِ مِنْ ذَهَابِ الْمَوَدَّةِ فِيمَا بَيْنَكُمْ إِنْ تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهَا. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ «مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ» بِرَفْعِ مَوَدَّةَ غَيْرِ مُنَوَّنَةٍ، وَإِضَافَتِهَا إِلَى بَيْنِكُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَابْنُ وَثَّابٍ «مَوَدَّةٌ» بِرَفْعِهَا مُنَوَّنَةً. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ بِنَصْبِ «مَوَدَّةَ» مُنَوَّنَةً وَنَصَبَ بَيْنَكُمْ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ بِنَصْبِ «مَوَدَّةَ» مُضَافَةً إِلَى بَيْنِكُمْ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الرَّفْعِ، فَذَكَرَ الزَّجَّاجُ لَهَا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا ارْتَفَعَتْ عَلَى خَبَرِ إِنَّ فِي إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ، وَجَعَلَ مَا موصولة، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِي اتَّخَذْتُمُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أوثانا مودّة بينكم. الوجه الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هِيَ مَوَدَّةٌ أَوْ تِلْكَ مَوَدَّةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَوَدَّةَ هِيَ الَّتِي جَمَعَتْكُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَاتِّخَاذِهَا. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوَدَّةُ مُرْتَفِعَةً بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَمَنْ قَرَأَ بِرَفْعِ مَوَدَّةَ مُنَوَّنَةً: فَتَوْجِيهُهُ كَالْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَنَصْبِ بَيْنِكُمْ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَمَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ مَوَدَّةٍ وَلَمْ يُنَوِّنْهَا جَعْلَهَا مَفْعُولَ اتَّخَذْتُمْ، وَجَعَلَ إِنَّمَا حَرْفًا وَاحِدًا لِلْحَصْرِ، وَهَكَذَا مَنْ نَصَبَهَا وَنَوَّنَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصْبُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمَوَدَّةَ عِلَّةٌ، فَهِيَ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ يَكُونُ مَفْعُولُ اتَّخَذْتُمُ الثَّانِي مَحْذُوفًا، أَيْ: أَوْثَانًا آلِهَةً، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ «إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ» مَوْصُولَةٌ يَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ: ضَمِيرَهَا، أَيِ: اتَّخَذْتُمُوهُ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: أَوْثَانًا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أَيْ: يَكْفُرُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمُتَّخِذِينَ لِلْأَوْثَانِ الْعَابِدِينَ لَهَا بِالْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْهُمْ، فَيَتَبَرَّأُ الْقَادَةُ مِنَ الْأَتْبَاعِ، وَالْأَتْبَاعُ مِنَ الْقَادَةِ، وَقِيلَ:

الْمَعْنَى يَتَبَرَّأُ الْعَابِدُونَ لِلْأَوْثَانِ مِنَ الْأَوْثَانِ، وَتَتَبَرَّأُ الأوثان من العابدين لها وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيْ: يَلْعَنُ كُلُّ فَرِيقٍ الْآخَرَ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَمَأْواكُمُ النَّارُ أَيِ: الْكُفَّارُ، وَقِيلَ: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَوْثَانُ، أَيْ: هِيَ مَنْزِلُكُمُ الَّذِي تَأْوُونَ إِلَيْهِ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يُخَلِّصُونَكُمْ مِنْهَا بِنُصْرَتِهِمْ لَكُمْ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أَيْ: آمَنَ لِإِبْرَاهِيمَ لُوطٌ فَصَدَّقَهُ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إِلَّا حِينَ رَأَى النَّارَ لَا تَحْرِقُهُ، وَكَانَ لُوطٌ ابْنَ أَخِي إِبْرَاهِيمَ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي قَالَ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ: الَّذِي قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي هُوَ إِبْرَاهِيمُ. قَالَ قَتَادَةُ: هَاجَرَ مِنْ كُوثَى وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ إِلَى حَرَّانَ ثُمَّ إِلَى الشَّامِ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ لُوطٌ وَامْرَأَتُهُ سَارَةُ، وَالْمَعْنَى: إِنِّي مُهَاجِرٌ عَنْ دَارِ قَوْمِي إِلَى حَيْثُ أَعْبُدُ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: الْغَالِبُ الَّذِي أَفْعَالُهُ جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي هُوَ لُوطٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِرُجُوعِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فَإِنَّ هَذِهِ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا لِإِبْرَاهِيمَ بِلَا خِلَافٍ، أَيْ: مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْأَوْلَادِ فَوَهَبَ لَهُ إِسْحَاقَ وَلَدًا لَهُ، وَيَعْقُوبَ وَلَدًا لِوَلَدِهِ إِسْحَاقَ، وَجَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ، وَالْكِتَابَ فَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مِنْ صُلْبِهِ، وَوَحَّدَ الْكِتَابَ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِ لِلْجِنْسِ الشَّامِلِ لِلْكُتُبِ، وَالْمُرَادُ: التَّوْرَاةُ، وَالْإِنْجِيلُ، وَالزَّبُورُ، وَالْقُرْآنُ، وَمَعْنَى: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا أَنَّهُ أُعْطِيَ فِي الدُّنْيَا الْأَوْلَادُ، وَأَخْبَرَهُ اللَّهُ بِاسْتِمْرَارِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ، وَذَلِكَ مِمَّا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ، وَيَزْدَادُ بِهِ سُرُورُهُ، وَقِيلَ: أَجْرُهُ فِي الدُّنْيَا أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ كُلِّهَا تَدَّعِيهِ، وَتَقُولُ هُوَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا عَمَلًا صَالِحًا، وَعَاقِبَةً حَسَنَةً، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، أَيِ: الْكَامِلِينَ فِي الصَّلَاحِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِتَوْفِيرِ الْأُجْرَةِ، وَكَثْرَةِ الْعَطَاءِ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعْثُ اللَّهِ نُوحًا وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ سَنَةً حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وَفَشَوْا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ عُمْرُ نُوحٍ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَى قَوْمِهِ، وَبَعْدَ مَا بُعِثَ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمَائَةِ سَنَةٍ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ ذَمِّ الدُّنْيَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ قَالَ: جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى نُوحٍ فَقَالَ: يَا أَطْوَلَ النَّبِيِّينَ عُمْرًا كَيْفَ وَجَدْتَ الدُّنْيَا وَلَذَّتَهَا؟ قَالَ: كَرَجُلٍ دَخَلَ بَيْتًا لَهُ بَابَانِ، فَقَالَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ هُنَيْهَةً، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ الْآخِرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ قَالَ: أَبْقَاهَا اللَّهُ آيَةً، فَهِيَ عَلَى الْجُودِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً قَالَ: تَقُولُونَ كَذِبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ قَالَ: هِيَ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ النُّشُورُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ قَالَ: صَدَقَ

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 إلى 40]

لُوطٌ إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ مِنَ المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان ابن عفّان، فقال النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: صَحِبَهُمَا اللَّهُ، إِنَّ عُثْمَانَ لِأَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى اللَّهِ بِأَهْلِهِ بَعْدَ لُوطٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مِنْدَهْ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: هَاجَرَ عُثْمَانُ إِلَى الْحَبَشَةِ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا كَانَ بَيْنَ عُثْمَانَ وَبَيْنَ رُقَيَّةَ وَبَيْنَ لُوطٍ مُهَاجِرٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ كَمَا هَاجَرَ لُوطٌ إِلَى إِبْرَاهِيمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ قَالَ: هُمَا وَلَدَا إِبْرَاهِيمَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا قَالَ إِنَّ اللَّهَ وَصَّى أَهْلَ الْأَدْيَانِ بِدِينِهِ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ دِينٌ إِلَّا وَهُمْ يَقُولُونَ: إِبْرَاهِيمَ وَيَرْضَوْنَ بِهِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا قَالَ: الذِّكْرُ الْحَسَنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْوَلَدُ الصَّالِحُ وَالثَّنَاءُ، وَقَوْلُ ابن عباس: هما ولدا إبراهيم لعله يريده وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ، لِأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِ ابن عباس فهو حبر الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ هِيَ مِنْ رِوَايَةِ الْعَوْفِيِّ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «إِنَّ الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يوسف ابن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 40] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

قَوْلُهُ: وَلُوطاً مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى نُوحًا، أَوْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، أَوْ بِتَقْدِيرِ اذْكُرْ. قَالَ الْكِسَائِيُّ الْمَعْنَى: وَأَنْجَيْنَا لُوطًا، أَوْ: وَأَرْسَلْنَا لُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظَرْفٌ لِلْعَامِلِ فِي لُوطٍ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وأبو بكر «أإنكم» بِالِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ، وَالْفَاحِشَةُ: الْخَصْلَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ فِي الْقُبْحِ، وَجُمْلَةُ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ مُقَرِّرَةٌ لِكَمَالِ قُبْحِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ، وَأَنَّهُمْ مُنْفَرِدُونَ بِذَلِكَ، لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَى عَمَلِهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ فَقَالَ: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أَيْ: تَلُوطُونَ بِهِمْ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ الْفَاحِشَةَ بِمَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسَافِرِينَ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ تَرَكَ النَّاسُ الْمُرُورَ بِهِمْ، فَقَطَعُوا السَّبِيلَ بِهَذَا السَّبَبِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانُوا يَعْتَرِضُونَ النَّاسَ فِي الطُّرُقِ بِعَمَلِهِمُ الْخَبِيثِ، وَقِيلَ: كَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمَارَّةِ، بِقَتْلِهِمْ وَنَهْبِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِسَبَبٍ خَاصٍّ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَطْعِ الطَّرِيقِ: قَطْعُ النَّسْلِ، بِالْعُدُولِ عَنِ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ النَّادِي، وَالنَّدِيُّ، وَالْمُنْتَدَى: مَجْلِسُ الْقَوْمِ، وَمُتَحَدَّثُهُمْ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُنْكَرِ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَهُ فِيهِ فَقِيلَ: كَانُوا يَحْذِفُونَ النَّاسَ بِالْحَصْبَاءِ، وَيَسْتَخِفُّونَ بِالْغَرِيبِ، وَقِيلَ: كَانُوا يَتَضَارَطُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَقِيلَ: كَانُوا يَأْتُونَ الرِّجَالَ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ يَرَى بَعْضًا، وَقِيلَ: كَانُوا يَلْعَبُونَ بِالْحَمَامِ، وَقِيلَ: كَانُوا يُخَضِّبُونَ أَصَابِعَهُمْ بِالْحِنَّاءِ، وَقِيلَ: كَانُوا يُنَاقِرُونَ بَيْنَ الدِّيَكَةِ، وَيُنَاطِحُونَ بَيْنَ الْكِبَاشِ، وَقِيلَ: يَلْعَبُونَ بِالنَّرْدِ، وَالشِّطْرَنْجِ، وَيَلْبَسُونَ الْمُصَبَّغَاتِ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ جَمِيعَ هَذِهِ المنكرات. قال الزجاج: وفي هذا إِعْلَامٌ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَاشَرَ النَّاسُ على المنكر، وأن لا يجتمعوا على الهزء وَالْمَنَاهِي. وَلَمَّا أَنْكَرَ لُوطٌ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ أَجَابُوا بِمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أَيْ: فَمَا أَجَابُوا بِشَيْءٍ إِلَّا بِهَذَا الْقَوْلِ رُجُوعًا مِنْهُمْ إِلَى التَّكْذِيبِ، وَاللَّجَاجِ، وَالْعِنَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ «1» وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ «2» وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَوَاضِعِ بِأَنَّ لُوطًا كَانَ ثَابِتًا عَلَى الْإِرْشَادِ، وَمُكَرِّرًا لِلنَّهْيِ لَهُمْ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ أَوَّلًا: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمَّا كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْكُتْ عَنْهُمْ قَالُوا: أَخْرِجُوهُمْ كَمَا فِي الْأَعْرَافِ، وَالنَّمْلِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا أَوَّلًا: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، ثُمَّ قَالُوا ثَانِيًا: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ لُوطًا لَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ طَلَبَ النُّصْرَةَ عَلَيْهِمْ مِنَ الله سبحانه فقال: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بِإِنْزَالِ عَذَابِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِفْسَادِهِمْ هُوَ بِمَا سَبَقَ مِنْ إِتْيَانِ الرِّجَالِ، وَعَمَلِ الْمُنْكَرِ فِي نَادِيهِمْ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَبَعَثَ لِعَذَابِهِمْ مَلَائِكَتَهُ، وَأَمْرَهُمْ بِتَبْشِيرِ إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ عَذَابِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أَيْ: بِالْبِشَارَةِ بِالْوَلَدِ، وَهُوَ إِسْحَاقُ، وبولد الولد، وهو يعقوب قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ أَيْ: قَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالْقَرْيَةُ هِيَ: قَرْيَةُ سَدُومَ الَّتِي كَانَ

_ (1) . النمل: 56. (2) . الأعراف: 82.

فِيهَا قَوْمُ لُوطٍ، وَجُمْلَةُ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ تَعْلِيلٌ لِلْإِهْلَاكِ، أَيْ: إِهْلَاكُنَا لَهُمْ بِهَذَا السَّبَبِ قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً أَيْ: قَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ الَّتِي أَنْتُمْ مُهْلِكُوهَا لُوطًا فَكَيْفَ تُهْلِكُونَهَا؟ قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها مِنَ الْأَخْيَارِ، وَالْأَشْرَارِ، وَنَحْنُ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِنَا بِمَكَانِ لُوطٍ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْعَذَابِ. قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَالْكِسَائِيُّ «لَنُنْجِيَنَّهُ» بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أَيِ: الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ، وَهُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْبَاقِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْقَرْيَةِ الَّتِي سَيَنْزِلُ بِهَا الْعَذَابُ، فَتُعَذَّبُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَلَا تَنْجُو فِيمَنْ نَجَا وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أَيْ: لَمَّا جَاءَتِ الرُّسُلُ لُوطًا بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ إِبْرَاهِيمَ سِيءَ بِهِمْ، أَيْ: جَاءَهُ مَا سَاءَهُ وَخَافَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ ظَنَّهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، فَخَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ لِكَوْنِهِمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ الْبَشَرِيَّةِ، وَ «أَنْ» فِي أَنْ جَاءَتْ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أَيْ: عَجَزَ عَنْ تَدْبِيرِهِمْ، وَحَزِنَ، وَضَاقَ صَدْرُهُ، وَضِيقُ الذِّرَاعِ: كِنَايَةٌ عَنِ الْعَجْزِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكِنَايَةِ عَنِ الْفَقْرِ: ضَاقَتْ يَدُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ هود. ولما شاهد الْمَلَائِكَةُ مَا حَلَّ بِهِ مِنَ الْحُزْنِ وَالتَّضَجُّرِ قالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ أَيْ: لَا تَخَفْ عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ، وَلَا تَحْزَنْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْنَا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِأَنْ نُنْزِلَهُ بِهِمْ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أَخْبَرُوا لُوطًا بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ إِهْلَاكِ قَوْمِهِ، وَتَنْجِيَتِهِ، وَأَهْلِهِ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَمَا أَخْبَرُوا بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمَ، قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَالْأَعْمَشُ «مُنَجُّوكَ» بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْكَافُ فِي مُنَجُّوكَ مَخْفُوضٌ، وَلَمْ يَجُزْ عَطْفُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَخْفُوضِ، فَحُمِلَ الثَّانِي عَلَى الْمَعْنَى، وَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَنُنْجِي أَهْلَكَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ هَلَاكِهِمُ الْمَفْهُومُ مِنْ تَخْصِيصِ التَّنْجِيَةِ بِهِ، وَبِأَهْلِهِ، وَالرِّجْزُ: الْعَذَابُ، أَيْ: عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: إِحْرَاقُهُمْ بِنَارٍ نَازِلَةٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ الْخَسْفُ، وَالْحَصَبُ كَمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْخَسْفِ مِنَ السَّمَاءِ: أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «مُنَزِّلُونَ» بِالتَّشْدِيدِ. وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَفْسُقُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: لِسَبَبِ فِسْقِهِمْ وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً أَيْ: أَبْقَيْنَا مِنَ الْقَرْيَةِ عَلَامَةً، وَدَلَالَةً بَيِّنَةً، وَهِيَ الْآثَارُ الَّتِي بِهَا مِنَ الْحِجَارَةِ، رُجِمُوا بِهَا، وَخَرَابُ الدِّيَارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْمَاءُ الْأَسْوَدُ الْبَاقِي عَلَى وَجْهِ أَرْضِهِمْ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، وَخُصَّ مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّهُ الَّذِي يَفْهَمُ أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ عِبْرَةٌ يَعْتَبِرُ بِهَا مَنْ يراها وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أي: وأرسلنا إِلَيْهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَذِكْرُ نَسَبِهِ وَذِكْرُ قومه في سورة الأعراف وسورة هود: فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي: أفردوه بالعبادة، وَخُصُّوهُ بِهَا وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أَيْ: تَوَقَّعُوهُ وَافْعَلُوا الْيَوْمَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَدْفَعُ عَذَابَهُ عَنْكُمْ. قَالَ يُونُسُ النَّحْوِيُّ: مَعْنَاهُ: اخْشَوُا الْآخِرَةَ الَّتِي فِيهَا الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ العثو والعثي: أَشَدُّ الْفَسَادِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أَيِ: الزَّلْزَلَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أَيْ: صَيْحَةُ جِبْرِيلَ، وَهِيَ سَبَبُ الرَّجْفَةِ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ أَيْ: أَصْبَحُوا فِي بَلَدِهِمْ

أَوْ مَنَازِلِهِمْ جَاثِمِينَ عَلَى الرُّكَبِ مَيِّتِينَ وَعاداً وَثَمُودَ قَالَ الْكِسَائِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَوَّلِ السُّورَةِ، أَيْ: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَفَتَنَّا عَادًا وَثَمُودَ، قَالَ: وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» أَيْ: وَأَخَذَتْ عَادًا وَثَمُودَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ وَأَهْلَكْنَا عَادًا وَثَمُودَ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَاذْكُرْ عَادًا وَثَمُودَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ هُودًا وَصَالِحًا وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أَيْ: وَقَدْ ظَهَرَ لَكُمْ يا معاشر الكفار. مَسَاكِنِهِمْ بِالْحِجْرِ، وَالْأَحْقَافِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ تَتَّعِظُونَ بِهَا، وَتَتَفَكَّرُونَ فِيهَا، فَفَاعِلُ تَبَيَّنَ: مَحْذُوفٌ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا مِنَ الْكُفْرِ وَمَعَاصِي اللَّهِ فَصَدَّهُمْ بِهَذَا التَّزْيِينِ عَنِ السَّبِيلِ أَيِ: الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْحَقِّ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أَيْ: أَهْلُ بَصَائِرَ يَتَمَكَّنُونَ بِهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالِاسْتِدْلَالِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانُوا عُقَلَاءَ ذَوِي بَصَائِرَ، فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ بَصَائِرُهُمْ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ فِي كُفْرِهِمْ، وَضَلَالَتِهِمْ مُعْجَبِينَ بِهَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى، وَيَرَوْنَ أَنَّ أَمْرَهُمْ حَقٌّ، فَوَصَفَهُمْ بِالِاسْتِبْصَارِ عَلَى هَذَا، بِاعْتِبَارِ مَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ قَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنْ شِئْتَ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى «عَادًا» وَكَانَ فِيهِ مَا فِيهِ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ عَلَى «فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ» أَيْ: وَصَدَّ قَارُونَ، وَفِرْعَوْنَ، وَهَامَانَ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: وَأَهْلَكْنَا هَؤُلَاءِ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَما كانُوا سابِقِينَ أَيْ: فَائِتِينَ، يُقَالُ سَبَقَ طَالِبَهُ: إِذَا فَاتَهُ: وَقِيلَ: وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فِي الْكُفْرِ، بَلْ قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَيْهِ قُرُونٌ كثيرة، فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ أي: عاقبناه بِكُفْرِهِ، وَتَكْذِيبِهِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: فَكُلًّا أَخَذْنا أَيْ: فَأَخَذْنَا كُلًّا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً أَيْ: رِيحًا تَأْتِي بِالْحَصْبَاءِ، وَهِيَ الْحَصَى الصِّغَارُ فَتَرْجُمُهُمْ بِهَا، وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَهُمْ: ثَمُودُ، وَأَهْلُ مَدْيَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَهُوَ قَارُونُ وَأَصْحَابُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بِمَا فَعَلَ بِهِمْ، لِأَنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتَبَهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ وَعَمَلِهِمْ بِمَعَاصِي اللَّهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قَالَ: مَجْلِسُكُمْ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الصَّمْتِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وابن عساكر عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قَالَ: «كَانُوا يَجْلِسُونَ بِالطَّرِيقِ فَيَحْذِفُونَ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ وَتَحْسِينِهِ: وَلَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ سِمَاكٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْحَذْفِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ الْحَذْفُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي الْآيَةِ قَالَتِ: الضُّرَاطُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 إلى 46]

قَوْلِهِ: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ: الصَّيْحَةُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ قَالَ: فِي الضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً قَالَ: قَوْمُ لُوطٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ قَالَ: ثَمُودُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ قَالَ: قَارُونُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا قَالَ: قَوْمُ نُوحٍ. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 46] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) قَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يُوَالُونَهُمْ، وَيَتَّكِلُونَ عَلَيْهِمْ فِي حَاجَاتِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْجَمَادِ، أَوِ الْحَيَوَانِ، وَمِنَ الْأَحْيَاءِ أَوْ مِنَ الْأَمْوَاتِ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً فَإِنَّ بَيْتَهَا لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا لَا فِي حَرٍّ، وَلَا قُرٍّ، وَلَا مَطَرٍ، كَذَلِكَ مَا اتَّخَذُوهُ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ وَلَا تَضُرُّهُ، كَمَا أَنَّ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ لَا يَقِيهَا حَرًّا، وَلَا بَرْدًا. قَالَ: وَلَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى الْعَنْكَبُوتِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قُصِدَ بِالتَّشْبِيهِ لِبَيْتِهَا الَّذِي لَا يَقِيهَا مِنْ شَيْءٍ، شُبِّهَتِ الْآلِهَةُ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ بِهِ، وَقَدْ جَوَّزَ الْوَقْفَ عَلَى الْعَنْكَبُوتِ الْأَخْفَشُ، وَغَلَّطَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ قَالَ: لِأَنَّ: اتَّخَذَتْ صِلَةٌ لِلْعَنْكَبُوتِ كَأَنَّهُ قَالَ: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ الَّتِي اتَّخَذَتْ بَيْتًا، فَلَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى الصِّلَةِ دُونَ الْمَوْصُولِ، وَالْعَنْكَبُوتُ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْجَمْعِ، وَالْمُذَكَّرِ، وَالْمُؤَنَّثِ، وَتُجْمَعُ عَلَى عَنَاكِبَ وَعَنْكَبُوتَاتٍ، وَهِيَ الدُّوَيْبَّةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي تنسج نسجا رقيقا. وقد يقال لها: عكنباة، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَأَنَّمَا يَسْقُطُ مِنْ لُغَامِهَا ... بيت عكنباة عَلَى زِمَامِهَا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَا بَيْتَ أَضْعَفُ مِنْهُ، مِمَّا يَتَّخِذُهُ الْهَوَامُّ بيتا، ولا يدانيه في الوهي، والوهي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اتِّخَاذَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاتِّخَاذِ الْعَنْكَبُوتِ بَيْتًا، أَوْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ لَعَلِمُوا بِهَذَا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ مَا: اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَوْ نَافِيَةٌ: أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ أَوْ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: قُلْ لِلْكَافِرِينَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَيَّ شَيْءٍ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ. وَجَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ بِأَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ النَّفْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، يَعْنِي: مَا تَدْعُونَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ

الْمَوْصُولَةِ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا: مَصْدَرِيَّةً، وَمِنْ شَيْءٍ: عِبَارَةٌ عَنِ الْمَصْدَرِ. قَرَأَ عَاصِمٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ «يَدْعُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ. وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ لِذِكْرِ الْأُمَمِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْغَالِبُ الْمُصْدِرُ أَفْعَالَهُ عَلَى غَايَةِ الْإِحْكَامِ، وَالْإِتْقَانِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أَيْ: هَذَا الْمَثَلُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ تَنْبِيهًا لَهُمْ، وَتَقْرِيبًا لِمَا بَعُدَ مِنْ أَفْهَامِهِمْ وَما يَعْقِلُها أَيْ: يَفْهَمُهَا وَيَتَعَقَّلُ الْأَمْرَ الَّذِي ضَرَبْنَاهَا لِأَجْلِهِ إِلَّا الْعالِمُونَ بِاللَّهِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، الْمُتَدَبِّرُونَ، الْمُتَفَكِّرُونَ لِمَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، وَمَا يُشَاهِدُونَهُ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْعَدْلِ، وَالْقِسْطِ مُرَاعِيًا فِي خَلْقِهَا مَصَالِحَ عِبَادِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ: كَلَامُهُ وَقُدْرَتُهُ، وَمَحَلُّ بِالْحَقِّ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: لَدَلَالَةً عَظِيمَةً، وَعَلَامَةً ظَاهِرَةً عَلَى قُدْرَتِهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أَيِ: الْقُرْآنِ، وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالتِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى قِرَاءَتِهِ مَعَ التَّدَبُّرِ لِآيَاتِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أَيْ: دُمْ عَلَى إِقَامَتِهَا، وَاسْتَمِرَّ عَلَى أَدَائِهَا كَمَا أُمِرْتَ بِذَلِكَ، وَجُمْلَةُ «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْفَحْشَاءُ: مَا قَبُحَ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْمُنْكَرُ: مَا لَا يُعْرَفُ فِي الشريعة، أي: تمنعه عن مَعَاصِي اللَّهِ وَتُبْعِدُهُ مِنْهَا، وَمَعْنَى نَهْيِهَا عَنْ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهَا يَكُونُ سَبَبًا لِلِانْتِهَاءِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَةُ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أَيْ: أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَيْ: أَفْضَلُ مِنَ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا بِغَيْرِ ذِكْرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَيْ: هُوَ الَّذِي يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَالْجُزْءُ الَّذِي مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ذَاكِرٍ لِلَّهِ، مُرَاقِبٍ لَهُ. وَقِيلَ: ذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنَ الصَّلَاةِ، فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ، وَالْمُنْكَرِ، مَعَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ فِي الْآيَةِ: التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ، يَقُولُ: هُوَ أَكْبَرُ، وَأَحْرَى بِأَنْ يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الصلاة، أي: وللصلاة أَكْبَرُ مِنْ سَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالذِّكْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «1» لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الذِّكْرِ: هُوَ الْعُمْدَةُ فِي تَفْضِيلِهَا عَلَى سَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ لَكُمْ بِالثَّوَابِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْكُمْ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ فِي عِبَادَتِكُمْ وَصَلَوَاتِكُمْ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِالْخَيْرِ: خَيْرًا، وَبِالشَّرِّ: شَرًّا وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ: إِلَّا بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ لَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّنْبِيهِ لَهُمْ عَلَى حُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ رَجَاءَ إِجَابَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْإِغْلَاظِ وَالْمُخَاشَنَةِ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بِأَنْ أَفْرَطُوا فِي الْمُجَادَلَةِ، وَلَمْ يَتَأَدَّبُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا بَأْسَ بِالْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّخْشِينِ فِي مُجَادَلَتِهِمْ، هَكَذَا فَسَّرَ الْآيَةَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تُجَادِلُوا

_ (1) . الجمعة: 9.

مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَائِرِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، يَعْنِي: بِالْمُوَافَقَةِ فِيمَا حَدَّثُوكُمْ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: هُمُ الْبَاقُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ، وَبِذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ. قَالَ النحاس: من قال مَنْسُوخَةٌ احْتَجَّ بِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قِتَالٌ مَفْرُوضٌ، وَلَا طَلَبُ جِزْيَةٍ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمُ: الَّذِينَ نَصَبُوا الْقِتَالَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَجِدَالُهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا مِنَ الْقُرْآنِ وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، أَيْ: آمَنَّا بِأَنَّهُمَا مُنْزَلَانِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمَا شَرِيعَةٌ ثَابِتَةٌ إِلَى قِيَامِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا حَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا ضِدَّ، وَلَا نِدَّ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أَيْ: وَنَحْنُ مَعَاشِرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مُطِيعُونَ لَهُ خَاصَّةً، لَمْ نَقُلْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَلَا اتَّخَذْنَا أَحْبَارَنَا وَرُهْبَانَنَا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ: وَنَحْنُ جَمِيعًا مُنْقَادُونَ لَهُ، وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذَا الْوَجْهِ كَوْنُ انْقِيَادِ الْمُسْلِمِينَ أَتَمَّ مِنِ انْقِيَادِ أهل الكتاب، وطاعتهم أبلغ من طاعاتهم. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ الْآيَةَ قَالَ: ذَاكَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ أَنَّ مَثَلَهُ كَمَثَلِ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَرْثَدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَنْكَبُوتُ شَيْطَانٌ مَسَخَهَا اللَّهُ فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَقْتُلْهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَزِيدِ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: الْعَنْكَبُوتُ شَيْطَانٌ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ الْغَارَ فَاجْتَمَعَتِ الْعَنْكَبُوتُ فَنَسَجَتْ بِالْبَابِ فَلَا تَقْتُلُوهُنَّ» وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: طَهِّرُوا بُيُوتَكُمْ مِنْ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ فَإِنَّ تَرْكَهُ فِي الْبَيْتِ يُورِثُ الْفَقْرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: نَسَجَتِ الْعَنْكَبُوتُ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً عَلَى دَاوُدَ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ قَالَ: فِي الصَّلَاةِ مُنْتَهَى وَمُزْدَجَرٌ عَنِ الْمَعَاصِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ فَقَالَ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» وَفِي لَفْظٍ «لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا» . وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالْأَصَحُّ فِي هَذَا كُلِّهِ: الْمَوْقُوفَاتُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَعْمَشِ، وَغَيْرِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ،

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 47 إلى 55]

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يَقُولُ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ إِذَا ذَكَرُوهُ أكبر من ذكرهم إيّاه. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَأَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فَقُلْتُ: ذِكْرُ اللَّهِ بِالتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ قَالَ: لَذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبُرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ، ثُمَّ قَالَ: اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ الْعَبْدَ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْعَبْدِ لِلَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَهَا وَجْهَانِ: ذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِمَّا سِوَاهُ، وَفِي لَفْظِ: ذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ مَا حَرَّمَهُ، وَذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَعْظَمُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَتَقَطَّعَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَنْتَرَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَالَ: بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالدَّيْلَمِيُّ، وَأَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ فِي الْإِبَانَةِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، أَوْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ» وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ، ثُمَّ قَالَ: «فَإِنْ كُنْتُمْ سَائِلِيهِمْ لَا مَحَالَةَ فَانْظُرُوا مَا وَاطَأَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ، وَمَا خالف كتاب الله فدعوه» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 47 الى 55] وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ هَذَا خِطَابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِنْزَالِ الْبَدِيعِ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: كَمَا أَنْزَلَنَا الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يَعْنِي: مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَخَصَّهُمْ بِإِيتَائِهُمُ الْكِتَابَ لِكَوْنِهِمُ الْعَامِلِينَ بِهِ، وَكَأَنَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُؤْتَوْهُ لِعَدَمِ عَمَلِهِمْ بِمَا فِيهِ، وَجَحْدِهِمْ لِصِفَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مِنْهُمْ وَهُوَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ. مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، أَيْ: بِالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ الْعَرَبِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أَيْ: آيَاتِ الْقُرْآنِ إِلَّا الْكافِرُونَ الْمُصَمِّمُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وأهل الكتاب وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ الضَّمِيرُ فِي قَبْلِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ أَيْ: مَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ تَقْرَأُ قَبْلَ الْقُرْآنِ كِتَابًا، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّكَ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ، وَلَا تَكْتُبُ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ أَيْ: وَلَا تَكْتُبُهُ لِأَنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى الْكِتَابَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمّد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَا يَخُطُّ، وَلَا يَقْرَأُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَكْتُبُ، وَلَا يُخَالِطُ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ أَهْلُ كِتَابٍ، فَجَاءَهُمْ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أَيْ: لَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى التِّلَاوَةِ وَالْخَطِّ لَقَالُوا لَعَلَّهُ وَجَدَ مَا يَتْلُوهُ عَلَيْنَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ السَّابِقَةِ، أَوْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ فِي أَخْبَارِ الْأُمَمِ، فَلَمَّا كُنْتَ أُمِّيًّا لَا تَقْرَأُ، وَلَا تَكْتُبُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَوْضِعٌ لِلرِّيبَةِ، وَلَا مَحَلٌّ لِلشَّكِّ أَبَدًا، بَلْ إِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ، وَكُفْرُ مَنْ كَفَرَ مُجَرَّدُ عِنَادٍ، وَجُحُودٍ بِلَا شُبْهَةٍ، وَسَمَّاهُمْ مُبْطِلِينَ لِأَنَّ ارْتِيَابَهُمْ عَلَى تقدير أنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ ظُلْمٌ مِنْهُمْ لِظُهُورِ نَزَاهَتِهِ، وَوُضُوحِ مُعْجِزَاتِهِ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ يَعْنِي: الْقُرْآنَ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِهِ صَلَّى الله عليه وسلم، وحفظوا بَعْدَهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَيْ: بَلْ مُحَمَّدٌ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، أَيْ: ذُو آيَاتٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «بَلْ هِيَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ» قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: بَلْ آيَاتُ الْقُرْآنِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ... وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ لما قالاه بقراءة ابن السميقع «بَلْ هَذَا آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ» وَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ يَجُوزُ أن تكون إلى القراءة كَمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، بَلْ رُجُوعُهَا إِلَى الْقُرْآنِ أَظْهَرُ لِعَدَمِ احْتِيَاجِ ذَلِكَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَالتَّقْدِيرِ. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ أَيِ: الْمُجَاوِزُونَ لِلْحَدِّ فِي الظُّلْمِ وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَالْمَعْنَى: هَلَّا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ كَآيَاتِ مُوسَى، وَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَإِحْيَاءِ الْمَسِيحِ لِلْمَوْتَى، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ يُنْزِلُهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أُنْذِرُكُمْ كَمَا أُمِرْتُ، وَأُبَيِّنُ لَكُمْ كَمَا

يَنْبَغِي، لَيْسَ فِي قُدْرَتِي غَيْرُ ذَلِكَ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «لَوْلَا أَنْزِلُ عَلَيْهِ آيَةٌ» بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ «قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ» أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلرَّدِّ على اقتراحهم، وبيان بطلانه، أي: أو لم يَكْفِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا هَذَا الْكِتَابُ الْمُعْجِزُ الَّذِي قَدْ تَحَدَّيْتَهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ مِنْهُ فَعَجَزُوا، وَلَوْ أَتَيْتَهُمْ بِآيَاتِ مُوسَى، وَآيَاتِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمَا آمَنُوا، كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَمَكَانٍ إِنَّ فِي ذلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِ بِمَا ذُكِرَ لَرَحْمَةً عَظِيمَةً فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ وَذِكْرى فِي الدُّنْيَا يَتَذَكَّرُونَ بِهَا، وَتُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أَيْ: لِقَوْمٍ يُصَدِّقُونَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أَيْ: قُلْ لِلْمُكَذِّبِينَ: كَفَى اللَّهُ شَهِيدًا بِمَا وَقَعَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ مَا صَدَرَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَسُولِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيْ: آمَنُوا بِمَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَفَرُوا بِالْحَقِّ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، أُولَئِكَ هُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَ خُسْرَانِ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ اسْتِهْزَاءً وَتَكْذِيبًا مِنْهُمْ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ لِعَذَابِهِمْ، وَعَيَّنَهُ، وَهُوَ الْقِيَامَةُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَجَلُ: مُدَّةُ أَعْمَارِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا صَارُوا إِلَى الْعَذَابِ لَجاءَهُمُ الْعَذابُ أَيْ: لَوْلَا ذَلِكَ الْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِذُنُوبِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الْمُسَمَّى: النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَقِيلَ: الْوَقْتُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لِعَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا، بِالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِكُلِّ عَذَابٍ أَجَلًا، لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ كَمَا في قوله سبحانه: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ «2» وَجُمْلَةُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَجِيءِ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا، وَمَعْنَى بَغْتَةً: فَجْأَةٌ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ بِإِتْيَانِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَوْعِدُ عَذَابِهِمُ النَّارَ، فَقَالَ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أَيْ: يَطْلُبُونَ مِنْكَ تَعْجِيلَ عَذَابِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ مَكَانَ الْعَذَابِ مُحِيطٌ بِهِمْ، أَيْ: سَيُحِيطُ بِهِمْ عَنْ قُرْبٍ، فَإِنَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: جِنْسُهُمْ، فَيَدْخُلُ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَعْجِلُونَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَقَوْلُهُ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ، وَقَوْلُهُ ثَانِيًا: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ تَعَجُّبٌ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ إِحَاطَةِ الْعَذَابِ بِهِمْ، فَقَالَ: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أَيْ: مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ، فَإِذَا غَشِيَهُمُ الْعَذَابُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِمْ جَهَنَّمُ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الْقَائِلُ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْ بَعْضُ مَلَائِكَتِهِ بِأَمْرِهِ، أَيْ: ذُوقُوا جَزَاءَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ والكوفة

_ (1) . الأنفال: 32. (2) . الأنعام: 67. [.....]

«نَقُولُ» بِالنُّونِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ «1» ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأَخِيرَةَ أَبُو عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «وَيُقَالُ ذُوقُوا» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، كَانَ أُمِّيًّا، وَفِي قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قَالَ: كَانَ اللَّهُ أَنْزَلَ شَأْنَ مُحَمَّدٍ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَلَّمَهُ لَهُمْ، وَجَعَلَهُ لَهُمْ آيَةً فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ آيَةَ نُبُوَّتِهِ أَنْ يَخْرُجَ حِينَ يَخْرُجُ وَلَا يَعْلَمُ كِتَابًا، وَلَا يَخُطُّهُ بِيَمِينِهِ، وَهِيَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ الْآيَةَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ، وَلَا يَكْتُبُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عن يحيى ابن جَعْدَةَ قَالَ: جَاءَ أُنَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكُتُبٍ قَدْ كَتَبُوهَا، فِيهَا بَعْضُ مَا سَمِعُوهُ مِنَ اليهود، فقال النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ «كَفَى بِقَوْمٍ حُمْقًا أَوْ ضَلَالَةً، أَنْ يَرْغَبُوا عَمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ إِلَيْهِمْ، إِلَى مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ إِلَى غَيْرِهِمْ» فَنَزَلَتْ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ الآية. وأخرج الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ حَفْصَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ مِنْ قَصَصِ يُوسُفَ فِي كَتِفٍ، فجعلت تقرؤه والنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَتَلَوَّنُ وَجْهُهُ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَتَاكُمْ يُوسُفُ وَأَنَا نَبِيُّكُمْ فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: دخل عمر ابن الخطاب على النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ فِيهِ مَوَاضِعُ مِنَ التَّوْرَاةِ فَقَالَ: هَذِهِ أَصَبْتُهَا مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ، فَتَغَيَّرَ وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغَيُّرًا شَدِيدًا لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ لِعُمَرَ: أَمَا تَرَى وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عمر: رضينا بالله ربّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «لَوْ نَزَلَ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ، أَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَأَنْتُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ البيهقي وصححه عن عمر ابن الْخَطَّابِ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَعَلُّمِ التَّوْرَاةِ فَقَالَ: «لَا تَتَعَلَّمْهَا وَآمِنْ بِهَا، وَتَعَلَّمُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَآمِنُوا بِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ قَالَ: جَهَنَّمُ هُوَ هَذَا الْبَحْرُ الْأَخْضَرُ تَنْتَثِرُ الْكَوَاكِبُ فِيهِ، وَتَكُونُ فِيهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، ثُمَّ يُسْتَوْقَدُ، فَيَكُونُ هُوَ جَهَنَّمَ، وَفِي هَذَا نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ الصَّحِيحَةَ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ جَهَنَّمَ مَوْجُودَةٌ مَخْلُوقَةٌ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي وَرَدَ بها الكتاب والسنة.

_ (1) . جاء في كتاب السبعة في القراءات: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «ونقول» بالنون وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي «ويقول» .

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 إلى 69]

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 69] يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَمَعَهُمْ فِي الْإِنْذَارِ، وَجَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ اشْتَدَّ عِنَادُهُمْ، وَزَادَ فَسَادُهُمْ، وَسَعَوْا فِي إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِكُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا أَضَافَهُمْ إِلَيْهِ بَعْدَ خِطَابِهِ لَهُمْ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا، وَالَّذِينَ آمَنُوا صِفَةٌ مُوَضِّحَةٌ أَوْ مُمَيِّزَةٌ إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ إِنْ كُنْتُمْ فِي ضِيقٍ بِمَكَّةَ مِنْ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ، وَفِي مُكَايَدَةٍ لِلْكُفَّارِ، فَاخْرُجُوا مِنْهَا لِتَتَيَسَّرَ لَكُمْ عِبَادَتِي وَحْدِي، وَتَتَسَهَّلَ عَلَيْكُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُمْ فِيهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يُعْمَلُ فِيهَا بِالْمَعَاصِي، وَلَا يُمْكِنُهُ تَغْيِيرُ ذَلِكَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى حَيْثُ يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ حَقَّ عِبَادَتِهِ. وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ: الْمَعْنَى إِنْ رَحْمَتِي وَاسِعَةٌ، وَرِزْقِيَ لَكُمْ وَاسْعٌ، فَابْتَغُوهُ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنْ أَرْضِيَ الَّتِي هِيَ أَرْضُ الْجَنَّةِ وَاسِعَةٌ، فَاعْبُدُونِ حَتَّى أُوَرِّثُكُمُوهَا. وَانْتِصَابُ إِيَّايَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: فَاعْبُدُوا إِيَّايَ. ثُمَّ خَوَّفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْمَوْتِ لِيُهَوِّنَ عَلَيْهِمْ أَمْرَ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ أَيْ: كُلُّ نَفْسٍ مِنَ النُّفُوسِ وَاجِدَةٌ مَرَارَةَ الْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ، فَلَا يَصْعُبُ عَلَيْكُمْ تَرْكُ الْأَوْطَانِ، وَمُفَارَقَةُ الْإِخْوَانِ، وَالْخُلَّانِ، ثُمَّ إِلَى اللَّهِ الْمَرْجِعُ بِالْمَوْتِ، وَالْبَعْثِ، لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَكُلُّ حَيٍّ فِي سَفَرٍ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ، وَإِنْ طَالَ لُبْثُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً فِي هَذَا التَّرْغِيبُ إِلَى الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ جَزَاءَ مِنْ هَاجَرَ، أَنْ يَكُونَ فِي غُرَفِ الْجَنَّةِ، وَمَعْنَى «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ» لَنُنْزِلَنَّهُمْ غُرَفَ الْجَنَّةِ، وَهِيَ عَلَالِيهَا، فَانْتِصَابُ غُرَفًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى تَضْمِينِ نُبَوِّئَنَّهُمْ مَعْنَى: نُنْزِلَنَّهُمْ، أَوْ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مَعَ عَدَمِ التَّضْمِينِ، لِأَنَّ نُبَوِّئَنَّهُمْ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَإِمَّا مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ اتِّسَاعًا، أَيْ: فِي غَرَفِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَبَاءَةِ: وَهِيَ الْإِنْزَالُ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي

إِسْحَاقَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ «يَا عِبَادِي» بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «إِنَّ أَرْضِي» بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَسَكَّنَهَا الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ «يَرْجِعُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: «لَنَثْوِيَنَّهُمْ» بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ مَكَانِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَمَعْنَى لَنَثْوِيَنَّهُمْ بِالْمُثَلَّثَةِ: لَنُعْطِيَنَّهُمْ غُرَفًا يَثْوُونَ فِيهَا، مِنَ الثَّوَى: وَهُوَ الْإِقَامَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ ثَوَى الرَّجُلُ: إِذَا أَقَامَ، وَأَثْوَيْتُهُ: إِذَا أَنْزَلَتْهُ مَنْزِلًا يُقِيمُ فِيهِ. قَالَ الأخفش: لا تعجبني هذه القراءات لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ أَثْوَيْتُهُ الدَّارَ، بَلْ تَقُولُ فِي الدَّارِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ حَرْفُ جَرٍّ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ عَلَى إِرَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ، ثُمَّ حَذَفَ كَمَا تَقُولُ أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، أَيْ: بِالْخَيْرِ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الْغُرَفَ فَقَالَ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أَيْ: مِنْ تَحْتِ الْغُرَفِ خالِدِينَ فِيها أَيْ: فِي الْغُرَفِ لَا يَمُوتُونَ أَبَدًا، أَوْ فِي الْجَنَّةِ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المخصوص بالمدح محذوف، أَيْ: فِي الْغُرَفِ لَا يَمُوتُونَ أَبَدًا، أَوْ فِي الْجَنَّةِ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المخصوب المدح مَحْذُوفٌ، أَيْ: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ أَجْرُهُمْ، وَالْمَعْنَى: الْعَامِلِينَ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْعَامِلِينَ فَقَالَ: الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ وَعَلَى أَذِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أَيْ: يُفَوِّضُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ فِي كُلِّ إِقْدَامٍ وَإِحْجَامٍ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ، وَهُوَ النَّظَرُ فِي حَالِ الدَّوَابِّ فَقَالَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَأَيِّنْ، وَأَنَّ أَصْلَهَا: أَيْ دَخَلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ وَصَارَ فِيهَا مَعْنَى كَمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ، وَتَقْدِيرُهَا عِنْدَهُمَا كَشَيْءٍ كَثِيرٍ مِنَ الْعَدَدِ مِنْ دَابَّةٍ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ دَابَّةٍ. وَمَعْنَى «لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» لَا تُطِيقُ حَمْلَ رِزْقِهَا لِضَعْفِهَا وَلَا تَدَّخِرُهُ، وَإِنَّمَا يَرْزُقُهَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَرْزُقُكُمْ، فَكَيْفَ لَا يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ مَعَ قُوَّتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى أَسْبَابِ الْعَيْشِ كَتَوَكُّلِهَا عَلَى اللَّهِ مَعَ ضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: تَأْكُلُ لِوَقْتِهَا، لَا تَدَّخِرُ شَيْئًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الطَّيْرَ وَالْبَهَائِمَ تَأْكُلُ بِأَفْوَاهِهَا وَلَا تَحْمِلُ شَيْئًا وَهُوَ السَّمِيعُ الَّذِي يَسْمَعُ كُلَّ مَسْمُوعٍ الْعَلِيمُ بِكُلِّ مَعْلُومٍ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ وَعَجِبَ السَّامِعُ مِنْ كَوْنِهِمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَلَا يُوَحِّدُونَهُ وَيَتْرُكُونَ عِبَادَةَ غَيْرِهِ فَقَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أَيْ: خَلَقَهَا، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ، وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ جُحُودِهِ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أَيْ: فَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ: لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ. وَلَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ: لَوْ كُنْتُمْ عَلَى حَقٍّ لَمْ تَكُونُوا فَقُرَّاءَ دَفَعَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي: التوسع في الرزق، والتقدير لَهُ هُوَ مِنَ اللَّهِ الْبَاسِطِ الْقَابِضِ يَبْسُطُهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، وَمَا يَلِيقُ بِحَالِ عِبَادِهِ مِنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَعْلَمُ مَا فِيهِ صَلَاحُ عِبَادِهِ، وَفَسَادُهُمْ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ أَيْ: نَزَّلَهُ وَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ اللَّهُ، يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ لَا يَجِدُونَ إِلَى إِنْكَارِهِ سَبِيلًا. ثُمَّ لَمَّا اعْتَرَفُوا هَذَا الِاعْتِرَافَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ،

وَهُوَ يَقْتَضِي بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَعَدَمِ إِفْرَادِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْعِبَادَةِ، أَمَرَ رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عَلَى إِقْرَارِهِمْ، وَعَدَمِ جُحُودِهِمْ مَعَ تَصَلُّبِهِمْ فِي الْعِنَادِ، وَتَشَدُّدِهِمْ فِي رَدِّ كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ أَيْ: أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى أن جعل الحقّ معك، وأظهر حجتك عَلَيْهِمْ، ثُمَّ ذَمَّهُمْ فَقَالَ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَتَعَقَّلُهَا الْعُقَلَاءُ. فَلِذَلِكَ لَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى مَا اعْتَرَفُوا بِهِ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ بطلان ما هي عَلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ. ثُمَّ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى تَحْقِيرِ الدُّنْيَا وَأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، وَأَنَّ الدَّارَ عَلَى الْحَقِيقَةِ: هِيَ دَارُ الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ مِنْ جِنْسِ مَا يَلْهُو بِهِ الصِّبْيَانُ وَيَلْعَبُونَ بِهِ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ الْحَيَوَانَ: الْحَيَاةُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَيَوَانِ هَاهُنَا: الْحَيَاةُ، وَأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَنْزِلَةِ الْحَيَاةِ، فَيَكُونُ كَالنَّزَوَانِ وَالْغَلَيَانِ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِي دَارُ الْحَيَوَانِ، أَوْ ذَاتُ الْحَيَوَانِ، أَيْ: دَارُ الْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ الَّتِي لَا تَزُولُ، وَلَا يُنَغِّصُهَا مَوْتٌ، وَلَا مَرَضٌ، وَلَا هَمٌّ، وَلَا غَمٌّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ لَمَا آثَرُوا عَلَيْهَا الدَّارَ الْفَانِيَةَ الْمُنَغَّصَةَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَانِعُ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا مُجَرَّدُ تَأْثِيرِ الْحَيَاةِ فَقَالَ: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أَيْ: إِذَا انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ مِنَ الْحَيَاةِ، وَخَافُوا الْغَرَقَ رَجَعُوا إِلَى الْفِطْرَةِ، فَدَعَوُا اللَّهَ وَحْدَهُ كَائِنِينَ عَلَى صُورَةِ الْمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بِصِدْقِ نِيَّاتِهِمْ، وَتَرْكِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ لِدُعَاءِ الْأَصْنَامِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَكْشِفُ هَذِهِ الشِّدَّةَ الْعَظِيمَةَ النَّازِلَةَ بِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي: فاجؤوا الْمُعَاوَدَةَ إِلَى الشِّرْكِ، وَدَعَوْا غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالرُّكُوبُ: هُوَ الِاسْتِعْلَاءُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِكَلِمَةِ: فِي لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمَرْكُوبَ فِي نَفْسِهِ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْكِنَةِ، وَاللَّامُ فِي لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَفِي قَوْلِهِ: وَلِيَتَمَتَّعُوا لِلتَّعْلِيلِ أَيْ: فاجؤوا الشِّرْكَ بِاللَّهِ لِيَكْفُرُوا بِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَلِيَتَمَتَّعُوا بِهِمَا فَهُمَا فِي الْفِعْلَيْنِ لَامُ كَيْ، وَقِيلَ: هُمَا لَامَا الْأَمْرِ تَهْدِيدًا وَوَعِيدًا، أَيِ: اكْفُرُوا بِمَا أَعْطَيْنَاكُمْ مِنَ النِّعْمَةِ وَتَمَتَّعُوا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ «وَتَمَتَّعُوا» وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لِلْأَمْرَيْنِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ، وَوَرْشٍ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِسُكُونِهَا فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَامُ الْأَمْرِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لَهُمْ أَيْ: فَسَيَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ ذَلِكَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَبَالِ عَلَيْهِمْ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً أَيْ: أَلَمْ يَنْظُرُوا، يَعْنِي: كُفَّارَ قُرَيْشٍ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمَهُمْ هَذَا حَرَمًا آمِنًا يَأْمَنُ فِيهِ سَاكِنُهُ مِنَ الْغَارَةِ، وَالْقَتْلِ، وَالسَّبْيِ، وَالنَّهْبِ فَصَارُوا فِي سَلَامَةٍ، وَعَافِيَةٍ مِمَّا صَارَ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ فِي كُلِّ حِينٍ تَطْرُقُهُمُ الْغَارَاتُ، وَتَجْتَاحُ أَمْوَالَهُمُ الْغُزَاةُ، وَتَسْفِكُ دِمَاءَهُمُ الْجُنُودُ، وَتَسْتَبِيحُ حُرَمَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ شُطَّارُ الْعَرَبِ، وشياطينها، وَجُمْلَةُ وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَخْتَلِسُونَ مَنْ حَوْلَهُمْ بِالْقَتْلِ، وَالسَّبْيِ، وَالنَّهْبِ، وَالْخَطْفُ: الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَهُوَ الشِّرْكُ بَعْدَ ظُهُورِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِمَا يُوجِبُ التَّوْحِيدَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ يَجْعَلُونَ كُفْرَهَا مَكَانَ شُكْرِهَا، وَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مِنَ التَّقْرِيعِ، وَالتَّوْبِيخِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ،

وَهُوَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَيْ: كَذَّبَ بِالرَّسُولِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَذَّبَ بِالتَّوْحِيدِ، وَالظَّاهِرُ شُمُولُهُ لِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَقٌّ. ثُمَّ هَدَّدَ الْمُكَذِّبِينَ وَتَوَعَّدَهُمْ فَقَالَ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أَيْ: مَكَانٌ يَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَالْمَعْنَى: أَلَيْسَ يَسْتَحِقُّونَ الِاسْتِقْرَارَ فِيهَا وَقَدْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا؟ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ الْجَاحِدِينَ لِلتَّوْحِيدِ الْكَافِرِينَ بِنِعَمِ اللَّهِ أَرْدَفَهُ بِحَالِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أَيْ: جَاهَدُوا فِي شَأْنِ اللَّهِ لِطَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَرَجَاءِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، أَيِ: الطَّرِيقَ الْمُوصِّلَ إِلَيْنَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الْجِهَادِ الْعُرْفِيِّ «1» ، وَإِنَّمَا هُوَ جِهَادٌ عَامٌّ فِي دِينِ اللَّهِ وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَقِيلَ: الْآيَةُ هَذِهِ نَزَلَتْ فِي الْعِبَادِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: هِيَ فِي الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بِالنَّصْرِ وَالْعَوْنِ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ لَمْ يُخْذَلْ، وَدَخَلَتْ لَامُ التَّوْكِيدِ عَلَى مَعَ بِتَأْوِيلِ كَوْنِهَا اسْمًا، أَوْ عَلَى أَنَّهَا حَرْفٌ، وَدَخَلَتْ عَلَيْهَا لِإِفَادَةِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ كَمَا تَقُولُ: إِنَّ زَيْدًا لَفِي الدَّارِ، وَالْبَحْثُ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» قُلْتُ: يَا رَبِّ أَيَمُوتُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ وَيَبْقَى الْأَنْبِيَاءُ؟ فَنَزَلَتْ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» . وَيُنْظَرُ كَيْفَ صِحَّةُ هَذَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَيِّتٌ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ مَاتُوا، وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَيْفَ يَنْشَأُ عن هذه الآية ما رواه عَنْهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: «أَيَمُوتُ الْخَلَائِقُ وَيَبْقَى الْأَنْبِيَاءُ» فَلَعَلَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَا تَصِحُّ مَرْفُوعَةً، وَلَا مَوْقُوفَةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ فَجَعَلَ يلتقط التّمر ويأكل، فقال لي: مالك لَا تَأْكُلُ؟ قُلْتُ: لَا أَشْتَهِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَكِنِّي أَشْتَهِيهِ وَهَذِهِ صُبْحُ رَابِعَةٍ مُنْذُ لَمْ أَذُقْ طَعَامًا وَلَمْ أَجِدْهُ، وَلَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ رَبِّي فَأَعْطَانِي مِثْلَ مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَكَيْفَ بِكَ يَا ابْنَ عُمَرَ إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَتِهِمْ وَيَضْعُفُ اليقين. قال: فو الله مَا بَرِحْنَا وَلَا رُمْنَا حَتَّى نَزَلَتْ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنِي بِكَنْزِ الدُّنْيَا وَلَا بِاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، أَلَا وَإِنِّي لَا أَكْنِزُ دينارا ولا درهما، ولا أخبأ رِزْقًا لِغَدٍ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ يُعْطِي نِسَاءَهُ قُوتَ الْعَامِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَبَرَةِ. وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو الْعَطُوفِ الْجَوْزِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ قَالَ: بَاقِيَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ لِلْمُصَدِّقِ بِدَارِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ يَسْعَى لِدَارِ الْغُرُورِ» وَهُوَ مُرْسَلٌ.

_ (1) . قتال الأعداء. (2) . الزمر: 30.

سورة الروم

سورة الرّوم قال القرطبي كلها مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالنَّحَّاسُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الرُّومِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهَا سُورَةَ الرُّومِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنِ الْأَغَرِّ الْمَدَنِيِّ مِثْلَهُ. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الرُّومِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ قَانِعٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ مِثْلَ حَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي مِنَ الصَّحَابَةِ، وَزَادَ: يَتَرَدَّدُ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «إِنَّمَا يُلْبِسُ عَلَيْنَا فِي صَلَاتِنَا قَوْمٌ يَحْضُرُونَ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ طَهُورٍ، مَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ فَلْيُحْسِنِ الطهور» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَحَلِّهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَمَحَلِّ أَمْثَالِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ غُلِبَتِ الرُّومُ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ وَابْنُ عُمَرَ، وَأَهْلُ الشَّامِ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَاللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ النَّحَّاسُ: قِرَاءَةُ أَكْثَرِ النَّاسِ غُلِبَتِ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: غَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ فَفَرِحَ بِذَلِكَ كُفَّارُ مَكَّةَ وَقَالُوا: الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ غَلَبُوا الَّذِينَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَافْتَخَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: نَحْنُ أَيْضًا نَغْلِبُكُمْ كَمَا غَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ. وَمَعْنَى فِي أَدْنَى الْأَرْضِ فِي أَقْرَبِ أَرْضِهِمْ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، أَوْ فِي أقرب

أَرْضِ الْعَرَبِ مِنْهُمْ، قِيلَ: هِيَ أَرْضُ الْجَزِيرَةِ، وَقِيلَ: أَذْرِعَاتٌ، وَقِيلَ: كَسْكَرُ، وَقِيلَ: الْأُرْدُنُّ، وَقِيلَ: فِلَسْطِينُ، وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا حُمِلَتِ الْأَرْضُ عَلَى أَرْضِ الْعَرَبِ لِأَنَّهَا الْمَعْهُودُ فِي أَلْسِنَتِهِمْ إِذَا أَطْلَقُوا الْأَرْضَ أَرَادُوا بِهَا جَزِيرَةَ الْعَرَبِ، وَقِيلَ إِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فِي أَدْنَى أَرْضِهِمْ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى الرُّومِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: فِي أَقْرَبِ أَرْضِ الرُّومِ مِنَ الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنْ كَانَتِ الْوَقْعَةُ بِأَذْرُعَاتٍ، فَهِيَ مِنْ أَدْنَى الْأَرْضِ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَقْعَةُ بِالْجَزِيرَةِ، فَهِيَ أَدْنَى بِالْقِيَاسِ إِلَى أَرْضِ كِسْرَى، وَإِنْ كَانَتْ بِالْأُرْدُنِّ، فَهِيَ أَدْنَى إِلَى أَرْضِ الرُّومِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ أَيْ: وَالرُّومُ مِنْ بَعْدِ غَلَبِ فَارِسَ إِيَّاهُمْ سَيَغْلِبُونَ أَهْلَ فَارِسَ، والتغلب وَالْغَلَبَةُ لُغَتَانِ، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَإِلَى الْفَاعِلِ عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «سَيَغْلِبُونَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وأهل الشام على البناء للمفعول، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قراءة الجمهور في الموضعين. وقرأ أبو حيوة الشامي وابن السميقع «مِنْ بَعْدِ غَلْبِهِمْ» بِسُكُونِ اللَّامِ فِي بِضْعِ سِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْبِضْعِ وَاشْتِقَاقِهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أَيْ: هُوَ المنفرد بالقدرة، وإنفاذ الْأَحْكَامِ وَقْتَ مَغْلُوبِيَّتِهِمْ، وَوَقْتَ غَالِبِيَّتِهِمْ، فَكُلُّ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَقَضَائِهِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» بِضَمِّهِمَا لِكَوْنِهِمَا مَقْطُوعَيْنِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ قَبْلِ الْغَلَبِ وَمِنْ بَعْدِهِ، أَوْ مِنْ قَبْلِ كُلِّ أَمْرٍ، وَمِنْ بَعْدِهِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ مِنْ قَبْلٍ وَمِنْ بَعْدُ بِكَسْرِ الْأَوَّلِ مُنَوَّنًا وَضَمِّ الثَّانِي بِلَا تَنْوِينٍ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ مِنْ قَبْلِ وَمِنْ بَعْدِ بِكَسْرِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَغَلَّطَهُ النَّحَّاسُ. قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: قَدْ قُرِئَ بِكَسْرِهِمَا مُنَوَّنَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: مِنْ مُتَقَدَّمٍ وَمِنْ مُتَأَخَّرٍ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أَيْ: يَوْمَ أَنْ تَغْلِبَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ لِلرُّومِ لِكَوْنِهِمْ: أَهْلَ كِتَابٍ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ كِتَابٍ، بِخِلَافِ فَارِسَ فَإِنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَلِهَذَا سُرَّ الْمُشْرِكُونَ بِنَصْرِهِمْ عَلَى الرُّومِ، وَقِيلَ: نَصْرُ اللَّهِ هُوَ إِظْهَارُ صِدْقِ الْمُؤْمِنِينَ، فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَلَبَةِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ إِنْبَاءٌ بِمَا سَيَكُونُ، وَهَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ أَنْ يَنْصُرَهُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الْقَاهِرُ الرَّحِيمُ الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا: الدُّنْيَوِيَّةُ، وَهِيَ شَامِلَةٌ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ أَيْ: وَعَدَ اللَّهُ وَعْدًا لَا يُخْلِفُهُ، وَهُوَ ظُهُورُ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَهُمُ الْكُفَّارُ، وَقِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: يَعْلَمُونَ ظَاهِرَ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمَلَاذِّهَا، وَأَمْرِ مَعَاشِهِمْ، وَأَسْبَابِ تَحْصِيلِ فَوَائِدِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا تُلْقِيهِ الشَّيَاطِينُ إِلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا عِنْدَ اسْتِرَاقِهُمُ السَّمْعَ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ الْبَاطِلُ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ النِّعْمَةُ الدَّائِمَةُ، وَاللَّذَّةُ الْخَالِصَةُ هُمْ غافِلُونَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهَا، وَلَا يُعِدُّونَ لَهَا مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، أَوْ غَافِلُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، وَالتَّصْدِيقِ بِمَجِيئِهَا أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما

الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ ظَرْفٌ لِلتَّفَكُّرِ، وَلَيْسَ مَفْعُولًا لِلتَّفَكُّرِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَسْبَابَ التَّفَكُّرِ حَاصِلَةٌ لَهُمْ، وَهِيَ أَنْفُسُهُمْ لَوْ تَفَكَّرُوا فِيهَا كَمَا يَنْبَغِي، لَعَلِمُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ، وَصِدْقَ أَنْبِيَائِهِ، وقيل: إنها مفعول للتفكر. والمعنى: أو لم يَتَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شيئا، و «ما» فِي «مَا خَلَقَ اللَّهُ» نَافِيَةٌ، أَيْ: لَمْ يَخْلُقْهَا إِلَّا بِالْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي يَحِقُّ ثُبُوتُهُ أَوْ هِيَ اسْمٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، أَيْ: بِمَا خَلَقَ اللَّهُ، وَالْعَامِلُ: إِمَّا الْعِلْمُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَيْهِ التَّفَكُّرُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ: أَيْ فَيَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مَا مَعْمُولَةً لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ لَا لِلْعِلْمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَالْبَاءُ فِي إِلَّا بِالْحَقِّ إِمَّا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَوْ هِيَ وَمَجْرُورُهَا: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُلْتَبِسَةٌ بِالْحَقِّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ إِلَّا لِلْحَقِّ، أَيْ: لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقِيلَ: بِالْحَقِّ بِالْعَدْلِ، وَقِيلَ: بِالْحِكْمَةِ، وَقِيلَ: بِالْحَقِّ، أَيْ: أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَلِلْحَقِّ خَلَقَهَا وَأَجَلٍ مُسَمًّى مَعْطُوفٌ على الحق، أي: وبأجل مسمى للسموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْفَنَاءِ، وَأَنَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ أَجَلًا لَا يُجَاوِزُهُ. وَقِيلَ مَعْنَى: وَأَجَلٍ مُسَمًّى أَنَّهُ خَلَقَ مَا خَلَقَ فِي وَقْتٍ سَمَّاهُ لِخَلْقِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ أَيْ: لَكَافِرُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَاللَّامُ هِيَ الْمُؤَكِّدَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ كُفَّارُ مَكَّةَ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، لِعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ فِي الْآثَارِ، وَتَأَمُّلِهِمْ لِمَوَاقِعِ الِاعْتِبَارِ، وَالْفَاءُ فِي فَيَنْظُرُوا لِلْعَطْفِ عَلَى يَسِيرُوا دَاخِلٌ تَحْتَ مَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَدْ سَارُوا وَشَاهَدُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَجُحُودِهِمْ لِلْحَقِّ، وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ، وَجُمْلَةُ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً مُبَيِّنَةٌ لِلْكَيْفِيَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، وَأَنَّهُمْ أَقْدَرُ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ عَلَى الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَمَعْنَى وَأَثارُوا الْأَرْضَ حَرَثُوهَا وَقَلَّبُوهَا لِلزِّرَاعَةِ، وَزَاوَلُوا أَسْبَابَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ مَكَّةَ أَهْلَ حَرْثٍ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أَيْ: عَمَرُوهَا عِمَارَةً أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَهَا هَؤُلَاءِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا أَطْوَلَ مِنْهُمْ أَعْمَارًا، وَأَقْوَى أَجْسَامًا، وَأَكْثَرَ تَحْصِيلًا لِأَسْبَابِ الْمَعَاشِ. فَعَمَرُوا الْأَرْضَ بِالْأَبْنِيَةِ، وَالزِّرَاعَةِ، وَالْغَرْسِ وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيِ: الْمُعْجِزَاتِ، وَقِيلَ: بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بِتَعْذِيبِهِمْ عَلَى غَيْرِ ذَنْبٍ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بِالْكُفْرِ، وَالتَّكْذِيبِ ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا أي: عملوا السيئات من الشرك والمعاصي السُّواى هِيَ فُعْلَى مِنَ السُّوءِ تَأْنِيثُ الْأَسْوَأِ، وَهُوَ: الْأَقْبَحُ، أَيْ: كَانَ عَاقِبَتَهُمُ الْعُقُوبَةُ الَّتِي هِيَ أَسْوَأُ الْعُقُوبَاتِ، وَقِيلَ: هِيَ اسْمٌ لِجَهَنَّمَ كَمَا أَنَّ الْحُسْنَى اسْمٌ لِلْجَنَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا كَالْبُشْرَى، وَالذِّكْرَى. وُصِفَتْ بِهِ الْعُقُوبَةُ مُبَالَغَةً. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو «عَاقِبَةُ» بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ، وَتَذْكِيرُ الْفِعْلِ لكون تأنيثها مجازيا، والخبر: السوأى، أي: الفعلة أو الخصلة أو العقوبة السّوأى، أَوِ الْخَبَرُ أَنْ كَذَّبُوا أَيْ: كَانَ آخِرَ أمرهم التكذيب، وقرأ الباقون: «عاقبة» بالنصب على خبر كان، والاسم السّوأى، أو أن كذبوا، ويكون التقدير: ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساؤوا، والسوأى مصدر أساؤوا، أَوْ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَنْ كَذَّبُوا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْعِلَّةِ، أي: لأن

كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، أو بأن كذبوا، ومن القائلين بأن السوأى جَهَنَّمُ: الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وسميت سوأى: لِكَوْنِهَا تَسُوءُ صَاحِبَهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا النَّارُ بِتَكْذِيبِهِمْ آيَاتِ الله واستهزائهم، وجملة وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ عَطْفٌ عَلَى كَذَّبُوا دَاخِلَةٌ مَعَهُ فِي حُكْمِ الْعِلِيَّةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ فِي حُكْمِ الِاسْمِيَّةِ لِكَانَ، أَوِ الْخَبَرِيَّةِ لَهَا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ كِتَابٍ، فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ» فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ، فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا فَإِنْ ظَهْرَنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا، فَجَعَلَ بَيْنَهُمْ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ فَلَمْ يَظْهَرُوا، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بكر لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَلَا جَعَلْتَهُ- أُرَاهُ قَالَ- دُونَ الْعَشْرِ، فَظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فَغُلِبَتْ، ثُمَّ غُلِبَتْ بَعْدُ بِقَوْلِ اللَّهِ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ أَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ نَحْوَهُ. وَزَادَ أَنَّهُ لَمَّا مَضَى الْأَجَلُ، وَلَمْ تَغْلِبِ الرُّومُ فَارِسًا، سَاءَ النَّبِيُّ مَا جَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْمُدَّةِ، وَكَرِهَهُ وَقَالَ: «مَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا؟» قَالَ: تَصْدِيقًا لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ فَقَالَ: «تَعَرَّضْ لَهُمْ وَأَعْظِمِ الْخُطَّةَ وَاجْعَلْهُ إِلَى بِضْعِ سِنِينَ» ، فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: هَلْ لَكَمَ فِي الْعَوْدِ فَإِنَّ الْعَوْدَ أَحْمَدُ؟ قَالُوا نَعَمْ، فَلَمْ تَمْضِ تِلْكَ السُّنُونَ حَتَّى غَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا، وَرَبَطُوا خُيُولَهُمْ بِالْمَدَائِنِ، وَبَنَوْا رُومِيَّةَ، فَقَمَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ يَحْمِلُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» ، فَقَالَ: «هَذَا السُّحْتُ، تَصَدَّقْ بِهِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ نِيَارِ بْنِ مُكْرَمٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ الْآيَةَ كَانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَاهِرِينَ الرُّومَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُحِبُّ ظُهُورَ فَارِسَ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَلَا إِيمَانٍ بِبَعْثٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ فَقَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ: ذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ يَزْعُمُ صَاحِبُكَ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، أَفَلَا نُرَاهِنُكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ، فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ، وَالْمُشْرِكُونَ، وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ، وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: لَمْ تَجْعَلِ الْبِضْعَ ثَلَاثَ سِنِينَ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ؟ فَسَمِّ بَيْنَنَا وبينك وسطا ننتهي إِلَيْهِ، قَالَ: فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ، فَمَضَتِ

_ (1) . أي: ربح أبو بكر الرهان وأخذ ما راهن عليه، وجاء به إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة الروم (30) : الآيات 11 إلى 27]

السِّتُّ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا، فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَتِ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتِ الرُّومُ، فَعَابَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَتَهُ سِتَّ سِنِينَ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: فِي بِضْعِ سِنِينَ فَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِأَبِي بَكْرٍ: «أَلَا احْتَطَّتَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ الْبِضْعَ مَا بَيْنَ ثَلَاثٍ إِلَى تِسْعٍ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي تَارِيخِهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ قَرَأَهَا بِالنَّصْبِ: يَعْنِي لِلْغَيْنِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ إِلَى قَوْلِهِ: يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ. قَالَ: فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورٍ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُفَسِّرَةٌ لِقِرَاءَةِ أَبِي سَعِيدٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الم غُلِبَتِ الرُّومُ يَعْنِي بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَإِنَّمَا هِيَ غُلِبَتْ: يَعْنِي بِضَمِّهَا، وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ وَمَا ذَكَرْنَاهُ يُغْنِي عَمَّا سِوَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يَعْنِي: مَعَايِشَهُمْ مَتَى يَغْرِسُونَ، وَمَتَى يَزْرَعُونَ، وَمَتَى يَحْصُدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ مَيْلٌ. [سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 27] اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

قوله اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أَيْ: يَخْلُقُهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ يُعِيدُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَحْيَاءً، كَمَا كَانُوا ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي يُعِيدُهُ: بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْخَلْقِ، وَجَمَعَهُ فِي تُرْجَعُونَ: بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ. قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو «يُرْجَعُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالِالْتِفَاتِ الْمُؤْذِنِ بِالْمُبَالَغَةِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُبْلِسُ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، يُقَالُ أَبْلَسَ الرَّجُلُ: إِذَا سَكَتَ، وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْمُبْلِسُ: السَّاكِتُ الْمُنْقَطِعُ فِي حُجَّتِهِ الَّذِي أَيِسَ أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَيْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَاجِ: يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفْ رَسْمًا مِكْرَسَا ... قَالَ نَعَمْ أَعْرِفْهُ وَأَبْلَسَا «1» وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ يَئِسَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ حِينَ عَايَنُوا الْعَذَابَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَ الْإِبْلَاسِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ «2» وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ مِنْ شُرَكَائِهِمُ الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءُ يُجِيرُونَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَكانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِشُرَكائِهِمْ أَيْ: بِآلِهَتِهِمُ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ الله كافِرِينَ أَيْ: جَاحِدِينَ لِكَوْنِهِمْ آلِهَةً لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا إِذْ ذَاكَ أَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ، وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: كَانُوا فِي الدُّنْيَا كَافِرِينَ بِسَبَبِ عِبَادَتِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أَيْ: يَتَفَرَّقُ جَمِيعُ الْخَلْقِ المدلول عليهم بقوله: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ المراد بِالتَّفَرُّقِ: أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَنْفَرِدُ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَصِيرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْكَافِرُونَ إِلَى النَّارِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ: تَفَرُّقَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ عَنِ الْآخَرِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ «3» وَذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الْحِسَابِ، فَلَا يَجْتَمِعُونَ أَبَدًا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ تَفَرُّقِهِمْ فَقَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ قَالَ النَّحَّاسُ: سَمِعْتُ الزَّجَّاجَ يَقُولُ مَعْنَى «أَمَّا» دَعْ مَا كُنَّا فِيهِ وَخُذْ فِي غيره، وكذا قال سيبويه: إن معناها مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَخُذْ فِي غَيْرِ مَا كُنَّا فِيهِ، وَالرَّوْضَةُ: كُلُّ أَرْضٍ ذَاتِ نبات، قال المفسرون: والمراد بها هاهنا: الْجَنَّةُ، وَمَعْنَى يُحْبَرُونَ: يُسَرُّونَ، وَالْحُبُورُ وَالْحَبْرَةُ: السُّرُورُ، أَيْ: فَهُمْ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ يَنْعَمُونَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الرَّوْضَةُ: مَا كَانَ فِي سُفْلٍ، فإذا كان مرتفعا: فهو ترعة. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَحْسَنُ مَا تَكُونُ الرَّوْضَةُ إِذَا كَانَتْ فِي مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ وَقِيلَ: مَعْنَى «يُحْبَرُونَ» يُكْرَمُونَ. قَالَ النَّحَّاسُ: حَكَى الْكِسَائِيُّ حَبَرْتُهُ: أَيْ أَكْرَمْتُهُ وَنَعَّمْتُهُ، وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ يُحْبَرُونَ: بِالسُّرُورِ كَمَا هُوَ الْمَعْنَى الْعَرَبِيُّ، وَنَفْسُ دُخُولِ الْجَنَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْإِكْرَامَ وَالنَّعِيمَ، وَفِي السُّرُورِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: التَّحْبِيرُ التَّحْسِينُ فَمَعْنَى يُحْبَرُونَ: يُحْسَنُ إِلَيْهِمْ، وقيل: هو السماع الذي يسمعونه

_ (1) . المكرس: الذي قد بعّرت فيه الإبل وبوّلت، فركب بعضه بعضا. (2) . الأنعام: 44. (3) . الشورى: 7.

فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كذّبوا ب لِقاءِ الْآخِرَةِ أَيِ: الْبَعْثِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أَيْ: مُقِيمُونَ فِيهِ، وَقِيلَ: مَجْمُوعُونَ، وَقِيلَ: نَازِلُونَ، وَقِيلَ: مُعَذَّبُونَ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمُرَادُ: دَوَامُ عَذَابِهِمْ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ عَاقِبَةَ طَائِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَطَائِفَةِ الْكَافِرِينَ، أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا فِيهِ الْأَجْرُ الْوَافِرُ، وَالْخَيْرُ الْعَامُّ فَقَالَ: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ: فَإِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ فَسَبِّحُوا اللَّهَ، أَيْ: نَزِّهُوهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ، وَالْمَسَاءِ، وَفِي الْعَشِيِّ، وَفِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ هُنَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، فَقَوْلُهُ «حِينَ تُمْسُونَ» صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَوْلُهُ: «وَحِينَ تُصْبِحُونَ» صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَقَوْلُهُ: «وَعَشِيًّا» صَلَاةُ الْعَصْرِ، وقوله: «وحين تُظْهِرُونَ» صَلَاةُ الظُّهْرِ، كَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُهُمَا، قَالَ الْوَاحِدِيُّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنْ مَعْنَى «فَسُبْحَانَ اللَّهِ» فَصَلُّوا لِلَّهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ في الصلوات قال: وسمعت محمّد بن يزيد يقول: حقيقته عندي: فسبحوا الله فِي الصَّلَوَاتِ، لِأَنَّ التَّسْبِيحَ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ، وَجُمْلَةُ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُعْتَرِضَةٌ مَسُوقَةٌ لِلْإِرْشَادِ إِلَى الْحَمْدِ، وَالْإِيذَانِ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسْبِيحِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ «1» وقوله: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ «2» وَقِيلَ: مَعْنَى وَلَهُ الْحَمْدُ: أَيِ الِاخْتِصَاصُ لَهُ بالصلاة التي يقرأ فيها الحمد، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ «حِينًا تُمْسُونَ وَحِينًا تُصْبِحُونَ» وَالْمَعْنَى: حِينًا تُمْسُونَ فِيهِ، وَحِينًا تُصْبِحُونَ فِيهِ، وَالْعَشِيُّ: من صلاة المغرب إلى العتمة. قال الْجَوْهَرِيُّ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: غَدَوْنَا غَدْوَةً سَحَرًا بِلَيْلٍ ... عَشِيًّا بَعْدَ مَا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَقَوْلُهُ: عَشِيًّا مَعْطُوفٌ عَلَى حِينَ، وَفِي السماوات متعلق بنفس الحمد أي: الحمد به يَكُونُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كَالْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالطَّيْرِ مِنَ الْبَيْضَةِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كَالنُّطْفَةِ، وَالْبَيْضَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. قِيلَ: وَوَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الصَّبَاحِ يَخْرُجُ مِنْ شِبْهِ الْمَوْتِ، وَهُوَ النَّوْمُ إِلَى شِبْهِ الْوُجُودِ، وَهُوَ الْيَقَظَةُ، وَعِنْدَ الْعِشَاءِ يَخْرُجُ مِنَ اليقظة إلى النوم وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أَيْ يُحْيِيهَا بِالنَّبَاتِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْيَبَاسِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ تُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُخْرَجُونَ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، فَأَسْنَدَ الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ «3» وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أَيْ: مِنْ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْبَعْثِ أَنْ خَلَقَكُمْ، أَيْ: خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِنْ تُرَابِ، وَخَلَقَكُمْ فِي ضِمْنِ خَلْقِهِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ مُسْتَمَدٌّ من

_ (1) . الحجر: 98. (2) . البقرة: 30. (3) . المعارج: 43.

الْأَصْلِ وَمَأْخُوذٌ مِنْهُ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ، وَأَنْ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَمِنْ آيَاتِهِ: خَبَرُهُ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ إِذَا: هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، أَيْ: ثُمَّ فَاجَأْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتُ كَوْنِكُمْ بَشَرًا تَنْتَشِرُونَ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا الْفُجَائِيَّةُ: وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مَا تَقَعُ بَعْدَ الْفَاءِ، لَكِنَّهَا وَقَعَتْ هُنَا بَعْدَ ثُمَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَلِيقُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ أَطْوَارُ الْإِنْسَانِ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ، مِنْ كَوْنِهِ نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ عَظْمًا مَكْسُوًّا لَحْمًا، فَاجَأَ بالبشرية وَالِانْتِشَارُ، وَمَعْنَى تَنْتَشِرُونَ: تَنْصَرِفُونَ فِيمَا هُوَ قِوَامُ مَعَايِشِكُمْ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أَيْ: وَمِنْ عَلَامَاتِهِ وَدَلَالَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى الْبَعْثِ: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا، أَيْ: مِنْ جِنْسِكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَالْإِنْسَانِيَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَوَّاءُ، فَإِنَّهُ خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعِ آدَمَ لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أَيْ: تَأْلَفُوهَا، وَتَمِيلُوا إِلَيْهَا، فَإِنَّ الْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ لَا يَسْكُنُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، وَلَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَيْهِ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أَيْ: وِدَادًا وَتَرَاحُمًا بِسَبَبِ عِصْمَةِ النِّكَاحِ يَعْطِفُ بِهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَكُمْ قَبْلَ ذَلِكَ مَعْرِفَةٌ فَضْلًا عَنْ مَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَوَدَّةُ: الْجِمَاعُ، وَالرَّحْمَةُ: الْوَلَدُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَوَدَّةُ: الْمَحَبَّةُ، وَالرَّحْمَةُ: الشَّفَقَةُ. وَقِيلَ: الْمَوَدَّةُ حُبِّ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَالرَّحْمَةُ: رَحْمَتُهُ إِيَّاهَا مِنْ أَنْ يُصِيبَهَا بِسُوءٍ. وَقَوْلُهُ «أَنْ خَلَقَ لَكُمْ» : فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمِنْ آيَاتِهِ: خَبَرُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ الْمَذْكُورِ سَابِقًا. لَآياتٍ عَظِيمَةَ الشَّأْنِ بَدِيعَةَ الْبَيَانِ وَاضِحَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الْبَعْثِ، وَالنُّشُورِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَقْتَدِرُونَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ لِكَوْنِ التَّفَكُّرِ مَادَّةً لَهُ يَتَحَصَّلُ عَنْهُ، وَأَمَّا الْغَافِلُونَ عَنِ التَّفَكُّرِ فَمَا هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّ مَنْ خَلَقَ هَذِهِ الأجرام العظيمة التي هي أجرام السموات وَالْأَرْضِ، وَجَعَلَهَا بَاقِيَةً مَا دَامَتْ هَذِهِ الدَّارُ، وَخَلَقَ فِيهَا مِنْ عَجَائِبِ الصُّنْعِ، وَغَرَائِبِ التَّكْوِينِ مَا هُوَ عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِينَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَيَنْشُرَكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أَيْ: لُغَاتِكُمْ: مِنْ عَرَبٍ، وَعَجَمٍ، وَتُرْكٍ، وَرُومٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اللُّغَاتِ وَأَلْوانِكُمْ مِنَ الْبَيَاضِ، وَالسَّوَادِ، وَالْحُمْرَةِ، وَالصُّفْرَةِ، وَالزُّرْقَةِ، وَالْخُضْرَةِ، مَعَ كَوْنِكُمْ أَوْلَادَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَيَجْمَعُكُمْ نَوْعٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ: الْإِنْسَانِيَّةُ، وَفَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ: النَّاطِقِيَّةُ، حَتَّى صِرْتُمْ مُتَمَيِّزِينَ فِي ذَاتِ بَيْنِكُمْ، لَا يَلْتَبِسُ هَذَا بِهَذَا، بَلْ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِكُمْ مَا يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَفِي هَذَا مِنْ بَدِيعِ الْقُدْرَةِ مَا لَا يَعْقِلُهُ إِلَّا الْعَالَمُونَ، وَلَا يَفْهَمُهُ إِلَّا الْمُتَفَكِّرُونَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْعَالَمِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ لَامِ الْعَالَمِينَ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَحْدَهُ بِكَسْرِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَهُ وَجْهٌ جَيِّدٌ لِأَنَّهُ قَدْ قال: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ «1» وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «2» . وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ قِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ، وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ بِالنَّهَارِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى صَحِيحٌ مِنْ دُونِ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، أَيْ: وَمِنْ آيَاتِهِ الْعَظِيمَةِ أَنَّكُمْ تَنَامُونَ بالليل، وتنامون فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِلِاسْتِرَاحَةِ كَوَقْتِ الْقَيْلُولَةِ، وَابْتِغَاؤُكُمْ من فضله فيهما، فإن

_ (1) . آل عمران: 190. (2) . العنكبوت: 43.

كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقَعُ فِيهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ابْتِغَاءُ الْفَضْلِ فِي النَّهَارِ: أَكْثَرَ. وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْمُنَاسِبُ لِسَائِرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَالْآخَرُ: هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلنَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ هَاهُنَا. وَوَجْهُ ذِكْرِ النَّوْمِ، وَالِابْتِغَاءِ هَاهُنَا، وَجَعْلِهِمَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْبَعْثِ أَنَّ النَّوْمَ شَبِيهٌ بِالْمَوْتِ، وَالتَّصَرُّفَ فِي الْحَاجَاتِ، وَالسَّعْيِ فِي الْمَكَاسِبِ شَبِيهٌ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أَيْ: يَسْمَعُونَ الْآيَاتِ وَالْمَوَاعِظَ، سَمَاعَ مُتَفَكِّرٍ مُتَدَبِّرٍ، فَيَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى الْبَعْثِ وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً الْمَعْنَى: أَنْ يُرِيَكُمْ، فَحَذْفُ أَنْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ: أَلَا أَيُّهَذَا اللَّائِمِي أَحْضُرَ الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ أَحْضُرَ، فَلَمَّا حُذِفَ الْحَرْفُ فِي الْآيَةِ، وَالْبَيْتِ بَطُلَ عَمَلُهُ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ الْمَشْهُورُ «تَسْمَعَ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» وَقِيلَ هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ: وَيُرِيكُمُ الْبَرْقَ مِنْ آيَاتِهِ، فَيَكُونُ: مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: «يُرِيكُمْ» صفة لموصوف محذوف، أي: من آيَاتِهِ آيَةٌ يُرِيكُمْ بِهَا وَفِيهَا الْبَرْقَ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا مِنْ آيَاتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ. قَالَ قَتَادَةُ: خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَوْفًا مِنَ الصَّوَاعِقِ، وَطَمَعًا فِي الْغَيْثِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: خَوْفًا مِنَ الْبَرْدِ أَنْ يُهْلِكَ الزَّرْعَ، وَطَمَعًا فِي الْمَطَرِ أَنْ يُحْيِيَ الزَّرْعَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: خَوْفًا أَنْ يَكُونَ الْبَرْقُ بَرْقًا خُلَّبًا لَا يُمْطِرُ، وَطَمَعًا أَنْ يَكُونَ مُمْطِرًا، وَأَنْشَدَ: لَا يَكُنْ بَرْقُكَ بَرْقًا خُلَّبًا ... إِنَّ خَيْرَ الْبَرْقِ مَا الْغَيْثُ مَعَهُ وَانْتِصَابُ خَوْفًا وَطَمَعًا عَلَى الْعِلَّةِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أَيْ: يُحْيِيهَا بِالنَّبَاتِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْيَبَاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فَإِنَّ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْعَقْلِ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ آيَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أَيْ: قِيَامُهُمَا وَاسْتِمْسَاكُهُمَا بِإِرَادَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَقُدْرَتِهِ بِلَا عَمَدٍ يَعْمِدُهُمَا، وَلَا مُسْتَقَرٍّ يَسْتَقِرَّانِ عَلَيْهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ أَنْ تَدُومَا قَائِمَتَيْنِ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَمَصِيرِكُمْ فِي الْقُبُورِ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً وَاحِدَةً فَاجَأْتُمُ الْخُرُوجَ مِنْهَا بِسُرْعَةٍ مِنْ غَيْرِ تَلَبُّثٍ، وَلَا تَوَقُّفٍ، كَمَا يُجِيبُ الْمَدْعُوُّ الْمُطِيعُ دعوة الداعي المطاع. ومن الأرض: متعلق بدعاء، أَيْ: دَعَاكُمْ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ دَعَوْتُهُ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي فَطَلَعَ إِلَيَّ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِدَعْوَةٍ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَخْرُجُونَ، أَيْ: خَرَجْتُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بتخرجون، لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِذَا لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ هِيَ: نَفْخَةُ إِسْرَافِيلَ الْآخِرَةُ فِي الصُّورِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ التَّاءِ فِي «تَخْرُجُونَ» هُنَا، وَغَلَطَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ قُرِئَ هُنَا بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا قُرِئَ بِضَمِّهَا فِي الْأَعْرَافِ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ مِلْكًا وَتَصَرُّفًا وَخَلْقًا، لَيْسَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أَيْ: مُطِيعُونَ طَاعَةَ انْقِيَادٍ، وَقِيلَ: مُقِرُّونَ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَقِيلَ: مُصَلُّونَ، وَقِيلَ: قَائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ:

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» : أَيْ لِلْحِسَابِ، وَقِيلَ: بِالشَّهَادَةِ أَنَّهُمْ عِبَادُهُ، وَقِيلَ: مخلصون وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُحْيِيهِ الْحَيَاةَ الدَّائِمَةَ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَيْ: هَيِّنٌ عَلَيْهِ لَا يَسْتَصْعِبُهُ، أَوْ أَهْوَنُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِكُمْ، وَعَلَى مَا يَقُولُهُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ فِي قُدْرَتِهِ بَعْضُهُ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ كُلُّ الْأَشْيَاءِ مُسْتَوِيَةٌ يُوجِدُهَا بِقَوْلِهِ: كُنْ فَتَكُونُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَنْ جَعَلَ أَهْوَنُ عِبَارَةً عَنْ تَفْضِيلِ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ فَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً «2» وبقوله: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما «3» وَالْعَرَبُ تَحْمِلُ أَفْعَلَ عَلَى فَاعِلٍ كَثِيرًا كَمَا فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ أَيْ: عَزِيزَةٌ طَوِيلَةٌ وَأَنْشَدَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ عَلَى ذَلِكَ: تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ أَيْ: لَسْتُ بِوَاحِدٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: لَعَمْرُكَ إِنَّ الزِّبْرِقَانَ لَبَاذِلٌ ... لِمَعْرُوفِهِ عِنْدَ السِّنِينَ وَأَفْضَلُ أَيْ: وَفَاضِلٌ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «وَهُوَ عَلَيْهِ هَيِّنٌ» وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّ الْإِعَادَةَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، أَيْ: عَلَى اللَّهِ مِنَ الْبِدَايَةِ، أَيْ: أَيْسَرُ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ هَيِّنًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ الْإِعَادَةَ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ أَهْوَنُ مِنَ الْبِدَايَةِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ لِلْخَلْقِ، أَيْ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَى الْخَلْقِ لِأَنَّهُ يُصَاحُ بِهِمْ صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَقُومُونَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: كُونُوا فَيَكُونُونَ، فَذَلِكَ أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً إِلَى آخِرِ النَّشْأَةِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى قَالَ الْخَلِيلُ: الْمَثَلُ: الصِّفَةُ، أَيْ: وَلَهُ الْوَصْفُ الْأَعْلَى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كَمَا قَالَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ «4» أَيْ: صِفَتُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَثَلُ الْأَعْلَى: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: قَوْلُهُ «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» قَدْ ضَرَبَهُ لَكُمْ مَثَلًا فِيمَا يَصْعُبُ وَيَسْهُلُ. وَقِيلَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى: هُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَقِيلَ: هُوَ أَنَّ مَا أَرَادَهُ كَانَ بِقَوْلِ كن، وفي السموات وَالْأَرْضِ: مُتَعَلِّقٌ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عُرِفَ بِالْمَثَلِ الْأَعْلَى، وَوُصِفَ بِهِ فِي السموات وَالْأَرْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْأَعْلَى، أَوْ مِنَ الْمَثَلِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ فِي مُلْكِهِ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ الْحَكِيمُ فِي أَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُبْلِسُ قَالَ: يَبْتَئِسُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ يُبْلِسُ قَالَ: يَكْتَئِبُ، وَعَنْهُ الْإِبْلَاسُ: الْفَضِيحَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُحْبَرُونَ قَالَ: يُكْرَمُونَ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَسْمَاعَهُمْ، وَأَبْصَارَهُمْ عَنْ مزامير الشيطان

_ (1) . المطففين: 6. (2) . النساء: 169. [.....] (3) . البقرة: 255. (4) . الرعد: 35.

مَيِّزُوهُمْ، فَيُمَيَّزُونَ فِي كَثَبِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: أَسْمِعُوهُمْ مِنْ تَسْبِيحِي وَتَحْمِيدِي وَتَهْلِيلِي، قَالَ: فَيُسَبِّحُونَ بِأَصْوَاتٍ لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ بِمِثْلِهَا قَطُّ» . وَأَخْرَجَ الدِّينَوَرِيُّ فِي الْمُجَالَسَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ رَوَاهُ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي، وَالْأَصْبِهَانِيُّ فِي التَّرْغِيبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ، كِلَاهُمَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ عَلَى سَاقٍ قَدْرَ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْمُجِدُّ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، فَيُخْرِجُ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ الْغُرَفِ وَغَيْرِهِمْ، فَيَتَحَدَّثُونَ فِي ظِلِّهَا، فَيَشْتَهِي بَعْضُهُمْ، وَيَذْكُرُ لَهْوَ الدُّنْيَا، فَيُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا مِنَ الْجَنَّةِ فَتُحَرِّكُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ بِكُلِّ لَهْوٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كُلُّ تَسْبِيحٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ صَلَاةٌ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: جَاءَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَرَأَ فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَحِينَ تُصْبِحُونَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَعَشِيًّا صَلَاةُ الْعَصْرِ وَحِينَ تُظْهِرُونَ صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَقَرَأَ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ، فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ قَالَ: الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الْفَجْرُ وَعَشِيًّا الْعَصْرُ وَحِينَ تُظْهِرُونَ الظُّهْرُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ يَوْمِ وَلَيْلَةٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وَفَّى؟ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي يَوْمِهِ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي: أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ» وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ يَقُولُ مُطِيعُونَ: يَعْنِي الْحَيَاةَ وَالنُّشُورَ وَالْمَوْتَ وَهُمْ لَهُ عَاصُونَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ قَالَ: أَيْسَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ قَالَ: الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ عَلَى الْمَخْلُوقِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُنْ فَيَكُونُ، وَابْتَدَأَ الْخِلْقَةَ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أيضا في قوله: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى ليس كمثله شيء.

_ (1) . النور: 58.

[سورة الروم (30) : الآيات 28 إلى 37]

[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 37] ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) قَوْلُهُ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمَثَلِ، وَمِنْ فِي مِنْ أَنْفُسِكُمْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَهِيَ وَمَجْرُورُهَا: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةً لِمَثَلًا، أَيْ: مَثَلًا مُنْتَزَعًا وَمَأْخُوذًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهَا أَقْرَبُ شَيْءٍ مِنْكُمْ، وَأَبْيَنُ مِنْ غَيْرِهَا عِنْدَكُمْ، فَإِذَا ضَرَبَ لَكُمُ الْمَثَلَ بِهَا فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ كَانَ أَظْهَرَ دَلَالَةً، وَأَعْظَمَ وُضُوحًا. ثُمَّ بَيَّنَ الْمَثَلَ الْمَذْكُورَ فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ «مِنْ» فِي «مِمَّا مَلَكَتْ» : لِلتَّبْعِيضِ، وَفِي «مِنْ شُرَكَاءَ» : زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى هَلْ لَكُمْ شُرَكَاءُ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ كَائِنُونَ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَهُمُ: الْعَبِيدُ، وَالْإِمَاءُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَجُمْلَةُ: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَمُحَقِّقَةٌ لِمَعْنَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْعَبِيدِ، وَالْإِمَاءِ الْمَمْلُوكِينَ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، أَيْ: هَلْ تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ، والحال أن عبيدكم وإماءكم، وأمثالكم فِي الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يُسَاوُوكُمْ فِي التَّصَرُّفِ بِمَا رَزَقْنَاكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَيُشَارِكُوكُمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ الْكَافُ نعت مصدر محذوف، أي: تخافونهم خيفة كخيفتكم أنفسكم، أي: كما تَخَافُونَ الْأَحْرَارَ الْمُشَابِهِينَ لَكُمْ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَمِلْكِ الْأَمْوَالِ، وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَمْلُوكِينَ، وَالِاسْتِوَاءِ مَعَهُمْ، وَخَوْفِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ: ثُبُوتَ الشَّرِكَةِ، وَنَفْيَ الِاسْتِوَاءِ، وَالْخَوْفَ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِمْ: مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا. وَالْمُرَادُ: إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا لَا نَرْضَى بِذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَكَيْفَ تُنَزِّهُونَ أَنْفُسَكُمْ عَنْ مُشَارَكَةِ الْمَمْلُوكِينَ لَكُمْ وَهُمْ أَمْثَالُكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَتَجْعَلُونَ عَبِيدَ اللَّهِ شُرَكَاءَ لَهُ؟ فَإِذَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَسَادَاتِهِمْ، فِيمَا يَمْلِكُهُ السَّادَةُ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ الرَّبُّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وقرأ الْجُمْهُورُ «أَنْفُسَكُمْ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولُ الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ إِلَى فَاعِلِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ عَلَى إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ

كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ تَفْصِيلًا وَاضِحًا، وَبَيَانًا جَلِيًّا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْآيَاتِ التَّنْزِيلِيَّةِ، وَالتَّكْوِينِيَّةِ بِاسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ، فِي تَدَبُّرِهَا وَالتَّفَكُّرِ فِيهَا. ثم أضرب سبحانه على مُخَاطَبَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْحَقِّ بِمَا ضَرَبَهُ لَهُمْ مِنَ الْمَثَلِ فَقَالَ: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَيْ: لَمْ يَعْقِلُوا الْآيَاتِ بَلِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمُ الزَّائِغَةَ، وَآرَاءَهُمُ الْفَاسِدَةَ الزَّائِفَةَ، وَمَحَلُّ «بِغَيْرِ عِلْمٍ» : النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: جَاهِلِينَ بِأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أَيْ: لَا أَحَدَ يَقْدِرُ عَلَى هِدَايَتِهِ، لِأَنَّ الرَّشَادَ وَالْهِدَايَةَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَإِرَادَتِهِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أَيْ: مَا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ مِنْ نَاصِرِينَ يَنْصُرُونَهُمْ، وَيَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَذَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. ثُمَّ أمر رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ كَمَا أَمَرَهُ فَقَالَ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً شَبَّهَ الْإِقْبَالَ عَلَى الدِّينِ بِتَقْوِيمِ وَجْهِهِ إِلَيْهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ، وَانْتِصَابُ حَنِيفًا: عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ أَقِمْ أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ: أَيْ: مَائِلًا إِلَيْهِ مُسْتَقِيمًا عَلَيْهِ، غَيْرَ ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها الْفِطْرَةُ فِي الْأَصْلِ: الْخِلْقَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الْمِلَّةُ، وَهِيَ: الْإِسْلَامُ وَالتَّوْحِيدُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي فِطْرَةِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا: الَّذِينَ فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكَ لَمْ يُفْطَرْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِرَسُولِ اللَّهِ، فَأُمَّتُهُ دَاخِلَةٌ مَعَهُ فِيهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: وَالْأَوْلَى: حمل أناس عَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا مَفْطُورُونَ عَلَى ذَلِكَ لَوْلَا عَوَارِضُ تَعْرِضُ لَهُمْ، فَيَبْقَوْنَ بِسَبَبِهَا عَلَى الْكُفْرِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَلَكِنْ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا» . وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا وَرَدَ مُعَاضِدًا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا، فَكُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ مَفْطُورٌ: أَيْ مَخْلُوقٌ عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ لَا اعْتِبَارَ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الْفِطْرِيَّيْنِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ الشَّرْعِيَّانِ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ الْحَقُّ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ هُنَا: الْإِسْلَامُ هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ الْبَدَاءَةُ الَّتِي ابْتَدَأَهُمُ الله عليها، فإن ابْتَدَأَهُمْ لِلْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَالْفَاطِرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْمُبْتَدِئُ، وَهَذَا مَصِيرٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الْفِطْرَةِ لُغَةً، وَإِهْمَالُ مَعْنَاهَا شَرْعًا. وَالْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وُرُودُ الْفِطْرَةِ فِي الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مُرَادًا بِهَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ كَقَوْلِهِ تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» أَيْ: خَالِقُهُمَا وَمُبْتَدِيهِمَا، وَكَقَوْلِهِ: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي «2» إِذْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ هُوَ هَذَا، وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لِلْفِطْرَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُونَ كَمَا بَيَّنَاهُ، وَانْتِصَابُ فِطْرَةَ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِطْرَةَ مَنْصُوبٌ بِمَعْنَى: اتَّبِعْ فِطْرَةَ اللَّهِ، قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ: اتبع

_ (1) . فاطر: 1. (2) . يس: 22.

الدِّينَ، وَاتَّبِعْ فِطْرَةَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هِيَ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى «فَأَقِمْ وَجْهَكَ» لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: فِطْرَةُ اللَّهِ النَّاسَ عَلَى الدِّينِ، وَقِيلَ: هِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: الْزَمُوا فِطْرَةَ اللَّهِ، أَوْ عَلَيْكُمْ فِطْرَةَ اللَّهِ، وَرَدَّ هَذَا الْوَجْهَ أَبُو حَيَّانَ وَقَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ الْإِغْرَاءِ لَا تُضْمَرُ إِذْ هِيَ عِوَضٌ عَنِ الْفِعْلِ، فَلَوْ حَذَفَهَا لَزِمَ حَذْفُ الْعِوَضِ، وَالْمُعَوَّضُ عَنْهُ، وَهُوَ إِجْحَافٌ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا رَأْيُ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا الْكِسَائِيُّ وَأَتْبَاعُهُ، فَيُجِيزُونَ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِلُزُومِ الْفِطْرَةِ، أَيْ: هَذِهِ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ: هُوَ نَفْيٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ، أَيْ: لَا تُبَدِّلُوا خَلْقَ اللَّهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَبْدِيلَ لِدِينِ اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: هَذَا فِي الْمُعْتَقَدَاتِ. وَقَالَ عكرمة: إن المعنى لا تغيير لخلق الله فِي الْبَهَائِمِ بِأَنْ تُخْصَى فَحُولُهَا ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أَيْ: ذَلِكَ الدِّينُ الْمَأْمُورُ بِإِقَامَةِ الْوَجْهِ لَهُ هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، أَوْ لُزُومُ الْفِطْرَةِ: هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَفْعَلُوهُ وَيَعْمَلُوا بِهِ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أَيْ: رَاجِعِينَ إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَمُطِيعِينَ لَهُ فِي أَوَامِرِهِ، وَنَوَاهِيهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ: فَإِنْ تَابُوا فَإِنَّ بَنِي سُلَيْمٍ ... وَقَوْمَهُمْ هَوَازِنَ قَدْ أَنَابُوا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَنَابَ إِلَى اللَّهِ: أَقْبَلَ وَتَابَ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ أَقِمْ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: لِأَنَّ مَعْنَى أَقِمْ وَجْهَكَ: أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى فَأَقِمْ وَجْهَكَ، وَمَنْ مَعَكَ مُنِيبِينَ، وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَقَالَ تَقْدِيرُهُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ، وَأُمَّتَكَ، فَالْحَالُ مِنَ الْجَمِيعِ. وَجَازَ حَذْفُ الْمَعْطُوفِ لِدَلَالَةِ مُنِيبِينَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ، وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لَكَانَ مَحْذُوفَةً، أَيْ: وَكُونُوا مُنِيبِينَ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالتَّقْوَى بَعْدَ أَمْرِهِمْ بِالْإِنَابَةِ، فَقَالَ: وَاتَّقُوهُ أَيْ: بِاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ نَاصِبًا لِمُنِيبِينَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ الَّتِي أُمِرْتُمْ بِهَا وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً هُوَ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ بِإِعَادَةِ الْجَارِ، وَالشِّيَعُ: الْفِرَقُ، أَيْ: لَا تَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا فِرَقًا فِي الدِّينِ، يُشَايِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ: وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ شِيَعًا: الْيَهُودُ والنصارى. وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا دَيْنَهُمْ» وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَيْ: فَارَقُوا دِينَهُمُ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أَيْ: كُلِّ فَرِيقٍ بِمَا لَدَيْهِمْ مِنَ الدِّينِ الْمَبْنِيِّ عَلَى غَيْرِ الصَّوَابِ، مَسْرُورُونَ مُبْتَهِجُونَ، يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا» مُسْتَأْنَفًا، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أَيْ: قَحْطٌ وَشِدَّةٌ دَعَوْا رَبَّهُمْ أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَاسْتَغَاثُوا بِهِ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أَيْ: رَاجِعِينَ إِلَيْهِ مُلْتَجِئِينَ بِهِ لَا يُعَوِّلُونَ عَلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ بِكُلِّ قُلُوبِهِمْ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً بِإِجَابَةِ دُعَائِهِمْ، وَرَفْعِ تِلْكَ الشَّدَائِدِ عَنْهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ إِذَا: هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، وَقَعَتْ جَوَابَ الشَّرْطِ لِأَنَّهَا كَالْفَاءِ فِي إِفَادَةِ التَّعْقِيبِ، أَيْ: فَاجَأَ فَرِيقٌ مِنْهُمُ الْإِشْرَاكَ، وَهُمُ الَّذِينَ

دَعَوْهُ فَخَلَّصَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ مَسُوقٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَمَا صَارُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ عِنْدَ رَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَاللَّامُ فِي لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ هِيَ لام كي، وقيل: لام لِقَصْدِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، وَقِيلَ: هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ. ثُمَّ خَاطَبَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا وَقَعَ فَقَالَ: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَا يَتَعَقَّبُ هَذَا التَّمَتُّعَ الزَّائِلَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «فَتَمَتَّعُوا» عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ «فَلْيَتَمَتَّعُوا» أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أَمْ: هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالِاسْتِفْهَامُ: لِلْإِنْكَارِ، وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ أَيْ: يَدُلُّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ «1» قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْعَرَبَ تُؤَنِّثُ السُّلْطَانَ، يَقُولُونَ: قَضَتْ بِهِ عَلَيْكَ السُّلْطَانُ. فَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ: فَالتَّذْكِيرُ عِنْدَهُمْ أَفْصَحُ، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ، وَالتَّأْنِيثُ عِنْدَهُمْ جَائِزٌ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْحُجَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ: الْمَلِكُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أَيْ: يَنْطِقُ بِإِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً، أَيْ: بِالْأَمْرِ الَّذِي بِسَبَبِهِ يُشْرِكُونَ وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أَيْ: خِصْبًا وَنِعْمَةً، وَسَعَةً وَعَافِيَةً فَرِحُوا بِها فَرَحَ بَطَرٍ، وَأَشَرٍ، لَا فَرَحَ شُكْرٍ بِهَا وَابْتِهَاجٍ بِوُصُولِهَا إِلَيْهِمْ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ثم قال سبحانه: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شِدَّةٌ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَيْ: بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ الْقُنُوطُ: الْإِيَاسُ مِنَ الرَّحْمَةِ، كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْقُنُوطُ: تَرْكُ فَرَائِضِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَقْنُطُونَ» بِضَمِّ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِهَا أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَيُوَسِّعُ لَهُ وَيَقْدِرُ أَيْ: يُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ لِمَصْلَحَةٍ فِي التَّوْسِيعِ لِمَنْ وُسِّعَ لَهُ، وَفِي التَّضْيِيقِ عَلَى مَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى الْحَقِّ لِدَلَالَتِهَا عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَبَدِيعِ الصُّنْعِ وَغَرِيبِ الْخَلْقِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي أَهْلُ الشِّرْكِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكَ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ هِيَ فِي الْآلِهَةِ، وَفِيهِ يَقُولُ تَخَافُونَهُمْ أَنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ قَالَ: دِينُ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ قَالَ: الْقَضَاءُ الْقَيِّمُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن الأسود ابن سَرِيعٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى خَيْبَرَ فَقَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ، فَانْتَهَى الْقَتْلُ إِلَى الذُّرِّيَّةِ، فَلَمَّا جَاءُوا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى قَتْلِ الذُّرِّيَّةِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّمَا كَانُوا أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: وَهَلْ خِيَارُكُمْ إِلَّا أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ نَسَمَةٍ تُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهَا لِسَانُهَا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِذَا عَبَّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ الربيع بن أنس

_ (1) . الجاثية: 29.

[سورة الروم (30) : الآيات 38 إلى 46]

عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ حَاكِيًا عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» الحديث. [سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 46] فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ أَشَارَ إِلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ مُوَاسَاةِ الْقَرَابَةِ، وَأَهْلِ الْحَاجَاتِ مِمَّنْ بَسَطَ اللَّهُ لَهُ فِي رِزْقِهِ فَقَالَ: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَأُمَّتِهِ أُسْوَتِهِ، أَوْ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ لَهُ مَالٌ وَسَّعَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَقَدَّمَ الْإِحْسَانَ إِلَى الْقَرَابَةِ لِأَنَّ خَيْرَ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَلَى قَرِيبٍ، فَهُوَ صَدَقَةٌ مُضَاعَفَةٌ، وَصِلَةُ رَحِمٍ مرغب فِيهَا، وَالْمُرَادُ: الْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ بِالصَّدَقَةِ، وَالصِّلَةِ، وَالْبِرِّ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ أَيْ: وَآتِ الْمِسْكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ حَقَّهُمَا الَّذِي يَسْتَحِقَّانِهِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ أَنَّهُمْ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ بالإحسان، ولكون ذلك واجبا عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ مَالٌ فَاضِلٌ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ مَنْ يَعُولُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ. وَقِيلَ: مُحَكَمَةٌ وَلِلْقَرِيبِ فِي مَالِ قَرِيبِهِ الْغَنِيِّ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُقْبَلُ صَدَقَةٌ مِنْ أَحَدٍ وَرَحِمُهُ مُحْتَاجٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: حَقُّ الْمِسْكِينِ: أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَحَقُّ ابن السبيل: الضيافة. وقيل: المراد بالقربى: قرابة النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّ حَقَّهُمْ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى «1» وقال الحسن: إن الأمر في إيتاء ذي الْقُرْبَى لِلنَّدْبِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أَيْ: ذَلِكَ الْإِيتَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِمْسَاكِ لِمَنْ يُرِيدُ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْفَائِزُونَ بِمَطْلُوبِهِمْ حَيْثُ أَنْفَقُوا لِوَجْهِ اللَّهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً قرأ

_ (1) . الأنفال: 41.

الجمهور «آتيتم» بِمَعْنَى أَعْطَيْتُمْ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحُمَيْدٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْقَصْرِ بِمَعْنَى مَا فَعَلْتُمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْمَدِّ فِي قَوْلِهِ: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ وأصل الربا: الزيادة، وقراءة القصر تؤول إِلَى قِرَاءَةِ الْمَدِّ، لِأَنَّ مَعْنَاهَا مَا فَعَلْتُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِعْطَاءِ، كَمَا تَقُولُ: أَتَيْتُ خَطَأً وَأَتَيْتُ صَوَابًا وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: مَا أَعْطَيْتُمْ من زيادة خالية عن العوض لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي: ليزيد، ويزكو في أموالهم فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: لَا يُبَارِكُ اللَّهُ فِيهِ. قَالَ السُّدِّيُّ: الرِّبَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْهَدِيَّةُ يُهْدِيهَا الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَطْلُبُ الْمُكَافَأَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ، لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي دَفْعُ الْإِنْسَانِ الشَّيْءَ لِيُعَوَّضَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ، لِأَنَّ الَّذِي يَهَبُهُ يَسْتَدْعِي بِهِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَا خَدَمَ بِهِ الْإِنْسَانُ أَحَدًا لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي دُنْيَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ النَّفْعَ الَّذِي يَجْزِي بِهِ الْخِدْمَةَ لَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: هَذَا كَانَ حَرَامًا عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى الْخُصُوصِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَمَعْنَاهَا: أَنْ تُعْطِيَ فَتَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهُ عِوَضًا عَنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِمَّا يَصْنَعُهُ الْإِنْسَانُ لِيُجَازَى عَلَيْهِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: الرِّبَا رِبَوَانِ: فَرِبًا حَلَالٌ، وَرِبًا حَرَامٌ، فَأَمَّا الرِّبَا الْحَلَالُ: فَهُوَ الَّذِي يَهْدِي يَلْتَمِسُ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، يَعْنِي: كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ، فَمَعْنَى لَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: لَا يَحْكُمُ بِهِ، بَلْ هُوَ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَطْلُبُ بِهَا الثَّوَابَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ مِمَّنْ يَطْلُبُ الثَّوَابَ مِنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، مِثْلُ هِبَةِ الْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ، وَهِبَةِ الْخَادِمِ لِلْمَخْدُومِ، وَهِبَةِ الرَّجُلِ لِأَمِيرِهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ لَهُ ثَوَابٌ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْآخَرُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لِيَرْبُوَ» بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى ضَمِيرِ الرِّبَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ بِالْفَوْقِيَّةِ مَضْمُومَةٌ خِطَابًا لِلْجَمَاعَةِ بِمَعْنَى: لِتَكُونُوا ذَوِي زِيَادَاتٍ. وَقَرَأَ أَبُو مَالِكٍ «لِتُرْبُوهَا» وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَزْكُو عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يُثِيبُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، خَالِصًا لَهُ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أَيْ: وَمَا أَعْطَيْتُمْ مِنْ صَدَقَةٍ لَا تَطْلُبُونَ بِهَا الْمُكَافَأَةَ، وَإِنَّمَا تَقْصِدُونَ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ الْمُضْعِفُ دُونَ الْأَضْعَافِ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ بِالْحَسَنَةِ عَشَرَةَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: مُسْمِنٌ وَمُعْطِشٌ وَمُضْعِفٌ إِذَا كَانَتْ لَهُ إِبِلٌ سِمَانٌ، أَوْ عِطَاشٌ، أَوْ ضَعِيفَةٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ «الْمُضْعَفُونَ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ اسْمَ مَفْعُولٍ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ عَادَ سُبْحَانَهُ إِلَى الِاحْتِجَاجِ على المشركين، وأنه الخالق الرازق الْمُمِيتُ الْمُحْيِي، ثُمَّ قَالَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِفْهَامِ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ فَقَالَ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: نَزَّهُوهُ تَنْزِيهًا، وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ شُرَكائِكُمْ: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُبْتَدَأُ: هُوَ الْمَوْصُولُ، أَعْنِي: مَنْ يَفْعَلُ، وَمِنْ ذَلِكُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ

لِأَنَّهُ حَالٌ مِنْ شَيْءٍ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ، وَمِنْ فِي «مِنْ شَيْءٍ» مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَأَضَافَ الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُمْ آلِهَةً، وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْفَسَادِ فِي الْعَالَمِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ظُهُورِ الْفَسَادِ الْمَذْكُورِ، فَقِيلَ: هُوَ الْقَحْطُ، وَعَدَمُ النَّبَاتِ، وَنُقْصَانُ الرِّزْقِ، وَكَثْرَةُ الْخَوْفِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: فَسَادُ الْبَرِّ: قَتْلُ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ، يَعْنِي: قَتْلَ قَابِيلَ لِهَابِيلَ، وَفِي الْبَحْرِ: الْمَلِكُ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا. وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ دَلِيلٍ دَلَّهُمَا عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ الْبَعِيدِ وَالتَّعْيِينِ الْغَرِيبِ؟ فَإِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْفَسَادِ: يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ، فَيَعُمُّ كُلَّ فَسَادٍ وَاقِعٍ فِي حَيِّزَيِ الْبَرِّ، وَالْبَحْرِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْفَسَادُ: الشِّرْكُ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ وَإِنْ كَانَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ فِي أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ بِخُصُوصِهِ. وَقِيلَ: الْفَسَادُ كَسَادُ الْأَسْعَارِ، وَقِلَّةُ الْمَعَاشِ، وَقِيلَ: الْفَسَادُ قَطْعُ السُّبُلِ، وَالظُّلْمُ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ تَخْصِيصٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ ظُهُورُ مَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ رَاجِعًا إِلَى أَفْعَالِ بَنِي آدَمَ مِنْ مَعَاصِيهِمْ، وَاقْتِرَافِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَتَقَاطُعِهِمْ، وَتَظَالُمِهِمْ، وَتَقَاتُلِهِمْ، أَوْ رَاجِعًا إِلَى مَا هُوَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، كَالْقَحْطِ، وَكَثْرَةِ الْخَوْفِ، وَالْمَوْتَانِ، وَنُقْصَانِ الزَّرَائِعِ، وَنُقْصَانِ الثِّمَارِ. وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ: هُمَا الْمَعْرُوفَانِ الْمَشْهُورَانِ، وَقِيلَ الْبَرُّ: الْفَيَافِي، وَالْبَحْرُ: الْقُرَى الَّتِي عَلَى مَاءٍ قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَمْصَارَ: الْبِحَارَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْبَرُّ: مَا كَانَ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى عَلَى غَيْرِ نَهْرٍ، وَالْبَحْرُ: مَا كَانَ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى. وَيَكُونُ مَعْنَى الْبَرِّ: مُدُنُ الْبَرِّ، وَمَعْنَى الْبَحْرِ: مُدُنُ الْبَحْرِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِالْمُدُنِ مِنْ مَزَارِعِهَا وَمَرَاعِيهَا، وَالْبَاءُ فِي بِمَا كَسَبَتْ: لِلسَّبَبِيَّةِ، وَمَا: إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِظَهَرَ، وَهِيَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ: لِيُذِيقَهُمْ عِقَابَ بَعْضِ عَمَلِهِمْ، أو جزاء بعض عَمَلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَيَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ ظُهُورَ الْفَسَادِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، وَالْعُصَاةِ بَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالَ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَسِيرُوا لِيَنْظُرُوا آثَارَهُمْ، وَيُشَاهِدُوا كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ، فَإِنَّ مَنَازِلَهُمْ خَاوِيَةٌ، وَأَرَاضِيَهُمْ مُقْفِرَةٌ مُوحِشَةٌ، كَعَادٍ وَثَمُودَ، وَنَحْوِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ، وَجُمْلَةُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، وَإِيضَاحِ السَّبَبِ الَّذِي صَارَتْ عَاقِبَتُهُمْ بِهِ إِلَى مَا صَارَتْ إِلَيْهِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ هَذَا خِطَابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأمته وأسوته فِيهِ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: إِذًا قَدْ ظَهَرَ الْفَسَادُ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَخْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اجْعَلْ جِهَتَكَ اتِّبَاعَ الدِّينِ الْقَيِّمِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْمُسْتَقِيمُ «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ» يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ «لَا مَرَدَّ لَهُ» لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ، وَالْمَرَدُّ: مَصْدَرُ رَدَّ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَوْضِحِ الْحَقَّ، وَبَالِغْ فِي الأعذار، و «من الله» يتعلق بيأتي، أَوْ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ، أَيْ: لَا يَرُدُّهُ مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يَرُدُّهُ اللَّهُ لِتَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ الْقَدِيمَةِ بِمَجِيئِهِ، وَفِيهِ مِنَ الضَّعْفِ وَسُوءِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ مَا لَا يَخْفَى يَوْمَئِذٍ

يَصَّدَّعُونَ أَصْلُهُ: يَتَصَدَّعُونَ، وَالتَّصَدُّعُ: التَّفَرُّقُ، يُقَالُ: تَصَدَّعَ الْقَوْمُ: إِذَا تَفَرَّقُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَكُنَّا كندماني جذيمة حقبة ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا وَالْمُرَادُ بِتَفَرُّقِهِمْ هَاهُنَا: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَصِيرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلَ النَّارِ يَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أَيْ: جَزَاءُ كُفْرِهِ، وَهُوَ النَّارُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أَيْ: يُوَطِّئُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَنَازِلَ فِي الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ، وَقَدْ مَهَّدْتُ الْفِرَاشَ مَهْدًا: إِذَا بَسَطْتَهُ وَوَطَّأْتَهُ، فَجَعَلَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، كَبِنَاءِ الْمَنَازِلِ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرْشِهَا. وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَعَلَى أَنْفُسِهِمْ يُشْفِقُونَ، مِنْ قَوْلِهِمْ فِي الْمُشْفِقِ: أُمٌّ فَرَشَتْ فَأَنَامَتْ، وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ «فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» فِي الْقَبْرِ، وَاللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا مُتَعَلِّقَةٌ بِيَصَّدَّعُونَ، أَوْ يُمَهِّدُونَ: أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ فَضْلِهِ أَوْ يُمَهِّدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَجْزِيَهُمْ، وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ لِيَجْزِيَ، وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ وَمَنْ كَفَرَ. وَجَعَلَ أَبُو حَيَّانَ قَسِيمَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ بُغْضِهِ لَهُمُ الْمُوجِبُ لِغَضَبِهِ سُبْحَانَهُ، وَغَضَبُهُ يَسْتَتْبِعُ عُقُوبَتَهُ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ أَيْ: وَمِنْ دَلَالَاتِ بَدِيعِ قَدْرَتِهِ إِرْسَالُ الرِّيَاحِ مُبَشِّرَاتٍ بِالْمَطَرِ لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ «1» قَرَأَ الْجُمْهُورُ «الرِّيَاحَ» وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «الرِّيحَ» بِالْإِفْرَادِ عَلَى قَصْدِ الْجِنْسِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ «مُبَشِّرَاتٍ» وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُرْسِلُ، أَيْ: يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ، وَيُرْسِلُهَا لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، يَعْنِي: الْغَيْثَ وَالْخِصْبَ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَلِيُذِيقَكُمْ أَرْسَلَهَا، وَقِيلَ: الْوَاوُ مَزِيدَةٌ عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، فَتَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِيُرْسِلُ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، أَيْ: يُرْسِلَ الرِّيَاحَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِي الْبَحْرِ عِنْدَ هُبُوبِهَا، وَلَمَّا أَسْنَدَ الْجَرْيَ إِلَى الْفُلْكِ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أَيْ: تَبْتَغُوا الرِّزْقَ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي تَحْمِلُهَا السُّفُنُ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ، فَتُفْرِدُونَ اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ، وَتَسْتَكْثِرُونَ مِنَ الطَّاعَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً الْآيَةَ قَالَ: الرِّبَا رِبَوَانِ: رِبًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَرِبًا لَا يَصْلُحُ. فَأَمَّا الرِّبَا الَّذِي لَا بَأْسَ بِهِ، فَهَدِيَّةُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ يُرِيدُ فَضْلَهَا وَأَضْعَافَهَا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: هَذَا هُوَ الرِّبَا الْحَلَالُ أَنْ يُهْدِيَ يُرِيدُ أَكْثَرَ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ أَجْرٌ وَلَا وِزْرٌ، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم خاصة فقال: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «2» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ قَالَ: هِيَ الصَّدَقَةُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَ: الْبَرُّ الْبَرِّيَّةُ الَّتِي لَيْسَ عِنْدَهَا نَهْرٌ، وَالْبَحْرُ: مَا كَانَ مِنَ الْمَدَائِنِ، وَالْقُرَى عَلَى شَطِّ نَهْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: نُقْصَانُ الْبَرَكَةِ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ كَيْ يَتُوبُوا. وأخرج

_ (1) . الأعراف: 57. (2) . المدثر: 6.

[سورة الروم (30) : الآيات 47 إلى 60]

ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَالَ: مِنَ الذُّنُوبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا يَصَّدَّعُونَ قَالَ: يتفرقون. [سورة الروم (30) : الآيات 47 الى 60] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) قوله: لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ كَمَا أرسلناك إلى قومك جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي: المعجزات، والحجج النيرات، فانتقمنا منهم، أي: فكفرواانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أَيْ: فَعَلُوا الْإِجْرَامَ، وَهِيَ الآثام كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ نَصْرَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَادِقُ الْوَعْدِ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَفِيهِ تَشْرِيفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَزِيدُ تَكْرِمَةٍ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَوَقَفَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ عَلَى حَقًّا، وَجَعَلَ اسْمَ كَانَ ضَمِيرًا فِيهَا وَخَبَرَهَا: حَقًّا، أَيْ: وَكَانَ الِانْتِقَامُ حَقًّا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ: اسْمُهَا، وَحَقًّا: خَبَرُهَا، وَعَلَيْنَا: مُتَعَلِّقٌ بِحَقًّا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لَهُ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ يُرْسِلُ «الرِّيحَ» بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «الرِّيَاحَ» قَالَ أَبُو عَمْرٍو: كُلُّ مَا كَانَ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ: فَهُوَ جَمْعٌ، وَمَا كَانَ بِمَعْنَى الْعَذَابِ: فَهُوَ مُوَحَّدٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَا سَبَقَ مِنْ أَحْوَالِ الرِّيَاحِ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا جُمْلَةُ «وَلَقَدْ أرسلنا» إلى قوله: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ معترضة فَتُثِيرُ سَحاباً أَيْ: تُزْعِجُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ تَارَةً سَائِرًا، وَتَارَةً وَاقِفًا، وَتَارَةً مُطْبِقًا، وَتَارَةً غَيْرُ مُطْبِقٍ، وَتَارَةً إِلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، وَتَارَةً إِلَى مَسَافَةِ قَرِيبَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي سُورَةِ النُّورِ

وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً تَارَةً أُخْرَى، أَوْ يَجْعَلُهُ بَعْدَ بَسْطِهِ قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً، وَالْكِسَفُ: جَمْعُ كِسْفَةٍ، وَالْكِسْفَةُ: القطعة من السحاب. وقد تقدم تفسيره وَاخْتِلَافُ الْقِرَاءَةِ فِيهِ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ الْوَدْقُ: الْمَطَرُ، وَمِنْ خِلَالِهِ: مِنْ وَسَطِهِ. وقرأ أبو العالية، والضحاك «يخرج من خلل» فَإِذا أَصابَ بِهِ أَيْ: بِالْمَطَرِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَيْ: بِلَادَهُمْ، وَأَرْضَهُمْ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ إذا: هي الفجائية، أي: فاجؤوا الِاسْتِبْشَارَ بِمَجِيءِ الْمَطَرِ، وَالِاسْتِبْشَارُ: الْفَرَحُ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ، وَإِنْ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ، وَفِيهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مُقَدَّرٍ هُوَ اسْمُهَا، أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِهِ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَبْلِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَطَرِ، أَيْ: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ التَّنْزِيلِ مِنْ قَبْلِ الْمَطَرِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مِنْ قَبْلِ تَنْزِيلِ الْغَيْثِ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِ الزَّرْعِ، وَالْمَطَرِ، وَقِيلَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِ السَّحَابِ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ رُؤْيَتِهِ، وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَّاسُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكِسَفِ، وَقِيلَ: إِلَى الْإِرْسَالِ، وَقِيلَ: إِلَى الِاسْتِبْشَارِ. وَالرَّاجِحُ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَفِي غَايَةِ التَّكَلُّفِ، وَالتَّعَسُّفِ، وَخَبَرُ كَانَ: لَمُبْلِسِينَ أَيْ: آيِسِينَ أَوْ بَائِسِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ النَّاشِئَةِ عَنِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ مِنَ النَّبَاتِ، وَالثِّمَارِ، وَالزَّرَائِعِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْخِصْبُ، وَرَخَاءُ الْعَيْشِ، أَيِ: انْظُرْ نَظَرَ اعْتِبَارٍ، وَاسْتِبْصَارٍ لِتَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِهَذَا الصُّنْعِ الْعَجِيبِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَثَرِ» بِالتَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ آثَارِ بِالْجَمْعِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فَاعِلُ الْإِحْيَاءِ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الْأَثَرِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِانْظُرْ، أَيِ: انْظُرْ إِلَى كَيْفِيَّةِ هَذَا الْإِحْيَاءِ الْبَدِيعِ لِلْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ «تُحْيِي» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الرَّحْمَةِ أَوْ إِلَى الْآثَارِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْجَمْعِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ الْعَظِيمَ الشَّأْنِ الْمُخْتَرِعَ لهذه الأشياء المذكورة لَمُحْيِ الْمَوْتى أَيْ: لَقَادِرٌ عَلَى إِحْيَائِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَبَعْثِهِمْ، وَمُجَازَاتِهِمْ كَمَا أَحْيَا الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ بِالْمَطَرِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ: عَظِيمُ الْقُدْرَةِ كَثِيرُهَا وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا الضَّمِيرُ فِي: فَرَأَوْهُ يَرْجِعُ إِلَى الزَّرْعِ، وَالنَّبَاتِ الَّذِي كَانَ مِنْ أَثَرِ رَحْمَةِ اللَّهِ، أَيْ: فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا مِنَ الْبَرْدِ النَّاشِئِ عَنِ الرِّيحِ الَّتِي أَرْسَلَهَا اللَّهُ بَعْدَ اخْضِرَارِهِ. وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى الرِّيحِ، وَهُوَ يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ، وَتَأْنِيثُهُ. وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى الْأَثَرِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْآثَارِ. وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى السَّحَابِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُصْفَرًّا لَمْ يُمْطِرْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَاللَّامُ هِيَ: الْمُوطِّئَةُ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ: لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ وَهُوَ يَسُدُّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا حَارَّةً، أَوْ بَارِدَةً، فَضَرَبَتْ زَرْعَهُمْ بِالصُّفَارِ لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَيَجْحَدُونَ نِعَمَهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى سُرْعَةِ تَقَلُّبِهِمْ، وَعَدَمِ صَبْرِهِمْ، وَضَعْفِ قُلُوبِهِمْ، وَلَيْسَ كَذَا حَالُ أَهْلِ الْإِيمَانِ. ثُمَّ شَبَّهَهُمْ بِالْمَوْتَى وَبِالصُّمِّ فَقَالَ: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى إِذَا دَعَوْتَهُمْ، فَكَذَا هَؤُلَاءِ لِعَدَمِ فَهْمِهِمْ لِلْحَقَائِقِ، وَمَعْرِفَتِهِمْ لِلصَّوَابِ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذَا دَعَوْتَهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَوَعَظْتَهُمْ بِمَوَاعِظِ اللَّهِ، وَذَكَّرْتَهُمُ الْآخِرَةَ وَمَا فِيهَا، وَقَوْلُهُ: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ

بَيَانٌ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ بَيَانِ كَوْنِهِمْ كالأموات، وكونهم صمّ الآذان، وقد تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ. ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِالْعُمْيِ فَقَالَ: وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ لِفَقْدِهِمْ لِلِانْتِفَاعِ بِالْأَبْصَارِ كَمَا يَنْبَغِي، أَوْ لِفَقْدِهِمْ لِلْبَصَائِرِ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أَيْ: مَا تُسْمِعُ إِلَّا هَؤُلَاءِ لكونهم أهل التفكر، والتدبر، واستدلال بِالْآثَارِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ فَهُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ: مُنْقَادُونَ لِلْحَقِّ مُتَّبِعُونَ لَهُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ اسْتِدْلَالًا آخَرَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَهُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ عَلَى أَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَعْنَى مِنْ ضَعْفٍ: مِنْ نُطْفَةٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مِنْ نُطْفَةٍ، وَالْمَعْنَى: مِنْ ذِي ضَعْفٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَالُ الطُّفُولِيَّةِ وَالصِّغَرِ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً وَهِيَ: قُوَّةُ الشَّبَابِ، فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ تَسْتَحْكِمُ الْقُوَّةُ، وَتَشْتَدُّ الْخِلْقَةُ إِلَى بُلُوغِ النِّهَايَةِ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً أَيْ: عِنْدَ الْكِبَرِ وَالْهَرَمِ وَشَيْبَةً الشَّيْبَةُ: هِيَ تَمَامُ الضَّعْفِ، وَنِهَايَةُ الْكِبَرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «ضُعْفٍ» بِضَمِّ الضَّادِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ بِالْفَتْحِ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَالضَّمِّ فِي الثَّالِثِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمُّ: لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالْفَتْحُ: لُغَةُ تَمِيمٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الضَّعْفُ: وَالضُّعْفُ خِلَافُ الْقُوَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْفَتْحِ فِي الرَّأْيِ، وَبِالضَّمِّ: فِي الْجِسْمِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَعْنِي: مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَمَنْ جُمْلَتِهَا: الْقُوَّةُ وَالضَّعْفُ فِي بَنِي آدَمَ وَهُوَ الْعَلِيمُ بِتَدْبِيرِهِ الْقَدِيرُ عَلَى خَلْقِ مَا يُرِيدُهُ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ «مِنْ ضَعَفٍ» بِفَتْحِ الضَّادِ، وَالْعَيْنِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَيِ: الْقِيَامَةُ، وَسُمِّيَتْ سَاعَةً: لِأَنَّهَا تَقُومُ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الدُّنْيَا يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ أَيْ: يَحْلِفُونَ مَا لَبِثُوا فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي قُبُورِهِمْ غَيْرَ سَاعَةٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا اسْتَقَلُّوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ، وَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي أَذْهَانِهِمْ، فَحَلَفُوا عَلَيْهِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ حَلْفَهُمْ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّهُمْ كَذَّبُوا فِي هَذَا الْوَقْتِ كَمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ مِنْ قَبْلُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُمْ إِنْ أَرَادُوا لُبْثَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ عَلِمَ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِقْدَارَهُ، وَإِنْ أَرَادُوا لُبْثَهُمْ فِي الْقُبُورِ، فَقَدْ حَلَفُوا عَلَى جَهَالَةٍ إِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْأَوْقَاتَ فِي الْبَرْزَخِ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ يُقَالُ أَفِكَ الرَّجُلُ: إِذَا صَرَفَ عَنِ الصِّدْقِ، فَالْمَعْنَى: مِثْلُ ذَلِكَ الصَّرْفِ كَانُوا يُصْرَفُونَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: عَنِ الْخَيْرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَلْفَهُمْ كَذِبٌ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: عُلَمَاءُ الْأُمَمِ، وَقِيلَ: مُؤْمِنُو هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْجَمِيعِ. وَمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ، فِي عِلْمِهِ وَقَضَائِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فِي عِلْمِ اللَّهِ الْمُثَبَّتِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمُفَسِّرُونَ حَمَلُوا هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ عَلَى تَقْدِيرِ: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَكَانَ رَدُّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ عَلَيْهِمْ بِالْيَمِينِ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ لِلْمُقَابَلَةِ لِلْيَمِينِ بِالْيَمِينِ، ثم نبهوهم على طريقة التبكيت بأن فَهذا الْوَقْتَ الَّذِي صَارُوا فِيهِ هُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ، بَلْ كُنْتُمْ تَسْتَعْجِلُونَهُ تَكْذِيبًا وَاسْتِهْزَاءً فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ أَيْ: لَا يَنْفَعُهُمُ الِاعْتِذَارُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُفِيدُهُمْ عِلْمُهُمْ بِالْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: لَمَّا رَدَّ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ سَأَلُوا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَاعْتَذَرُوا فَلَمْ يُعْذَرُوا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَا تَنْفَعُ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ

وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يُقَالُ: اسْتَعْتَبْتُهُ فَأَعْتَبَنِي، أَيِ: اسْتَرْضَيْتُهُ فَأَرْضَانِي، وَذَلِكَ إِذَا كُنْتَ جَانِيًا عَلَيْهِ، وَحَقِيقَةُ أَعْتَبْتُهُ: أَزَلْتُ عَتْبَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ إِلَى إِزَالَةِ عَتْبِهِمْ مِنَ التَّوْبَةِ، وَالطَّاعَةِ كَمَا دَعَوْا إِلَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أَيْ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي تَدُلُّهُمْ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَاحْتَجَجْنَا عَلَيْهِمْ بِكُلِّ حُجَّةٍ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ النَّاطِقَةِ بِذَلِكَ، أَوْ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ كَالْعَصَا، وَالْيَدِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أَيْ: مَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَأَصْحَابُكَ إِلَّا مُبْطِلُونَ أَصْحَابُ أَبَاطِيلَ تَتَّبِعُونَ السِّحْرَ، وَمَا هُوَ مُشَاكِلٌ لَهُ فِي الْبُطْلَانِ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الطَّبْعِ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْفَاقِدِينَ لِلْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي يَهْتَدُونَ بِهِ إِلَى الْحَقِّ، وَيَنْجُونَ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ مُعَلِّلًا لِذَلِكَ بِحَقِّيَّةِ وَعْدِ اللَّهِ، وَعَدَمِ الْخُلْفِ فِيهِ، فَقَالَ: فَاصْبِرْ عَلَى مَا تسمعه منهم من الأذى، وتنظره مِنَ الْأَفْعَالِ الْكُفْرِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكَ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَإِعْلَاءِ حُجَّتِكَ، وَإِظْهَارِ دَعْوَتِكَ، وَوَعْدُهُ حَقٌّ لَا خُلْفَ فِيهِ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكَ عَلَى الْخِفَّةِ، وَيَسْتَفِزَّنَّكَ عَنْ دِينِكَ، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ بِاللَّهِ، وَلَا يُصَدِّقُونَ أَنْبِيَاءَهُ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِكُتُبِهِ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقَالُ اسْتَخَفَّ فُلَانٌ فَلَانًا: أَيِ: اسْتَجْهَلَهُ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ فِي الْغَيِّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَسْتَخِفَّنَّكَ» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَقَافٍ مِنَ استحقاق، وَالنَّهْيِ فِي الْآيَةِ مِنْ بَابِ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثم تلا كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً قَالَ: قِطَعًا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فَتَرَى الْوَدْقَ قَالَ: الْمَطَرُ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ قَالَ: مِنْ بَيْنِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ بَدْرٍ، وَالْإِسْنَادُ ضَعِيفٌ. وَالْمَشْهُورُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ عَائِشَةَ اسْتَدَلَّتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَدِّ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى مِنَ الصَّحَابَةِ أن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَادَى أَهْلَ قَلِيبِ بَدْرٍ، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَامِّ عَلَى رَدِّ الْخَاصِّ فَقَدْ قَالَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُنَادِي أَجْسَادًا بَالِيَةً «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ لَمَّا سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِيهِمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تُنَادِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَهَلْ يَسْمَعُونَ؟ يَقُولُ اللَّهُ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ أن يجيبوا» .

سورة لقمان

سورة لقمان وَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ إلى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّحَّاسُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْهُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَسْتَثْنِ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم الظهر نسمع منه الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ لُقْمَانَ وَالذَّارِيَاتِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) قَوْلُهُ: الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَمْثَالِ فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَحَلِّهَا مِنَ الْإِعْرَابِ مُسْتَوْفًى فَلَا نُعِيدُهُ، وَبَيَانُ مرجع الإشارة أيضا، والْحَكِيمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَوْ بِمَعْنَى ذِي الْحِكْمَةِ أَوِ الْحَكِيمِ قائله، وهُدىً وَرَحْمَةً مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ فِي حَالِ الْهِدَايَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ «وَرَحْمَةٌ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ هُدًى وَرَحْمَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا خَبَرَ تِلْكَ، وَالْمُحْسِنُ: الْعَامِلُ لِلْحَسَنَاتِ، أَوْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنِ الْإِحْسَانِ: فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» ثُمَّ بَيَّنَ عَمَلَ الْمُحْسِنِينَ فَقَالَ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وَالْمَوْصُولُ: فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى الْوَصْفِ لِلْمُحْسِنِينَ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، أَوْ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ، أَوِ الْقَطْعِ، وَخَصَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الثَّلَاثَ لِأَنَّهَا عُمْدَةُ الْعِبَادَاتِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قد تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَّصِفِينَ بِالْإِحْسَانِ، وَفِعْلِ تِلْكَ الطَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ أُمَّهَاتُ الْعِبَادَاتِ هُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْهُدَى، وَهُمُ الْفَائِزُونَ بِمَطَالِبِهِمُ الظَّافِرُونَ بخيري

الدَّارَيْنِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ وَمَنْ إِمَّا مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَلَهْوُ الْحَدِيثِ كُلُّ مَا يُلْهِي عَنِ الْخَيْرِ مِنَ الْغِنَاءِ، وَالْمَلَاهِي، وَالْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ، وَكُلُّ مَا هُوَ مُنْكَرٌ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ شِرَاءُ الْقَيْنَاتِ الْمُغَنِّيَاتِ، وَالْمُغَنِّينَ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَمَنْ يَشْتَرِي أَهْلَ لَهْوِ الْحَدِيثِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَهْوُ الْحَدِيثِ الْمَعَازِفُ وَالْغِنَاءُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ أَوْلَى مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ: هُوَ تَفْسِيرُ لَهْوِ الْحَدِيثِ بِالْغِنَاءِ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاللَّامُ فِي لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِلتَّعْلِيلِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ: «لِيُضِلَّ» أَيْ: لِيُضِلَّ غَيْرَهُ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَمَنْهَجِ الْحَقِّ، وَإِذَا أَضَلَّ غَيْرَهُ فَقَدْ ضَلَّ فِي نَفْسِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَحُمَيْدٌ، وَوَرْشٌ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ: لِيَضِلَّ هُوَ فِي نَفْسِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ قَرَأَ بِضَمِّ الْيَاءِ، فَمَعْنَاهُ لِيُضِلَّ غَيْرَهُ، فَإِذَا أَضَلَّ غَيْرَهُ فَقَدْ ضَلَّ هُوَ، وَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ فَمَعْنَاهُ لِيَصِيرَ أَمْرُهُ إِلَى الضَّلَالِ، وَهُوَ إن لم يكن يشتري الضلالة، فَإِنَّهُ يَصِيرُ أَمْرُهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَفَادَ هَذَا التَّعْلِيلُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ مَنِ اشْتَرَى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِهَذَا الْمَقْصِدِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا سَبَبُ نزول الآية وسيأتي. قال الطبري: قَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى كَرَاهَةِ الْغِنَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا فَارَقَ الْجَمَاعَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْمَعَ غِنَاءَ جَارِيَتِهِ إِذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ لَا مِنْ ظَاهِرِهَا، وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا، فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِصَوْتِهَا؟ قُلْتُ: قَدْ جَمَعْتُ رِسَالَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْغِنَاءِ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُحَلِّلُونَ لَهُ، وَالْمُحَرِّمُونَ لَهُ، وَحَقَّقْتُ هَذَا الْمَقَامَ بِمَا لَا يَحْتَاجُ مَنْ نَظَرَ فِيهَا، وَتَدَبَّرَ مَعَانِيَهَا إِلَى النَّظَرِ فِي غَيْرِهَا، وَسَمَّيْتُهَا «إِبْطَالُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ، عَلَى تَحْرِيمِ مُطْلَقِ السَّمَاعِ» فَمَنْ أَحَبَّ تَحْقِيقَ الْمَقَامِ كَمَا يَنْبَغِي فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهَا. وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِحَالِ مَا يَشْتَرِيهِ، أَوْ بِحَالِ مَا يَنْفَعُ مِنَ التِّجَارَةِ، وَمَا يَضُرُّ، فَلِهَذَا اسْتَبْدَلَ بِالْخَيْرِ مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ وَيَتَّخِذَها هُزُواً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ «يَتَّخِذُهَا» عَطْفًا عَلَى يَشْتَرِي فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الصِّلَةِ، وَقِيلَ: الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يَتَّخِذُهَا: يَعُودُ إِلَى الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْأَعْمَشُ «وَيَتَّخِذَهَا» بِالنَّصْبِ: عَطْفًا عَلَى يُضِلَّ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ رَاجِعٌ إِلَى السَّبِيلِ، فَتَكُونُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ جُمْلَةِ التَّعْلِيلِ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِلْإِضْلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَاتِّخَاذِ السَّبِيلِ هُزُوًا، أَيْ: مَهْزُوءًا بِهِ، وَالسَّبِيلُ: يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ إِلَى مَنْ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، كَمَا أَنَّ الْإِفْرَادَ فِي الْفِعْلَيْنِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا، وَالْعَذَابُ الْمُهِينُ: هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ مَهِينًا وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا أَيْ: وَإِذَا تُتْلَى آيَاتُ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْمُسْتَهْزِئِ وَلَّى مُسْتَكْبِراً أَيْ: أَعْرَضَ عَنْهَا حَالَ كَوْنِهِ مُبَالِغًا فِي التَّكَبُّرِ، وَجُمْلَةُ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَأَنَّ ذَلِكَ الْمُعْرِضَ الْمُسْتَكْبِرَ لَمْ يَسْمَعْهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَهَا، وَلَكِنْ أَشْبَهَتْ حَالُهُ حَالَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَجُمْلَةُ كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَسْمَعُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَالْوَقْرُ: الثقل،

وقد تقدم بيانه، وفيه مبالغة إِعْرَاضِ ذَلِكَ الْمَعْرَضِ فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أَيْ: أَخْبِرْهُ بِأَنَّ لَهُ الْعَذَابَ الْبَلِيغَ فِي الْأَلَمِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ مَنْ يُعْرِضُ عَنِ الْآيَاتِ بَيَّنَ حَالَ مَنْ يُقْبِلُ عَلَيْهَا فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ: آمَنُوا بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ، وَلَمْ يُعْرِضُوا عَنْهَا بَلْ قَبِلُوهَا، وَعَمِلُوا بِهَا لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أَيْ: نَعِيمُ الْجَنَّاتِ فَعَكَسَهُ لِلْمُبَالَغَةِ، جَعَلَ لَهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، كَمَا جَعَلَ لِلْفَرِيقِ الْأَوَّلِ: الْعَذَابَ الْمُهِينَ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «خَالِدُونَ فِيهَا» عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ لِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا هُمَا مُصْدَرَانِ الْأَوَّلُ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ، أَيْ: وَعَدَ اللَّهُ وَعْدًا، وَالثَّانِي: مُؤَكِّدٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَتَقْدِيرُهُ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. وَالْمَعْنَى أَنَّ وَعْدَهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا خُلْفَ فِيهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ الْحَكِيمُ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، وَأَقْوَالِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عِزَّتَهُ، وَحِكْمَتْهُ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها الْعَمَدُ: جَمْعُ عِمَادٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَتَرَوْنَهَا: فِي مَحَلِّ جَرِّ صِفَةٍ لِعَمَدٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ ثَمَّ عَمَدٌ، وَلَكِنْ لَا تُرَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَلَا عَمَدَ الْبَتَّةَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، أَيْ: وَلَا عَمَدَ ثَمَّ وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَيْ: جِبَالًا ثَوَابِتَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ تَمِيدَ بكم، والكوفيون يقدّرونه لئلا تميد، والمعنى: أنه خلقها وَجَعَلَهَا مُسْتَقِرَّةً ثَابِتَةً لَا تَتَحَرَّكُ بِجِبَالٍ جَعَلَهَا عَلَيْهَا وَأَرْسَاهَا عَلَى ظَهْرِهَا وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أَيْ: مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْبَثِّ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أَيْ: أَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا بِسَبَبِ إِنْزَالِهِ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ، أَيْ: مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ كَرِيمًا لِحُسْنِ لَوْنِهِ، وَكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ النَّاسُ، فَالْكَرِيمُ مِنْهُمْ: مَنْ يَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَاللَّئِيمُ: مَنْ يَصِيرُ إِلَى النَّارِ. قَالَهُ: الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هذا إلى ما ذكر في خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: خَلْقُ اللَّهِ أَيْ: مَخْلُوقُهُ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ: لِلتَّقْرِيعِ، وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمَعْنَى: فَأَرُونِي أَيَّ شَيْءٍ خَلَقُوا مِمَّا يُحَاكِي خَلْقَ اللَّهِ أَوْ يُقَارِبُهُ؟ وَهَذَا الْأَمْرُ لَهُمْ لِقَصْدِ التَّعْجِيزِ وَالتَّبْكِيتِ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ تَبْكِيتِهِمْ بِمَا ذَكَرَ إِلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ الظَّاهِرِ، فَقَالَ: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ فَقَرَّرَ ظُلْمَهُمْ أَوَّلًا، وَضَلَالَهُمْ ثَانِيًا، وَوَصَفَ ضَلَالَهُمْ بِالْوُضُوحِ وَالظُّهُورِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَلَا يَعْقِلُ الْحُجَّةَ، وَلَا يَهْتَدِي إِلَى الْحَقِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ يَعْنِي: بَاطِلَ الْحَدِيثِ. وَهُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ اشْتَرَى أَحَادِيثَ الْأَعَاجِمِ وَصَنِيعَهُمْ فِي دَهْرِهِمْ. وَكَانَ يَكْتُبُ الْكُتُبَ مِنَ الْحِيرَةِ إِلَى الشَّامِ، وَيُكَذِّبُ بِالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: بَاطِلُ الْحَدِيثِ. وَهُوَ الْغِنَاءُ وَنَحْوُهُ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَذِكْرُ اللَّهِ، نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مُغَنِّيَةً. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ الْغِنَاءُ، وَأَشْبَاهُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ

[سورة لقمان (31) : الآيات 12 إلى 19]

جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: الْجَوَارِي الضَّارِبَاتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ الْغِنَاءُ. وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ: هُوَ الْغِنَاءُ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ» فِي مِثْلِ هَذَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الْآيَةَ، وَفِي إسناده عبيد الله بْنُ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَفِيهِمْ ضَعْفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْقَيْنَةَ وَبَيْعَهَا وَثَمَنَهَا وَتَعْلِيمَهَا وَالِاسْتِمَاعَ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَرَأَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ» وَرَوَيَاهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا رَفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ بِغِنَاءٍ إِلَّا بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ شَيْطَانَيْنِ يَجْلِسَانِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ يَضْرِبَانِ بِأَعْقَابِهِمَا عَلَى صَدْرِهِ حَتَّى يُمْسِكَ» . وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنْهَا مَقَالٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: الرجل يشتري جارية تغنيه لَيْلًا وَنَهَارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ: إِنَّمَا ذَلِكَ شِرَاءُ الرَّجُلِ اللَّعِبَ وَالْبَاطِلَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كُنْتُ أسير مع عبد الله ابن عُمَرَ فِي طَرِيقٍ، فَسَمِعَ زَمَّارَةً فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، ثُمَّ عَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ؟ قُلْتُ: لَا. فَأَخْرَجَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «نُهِيتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ نَغَمَةِ لَهْوٍ، وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ، وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، خمش وجوه، وشقّ جيوب، ورنّة شيطان» . [سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

اخْتُلِفَ فِي لُقْمَانَ: هَلْ هُوَ عَجَمِيٌّ، أَمْ عَرَبِيٌّ؟ مُشْتَقٌّ مِنَ اللُّقَمِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَجَمِيٌّ مَنَعَهُ لِلتَّعْرِيفِ وَالْعُجْمَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَرَبِيٌّ مَنَعَهُ لِلتَّعْرِيفِ، وَلِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا: هُوَ نَبِيٌّ، أَمْ رَجُلٌ صَالِحٌ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالسُّدِّيِّ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ. وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ بِنُبُوَّتِهِ إِلَّا عِكْرِمَةُ فَقَطْ، مَعَ أَنَّ الرَّاوِيَ لِذَلِكَ عَنْهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَهُوَ لُقْمَانُ بن باعور ابن نَاحُورَ بْنِ تَارِخْ، وَهُوَ آزَرُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ، وقيل: هو لقمان بن عنقا بن مرون، وَكَانَ نُوبِيًّا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ. قَالَ وَهْبٌ: هُوَ ابْنُ أُخْتِ أَيُّوبَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ ابْنُ خَالَتِهِ، عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَخَذَ عَنْهُ الْعِلْمَ، وَكَانَ يُفْتِي قَبْلَ مَبْعَثِ دَاوُدَ، فَلَمَّا بُعِثَ دَاوُدُ قَطَعَ الْفَتْوَى، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: أَلَا أَكْتَفِي إِذْ كُفِيتُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ قَاضِيًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْحِكْمَةُ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ: هِيَ الْفِقْهُ، وَالْعَقْلُ، وَالْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ، وَفَسَّرَ الْحِكْمَةَ مَنْ قَالَ بِنُبُوَّتِهِ: بِالنُّبُوَّةِ أَنِ اشْكُرْ لِي أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّ فِي إِيتَاءِ الْحِكْمَةِ: مَعْنَى الْقَوْلِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ قُلْنَا لَهُ: أَنِ اشْكُرْ لِي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ لِأَنِ اشْكُرْ لِي. وَقِيلَ بِأَنِ اشْكُرْ لِي، فَشَكَرَ، فَكَانَ حَكِيمًا بِشُكْرِهِ، وَالشُّكْرُ لِلَّهِ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ، وَطَاعَتِهِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشُّكْرَ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إِلَّا الشَّاكِرُ، فَقَالَ: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، وَفَائِدَتَهُ حَاصِلَةٌ لَهُ، إِذْ بِهِ تُسْتَبْقَى النِّعْمَةُ، وَبِسَبَبِهِ يُسْتَجْلَبُ الْمَزِيدُ لَهَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أَيْ: مَنْ جَعَلَ كُفْرَ النِّعَمِ مَكَانَ شُكْرِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ حَمِيدٌ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ مِنْ خَلْقِهِ لِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ الَّتِي لَا يُحَاطُ بِقَدْرِهَا، وَلَا يُحْصَرُ عَدَدُهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ نَاطِقٌ بِحَمْدِهِ بِلِسَانِ الْحَالِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: غَنِيٌّ عَنْ خَلْقِهِ حَمِيدٌ فِي فِعْلِهِ وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: اسْمُ ابْنِهِ ثَارَانَ فِي قَوْلِ ابن جرير والقتبي وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مِشْكَمُ. وَقَالَ النَّقَاشُ: أَنْعَمُ. وَقِيلَ: مَاتَانَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: كَانَ ابْنُهُ وَامْرَأَتُهُ كَافِرَيْنِ، فَمَا زَالَ يَعِظُهُمَا حَتَّى أَسْلَمَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّقْدِيرُ: آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ حِينَ جَعَلْنَاهُ شَاكِرًا فِي نَفْسِهِ، وَحِينَ جَعَلْنَاهُ وَاعِظًا لِغَيْرِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِآتَيْنَا. وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ إِذْ قَالَ: قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَحْسَبُهُ غَلَطًا لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ وَاوًا، وَهِيَ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَعْنَى: وَهُوَ يَعِظُهُ يُخَاطِبُهُ بِالْمَوَاعِظِ الَّتِي ترغّبه في التوحيد وتصدّه عن الشّرك يا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِإِسْكَانِهَا. وَقَرَأَ حَفْصٌ بِفَتْحِهَا، وَنَهْيُهُ عَنِ الشِّرْكِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَجُمْلَةُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَبَدَأَ فِي وَعْظِهِ بِنَهْيِهِ عَنِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَقِيلَ: هِيَ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، وَقِيلَ: هِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، فَتَكُونُ مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَهَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا لَمَّا نزلت: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «1» شق ذلك

_ (1) . الأنعام: 82.

عَلَى الصَّحَابَةِ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فَطَابَتْ أَنْفُسُهُمْ. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ بِالْوَالِدَيْنِ، وَمَا بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ كَلَامِ لُقْمَانَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ لِمَا فيها مِنَ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَتَفْسِيرُ التَّوْصِيَةِ هِيَ قَوْلُهُ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ وَمَا بَيْنَهُمَا: اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُفَسِّرِ وَالْمُفَسَّرِ، وَفِي جَعْلِ الشُّكْرِ لَهُمَا مُقْتَرِنًا بِالشُّكْرِ لِلَّهِ: دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حَقَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْحُقُوقِ عَلَى الْوَلَدِ، وَأَكْبَرِهَا، وَأَشَدِّهَا وُجُوبًا، وَمَعْنَى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أَنَّهَا حَمَلَتْهُ فِي بَطْنِهَا، وَهِيَ تَزْدَادُ كُلِّ يَوْمٍ ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ الْمَرْأَةَ ضَعِيفَةُ الْخِلْقَةِ، ثُمَّ يُضْعِفُهَا الْحَمْلُ، وَانْتِصَابُ وَهْنًا: عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ بِإِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَيْ: حَمَلَتْهُ بِضَعْفٍ عَلَى ضَعْفٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَزِمَهَا بِحَمْلِهَا إِيَّاهُ أَنْ تَضْعُفَ، مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَقِيلَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ أُمِّهِ وَ «عَلَى وَهْنٍ» : صِفَةٌ لِوَهْنًا، أَيْ: وَهْنًا كَائِنًا عَلَى وَهْنٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ الْهَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِهِمَا وَهُمَا: لُغَتَانِ. قَالَ قَعْنَبٌ: هَلْ لِلْعَوَاذِلِ مِنْ نَاهٍ فَيَزْجُرُهَا ... إِنَّ الْعَوَاذِلَ فِيهَا الْأَيْنُ وَالْوَهْنُ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ الْفِصَالُ: الْفِطَامُ، وَهُوَ: أَنْ يُفْصَلَ الْوَلَدُ عَنِ الْأُمِّ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: الظَّرْفُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ، وَيَعْقُوبُ «وَفَصْلُهُ» وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ انْفَصَلَ عَنْ كَذَا: أَيْ: تَمَيَّزَ، وبه سمي الفصيل. وقد قدّمنا أن أمه فِي قَوْلِهِ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: بِأَنِ اشْكُرْ لِي. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَجْوَدُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ أَنْ مُفَسِّرَةً، وَجُمْلَةُ: إِلَيَّ الْمَصِيرُ تَعْلِيلٌ لِوُجُوبِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، أَيِ: الرُّجُوعِ إِلَيَّ لَا إِلَى غَيْرِي وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أَيْ: مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِشَرِكَتِهِ فَلا تُطِعْهُما فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَ الْآيَةِ، وَسَبَبَ نُزُولِهَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَانْتِصَابُ مَعْرُوفاً: عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَصَاحِبْهُمَا صِحَابًا مَعْرُوفًا، وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَالتَّقْدِيرُ بِمَعْرُوفٍ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أَيِ: اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ رَجَعَ إِلَيَّ مِنْ عِبَادِي الصَّالِحِينَ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا لَا إِلَى غَيْرِي فَأُنَبِّئُكُمْ أَيْ: أَخْبِرُكُمْ عِنْدَ رُجُوعِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَأُجَازِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا السِّيَاقَ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ إِلَى هُنَا: مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، فَلَا يَكُونُ اعْتِرَاضًا، وَفِيهِ بُعْدٌ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي حِكَايَةِ بَقِيَّةِ كَلَامِ لُقْمَانَ فِي وَعْظِهِ لِابْنِهِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهَا: عَائِدٌ إِلَى الْخَطِيئَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ لُقْمَانَ قَالَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ إِنْ عَمِلْتُ الْخَطِيئَةَ حَيْثُ لَا يَرَانِي أَحَدٌ هَلْ يَعْلَمُهَا اللَّهُ؟ فَقَالَ إِنَّهَا: أَيِ الْخَطِيئَةُ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ: مُفَسِّرَةٌ لِلضَّمِيرِ، أَيْ: إِنَّ الْخَطِيئَةَ إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ إِنَّ الَّتِي سَأَلْتَنِي عَنْهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خردل، وعبر بالخردلة لأنها أَصْغَرُ الْحُبُوبِ، وَلَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ ثِقْلُهَا، وَلَا تُرَجِّحُ مِيزَانًا. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «إِنَّهَا» رَاجِعٌ إِلَى الْخَصْلَةِ مِنَ الْإِسَاءَةِ، وَالْإِحْسَانِ، أَيْ: إِنَّ الْخَصْلَةَ مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالْإِحْسَانِ إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ إِلَخْ، ثُمَّ زَادَ فِي بَيَانِ خَفَاءِ الْحَبَّةِ مَعَ خِفَّتِهَا فَقَالَ: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ فَإِنَّ كَوْنَهَا فِي الصَّخْرَةِ قَدْ صَارَتْ

فِي أَخْفَى مَكَانٍ وَأَحْرَزِهِ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: أَوْ حَيْثُ كَانَتْ من بقاع السموات أَوْ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أَيْ: يُحْضِرُهَا، وَيُحَاسِبُ فَاعِلَهَا عَلَيْهَا إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. بَلْ يَصِلُ عِلْمُهُ إِلَى كُلِّ خَفِيٍّ خَبِيرٌ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «إِنْ تَكُ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى مَعْنَى إِنْ تَكُ الْخَطِيئَةُ أَوِ الْمَسْأَلَةُ أَوِ الْخَصْلَةُ أَوِ الْقِصَّةُ. وَقَرَءُوا «مِثْقَالَ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَاسْمُهَا هُوَ أَحَدُ تِلْكَ الْمُقَدَّرَاتِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِرَفْعِ مِثْقَالَ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ، وَهِيَ تَامَّةٌ. وَأَنَّثَ الْفِعْلَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِإِضَافَةِ مِثْقَالٍ إِلَى الْمُؤَنَّثِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «فَتَكُنْ» بِضَمِّ الْكَافِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ بِكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ النُّونِ، مِنَ الْكَنِّ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ الْمُغَطَّى. قَالَ السُّدِّيُّ: هَذِهِ الصخرة هي صخرة ليست في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْ لُقْمَانَ أَنَّهُ أَمَرَ ابْنَهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ: أَنَّهَا أُمَّهَاتُ الْعِبَادَاتِ، وَعِمَادُ الْخَيْرِ كُلَّهِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ إِلَى الطَّاعَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَخَبَرُ إِنَّ: قَوْلُهُ: مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أَيْ: مِمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ عَزِيمَةً، وَأَوْجَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مِنْ حَقِّ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَالْعَزْمُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَعْزُومِ، أَيْ: مِنْ مَعْزُومَاتِ الْأُمُورِ، أَوْ بِمَعْنَى الْعَازِمِ كَقَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «1» قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْعَيْنَ تُبْدَلُ حَاءً. فَيُقَالُ عَزْمٌ وَحَزْمٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ أَهْلِ الْأَخْلَاقِ، وَعَزَائِمِ أَهْلِ الْحَزْمِ السَّالِكِينَ طَرِيقَ النَّجَاةِ، وَصَوَّبَ هذا القرطبي وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُصَعِّرْ» وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ «تُصَاعِرْ» ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَالصَّعَرُ: الْمَيْلُ، يُقَالُ صَعَّرَ خَدَّهُ وَصَاعَرَ خَدَّهُ: إِذَا أَمَالَ وَجْهَهُ، وَأَعْرَضَ تَكَبُّرًا، وَالْمَعْنَى: لَا تُعْرِضْ عَنِ النَّاسِ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... مَشَيْنَا إِلَيْهِ بِالسُّيُوفِ نُعَاتِبُهْ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَكَذَا: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا «2» قَالَ الْهَرَوِيُّ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أَيْ: لَا تُعْرِضْ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا، يُقَالُ أَصَابَ الْبَعِيرَ صَعَرٌ: إِذَا أَصَابَهُ دَاءٌ يَلْوِي عُنُقَهُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَا تَلْوِ شِدْقَكَ إِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ عِنْدَكَ كَأَنَّكَ تَحْتَقِرُهُ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: كَأَنَّهُ نَهَى أَنْ يُذِلَّ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَعَلَّهُ فَهِمَ مِنَ التَّصْعِيرِ التَّذَلُّلَ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أَيْ: خُيَلَاءَ وَفَرِحًا، وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ عَنِ التَّكَبُّرِ، وَالتَّجَبُّرِ، وَالْمُخْتَالُ يَمْرَحُ فِي مَشْيِهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، جملة إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ: تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ لِأَنَّ الِاخْتِيَالَ: هُوَ الْمَرَحُ، وَالْفَخُورُ: هو الذي يفتخر على الناس بماله مِنَ الْمَالِ، أَوِ الشَّرَفِ، أَوِ الْقُوَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْهُ: التَّحَدُّثُ بِنِعَمِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «3» وَاقْصِدْ فِي

_ (1) . محمّد: 21. (2) . قال ابن عطية: فتقوّم لأن قافية الشعر مخفوضة، والمعنى: فتقوّم أنت. القرطبي (14/ 69) . (3) . الضحى: 11.

مَشْيِكَ أَيْ: تَوَسَّطْ فِيهِ، وَالْقَصْدُ: مَا بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالْبُطْءِ. يُقَالُ قَصَدَ فُلَانٌ فِي مِشْيَتِهِ إِذَا مَشَى مُسْتَوِيًا لَا يَدِبُّ دَبِيبَ الْمُتَمَاوِتِينَ، وَلَا يَثِبُ وُثُوبَ الشَّيَاطِينِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا مَشَى أَسْرَعَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ الْقَصْدُ هُنَا عَلَى مَا جَاوَزَ الْحَدَّ فِي السُّرْعَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ لَا تَخْتَلَّ فِي مِشْيَتِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: امْشِ بِالْوَقَارِ والسكينة. كقوله: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً «1» وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أَيِ: انْقُصْ مِنْهُ، وَاخْفِضْهُ، وَلَا تَتَكَلَّفْ رَفْعَهُ، فَإِنَّ الْجَهْرَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْحَاجَةِ يُؤْذِي السَّامِعَ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْغَضِّ مِنَ الصَّوْتِ، أَيْ: أَوْحَشُهَا، وَأَقْبَحُهَا. قَالَ قَتَادَةُ: أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ صَوْتُ الْحَمِيرِ أَوَّلُهُ زَفِيرٌ، وَآخِرُهُ شَهِيقٌ قَالَ الْمُبَرِّدُ: تَأْوِيلُهُ إِنَّ الْجَهْرَ بِالصَّوْتِ لَيْسَ بِمَحْمُودٍ، وَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي بَابِ الصَّوْتِ الْمُنْكَرِ، وَاللَّامُ فِي لَصَوْتُ: لِلتَّأْكِيدِ، وَوَحَّدَ الصَّوْتَ مَعَ كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى الْجَمْعِ: لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَهُوَ مَصْدَرُ صَاتَ يَصُوتُ صَوْتًا فَهُوَ صَائِتٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَدْرُونَ مَا كَانَ لُقْمَانُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: كَانَ حَبَشِيًّا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَمْلُوكِينَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّخِذُوا السُّودَانَ، فَإِنَّ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ سَادَاتُ أَهْلِ الْجَنَّةِ: لُقْمَانَ الْحَكِيمَ، وَالنَّجَاشِيَّ، وَبِلَالَ الْمُؤَذِّنَ» . قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: أَرَادَ الْحَبَشَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ يَعْنِي: الْعَقْلَ، وَالْفَهْمَ، وَالْفِطْنَةَ فِي غَيْرِ نُبُوَّةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ جَابِرُ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ» وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ رِوَايَاتٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ تَتَضَمَّنُ كَلِمَاتٍ مِنْ مَوَاعِظِ لُقْمَانَ، وَحِكَمِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَا ثَبْتَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى لُقْمَانَ بِشَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى نَقْبَلَهُ. وقد حكى سُبْحَانَهُ مِنْ مَوَاعِظِهِ لِابْنِهِ مَا حَكَاهُ فِي هذا الوضع، وَفِيهِ كِفَايَةٌ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَصِحَّ فَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ إِلَّا شَغْلَةٌ لِلْحَيِّزِ، وَقَطِيعَةٌ لِلْوَقْتِ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا حَتَّى يَكُونَ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَلَا صَحَّ إِسْنَادُ مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْكَلِمَاتِ حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُ ذَلِكَ مِنْ تَدْوِينِ كَلِمَاتِ الْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ: ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِيَّ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهْناً عَلى وَهْنٍ قَالَ: شِدَّةً بَعْدَ شِدَّةٍ، وَخَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ: وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن أبي أيوب الأنصاري

_ (1) . الفرقان: 63. [.....]

[سورة لقمان (31) : الآيات 20 إلى 28]

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ فقال: لِيُّ الشِّدْقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قال: لَا تَتَكَبَّرْ فَتَحْتَقِرْ عِبَادَ اللَّهِ، وَتُعْرِضْ عَنْهُمْ إِذَا كَلَّمُوكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ الَّذِي إذا سلم عليه لوى عنقه كالمستكبر. [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 28] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ قِصَّةِ لُقْمَانَ، رَجَعَ إِلَى تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَبْكِيتِهِمْ، وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى تَسْخِيرِهَا لِلْآدَمِيِّينَ: الِانْتِفَاعُ بِهَا، انْتَهَى، فَمِنْ مَخْلُوقَاتِ السموات الْمُسَخَّرَةِ لِبَنِي آدَمَ: أَيِ الَّتِي يَنْتَفِعُونَ بِهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَالنُّجُومُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ، فَإِنَّهُمْ حَفَظَةٌ لِبَنِي آدَمَ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِنْ مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ الْمُسَخَّرَةِ لِبَنِي آدَمَ: الْأَحْجَارُ، وَالتُّرَابُ، وَالزَّرْعُ، وَالشَّجَرُ، وَالثَّمَرُ، وَالْحَيَوَانَاتُ الَّتِي يَنْتَفِعُونَ بِهَا، وَالْعُشْبُ الَّذِي يَرْعَوْنَ فِيهِ دَوَابَّهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، فَالْمُرَادُ بِالتَّسْخِيرِ: جَعْلُ الْمُسَخَّرِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسَخَّرُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُنْقَادًا لَهُ وَدَاخِلًا تَحْتَ تَصَرُّفِهِ أَمْ لَا وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً أَيْ: أَتَمَّ وَأَكْمَلَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ، يُقَالُ: سَبَغَتِ النِّعْمَةُ إِذَا تَمَّتْ وَكَمُلَتْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَسْبَغَ» بِالسِّينِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ «أَصْبَغَ» بِالصَّادِ مَكَانِ السِّينِ. وَالنِّعَمُ جَمْعُ نِعْمَةٍ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَحَفْصٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «نِعْمَةً» بِسُكُونِ الْعَيْنِ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالتَّنْوِينِ: اسْمُ جِنْسٍ يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، وَيُدَلُّ بِهِ عَلَى الْكَثْرَةِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1» وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمُرَادُ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ: مَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، أَوِ الْحِسِّ، وَيَعْرِفُهُ مَنْ يَتَعَرَّفُهُ، وَبِالْبَاطِنَةِ: مَا لَا يُدْرَكُ لِلنَّاسِ، وَيَخْفَى عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ الصِّحَّةُ وَكَمَالُ الْخَلْقِ، وَالْبَاطِنَةُ: الْمَعْرِفَةُ، وَالْعَقْلُ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ: مَا يُرَى بِالْأَبْصَارِ من المال، والجاه، والجمال،

_ (1) . إبراهيم: 34.

وَفَعْلِ الطَّاعَاتِ، وَالْبَاطِنَةُ: مَا يَجِدُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْعِلْمِ بِاللَّهِ، وَحُسْنِ الْيَقِينِ، وَمَا يدفعه الله عن العبد مِنَ الْآفَاتِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ: نِعَمُ الدُّنْيَا، وَالْبَاطِنَةُ: نِعَمُ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ: الْإِسْلَامُ وَالْجَمَالُ، وَالْبَاطِنَةُ: مَا سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أَيْ: فِي شَأْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي تَوْحِيدِهِ، وَصِفَاتِهِ مُكَابَرَةً، وَعِنَادًا بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ لَهُ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ عَقْلٍ، وَلَا نَقْلٍ وَلا هُدىً يَهْتَدِي بِهِ إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، بَلْ مُجَرَّدُ تَعَنُّتٍ، وَمَحْضُ عِنَادٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَيْ: إِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ، وَالْجَمْعُ: بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ، اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الْكِتَابِ تَمَسَّكُوا بِمُجَرَّدِ التقليد البحت، وقالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فَنَعْبُدَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَنَمْشِي فِي الطَّرِيقِ الَّتِي كَانُوا يَمْشُونَ بِهَا فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ قَالَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ لِلِاسْتِبْعَادِ، وَالتَّبْكِيتِ أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أَيْ: يَدْعُو آبَاءَهُمُ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمْ فِي دِينِهِمْ، أَيْ: يَتْبَعُونَهُمْ فِي الشِّرْكِ، وَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ يَدْعُو هَؤُلَاءِ الْأَتْبَاعَ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، لِأَنَّهُ زَيَّنَ لَهُمُ اتِّبَاعَ آبائهم، والتدين بدينهم، ويجوز أن يراد أن يَدْعُو جَمِيعَ التَّابِعِينَ، وَالْمَتْبُوعِينَ إِلَى الْعَذَابِ، فَدُعَاؤُهُ لِلْمَتْبُوعِينَ: بِتَزْيِينِهِ لَهُمُ الشِّرْكَ، وَدُعَاؤُهُ لِلتَّابِعِينَ: بِتَزْيِينِهِ لَهُمْ دِينَ آبَائِهِمْ، وَجَوَابُ لَوْ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَدْعُوهُمْ، فَيَتَّبِعُونَهُمْ، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. وَمَا أَقْبَحَ التَّقْلِيدَ، وَأَكْثَرَ ضَرَرَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وأوخم عاقبته، وأشأك عَائِدَتَهُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِيهِ. فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَذُودَ الْفِرَاشَ عَنْ لَهَبِ النَّارِ لئلا تحترق، فتأبى ذلك وتهافت فِي نَارِ الْحَرِيقِ وَعَذَابِ السَّعِيرِ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أَيْ: يُفَوِّضُ إِلَيْهِ أَمْرَهُ، وَيُخْلِصُ لَهُ عِبَادَتَهُ، وَيُقْبِلُ عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي أَعْمَالِهِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مِنْ غَيْرِ إِحْسَانٍ لَهَا، وَلَا مَعْرِفَةٍ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهَا لَا تَقَعُ بِالْمَوْقِعِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ عِبَادَةُ الْمُحْسِنِينَ: وَقَدْ صَحَّ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنِ الْإِحْسَانِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أَيِ: اعْتَصَمَ بِالْعَهْدِ الْأَوْثَقِ وَتَعَلَّقَ بِهِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ بِحَالِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَرَقَّى إِلَى شَاهِقِ جَبَلٍ، فَتَمَسَّكَ بِأَوْثَقِ عُرَى حَبْلٍ مُتَدَلٍّ مِنْهُ وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أَيْ: مَصِيرُهَا إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالسُّلَمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ «وَمَنْ يُسَلِّمْ» بِالتَّشْدِيدِ قَالَ النَّحَّاسُ: وَالتَّخْفِيفُ فِي هَذَا أَعْرَفُ كَمَا قَالَ عزّ وجلّ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ «1» وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أَيْ: لَا تَحْزَنْ لِذَلِكَ، فَإِنَّ كُفْرَهُ لَا يَضُرُّكَ، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْكَافِرِينَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَيْ: نُخْبِرُهُمْ بِقَبَائِحِ أَعْمَالِهِمْ، وَنُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَيْ: بِمَا تُسِرُّهُ صُدُورُهُمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ. فَالسِّرُّ عِنْدَهُ كَالْعَلَانِيَةِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا أَيْ: نُبْقِيهِمْ فِي الدُّنْيَا مُدَّةً قَلِيلَةً يَتَمَتَّعُونَ بِهَا. فَإِنَّ النَّعِيمَ الزَّائِلَ: هُوَ أَقَلُّ قليل بالنسبة إلى النعيم الدائم. وانتصاب

_ (1) . آل عمران: 20.

قَلِيلًا: عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: تَمْتِيعًا قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ أَيْ: نُلْجِئُهُمْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ. فَإِنَّهُ لَا أَثْقَلَ مِنْهُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِيهِ، وَأُصِيبَ بِهِ، فَلِهَذَا اسْتُعِيرَ لَهُ الْغِلَظُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أَيْ: يَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ خَالِقِ ذَلِكَ لِوُضُوحِ الْأَمْرِ فِيهِ عندهم. وهذا اعتراف منهم مما يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَلِهَذَا قَالَ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى اعْتِرَافِكُمْ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَتَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لَهُ؟ أَوِ الْمَعْنَى: فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا هَدَانَا لَهُ مِنْ دِينِهِ وَلَا حَمْدَ لِغَيْرِهِ ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ: لَا يَنْظُرُونَ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ خَالِقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ الَّذِي تَجِبُ لَهُ الْعِبَادَةُ دُونَ غَيْرِهِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُلْكًا، وَخَلْقًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ غَيْرِهِ الْحَمِيدُ أَيِ: الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ، أَوِ الْمَحْمُودُ مِنْ عِبَادِهِ بِلِسَانِ الْمَقَالِ، أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سبحانه أن له ما في السموات والأرض أتبعه بما يدلّ على أنه لَهُ وَرَاءَ ذَلِكَ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ عَدَدٌ، وَلَا يُحْصَرُ بِحَدٍّ، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أَيْ: لَوْ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الشَّجَرِ: أَقْلَامٌ، وَوَحَّدَ الشَّجَرَةَ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كل شجرة أقلام حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ جِنْسِ الشَّجَرِ وَاحِدَةٌ إِلَّا وَقَدْ بُرِيَتْ أَقْلَامًا، وَجَمَعَ الْأَقْلَامَ لِقَصْدِ التَّكْثِيرِ، أَيْ: لَوْ أَنْ يَعُدَّ كُلَّ شَجَرَةٍ مِنَ الشَّجَرِ أَقْلَامًا، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَهُوَ مِنْ وُقُوعِ الْمُفْرَدِ مَوْقِعَ الْجَمْعِ، وَالنَّكِرَةِ مَوْقِعَ المعرفة، كقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ «1» ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانُهُ: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ أي: يمدّه من بعد نفاذه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَالْبَحْرُ» بِالرَّفْعِ: عَلَى أنه مبتدأ، ويمدّه: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ الْبَحْرَ الْمُحِيطَ مَعَ سِعَتِهِ يَمُدُّهُ السَّبْعَةُ الْأَبْحُرِ مَدًّا لَا يَنْقَطِعُ، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْبَحْرَ مُرْتَفِعٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ ثَبَتَ الْبَحْرُ حَالَ كَوْنِهِ تَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، وَقِيلَ: هُوَ مُرْتَفِعٌ بِالْعَطْفِ عَلَى أَنَّ وَمَا فِي حَيِّزِهَا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْبَحْرَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ أَنَّ، أَوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ يَمُدُّهُ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَالْحَسَنُ «يُمِدُّهُ» بضم حرف المضارعة، وكسر الميم، ومن أَمَدَّ. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْبَحْرُ «مِدَادُهُ» وَجَوَابُ لَوْ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ أَيْ: كَلِمَاتُهُ الَّتِي هِيَ: عِبَارَةٌ عَنْ مَعْلُومَاتِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا فِي الْمَقْدُورِ دُونَ مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الْوُجُودِ، وَوَافَقَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْأَشْجَارَ لَوْ كَانَتْ أَقْلَامًا، وَالْبِحَارَ مِدَادًا، فَكُتِبَ بِهَا عَجَائِبُ صُنْعِ اللَّهِ الدَّالَّةُ عَلَى قُدْرَتِهِ، ووحدانيته لم تنفد تِلْكَ الْعَجَائِبُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: رَدَّ الْقَفَّالُ مَعْنَى الْكَلِمَاتِ إِلَى الْمُقَدُورَاتِ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ: أَوْلَى. قَالَ النَّحَّاسُ: قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلِمَاتِ هَاهُنَا: يُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ، وَحَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخلق ما هو خالق في السموات وَالْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، وَعَلِمَ مَا فِيهِ مِنْ مَثَاقِيلِ الذَّرِّ، وَعَلِمَ الْأَجْنَاسَ كُلَّهَا، وَمَا فِيهَا مِنْ شَعْرَةٍ، وَعُضْوٍ وَمَا فِي الشَّجَرَةِ مِنْ وَرَقَةٍ، وَمَا فِيهَا مِنْ ضُرُوبِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: مَا أَكْثَرَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ، فَنَزَلَتْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «2»

_ (1) . البقرة: 106. (2) . الإسراء: 85.

[سورة لقمان (31) : الآيات 29 إلى 34]

فِي الْيَهُودِ، قَالُوا كَيْفَ وَقَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ فِيهَا كَلَامُ اللَّهِ وَأَحْكَامُهُ، فَنَزَلَتْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُرَادُ بِالْبَحْرِ هُنَا: الْمَاءُ الْعَذْبُ الَّذِي يُنْبِتُ الْأَقْلَامَ، وَأَمَّا الْمَاءُ الْمَالِحُ، فَلَا يُنْبِتُ الْأَقْلَامَ. قُلْتُ: مَا أَسْقَطَ هَذَا الْكَلَامَ، وَأَقَلَّ جَدْوَاهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ: غَالِبٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ حِكْمَتِهِ، وَعِلْمِهِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَخْلُوقَاتِهِ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أَيْ: إِلَّا كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَعْثِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: كَذَا قدّره النحويون، كخلق نفس مثل قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: قُدْرَةُ اللَّهِ عَلَى بَعْثِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ وَعَلَى خَلْقِهِمْ كَقُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْثِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِكُلِّ مَا يَسْمَعُ بَصِيرٌ بِكُلِّ مَا يُبْصِرُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ، قَالَ: هَذِهِ مِنْ كُنُوزِ عِلْمِي، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَمَّا الظَّاهِرَةُ: فَمَا سَوَّى مِنْ خَلْقِكَ، وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ: فَمَا سَتَرَ مِنْ عَوْرَتِكَ، وَلَوْ أَبْدَاهَا لَقَلَاكَ أَهْلُكَ فَمَنْ سِوَاهُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالدَّيْلَمِيُّ، وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً فَقَالَ: أَمَّا الظَّاهِرَةُ: فَالْإِسْلَامُ وَمَا سَوَّى مِنْ خَلْقِكَ وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ، وأمّا الباطنة: فما ستر من مساوئ عَمَلِكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ: الْإِسْلَامُ، وَالنِّعْمَةُ الْبَاطِنَةُ: كُلُّ مَا يَسْتُرُ عَلَيْكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْعُيُوبِ، وَالْحُدُودِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ هِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ جرير، عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ «أَنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ قَالُوا لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ: يَا مُحَمَّدُ! أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «2» إِيَّانَا تُرِيدُ أَمْ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ كُلًّا، فَقَالُوا: أَلَسْتَ تَتْلُو فِيمَا جَاءَكَ أَنَّا قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: إِنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا عن ابن مسعود نحوه. [سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 34] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

_ (1) . يوسف: 82. (2) . الإسراء: 85.

الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ لِكُلِّ أَحَدٍ يَصْلُحُ لذلك، أو للرسول صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أَيْ: يُدْخِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ: الْحَجِّ، وَالْأَنْعَامِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَيْ: ذَلَّلَهُمَا، وَجَعَلَهُمَا مُنْقَادَيْنَ بِالطُّلُوعِ، وَالْأُفُولِ تَقْدِيرًا لِلْآجَالِ، وَتَتْمِيمًا لِلْمَنَافِعِ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اخْتُلِفَ فِي الْأَجَلِ الْمُسَمَّى مَاذَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: وَقْتُ الطُّلُوعِ: وَوَقْتُ الْأُفُولِ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، وَجُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ، أَيْ: خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، فَقُدْرَتُهُ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا تَعْمَلُونَهُ بِالْأَوْلَى، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تَعْمَلُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَنَصْرُ بْنُ عَامِرٍ وَالدُّورِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّ اللَّهَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْحَقُّ وَغَيْرُهُ الْبَاطِلُ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَعَلَ ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ قَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَقِيلَ: مَا أَشْرَكُوا بِهِ مِنْ صنم، وَهَذَا أَوْلَى وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ معطوفة على جملة «أن اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الصُّنْعَ الْبَدِيعَ الَّذِي وَصَفَهُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى حَقِيَّةِ اللَّهِ، وَبُطْلَانِ مَا سِوَاهُ، وَعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ: هُوَ الْعَلِيُّ فِي مَكَانَتِهِ، ذُو الْكِبْرِيَاءِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَسُلْطَانِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ عَجِيبِ صُنْعِهِ، وَبَدِيعِ قُدْرَتِهِ نَوْعًا آخَرَ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ أَيْ: بِلُطْفِهِ بِكُمْ، وَرَحْمَتِهِ لَكُمْ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمَهِ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهَا تُخَلِّصُكُمْ مِنَ الْغَرَقِ عِنْدَ أَسْفَارِكُمْ فِي الْبَحْرِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ «بِنِعَمَاتِ اللَّهِ» جَمْعُ نِعْمَةٍ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: لِيُرِيَكُمْ بَعْضَ آيَاتِهِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: وَهُوَ جَرْيُ السُّفُنِ فِي الْبَحْرِ بِالرِّيحِ. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «مِنْ آيَاتِهِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ. وَقَالَ النَّقَاشُ: مَا يَرْزُقُهُمُ اللَّهُ فِي الْبَحْرِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ لَآيَاتٍ عَظِيمَةٍ لِكُلٍّ مَنْ لَهُ صَبْرٌ بَلِيغٌ، وَشُكْرٌ كَثِيرٌ يَصْبِرُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَيَشْكُرُ نِعَمَهُ وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ شَبَّهَ الْمَوْجَ لِكِبَرِهِ: بِمَا يُظِلُّ الْإِنْسَانَ مِنْ جَبَلٍ، أَوْ سَحَابٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا شَبَّهَ الْمَوْجَ وَهُوَ وَاحِدٌ بِالظُّلَلِ. وهي جمع، لأن الموج يَأْتِي شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَيَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوْجَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَأَصْلُ الْمَوْجِ: الْحَرَكَةُ، وَالِازْدِحَامُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: مَاجَ الْبَحْرُ، وَمَاجَ النَّاسُ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ «مَوْجٌ كَالظِّلَالِ» جَمْعُ ظِلٍّ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أَيْ: دَعَوُا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُعَوِّلُونَ عَلَى غَيْرِهِ فِي خَلَاصِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ سِوَاهُ، وَلَكِنَّهُ تَغْلِبُ عَلَى طَبَائِعِهِمُ الْعَادَاتُ، وَتَقْلِيدُ الْأَمْوَاتِ، فَإِذَا وَقَعُوا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ اعْتَرَفُوا بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لَهُ طَلَبًا لِلْخَلَاصِ، وَالسَّلَامَةِ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ صَارُوا عَلَى قِسْمَيْنِ: فَقِسْمٌ مُقْتَصِدٌ أَيْ: موف بما عاهد اللَّهَ فِي الْبَحْرِ مِنْ إِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ بَاقٍ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ، وَأَخْرَجَهُ إِلَى الْبَرِّ سَالِمًا. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى مُقْتَصِدٌ مُؤْمِنٌ مُتَمَسِّكٌ بِالتَّوْحِيدِ، وَالطَّاعَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُقْتَصِدٌ فِي الْقَوْلِ مُضْمِرٌ للكفر،

وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ الْخَتْرُ: أَسْوَأُ الْغَدْرِ وَأَقْبَحُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: بِالْأَبْلَقِ الْفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ ... حِصْنٌ حَصِينٌ وَجَارٌ غَيْرُ خَتَّارِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْخَتْرُ: الْغَدْرُ، يُقَالُ خَتَرَهُ فَهُوَ خَتَّارٌ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّهُ الْجَاحِدُ، وَجَحْدُ الْآيَاتِ: إِنْكَارُهَا، وَالْكَفُورُ: عَظِيمُ الْكُفْرِ بِنِعَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أَيْ: لَا يُغْنِي الْوَالِدُ عَنْ وَلَدِهِ شَيْئًا، وَلَا يَنْفَعُهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ لِاشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُ فِي الْبَقَرَةِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فَرْدَيْنِ مِنَ الْقَرَابَاتِ، وَهُوَ الْوَالِدُ، وَالْوَلَدُ، وَهُمَا الْغَايَةُ فِي الْحُنُوِّ وَالشَّفَقَةِ عَلَى بَعْضِهِمُ الْبَعْضُ، فَمَا عَدَاهُمَا مِنَ الْقَرَابَاتِ لَا يَجْزِي بِالْأَوْلَى، فَكَيْفَ بِالْأَجَانِبِ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ لَا يَرْجُو سِوَاكَ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى غَيْرِكَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ لَا يَتَخَلَّفُ فَمَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَأَوْعَدَ بِهِ مِنَ الشَّرِّ، فَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَزَخَارِفُهَا، فَإِنَّهَا زَائِلَةٌ ذَاهِبَةٌ وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «الْغَرُورِ» بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْغَرُورِ: هُوَ الشَّيْطَانُ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغُرَّ الْخَلْقَ، وَيُمَنِّيَهُمْ بِالْأَمَانِي الْبَاطِلَةِ، وَيُلْهِيَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ، وَيَصُدَّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وأبو حيوة وابن السميقع بِضَمِّ الْغَيْنِ مَصْدَرُ غَرَّ يَغُرُّ غُرُورًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَاقِعًا وَصْفًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أَيْ: عِلْمُ وَقْتِهَا الَّذِي تَقُومُ فِيهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ النَّفْيُ، أَيْ: مَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَإِنَّمَا صَارَ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ لِمَا ورد عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ «1» إِنَّهَا هَذِهِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا مُعَيَّنَةً لِإِنْزَالِهِ وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مِنَ النُّفُوسِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْجِنِّ، وَالْإِنْسِ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً مِنْ كَسْبِ دِينٍ أَوْ كَسْبِ دُنْيَا وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أَيْ: بِأَيِّ مَكَانٍ يَقْضِي اللَّهُ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَيَنَزِّلُ الْغَيْثَ» مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «بِأَيِّ أَرْضٍ» وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُوسَى الْأَهْوَازِيُّ «بِأَيَّةِ» وَجَوَّزَ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ وَهِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ. قَالَ الْأَخْفَشُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَرَرْتُ بِجَارِيَةٍ أَيُّ جَارِيَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُ خَالَفَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ (خَتَّارٍ) قَالَ: جَحَّادٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قَالَ: هُوَ الشَّيْطَانُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أهل البادية إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتَيْ حُبْلَى فَأَخْبِرْنِي مَا تَلِدُ؟ وَبِلَادُنَا مُجْدِبَةٌ فَأَخْبِرْنِي مَتَى يَنْزِلُ الْغَيْثُ؟ وَقَدْ علمت متى ولدت فأخبرني

_ (1) . الأنعام: 59.

مَتَى أَمُوتُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ وَزَادَ: وَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَسَبْتُ الْيَوْمَ فَمَاذَا أَكْسِبُ غَدًا؟ وَزَادَ أَيْضًا أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا مَا فِي الْأَرْحَامِ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا مَتَى يَنْزِلُ الْغَيْثُ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلَّا اللَّهُ» ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ سُؤَالِهِ عَنِ السَّاعَةِ وَجَوَابِهِ بِأَشْرَاطِهَا، ثُمَّ قال: «خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ» ثُمَّ تَلَا هذه الآية. وفي الباب أحاديث.

سورة السجدة

سورة السّجدة وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ سِوَى ثَلَاثِ آيَاتٍ أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلى تمام الآيات الثلاث، وَكَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَقِيلَ: إِلَّا خَمْسَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَهْلِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الجمعة ب «الم تنزيل» السجدة، و «هل أتى على الإنسان» «1» . وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ جَابِرٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ «آلَمَ تَنْزِيلُ» السّجدة، و «تبارك الذي بيده الْمُلْكِ» «2» » . وَأَخْرَجَ أَبُو نَصْرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ خَلْفَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ» وَ «قُلْ هُوَ الله أحد» وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ «تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» وَ «الم تَنْزِيلُ» السَّجْدَةِ كُتِبْنَ لَهُ كَأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ «تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» وَ «الم تَنْزِيلُ» السَّجْدَةِ، بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ «الم تَنْزِيلُ» السجدة، و «يس» و «اقتربت الساعة» وَ «تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» كُنْ لَهُ نُورًا وَحِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرَفْعٌ فِي الدَّرَجَاتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ عَنِ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آلَمَ تَنْزِيلُ» تَجِيءُ لَهَا جَنَاحَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُظِلُّ صَاحِبَهَا وَتَقُولُ: لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)

_ (1) . الإنسان: 1. (2) . الملك: 1.

قَوْلُهُ: الم قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَعَلَى مَحَلِّهَا مِنَ الْإِعْرَابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ، وَارْتِفَاعُ تَنْزِيلُ عَلَى أَنَّهُ خَبَّرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ: الم فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبْرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: الم على تقدير أنه اسم للسورة، ولا رَيْبَ فِيهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُ تَنْزِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَمِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تكون هذه كلها أخبارا للمبتدأ قَبْلَ تَنْزِيلُ، أَوْ لِقَوْلِهِ: الم عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ لَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ حُرُوفٌ مَسْرُودَةٌ عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ أَنْ تَكُونَ «لَا رَيْبَ فِيهِ» : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَ «مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» : الْخَبَرُ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ: أَنَّ تَنْزِيلَ الْكِتَابِ الْمَتْلُوِّ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ، وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ، وَلَا سِحْرٍ، وَلَا كِهَانَةٍ، وَلَا أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَ «أَمْ» فِي أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ هِيَ: الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى: بَلْ وَالْهَمْزَةُ، أَيْ: بَلْ أَيَقُولُونَ هُوَ مُفْتَرًى، فَأَضْرَبَ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إِلَى مَا هُوَ مُعْتَقَدُ الْكُفَّارِ مَعَ الِاسْتِفْهَامِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَمَعْنَى «افْتَرَاهُ» : افْتَعَلَهُ، وَاخْتَلَقَهُ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ مُعْتَقَدِهِمْ إِلَى بَيَانِ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي شَأْنِ الْكِتَابِ فَقَالَ: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَكَذَّبَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي دَعْوَى الِافْتِرَاءِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ الَّتِي كَانَ التَّنْزِيلُ لِأَجْلِهَا فَقَالَ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ وَهُمُ الْعَرَبُ، وَكَانُوا أُمَّةً أُمَيَّةً لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ، وَقِيلَ: قُرَيْشٌ خَاصَّةً، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: لِتُنْذِرَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا الْعِقَابَ، وَجُمْلَةُ مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَمِنْ قَبْلِكَ: صِفَةٌ لِنَذِيرِ. وَجَوَّزَ أَبُو حَيَّانَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً، وَالتَّقْدِيرُ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا الْعِقَابَ الَّذِي أتاهم من نذير قَبْلِكَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْمُرَادَ تَعْلِيلُ الْإِنْزَالِ بِالْإِنْذَارِ لِقَوْمٍ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ قَبْلَهُ، لا تعليله بالإنذار لقوم قد أنذر بِمَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ: أَهْلُ الْفَتْرَةِ مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ رَجَاءَ أَنْ يَهْتَدُوا، أَوْ كَيْ يَهْتَدُوا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِهَا هُنَا: تَعْرِيفُهُمْ كَمَالَ قُدْرَتِهِ، وَعَظِيمَ صُنْعِهِ لِيَسْمَعُوا الْقُرْآنَ، ويتأملوه، ومعنى خَلَقَ: أَوْجَدَ وَأَبْدَعَ. قَالَ الْحَسَنُ: الْأَيَّامُ هُنَا هِيَ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: مِقْدَارُ الْيَوْمِ: ألف سنة في سِنِي الدُّنْيَا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ هُنَا هِيَ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ لَا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَلَيْسَتْ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا مُسْتَوْفًى مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ دُونِ عَذَابِهِ مِنْ وَلِيٍّ يُوَالِيكُمْ، وَيَرُدُّ عَنْكُمْ عَذَابَهُ، وَلَا شَفِيعٍ يَشْفَعُ لَكُمْ عِنْدَهُ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ تَذَكُّرَ تدبر

وَتَفَكُّرٍ، وَتَسْمَعُونَ هَذِهِ الْمَوَاعِظَ سَمَاعَ مَنْ يَفْهَمُ وَيَعْقِلُ حَتَّى تَنْتَفِعُوا بِهَا يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ السموات وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا بَيَّنَ تَدْبِيرَهُ لِأَمْرِهَا، أَيْ: يُحْكِمُ الْأَمْرَ بِقَضَائِهِ وَقَدْرِهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرض، والمعنى: ينزل أمره من أعلى السموات إِلَى أَقْصَى تُخُومِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ «1» وَمَسَافَةُ مَا بَيْنَ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَهَا نُزُولًا وَطُلُوعًا أَلْفُ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْأُمُورِ: الْمَأْمُورُ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، أَيْ: يُنَزِّلُهُ مُدَبَّرًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: يُدَبِّرُ أَمْرَ الدُّنْيَا بِأَسْبَابٍ سَمَاوِيَّةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَغَيْرِهَا نَازِلَةٍ أَحْكَامُهَا وَآثَارُهَا إِلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: يَنْزِلُ الْوَحْيُ مَعَ جِبْرِيلَ. وَقِيلَ: الْعَرْشُ مَوْضِعُ التَّدْبِيرِ كَمَا أَنَّ مَا دُونَ الْعَرْشِ مَوْضِعُ التَّفْصِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ... يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ «2» وما دون السموات مَوْضِعُ التَّصَرُّفِ. قَالَ اللَّهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا «3» ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَدْبِيرَ الْأَمْرِ قَالَ: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أَيْ: ثُمَّ يَرْجِعُ ذَلِكَ الْأَمْرُ وَيَعُودُ ذَلِكَ التَّدْبِيرُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي يَوْمٍ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَسَافَةِ النُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالطُّلُوعِ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ حِينَ يَنْقَطِعُ أَمْرُ الدُّنْيَا، وَيَمُوتُ مَنْ فِيهَا. وَقِيلَ: هِيَ أَخْبَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ تَصْعَدُ إِلَيْهِ مَعَ مَنْ يُرْسِلُهُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُثْبِتُ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَيَكْتُبُ فِي صُحُفِ مَلَائِكَتِهِ مَا عَمِلَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ مُدَّةُ الدُّنْيَا آخِرَهَا. وَقِيلَ: مَعْنَى يَعْرُجُ إِلَيْهِ: يَثْبُتُ فِي عِلْمِهِ مَوْجُودًا بِالْفِعْلِ فِي بُرْهَةٍ مِنَ الزَّمَانِ هِيَ مِقْدَارُ أَلْفِ سَنَةٍ، وَالْمُرَادُ طُولُ امْتِدَادِ مَا بَيْنَ تَدْبِيرِ الْحَوَادِثِ، وَحُدُوثِهَا مِنَ الزَّمَانِ، وَقِيلَ: يُدَبِّرُ أَمْرَ الْحَوَادِثِ الْيَوْمِيَّةِ بِإِثْبَاتِهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَتَنْزِلُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ تَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي زَمَانٍ هُوَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: يَقْضِي قَضَاءَ أَلْفِ سَنَةٍ فَتَنْزِلُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ تَعْرُجُ بَعْدَ الْأَلْفِ لِأَلْفٍ آخَرَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي هِيَ طَاعَاتٌ يُدَبِّرُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وينزل بها ملائكته، ثم لا يعرج إليه مِنْهَا إِلَّا الْخَالِصُ بَعْدَ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ لِقِلَّةِ الْمُخَلِّصِينَ مِنْ عِبَادِهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي يَعْرُجُ يَعُودُ إِلَى الْمَلِكِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ «4» وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ يَرْجِعُ إِلَى السَّمَاءِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَذْكُرُهَا، أَوْ إِلَى مَكَانِ الْمَلِكِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي أَقَرَّهُ اللَّهُ فِيهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: يُدَبِّرُ أَمْرَ الشَّمْسِ فِي طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، وَرُجُوعِهَا إِلَى مَوْضِعِهَا مِنَ الطُّلُوعِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ فِي الْمَسَافَةِ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلِكَ يَعْرُجُ إِلَى اللَّهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ لَوْ سَارَهُ غَيْرُ الْمَلِكِ أَلْفَ سَنَةٍ، لَأَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسَافَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فَمَسَافَةُ النُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالرُّجُوعِ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ أَلْفُ عَامٍ، وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: مَسَافَةُ النُّزُولِ أَلْفُ سَنَةٍ، وَمَسَافَةُ الطُّلُوعِ أَلْفُ سَنَةٍ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانٍ يَتَقَدَّرُ بِأَلْفِ سَنَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مُسَمَّى الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ مُدَّةُ النَّهَارِ بَيْنَ لَيْلَتَيْنِ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُعَبِّرُ عن المدة باليوم كما قال الشاعر:

_ (1) . الطلاق: 12. (2) . الرعد: 2. (3) . الفرقان: 50. (4) . المعارج: 4.

يَوْمَانِ يَوْمُ مَقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلَى الأعداء تأويب «1» فَإِنَّ الشَّاعِرَ لَمْ يُرِدْ يَوْمَيْنِ مَخْصُوصَيْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ زَمَانَهُمْ يَنْقَسِمُ شَطْرَيْنِ، فَعَبَّرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّطْرَيْنِ بِيَوْمٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَعْرُجُ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْأَصْلُ يُعْرَجُ بِهِ، ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الْجَارِّ فَاسْتَتَرَ الضَّمِيرُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ جَمَاعَةٌ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «2» فَقِيلَ فِي الْجَوَابِ إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِقْدَارُهُ أَلْفُ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهُ بِاعْتِبَارِ صُعُوبَتِهِ وَشِدَّةِ أَهْوَالِهِ عَلَى الْكُفَّارِ كَخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ كَثِيرًا يَوْمَ الْمَكْرُوهِ بِالطُّولِ، كَمَا تَصِفُ يَوْمَ السُّرُورِ بِالْقِصَرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «3» : وَيَوْمٌ كَظِلِّ الرُّمْحِ قَصَّرَ طُولَهُ ... دَمُ الزّقّ عنّا واصطفاق المزاهر وقول الآخر: ويوم كإبهام القطاة قَطَّعْتُهُ وَقِيلَ: إِنْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيهِ أَيَّامٌ فَمِنْهَا مَا مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَمِنْهَا مَا مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقِيلَ: هِيَ أَوْقَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ يُعَذَّبُ الْكَافِرُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يُنْقَلُ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ فَيُعَذَّبُ بِهِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقِيلَ: مَوَاقِفُ الْقِيَامَةِ خَمْسُونَ مَوْقِفًا كُلُّ مَوْقِفٍ أَلْفُ سَنَةٍ، فَيَكُونُ مَعْنَى يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ أَنَّهُ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي وَقْتٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، أَوْ مَوْقِفٍ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاقِفِ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ أَنَّهُ أَرَادَ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ الْمَسَافَةَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى الَّتِي هِيَ مَقَامُ جِبْرِيلَ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يَسِيرُ جِبْرِيلُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فِي مِقْدَارِ يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ سَمَاءِ الدُّنْيَا هُبُوطًا وَصُعُودًا، فَإِنَّهَا مِقْدَارُ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِدَادِ نَفَاذِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ نَفَذَ أَمْرُهُ غَايَةَ النَّفَاذِ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَانْقَطَعَ لَا يَكُونُ مِثْلَ مَنْ يَنْفُذُ أَمْرُهُ فِي سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ، فَقَوْلُهُ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ يَعْنِي: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي زَمَانٍ، يَوْمٌ مِنْهُ: أَلْفُ سَنَةٍ. فَكَمْ يَكُونُ الشَّهْرُ مِنْهُ؟ وَكَمْ تَكُونُ السَّنَةُ مِنْهُ؟ وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَفَ حَبْرُ الْأُمَّةِ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْآيَتَيْنِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِمَّا تَعُدُّونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيِ: الْعَالِمُ بِمَا غَابَ عَنِ الْخَلْقِ، وَمَا حَضَرَهُمْ. وَفِي هَذَا: مَعْنَى التَّهْدِيدِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إذا علم

_ (1) . التأويب: سير النهار كله إلى الليل، يقال: أوّب القوم تأويبا، أي ساروا إلى الليل، والبيت لسلامة بن جندل. [.....] (2) . المعارج: 4. (3) . هو شرمة بن الطفيل.

بِمَا يَغِيبُ وَمَا يَحْضُرُ، فَهُوَ مُجَازٍ لِكُلِّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، أَوْ: فَهُوَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ بِمَا تقضيه حِكْمَتُهُ الْعَزِيزُ الْقَاهِرُ الْغَالِبُ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ، وَهَذِهِ أَخْبَارٌ لِذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ هُوَ خَبَرٌ آخَرُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «خَلَقَهُ» بِفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ بِإِسْكَانِهَا، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ نَعْتًا لِشَيْءٍ، فَهُوَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، وَقَدِ اخْتَارَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ أبو عبيد، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِلْمُضَافِ، فَيَكُونُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: فَفِي نَصْبِهِ أَوْجُهٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ النُّحَاةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَعْنَى أَحْسَنَ: حَسَّنَ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ مَخْلُوقٌ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، فَكُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ حَسَنَةٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَخَلَقَهُ: هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى تَضْمِينِ أَحْسَنَ: مَعْنَى أَعْطَى، وَالْمَعْنَى: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ الَّذِي خَصَّهُ بِهِ. وَقِيلَ: عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى أَلْهَمَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَلْهَمَ خَلْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، أَيْ: خَلَقَهُ خَلْقًا كَقَوْلِهِ: صُنْعَ اللَّهِ «1» وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَالضَّمِيرُ: يَعُودُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَالْمَعْنَى أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ فِي خَلْقِهِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ خَلْقَ مَخْلُوقَاتِهِ، فَبَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَنَةً فِي نَفْسِهَا، فَهِيَ مُتْقَنَةٌ مَحْكَمَةٌ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَاهَا مَعْنَى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ «2» أَيْ: لَمْ يَخْلُقِ الْإِنْسَانَ عَلَى خَلْقِ الْبَهِيمَةِ، وَلَا خَلَقَ الْبَهِيمَةَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: هُوَ عُمُومٌ فِي اللَّفْظِ خُصُوصٌ فِي الْمَعْنَى، أَيْ: أَحْسَنَ خَلْقَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَنٍ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ يَعْنِي: آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ، فَصَارَ عَلَى صُورَةٍ بَدِيعَةٍ، وَشَكْلٍ حَسَنٍ جَعَلَ نَسْلَهُ أَيْ: ذُرِّيَّتَهُ مِنْ سُلالَةٍ سُمِّيَتِ الذُّرِّيَّةُ سُلَالَةً: لِأَنَّهَا تُسَلُّ مِنَ الْأَصْلِ، وَتَنْفَصِلُ عَنْهُ، وَقَدْ تقدم تفسيرها في سور الْمُؤْمِنِينَ وَمَعْنَى مِنْ ماءٍ مَهِينٍ مِنْ مَاءِ مُمْتَهَنٍ لَا خَطَرَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ وَهُوَ الْمَنِيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنْ مَاءٍ ضَعِيفٍ ثُمَّ سَوَّاهُ أَيِ: الْإِنْسَانُ الَّذِي بَدَأَ خَلْقَهُ مِنْ طِينٍ، وَهُوَ آدَمُ، أَوْ جَمِيعُ النَّوْعِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ عَدَّلَ خَلْقَهُ، وَسَوَّى شَكْلَهُ، وَنَاسَبَ بَيْنَ أَعْضَائِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ الْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ، وَالتَّكْرِيمِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ تُقَوِّي أَنَّ الْكَلَامَ فِي آدَمَ، لَا فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَإِنْ أَمْكَنَ تَوْجِيهُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمِيعِ. ثُمَّ خَاطَبَ جَمِيعَ النَّوْعِ فَقَالَ: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أَيْ: خَلَقَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَكْمِيلًا لِنِعْمَتِهِ عَلَيْكُمْ، وَتَتْمِيمًا لِتَسْوِيَتِهِ لِخَلْقِكُمْ حَتَّى تَجْتَمِعَ لَكُمُ النِّعَمُ، فَتَسْمَعُونَ كُلَّ مَسْمُوعٍ، وَتُبْصِرُونَ كُلَّ مُبْصِرٍ، وَتَتَعَقَّلُونَ كُلَّ مُتَعَقِّلٍ، وَتَفْهَمُونَ كُلَّ مَا يُفْهَمُ، وَأَفْرَدَ السَّمْعَ لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا يَشْمَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَخَصَّ السمع بذكر المصدر دون البصر، والفؤاد بذكرهما بِالِاسْمِ وَلِهَذَا جُمِعَا، لِأَنَّ السَّمْعَ قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَهَا مَحَلٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأُذُنُ وَلَا اخْتِيَارَ لَهَا فِيهِ، فَإِنَّ الصَّوْتَ يَصِلُ إِلَيْهَا، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَلَا عَلَى تَخْصِيصِ السَّمْعِ بِبَعْضِ الْمَسْمُوعَاتِ دُونَ بَعْضٍ بِخِلَافِ الْأَبْصَارِ فَمَحَلُّهَا الْعَيْنُ وَلَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ، فَإِنَّهَا تَتَحَرَّكُ إِلَى جَانِبِ الْمَرْئِيِّ دُونَ غَيْرِهِ، وَتُطْبِقُ أَجْفَانَهَا إِذَا لَمْ تُرِدِ الرُّؤْيَةَ لِشَيْءٍ وَكَذَلِكَ الْفُؤَادُ لَهُ نوع اختيار في إدراكه،

_ (1) . النمل: 88. (2) . طه: 50.

فَيَتَعَقَّلُ هَذَا دُونَ هَذَا، وَيُفْهَمُ هَذَا دُونَ هَذَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَبَدَأَ» بِالْهَمْزِ، وَالزُّهْرِيُّ بِأَلْفٍ خَالِصَةٍ بِدُونِ هَمْزٍ، وَانْتِصَابُ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: شُكْرًا قَلِيلًا، أَوْ صِفَةُ زَمَانٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: زَمَانًا قَلِيلًا. وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِكُفْرِهِمْ لِنِعَمِ اللَّهِ، وَتَرْكِهِمْ لِشُكْرِهَا إِلَّا فِيمَا نَدَرَ مِنَ الْأَحْوَالِ وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ قَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي هَذِهِ الْهَمْزَةِ، وَفِي الْهَمْزَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَالضَّلَالُ: الْغَيْبُوبَةُ، يُقَالُ: ضَلَّ الْمَيِّتُ فِي التُّرَابِ إِذَا غَابَ وَبَطَلَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلشَّيْءِ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى خَفِيَ أَثَرُهُ قَدْ ضَلَّ. وَمِنْهُ قَوْلٌ الْأَخْطَلِ: كُنْتُ الْقَذَى فِي موج أكدر مزبد ... قذف الأتيّ به فَضَلَّ ضَلَالًا قَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَى ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ: غِبْنَا فِي الْأَرْضِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «ضَلَلْنَا» بِفَتْحِ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ، وَلَامٍ مَفْتُوحَةٍ بِمَعْنَى: ذَهَبْنَا وَضِعْنَا، وَصِرْنَا تُرَابًا، وَغِبْنَا عَنِ الْأَعْيُنِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ «ضَلَلْنَا» بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهِيَ لُغَةُ الْعَالِيَةِ مِنْ نَجْدٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَأَهْلُ الْعَالِيَةِ يَقُولُونَ: ضَلَلْتُ بِالْكَسْرِ. قَالَ وَأَضَلَّهُ: أَيْ أَضَاعَهُ وَأَهْلَكَهُ، يُقَالُ ضَلَّ الْمَيِّتُ إِذَا دُفِنَ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ، وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ «صَلَلْنَا» بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ وَلَامٍ مَفْتُوحَةٍ: أَيْ أَنْتَنَّا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ صَلَلْنَا، وَلَكِنْ يُقَالُ: صَلَّ اللَّحْمُ: إِذَا أَنْتَنَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: صَلَّ اللَّحْمُ يَصِلُّ بِالْكَسْرِ صُلُولًا: إِذَا أَنْتَنَ، مَطْبُوخًا كَانَ أَوْ نَيِّئًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: ذَاكَ فَتًى يَبْذُلُ ذَا قِدْرِةٍ ... لَا يُفْسِدُ اللَّحْمَ لَدَيْهِ الصُّلُولُ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَيْ: نُبْعَثُ، وَنَصِيرُ أَحْيَاءً، وَالِاسْتِفْهَامُ: لِلِاسْتِنْكَارِ. وَهَذَا قَوْلُ مُنْكِرِي الْبَعْثِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَضْرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ بَيَانِ كُفْرِهِمْ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ إِلَى بَيَانِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ، فَقَالَ: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ أَيْ: جَاحِدُونَ لَهُ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا، فَإِنَّ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُ الْمُبْتَدِئُ لِلْخَلْقِ يَسْتَلْزِمُ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمُ الْحَقَّ وَيَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا زَعَمُوهُ مِنَ الْبَاطِلِ، فَقَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ يُقَالُ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ وَاسْتَوْفَى رُوحَهُ: إِذَا قَبَضَهُ إِلَيْهِ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ: هُوَ عِزْرَائِيلُ، وَمَعْنَى وُكِّلَ بِكُمْ: وُكِّلَ بِقَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ عِنْدَ حُضُورِ آجَالِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أَيْ: تَصِيرُونَ إِلَيْهِ أَحْيَاءً بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ لَا إِلَى غَيْرِهِ فَيُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ الْآيَةَ قَالَ: هَذَا في الدنيا تعرج الملائكة إليه فِي يَوْمٍ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: مِنَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فيها السموات وَالْأَرْضَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ فيروز مولى عثمان

[سورة السجده (32) : الآيات 12 إلى 22]

ابن عَفَّانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ فَيْرُوزَ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ. قَوْلُهُ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ فَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اتَّهَمَهُ فَقَالَ: مَا يَوْمٌ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ؟ قَالَ: إِنَّمَا سَأَلْتُكَ لِتُخْبِرَنِي، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ، فَضَرَبَ الدَّهْرُ مِنْ ضَرَبَاتِهِ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَى ابْنِ الْمُسَيَّبِ، فَسَأَلَهُ عَنْهُمَا إِنْسَانٌ فَلَمْ يُخْبِرْهُ وَلَمْ يَدْرِ. فَقُلْتُ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَا حَضَرْتُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ أَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنِّي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ فِي مِقْدَارِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَنْزِلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، وَلَوْ كَانَ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَفْرَغْ فِي خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِكُمْ هَذِهِ، وَمَسِيرَةُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال: أما رَأَيْتُ الْقِرَدَةَ لَيْسَتْ بِحَسَنَةٍ، وَلَكِنَّهُ أَحْكَمَ خَلْقَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: أَمَا إِنَّ اسْتَ الْقِرَدَةِ لَيْسَتْ بِحَسَنَةٍ وَلَكِنَّهُ أَحْكَمَ خَلْقَهَا، وَقَالَ خَلَقَهُ صُورَتُهُ. وَقَالَ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ الْقَبِيحُ وَالْحَسَنُ، وَالْعَقَارِبُ وَالْحَيَّاتُ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ، وَغَيْرُهُ لَا يُحْسِنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ لقينا عمرو ابن زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيَّ فِي حُلَّةٍ قَدْ أَسْبَلَ، فَأَخَذَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِنَاحِيَةِ ثَوْبِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَحْمَشُ السَّاقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمْرُو بْنَ زُرَارَةَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، يَا عَمْرُو بْنَ زُرَارَةَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُسْبِلِينَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: أَبْصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ رَجُلًا قَدْ أَسْبَلَ إِزَارَهُ، فَقَالَ: ارْفَعْ إِزَارَكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَحْنَفُ، تَصْطَكُّ رُكْبَتَايَ، فَقَالَ: ارْفَعْ إِزَارَكَ كُلُّ خَلْقِ الله حسن» . [سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 22] وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

قوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ المراد بالمجرمين: هم القائلون أإذا ضَلَلْنَا، وَالْخِطَابُ هُنَا لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُجْرِمِينَ: كُلُّ مُجْرِمٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أُولَئِكَ الْقَائِلُونَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَمَعْنَى: ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ مُطَأْطِئُوهَا حَيَاءً وَنَدَمًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَالْعِصْيَانِ لَهُ، وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّهِمْ: عِنْدَ مُحَاسَبَتِهِ لَهُمْ. قَالَ الزجاج: والمخاطبة للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُخَاطَبَةٌ لِأُمَّتِهِ، فَالْمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ مُنْكِرِي الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَأَيْتَ الْعَجَبَ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أَيْ: يَقُولُونَ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا الْآنَ مَا كُنَّا نُكَذِّبُ بِهِ، وَسَمِعْنَا مَا كنا ننكره، وقيل: أبصرنا صدق وعيدك وَسَمْعِنَا تَصْدِيقَ رُسُلِكَ، فَهَؤُلَاءِ أَبْصَرُوا حِينَ لَمْ يَنْفَعُهُمُ الْبَصَرُ، وَسَمِعُوا حِينَ لَمْ يَنْفَعُهُمُ السَّمْعُ فَارْجِعْنا إِلَى الدُّنْيَا نَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً كَمَا أَمَرْتَنَا إِنَّا مُوقِنُونَ أَيْ: مُصَدِّقُونَ، وَقِيلَ: مُصَدِّقُونَ بِالَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْإِيقَانِ الْآنَ طَمَعًا فِيمَا طَلَبُوهُ مِنْ إِرْجَاعِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّى لَهُمْ ذَلِكَ فَقَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «1» وَقِيلَ مَعْنَى: إِنَّا مُوقِنُونَ إِنَّهَا قَدْ زَالَتْ عَنْهُمُ الشُّكُوكُ الَّتِي كَانَتْ تُخَالِطُهُمْ فِي الدُّنْيَا لما رأوا ما رَأَوْا، وَسَمِعُوا مَا سَمِعُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا صِرْنَا مِمَّنْ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَفْعُولٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون صالحا مفعولا لنعمل، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا فَظِيعًا وَهَوْلًا هَائِلًا وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها هَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ لَمَّا طَلَبُوا الرَّجْعَةَ، أَيْ: لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسِ هُدَاهَا، فَهَدَيْنَا النَّاسَ جَمِيعًا فَلَمْ يَكْفُرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: فِي مَعْنَى هَذَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ: أَيْ وَلَوْ شِئْنَا لَرَدَدْنَاهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وجملة لو شِئْنَا: مُقَدَّرَةٌ بِقَوْلٍ مَعْطُوفٍ عَلَى الْمُقَدَّرِ قَبْلَ قَوْلِهِ: «أَبْصَرْنَا» أَيْ: وَنَقُولُ: لَوْ شِئْنَا، وَمَعْنَى: وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أَيْ: نَفَذَ قَضَائِي وَقَدَرِي، وَسَبَقَتْ كَلِمَتِي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي وَجَبَ مِنَ اللَّهِ، وَحَقَّ عَلَى عِبَادِهِ، وَنَفَذَ فِيهِ قَضَاؤُهُ، فَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يُعْطِي كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا، وَإِنَّمَا قَضَى عَلَيْهِمْ بِهَذَا، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَخْتَارُ الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالذَّوْقِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالْبَاءُ فِي «بِمَا نَسِيتُمْ» لِلسَّبَبِيَّةِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ تَعْذِيبَهُمْ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ سَبْقِ الْقَوْلِ الْمُتَقَدَّمِ، بَلْ بِذَاكَ وَهَذَا. وَاخْتُلِفَ فِي النِّسْيَانِ الْمَذْكُورِ هُنَا، فَقِيلَ: هُوَ النِّسْيَانُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يَزُولُ عِنْدَهُ الذِّكْرُ وَقِيلَ: هُوَ التَّرْكُ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: أَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا لِذَلِكَ الْيَوْمِ، فَكَانُوا كَالنَّاسِينَ لَهُ الَّذِينَ لَا يَذْكُرُونَهُ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ قَبْلَ لِقَاءَ، أَيْ: ذُوقُوا بِسَبَبِ تَرْكِكُمْ لِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ عَذَابَ لِقَاءِ يَوْمِكُمْ هَذَا، ورجح الثاني: المبرد وأنشد:

_ (1) . الأنعام: 28.

كأنه خارجا مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ ... سَفُّودُ شُرْبٍ نَسَوْهُ عِنْدَ مُفْتَأَدِ «1» أَيْ تَرَكُوهُ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، وَيَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: إِنَّ النِّسْيَانَ هُنَا: بِمَعْنَى التَّرْكِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: وَالْمَعْنَى: بِمَا تَرَكْتُمُ الْإِيمَانَ بِالْبَعْثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَرَكْنَاكُمْ مِنَ الْخَيْرِ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَرَكْنَاكُمْ فِي الْعَذَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا دَخَلُوا النَّارَ. قَالَتْ لَهُمُ الْخَزَنَةُ: ذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا نَسِيتُمْ، وَاسْتَعَارَ الذَّوْقَ لِلْإِحْسَاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ طُفَيْلٍ: فَذُوقُوا كما ذقنا غداة محجّر ... مِنَ الْغَيْظِ فِي أَكْبَادِنَا وَالتَّحَوُّبِ وَقَوْلُهُ: وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَكْرِيرٌ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ، أَيْ: ذُوقُوا الْعَذَابَ الدَّائِمَ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى اللِّقَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْيَوْمِ، وَأَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْعَذَابِ، وَجُمْلَةُ: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِنَّمَا يُصَدِّقُ بِآيَاتِنَا وَيَنْتَفِعُ بِهَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً لَا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُذَكَّرُ بِهَا، أَيْ: يُوعَظُ بِهَا وَلَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يُؤْمِنُ بِهَا، وَمَعْنَى «خَرُّوا سُجَّدًا» سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ سَاجِدِينَ تَعْظِيمًا لِآيَاتِ اللَّهِ، وَخَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ وَعَذَابِهِ: وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أَيْ: نَزَّهُوهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ متلبسين بِحَمْدِهِ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي أَجَلُّهَا وَأَكْمَلُهَا: الْهِدَايَةُ إِلَى الْإِيمَانِ، وَالْمَعْنَى: قَالُوا فِي سُجُودِهِمْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، أَوْ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: الْمَعْنَى: صَلُّوا حَمْدًا لِرَبِّهِمْ، وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ خَاضِعِينَ لِلَّهِ، مُتَذَلِّلِينَ لَهُ غَيْرَ مُسْتَكْبِرِينَ عَلَيْهِ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أَيْ: تَرْتَفِعُ وَتَنْبُو يُقَالُ: جَفَى الشَّيْءُ عَنِ الشَّيْءِ، وَتَجَافَى عَنْهُ: إِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ وَنَبَا عَنْهُ، وَالْمَضَاجِعُ: جَمْعُ الْمَضْجَعِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَضْطَجِعُ فِيهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالرُّمَّانِيُّ: التَّجَافِي وَالتَّجَفِّي إِلَى جِهَةِ فَوْقُ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الصَّفْحِ عَنِ الْمُخْطِئِ فِي سَبٍّ وَنَحْوِهِ، وَالْجُنُوبُ: جَمْعُ جَنْبٍ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُتَجَافِيَةً جُنُوبُهُمْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ، وَهُمُ الْمُتَهَجِّدُونَ فِي اللَّيْلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ لِلصَّلَاةِ عَنِ الْفِرَاشِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالْجُمْهُورُ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ صَلَاةُ التَّنَفُّلِ، بِاللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ التَّنَفُّلُ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقِيلَ: صَلَاةُ الْعِشَاءِ فَقَطْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ لِذِكْرِ اللَّهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا مِنْ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي جُنُوبِهِمْ، فَهِيَ حَالٌ بَعْدَ حَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ طَاعَاتِهِمْ، وَالْمَعْنَى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ دَاعِينَ رَبَّهُمْ خوفا من عذابه، وطمعا في رحمته

_ (1) . السّفود: حديدة يشوى عليها اللحم. والشّرب: جماعة القوم يشربون. والمفتأد: موضع النار الذي يشوى فيه. والبيت من معلقة النابغة الذبياني.

وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أَيْ: مِنَ الَّذِي رَزَقْنَاهُمْ أَوْ مِنْ رِزْقِهِمْ، وَذَلِكَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ، وَقِيلَ: صَدَقَةُ النَّفْلِ، وَالْأَوْلَى: الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ، وَانْتِصَابُ خوفا وطمعا: على العلة، ويجوز أن يكونا مَصْدَرَيْنِ مُنْتَصِبَيْنِ بِمُقَدَّرٍ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ: لَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مِنَ النُّفُوسِ- أَيُّ نَفْسٍ كَانَتْ- مَا أَخَفَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بما تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ قُرَّةِ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ «مِنْ قُرَّاتِ» بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ مَا أُخْفِيَ بِسُكُونِ الْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «مَا نُخْفِي» بِالنُّونِ مَضْمُومَةً، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «يُخْفِي» بِالتَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَةً. قَالَ الزَّجَّاجُ فِي مَعْنَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ، أَيْ: مِنْهُ مَا أَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ، وَهِيَ قراءة محمّد بن كعب، و «ما» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ فَقَالَ: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: لِأَجْلِ الْجَزَاءِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ جُوزُوا جَزَاءً بِذَلِكَ أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً الِاسْتِفْهَامُ: لِلْإِنْكَارِ؟ أَيْ: لَيْسَ الْمُؤْمِنُ كَالْفَاسِقِ فَقَدْ ظَهَرَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ، وَلِهَذَا قَالَ: لَا يَسْتَوُونَ فَفِيهِ زِيَادَةُ تَصْرِيفٍ لِمَا أَفَادَهُ الْإِنْكَارُ الَّذِي أَفَادَهُ الِاسْتِفْهَامُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: جَعَلَ الِاثْنَيْنِ جَمَاعَةً حَيْثُ قَالَ: لَا يَسْتَوُونَ لِأَجْلِ مَعْنَى مِنْ، وَقِيلَ: لِكَوْنِ الِاثْنَيْنِ أَقَلَّ الْجَمْعِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِهَا آخِرَ الْبَحْثِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عَاقِبَةَ حَالِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَبَدَأَ بِالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى قَرَأَ الْجُمْهُورُ «جَنَّاتُ» بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ «جَنَّةُ الْمَأْوَى» بِالْإِفْرَادِ، وَالْمَأْوَى هُوَ الَّذِي يَأْوُونَ إِلَيْهِ، وَأَضَافَ الْجَنَّاتِ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ الْمَأْوَى الْحَقِيقِيَّ، وَقِيلَ: الْمَأْوَى جَنَّةٌ مِنَ الْجَنَّاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا، وَمَعْنَى: نُزُلًا أَنَّهَا مُعَدَّةٌ لَهُمْ عِنْدَ نُزُولِهِمْ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَا يُعَدُّ لِلنَّازِلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ «نُزْلًا» بِسُكُونِ الزَّايِ، وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ، أَوْ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْفَرِيقَ الْآخَرَ فَقَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أَيْ: خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَتَمَرَّدُوا عَلَيْهِ وَعَلَى رُسُلِهِ فَمَأْواهُمُ النَّارُ أَيْ: مَنْزِلُهُمُ الَّذِي يَصِيرُونَ إِلَيْهِ، وَيَسْتَقِرُّونَ فِيهِ هُوَ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها أَيْ: إِذَا أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا رُدُّوا إِلَيْهَا راغمين مكرهين، وقيل: إذا دَفَعَهُمُ اللَّهَبُ إِلَى أَعْلَاهَا رُدُّوا إِلَى مَوَاضِعِهِمْ وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَالْقَائِلُ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ: هُوَ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوِ الْقَائِلُ لَهُمْ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ لَهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ قَدْ صَارُوا فِي النَّارِ مِنَ الْإِغَاظَةِ لَهُمْ مَا لَا يَخْفَى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى وَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا. قَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ وَالنَّخَعِيُّ: هُوَ مَصَائِبُ الدُّنْيَا، وَأَسْقَامُهَا، وَقِيلَ: الْحُدُودُ، وَقِيلَ: الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ يوم بدر، وقيل: سنين الْجُوعِ بِمَكَّةَ، وَقِيلَ: عَذَابُ الْقَبْرِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْجَمِيعِ دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي بِسَبَبِ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَيَتُوبُونَ عَمَّا كَانُوا فِيهِ. وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَذَابَ الْأَدْنَى هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ سَمِعَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَا يُوجِبُ الْإِقْبَالَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَجَعَلَ الْإِعْرَاضَ مَكَانَ ذَلِكَ، وَالْمَجِيءُ بِثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِبْعَادِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْإِجْرَامِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا نَسِيناكُمْ قَالَ: تَرَكْنَاكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً أَيْ: أَتَوْهَا وَسَبَّحُوا أَيْ: صَلُّوا بِأَمْرِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ إِتْيَانِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَاتِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ نَزَلَتْ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُدْعَى الْعَتَمَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانُوا لَا يَنَامُونَ حَتَّى يُصَلُّوا الْعِشَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نَجْتَنِبُ الْفَرْشَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاقِدًا قَطُّ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَلَا مُتَحَدِّثًا بَعْدَهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَنَامُونَ قَبْلَ الْعِشَاءِ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ جَعَلَ الرَّجُلُ يَعْتَزِلُ فِرَاشَهُ مَخَافَةَ أَنْ تَغْلِبَهُ عَيْنُهُ، فَوَقْتُهَا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ الصَّغِيرُ، وَيَكْسَلَ الْكَبِيرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ بِلَالٍ قَالَ: كُنَّا نَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ الْعِشَاءَ، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ قَالَ: كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ يُصَلُّونَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ معاذ ابن جبل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي قَوْلِهِ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ قَالَ: قِيَامُ الْعَبْدِ مِنَ اللَّيْلِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَابْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشعب عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ حَدِيثًا وَأَرْشَدَ فِيهِ إِلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الطَّاعَاتِ وَقَالَ فِيهِ: «وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَرَأَ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فِي حَدِيثٍ قَالَ فِيهِ: «وَصَلَاةُ الْمَرْءِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ لَا تَمُرُّ عَلَيْهِمْ لَيْلَةٌ إِلَّا أَخَذُوا مِنْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: «إِذَا حُشِرَ النَّاسُ نَادَى مُنَادٍ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ أَيْنَ الَّذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ» الْحَدِيثَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ يَقُولُ: تَتَجَافَى لِذِكْرِ اللَّهِ كُلَّمَا اسْتَيْقَظُوا ذَكَرُوا اللَّهَ، إِمَّا فِي الصَّلَاةِ، وَإِمَّا فِي القيام أو القعود. أَوْ عَلَى جُنُوبِهِمْ لَا يَزَالُونَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَرْشُ اللَّهِ عَلَى الْمَاءِ فَاتَّخَذَ جَنَّةً لِنَفْسِهِ، ثُمَّ اتَّخَذَ دُونَهَا أُخْرَى، ثُمَّ أَطْبَقَهُمَا بِلُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ، ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ «1» لَمْ يُعْلِمِ الْخَلْقَ مَا فِيهِمَا. وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ تَأْتِيهِمْ مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ تُحْفَةٌ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: لَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لِلَّذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ: مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَا يَعْلَمُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنَّهُ لَفِي الْقُرْآنِ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» . وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ الْأَغَانِي، وَالْوَاحِدِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَا أَحَدُّ مِنْكَ سِنَانًا، وَأَنْشَطُ مِنْكَ لِسَانًا، وَأَمْلَأُ لِلْكَتِيبَةِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: اسْكُتْ فَإِنَّمَا أَنْتَ فَاسِقٌ، فَنَزَلَتْ أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ يَعْنِي بِالْمُؤْمِنِ: عَلِيًّا، وَبِالْفَاسِقِ: الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ نَحْوَهُ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَالسُّدِّيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ مَنِيعٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَالَ: لَعَلَّ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَنْ يَتُوبَ فَيَرْجِعَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْعَذَابُ الْأَدْنَى سُنُونَ أَصَابَتْهُمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَالَ: يَتُوبُونَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمَسْنَدِ، وَأَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى قَالَ: مَصَائِبُ الدُّنْيَا، وَالرُّومُ، وَالْبَطْشَةُ، وَالدُّخَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى قَالَ: الْحُدُودُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَالَ: يَتُوبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنِيعٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ أَجْرَمَ:

_ (1) . الرحمن: 62.

[سورة السجده (32) : الآيات 23 إلى 30]

مَنْ عَقَدَ لِوَاءً فِي غَيْرِ حَقٍّ، أَوْ عَقَّ وَالِدَيْهِ، أَوْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ لِيَنْصُرَهُ فَقَدْ أَجْرَمَ، يَقُولُ اللَّهُ: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غريب. [سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أَيْ: التَّوْرَاةَ فَلا تَكُنْ يَا مُحَمَّدُ فِي مِرْيَةٍ أَيْ: شَكٍّ وَرِيبَةٍ مِنْ لِقائِهِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وُعِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَيَلْقَى مُوسَى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، ثُمَّ لَقِيَهُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ. وَقِيلَ: فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَاءِ مُوسَى فِي الْقِيَامَةِ وَسَتَلْقَاهُ فِيهَا. وَقِيلَ: فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَاءِ مُوسَى لِلْكِتَابِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ مَعْنَاهُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَكُذِّبَ وَأُوذِيَ، فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ أَنَّهُ سَيَلْقَاكَ مَا لَقِيَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْأَذَى، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي لِقَائِهِ عَلَى هَذَا عَائِدًا عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى: مِنْ لِقَاءِ مَا لَاقَى مُوسَى. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تقديم وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ، فَجَاءَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَبَيْنَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْفُرْقَانُ كقوله: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ «1» وَالْمَعْنَى: إِنَّا آتَيْنَا مُوسَى مِثْلَ مَا آتَيْنَاكَ مِنَ الْكِتَابِ، وَلَقَّيْنَاهُ مِثْلَ مَا لَقَّيْنَاكَ مِنَ الْوَحْيِ فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ أَنَّكَ لُقِّيتَ مِثْلَهُ وَنَظِيرَهُ، وَمَا أَبْعَدَ هَذَا، وَلَعَلَّ الْحَامِلَ لِقَائِلِهِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ فَإِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي لِقَائِهِ عَائِدٌ إِلَى الرُّجُوعِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أَيْ: لَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ الرجوع، وهذا بعيد أيضا. واختلف فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناهُ فَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ، أَيْ: جَعَلْنَا التَّوْرَاةَ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مُوسَى، أَيْ: وَجَعَلْنَا مُوسَى هُدًى لِبَنِي إسرائيل وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً أي: قتادة يَقْتَدُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ «أَئِمَّةً» قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ لَحْنٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ، لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَعْنَى يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أَيْ: يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْهِدَايَةِ بِمَا يُلْقُونَهُ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَمَوَاعِظِهَا بِأَمْرِنَا، أَيْ: بِأَمْرِنَا لَهُمْ بِذَلِكَ، أَوْ لِأَجْلِ أمرنا. وقال قتادة: المراد

_ (1) . النمل: 6.

بِالْأَئِمَّةِ: الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: الْعُلَمَاءُ لَمَّا صَبَرُوا قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَمَّا» بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: حِينَ صَبَرُوا، وَالضَّمِيرُ: لِلْأَئِمَّةِ، وَفِي: لَمَّا، مَعْنَى الْجَزَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا صَبَرُوا جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، وَوَرْشٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً لِصَبْرِهِمْ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ مُسْتَدِلًّا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «بِمَا صَبَرُوا» بِالْبَاءِ، وَهَذَا الصَّبْرُ هُوَ صَبْرُهُمْ عَلَى مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ، وَالْهِدَايَةِ لِلنَّاسِ، وَقِيلَ: صَبَرُوا عَنِ الدُّنْيَا وَكانُوا بِآياتِنا التَّنْزِيلِيَّةِ يُوقِنُونَ أَيْ: يُصَدِّقُونَهَا، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا حَقٌّ، وَأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَزِيدِ تَفَكُّرِهِمْ، وَكَثْرَةِ تَدَبُّرِهِمْ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أَيْ: يَقْضِي بَيْنَهُمْ، وَيَحْكُمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَقِيلَ: يَقْضِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ، حَكَاهُ النقاش أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي: أو لم يُبَيَّنْ لَهُمْ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاعِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ أي: أو لم نُبَيِّنْ لَهُمْ كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا مَنْ قَبْلَهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِيَهْدِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْفَاعِلَ الْهُدَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِيَهْدِ: أي: أو لم يَهْدِ لَهُمُ الْهُدَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَمْ فِي موضع نصب بأهلكنا، قرأ الجمهور «أو لم يَهْدِ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو زَيْدٍ عَنْ يَعْقُوبَ بِالنُّونِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَاضِحَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِيهَا إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ يُقَالُ: الْفِعْلُ لَا يَخْلُو مِنْ فَاعِلٍ فَأَيْنَ الْفَاعِلُ لِيَهْدِ؟ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْقُرُونِ: عَادٌ وَثَمُودُ وَنَحْوُهُمْ، وَجُمْلَةُ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَهُمْ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِ الْمُهْلَكِينَ وَيُشَاهِدُونَهَا، وَيَنْظُرُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَآثَارِ الْعَذَابِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الْمُهْلَكِينَ، وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَاهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مَاشِينَ فِي مَسَاكِنِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِنَّ فِي ذلِكَ الْمَذْكُورِ لَآياتٍ عظيمات أَفَلا يَسْمَعُونَ ها وَيَتَّعِظُونَ بِهَا أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي: أو لم يَعْلَمُوا بِسَوْقِنَا الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَا تَنْبُتُ إِلَّا بِسَوْقِ الْمَاءِ إِلَيْهَا؟ وَقِيلَ: هِيَ الْيَابِسَةُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَرْزِ: وَهُوَ الْقَطْعُ، أَيِ: الَّتِي قُطِعَ نَبَاتُهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ، وَلَا يُقَالُ لِلَّتِي لَا تُنْبِتُ أَصْلًا كَالسِّبَاخِ جُرُزٌ لِقَوْلِهِ: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً قِيلَ: هِيَ أَرْضُ الْيَمَنِ، وَقِيلَ: أَرْضُ عَدَنٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الْأَرْضُ الْعَطْشَى، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: يَبْعُدُ أَنْ تكن لأرض بِعَيْنِهَا لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ جَرُوزٌ: إِذَا كَانَ لَا يُبْقِي شَيْئًا إِلَّا أَكَلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: خِبٌّ جَرُوزٌ وَإِذَا جَاعَ بَكَى ... وَيَأْكُلُ التَّمْرَ وَلَا يُلْقِي النَّوَى وَكَذَلِكَ نَاقَةٌ جَرُوزٌ: إِذَا كَانَتْ تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ تَجِدُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهَا أَرْضُ النِّيلِ، لِأَنَّ الْمَاءَ إِنَّمَا يَأْتِيهَا فِي كُلِّ عَامٍ فَنُخْرِجُ بِهِ أَيْ: بِالْمَاءِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ أَيْ: مِنَ الزَّرْعِ كَالتِّبْنِ، وَالْوَرَقِ، وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَأَنْفُسُهُمْ أَيْ: يَأْكُلُونَ الْحُبُوبَ الْخَارِجَةَ فِي الزَّرْعِ مِمَّا يَقْتَاتُونَهُ، وَجُمْلَةُ تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَفَلا يُبْصِرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ وَيَشْكُرُونَ الْمُنْعِمَ، وَيُوَحِّدُونَهُ لِكَوْنِهِ الْمُنْفَرِدَ بِإِيجَادِ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الْقَائِلُونَ: هُمُ الْكُفَّارُ عَلَى الْعُمُومِ،

أَوْ كُفَّارُ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ، أَيْ: مَتَى الفتح الذي تعدونا بِهِ، يَعْنُونَ بِالْفَتْحِ: الْقَضَاءَ، وَالْفَصْلَ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ الَّذِي يَقْضِي اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ والقتبي: هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ. قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ أَصْحَابُ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِلْكُفَّارِ: إِنَّ لَنَا يَوْمًا نَنْعَمُ فِيهِ، وَنَسْتَرِيحُ، وَيَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، يَعْنُونَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ الْكُفَّارُ: مَتَى هَذَا الْفَتْحُ؟ وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ: إِنَّ اللَّهَ نَاصِرُنَا وَمُظْهِرُنَا عَلَيْكُمْ، وَمَتَى فِي قَوْلِهِ: مَتى هذَا الْفَتْحُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْفَتْحِ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ يَوْمَ فتح مكة ويوم بدرهما مِمَّا يَنْفَعُ فِيهِ الْإِيمَانُ، وَقَدْ أَسْلَمَ أَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَمَعْنَى: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ لَا يُمْهَلُونَ، وَلَا يُؤَخَّرُونَ، وَيَوْمَ فِي يَوْمَ الْفَتْحِ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الرَّفْعَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيْ: عَنْ سَفَهِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَلَا تُجِبْهُمْ إِلَّا بِمَا أُمِرْتَ بِهِ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أَيْ: وَانْتَظِرْ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَوْ يَوْمُ إِهْلَاكِهِمْ بِالْقَتْلِ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ بِكَ حَوَادِثَ الزَّمَانِ مِنْ مَوْتٍ، أَوْ قَتْلٍ، أَوْ غَلَبَةٍ كقوله: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ «1» وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، إِذْ قَدْ يَقَعُ الْإِعْرَاضُ مَعَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. وَقَرَأَ ابن السميقع «إِنَّهُمْ مُنْتَظَرُونَ» بِفَتْحِ الظَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَصِحُّ هَذَا إِلَّا بِإِضْمَارٍ، أَيْ: إِنَّهُمْ مُنْتَظَرٌ بِهِمْ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الصَّحِيحُ الْكَسْرُ، أَيِ: انْتَظِرْ عَذَابَهُمْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ هَلَاكَكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا طَوِيلًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطَ الرَّأْسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ جَهَنَّمَ وَالدَّجَّالَ» فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ فَكَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَقِيَ مُوسَى وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ مُوسَى هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ بِسَنَدٍ قَالَ السُّيُوطِيُّ: صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ قَالَ: مِنْ لِقَاءِ مُوسَى، قِيلَ أَوَ لَقِيَ مُوسَى؟ قَالَ: نَعَمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا «2» وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ قَالَ: الْجُرُزُ الَّتِي لَا تُمْطَرُ إِلَّا مَطَرًا لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا إِلَّا مَا يَأْتِيهَا مِنَ السُّيُولِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ قَالَ: أَرْضٌ بِالْيَمَنِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالْإِسْنَادُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قَالَ: يَوْمُ بَدْرٍ فُتِحَ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَلَمْ يَنْفَعِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ بَعْدَ الموت.

_ (1) . التوبة: 52. (2) . الزخرف: 45.

سورة الأحزاب

سُورَةِ الْأَحْزَابِ أَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالنَّحَّاسُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالطَّيَالِسِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَابْنُ مَنِيعٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ زِرٍّ قَالَ: قَالَ لِي أُبَيُّ بْنُ كعب كأين تَقْرَأُ سُورَةَ الْأَحْزَابِ؟ أَوْ كَأَيِّنْ تَعُدُّهَا؟ قُلْتُ: ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آيَةً، فَقَالَ أَقَطُّ؟ لَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَتُعَادِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَلَقَدْ قَرَأْنَا فِيهَا «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» فَرُفِعَ فِيمَا رُفِعَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَامَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ» وَرَجَمَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ نَحْوُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَمْ تَعُدُّونَ سُورَةَ الْأَحْزَابِ؟ قُلْتُ: ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ قَالَ: إِنْ كَانَتْ لَتُقَارِبُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا لَآيَةُ الرَّجْمِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ في تاريخه عن حذيفة قَالَ: قَرَأْتُ سُورَةَ الْأَحْزَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسِيتُ مِنْهَا سَبْعِينَ آيَةً مَا وَجَدْتُهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْفَضَائِلِ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَتْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ تُقْرَأُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَتَيْ آيَةٍ، فَلَمَّا كَتَبَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ لم يقدّر مِنْهَا إِلَّا عَلَى مَا هُوَ الْآنَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)

قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ أَيْ: دُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَازْدَدْ مِنْهُ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَمَنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ كُفْرِهِمْ وَالْمُنافِقِينَ أَيِ: الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّهُ أَرَادَ سُبْحَانَهُ بِالْكَافِرِينَ: أَبَا سُفْيَانَ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: ارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا، وَقُلْ: إِنَّ لَهَا شَفَاعَةً لِمَنْ عَبَدَهَا. قَالَ: وَالْمُنَافِقِينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. وَسَيَأْتِي آخِرَ الْبَحْثِ بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أي: كثير العلم والحكمة بليغهم، قَالَ النَّحَّاسُ: وَدَلَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَمِيلُ إِلَيْهِمْ: يعني النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ اسْتِدْعَاءً لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَوْ عَلِمَ أَنَّ مَيْلَكَ إِلَيْهِمْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَمَا نَهَاكَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ حَكِيمٌ، وَلَا يَخْفَى بُعْدَ هَذِهِ الدَّلَالَةِ الَّتِي زَعَمَهَا، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَالنَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَأْمُرُكَ أَوْ يَنْهَاكَ إِلَّا بِمَا عَلِمَ فِيهِ صَلَاحًا، أَوْ فَسَادًا لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ، وَسَعَةِ حِكْمَتِهِ وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ مِنَ الْقُرْآنِ: أَيِ: اتَّبِعِ الْوَحْيَ فِي كُلِّ أُمُورِكَ، وَلَا تَتَّبِعْ شَيْئًا مِمَّا عَدَاهُ مِنْ مَشُورَاتِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَلَا مِنَ الرَّأْيِ الْبَحْتِ، فَإِنَّ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مَا يُغْنِيكَ عَنْ ذَلِكَ، وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تَعْلِيلٌ لِأَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إليك، والأمر له صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَمْرٌ لِأُمَّتِهِ، فَهُمْ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ، كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِهِ، وَلِهَذَا جَاءَ بِخِطَابِهِ، وَخِطَابِهِمْ فِي قَوْلِهِ: بِما تَعْمَلُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْفَوْقِيَّةِ لِلْخِطَابِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالسُّلَمِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَيِ: اعْتَمِدْ عَلَيْهِ وَفَوِّضْ أُمُورَكَ إِلَيْهِ، وَكَفَى بِهِ حَافِظًا يَحْفَظُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَثَلًا تَوْطِئْةً وَتَمْهِيدًا لِمَا يَتَعَقَّبُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْقُرْآنِيَّةِ، الَّتِي هِيَ مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ فَقَالَ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقِيلَ: هِيَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُظَاهِرِ، أَيْ: كَمَا لَا يَكُونُ لِلرَّجُلِ قَلْبَانِ كَذَلِكَ لَا تَكُونُ امْرَأَةُ الْمُظَاهِرِ أُمَّهُ حَتَّى يَكُونَ لَهُ أُمَّانِ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ الدَّعِيُّ ابْنًا لِرَجُلَيْنِ. وَقِيلَ: كَانَ الْوَاحِدُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ: لِي قَلْبٌ يَأْمُرُنِي بِكَذَا وَقَلْبٌ بِكَذَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ لِرَدِّ النِّفَاقِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِسْلَامِ، كَمَا لَا يَجْتَمِعُ قَلْبَانِ، وَالْقَلْبُ بِضْعَةٌ صَغِيرَةٌ عَلَى هَيْئَةِ الصَّنَوْبَرَةِ خَلَقَهَا اللَّهُ، وَجَعَلَهَا مَحَلًّا لِلْعِلْمِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ «اللَّائِي» : بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ هَمْزَةٍ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَالبَزِّيُّ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ أَلِفٍ مَحْضَةٍ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: إِنَّهَا لُغَةُ قُرَيْشٍ الَّتِي أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَقْرَءُوا بِهَا، وَقَرَأَ قُنْبُلٌ وَوَرْشٌ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بِدُونِ يَاءٍ. قَرَأَ عَاصِمٌ تُظَاهِرُونَ بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ، وَكَسْرِ الْهَاءِ بَعْدَ أَلِفِ مُضَارِعِ ظَاهَرَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْهَاءِ، وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ مُضَارِعِ تَظَاهَرَ، وَالْأَصْلُ تَتَظَاهَرُونَ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «تَظَّهَّرُونَ» بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ بِدُونِ أَلِفٍ، وَالْأَصْلُ: تَتَظَهَّرُونَ، وَالظِّهَارُ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَالْمَعْنَى: وَمَا جَعَلَ اللَّهُ نِسَاءَكُمُ اللَّائِي تَقُولُونَ لَهُنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَأُمَّهَاتِكُمْ فِي التَّحْرِيمِ، ولكنه منكر من القول وزور وَكذلك ما جَعَلَ الأدعياء الذين تدّعون أنهم أَبْناءَكُمْ أَبْنَاءً لَكُمْ، وَالْأَدْعِيَاءُ جَمْعُ دَعِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي

يَدَّعِي ابْنًا لِغَيْرِ أَبِيهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الظِّهَارِ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ ذِكْرِ الظِّهَارِ وَالِادِّعَاءِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا مُجَرَّدَ قَوْلٍ بِالْأَفْوَاهِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ، فَلَا تَصِيرُ الْمَرْأَةُ بِهِ أُمًّا، وَلَا ابْنُ الْغَيْرِ بِهِ ابْنًا، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأُمُومَةِ وَالْبُنُوَّةِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الِادِّعَاءِ، أَيِ: ادِّعَاؤُكُمْ أَنَّ أَبْنَاءَ الْغَيْرِ أَبْنَاؤُكُمْ: لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ قَوْلٍ بِالْفَمِ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ الَّذِي يَحِقُّ اتِّبَاعُهُ لِكَوْنِهِ حَقًّا فِي نَفْسِهِ لَا بَاطِلًا، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ دُعَاءُ الْأَبْنَاءِ لِآبَائِهِمْ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أَيْ: يَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَفِي هَذَا إِرْشَادٌ لِلْعِبَادِ إِلَى قَوْلِ الْحَقِّ، وَتَرْكِ قَوْلِ الْبَاطِلِ وَالزُّورِ. ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِمَا يَجِبُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ دُعَاءِ الْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ فَقَالَ: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ لِلصُّلْبِ، وَانْسُبُوهُمْ إِلَيْهِمْ، وَلَا تَدْعُوهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَجُمْلَةُ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ: تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِدُعَاءِ الْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَصْدَرِ ادعوهم، ومعنى أقسط: أَيْ: أَعْدَلُ كُلِّ كَلَامٍ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، فَتَرَكَ الْإِضَافَةَ لِلْعُمُومِ كَقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَدَّرًا خَاصًّا، أَيْ: أَعْدَلُ مِنْ قَوْلِكُمْ: هُوَ ابْنُ فُلَانٍ، وَلَمْ يَكُنِ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ. ثُمَّ تَمَّمَ سُبْحَانَهُ الْإِرْشَادَ لِلْعِبَادِ فَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَهُمْ مَوَالِيكُمْ، فَقُولُوا: أَخِي وَمَوْلَايَ، وَلَا تَقُولُوا ابْنُ فلان، حيث لم تعلموا آباءهم على الحقيقة. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوَالِيكُمْ: أَوْلِيَاءَكُمْ فِي الدِّينِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَإِنْ كَانُوا مُحَرَّرِينَ وَلَمْ يَكُونُوا أَحْرَارًا، فَقُولُوا مَوَالِي فُلَانٍ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أَيْ: لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ فِيمَا وَقَعَ مِنْكُمْ مِنْ ذَلِكَ خَطَأً مِنْ غَيْرِ عَمْدٍ، وَلكِنْ الْإِثْمُ فِي مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَهُوَ مَا قُلْتُمُوهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَمْدِ مِنْ نِسْبَةِ الْأَبْنَاءِ إِلَى غَيْرِ آبَائِهِمْ مَعَ عِلْمِكُمْ بِذَلِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: لَوْ دَعَوْتَ رَجُلًا لِغَيْرِ أَبِيهِ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ أَبُوهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ بَأْسٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يَغْفِرُ لِلْمُخْطِئِ وَيَرْحَمُهُ وَيَتَجَاوَزُ عَنْهُ، أَوْ غَفُورًا لِلذُّنُوبِ رَحِيمًا بِالْعِبَادِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَغْفِرُ لَهُ وَيَرْحَمُهُ مَنْ دَعَا رَجُلًا لِغَيْرِ أَبِيهِ خَطَأً. أَوْ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ مَزِيَّةً عَظِيمَةً، وَخُصُوصِيَّةً جَلِيلَةً لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْعِبَادِ فَقَالَ: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ: هُوَ أَحَقُّ بِهِمْ فِي كُلِّ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْثِرُوهُ بِمَا أَرَادَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُحِبُّوهُ زِيَادَةً عَلَى حُبِّهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَدِّمُوا حُكْمَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى حُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذَا دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِشَيْءٍ، وَدَعَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى غَيْرِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَدِّمُوا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَيُؤَخِّرُوا مَا دَعَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَوْقَ طَاعَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيُقَدِّمُوا طَاعَتَهُ عَلَى مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ، وَتَطْلُبُهُ خَوَاطِرُهُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَنْفُسِهِمْ فِي الْآيَةِ: بَعْضُهُمْ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ النَّبِيَّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَقِيلَ: هِيَ خَاصَّةٌ بِالْقَضَاءِ، أَيْ: هُوَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فِيمَا قَضَى بِهِ بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ أَوْلَى بِهِمْ فِي الْجِهَادِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ دُونَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أَيْ: مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ فِي الْحُكْمِ بِالتَّحْرِيمِ، وَمُنَزَّلَاتٌ مَنْزِلَتَهُنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّعْظِيمِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهِ، فَهَذِهِ الْأُمُومَةُ مُخْتَصَّةٌ بتحريم

النِّكَاحِ لَهُنَّ، وَبِالتَّعْظِيمِ لِجَنَابِهِنَّ، وَتَخْصِيصُ الْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُنَّ لَسْنَ أُمَّهَاتِ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا بَنَاتُهُنَّ أَخَوَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا إِخْوَتُهُنَّ أَخْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» وَهَذَا يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ ضَرُورَةً. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ» وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَبٌ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ» ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ القرابة أولى ببعضهم البعض فقال: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَرْحَامِ: الْقَرَابَاتُ، أَيْ: هُمْ أَحَقُّ بِبَعْضِهِمُ الْبَعْضِ فِي الْمِيرَاثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَهِيَ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، مِنَ التَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ وَالْمُوَالَاةِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا «1» فَتَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بِالْهِجْرَةِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِلتَّوَارُثِ بِالْحَلِفِ وَالْمُؤَاخَاةِ فِي الدِّينِ، وفِي كِتابِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَفْعَلَ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: أَوْلى بِبَعْضٍ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ، أَيْ: كَائِنًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، أَوِ الْقُرْآنُ، أَوْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ، وَقَوْلُهُ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَجُوزُ أَنْ يكون بيانا ل أُولُوا الْأَرْحامِ، والمعنى: أن ذوي القرابات من لمؤمنين وَالْمُهاجِرِينَ بعضهم أولى بعض، ويجوز أن يتعلق بأولى: أي: وأولو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ الذين هُمْ أَجَانِبُ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَأُولُو الأرحام بعضهم أَوْلَى بِبَعْضٍ، إِلَّا مَا يَجُوزُ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ كَوْنِهِمْ كَالْأُمَّهَاتِ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ، وَفِي هَذَا مِنَ الضَّعْفِ مَا لَا يَخْفَى إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا مُتَّصِلٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، وَالتَّقْدِيرُ: أولو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. قَالَهُ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: نَزَلَتْ فِي إِجَازَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، فَالْكَافِرُ وَلِيٌّ فِي النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ، فَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا، وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ فِعْلَ الْمَعْرُوفِ لِلْأَوْلِيَاءِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَمَعْنَى الآية: أن لله سُبْحَانَهُ لَمَّا نَسَخَ التَّوَارُثَ بِالْحَلِفِ وَالْهِجْرَةِ أَبَاحَ أَنْ يُوصَى لَهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِالْمَعْرُوفِ النُّصْرَةَ وَحِفْظَ الْحُرْمَةَ بِحَقِّ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كانَ ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، أَيْ: كَانَ نَسْخُ الْمِيرَاثِ بِالْهِجْرَةِ، وَالْمُحَالَفَةِ، وَالْمُعَاقَدَةِ، وَرَدُّهُ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْقَرَابَاتِ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أَيْ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ: فِي الْقُرْآنِ مَكْتُوبًا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَوْمًا يُصَلِّي، فَخَطَرَ خَطْرَةً، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ: أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ قَلْبًا مَعَكُمْ وَقَلْبًا مَعَهُمْ؟ فَنَزَلَ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ

_ (1) . الأنفال: 72.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 إلى 17]

قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ من طريق أخرى بلفظ صلى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً فَسَهَا فِيهَا، فَخَطَرَتْ مِنْهُ كَلِمَةٌ فسمعها المنافقون، فقالوا: إن له قلبين، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُسَمَّى مِنْ دعائه ذَا الْقَلْبَيْنِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي شَأْنِهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْتَرِثْهُ عُصْبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ فَرَأَيْتُ مِنْهُ جَفْوَةً، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرْتُ عَلِيًّا فَتَنَقَّصْتُهُ، فَرَأَيْتُ وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغَيَّرَ وَقَالَ: «يَا بُرَيْدَةُ أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لَهَا: يَا أُمَّهْ، فَقَالَتْ: أَنَا أُمُّ رِجَالِكُمْ وَلَسْتُ أُمَّ نِسَائِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: أَنَا أُمُّ الرِّجَالِ مِنْكُمْ وَالنِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِهِ، عَنْ بَجَالَةَ: قَالَ مرّ عمر ابن الْخَطَّابِ بِغُلَامٍ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ» فَقَالَ: يَا غُلَامُ حُكَّهَا، فَقَالَ: هَذَا مُصْحَفُ أُبَيٍّ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يُلْهِينِي الْقُرْآنُ، وَيُلْهِيكَ الصَّفْقُ فِي الْأَسْوَاقِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَبٌ لهم وأزواجه أمّهاتهم» . [سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 17] وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17)

قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَاذْكُرْ، كَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ! اتَّقِ اللَّهَ، وَاذْكُرْ أَنَّ اللَّهَ أَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى النَّبِيِّينَ خُصُوصًا أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَّبِعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله، ويدعو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَأَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَنْ يَنْصَحُوا لِقَوْمِهِمْ. وَالْمِيثَاقُ: هُوَ الْيَمِينُ، وَقِيلَ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللَّهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. ثُمَّ خَصَّصَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ الشَّامِلِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، فَقَالَ: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ: الْإِعْلَامُ بِأَنَّ لَهُمْ مَزِيدَ شَرَفٍ وَفَضْلٍ، لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ الْمَشْهُورَةِ، وَمِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَتَقْدِيمُ ذِكْرِ نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَعَ تَأَخُّرِ زَمَانِهِ فِيهِ مِنَ التَّشْرِيفِ لَهُ، وَالتَّعْظِيمِ مَا لَا يَخْفَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَخَذَ الْمِيثَاقَ حَيْثُ أُخْرِجُوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ كَالذَّرِّ. ثُمَّ أَكَّدَ مَا أَخَذَهُ عَلَى النَّبِيِّينَ مِنَ الْمِيثَاقِ بِتَكْرِيرِ ذِكْرِهِ وَوَصْفِهِ بِالْغِلَظِ فَقَالَ: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أَيْ: عَهْدًا شَدِيدًا عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا حَمَلُوا، وَمَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ مَرَّتَيْنِ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى مُجَرَّدَ الْمِيثَاقِ بِدُونِ تَغْلِيظٍ، وَلَا تَشْدِيدٍ، ثُمَّ أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ ثَانِيًا: مُغَلَّظًا مُشَدَّدًا، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ «1» واللام في قوله: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامَ كَيْ، أَيْ: لِكَيْ يَسْأَلَ الصَّادِقِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ عَنْ صِدْقِهِمْ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ غَيْرُهُمْ. وَقِيلَ: لِيَسْأَلَ الْأَنْبِيَاءَ عَمَّا أَجَابَهُمْ بِهِ قَوْمُهُمْ، كَمَا فِي قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ «2» وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَعَلَ ذَلِكَ لِيَسْأَلَ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً مَعْطُوفٌ عَلَى ما دل عليه لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ إِذِ التَّقْدِيرُ: أَثَابَ الصَّادِقِينَ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَخَذْنَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَكَّدَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الدَّعْوَةَ إِلَى دِينِهِ لِيُثِيبَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدْ حُذِفَ مِنَ الثَّانِي مَا أُثْبِتَ مُقَابِلُهُ فِي الْأَوَّلِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ مَا أُثْبِتَ مُقَابِلُهُ فِي الثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ فَأَثَابَهُمْ، وَيَسْأَلَ الْكَافِرِينَ عَمَّا أَجَابُوا بِهِ رُسُلَهُمْ، وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُقَدَّرِ عَامِلًا فِي لِيَسْأَلَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَتَكُونَ جُمْلَةُ: وَأَعَدَّ لَهُمْ مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ مَا أَعَدَّهُ لِلْكُفَّارِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَذَا تَحْقِيقٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مَعَهَا خَوْفٌ مِنْ أَحَدٍ وَقَوْلُهُ: عَلَيْكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِالنِّعْمَةِ إِنْ كَانَتْ مَصْدَرًا أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ، أَيْ: كَائِنَةً عَلَيْكُمْ، وَمَعْنَى إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ حِينَ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ، وَهُوَ ظَرْفٌ لِلنِّعْمَةِ، أَوْ لِلْمُقَدَّرِ عَامِلًا فِي عليكم، أو المحذوف هُوَ اذْكُرْ، وَالْمُرَادُ بِالْجُنُودِ: جُنُودُ الْأَحْزَابِ الَّذِينَ تحزبوا

_ (1) . آل عمران: 81. (2) . الأعراف: 6.

عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَزَوْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ الْغَزْوَةُ الْمُسَمَّاةُ «غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ» وَهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِقُرَيْشٍ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَلْفَافِ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ غَطَفَانَ وَبَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، فَضَايَقُوا الْمُسْلِمِينَ مُضَايَقَةً شَدِيدَةً، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: كَانَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ. وَقَدْ بَسَطَ أَهْلُ السِّيَرِ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً مَعْطُوفٌ عَلَى جَاءَتْكُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الصَّبَا، أُرْسِلَتْ عَلَى الْأَحْزَابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَلْقَتْ قُدُورَهُمْ، وَنَزَعَتْ فَسَاطِيطَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُّورِ» ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها الْمَلَائِكَةُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ فَقَلَعَتِ الْأَوْتَادَ، وَقَطَعَتْ أَطْنَابَ الْفَسَاطِيطِ، وَأَطْفَأَتِ النِّيرَانَ، وَأَكْفَأَتِ الْقُدُورَ، وَجَالَتِ الْخَيْلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرُّعْبَ، وَكَثُرَ تَكْبِيرُ الْمَلَائِكَةِ فِي جَوَانِبِ الْعَسْكَرِ حَتَّى كَانَ سَيِّدُ كُلِّ قَوْمٍ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: يَا بَنِي فُلَانٍ هَلُمَّ إِلَيَّ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا قَالَ لَهُمْ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَعْمَلُونَ» بالفوقية، أي: بما تعملون أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ تَرْتِيبِ الْحَرْبِ، وَحَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَاسْتِنْصَارِكُمْ بِهِ، وَتَوَكُّلِكُمْ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالتَّحْتِيَّةِ، أَيْ: بِمَا يَعْمَلُهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْعِنَادِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَالتَّحَزُّبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِمْ من كلّ جهة إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ إِذْ هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنْ إِذِ الْأُولَى، وَالْعَامِلُ فِي هَذِهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي تِلْكَ، وَقِيلَ: مَنْصُوبَةٌ بِمَحْذُوفٍ، هُوَ: اذْكُرْ، وَمَعْنَى مِنْ فَوْقِكُمْ: مِنْ أَعْلَى الْوَادِي، وَهُوَ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ هُمْ غَطَفَانُ، وَسَيِّدُهُمْ: عُيَيْنَةُ بْنُ حصن، وهوازن، وسيدهم: عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، وَبَنُو النَّضِيرِ، وَمَعْنَى وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ مِنْ نَاحِيَةِ مَكَّةَ، وَهُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَحَابِيشِ، وَسَيِّدُهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَجَاءَ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، وَمَعَهُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ الْيَهُودِيُّ فِي يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ وَجْهِ الْخَنْدَقِ، وَمَعَهُمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَجُمْلَةُ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ: مَالَتْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمْ تَنْظُرْ إِلَّا إِلَى عَدُوِّهَا مُقْبِلًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقِيلَ: شَخَصَتْ دَهَشًا مِنْ فَرْطِ الْهَوْلِ وَالْحَيْرَةِ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ جَمْعُ حَنْجَرَةٍ، وَهِيَ جَوْفُ الْحُلْقُومِ، أَيِ: ارْتَفَعَتِ الْقُلُوبُ عَنْ مَكَانِهَا، وَوَصَلَتْ مِنَ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ إِلَى الْحَنَاجِرِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ ضَاقَ الْحُلْقُومُ عَنْهَا، وَهُوَ الَّذِي نِهَايَتُهُ الحنجرة لخرجت، كما قَالَ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ المعهود فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنْ لَمْ تَرْتَفِعِ الْقُلُوبُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلَا خَرَجَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا، وَلَكِنَّهُ مَثَلٌ فِي اضْطِرَابِهَا وَجُبْنِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَبُنُوا، وَجَزِعَ أَكْثَرُهُمْ، وَسَبِيلُ الْجَبَانِ إِذَا اشْتَدَّ خَوْفُهُ أَنْ تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ، فَإِذَا انْتَفَخَتِ الرِّئَةُ ارْتَفَعَ الْقَلْبُ إِلَى الْحَنْجَرَةِ، وَلِهَذَا يقال للجبان: انتفخ سحره وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أَيِ: الظُّنُونَ الْمُخْتَلِفَةَ، فَبَعْضُهُمْ ظَنَّ النَّصْرَ، وَرَجَا الظَّفَرَ، وَبَعْضُهُمْ ظَنَّ خِلَافَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: ظنّ المنافقون أن يُسْتَأْصَلُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، وَظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُ يُنْصَرُ. وَقِيلَ: الْآيَةُ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ، وَالْأَوْلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ. فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا فِي الْوَاقِعِ أَوْ مُنَافِقًا.

وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي هَذِهِ الْأَلِفِ فِي «الظَّنُونَا» : فَأَثْبَتَهَا وَصْلًا وَوَقْفًا نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيِّ، وَتَمَسَّكُوا بِخَطِّ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ وَجَمِيعِ الْمَصَاحِفِ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، فَإِنَّ الْأَلِفَ فِيهَا كُلِّهَا ثَابِتَةٌ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَارِئِ أَنْ يُدْرِجَ الْقِرَاءَةَ بَعْدَهُنَّ بَلْ يَقِفُ عَلَيْهِنَّ، وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِمَا فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ مِنْ مِثْلِ هَذَا. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والجحدري، وَيَعْقُوبُ بِحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ مَعًا، وَقَالُوا هِيَ مِنْ زِيَادَاتِ الْخَطِّ فَكُتِبَتْ كَذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي النُّطْقُ بِهَا، وَأَمَّا فِي الشِّعْرِ فَهُوَ يَجُوزُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غيره. قرأ ابن كثير، والكسائي، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإِثْبَاتِهَا وَقْفًا وَحَذْفِهَا وَصْلًا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ رَاجِحَةٌ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذِهِ الْأَلِفُ هِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا النُّحَاةُ أَلِفَ الْإِطْلَاقِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا مَعْرُوفٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَهَكَذَا اخْتَلَفَ القراءة في الألف التي في قوله «الرسولا، والسبيلا» كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ هَذِهِ السُّورَةِ هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ الظرف منتصب بالفعل الذي بعده، قيل: بتظنون، وَاسْتَضْعَفَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ ظَرْفُ مَكَانٍ يُقَالُ لِلْمَكَانِ الْبَعِيدِ هُنَالِكَ كَمَا يُقَالُ لِلْمَكَانِ الْقَرِيبِ هُنَا، وَلِلْمُتَوَسِّطِ هُنَاكَ. وَقَدْ يَكُونُ ظَرْفَ زَمَانٍ: أَيْ: عِنْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِذَا الْأُمُورُ تَعَاظَمَتْ وَتَشَاكَلَتْ ... فَهُنَاكَ يَعْتَرِفُونَ أَيْنَ الْمَفْزَعُ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوِ الزَّمَانِ اخْتُبِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْخَوْفِ، وَالْقِتَالِ، وَالْجُوعِ، وَالْحَصْرِ، وَالنِّزَالِ لِيُتَبَيَّنَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمُنَافِقِ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً قَرَأَ الْجُمْهُورُ «زُلْزِلُوا» بِضَمِّ الزَّايِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ بِكَسْرِ الْأُولَى، وَرَوَى الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ بِإِشْمَامِهَا كَسْرًا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «زِلْزَالًا» بِكَسْرِ الزَّايِ الْأُولَى، وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِفَتْحِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَصْدَرٍ مِنَ الْمُضَاعَفِ عَلَى فَعِلَالٍ يَجُوزُ فِيهِ الْكَسْرُ وَالْفَتْحُ: نَحْوَ قَلْقَلْتُهُ قِلْقَالًا، وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا، وَالْكَسْرُ أَجْوَدُ. قَالَ ابْنُ سَلَامٍ: مَعْنَى زُلْزِلُوا: حُرِّكُوا بِالْخَوْفِ تَحْرِيكًا شَدِيدًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ إِزَاحَتُهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَّا مَوْضِعُ الْخَنْدَقِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمُ اضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا مُخْتَلِفًا، فَمِنْهُمْ مَنِ اضْطَرَبَ فِي نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اضْطَرَبَ فِي دِينِهِ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ معطوف على «إذ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ» ، وَالْمَرَضُ فِي الْقُلُوبِ هُوَ الشَّكُّ وَالرِّيبَةُ، وَالْمُرَادُ بِ الْمُنافِقُونَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبيّ وأصحابه، وب الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: أَهْلُ الشَّكِّ وَالِاضْطِرَابِ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ إِلَّا غُرُوراً أَيْ: بَاطِلًا مِنَ الْقَوْلِ، وَكَانَ الْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ نَحْوَ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالشَّكِّ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْ هَؤُلَاءِ هُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِلظُّنُونِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: كَانَ ظَنُّ هَؤُلَاءِ هَذَا الظَّنَّ، كَمَا كَانَ ظَنُّ الْمُؤْمِنِينَ النصر، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَيْ: مِنَ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ بَنُو سَالِمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ، وَقِيلَ: هُمْ أَوْسُ بْنُ قِبْطِيٍّ وَأَصْحَابُهُ، وَالطَّائِفَةُ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَمَا فَوْقَهُ، وَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَتْهُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ هو قوله: يا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ أَيْ: لَا مَوْضِعَ إِقَامَةٍ لَكُمْ، أَوْ لَا إِقَامَةَ لَكُمْ هَاهُنَا فِي الْعَسْكَرِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَثْرِبُ اسْمُ الأرض، ومدينة النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَسُمِّيَتْ يثرب، لأن

الَّذِي نَزَلَهَا مِنَ الْعَمَالِقَةِ اسْمُهُ يَثْرِبُ بْنُ عُمَيْلٍ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَا مَقَامَ لَكُمْ» بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالسُّلَمِيُّ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ بِضَمِّهَا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ أَقَامَ يُقِيمُ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى هُوَ اسْمُ مَكَانٍ فَارْجِعُوا أَيْ: إِلَى مَنَازِلِكُمْ، أَمَرُوهُمْ بِالْهَرَبِ مِنْ عَسْكَرِ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ خَرَجُوا عَامَ الْخَنْدَقِ حَتَّى جَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إِلَى سَلْعٍ وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ: لَيْسَ هَاهُنَا مَوْضِعُ إِقَامَةِ، وَأَمَرُوا النَّاسَ بِالرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ بِالْمَدِينَةِ» وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ مَعْطُوفٌ عَلَى «قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ» ، أَيْ: يَسْتَأْذِنُونَ فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ، وَبَنُو سَلِمَةَ، وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ بدل من قوله: «يستأذن» أو حال اسْتِئْنَافٌ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالْقَوْلُ الَّذِي قَالُوهُ هو قَوْلُهُمْ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أَيْ: ضَائِعَةٌ سَائِبَةٌ ليست بحصينة، ولا ممتنعة عن الْعَدُوِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ عَوِرَ الْمَكَانُ يَعْوَرُ عَوَرًا وَعَوْرَةً، وَبُيُوتٌ عَوِرَةٌ وَعَوْرَةٌ، وَهِيَ مَصْدَرٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَالْحَسَنُ: قَالُوا بُيُوتُنَا ضَائِعَةٌ نَخْشَى عَلَيْهَا السُّرَّاقَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالُوا بُيُوتُنَا مِمَّا يَلِي الْعَدُوَّ وَلَا نَأْمَنُ عَلَى أَهْلِنَا. قَالَ الْهَرَوِيُّ: كُلُّ مَكَانٍ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ، وَلَا مَسْتُورٍ فَهُوَ عَوْرَةٌ، وَالْعَوْرَةُ فِي الْأَصْلِ: الْخَلَلُ فَأُطْلِقَتْ عَلَى الْمُخْتَلِّ، وَالْمُرَادُ: ذَاتُ عَوْرَةٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ عَوِرَةٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ: قَصِيرَةُ الْجُدْرَانِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَوْرَةُ كُلُّ حَالٍ يُتَخَوَّفُ مِنْهُ فِي ثَغْرٍ أَوْ حَرْبٍ. قَالَ النَّحَّاسُ يُقَالُ أَعْوَرَ الْمَكَانُ: إِذَا تَبَيَّنَتْ فِيهِ عَوْرَةٌ، وَأَعْوَرَ الْفَارِسُ: إِذَا تَبَيَّنَ مِنْهُ مَوْضِعُ الْخَلَلِ، ثُمَّ رَدَّ الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا ذَكَرُوهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ اسْتِئْذَانِهِمْ وَمَا يُرِيدُونَهُ بِهِ، فَقَالَ: إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أَيْ: مَا يُرِيدُونَ إِلَّا الْهَرَبَ مِنَ الْقِتَالِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ: مَا يُرِيدُونَ إِلَّا الْفِرَارَ مِنَ الدِّينِ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها يَعْنِي: بُيُوتَهُمْ، أَوِ الْمَدِينَةَ، وَالْأَقْطَارُ: النَّوَاحِي جَمْعُ قُطْرٍ، وَهُوَ الْجَانِبُ وَالنَّاحِيَةُ، وَالْمَعْنَى: لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ بُيُوتُهُمْ، أَوِ الْمَدِينَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا جَمِيعًا لا من بعضها، ونزلت بِهِمْ هَذِهِ النَّازِلَةُ الشَّدِيدَةُ، وَاسْتُبِيحَتْ دِيَارُهُمْ، وَهُتِكَتْ حُرَمُهُمْ وَمَنَازِلُهُمْ ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ النَّازِلَةِ الشَّدِيدَةِ بِهِمْ لَآتَوْها أَيْ: لَجَاءُوهَا أَوْ أَعْطَوْهَا، وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ هُنَا: إِمَّا الْقِتَالُ فِي الْعَصَبِيَّةِ كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ، أَوِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالرَّجْعَةُ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي يُبْطِنُونَهُ، وَيُظْهِرُونَ خِلَافَهُ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَآتَوْهَا بِالْمَدِّ، أَيْ: لَأَعْطَوْهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْقَصْرِ، أَيْ: لَجَاءُوهَا وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً أَيْ: بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ أَتَوُا الْفِتْنَةَ إِلَّا تَلْبُثًّا يَسِيرًا حَتَّى يَهْلِكُوا، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ والفراء والقتبي، وقال أكثر المفسرين: إن المعنى: وما احتبسوا عَنْ فِتْنَةِ الشِّرْكِ إِلَّا قَلِيلًا، بَلْ هُمْ مُسْرِعُونَ إِلَيْهَا رَاغِبُونَ فِيهَا لَا يَقِفُونَ عَنْهَا إِلَّا مُجَرَّدَ وُقُوعِ السُّؤَالِ لَهُمْ، وَلَا يَتَعَلَّلُونَ عَنِ الْإِجَابَةِ بِأَنَّ بُيُوتَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَوْرَةٌ مَعَ أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ عَوْرَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَمَا تَعَلَّلُوا عَنْ إِجَابَةِ الرَّسُولِ، وَالْقِتَالِ مَعَهُ بِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَلَمْ تَكُنْ إِذْ ذَاكَ عورة. ثم حكى الله سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ مَا قَدْ كَانَ وَقْعَ مِنْهُمْ مِنْ قَبْلُ مِنَ الْمُعَاهَدَةِ لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ بِالثَّبَاتِ فِي الْحَرْبِ، وَعَدَمِ الْفِرَارِ عَنْهُ فَقَالَ: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أَيْ: مِنْ قَبْلِ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَمِنْ بَعْدِ بَدْرٍ، قَالَ قَتَادَةُ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ غَابُوا عَنْ بَدْرٍ، وَرَأَوْا مَا أَعْطَى اللَّهُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّصْرِ فَقَالُوا: لَئِنْ أَشْهَدَنَا

اللَّهُ قِتَالًا لِنُقَاتِلَنَّ، وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ، وَبَنُو سلمة وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي: مسؤولا عَنْهُ، وَمَطْلُوبًا صَاحِبُهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ، وَمُجَازًى عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِهِ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ فَإِنَّ مَنْ حَضَرَ أَجَلُهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَرَّ أَوْ لَمْ يَفِرَّ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: تَمَتُّعًا قَلِيلًا أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا بَعْدَ فِرَارِهِمْ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ آجَالُهُمْ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ قَرِيبٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُمَتَّعُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ فِي رِوَايَةِ السَّاجِيِّ عَنْهُ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «لَا تُمَتَّعُوا» بِحَذْفِ النُّونِ إِعْمَالًا لِإِذَنْ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هِيَ مُلْغَاةٌ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَيْ: هَلَاكًا أَوْ نَقْصًا فِي الْأَمْوَالِ وَجَدْبًا وَمَرَضًا أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً يَرْحَمُكُمْ بِهَا مِنْ خِصْبٍ وَنَصْرٍ وَعَافِيَةٍ وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يُوَالِيهِمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ وَلا نَصِيراً يَنْصُرُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيِّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ أَوَّلَ نُبُوَّتِكَ؟ قَالَ: أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الْمِيثَاقَ كَمَا أَخَذَ مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ، ثُمَّ تَلَا وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً وَدَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ «1» ، وَبُشْرَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَرَأَتْ أُمُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهَا سِرَاجٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورَ الشَّامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى أُخِذَ مِيثَاقُكَ؟ قَالَ: «وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَتَّى كَنْتَ نَبِيًّا؟ قَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» . وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ قَدْ صُحِّحَ بَعْضُهَا. وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ وَالدَّيْلَمِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ الْآيَةَ قَالَ: «كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ» ، فَبَدَأَ بِهِ قَبْلَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِيثاقَهُمْ عَهْدَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ قَالَ: إِنَّمَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى قَوْمِهِمْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، كِلَاهُمَا فِي الدَّلَائِلِ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ ونحن صافون قعود وأبو سفيان ومن معهم مِنَ الْأَحْزَابِ فَوْقَنَا، وَقُرَيْظَةُ الْيَهُودُ أَسْفَلَ مِنَّا نَخَافُهُمْ عَلَى ذَرَارِيِّنَا، وَمَا أَتَتْ عَلَيْنَا لَيْلَةٌ قَطُّ أَشَدُّ ظُلْمَةً وَلَا أَشَدُّ رِيحًا فِي أَصْوَاتِ رِيحِهَا أَمْثَالَ الصَّوَاعِقِ، وَهِيَ ظُلْمَةٌ مَا يَرَى أَحَدٌ مِنَّا أُصْبُعَهُ، فَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يَسْتَأْذِنُونَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ فَمَا يَسْتَأْذِنُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ لَهُ، فَيَتَسَلَّلُونَ وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ إِذِ اسْتَقْبَلَنَا رسول الله صلّى الله عليه وسلم رَجُلًا حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ وَمَا عَلَيَّ جُنَّةٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَلَا مِنَ الْبَرْدِ إِلَّا مِرْطٌ لِامْرَأَتِي مَا يُجَاوِزُ رُكْبَتَيَّ، فَأَتَانِي وَأَنَا جَاثٍ عَلَى رُكْبَتَيَّ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: حُذَيْفَةُ، قَالَ: حُذَيْفَةُ، فَتَقَاصَرْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَقُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَرَاهِيَةَ أَنْ أَقُومَ، قَالَ: قم فقمت، فقال:

_ (1) . البقرة: 129. [.....]

إِنَّهُ كَانَ فِي الْقَوْمِ خَبَرٌ، فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، قَالَ: وَأَنَا مِنْ أَشَدِّ الْقَوْمِ فَزَعًا وَأَشَدِّهِمْ قُرًّا، فَخَرَجْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ ومن تحته قال: فو الله مَا خَلَقَ اللَّهُ فَزَعًا وَلَا قُرًّا فِي جَوْفِي إِلَّا خَرَجَ مِنْ جَوْفِي، فَمَا أَجِدُ مِنْهُ شَيْئًا فَلَمَّا وَلَّيْتُ قَالَ: يَا حُذَيْفَةُ لَا تُحَدِثَنَّ فِي الْقَوْمِ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي، فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ نَظَرْتُ فِي ضَوْءِ نَارٍ لَهُمْ تُوقَدُ، وَإِذَا رَجُلٌ أَدْهَمُ ضَخْمٌ يَقُولُ بِيَدِهِ عَلَى النَّارِ وَيَمْسَحُ خَاصِرَتَهُ وَيَقُولُ: الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْعَسْكَرَ، فَإِذَا أَدْنَى النَّاسِ مِنِّي بَنُو عَامِرٍ يَقُولُونَ: يَا آلَ عَامِرٍ الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ لَا مُقَامَ لَكُمْ، وَإِذَا الرِّيحُ فِي عَسْكَرِهِمْ مَا تجاوز شبرا، فو الله إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتَ الْحِجَارَةِ فِي رِحَالِهِمْ وَفُرُشِهِمُ، الرِّيحُ تَضْرِبُهُمْ، ثُمَّ خَرَجْتُ نَحْوَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم فلما انتصف فِي الطَّرِيقِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إِذَا أَنَا بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا مُعْتَمِّينَ فَقَالُوا: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ أَنَّ اللَّهَ كَفَاهُ الْقَوْمَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ فِي شَمْلَةٍ يُصَلِّي، وَكَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ القوم إنّي تركتهم يترحّلون، وأنزل الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ قَالَ: كَانَ يَوْمُ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ جَاءَتِ الشَّمَالُ إِلَى الْجَنُوبِ، فَقَالَتِ: انْطَلِقِي فَانْصُرِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَتِ الْجَنُوبُ: إِنَّ الْحُرَّةَ لَا تَسْرِي بِاللَّيْلِ، فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَجَعَلَهَا عَقِيمًا، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الصَّبَا، فَأَطْفَأَتْ نِيرَانَهُمْ وَقَطَعَتْ أَطْنَابَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُّورِ» ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُّورِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ الْآيَةَ قَالَتْ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ فِي وَصْفِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَمَا وَقَعَ فِيهَا، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا كُتُبُ الْغَزَوَاتِ وَالسِّيَرِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي الْبَأْسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، هِيَ طَابَةُ، هِيَ طَابَةُ، هِيَ طَابَةُ» وَلَفْظُ أَحْمَدَ «إِنَّمَا هِيَ طَابَةُ» وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ قَالَ: هُمْ بَنُو حَارِثَةَ قَالُوا: بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أَيْ: مُخْتَلَّةٌ نَخْشَى عَلَيْهَا السَّرَقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها قَالَ: لَأَعْطَوْهَا: يَعْنِي إِدْخَالَ بَنِي حَارِثَةَ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى الْمَدِينَةِ.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 إلى 25]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 25] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) قَوْلُهُ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ يُقَالُ: عَاقَهُ، وَاعْتَاقَهُ، وَعَوَّقَهُ: إِذَا صَرَفَهُ عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يثبطون أنصار النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُمْ: مَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا أَكْلَةُ رَأْسٍ، وَلَوْ كَانُوا لَحْمًا لَالْتَقَمَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَحِزْبُهُ. فَخَلُّوهُمْ وَتَعَالَوْا إِلَيْنَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْيَهُودُ قَالُوا: لِإِخْوانِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ هَلُمَّ إِلَيْنا وَمَعْنَى هَلُمَّ: أَقْبِلْ واحْضُرْ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُسَوُّونَ فِيهِ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: هَلُمَّ لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ، وَهَلُمِّي لِلْمُؤَنَّثِ، وَهَلُمَّا لِلِاثْنَيْنِ. وَهَلُمُّوا لِلْجَمَاعَةِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أَيِ الْحَرْبَ إِلَّا قَلِيلًا خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا يَحْضُرُونَ الْقِتَالَ إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً مِنْ غَيْرِ احْتِسَابٍ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أَيْ: بُخَلَاءَ عَلَيْكُمْ لَا يُعَاوِنُونَكُمْ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَلَا بالنفقة في سبيل الله، قال مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: أَشِحَّةٌ بِالْقِتَالِ مَعَكُمْ، وَقِيلَ: بِالنَّفَقَةِ عَلَى فُقَرَائِكُمْ، وَمَسَاكِينِكُمْ. وَقِيلَ: أَشِحَّةٌ بِالْغَنَائِمِ إِذَا أَصَابُوهَا. قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَأْتُونَ. أَوْ مِنَ الْمُعَوِّقِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ فِي نَصْبِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: مِنْهَا: النَّصْبُ عَلَى الذَّمِّ، وَمِنْهَا: بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يَأْتُونَهُ أَشِحَّةً. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ لِلْمُعَوِّقِينَ، وَلَا الْقَائِلِينَ لِئَلَّا يُفَرَّقَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أَيْ: تَدُورُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَذَلِكَ سَبِيلُ الْجَبَانِ إِذَا شَاهَدَ مَا يَخَافُهُ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أَيْ: كَعَيْنِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ وَغَشِيَتْهُ أَسْبَابُهُ، فَيُذْهَلُ وَيَذْهَبُ عَقْلُهُ، وَيَشْخَصُ بَصَرُهُ فَلَا يَطْرِفُ، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ تَشْخَصُ أَبْصَارُهُمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْخَوْفِ، وَيُقَالُ لِلْمَيِّتِ إِذَا شَخَصَ بَصَرُهُ: دَارَتْ عَيْنَاهُ، وَدَارَتْ حَمَالِيقُ عَيْنَيْهِ، وَالْكَافُ: نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ يُقَالُ: سَلَقَ فُلَانٌ

فَلَانًا بِلِسَانِهِ: إِذَا أَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ مجاهرا. قال الفراء: أي آذوكم بِالْكَلَامِ فِي الْأَمْنِ بِأَلْسِنَةٍ سَلِيطَةٍ ذَرِبَةٍ، وَيُقَالُ: خَطِيبٌ مِسْلَاقٌ وَمِصْلَاقٌ إِذَا كَانَ بَلِيغًا، وَمِنْهُ قول الأعشى: فيهم المجد والسّماحة والنّجدة ... فيهم والخاطب السّلاق قال القتبي: الْمَعْنَى آذَوْكُمْ بِالْكَلَامِ الشَّدِيدِ، وَالسَّلْقُ: الْأَذَى، وَمِنْهُ قول الشاعر: ولقد سلقنا هوازنا ... بنواهل حَتَّى انْحَنَيْنَا قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: بَسَطُوا أَلْسِنَتَهُمْ فِيكُمْ فِي وَقْتِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ، يَقُولُونَ: أعطنا فإنا قَدْ شَهِدْنَا مَعَكُمْ، فَعِنْدَ الْغَنِيمَةِ أَشَحُّ قَوْمٍ وَأَبْسَطُهُمْ لِسَانًا، وَوَقْتَ الْبَأْسِ أَجْبَنُ قَوْمٍ وَأَخْوَفُهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَانْتِصَابُ: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ عَلَى الْحَالِيَّةِ مِنْ فَاعِلِ سَلَقُوكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلَى الذَّمِّ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِرَفْعِ أَشِحَّةٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُمْ أَشِحَّةٌ عَلَى الْغَنِيمَةِ، يُشَاحُّونَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ القسمة، قال يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَالِ أَنْ يُنْفِقُوهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ قَلِيلُو الْخَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ لَمْ يُؤْمِنُوا إِيمَانًا خَالِصًا بَلْ هُمْ مُنَافِقُونَ، يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ، وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أَيْ: أَبْطَلَهَا، بِمَعْنَى: أَظْهَرَ بُطْلَانَهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَعْمَالٌ تَقْتَضِي الثَّوَابَ حَتَّى يُبْطِلَهَا اللَّهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَبْطَلَ جِهَادَهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي إِيمَانٍ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أَيْ: وَكَانَ ذَلِكَ الْإِحْبَاطُ لِأَعْمَالِهِمْ، أَوْ كَانَ نِفَاقُهُمْ عَلَى اللَّهِ هَيِّنًا يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أَيْ: يَحْسَبُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ لِجُبْنِهِمْ أَنَّ الْأَحْزَابَ بَاقُونَ فِي مُعَسْكَرِهِمْ لَمْ يَذْهَبُوا إِلَى دِيَارِهِمْ، وَذَلِكَ لِمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالرَّوْعِ وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أَيْ: يَتَمَنَّوْنَ أَنَّهُمْ فِي بَادِيَةِ الْأَعْرَابِ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الرَّهْبَةِ، وَالْبَادِي خِلَافُ الْحَاضِرِ، يُقَالُ: بَدَا يَبْدُو بَدَاوَةً: إِذَا خَرَجَ إِلَى البادية يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أَيْ: عَنْ أَخْبَارِكُمْ، وَمَا جَرَى لَكُمْ، كُلَّ قَادِمٍ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَتِكُمْ، أَوْ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنِ الْأَخْبَارِ الَّتِي بَلَغَتْهُ مِنْ أَخْبَارِ الْأَحْزَابِ، وَرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنَّهُمْ بَعِيدٌ عَنْكُمْ يَسْأَلُونَ عَنْ أَخْبَارِكُمْ مِنْ غَيْرِ مُشَاهِدَةٍ لِلْقِتَالٍ لِفَرْطِ جُبْنِهِمْ وَضَعْفِ نِيَّاتِهِمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: لَوْ كَانُوا مَعَكُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مُشَاهِدِينَ لِلْقِتَالِ مَا قَاتَلُوا مَعَكُمْ إِلَّا قِتَالًا قَلِيلًا خَوْفًا مِنَ الْعَارِ وَحَمِيَّةً عَلَى الدِّيَارِ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أَيْ: قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ، يُقَالُ لِي فِي فُلَانٍ أُسْوَةٌ: أَيْ لِي بِهِ، وَالْأُسْوَةُ مِنَ الِائْتِسَاءِ، كَالْقُدْوَةِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ: اسْمٌ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْأُسْوَةُ وَالْإِسْوَةُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، وَالْجَمْعُ: أُسًى وَإِسًى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «أُسْوَةٌ» بِالضَّمِّ لِلْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ كَمَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ عِتَابٌ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْقِتَالِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ حَيْثُ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلْقِتَالِ وَخَرَجَ إِلَى الْخَنْدَقِ لِنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، أُسْوَةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا خَاصًّا فَهِيَ عَامَّةٌ

فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِثْلُهَا: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1» ، وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «2» ، واللام في لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ: متعلق بحسنة، أو: بمحذوف هو صفة لحسنة، أَيْ: كَائِنَةٌ لِمَنْ يَرْجُو اللَّهَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ فِي لَكُمْ، وَرَدَّهُ أَبُو حَيَّانَ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُبْدَلُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ قَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ وَالْأَخْفَشُ وَإِنْ مَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَالْمُرَادُ بِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ: الْمُؤْمِنُونَ، فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَرْجُونَ اللَّهَ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، وَمَعْنَى يَرْجُونَ اللَّهَ: يَرْجُونَ ثَوَابَهُ أَوْ لِقَاءَهُ، وَمَعْنَى يَرْجُونَ الْيَوْمَ الْآخِرَ: أَنَّهُمْ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ فِيهِ، أَوْ يُصَدِّقُونَ بِحُصُولِهِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَخْصِيصٌ بَعْدَ التَّعْمِيمِ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً مَعْطُوفٌ عَلَى كَانَ، أَيْ: وَلِمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَجَمَعَ بَيْنَ الرَّجَاءِ لِلَّهِ وَالذِّكْرِ لَهُ، فَإِنَّ بِذَلِكَ تَتَحَقَّقُ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ بِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا وَقَعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ لِلْأَحْزَابِ، وَمُشَاهَدَتِهِمْ لِتِلْكَ الْجُيُوشِ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِمْ كَالْبَحْرِ الْعُبَابِ فَقَالَ: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ «هَذَا» إِلَى مَا رَأَوْهُ مِنَ الْجُيُوشِ، أَوْ إِلَى الْخَطْبِ الَّذِي نَزَلَ، وَالْبَلَاءِ الَّذِي دَهَمَ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ قَالُوهُ اسْتِبْشَارًا بِحُصُولٍ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مَجِيءِ هَذِهِ الْجُنُودِ، وَإِنَّهُ يَتَعَقَّبُ مَجِيئَهُمْ إِلَيْهِمْ نُزُولُ النَّصْرِ، وَالظَّفَرِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَ «مَا» فِي «مَا وَعَدَنَا اللَّهُ» هِيَ الْمَوْصُولَةُ، أَوِ الْمَصْدَرِيَّةُ، ثُمَّ أَرْدَفُوا مَا قَالُوهُ بِقَوْلِهِمْ: وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَيْ: ظَهَرَ صِدْقُ خَبَرِ الله ورسوله وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً أَيْ: مَا زَادَهُمْ مَا رَأَوْهُ إِلَّا إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَسْلِيمًا لِأَمْرِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَا زَادَهُمُ النَّظَرُ إِلَى الْأَحْزَابِ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: «رَأَى» يَدُلُّ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَتَأْنِيثُ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَالْمَعْنَى: مَا زَادَهُمُ الرُّؤْيَةُ إِلَّا إِيمَانًا لِلرَّبِّ، وَتَسْلِيمًا لِلْقَضَاءِ، وَلَوْ قَالَ مَا زَادَتْهُمْ لَجَازَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا: أَتَوْا بِالصِّدْقِ، مِنْ صَدَقَنِي إِذَا قَالَ الصِّدْقَ، وَمَحَلُّ «مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» : النَّصْبُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَفَّوْا بِمَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ مِنَ الثَّبَاتِ مَعَهُ، وَالْمُقَاتَلَةِ لِمَنْ قَاتَلَهُ، بِخِلَافِ مَنْ كَذَبَ فِي عَهْدِهِ، وَخَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ نَذَرُوا أَنَّهُمْ إِذَا لَقُوا حَرْبًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتُوا لَهُ، وَلَمْ يَفِرُّوا، وَوَجْهُ إِظْهَارِ الاسم الشريف، والرسول في قوله: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ قَصْدُ التَّعْظِيمِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَرَى الْمَوْتَ لَا يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ وَأَيْضًا لَوْ أَضْمَرَهُمَا لَجَمَعَ بَيْنَ ضَمِيرِ اللَّهِ، وَضَمِيرِ رَسُولِهِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ صَدَقَا، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ جَمْعِهِمَا كَمَا فِي حَدِيثِ «بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ» لِمَنْ قَالَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى. ثُمَّ فَصَّلَ سُبْحَانَهُ حَالَ الصَّادِقِينَ بِمَا وَعَدُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَقَسَّمَهُمْ إِلَى قِسْمَيْنِ فَقَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ

_ (1) . الحشر: 7. (2) . آل عمران: 31.

النَّحْبُ: مَا الْتَزَمَهُ الْإِنْسَانُ، وَاعْتَقَدَ الْوَفَاءَ بِهِ، ومنه قول الشاعر: عشية فرّ الحارثيون بعد ما ... قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى الْقَوْمِ هَوْبَرُ وَقَالَ الْآخَرُ: بِطِخْفَةَ جَالَدْنَا الْمُلُوكَ وَخَيْلُنَا ... عَشِيَّةَ بِسِطَامٍ جَرَيْنَ عَلَى نَحْبِ أَيْ: عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَالنَّحْبُ: يُطْلَقُ عَلَى النَّذْرِ، وَالْقَتْلِ، وَالْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَضَى نَحْبَهُ: أَيْ: قُتِلَ، وَأَصْلُ النَّحْبِ: النَّذْرُ. كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ نَذَرُوا إِنْ لَقُوا الْعَدُوَّ أَنْ يُقَاتِلُوا حَتَّى يُقْتَلُوا، أَوْ يَفْتَحَ اللَّهُ لَهُمْ فَقُتِلُوا، فَقِيلَ فُلَانٌ قَضَى نَحْبَهُ: أَيْ قُتِلَ، وَالنَّحْبُ أَيْضًا: الْحَاجَةُ وَإِدْرَاكُ الْأُمْنِيَةِ، يَقُولُ قَائِلُهُمْ: مَالِي عِنْدَهُمْ نَحْبٌ، وَالنَّحْبُ: الْعَهْدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَقَدْ نَحَبَتْ كَلْبٌ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ ... أَحَقُّ بِتَاجِ الْمَاجِدِ الْمُتَكَرِّمِ وقال الآخر: قَدْ نَحَبَ الْمَجْدُ عَلَيْنَا نَحْبَا «1» وَمِنْ وُرُودِ النَّحْبِ فِي الْحَاجَةِ وَإِدْرَاكِ الْأُمْنِيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلَالٌ وَبَاطِلُ «2» وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالًا أَدْرَكُوا أُمْنِيَتَهُمْ، وَقَضَوْا حَاجَتَهُمْ، وَوَفَّوْا بِنَذْرِهِمْ، فَقَاتَلُوا حَتَّى قُتِلُوا، وَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ كَحَمْزَةَ، وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قَضَاءَ نَحْبِهِ حَتَّى يَحْضُرَ أَجْلُهُ كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَأَمْثَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّبَاتِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقِتَالِ لِعَدُوِّهِ، وَمُنْتَظِرُونَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِمْ وَحُصُولِ أُمْنِيَتِهِمْ بِالْقَتْلِ وَإِدْرَاكِ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، وَجُمْلَةُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى صَدَقُوا، أَيْ: مَا غيروا عهدهم الذي عاهدوا الله ورسوله عَلَيْهِ كَمَا غَيَّرَ الْمُنَافِقُونَ عَهْدَهُمْ، بَلْ ثَبَتُوا عَلَيْهِ ثُبُوتًا مُسْتَمِرًّا، أَمَّا الَّذِينَ قَضَوْا نَحْبَهُمْ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ قَضَاءَ نَحْبِهِمْ فَقَدِ اسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى فَارَقُوا الدُّنْيَا، وَلَمْ يُغَيِّرُوا وَلَا بَدَّلُوا، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ يجوز أن يتعلق بصدقوا أو بزادهم، أو بما بَدَّلُوا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَقَعَ جَمِيعُ مَا وَقَعَ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ بِمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، جَعَلَ الْمُنَافِقِينَ كَأَنَّهُمْ قَصَدُوا عَاقِبَةَ السُّوءِ، وَأَرَادُوهَا بِسَبَبِ تَبْدِيلِهِمْ، وَتَغْيِيرِهِمْ كَمَا قَصَدَ الصَّادِقُونَ عَاقِبَةَ الصِّدْقِ بِوَفَائِهِمْ، فَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَسُوقٌ إِلَى عَاقِبَتِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَكَأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي طَلَبِهَا، وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِهَا، وَمَفْعُولُ «إِنْ شَاءَ» وَجَوَابُهَا مَحْذُوفَانِ، أَيْ: إِنْ شَاءَ تَعْذِيبَهُمْ عذبهم، وذلك إذا أقاموا على

_ (1) . وقبله: يا عمرو يا ابن الأكرمين نسبا. (2) . هذا عجز بيت للبيد، وصدره: ألا تسألان المرء ماذا يحاول.

النفاق، ولم يتركوه ويتوبوا عنه إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ: لِمَنْ تَابَ منهم، وأقلع عما كان عليه مِنَ النِّفَاقِ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى حِكَايَةِ بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ وَمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ النِّعْمَةِ فَقَالَ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهُمُ الْأَحْزَابُ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً أَوْ عَلَى الْمُقَدَّرِ عَامِلًا فِي لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصادقين بصدقهم، كأن قِيلَ: وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَمَحَلُّ بِغَيْظِهِمْ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَلَبِّسِينَ بِغَيْظِهِمْ وَمُصَاحِبِينَ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَجُمْلَةُ: لَمْ يَنالُوا خَيْراً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا مِنْ الْمَوْصُولِ، أَوْ مِنَ الحال الأولى على التعاقب، أو التدخل. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ رَدَّهُمْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَشْفِ صُدُورَهُمْ وَلَا نَالُوا خَيْرًا فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَهُوَ الظَّفَرُ بِالْمُسْلِمِينَ، أَوْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا أَيَّ خَيْرٍ، بَلْ رَجَعُوا خَاسِرِينَ لَمْ يَرْبَحُوا إِلَّا عَنَاءَ السَّفَرِ، وَغُرْمَ النَّفَقَةِ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بِمَا أَرْسَلَهُ مِنَ الرِّيحِ، وَالْجُنُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُهُ إِذَا قَالَ لَهُ كُنْ كَانَ، عَزِيزًا غَالِبًا قَاهِرًا لَا يُغَالِبُهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا يُعَارِضُهُ مُعَارِضٌ فِي سُلْطَانِهِ وَجَبَرُوتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: سَلَقُوكُمْ قَالَ: اسْتَقْبَلُوكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً قَالَ: هَيِّنًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قَالَ: فِي جُوعِ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا كُتُبُ السُّنَّةِ، وَهِيَ خَارِجَةٌ عَمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ «1» فَلَمَّا مَسَّهُمُ الْبَلَاءُ حَيْثُ رَابَطُوا الْأَحْزَابَ فِي الْخَنْدَقِ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَتَأَوَّلَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ فَلَمْ يَزِدْهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنْسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ بَدْرٍ فَشَقَّ عَلَيْهِ: وَقَالَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ غِبْتُ عَنْهُ لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَعْدُ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَشَهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ قَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهَا دُونَ أُحُدٍ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ نَحْوُهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيِّ، وَغَيْرِهِمَا. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ أُحُدٍ مَرَّ عَلَى مصعب بن عمير وهو مقتول،

_ (1) . البقرة: 214.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 إلى 27]

فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءُ عِنْدَ اللَّهِ فَأْتُوهُمْ وَزُورُوهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا رَدُّوا عَلَيْهِ» وَقَدْ تَعَقَّبَ الْحَاكِمُ فِي تصحيحه الذهبي كما ذكر السُّيُوطِيُّ وَلَكِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ حَدِيثًا آخَرَ وَصَحَّحَهُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ مَرَّ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ مَقْتُولًا عَلَى طَرِيقِهِ، فَقَرَأَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ خَبَّابٍ مِثْلَهُ، وَهُمَا يَشْهَدَانِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ طَلْحَةَ: «أَنَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِأَعْرَابِيٍّ جَاهِلٍ: سَلْهُ عَمَّنْ قَضَى نحبه، من هو؟ وكانوا لا يجترءون عَلَى مَسْأَلَتِهِ، يُوَقِّرُونَهُ وَيَهَابُونَهُ، فَسَأَلَهُ الْأَعْرَابِيُّ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنِّي اطَّلَعْتُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ» ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَنَا، قَالَ: «هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو يَعْلَى، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طَلْحَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ قَالَ: الْمَوْتُ عَلَى مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ عَلَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ «الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ قَالَ: مَاتَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ذَلِكَ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لَمْ يُغَيِّرُوا كَمَا غَيَّرَ المنافقون. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27] وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أَيْ: عَاضَدُوهُمْ وَعَاوَنُوهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، فَإِنَّهُمْ عَاوَنُوا الْأَحْزَابَ وَنَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً مَعَ الْأَحْزَابِ. وَالصَّيَاصِي جَمْعُ صِيصِيةٌ: وَهِيَ الْحُصُونُ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُتَحَصَّنُ بِهِ: يُقَالُ لَهُ صِيصِيَةٌ، وَمِنْهُ صِيصِيَةُ الدِّيكِ: وَهِيَ الشَّوْكَةُ الَّتِي فِي رِجْلِهِ، وَصَيَاصِي الْبَقَرِ: قُرُونُهَا لِأَنَّهَا تَمْتَنِعُ بِهَا، وَيُقَالُ لِشَوْكَةِ

الْحَائِكِ الَّتِي يُسَوِّي بِهَا السَّدَاةَ وَاللُّحْمَةَ: صِيصِيَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: فَجِئْتُ إِلَيْهِ وَالرِّمَاحُ تَنُوشُهُ ... كَوَقْعِ الصَّيَاصِي فِي النَّسِيجِ الْمُمَدَّدِ وَمِنْ إِطْلَاقِهَا عَلَى الْحُصُونِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَأَصْبَحَتِ الثِّيرَانُ صَرْعَى وَأَصْبَحَتْ ... نِسَاءُ تَمِيمٍ يَبْتَدِرْنَ الصَّيَاصِيَا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أَيِ: الْخَوْفَ الشَّدِيدَ حَتَّى سَلَّمُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْقَتْلِ، وَأَوْلَادَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ لِلسَّبْيِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ هُمُ الرِّجَالُ، وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: هُمُ النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ وَمُقَرِّرَةٌ لِقَذْفِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَقْتُلُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَكَذَلِكَ قَرَءُوا «تَأْسِرُونَ» وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالتَّحْتِيَّةِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ بِالْفَوْقِيَّةِ فِي الْأَوَّلِ، وَالتَّحْتِيَّةِ فِي الثَّانِي، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ «تَأْسُرُونَ» بِضَمِّ السِّينِ. وَقَدْ حَكَى الْفَرَّاءُ كَسْرَ السِّينِ وَضَمَّهَا فَهُمَا لُغَتَانِ، وَوَجْهُ تَقْدِيمِ مَفْعُولِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ وَتَأْخِيرِ مَفْعُولِ الْفِعْلِ الثَّانِي أَنَّ الرِّجَالَ لَمَّا كَانُوا أَهْلَ الشَّوْكَةِ، وَكَانَ الْوَارِدُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْقَتْلُ، كَانَ الِاهْتِمَامُ بِتَقْدِيمِ ذِكْرِهِمْ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَدَدِ الْمَقْتُولِينَ وَالْمَأْسُورِينَ، فَقِيلَ: كَانَ الْمَقْتُولُونَ مِنْ سِتِّمِائَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ، وَقِيلَ: سِتُّمِائَةٍ، وَقِيلَ: سَبْعُمِائَةٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِمِائَةٍ، وَقِيلَ: تِسْعُمِائَةٍ، وَكَانَ الْمَأْسُورُونَ سَبْعَمِائَةٍ، وَقِيلَ: سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: تِسْعَمِائَةٍ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: الْعَقَارُ وَالنَّخِيلُ، وَبِالدِّيَارِ: الْمَنَازِلُ وَالْحُصُونُ، وَبِالْأَمْوَالِ: الْحُلِيُّ، وَالْأَثَاثُ، وَالْمَوَاشِي، وَالسِّلَاحُ، وَالدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أَيْ: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا، وَجُمْلَةُ لَمْ تطئوها: صفة لأرضا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَمْ تَطَئُوهَا» بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ وَاوٍ سَاكِنَةٍ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «تَطَوْهَا» بِفَتْحِ الطَّاءِ وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَمُقَاتِلٌ: إِنَّهَا خَيْبَرُ وَلَمْ يَكُونُوا إِذْ ذَاكَ قَدْ نَالُوهَا، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهَا مَكَّةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كُلُّ أَرْضٍ تُفْتَحُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أَيْ: هُوَ سُبْحَانَهُ قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ مَا أَرَادَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَنِعْمَةٍ وَنِقْمَةٍ، وَعَلَى إِنْجَازِ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ صَياصِيهِمْ قَالَ: حُصُونُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْتُ يوم الخندق أقفو النّاس، فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْفَرْقَدَةِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ فَقَطَعَهُ، فَدَعَا اللَّهَ سَعْدٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ قُرَيْظَةَ، فَبَعَثَ اللَّهُ الرِّيحَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَلَحِقَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ بِتِهَامَةَ، وَلَحِقَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ وَمَنْ مَعَهُ بِنَجْدٍ، وَرَجَعَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ فَتَحَصَّنُوا فِي صَيَاصِيهِمْ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مَنْ أَدَمٍ، فَضُرِبَتْ عَلَى سَعْدٍ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَتْ: فَجَاءَ جِبْرِيلُ، وَإِنَّ عَلَى ثَنَايَاهُ لَوَقْعَ الْغُبَارِ، فَقَالَ: أو قد وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ لَا وَاللَّهِ مَا وَضَعَتِ الْمَلَائِكَةُ بعد السّلاح:

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 إلى 34]

اخْرُجْ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَاتِلْهُمْ، فَلَبِسَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَأْمَتَهُ، وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ أَنْ يَخْرُجُوا فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا اشْتَدَّ حَصْرُهُمْ وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَيْهِمْ، قِيلَ لَهُمُ: انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالُوا: نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَنَزَلُوا، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأُتِيَ بِهِ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْكُمْ فِيهِمْ» قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَتُقَسَّمَ أَمْوَالُهُمْ، فَقَالَ: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رسوله» . [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 34] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ الْمَنْعِ مِنْ إِيذَاءِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَدْ تَأَذَّى بِبَعْضِ الزَّوْجَاتِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْنَهُ شَيْئًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا وَطَلَبْنَ مِنْهُ الزِّيَادَةَ فِي النَّفَقَةِ وَآذَيْنَهُ بِغَيْرَةِ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ، فَآلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم منهنّ شهرا، وأنزل الله آية هذه، وكنّ يومئذ تسعا: عائشة، وحفصة، وأمّ سلمة، وأمّ حبيبة، وسودة هَؤُلَاءِ مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، وَصَفِيَّةَ الْخَيْبَرِيَّةَ، وَمَيْمُونَةَ الْهِلَالِيَّةَ، وَزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةَ، وَجُوَيْرِيَّةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْمُصْطَلَقِيَّةَ. وَمَعْنَى الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها سَعَتُهَا وَنَضَارَتُهَا وَرَفَاهِيَتُهَا وَالتَّنَعُّمُ فِيهَا فَتَعالَيْنَ أَيْ: أَقْبِلْنَ إِلَيَّ أُمَتِّعْكُنَّ بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، أَيْ: أُعْطِكُنَّ المتعة وَكذا أُسَرِّحْكُنَّ بِالْجَزْمِ، أَيْ: أُطَلِّقْكُنَّ وَبِالْجَزْمِ فِي الْفِعْلَيْنِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ حُمَيْدٌ الْخَرَّازُ بِالرَّفْعِ فِي الْفِعْلَيْنِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّرَاحِ الْجَمِيلِ: هُوَ الْوَاقِعُ مِنْ غَيْرِ ضِرَارٍ عَلَى مُقْتَضَى السُّنَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ جَزْمَ الْفِعْلَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: فَتَعالَيْنَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ أَيِ: الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أي اللاتي عَمِلْنَ عَمَلًا صَالِحًا أَجْراً عَظِيماً لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ، وَلَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ وَذَلِكَ بِسَبَبِ إِحْسَانِهِنَّ، وَبِمُقَابَلَةِ صَالِحِ عَمَلِهِنَّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كيفية تخيير النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ خَيَّرَهُنَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، أَوِ الطَّلَاقِ فَاخْتَرْنَ الْبَقَاءَ، وَبِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ،

وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا، فَيُفَارِقُهُنَّ، وَبَيْنَ الْآخِرَةِ، فَيُمْسِكُهُنَّ وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ فِي الطَّلَاقِ، وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْمُخَيَّرَةِ إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا هَلْ يُحْسَبُ مُجَرَّدُ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ عَلَى الزَّوْجِ طَلْقَةً أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يكون التخيير مَعَ اخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا طَلَاقًا لَا وَاحِدَةً وَلَا أَكْثَرَ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَاللَّيْثُ: وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَالنَّقَّاشُ عَنْ مَالِكٍ. وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَتْ: «خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ يَعُدَّهُ طَلَاقًا» وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ مُجَرَّدِ التَّخْيِيرِ طَلَاقًا، وَدَعْوَى أَنَّهُ كِنَايَةٌ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ مَدْفُوعَةٌ بِأَنَّ الْمُخَيَّرَ لَمْ يَرِدِ الْفُرْقَةَ لِمُجَرَّدِ التَّخْيِيرِ، بَلْ أَرَادَ تَفْوِيضَ الْمَرْأَةِ وَجَعْلَ أَمْرِهَا بِيَدِهَا، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْبَقَاءَ بَقِيَتْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ، وإن اختارت الفرقة صارت مطلقة. اختلفوا فِي اخْتِيَارِهَا لِنَفْسِهَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً؟ فَقَالَ بِالْأَوَّلِ: عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ بِالثَّانِي: عَلِيٌّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يُطَلِّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِقَوْلِهِ: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا: فَثَلَاثُ طَلْقَاتٍ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، ثُمَّ لَمَّا اخْتَارَ نِسَاءُ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ أَنْزَلَ فِيهِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تكرمة لهنّ، وتعظيما لحقهنّ، فقال: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أَيْ: ظَاهِرَةِ الْقُبْحِ، وَاضِحَةِ الْفُحْشِ، وَقَدْ عَصَمَهُنَّ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَبَرَّأَهُنَّ وَطَهَّرَهُنَّ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أَيْ: يُعَذِّبْهُنَّ مِثْلَيْ عَذَابِ غَيْرِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ إِذَا أَتَيْنَ بِمِثْلِ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ، وَذَلِكَ لِشَرَفِهِنَّ وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِنَّ، وَارْتِفَاعِ مَنْزِلَتِهِنَّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ تَضَاعُفَ الشَّرَفِ، وَارْتِفَاعَ الدَّرَجَاتِ يُوجِبُ لِصَاحِبِهِ إِذَا عَصَى تَضَاعُفَ الْعُقُوبَاتِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «يُضَعَّفْ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَفَرَّقَ هُوَ وأبو عبيد بين يُضَاعَفْ، وَيُضَعَّفْ فَقَالَا: يَكُونُ يُضَاعَفْ ثَلَاثَةَ عَذَابَاتٍ وَيُضَعَّفْ عَذَابَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذِهِ التَّفْرِقَةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْمَعْنَى فِي يُضَاعَفْ وَيُضَعَّفْ وَاحِدٌ: أَيْ يُجْعَلُ ضِعْفَيْنِ وَهَكَذَا ضَعَّفَ مَا قَالَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لَا يَتَعَاظَمُهُ وَلَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَقْنُتْ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَكَذَا قَرَءُوا: يَأْتِ مِنْكُنَّ، حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مِنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَيَعْقُوبُ، وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالْفَوْقِيَّةِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَمَعْنَى «مَنْ يَقْنُتْ» : مَنْ يُطِعْ، وَكَذَا اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي «مُبَيِّنَةٍ» ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَهَا بِالْكَسْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّسَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ «نَضْعُفْ» بِالنُّونِ وَنَصْبِ الْعَذَابَ، وَقُرِئَ «نُضَاعِفْ» بِكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَكَذَا قَرَأَ يَعْمَلْ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ تَعْمَلْ بالفوقية، ونؤت بِالنُّونِ، وَمَعْنَى إِتْيَانِهِنَّ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ: أَنَّهُ يَكُونُ لَهُنَّ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى الطَّاعَةِ مِثْلَا مَا يستحقه

غَيْرُهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ إِذَا فَعَلْنَ تِلْكَ الطَّاعَةِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى «يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ» : أَنَّهُ يَكُونُ الْعَذَابُ مَرَّتَيْنِ لَا ثَلَاثًا، لِأَنَّ الْمُرَادَ إِظْهَارُ شَرَفِهِنَّ، ومَزِيَّتِهِنَّ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، بِكَوْنِ حَسَنَتِهِنَّ كَحَسَنَتَيْنِ، وَسَيِّئَتِهِنَّ كَسَيِّئَتَيْنِ، وَلَوْ كَانَتْ سَيِّئَتُهُنَّ كَثَلَاثِ سَيِّئَاتٍ لَمْ يُنَاسِبْ ذَلِكَ كَوْنُ حَسَنَتِهِنَّ كَحَسَنَتَيْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُضَاعِفَ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِنَّ مُضَاعَفَةً تَزِيدُ عَلَى مُضَاعَفَةِ أَجْرِهِنَّ وَأَعْتَدْنا لَها زِيَادَةً عَلَى الْأَجْرِ مَرَّتَيْنِ رِزْقاً كَرِيماً. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الرِّزْقُ الْكَرِيمُ هُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ، حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمُ النَّحَّاسُ. ثُمَّ أَظْهَرَ سُبْحَانَهُ فَضِيلَتَهُنَّ على سائر النساء تصريحا، فقال: يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَقُلْ كَوَاحِدَةٍ مِنَ النِّسَاءِ، لأن أحد: نَفْيٌ عَامٌّ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَالْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ. وَقَدْ يُقَالُ عَلَى مَا لَيْسَ بِآدَمِيٍّ كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ لَا شَاةٌ وَلَا بَعِيرٌ. وَالْمَعْنَى: لَسْتُنَّ كَجَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جَمَاعَاتِ النِّسَاءِ فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ. ثُمَّ قَيَّدَ هَذَا الشَّرَفَ الْعَظِيمَ بِقَيْدٍ فَقَالَ: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ لَهُنَّ إِنَّمَا تَكُونُ بِمُلَازَمَتِهِنَّ لِلتَّقْوَى، لَا لِمُجَرَّدِ اتِّصَالِهِنَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقَدْ وَقَعَتْ مِنْهُنَّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ التَّقْوَى الْبَيِّنَةُ، وَالْإِيمَانُ الْخَالِصُ، وَالْمَشْيُ عَلَى طَرِيقَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ أَيْ: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّ جَوَابَهُ فَلا تَخْضَعْنَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَعْنَى فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ لَا تُلِنَّ الْقَوْلَ عِنْدَ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ كَمَا تَفْعَلُهُ الْمُرِيبَاتُ مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ يَتَسَبَّبُ عَنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أَيْ: فُجُورٌ وَشَكٌّ وَنِفَاقٌ، وَانْتِصَابُ يَطْمَعَ لِكَوْنِهِ جَوَابَ النَّهْيِ. كَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ الْأَعْرَجَ قَرَأَ «فَيَطْمِعَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَحْسَبُ هَذَا غَلَطًا، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي السَّمْأَلِ، وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ فِعْلِ النَّهْيِ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً عِنْدَ النَّاسِ بَعِيدًا مِنَ الرِّيبَةِ عَلَى سنن الشرع، لا ينكر سَامِعُهُ شَيْئًا، وَلَا يَطْمَعُ فِيهِنَّ أَهْلُ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ بِسَبَبِهِ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَقِرْنَ» بِكَسْرِ الْقَافِ مِنْ وَقَرَ يَقِرُ وَقَارًا: أَيْ: سَكَنَ، وَالْأَمْرُ مِنْهُ: قِرْ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَلِلنِّسَاءِ: قِرْنَ، مِثْلُ: عِدْنَ وَزِنَّ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مِنَ الْقَرَارِ، لَا مِنَ الْوَقَارِ، تَقُولُ: قَرَرْتُ بِالْمَكَانِ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْأَصْلُ: اقْرِرْنَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، فَحُذِفَتِ الرَّاءُ الْأُولَى تَخْفِيفًا، كَمَا قَالُوا فِي ظَلِلْتُ ظَلْتُ، وَنَقَلُوا حَرَكَتَهَا إِلَى الْقَافِ، وَاسْتُغْنِيَ عَنْ أَلِفِ الْوَصْلِ بِتَحْرِيكِ الْقَافِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أُبْدِلَتِ الرَّاءُ الْأُولَى يَاءً كَرَاهَةَ التَّضْعِيفِ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي قِيرَاطٍ وَدِينَارٍ، وَصَارَ لِلْيَاءِ حَرَكَةُ الْحَرْفِ الَّذِي أُبْدِلَتْ مِنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ اقِيرْنَ، ثُمَّ تُلْقَى حَرَكَةُ الْيَاءِ عَلَى الْقَافِ كَرَاهَةَ تَحْرِيكِ الْيَاءِ بِالْكَسْرِ فَتَسْقُطُ الْيَاءُ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ، وَتَسْقُطُ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِتَحْرِيكِ مَا بَعْدَهَا فَيَصِيرُ قَرْنَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الْقَافِ وَأَصْلُهُ قَرِرْتُ بِالْمَكَانِ: إِذَا أَقَمْتَ فِيهِ بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَقَرُّ بِفَتْحِ الْقَافِ كَحَمِدَ يَحْمَدُ، وهي لغة أهل الحجاز، ذكر أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَذَكَرَهَا الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ كَمَا تَقُولُ: هَلْ حَسْتَ صَاحِبَكَ؟ أَيْ: هَلْ أَحْسَسْتَهُ؟ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَانَ أَشْيَاخُنَا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُنْكِرُونَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَتْحِ لِلْقَافِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَرِرْتُ بِالْمَكَانِ أَقَرُّ لَا يُجَوِّزُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالصَّحِيحُ قررت أقرّ بالكسر، ومعناه: الأمر لهنّ بالتوقير وَالسُّكُونِ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَأَنْ

لَا يَخْرُجْنَ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا عَنْهُ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ مَشَايِخِهِ. وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَبُو حَاتِمٍ فَقَالَ: إِنَّ قَرْنَ بِفَتْحِ الْقَافِ لَا مَذْهَبَ لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ النَّحَّاسُ: قَدْ خُولِفَ أَبُو حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ لَا مَذْهَبَ لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بَلْ فيه مذهبان: أحدهما حكاه الكسائي، والآخر عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَأَمَّا الْمَذْهَبُ الَّذِي حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْهُ، وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الَّذِي حَكَاهُ عَلِيُّ بن سليمان، فقال: إنه من قررن بِهِ عَيْنًا أَقَرُّ. وَالْمَعْنَى: وَاقْرَرْنَ بِهِ عَيْنًا فِي بُيُوتِكُنَّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ. وَأَقُولُ: لَيْسَ بِحَسَنٍ وَلَا هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَمْرُهُنَّ بِالسُّكُونِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَلَيْسَ مِنْ قُرَّةِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «وَاقْرِرْنَ» بِأَلِفِ وَصْلٍ وَرَاءَيْنَ، الْأُولَى مَكْسُورَةٌ عَلَى الْأَصْلِ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى التَّبَرُّجُ: أَنْ تُبْدِيَ الْمَرْأَةُ مِنْ زِينَتِهَا وَمَحَاسِنِهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُهُ، مِمَّا تَسْتَدْعِي بِهِ شَهْوَةَ الرَّجُلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّبَرُّجِ فِي سُورَةِ النُّورِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّعَةِ، يُقَالُ فِي أَسْنَانِهِ بَرَجٌ: إِذَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً. وَقِيلَ: التَّبَرُّجُ هُوَ التَّبَخْتُرُ فِي الْمَشْيِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ: بِالْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، فَقِيلَ: مَا بَيْنَ آدَمَ، وَنُوحٍ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِدْرِيسَ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ نُوحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ مُوسَى، وَعِيسَى، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ عِيسَى، وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى كَمَا تَقُولُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ. قَالَ: وَكَانَ نِسَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ تُظْهِرُ مَا يَقْبُحُ إِظْهَارُهُ، حَتَّى كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجْلِسُ مَعَ زَوْجِهَا وَخَلِيلِهَا، فَيَنْفَرِدُ خَلِيلُهَا بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ إِلَى أَعْلَى، وَيَنْفَرِدُ زَوْجُهَا بِمَا دُونَ الْإِزَارِ إِلَى أَسْفَلَ، وَرُبَّمَا سَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْبَدَلَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي لَحِقْنَهَا فَأُمِرْنَ بِالنُّقْلَةِ عَنْ سِيرَتِهِنَّ فِيهَا، وَهِيَ مَا كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ مِنْ سِيرَةِ الْكَفَرَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا غَيْرَةَ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ ثَمَّ جَاهِلِيَّةً أُخْرَى كَذَا قَالَ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْجَاهِلِيَّةِ الْأُخْرَى: مَا يَقَعُ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِقَوْلٍ، أَوْ فعل، فيكون المعنى: ولا تبرّجن أيتها المسلمات بعد إسلامكنّ مثل تبرّج أهل الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كُنْتُنَّ عَلَيْهَا، وَكَانَ عَلَيْهَا مَنْ قَبْلَكُنَّ، أَيْ: لَا تُحْدِثْنَ بِأَفْعَالِكُنَّ وَأَقْوَالِكُنَّ جَاهِلِيَّةً تُشَابِهُ الْجَاهِلِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ مِنْ قَبْلُ وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ خَصَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الطَّاعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ. ثُمَّ عَمَّمَ فَأَمَرَهُنَّ بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ فِي كُلِّ مَا هُوَ شَرْعٌ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ أَيْ: إِنَّمَا أَوْصَاكُنَّ اللَّهُ بِمَا أَوْصَاكُنَّ مِنَ التَّقْوَى، وَأَنْ لَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، وَمِنْ قَوْلِ الْمَعْرُوفِ، وَالسُّكُونِ فِي الْبُيُوتِ، وَعَدَمِ التَّبَرُّجِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالطَّاعَةِ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَالْمُرَادُ بِالرِّجْسِ: الْإِثْمُ وَالذَّنْبُ الْمُدَنِّسَانِ لِلْأَعْرَاضِ الْحَاصِلَانِ بِسَبَبِ تَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَفِعْلِ مَا نَهَى عَنْهُ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ كُلُّ مَا لَيْسَ فِيهِ لِلَّهِ رِضًا، وَانْتِصَابُ أَهْلَ الْبَيْتِ عَلَى الْمَدْحِ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ، قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الْبَدَلِ. قَالَ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَالْخَفْضُ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِنْ خُفِضَ فَعَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ، وَاعْتَرَضَهُ الْمُبَرِّدُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَدَلُ مِنَ الْمُخَاطَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصَبَهُ عَلَى النِّدَاءِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أَيْ: يُطَهِّرَكُمْ مِنَ الْأَرْجَاسِ، وَالْأَدْرَانِ تَطْهِيرًا كَامِلًا. وَفِي اسْتِعَارَةِ الرِّجْسِ لِلْمَعْصِيَةِ وَالتَّرْشِيحِ

لَهَا بِالتَّطْهِيرِ تَنْفِيرٌ عَنْهَا بَلِيغٌ، وَزَجْرٌ لِفَاعِلِهَا شَدِيدٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ هُنَّ زوجات النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَاصَّةً. قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْبَيْتِ بَيْتُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَسَاكِنُ زَوْجَاتِهِ لِقَوْلِهِ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ. وَأَيْضًا السِّيَاقُ فِي الزَّوْجَاتِ مِنْ قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَرُوِيَ عَنْ الْكَلْبِيِّ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ هُمْ عَلِيٌّ، وَفَاطِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ خَاصَّةً، وَمِنْ حُجَجِهِمُ الْخِطَابُ فِي الْآيَةِ بِمَا يَصْلُحُ لِلذُّكُورِ لَا للإناث، وهو قوله: عَنْكُمُ ول يُطَهِّرَكُمْ وَلَوْ كَانَ لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً لَقَالَ عَنْكُنَّ وَيُطَهِّرُكُنَّ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا أَنَّ التَّذْكِيرَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْأَهْلِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ «1» وَكَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: كَيْفَ أَهْلُكَ؟ يُرِيدُ زَوْجَتَهُ أَوْ زَوْجَاتِهِ، فَيَقُولُ: هُمْ بِخَيْرٍ. وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا مَا تَمَسَّكَ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ: أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَتَمَسَّكُوا بِالسِّيَاقِ، فَإِنَّهُ فِي الزَّوْجَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي نِسَاءِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عُرْوَةَ نَحْوَهُ. وَأَمَّا مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْآخَرُونَ، فَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: فِي بَيْتِي نَزَلَتْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وفي البيت فاطمة وعليّ والحسن والحسين، فحللهم رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِكِسَاءٍ كَانَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَيْتِهَا عَلَى مَنَامِهِ لَهُ عَلَيْهِ كِسَاءٌ خَيْبَرِيٌّ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ بِبُرْمَةٍ فِيهَا خَزِيرَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْعِي زَوْجَكِ وَابْنَيْكِ حَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَدَعَتْهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَأْكُلُونَ، إِذْ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِفَضْلَةِ كِسَائِهِ فَغَشَّاهُمْ إِيَّاهَا، ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنَ الْكِسَاءِ وَأَلْوَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسِ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي فِي السِّتْرِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا مَعَكُمْ؟ فَقَالَ: «إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ» مَرَّتَيْنِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ تَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَفِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ وَهُوَ شَيْخُ

_ (1) . هود: 73.

عَطَاءٍ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهَا مِنْ طَرِيقَيْنِ بِنَحْوِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ طُرُقًا كَثِيرَةً فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ نحوه. وأخرج التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سلمة ربيب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ، قالت: خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فَأَدْخَلَهُمَا مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فَاطِمَةَ، وَمَعَهُ عَلِيٌّ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ، حَتَّى دَخَلَ، فَأَدْنَى عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ، وَأَجْلَسَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَجْلَسَ حَسَنًا وَحُسَيْنًا، كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ لَفَّ عَلَيْهِمْ ثَوْبَهُ وَأَنَا مُسْتَدْبِرُهُمْ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَنَا مِنْ أَهْلِكَ؟ قَالَ: وَأَنْتَ مِنْ أَهْلِي» . قال واثلة: إنه لأرجى مَا أَرْجُوهُ. وَلَهُ طُرُقٌ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ: الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ! الصَّلَاةَ! إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» . فَقِيلَ لِزَيْدٍ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ: آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ الْعَبَّاسِ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمَا قِسْمًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ» وَأَصْحابُ الشِّمالِ «2» فَأَنَا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَنَا خَيْرُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. ثُمَّ جَعَلَ الْقِسْمَيْنِ أَثْلَاثًا، فَجَعَلَنِي فِي خيرها ثلاثا، فذلك قوله: أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ «3» وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ «4» وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ «5» فَأَنَا مِنَ السَّابِقِينَ، وَأَنَا خَيْرُ السَّابِقِينَ. ثُمَّ جَعَلَ الْأَثْلَاثَ قَبَائِلَ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا قَبِيلَةً، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «6» وَأَنَا أَتْقَى وَلَدِ آدَمَ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَلَا فَخْرَ. ثُمَّ جَعَلَ الْقَبَائِلَ بُيُوتًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا بَيْتًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فَأَنَا وَأَهْلُ بَيْتِي مُطَهَّرُونَ مِنَ الذُّنُوبِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الحمراء قال: رابطت المدينة

_ (1) . الواقعة: 27. (2) . الواقعة: 41. (3) . الواقعة: 8. (4) . الواقعة: 9. (5) . الواقعة: 10. (6) . الحجرات: 13.

سبعة أشهر عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ جَاءَ إِلَى بَابِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ فَقَالَ: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» . وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو دَاوُدَ الْأَعْمَى، وَهُوَ وَضَّاعٌ كَذَّابٌ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَاهُنَا مَا يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ دُونَ ما لا يَصْلُحُ. وَقَدْ تَوَسَّطَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَجَعَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ شَامِلَةً لِلزَّوْجَاتِ وَلِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، أَمَّا الزَّوْجَاتُ فَلِكَوْنِهِنَّ الْمُرَادَّاتِ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلِكَوْنِهِنَّ السَّاكِنَاتِ في بيوته صلّى الله عليه وَسَلَّمَ النَّازِلَاتِ فِي مَنَازِلِهِ، وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا دُخُولُ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ فَلِكَوْنِهِمْ قَرَابَتَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ فِي النَّسَبِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُمْ سَبَبُ النُّزُولِ، فَمَنْ جَعَلَ الْآيَةَ خَاصَّةً بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَقَدْ أَعْمَلَ بَعْضَ مَا يَجِبُ إِعْمَالُهُ، وَأَهْمَلَ مَا لَا يَجُوزُ إِهْمَالُهُ. وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا تقدم من حديث ابن عباس، ويقول زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الْمُتَقَدِّمِ، حَيْثُ قَالَ: وَلَكِنْ آلُهُ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ: آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ الْعَبَّاسِ، فَهَؤُلَاءِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ بَيْتُ النَّسَبِ. قوله: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أَيْ: اذْكُرْنَ مَوْضِعَ النِّعْمَةِ إِذْ صَيَّرَكُنَّ اللَّهُ فِي بُيُوتٍ يُتْلَى فِيهَا آيات الله والحكمة، أو اذْكُرْنَهَا، وَتَفَكَّرْنَ فِيهَا لِتَتَّعِظْنَ بِمَوَاعِظِ اللَّهِ، أَوِ اذْكُرْنَهَا لِلنَّاسِ لِيَتَّعِظُوا بِهَا، وَيَهْتَدُوا بِهُدَاهَا، أَوِ اذْكُرْنَهَا بِالتِّلَاوَةِ لَهَا لِتَحْفَظْنَهَا، وَلَا تَتْرُكْنَ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ التِّلَاوَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ آيات اللَّهِ: هِيَ الْقُرْآنُ، وَالْحِكْمَةُ: السُّنَّةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ وَالْحِكْمَةِ: أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ فِي الْقُرْآنِ. وقيل: إن القرآن جامع بين كونه بَيِّنَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ وَصِدْقِ النُّبُوَّةِ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ حِكْمَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى فُنُونٍ مِنَ الْعُلُومِ وَالشَّرَائِعِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً أَيْ: لَطِيفًا بِأَوْلِيَائِهِ خَبِيرًا بِجَمِيعِ خَلْقِهِ وَجَمِيعِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مَنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، فَهُوَ يُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ بِبَابِهِ جُلُوسٌ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ أُذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَدَخَلَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَقَالَ عمر: لأكلمنّ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ ابْنَةَ زَيْدٍ امْرَأَةَ عُمَرَ سَأَلَتِ النَّفَقَةَ آنِفًا فَوَجَأْتُ فِي عُنُقِهَا، فَضَحِكَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَقَالَ: «هُنَّ حَوْلِي يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ» فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ لِيَضْرِبَهَا، وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ، كِلَاهُمَا يَقُولَانِ: تسألان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَنَهَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقُلْنَ نِسَاؤُهُ: وَاللَّهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْخِيَارَ، فَنَادَى بِعَائِشَةَ فَقَالَ: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا مَا أُحِبُّ أَنْ تُعَجِّلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» قَالَتْ: مَا هُوَ؟ فتلا عليها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الْآيَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَفِيكَ أستأمر أبويّ، بل أختار الله ورسوله، وَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا تَذْكُرَ لِنِسَائِكَ مَا اخْتَرْتُ: فقال: «إنّ الله لم يَبْعَثَنِي مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ

بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُبَشِّرًا، لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ عَمَّا اخْتَرْتِ إِلَّا أَخْبَرْتُهَا» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهَا حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ قَالَتْ: فَبَدَأَ بِي فَقَالَ: «إِنِّي ذَاكِرٌ لك أمرا فلا عليك أن تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، فَقَالَ: «إِنَّ الله قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا إِلَى تَمَامِ الْآيَةِ» فَقُلْتُ لَهُ: فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَفَعَلَ أَزْوَاجُ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا فَعَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً قَالَ يَقُولُ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ مِنْكُنَّ وَتَعْمَلْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِطَاعَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ قَالَ: يَقُولُ لَا تُرَخِّصْنَ بِالْقَوْلِ وَلَا تَخْضَعْنَ بِالْكَلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ قَالَ: مُقَارَنَةُ الرِّجَالِ فِي الْقَوْلِ حَتَّى يَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّهُ قِيلَ لِسَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكِ لَا تَحُجِّينَ وَلَا تَعْتَمِرِينَ كَمَا يَفْعَلُ أَخَوَاتُكِ؟ فَقَالَتْ: قَدْ حَجَجْتُ وَاعْتَمَرْتُ وأمرني الله أن أقرّ في بيتي، فو الله لَا أَخْرُجُ مِنْ بَيْتِي حَتَّى أَمُوتَ قَالَ: فو الله مَا خَرَجَتْ مِنْ بَابِ حُجْرَتِهَا حَتَّى أُخْرِجَتْ بِجِنَازَتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا قَرَأَتْ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ بَكَتْ حَتَّى تَبُلَّ خِمَارَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ قَالَ: كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى: فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ، وَإِدْرِيسَ، وَكَانَتْ أَلْفَ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَهُ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ لأزواج النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى هَلْ كَانَتْ جَاهِلِيَّةٌ غَيْرَ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا سَمِعْتُ بِأُولَى إِلَّا وَلَهَا آخِرَةٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَأْتِنِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ كما جاهدتم أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ أَمَرَنَا أَنْ نجاهد؟ قال: بني مَخْزُومٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: تَكُونُ جَاهِلِيَّةٌ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا تَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَتْ: الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ عَلَى عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ قَالَ: الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَمْتَنُّ بِذَلِكَ عَلَيْهِنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ سَهْلٍ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ الْآيَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ النَّوَافِلَ بِاللَّيْلِ والنهار.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 35 إلى 36]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 35 الى 36] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَدَأَ سُبْحَانَهُ بِذِكْرِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ مَعَ الْعَمَلِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنِ الْإِسْلَامِ قَالَ: «هُوَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ» ثُمَّ عَطَفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُسْلِماتِ تَشْرِيفًا لَهُنَّ بِالذِّكْرِ. وَهَكَذَا فِيمَا بَعْدُ، وَإِنْ كُنَّ دَاخِلَاتٍ فِي لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالتَّذْكِيرُ إِنَّمَا هُوَ لِتَغْلِيبِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ، كَمَا فِي جَمِيعِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ: الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقَانِتُ: الْعَابِدُ الْمُطِيعُ، وَكَذَا الْقَانِتَةُ، وَقِيلَ الْمُدَاوِمِينَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَالصَّادِقُ، وَالصَّادِقَةُ: هُمَا مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالصِّدْقِ، وَيَتَجَنَّبُ الْكَذِبَ، وَيَفِي بِمَا عُوهِدَ عَلَيْهِ، وَالصَّابِرُ، وَالصَّابِرَةُ: هُمَا مَنْ يَصْبِرُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَعَلَى مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ، وَالْخَاشِعُ، وَالْخَاشِعَةُ: هُمَا الْمُتَوَاضِعَانِ لِلَّهِ الْخَائِفَانِ مِنْهُ الْخَاضِعَانِ فِي عباداتهم لِلَّهِ، وَالْمُتَصَدِّقُ، وَالْمُتَصَدِّقَةُ: هُمَا مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، وَكَذَلِكَ: الصَّائِمُ وَالصَّائِمَةُ، قِيلَ: ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْفَرْضِ، وَقِيلَ: هُوَ أَعَمُّ، وَالْحَافِظُ، وَالْحَافِظَةُ لِفَرْجَيْهِمَا عَنِ الْحَرَامِ بِالتَّعَفُّفِ، وَالتَّنَزُّهِ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْحَلَالِ، وَالذَّاكِرُ، وَالذَّاكِرَةُ: هُمَا مَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى أَحْوَالِهِ، وَفِي ذِكْرِ الْكَثْرَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَاكْتَفَى فِي الْحَافِظَاتِ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَافِظِينَ مِنْ ذِكْرِ الْفُرُوجِ وَالتَّقْدِيرُ: وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ، وَالْحَافِظَاتِ فُرُوجَهُنَّ، وَكَذَا فِي الذَّاكِرَاتِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتِ اللَّهَ كَثِيرًا، وَالْخَبَرُ لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ: هُوَ قَوْلُهُ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً أَيْ: مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِمُ الَّتِي أَذْنَبُوهَا، وَأَجْرًا عَظِيمًا عَلَى طَاعَاتِهِمُ الَّتِي فَعَلُوهَا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْقُنُوتِ، وَالصِّدْقِ، وَالصَّبْرِ، وَالْخُشُوعِ، وَالتَّصَدُّقِ، وَالصَّوْمِ، وَالْعَفَافِ، وَالذِّكْرِ، وَوَصْفُ الْأَجْرِ بِالْعِظَمِ: لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ بَالِغٌ غَايَةَ الْمَبَالِغِ، وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْ أَجْرٍ هُوَ الْجَنَّةُ وَنَعِيمُهَا الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يَنْفَدُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذُنُوبَنَا وَأَعْظِمْ أُجُورَنَا وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أَيْ: مَا صَحَّ، وَلَا اسْتَقَامَ لِرَجُلٍ، وَلَا امْرَأَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَفْظُ مَا كان، وما ينبغي، ونحوهما معناهما الْمَنْعُ، وَالْحَظْرُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَكُونَ شَرْعًا، وَقَدْ يَكُونُ لِمَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا كَقَوْلِهِ: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «1» وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إِذَا قَضَى اللَّهُ أَمْرًا أَنْ يَخْتَارَ من أمر نفسه ما شاء،

_ (1) . النمل: 6.

بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُذْعِنَ لِلْقَضَاءِ، وَيُوقِفَ نفسه على ما قضاه الله عليه وَاخْتَارَهُ لَهُ، وَجَمَعَ الضَّمِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ ومن أَمْرِهِمْ لِأَنَّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَقَعَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَهُمَا يَعُمَّانِ كُلَّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ. قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ «أَنْ يَكُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ لِأَنَّهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ الْمُؤَنَّثِ بِقَوْلِهِ لَهُمْ مَعَ كَوْنِ التَّأْنِيثِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ لِكَوْنِهِ مُسْنَدًا إِلَى الْخِيَرَةِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا، وَالْخِيَرَةُ مَصْدَرٌ بمعنى الاختيار. وقرأ ابن السميقع «الْخِيرَةُ» بِسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، وَالْبَاقُونَ بِتَحْرِيكِهَا، ثُمَّ تَوَعَّدَ سُبْحَانَهُ مَنْ لَمْ يُذْعِنْ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فَقَالَ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً أي: ضلّ عن طريق الحق ضلالا واضحا ظاهرا لَا يَخْفَى. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَنَا لَا نُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ؟ فَلَمْ يَرُعْنِي مِنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَّا نِدَاؤُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْهَا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم فقالت: مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا لِلرِّجَالِ، وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: حَسَنٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتِ النِّسَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا بَالُهُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَذْكُرُ الْمُؤْمِنَاتِ؟ فَنَزَلَتْ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقَ لِيَخْطُبَ عَلَى فَتَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَدَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةِ فَخَطَبَهَا، قَالَتْ: لَسْتُ بِنَاكِحَتِهِ، قَالَ: بَلَى فَانْكِحِيهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُؤَامِرُ نَفْسِي، فَبَيْنَمَا هُمَا يَتَحَدَّثَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى رَسُولِهِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الْآيَةَ، قَالَتْ: قَدْ رَضِيتَهُ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ منكحا، قال: نعم، قالت: إذا لَا أَعْصِي رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَنْكَحْتُهُ نَفْسِي. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَبَ: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُهُ لَكِ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَكِنِّي لَا أَرْضَاهُ لِنَفْسِي وَأَنَا أَيِّمُ قَوْمِي، وَبِنْتُ عَمَّتِكَ فَلَمْ أَكُنْ لِأَفْعَلَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ يَعْنِي زَيْدًا وَلا مُؤْمِنَةٍ يَعْنِي زَيْنَبَ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً يَعْنِي النِّكَاحَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ خِلَافَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً قَالَتْ: قَدْ أَطَعْتُكَ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ، فَزَوَّجَهَا زَيْدًا وَدَخَلَ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ هَاجَرَتْ، فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَوَّجَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَسَخِطَتْ هِيَ وَأَخُوهَا، وَقَالَا: إِنَّمَا أَرَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ فَزَوَّجَنَا عبده.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 37 إلى 40]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 37 الى 40] وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) لما زوّج رسول الله زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ كَمَا مَرَّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَيْ: وَاذْكُرْ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنْعَمَ عليه رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِأَنْ أَعْتَقَهُ مِنَ الرِّقِّ، وَكَانَ مِنْ سَبْيِ الْجَاهِلِيَّةِ اشْتَرَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ، وَسَيَأْتِي فِي بَيَانِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا يُوَضِّحُ الْمُرَادَ مِنْهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَهَبَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْهُمُ: ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقَعَ مِنْهُ اسْتِحْسَانٌ لِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَهِيَ فِي عِصْمَةِ زَيْدٍ، وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا زَيْدٌ فَيَتَزَوَّجَهَا هُوَ، ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا لَمَّا أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ يُرِيدُ فِرَاقَهَا، وَيَشْكُو مِنْهَا غِلْظَةَ قَوْلٍ، وَعِصْيَانَ أَمْرٍ، وَأَذًى بِاللِّسَانِ، وَتَعَظُّمًا بِالشَّرَفِ قَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فِيمَا تَقُولُ عَنْهَا وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَهُوَ يُخْفِي الْحِرْصَ عَلَى طَلَاقِ زَيْدٍ إِيَّاهَا، وَهَذَا الَّذِي كَانَ يُخْفِي فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ لَزِمَ مَا يَجِبُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. انْتَهَى. أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يَعْنِي: زَيْنَبَ وَاتَّقِ اللَّهَ فِي أَمْرِهَا وَلَا تُعَجِّلْ بِطَلَاقِهَا وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَهُوَ نِكَاحُهَا إِنْ طَلَّقَهَا زَيْدٌ، وَقِيلَ: حُبُّهَا وَتَخْشَى النَّاسَ أَيْ: تَسْتَحْيِيهِمْ، أَوْ تخاف من تعييرهم بِأَنْ يَقُولُوا أَمَرَ مَوْلَاهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَتَخَافُ مِنْهُ، وَتَسْتَحْيِيهِ، وَالْوَاوُ: لِلْحَالِ، أَيْ: تُخْفِي فِي نَفْسِكَ ذَلِكَ الْأَمْرَ مَخَافَةً مِنَ النَّاسِ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً قَضَاءُ الْوَطَرِ فِي اللُّغَةِ: بُلُوغُ مُنْتَهَى مَا فِي النَّفْسِ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ قَضَى وَطَرًا مِنْهُ: إِذَا بَلَغَ مَا أَرَادَ مِنْ حَاجَتِهِ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَيُّهَا الرَّائِحُ الْمُجِدُّ ابْتِكَارَا ... قَدْ قَضَى مِنْ تِهَامَةَ الْأَوْطَارَا أَيْ: فَرَغَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَبَلَغَ مَا أَرَادَ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُ قَضَى وطره منها بنكاحها، وَالدُّخُولِ بِهَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهَا حاجة، وقيل المراد به: الطلاق، لأن الرَّجُلَ إِنَّمَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهَا حَاجَةٌ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْوَطَرُ الشَّهْوَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَأَنْشَدَ: وَكَيْفَ ثِوَائِي بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا ... قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْوَطَرُ: الْأَرَبُ وَالْحَاجَةُ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الفزاري:

وَدَّعَنَا قَبْلَ أَنْ نُوَدِّعَهُ ... لَمَّا قَضَى مِنْ شَبَابِنَا وَطَرَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ زَوَّجْناكَها وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنَاهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ: زَوَّجْتُكَهَا، فَلَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَلَا عَقْدٍ، وَلَا تَقْدِيرِ صَدَاقٍ، وَلَا شَيْءٍ مِمَّا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي النِّكَاحِ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ: الْأَمْرُ لَهُ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ أَيْ: ضِيقٌ وَمَشَقَّةٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ أَيْ: فِي التَّزَوُّجِ بِأَزْوَاجِ مَنْ يَجْعَلُونَهُ ابْنًا، كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْعَرَبُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَنَّوْنَ مَنْ يُرِيدُونَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَدْ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَكَانَ يُقَالُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ سبحانه: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ وكانت العرب تعتقد أنه يحرم عليه نساء من تبنوه، كما تحرم عليه نِسَاءُ أَبْنَائِهِمْ حَقِيقَةً. وَالْأَدْعِيَاءُ: جَمْعُ دَعِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي يَدَّعِي ابْنًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ابْنًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّ نِسَاءَ الْأَدْعِيَاءِ حَلَالٌ لَهُمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً بِخِلَافِ ابْنِ الصُّلْبِ، فَإِنَّ امْرَأَتَهُ تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أَيْ: كَانَ قَضَاءُ اللَّهِ فِي زَيْنَبَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءً مَاضِيًا مَفْعُولًا لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَجٌ فِي هَذَا النِّكَاحِ، فَقَالَ: مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أَيْ: فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، يُقَالُ فَرَضَ لَهُ كَذَا، أَيْ قَدَّرَ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أَيْ: إِنَّ هَذَا هُوَ السَّنَنُ الْأَقْدَمُ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَنْ يَنَالُوا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أَيْ: قَضَاءً مَقْضِيًّا. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ أَمْرَ زَيْنَبَ كَانَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَانْتِصَابُ سُنَّةَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: سَنَّ اللَّهُ سُنَّةَ اللَّهِ، أَوِ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِجَعَلَ، أَوْ بِالْإِغْرَاءِ. وَرَدَّهُ أَبُو حَيَّانَ بِأَنَّ عَامِلَ الْإِغْرَاءِ لَا يُحْذَفُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْأَنْبِيَاءَ الْمَاضِينَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَالْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جر صفة ل «لِلَّذِينَ خَلَوْا» أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، مَدَحَهُمْ سُبْحَانَهُ بِتَبْلِيغِ مَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ إِلَى عِبَادِهِ وَخَشْيَتِهِ فِي كُلِّ فِعْلٍ وَقَوْلٍ، وَلَا يَخْشَوْنَ سِوَاهُ، وَلَا يُبَالُونَ بِقَوْلِ النَّاسِ، وَلَا بِتَعْبِيرِهِمْ، بَلْ خَشْيَتُهُمْ مَقْصُورَةٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً حَاضِرًا فِي كُلِّ مَكَانٍ يَكْفِي عِبَادَهُ كُلَّ مَا يَخَافُونَهُ، أَوْ مُحَاسِبًا لَهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَلَمَّا تَزَوَّجَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ زَيْنَبَ قَالَ النَّاسُ: تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ أَيْ: لَيْسَ بِأَبٍ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى تَحْرُمَ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ، وَلَا هُوَ أَبٌ لِأَحَدٍ لَمْ يَلِدْهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَكُنْ أَبَا أَحَدٍ لَمْ يَلِدْهُ، وَقَدْ وُلِدَ لَهُ مِنَ الذُّكُورِ إِبْرَاهِيمُ وَالْقَاسِمُ وَالطَّيِّبُ وَالْمُطَهَّرُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَكِنْ لَمْ يَعِشْ لَهُ ابْنٌ حَتَّى يَصِيرَ رَجُلًا. قَالَ: وَأَمَّا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فَكَانَا طِفْلَيْنِ وَلَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ مُعَاصِرَيْنِ لَهُ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: وَلَكِنْ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ، وَأَجَازَا الرَّفْعَ. وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ فِي رَسُولَ، وَفِي خَاتَمَ عَلَى مَعْنَى: وَلَكِنْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَقَرَأَ الجمهور: بتخفيف لكن، ونصب رسول، وخاتم، وَوَجْهُ النَّصْبِ: عَلَى خَبَرِيَّةِ كَانَ الْمُقَدَّرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَطْفِ عَلَى أَبَا أَحَدٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِتَشْدِيدِ لَكِنْ، وَنَصْبِ رَسُولَ عَلَى أَنَّهُ اسْمُهَا، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ هُوَ: وقرأ

الْجُمْهُورُ خَاتِمَ بِكَسْرِ التَّاءِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِفَتْحِهَا- وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ خَتَمَهُمْ، أَيْ: جَاءَ آخِرَهُمْ. وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ صَارَ كَالْخَاتَمِ لَهُمُ الَّذِي يَتَخَتَّمُونَ بِهِ وَيَتَزَيَّنُونَ بِكَوْنِهِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: كَسْرُ التَّاءِ وَفَتْحُهَا لُغَتَانِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْوَجْهُ الْكَسْرُ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ أَنَّهُ خَتَمَهُمْ فَهُوَ خَاتِمُهُمْ، وَأَنَّهُ قَالَ «أَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ» وَخَاتِمُ الشَّيْءِ: آخِرُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: خَاتِمُهُ الْمِسْكُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْخَاتَمُ هُوَ الَّذِي خُتِمَ بِهِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً قَدْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَعْلُومَاتِهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو زَيْنَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، فَنَزَلَتْ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ» . قَالَ أَنَسٌ: فَلَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَتَزَوَّجَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أو لم على امرأة من نسائه ما أو لم عَلَيْهَا، ذَبَحَ شَاةً فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها فَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِيَ اللَّهُ مِنْ فوق سبع سموات. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ: «اذْهَبْ فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ» فَانْطَلَقَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي، فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أَبْشِرِي أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ يَذْكُرُكِ، قَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي، فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، وَجَاءَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا حِينَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعَمَنَا عَلَيْهَا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ، فَخَرَجَ النَّاسُ وَبَقِيَ رِجَالٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ الطَّعَامِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّبَعْتُهُ، فَجَعَلَ يَتَتَبَّعُ حُجَرَ نِسَائِهِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ؟ فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ خَرَجُوا أَوْ أُخْبِرَ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ مَعَهُ، فَأَلْقَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَنَزَلَ الْحِجَابُ، وَوُعِظَ الْقَوْمُ بِمَا وُعِظُوا بِهِ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الآية» . وأخرج سعيد بن حميد، والترمذي، وصححه ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَعْنِي: بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ يَعْنِي بِالْعِتْقِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا قَالُوا تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَلَبِثَ حَتَّى صَارَ رَجُلًا، يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يَعْنِي أَعْدَلَ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِهِ: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ قَالَ: يَعْنِي يَتَزَوَّجُ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءَ هَذَا فَرِيضَةٌ، وَكَانَ مَنْ قَبْلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ هَذَا سُنَّتُهُمْ، قَدْ كَانَ لِسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ أَلْفُ امْرَأَةٍ، وَكَانَ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ قال داود: والمرأة التي نكحها واسمها اليسعية، فَذَلِكَ سُنَّةٌ فِي مُحَمَّدٍ وَزَيْنَبَ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً كَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِهِ فِي دَاوُدَ وَالْمَرْأَةِ، وَالنَّبِيِّ وَزَيْنَبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 إلى 48]

كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ قَالَ: نَزَلَتْ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ النَّبِيِّينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، فَانْتَهَى، إِلَّا لَبِنَةً وَاحِدَةً، فَجِئْتُ أَنَا فَأَتْمَمْتُ تِلْكَ اللَّبِنَةَ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَكَانَ مَنْ دَخَلَهَا فَنَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ مَا أَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ اللَّبِنَةِ، فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ حَتَّى خَتَمَ بِيَ الْأَنْبِيَاءَ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نحوه أيضا. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً أَمَرَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِأَنْ يَسْتَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِهِ بِالتَّهْلِيلِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَكُلِّ مَا هو ذكر الله تَعَالَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَنْ لَا يَنْسَاهُ أَبَدًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَيُقَالُ ذِكْرًا كَثِيرًا: بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالتَّكْبِيرُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أَيْ: نَزِّهُوهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي وقت البكرة، ووقت الأصيل، وهما أَوَّلُ النَّهَارِ وَآخِرُهُ، وَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ لِمَزِيدِ ثَوَابِ التَّسْبِيحِ فِيهِمَا، وَخُصَّ التَّسْبِيحُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ دُخُولِهِ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ: اذْكُرُوا اللَّهَ تَنْبِيهًا عَلَى مَزِيدِ شَرَفِهِ، وَإِنَافَةِ ثَوَابِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ بِكُرَةً: صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَبِالتَّسْبِيحِ أَصِيلًا: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ جَرِيرٍ: الْمُرَادُ: صَلَاةُ الْغَدَاةِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَمَّا بُكْرَةً: فَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَأَمَا أَصِيلًا: فَصَلَاةُ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَالْأَصِيلُ: الْعَشِيُّ، وَجَمْعُهُ أَصَائِلُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ رَحْمَتُهُ لَهُمْ، وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ لَهُمْ، وَالِاسْتِغْفَارُ كَمَا قَالَ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا «1» قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الْمَعْنَى وَيَأْمُرُ مَلَائِكَتَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لَكُمْ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالتَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ. وَقِيلَ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ: هِيَ إِشَاعَةُ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ لَهُ فِي عِبَادِهِ، وَقِيلَ: الثناء عليه، وعطف ملائكته على الضمير هنا معنى مجازي يعمّ صلاة الله بمعنى الرحمة، وصلاة الملائكة، بِمَعْنَى الدُّعَاءِ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَاللَّامُ فِي لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ متعلق بيصلي، أي: يعتني بأموركم هو وملائكته لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْمَعَاصِي إِلَى نُورِ الطَّاعَاتِ، وَمِنْ ظُلْمَةِ الضَّلَالَةِ إِلَى نُورِ الْهُدَى، وَمَعْنَى الآية: تثبيت

_ (1) . غافر: 7. [.....]

الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْهِدَايَةِ، وَدَوَامُهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا وَقْتَ الْخِطَابِ عَلَى الْهِدَايَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِرَحْمَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ تَأْنِيسًا لَهُمْ، وَتَثْبِيتًا فَقَالَ: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَهَا، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ مِنْهُ لَا تَخُصُّ السَّامِعِينَ وَقْتَ الْخِطَابِ بَلْ هِيَ عَامَّةٌ لَهُمْ، وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ أَيْ: تَحِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَوْمَ لِقَائِهِمْ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، أَوْ عِنْدَ الْبَعْثِ، أَوْ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ هِيَ التَّسْلِيمُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَحِيَّةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ يَوْمَ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ سَلَامٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا، فَلَمَّا شَمِلَتْهُمْ رَحْمَتُهُ، وَأَمِنُوا مِنْ عِقَابِهِ حَيَّا بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُرُورًا وَاسْتِبْشَارًا. والمعنى: سلامة لَنَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: فَيُسَلِّمُهُمُ اللَّهُ مِنَ الْآفَاتِ، وَيُبَشِّرُهُمْ بِالْأَمْنِ مِنَ الْمُخَافَاتِ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي «يَلْقَوْنَهُ» : رَاجِعٌ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ، وَهُوَ الَّذِي يُحَيِّيهِمْ، كَمَا وَرَدَ أَنَّهُ لَا يَقْبِضُ رُوحَ مُؤْمِنٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَ الرَّبَّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ «1» وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً أَيْ: أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ رِزْقًا حَسَنًا مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ وَتَلَذُّهُ أَعْيُنُهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ صِفَاتِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلم التي أرسله لها فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أَيْ: عَلَى أُمَّتِهِ يَشْهَدُ لِمَنْ صَدَّقَهُ، وَآمَنَ بِهِ، وَعَلَى مَنْ كَذَّبَهُ وَكَفَرَ بِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: شَاهِدًا عَلَى أُمَّتِهِ بِالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ بِتَبْلِيغِ أَنْبِيَائِهِمْ إِلَيْهِمْ وَمُبَشِّراً لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَبِمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، وَعَظِيمِ الْأَجْرِ وَنَذِيراً لِلْكَافِرِينَ وَالْعُصَاةِ بِالنَّارِ، وَبِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ عَظِيمِ الْعِقَابِ وَداعِياً إِلَى اللَّهِ يَدْعُو عِبَادَ اللَّهِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ، وَمَعْنَى بِإِذْنِهِ بِأَمْرِهِ لَهُ بِذَلِكَ وَتَقْدِيرِهِ، وَقِيلَ: بِتَبْشِيرِهِ وَسِراجاً مُنِيراً أَيْ: يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي ظُلَمِ الضَّلَالَةِ، كَمَا يُسْتَضَاءُ بِالْمِصْبَاحِ فِي الظُّلْمَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَسِراجاً أَيْ: ذَا سِرَاجٍ مُنِيرٍ، أَيْ: كِتَابٍ نَيِّرٍ، وَانْتِصَابُ شَاهِدًا وَمَا بَعْدَهُ: عَلَى الْحَالِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، كَأَنَّهُ قَالَ فَاشْهَدْ وَبَشِّرْ، أَوْ فَدَبِّرْ أَحْوَالَ النَّاسِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ هُوَ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ. أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ «2» ثُمَّ نَهَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْ طَاعَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ فَقَالَ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أَيْ: لَا تُطِعْهُمْ فِيمَا يُشِيرُونَ عَلَيْكَ بِهِ مِنَ الْمُدَاهَنَةِ فِي الدِّينِ، وَفِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ لِغَيْرِهِ مِنْ أمته لأنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ عَنْ طَاعَتِهِمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُرِيدُونَهُ، وَيُشِيرُونَ بِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَدَعْ أَذاهُمْ أَيْ: لَا تُبَالِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِلَيْكَ مِنَ الْأَذَى بِسَبَبٍ يُصِيبُكَ فِي دِينِ اللَّهِ وَشِدَّتِكَ عَلَى أَعْدَائِهِ، أَوْ دَعْ أَنْ تُؤْذِيَهُمْ مُجَازَاةً لَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الْأَذَى لَكَ، فَالْمَصْدَرُ عَلَى الْأَوَّلِ: مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ. وعلى الثاني: مضاف إلى المفعول،

_ (1) . الرعد: 23 و 24. (2) . الشورى: 22.

وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في كلّ شؤونك وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تُوَكَّلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ وَتُفَوَّضُ إليه الشؤون، فَمَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ أُمُورَهُ كَفَاهُ، وَمَنْ وَكَّلَ إِلَيْهِ أَحْوَالَهُ لَمْ يَحْتَجْ فِيهَا إِلَى سِوَاهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً يَقُولُ: لَا يَفْرِضُ عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً إِلَّا جَعَلَ لَهَا أَجَلًا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حَالِ الْعُذْرِ غَيْرَ الذِّكْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ وَلَمْ يَعْذِرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، فَقَالَ: اذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا، وَعَلَى جَنُوبِكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فِي الغنى والفقر، في الصِّحَّةِ وَالسُّقْمِ، فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ صَلَّى عَلَيْكُمْ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ قَالَ اللَّهُ: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الذِّكْرِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي الْأَذْكَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ: كَالنَّسَائِيِّ، وَالنَّوَوِيِّ، وَالْجَزَرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ بِفَضْلِ الذَّاكِرِينَ وَفَضِيلَةِ الذكر وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ «1» وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْجِهَادِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ: الْعِبَادِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِنَ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا لَكَانَ الذَّاكِرُونَ أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا أَعْدَاءَكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ، قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، والبيهقي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُونٌ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «اذْكُرُوا اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ الْمُنَافِقُونَ إِنَّكُمْ مراؤون» . وَوَرَدَ فِي فَضْلِ التَّسْبِيحِ بِخُصُوصِهِ أَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هريرة قال: «مَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لنا: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْتَسِبَ فِي الْيَوْمِ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ يَكْتَسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: يُسَبِّحُ اللَّهَ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ وَيُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أبي حاتم، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي الشُّعَبِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلِهِ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قَالَ: يَوْمَ

_ (1) . العنكبوت: 29.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 إلى 52]

يَلْقَوْنَ مَلَكَ الْمَوْتِ لَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ يَقْبِضُ رُوحَهُ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نزلت يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقَدْ كَانَ أَمَرَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا أَنْ يَسِيرَا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: انْطَلِقَا فَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، فَإِنَّهَا قَدْ أُنْزِلَتْ عليّ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً قَالَ: شَاهِدًا عَلَى أُمَّتِكَ، وَمُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ، وَنَذِيرًا مِنَ النَّارِ، وَدَاعِيًا إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً بالقرآن. وأخرج أحمد، والبخاري، وغيرهما من عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، فَقُلْتُ: أَخْبَرَنِي عَنْ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا تَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ تَعْفُو وَتَصْفَحُ» زَادَ أَحْمَدُ «وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا» . وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي الْبُيُوعِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَلَمْ يَقُلْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَهَذَا أَوْلَى، فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ هُوَ الَّذِي كَانَ يسأل عن التوراة فيخبر بما فيها. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 52] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ قِصَّةَ زَيْدٍ، وَطَلَاقَهُ لِزَيْنَبَ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَخَطَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ مُبَيِّنًا لَهُمْ حُكْمَ الزَّوْجَةِ إِذَا طَلَّقَهَا زوجها قبل الدخول فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ أَيْ: عَقَدْتُمْ بِهِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَرِدْ لَفْظُ النِّكَاحِ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا فِي مَعْنَى الْعَقْدِ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي لَفْظِ النِّكَاحِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، أَوْ فِي الْعَقْدِ، أَوْ فِيهِمَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِرَاكِ، وَكَلَامُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، فَإِنَّهُ قَالَ النِّكَاحُ الْوَطْءُ، وَتَسْمِيَةُ العقد نكاحا

لِمُلَابَسَتِهِ لَهُ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَيْهِ، ونظيره تسميته الْخَمْرِ إِثْمًا لِأَنَّهَا سَبَبٌ فِي اقْتِرَافِ الْإِثْمِ. ومعنى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُجَامِعُوهُنَّ، فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْمَسِّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَمَا حَكَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَمَعْنَى تَعْتَدُّونَهَا: تَسْتَوْفُونَ عَدَدَهَا، مِنْ عَدَدْتُ الدَّرَاهِمَ فَأَنَا أَعْتَدُّهَا. وَإِسْنَادُ ذَلِكَ إِلَى الرِّجَالِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ لَهُمْ كَمَا يُفِيدُهُ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَعْتَدُّونَهَا» بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَأَهْلُ مَكَّةَ بِتَخْفِيفِهَا. وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْأُولَى، مأخوذة مِنَ الِاعْتِدَادِ: أَيْ تَسْتَوْفُونَ عَدَدَهَا، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا التَّضْعِيفَ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَلَوْ كَانَ من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف، الِاعْتِدَاءَ يَتَعَدَّى بِعَلَى. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاعْتِدَاءِ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ: تَعْتَدُّونَ عَلَيْهَا، أَيْ: عَلَى الْعِدَّةِ مَجَازًا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِنْ صَبَابَةٍ ... وَأُخْفِي الَّذِي لَوْلَا الْأَسَى لَقَضَانِي أَيْ: لَقَضَى عَلَيَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تَعْتَدُونَ فِيهَا، والمراد بالاعتداء هذا. هو ما في قوله: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا «1» فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْآخِرَةِ: فَمَا لَكَمَ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَ عَلَيْهِنَّ فِيهَا بِالْمُضَارَّةِ. وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ صِحَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَقَالَ: إِنَّ الْبَزِّيِّ غَلِطَ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «2» وَبِقَوْلِهِ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ «3» وَالْمُتْعَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا فِي الْبَقَرَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، هَذِهِ الْمُتْعَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ «4» وَقِيلَ: الْمُتْعَةُ هُنَا هِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، أَوِ الْمُتْعَةُ خَاصَّةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سُمِّيَ لَهَا، فَمَعَ التَّسْمِيَةِ لِلصَّدَاقِ تَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْمُسَمَّى عَمَلًا بِقَوْلِهِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَهُنَّ، وَمَعَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ تَسْتَحِقُّ الْمُتْعَةَ عَمَلًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ «5» وَهَذَا الْجَمْعُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْجِيحِ وَعَلَى دَعْوَى النَّسْخِ، وَتُخَصَّصُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَقَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا كَانَ الْمَوْتُ كَالدُّخُولِ فَتَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: بِالْإِجْمَاعِ، فَيَكُونُ الْمُخَصَّصُ: هُوَ الْإِجْمَاعُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ مَالِكٌ: وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى صِحَّةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ إِذَا قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ، فَتُطَلَّقُ إِذَا تَزَوَّجَهَا. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ لِمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ قَالَ: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ فَعَقَّبَ الطَّلَاقَ بِالنِّكَاحِ بِلَفْظِ ثُمَّ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أَيْ: أَخْرِجُوهُنَّ مِنْ مَنَازِلِكُمْ: إِذْ لَيْسَ لَكُمْ عليهنّ عدّة، والسراح الجميل: الذي لا ضرار فيه، وقيل: السراح، وقيل: السراح الجميل: أن لا يطالبها بما كان قد أعطاها، وقيل:

_ (1) . البقرة: 231. (2) . البقرة: 228. (3) . الطلاق: 4. (4) . البقرة: 237. (5) . البقرة: 236.

السراح الْجَمِيلُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الطَّلَاقِ، وَرُتِّبَ عَلَيْهِ التَّمْتِيعُ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ السَّرَاحُ الْجَمِيلُ، فَلَا بُدَّ أن يراد به معنى غير الطلاق يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعَ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ، وَبَدَأَ بِأَزْوَاجِهِ اللَّاتِي قَدْ أَعْطَاهُنَّ أُجُورَهُنَّ: أَيْ مُهُورَهُنَّ، فَإِنَّ الْمُهُورَ: أُجُورُ الْأَبْضَاعِ، وَإِيتَاؤُهَا: إِمَّا تَسْلِيمُهَا مُعَجَّلَةً، أَوْ تَسْمِيَتُهَا فِي الْعَقْدِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ كُلَّ امْرَأَةٍ يُؤْتِيهَا مَهْرَهَا، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُبِيحَةً لِجَمِيعِ النِّسَاءِ مَا عَدَا ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ: الْكَائِنَاتِ عِنْدَكَ، لِأَنَّهُنَّ قَدِ اخْتَرْنَكَ عَلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وهذا هو الظاهر، لأنه قَوْلَهُ أَحْلَلْنَا، وَآتَيْتَ: مَاضِيَانِ، وَتَقْيِيدُ الْإِحْلَالِ بِإِيتَاءِ الْأُجُورِ لَيْسَ لِتَوَقُّفِ الْحَلِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِلَا تَسْمِيَةٍ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ مَعَ الْوَطْءِ، وَالْمُتْعَةِ مَعَ عَدَمِهِ، فَكَأَنَّهُ لِقَصْدِ الْإِرْشَادِ إِلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أَيْ: السِّرَارِيِّ اللَّاتِي دَخَلْنَ فِي مِلْكِهِ بِالْغَنِيمَةِ، وَمَعْنَى مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِمَّا رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْغَنِيمَةِ لِنِسَائِهِمُ الْمَأْخُوذَاتِ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْقَيْدِ إِخْرَاجَ مَا مَلَكَهُ بِغَيْرِ الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّهَا تُحِلُّ لَهُ السُّرِّيَّةَ الْمُشْتَرَاةَ وَالْمَوْهُوبَةَ وَنَحْوَهُمَا، وَلَكِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ كَالْقَيْدِ الْأَوَّلِ الْمُصَرِّحِ بِإِيتَاءِ الْأُجُورِ، وَهَكَذَا قَيْدُ الْمُهَاجَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فَإِنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ، وَلِلْإِيذَانِ بِشَرَفِ الْهِجْرَةِ، وَشَرَفِ مَنْ هَاجَرَ، والمراد هُنَا الِاشْتِرَاكُ فِي الْهِجْرَةِ لَا فِي الصُّحْبَةِ فِيهَا. وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْقَيْدَ: أَعْنِي الْمُهَاجَرَةَ مُعْتَبَرٌ وَأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ مَنْ لَمْ تُهَاجِرْ مِنْ هَؤُلَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا «1» وَيُؤَيِّدُ هَذَا حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ، وَسَيَأْتِي آخِرَ الْبَحْثِ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَوَجْهُ إِفْرَادِ الْعَمِّ، وَالْخَالِ وَجَمْعِ الْعَمَّةِ، وَالْخَالَةِ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ فِي الْإِطْلَاقِ اسْمُ جِنْسٍ كَالشَّاعِرِ وَالرَّاجِزِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ. قَالَ: وَهَذَا عُرْفٌ لُغَوِيٌّ، فَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِغَايَةِ الْبَيَانِ. وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ وَحَّدَ لَفْظَ الذِّكْرِ لِشَرَفِهِ، وَجَمَعَ الْأُنْثَى كَقَوْلِهِ: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ «2» وقوله: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «3» وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «4» وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ. انْتَهَى. وَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجْمَعِ الْعَمَّ وَالْخَالَ اكْتِفَاءً بِجِنْسِيَّتِهِمَا مَعَ أَنَّ لِجَمْعِ الْبَنَاتِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ اجتماع أُخْتَيْنِ تَحْتَ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَحْسُنْ هَذَا الِاخْتِصَارُ فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ لِإِمْكَانِ سَبْقِ الْوَهْمِ إِلَى أَنَّ التَّاءَ فِيهِمَا لِلْوَحْدَةِ انْتَهَى. وَكُلُّ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ يَحْتَمِلُ الْمُنَاقَشَةَ بِالنَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ، وَأَحْسَنُهَا تَعْلِيلُ جَمْعِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ بِسَبْقِ الْوَهْمِ إِلَى أَنَّ التَّاءَ لِلْوَحْدَةِ، وَلَيْسَ فِي الْعَمِّ وَالْخَالِ مَا يَسْبِقُ الْوَهْمُ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْوَحْدَةُ إِلَّا مُجَرَّدُ صِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ بَعْدَ إِضَافَتِهَا لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ عُمُومِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْمُضَافَةِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الْأَحْسَنَ لَا يَصْفُو عَنْ شَوْبِ الْمُنَاقَشَةِ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولِ أَحْلَلْنَا، أَيْ: وَأَحْلَلْنَا لَكَ امْرَأَةً مُصَدِّقَةً بِالتَّوْحِيدِ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لك بِغَيْرِ صَدَاقٍ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً فَلَا تَحِلُّ لَكَ بِمُجَرَّدِ هِبَتِهَا نَفْسَهَا لَكَ، ولكن ليس بواجب

_ (1) . الأنفال: 72. (2) . النحل: 48. (3) . البقرة: 257. (4) . الأنعام: 1.

عَلَيْكَ بِحَيْثُ يَلْزَمُكَ قَبُولُ ذَلِكَ، بَلْ مُقَيَّدًا بِإِرَادَتِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أَيْ: يُصَيِّرَهَا مَنْكُوحَةً لَهُ، وَيَتَمَلَّكَ بُضْعَهَا بِتِلْكَ الْهِبَةِ بِلَا مَهْرٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لم ينكح النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْوَاهِبَاتِ أَنْفُسَهُنَّ أَحَدًا وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ. وَقِيلَ: كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ: هِيَ أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ جَابِرٍ الْأَسَدِيَّةُ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: هِيَ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ النِّكَاحِ خَاصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ فَقَالَ: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: هَذَا الْإِحْلَالُ الْخَالِصُ هُوَ خَاصٌّ بِكَ دُونَ غَيْرِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَفْظُ خَالِصَةً إِمَّا حَالٌ مِنَ امْرَأَةً، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ كَوَعْدِ اللَّهِ، أَيْ: خَالِصٌ لَكَ خُلُوصًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَامْرَأَةً» بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «إِنْ وَهَبَتْ» بِكَسْرِ إِنْ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِفَتْحِهَا على أنه بدل من امرأة بدل اشتمال. أو على حذف لام العلة، أي: لأن وهبت، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «خَالِصَةً» بِالنَّصْبِ، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى أنها صفة لامرأة عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ امْرَأَةً بِالرَّفْعِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِبَةِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ إِذَا وَهَبَتْ، وَأَشْهَدَ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَهْرٍ. وَأَمَّا بِدُونِ مَهْرٍ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذلك خاص بالنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ: قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ أَيْ: مَا فَرَضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي حَقِّ أَزْوَاجِهِمْ مِنْ شَرَائِطِ الْعَقْدِ وَحُقُوقِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلَيْهِمْ مَفْرُوضٌ لَا يَحِلُّ لَهُمُ الْإِخْلَالُ بِهِ، وَلَا الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِيمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِ وَتَكْرِيمًا لَهُ، فَلَا يَتَزَوَّجُوا إِلَّا أَرْبَعًا بِمَهْرٍ وبينة ووليّ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أَيْ: وَعَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيمَا مَلَكَتْ أيمانهم من كونهنّ ممن يَجُوزُ سَبْيُهُ وَحَرْبُهُ، لَا مَنْ كَانَ لَا يَجُوزُ سَبْيُهُ أَوْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَوَّلِ الْآيَةِ: أَيْ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَالْمَوْهُوبَةَ لِكَيْلَا يكون عليك حرج، فتكون اللام متعلقة بأحللنا، وقيل: هي متعلقة بخالصة، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْحَرَجُ: الضِّيقُ، أَيْ: وَسَّعْنَا عَلَيْكَ فِي التَّحْلِيلِ لَكَ لِئَلَّا يَضِيقَ صَدْرُكَ، فَتَظُنَّ أَنَّكَ قَدْ أَثِمْتَ فِي بَعْضِ الْمَنْكُوحَاتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَيَرْحَمُ الْعِبَادَ، وَلِذَلِكَ وَسَّعَ الْأَمْرَ، وَلَمْ يُضَيِّقْهُ تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قُرِئَ «تُرْجِئُ» مَهْمُوزًا وَغَيْرَ مَهْمُوزٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْإِرْجَاءُ التَّأْخِيرُ، يُقَالُ: أَرْجَأْتُ الْأَمْرَ وَأَرْجَيْتُهُ: إِذَا أَخَّرْتَهُ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أَيْ: تَضَمُّ إِلَيْكَ، يُقَالُ آوَاهُ إِلَيْهِ بِالْمَدِّ: ضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَأَوَى مَقْصُورًا: أَيْ ضُمَّ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَى رَسُولِهِ وَجَعَلَ الْخِيَارَ إِلَيْهِ فِي نِسَائِهِ، فَيُؤَخِّرُ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَيُؤَخِّرُ نَوْبَتَهَا وَيَتْرُكُهَا وَلَا يَأْتِيهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ، وَيَضُمُّ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَيُضَاجِعُهَا وَيَبِيتُ عِنْدَهَا، وَقَدْ كَانَ الْقَسْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَارْتَفَعَ الْوُجُوبُ وَصَارَ الْخِيَارُ إِلَيْهِ، وَكَانَ مِمَّنْ أَوَى إِلَيْهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ، وَمِمَّنْ أَرْجَأَهُ سَوْدَةُ وَجُوَيْرِيَّةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَمَيْمُونَةُ وَصْفِيَّةُ، فَكَانَ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُسَوِّي بَيْنَ مَنْ آوَاهُ فِي الْقَسْمِ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِمَنْ أَرْجَأَهُ مَا شَاءَ. هَذَا قول جمهور

الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَهُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الثَّابِتَةُ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْوَاهِبَاتِ أَنْفُسَهُنَّ، لَا فِي غَيْرِهِنَّ مِنَ الزَّوْجَاتِ. قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ فِي الطَّلَاقِ: أَيْ: تُطَلِّقُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُمْسِكُ مَنْ تَشَاءُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْمَعْنَى: تَنْكِحُ مَنْ شِئْتَ مِنْ نِسَاءِ أُمَّتِكَ، وَتَتْرُكُ نِكَاحَ مَنْ شِئْتَ مِنْهُنَّ. وَقَدْ قيل: إن هذه نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ الِابْتِغَاءُ: الطَّلَبُ، وَالْعَزْلُ: الْإِزَالَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُؤْوِيَ إِلَيْهِ امْرَأَةً مِمَّنْ قَدْ عَزَلَهُنَّ مِنَ الْقِسْمَةِ وَيَضُمَّهَا إِلَيْهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى رَسُولِهِ يَصْنَعُ فِي زَوْجَاتِهِ مَا شَاءَ مِنْ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَعَزْلٍ وَإِمْسَاكٍ، وَضَمِّ مَنْ أَرْجَأَ، وَإِرْجَاءِ مَنْ ضَمَّ إِلَيْهِ، وَمَا شَاءَ فِي أَمْرِهِنَّ فَعَلَ تَوْسِعَةً عَلَيْهِ وَنَفْيًا لِلْحَرَجِ عَنْهُ. وَأَصْلُ الْجُنَاحِ: الْمَيْلُ، يُقَالُ جَنَحَتِ السَّفِينَةُ: إِذَا مَالَتْ. وَالْمَعْنَى: لَا مَيْلَ عَلَيْكَ بِلَوْمٍ وَلَا عَتْبٍ فِيمَا فَعَلْتَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّفْوِيضِ إِلَى مَشِيئَتِهِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ أَيْ: ذَلِكَ التَّفْوِيضُ الَّذِي فَوَّضْنَاكَ أَقْرَبُ إِلَى رِضَاهُنَّ لِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ ذَلِكَ التَّخْيِيرُ الَّذِي خَيَّرْنَاكَ فِي صُحْبَتِهِنَّ أَدْنَى إِلَى رِضَاهُنَّ إِذْ كَانَ مِنْ عِنْدِنَا، لِأَنَّهُنَّ إِذَا عَلِمْنَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ قَرَّتْ أَعْيُنُهُنَّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَقَرَّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ مُسْنَدًا إِلَى أَعْيُنُهُنَّ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ «تُقِرَّ» بِضَمِّ التَّاءِ من أقرر ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ وَنَصْبِ أَعْيُنَهُنَّ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقُرِئَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى قرّة العين في سورة مريم، وَمعنى لَا يَحْزَنَّ لَا يَحْصُلُ مَعَهُنَّ حُزْنٌ بِتَأْثِيرِكَ بَعْضَهُنَّ دُونَ بَعْضٍ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أَيْ: يَرْضَيْنَ جَمِيعًا بِمَا أَعْطَيْتَهُنَّ مِنْ تَقْرِيبٍ وَإِرْجَاءٍ، وَعَزْلٍ وَإِيوَاءٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «كُلُّهُنَّ» بِالرَّفْعِ تَأْكِيدًا لِفَاعِلِ يَرْضَيْنَ. وَقَرَأَ أَبُو إِيَاسٍ بِالنَّصْبِ تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي آتَيْتَهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ كُلِّ مَا تُضْمِرُونَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا تُضْمِرُونَهُ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بِكُلِّ شَيْءٍ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ (حَلِيمًا) لَا يُعَاجِلُ الْعُصَاةَ بِالْعُقُوبَةِ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَا يَحِلُّ» بِالتَّحْتِيَّةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ الْمُؤَنَّثِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَى نِسَائِهِ، مُكَافَأَةً لَهُنَّ بِمَا فَعَلْنَ مِنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالدَّارِ الْآخِرَةِ لَمَّا خَيَّرَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِأَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سيرين، وأبي بكر ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ جَرِيرٍ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ مِنْ بَعْدِهِ حَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهُنَّ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو رَزِينٍ: إِنَّ الْمَعْنَى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ الْأَصْنَافِ الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: لَا يَحِلُّ لَكَ الْيَهُودِيَّاتُ وَلَا النَّصْرَانِيَّاتُ لِأَنَّهُنَّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّصِفْنَ بِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ. وهذا القول فيه بعد لأنه يكن التَّقْدِيرُ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ الْمُسْلِمَاتِ. وَلَمْ يَجْرِ لِلْمُسْلِمَاتِ ذِكْرٌ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ وَبِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَبِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ،

وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ أَيْ: تَتَبَدَّلَ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، أَيْ: لَيْسَ لَكَ أَنْ تُطَلِّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ أَوْ أَكْثَرَ وَتَتَزَوَّجَ بَدَلَ مَنْ طَلَّقْتَ مِنْهُنَّ، وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَزْواجٍ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَذَا شَيْءٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ يَقُولُ: خُذْ زَوْجَتِي، وَأَعْطِنِي زَوْجَتَكَ، وَقَدْ أَنْكَرَ النَّحَّاسُ، وَابْنُ جَرِيرٍ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَا فَعَلَتِ الْعَرَبُ هَذَا قَطُّ. وَيَدْفَعُ هَذَا الْإِنْكَارَ مِنْهُمَا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ الْبَدَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: تَنْزِلُ لِي عَنِ امْرَأَتِكَ وَأَنْزِلُ لَكَ عَنِ امْرَأَتِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَجُمْلَةُ: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تَبَدَّلَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ التَّبَدُّلُ بِأَزْوَاجِكَ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَدْتَ أَنْ تَجْعَلَهَا بَدَلًا مِنْ إِحْدَاهُنَّ، وَهَذَا التَّبَدُّلُ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ مَا نَسَخَهُ اللَّهُ فِي حَقِّ رَسُولِهِ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْحَرَائِرَ وَالْإِمَاءَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في تحليل الأمة الكافرة. القول الأوّل: أنه تحلّ للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ تَنْزِيهًا لِقَدْرِهِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْكَافِرَةِ. وَيَتَرَجَّحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَعْلِيلُ الْمَنْعِ بِالتَّنَزُّهِ ضَعِيفٌ فَلَا تَنَزُّهَ عَمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ مَا أَحَلَّهُ فَهُوَ طَيِّبٌ، لَا خَبِيثٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ النِّكَاحِ، لَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَيُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْقَوْلِ الثَّانِي بقوله سبحانه: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ «1» فَإِنَّهُ نَهْيٌ عَامٌّ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أَيْ: مُرَاقِبًا حَافِظًا مُهَيْمِنًا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ قَالَ: هَذَا فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّهَا، فَإِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَانَتْ مِنْهُ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ، ثُمَّ قَالَ: فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا يَقُولُ: إِنْ كَانَ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا النِّصْفُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا مَتَّعَهَا عَلَى قَدْرِ عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ، وَهُوَ السَّرَاحُ الْجَمِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا الَّتِي في البقرة فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ وأبي الْعَالِيَةِ قَالَا: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلَهَا الْمَتَاعُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: إِنْ طَلَّقَ مَا لَمْ يَنْكِحْ فَهُوَ جَائِزٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْطَأَ فِي هَذَا، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ يَقُلْ: إِذَا طَلَّقْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: لَا يَكُونُ طَلَاقٌ حَتَّى يَكُونَ نِكَاحٌ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مِنْهَا أَنَّهُ «لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نكاح» وهي

_ (1) . الممتحنة: 10.

مَعْرُوفَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إِلَى قَوْلِهِ: هاجَرْنَ مَعَكَ قَالَتْ: فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ مَعَهُ. كُنْتُ مِنَ الطُّلَقَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهَا قَالَتْ: نَزَلَتْ فِيَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي، فَنُهِيَ عَنِّي إِذْ لَمْ أُهَاجِرْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إِلَى قَوْلِهِ: خالِصَةً لَكَ قَالَ: فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ سِوَى ذَلِكَ مِنَ النِّسَاءِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَنْكِحُ فِي أَيِّ النِّسَاءِ شَاءَ لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ نِسَاؤُهُ يَجِدْنَ مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا أَنْ يَنْكِحَ فِي أَيِّ النِّسَاءِ أَحَبَّ، فَلَمَّا أُنْزِلَ إِنِّي حَرَّمْتُ عَلَيْكَ مِنَ النِّسَاءِ سِوَى مَا قَصَصْتُ عَلَيْكَ أَعْجَبَ ذَلِكَ نِسَاءَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ كَانَتْ مِنَ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَعُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالُوا: تَزَوَّجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة: ست مِنْ قُرَيْشٍ: خَدِيجَةَ، وَعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَأُمَّ حَبِيبَةَ، وسودة، وأم سلمة، وثلاث مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَامْرَأَتَيْنِ مِنْ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ: مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، وَهِيَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَيْنَبَ أُمَّ الْمَسَاكِينِ، وَالْعَامِرِيَّةَ وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَتِ الدُّنْيَا، وَامْرَأَةً مِنْ بَنِي الْجَوْنِ، وَهِيَ الَّتِي اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ، وَزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةَ، وَالسَّبِيَّتَيْنِ: صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، وَجُوَيْرِيَّةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَلْ لَكَ بي حاجة؟ فقالت ابن أَنَسٍ: مَا كَانَ أَقَلَّ حَيَاءَهَا، فَقَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ، رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ فَصَمَتَ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ وَزَادَ وَمَهْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُوطَأَ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ وَالْحَائِلُ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قَالَ: تُؤَخِّرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ يَقُولُ: مَنْ شِئْتَ خَلَّيْتَ سَبِيلَهُ مِنْهُنَّ، وَمَنْ أَحْبَبْتَ أَمْسَكْتَ مِنْهُنَّ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغَارُ مِنَ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَقُولُ تَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الْآيَةَ قُلْتُ: مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ

قَالَ: هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُطَلِّقَ مِنْ نِسَائِهِ، فَلَمَّا رَأَيْنَ ذَلِكَ أَتَيْنَهُ فَقُلْنَ: لَا تُخَلِّ سَبِيلَنَا وَأَنْتَ فِي حِلٍّ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، افْرِضْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ وَمَالِكَ مَا شِئْتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ يَقُولُ: تَعْزِلُ مَنْ تَشَاءُ، فَأَرْجَأَ مِنْهُنَّ نِسْوَةً، وَآوَى نِسْوَةً، وَكَانَ مِمَّنْ أَرْجَى: مَيْمُونَةُ، وَجُوَيْرِيَّةُ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَصَفِيَّةُ، وَسَوْدَةُ، وَكَانَ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ مَا شَاءَ، وَكَانَ مِمَّنْ آوَى: عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَزَيْنَبُ، فَكَانَتْ قِسْمَتُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ بَيْنَهُنَّ سَوَاءً. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ فَقُلْتُ لَهَا: مَا كُنْتِ تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: كُنْتُ أَقُولُ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ إِلَيَّ، فإني لا أريد أن أوثر عَلَيْكَ أَحَدًا. وَأَخْرَجَ الرُّويَانِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ زِيَادٍ- رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ- قَالَ: قُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتْنَ أَمَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ؟ قَالَ: وَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، قُلْتُ: قَوْلُهُ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قَالَ: إِنَّمَا أَحَلَّ لَهُ ضَرْبًا مِنَ النِّسَاءِ ووصف له صفة فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً ثُمَّ قَالَ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ الصِّفَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أصناف النساء إلى مَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ، قَالَ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ فَأَحَلَّ لَهُ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ وَحَرَّمَ كُلَّ ذَاتِ دِينٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إِلَى قَوْلِهِ: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَرَّمَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: «نُهِيَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَعْدَ نِسَائِهِ الْأُوَلِ شَيْئًا» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ كَمَا حَبَسَهُنَّ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا خَيَّرَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ قَصَرَهُ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمْ يَمُتْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءَ إِلَّا ذَاتَ مَحْرَمٍ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يَمُتْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أحلّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءَ إِلَّا ذَاتَ مَحْرَمٍ لِقَوْلِهِ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قَالَ: مِنَ الْمُشْرِكَاتِ إِلَّا مَا سَبَيْتَ فَمَلَكَتْ يَمِينُكَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ الْبَدَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ للرجل:

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 إلى 55]

بَادِلْنِي امْرَأَتَكَ وَأُبَادِلُكَ امْرَأَتِي: أَيْ تَنْزِلُ لِي عَنِ امْرَأَتِكَ، وَأَنْزِلُ لَكَ عَنِ امْرَأَتِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ قَالَ: فَدَخَلَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ، فَدَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ الِاسْتِئْذَانُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا اسْتَأْذَنْتُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مُنْذُ أَدْرَكْتُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ هَذِهِ الْحُمَيْرَاءُ إِلَى جَنْبِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: هَذِهِ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: أَفَلَا أَنْزِلُ لَكَ عَنْ أَحْسَنِ خَلْقِ اللَّهِ؟ قَالَ: يَا عُيَيْنَةُ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَحْمَقُ مُطَاعٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ما ترين لسيد قومه» . [سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ هَذَا نَهْيٌ عَامٌّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَدْخُلَ بُيُوتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بإذن منه. وسبب النُّزُولِ: مَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ آخِرَ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: لَا تَدْخُلُوهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مَأْذُونًا لَكُمْ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: إِلَّا مَصْحُوبِينَ بِالْإِذْنِ، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: إِلَّا بِأَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: إِلَّا وَقْتَ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَقَوْلُهُ: إِلى طَعامٍ متعلق بيؤذن عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ، أَيْ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ مَدْعُوِّينَ إِلَى طَعَامٍ، وَانْتِصَابُ: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يُؤْذَنَ أَوْ مُقَدَّرٌ، أَيِ: ادْخُلُوا غَيْرَ نَاظِرِينَ، وَمَعْنَى ناظرين: منتظرين، وإناه: نُضْجَهُ وَإِدْرَاكَهُ، يُقَالُ: أَنَى يَأْنِي أَنًى: إِذَا حَانَ وَأَدْرَكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «غَيْرَ نَاظِرِينَ» بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ غَيْرِ بِالْجَرِّ: صِفَةً لطعام، وَضَعَّفَ النُّحَاةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِعَدَمِ بُرُوزِ الضَّمِيرِ ولكنه جَارِيًا عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ أَنْتُمْ ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ مَا يَنْبَغِي فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِلْمَنْعِ، وَبَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الدخول، وهو عند الإذن. قال ابن العربي: وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ، وَأُذِنَ لَكُمْ فَادْخُلُوا، وَإِلَّا فَنَفْسُ الدَّعْوَةِ لَا تَكُونُ إِذْنًا كَافِيًا فِي الدُّخُولِ، وَقِيلَ: إِنَّ فِيهِ دَلَالَةً بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِذْنِ إِلَى الطَّعَامِ: هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالِانْتِشَارِ بَعْدَ الطَّعَامِ، وَهُوَ التَّفَرُّقُ، وَالْمُرَادُ الْإِلْزَامُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي

وَقَعَتِ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْأَكْلِ وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ غَيْرَ نَاظِرِينَ، أَوْ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَلَا تَدْخُلُوا وَلَا تَمْكُثُوا مُسْتَأْنِسِينَ. وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ لَهُمْ عن أن يجلسوا بعد الطعام يتحدّثون بِالْحَدِيثِ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَدْخُلُوا إِلَى طَعَامٍ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، فَلَا يَكُونُ مَنْعًا مِنَ الدُّخُولِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الطَّعَامِ بغير إذن. وإما أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَلَا تَدْخُلُوا إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ، فَيَكُونُ الْإِذْنُ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ إِلَى طَعَامٍ، فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ إِلَى طَعَامٍ فَلَا يَجُوزُ الدُّخُولُ، فَلَوْ أُذِنَ لِوَاحِدٍ فِي الدُّخُولِ لِاسْتِمَاعِ كَلَامٍ لَا لِأَكْلِ طَعَامٍ فَلَا يَجُوزُ، فَنَقُولُ الْمُرَادُ: هُوَ الثَّانِي لِيَعُمَّ النَّهْيُ عَنِ الدُّخُولِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِإِذْنٍ إِلَى طَعَامٍ، فَلِمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ قَوْمٍ كَانُوا يَتَحَيَّنُونَ حِينَ الطَّعَامِ، وَيَدْخُلُونَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ فَمُنِعُوا مِنَ الدُّخُولِ فِي وَقْتِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَقَالَ ابْنُ عَادِلٍ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ: هُوَ الثَّانِي، لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَقَوْلُهُ: إِلى طَعامٍ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، لَا سِيَّمَا إذا علم مثله، فإن من جاز دخول بيته بِإِذْنِهِ إِلَى طَعَامِهِ جَازَ دُخُولُهُ بِإِذْنِهِ إِلَى غَيْرِ الطَّعَامِ، انْتَهَى. وَالْأَوْلَى فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ بُيُوتِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِإِذْنِهِ لِغَيْرِ الطَّعَامِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لَا شَكَّ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ يَسْتَأْذِنُونَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الطَّعَامِ فَيَأْذَنُ لَهُمْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ قصر هذه الآية على السبب الذين نزلت فيه، وهو القوم الذي كَانُوا يَتَحَيَّنُونَ طَعَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُونَ وَيَقْعُدُونَ مُنْتَظِرِينَ لِإِدْرَاكِهِ، وَأَمْثَالُهُمْ، فَلَا تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الدُّخُولِ مَعَ الْإِذْنِ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ بُيُوتَهُ بِإِذْنِهِ، لِغَيْرِ الطَّعَامِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَتْ سِيرَةُ الْقَوْمِ إِذَا كَانَ لَهُمْ طَعَامُ وَلِيمَةٍ، أَوْ نَحْوُهُ أَنْ يُبَكِّرَ مَنْ شَاءَ إِلَى الدَّعْوَةِ يَنْتَظِرُونَ طَبْخَ الطَّعَامِ وَنُضْجَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا فَرَغُوا مِنْهُ جَلَسُوا كَذَلِكَ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ فِي النَّهْيِ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْتَزَمَ النَّاسُ أَدَبَ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَمَنَعَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ إِلَّا بِإِذْنٍ عِنْدَ الْأَكْلِ لَا قَبْلَهُ لِانْتِظَارِ نُضْجِ الطَّعَامِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ إِلَى الِانْتِظَارِ، وَالِاسْتِئْنَاسِ لِلْحَدِيثِ، وَأُشِيرَ إِلَيْهِمَا بِمَا يُشَارُ بِهِ إِلَى الْوَاحِدِ بِتَأْوِيلِهِمَا بِالْمَذْكُورِ كما في قوله: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «1» أَيْ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَذْكُورَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُضَيِّقُونَ الْمَنْزِلَ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَهْلِهِ، وَيَتَحَدَّثُونَ بِمَا لَا يُرِيدُهُ. قَالَ الزجاج: كان النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَحْتَمِلُ إِطَالَتَهُمْ كَرَمًا مِنْهُ فَيَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى فِي ذَلِكَ، فَعَلَّمَ اللَّهُ مَنْ يَحْضُرُهُ الأدب فصار أَدَبًا لَهُمْ وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أَيْ يَسْتَحْيِي أَنْ يَقُولَ لَكُمْ: قُومُوا، أَوِ اخْرُجُوا وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أَيْ: لَا يَتْرُكُ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ مَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ بَيَانِهِ، وَإِظْهَارِهِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بعدم الاستحياء للمشاكلة. قرأ الجمهور «يستحيي» بيائين، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ يَقُولُونَ: اسْتَحَى يَسْتَحِي: مِثْلَ اسْتَقَى يَسْتَقِي، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَدَبًا آخَرَ مُتَعَلِّقًا بِنِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً أَيْ: شَيْئًا يتمتع به، من الماعون وغيره فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَيْ: مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ بينكم وبينهنّ. والمتاع يطلق على

_ (1) . البقرة: 68. [.....]

كُلِّ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ، فَلَا وَجْهَ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: الْعَارِيَّةُ، أَوِ الْفَتْوَى، أَوِ الْمُصْحَفُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى سُؤَالِ الْمَتَاعِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَعَدَمِ الِاسْتِئْنَاسِ لِلْحَدِيثِ عِنْدَ الدُّخُولِ وَسُؤَالِ الْمَتَاعِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أَيْ: أَكْثَرُ تَطْهِيرًا لَهَا مِنَ الرِّيبَةِ، وَخَوَاطِرِ السُّوءِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلرِّجَالِ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، وَلِلنِّسَاءِ فِي أَمْرِ الرجال. وفي هذا أدب لكل مؤمن، وتحذيرا له من أن يثق بنفسه في الْخَلْوَةِ مَعَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ، وَالْمُكَالَمَةِ مِنْ دُونِ حِجَابٍ لِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ: مَا صَحَّ لَكُمْ وَلَا اسْتَقَامَ أَنْ تُؤْذُوهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ دُخُولُ بُيُوتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ، وَاللُّبْثُ فِيهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُهُ، وَتَكْلِيمُ نِسَائِهِ مِنْ دُونِ حِجَابٍ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: وَلَا كَانَ لَكُمْ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَحِلُّ لِلْأَوْلَادِ نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ إِلَى نِكَاحِ أَزْوَاجِهِ مِنْ بَعْدِهِ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أَيْ: ذَنْبًا عَظِيمًا، وَخَطْبًا هَائِلًا شَدِيدًا. وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ قَدْ مَاتَ مُحَمَّدٌ لَتَزَوَّجْنَا نِسَاءَهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا تظهرونه من شَأْنِ أَزْوَاجِ رَسُولِهِ، وَمَا تَكْتُمُونَهُ فِي صُدُورِكُمْ. وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ إِحَاطَتَهُ بِالْمَعْلُومَاتِ تَسْتَلْزِمُ الْمُجَازَاةَ عَلَى خَيْرِهَا وَشَرِّهَا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَنْ لَا يَلْزَمُ الْحِجَابُ مِنْهُ فَقَالَ: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ فَهَؤُلَاءِ لَا يَجِبُ عَلَى نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ الِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْعَمَّ وَالْخَالَ لِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْوَالِدَيْنِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَمُّ وَالْخَالُ رُبَّمَا يَصِفَانِ الْمَرْأَةَ لِوَلَدَيْهِمَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَحِلُّ لِابْنِ الْعَمِّ وَابْنِ الْخَالِ فَكَرِهَ لَهُمَا الرُّؤْيَةَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ تَجْوِيزَ وَصْفِ الْمَرْأَةِ لِمَنْ تَحِلُّ لَهُ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، لَا سِيَّمَا أَبْنَاءُ الْإِخْوَةِ وَأَبْنَاءُ الْأَخَوَاتِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ، وَهَكَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلنِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ أَنْ يَنْظُرْنَ إِلَيْهَا لِأَنَّهُنَّ يَصِفْنَهَا، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ، وَهَكَذَا لَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ من أنه لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَضَعَ خِمَارَهَا عِنْدَ عَمِّهَا أَوْ خَالِهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ اقْتَصَرَ هَاهُنَا عَلَى بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمَحَارِمِ فِي سُورَةِ النُّورِ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ وَلا نِسائِهِنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، لِأَنَّ الْكَافِرَاتِ غَيْرُ مَأْمُونَاتٍ عَلَى الْعَوْرَاتِ، وَالنِّسَاءُ كُلُّهُنَّ عَوْرَةٌ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، وَقِيلَ: الْإِمَاءُ خَاصَّةً، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الْعَبِيدِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النُّورِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. ثُمَّ أَمَرَهُنَّ سُبْحَانَهُ بِالتَّقْوَى التي هي ملاك الأمر كله، وَالمعنى اتَّقِينَ اللَّهَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا هُوَ مَذْكُورٌ هُنَا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لَمْ يَغِبْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ، فَهُوَ مُجَازٍ لِلْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ وَلِلْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ حَجَبْتَهُنَّ، فأنزل الله آية الْحِجَابَ. وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ

عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «لَمَّا تَزَوَّجَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ دَعَا الْقَوْمَ فَطَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ وَإِذَا هُوَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فلما قام قَامَ مَنْ قَامَ وَقَعَدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَجَاءَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَنْزَلَ الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي عِشَاءً، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ بِصَوْتِهِ الْأَعْلَى: قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الحجاب قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَنَسٍ قال: نزل الْحِجَابُ مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَحَجَبَ نِسَاءَهُ مِنْ يَوْمِئِذٍ وَأَنَا ابن خمس عشرة سنة. وكذا: وأخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان، قال: نَزَلَ الْحِجَابُ عَلَى نِسَائِهِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَالْوَاقِدِيُّ. وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَخَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ هَمَّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَعْضَ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَهُ. قَالَ سُفْيَانُ. وَذَكَرُوا أَنَّهَا عَائِشَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَيَحْجُبُنَا مُحَمَّدٌ عَنْ بَنَاتِ عَمِّنَا. وَيَتَزَوَّجُ نِسَاءَنَا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوجنّ نِسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ عبد الرزاق، وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: لَوْ قُبِضَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَتَزَوَّجْتُ عَائِشَةَ. فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي طَلْحَةَ لِأَنَّهُ قَالَ: إِذَا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجْتُ عَائِشَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عِنْدِي لَا يَصِحُّ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ بَعْضِ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَحَاشَاهُمْ عَنْ مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا الْكَذِبُ فِي نَقْلِهِ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِالْمُنَافِقِينَ الْجُهَّالِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجْتُ عَائِشَةَ أَوْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهَا وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُومَنَّ هَذَا الْمَقَامَ بَعْدَ يَوْمِكَ هَذَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا ابْنَةُ عَمِّي، وَاللَّهِ مَا قُلْتُ لَهَا مُنْكَرًا، وَلَا قَالَتْ لِي، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنِّي، فَمَضَى ثُمَّ قَالَ: يَمْنَعُنِي مِنْ كَلَامِ ابْنَةِ عَمِّي! لَأَتَزَوَّجَنَّهَا مِنْ بَعْدِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَعْتَقَ ذَلِكَ الرَّجُلُ رَقَبَةً وَحَمَلَ عَلَى عَشْرَةِ أَبْعِرَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَحَجَّ مَاشِيًا تَوْبَةً مِنْ كَلِمَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: خَطَبَنِي عَلِيٌّ فَبَلَغَ ذَلِكَ فَاطِمَةَ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 إلى 58]

فَقَالَتْ: إِنَّ أَسْمَاءَ مُتَزَوِّجَةٌ عَلِيًّا، فَقَالَ لَهَا النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: مَا كَانَ لَهَا أَنْ تُؤْذِيَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ قَالَ: إِنْ تَكَلَّمُوا به فتقولون نتزوّج فُلَانَةً لِبَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ تُخْفُوا ذَلِكَ فِي أَنْفُسِكُمْ فَلَا تَنْطِقُوا بِهِ يَعْلَمْهُ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ إِلَى آخِرَ الْآيَةِ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ في نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصة، وقوله: نِسائِهِنَّ يعني نساء المسلمات مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ مِنَ الْمَمَالِيكِ وَالْإِمَاءِ وَرُخِّصَ لَهُنَّ أَنْ يَرَوْهُنَّ بَعْدَ مَا ضُرِبَ الْحِجَابُ عليهنّ. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 58] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَلائِكَتَهُ بِنَصْبِ الْمَلَائِكَةِ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ اسْمِ إنَّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «وَمَلَائِكَتُهُ» بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يُصَلُّونَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَفِيهِ تَشْرِيفٌ لِلْمَلَائِكَةِ عَظِيمٌ حَيْثُ جَعَلَ الضَّمِيرَ لَهُمْ وَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَاحِدًا، فَلَا يُرَدُّ الِاعْتِرَاضُ بِمَا ثبت عنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الْخَطِيبِ يَقُولُ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ: بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ، قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْمَعَ ذِكْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَعَ غَيْرِهِ فِي ضَمِيرٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمَ خَيْبَرَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ أَبْحَاثٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا، وَالْآيَةُ مُؤَيِّدَةٌ لِلْجَوَازِ لِجَعْلِ الضَّمِيرِ فِيهَا لِلَّهِ وَلِمَلَائِكَتِهِ وَاحِدًا، وَالتَّعْلِيلُ بِالتَّشْرِيفِ لِلْمَلَائِكَةِ يُقَالُ مِثْلُهُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَيُحْمَلُ الذَّمُّ لِذَلِكَ الْخَطِيبِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا على أنه صلّى الله عليه وسلم فهم منه إرادة التسوية بينهما بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ رَسُولِهِ، فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْجَمْعِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي هَذِهِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ اللَّهَ يُصَلِّي وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ مِمَّا جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ غَيْرِهِ فِي ضَمِيرٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَرُدُّ أَيْضًا مَا قِيلَ: إِنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ وَمِنْ مَلَائِكَتِهِ الدُّعَاءُ فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي لَفْظِ يُصَلُّونَ، وَيُقَالُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أريد بيصلون مَعْنًى مَجَازِيٌّ يَعُمُّ الْمَعْنَيَيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ يُصَلُّونَ يَهْتَمُّونَ بِإِظْهَارِ شَرَفِهِ، أَوْ يُعَظِّمُونَ شَأْنَهُ، أَوْ يَعْتَنُونَ بِأَمْرِهِ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ صَلَاةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ، وَصَلَاةَ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا: صَلَاةُ الرَّبِّ: الرَّحْمَةُ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ: الِاسْتِغْفَارُ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا صَلَاةُ الرَّبِّ: فَالْمَغْفِرَةُ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ: فَالِاسْتِغْفَارُ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: صَلَاتُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سُبُّوحٌ قدوس سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عِبَادَهُ بِمَنْزِلَةِ نَبِيِّهِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِأَنَّهُ يُثْنِي عَلَيْهِ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ

تُصَلِّي عَلَيْهِ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ بِأَنْ يَقْتَدُوا بِذَلِكَ وَيُصَلُّوا عَلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الصلاة عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ فَرْضٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً. وَقَدْ حَكَى هَذَا الْإِجْمَاعَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: تَجِبُ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مَرَّةً. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُصَرِّحَةٌ بِذَمِّ مَنْ سَمِعَ ذِكْرَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصلاة عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَشَهُّدِ الصَّلَاةِ الْمُفْتَرَضَةِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا فِيهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَحَدٌ صَلَاةً إِلَّا صَلَّى فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ تَارِكٌ فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ: وَشَذَّ الشَّافِعِيُّ فَأَوْجَبَ عَلَى تَارِكِهَا الْإِعَادَةَ مَعَ تَعَمُّدِ تَرْكِهَا دُونَ النِّسْيَانِ، وَهَذَا الْقَوْلُ عَنِ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ إِلَّا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى وَلَا يُوجَدُ عَنِ الشَّافِعِيِّ إِلَّا مِنْ رِوَايَتِهِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ، وَهُوَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا الشَّافِعِيَّ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ فِي ذَلِكَ قُدْوَةً. انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ منهم الشعبي وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَخِيرًا، كَمَا حَكَاهُ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ وَابْنُ الْمَوَّازِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَدْ جَمَعْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً ذَكَرْتُ فِيهَا مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُوجِبُونَ لَهَا وَمَا أَجَابَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَأَشَفُّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ بِلَفْظِ «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا، فَقَالَ: قُولُوا ... » الْحَدِيثَ. فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ. وَأَمَّا عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالتَّرْكِ، وَوُجُوبِ الْإِعَادَةِ لَهَا فَلَا، لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمُهَا الْعَدَمَ كَمَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ الشُّرُوطُ وَالْأَرْكَانُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، لَوْ جُمِعَتْ لَجَاءَتْ فِي مُصَنَّفٍ مُسْتَقِلٍّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا إِلَّا الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بها عشرا» ناهيك بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ الْجَلِيلَةِ وَالْمَكْرُمَةِ النَّبِيلَةِ. وَأَمَّا صِفَةُ الصلاة عليه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَدْ وَرَدَتْ فِيهَا صِفَاتٌ كَثِيرَةٌ بِأَحَادِيثَ ثَابِتَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، مِنْهَا مَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِصِفَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُطْلَقٌ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا. وَالَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الِامْتِثَالُ لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: اللَّهُمَّ صِلِّ وَسَلِّمْ عَلَى رَسُولِكَ، أَوْ عَلَى مُحَمَّدٍ أَوْ عَلَى النَّبِيِّ، أَوِ اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلِّمْ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ بِصِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي وَرَدَ التَّعْلِيمُ بِهَا وَالْإِرْشَادُ إِلَيْهَا، فَذَلِكَ أَكْمَلُ، وَهِيَ صِفَاتٌ كَثِيرَةٌ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا كُتُبُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْضُهَا آخِرَ الْبَحْثِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ. وَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ فِي الْآيَةِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: صَلَّيْتُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، أَوِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أمر بإيقاع

الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ مِنَّا، فَالِامْتِثَالُ هُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَكَيْفَ كَانَ الِامْتِثَالُ لِأَمْرِ اللَّهِ لَنَا بِذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَيْهِ وَسَلِّمْ بِمُقَابَلَةِ أَمْرِ اللَّهِ لَنَا بِأَمْرِنَا لَهُ بِأَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ. وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَالتَّسْلِيمَ لَمَّا كَانَتَا شِعَارًا عَظِيمًا لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَتَشْرِيفًا كَرِيمًا، وَكَّلْنَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَرْجَعْنَاهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَأَحْسَنُ مَا يُجَابُ بِهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ وَالتَّسْلِيمَ الْمَأْمُورَ بِهِمَا فِي الْآيَةِ هُمَا أَنْ نَقُولَ: اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَيْهِ وَسَلِّمْ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، كَمَا بينه رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَنَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْبَيَانُ فِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا الرَّحْمَةَ فَقَدْ صَارَتْ شِعَارًا لَهُ يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، كَمَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقُولَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ فُلَانًا أَوْ رَحِمَ اللَّهُ فُلَانًا، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ، أَوْ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، أَوْ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ لَا تَصْلُحُ الصَّلَاةُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ يُدْعَى لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسَلِمَاتِ بِالِاسْتِغْفَارِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ «1» وَلِقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ «2» ولقوله: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَيْهِمْ، فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ هَذَا الشِّعَارَ الثَّابِتَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ مَنْ شَاءَ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُطْلِقَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وقوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُصَلِّي عَلَى طَوَائِفَ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَى رَسُولِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ لَنَا وَلَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي حَقِّنَا، بَلْ لَمْ يَشْرَعْ لَنَا إِلَّا الصَّلَاةَ وَالتَّسْلِيمَ عَلَى رَسُولِهِ. وَكَمَا أَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعَارٌ لَهُ، فَكَذَا لَفْظُ السَّلَامِ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ جُمْهُورِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْ سَلَفِهَا وَخَلَفِهَا عَلَى التَّرَضِّي عَنِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّرَحُّمِ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ، كَمَا أَرْشَدَنَا إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سبحانه: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا «3» ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَجِبُ لِرَسُولِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ ذَكَرَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِلَّذِينَ يُؤْذُونَهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ قيل: المراد بِالْأَذَى: هُنَا هُوَ فِعْلُ مَا يَكْرَهَانِهِ مِنَ الْمَعَاصِي لِاسْتِحَالَةِ التَّأَذِّي مِنْهُ سُبْحَانَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَالْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى وَصَفُوا الله بالوالد فقالوا: عزير ابن الله، والمسيح بن اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَكَذَّبُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَشَجُّوا وَجْهَهُ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَقَالُوا مَجْنُونٌ شَاعِرٌ كَذَّابٌ سَاحِرٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْأَذِيَّةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّصْوِيرِ وَالتَّعَرُّضِ لِفِعْلِ مَا لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا اللَّهُ بِنَحْتِ الصُّوَرِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ الْآيَةَ على حذف مضاف،

_ (1) . التوبة: 103. (2) . البقرة: 157. (3) . الحشر: 10.

وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، وَأَمَّا أَذِيَّةُ رَسُولِهِ فَهِيَ كُلُّ مَا يُؤْذِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَمَعْنَى اللَّعْنَةِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِتَشْمَلَهُمُ اللَّعْنَةُ فِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَبْقَى وَقْتٌ مِنْ أَوْقَاتِ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ إِلَّا وَاللَّعْنَةُ وَاقِعَةٌ عَلَيْهِمْ وَمُصَاحِبَةٌ لَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ اللَّعْنِ عَذاباً مُهِيناً يَصِيرُونَ بِهِ فِي الْإِهَانَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، لِمَا يُفِيدُهُ مَعْنَى الْإِعْدَادِ مِنْ كَوْنِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الذَّمِّ لِمَنْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهَ ذَكَرَ الْأَذِيَّةَ لِصَالِحِي عِبَادِهِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْأَذَى مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَمَعْنَى بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِسَبَبٍ فَعَلُوهُ يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْأَذِيَّةَ، وَيَسْتَحِقُّونَهَا بِهِ، فَأَمَّا الْأَذِيَّةُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ بِمَا كَسَبَهُ مِمَّا يُوجِبُ عَلَيْهِ حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا أَوْ نَحْوَهُمَا، فَذَلِكَ حَقٌّ أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ وَأَمْرٌ أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ وَنَدَبَنَا إِلَيْهِ، وَهَكَذَا إِذَا وَقَعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الِابْتِدَاءُ بِشَتْمِ لمؤمن أو مؤمنة أو ضرب، فَإِنَّ الْقَصَاصَ مِنَ الْفَاعِلِ لَيْسَ مِنَ الْأَذِيَّةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مَا لَمْ يُجَاوِزْ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَمَّا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَالَ: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أَيْ: ظَاهِرًا وَاضِحًا لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مِنَ الْبُهْتَانِ وَالْإِثْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْبُهْتَانِ، وَحَقِيقَةِ الْإِثْمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يُبَرِّكُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا لِمُوسَى: هَلْ يُصَلِّي رَبُّكَ؟ فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا مُوسَى سَأَلُوكَ هَلْ يُصَلِّي رَبُّكَ؟ فَقُلْ نَعَمْ أَنَا أُصَلِّي وَمَلَائِكَتِي عَلَى أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ صَلَاةَ اللَّهِ عَلَى النَّبِيِّ: هِيَ الْمَغْفِرَةُ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُصَلِّي وَلَكِنْ يَغْفِرُ، وَأَمَّا صَلَاةُ النَّاسِ عَلَى النَّبِيِّ فَهِيَ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ صَلُّوا عَلَيْهِ كَمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ الْآيَةَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمْنَا السَّلَامَ عَلَيْكَ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِهِ بِلَفْظِ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَلِمْنَاهُ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ محمّد، كما صليت عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَفِي الْأَحَادِيثِ اخْتِلَافٌ، فَفِي بَعْضِهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَقَطْ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فَقَطْ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا كَحَدِيثِ طَلْحَةَ هَذَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ نُصْلِي

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 إلى 68]

عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِي بَعْضِهَا التَّقْيِيدُ بِالصَّلَاةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي سُنَنِهِ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا؟ الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ. وَجَمِيعُ التَّعْلِيمَاتِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى آلِهِ مَعَهُ إِلَّا النَّادِرَ الْيَسِيرِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي عَلَيْهِ أَنْ يَضُمَّ آلَهُ إِلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ، وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ قَوْلًا عَنِ الشَّافِعِيِّ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّمَسُّكِ بِقَوْلِ قَائِلٍ فِي مِثْلِ هَذَا مَعَ تَصْرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِهِ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ التَّعْلِيمَاتِ الْوَارِدَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مُقَيَّدَةٌ بِالصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ حَمْلًا لِمُطْلَقِ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْهَا بِذَلِكَ الْقَيْدِ، لِمَا فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلُّوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُمْ كَمَا بَعَثَنِي» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ طَعَنُوا عَلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حِينَ اتَّخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 الى 68] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنَ الزَّجْرِ لِمَنْ يُؤْذِي رَسُولَهُ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنَاتِ مِنْ عِبَادِهِ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَأْمُرَ بَعْضَ مَنْ نَالَهُ الْأَذَى بِبَعْضِ مَا يَدْفَعُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْهُ فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ مِنْ: لِلتَّبْعِيضِ، وَالْجَلَابِيبُ: جَمْعُ جِلْبَابٍ، وَهُوَ ثَوْبٌ أَكْبَرُ مِنَ الْخِمَارِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجِلْبَابُ: الْمِلْحَفَةُ، وَقِيلَ: الْقِنَاعُ، وَقِيلَ: هُوَ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِ الْمَرْأَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ، فَقَالَ: «لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا» قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُغَطِّينَ وجوههنّ ورؤوسهنّ إِلَّا عَيْنًا وَاحِدَةً، فَيُعْلَمُ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ فَلَا يعرض لهن

بِأَذًى. وَقَالَ الْحَسَنُ: تُغَطِّي نِصْفَ وَجْهِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَلْوِيهِ فَوْقَ الْجَبِينِ وَتَشُدُّهُ ثُمَّ تَعْطِفُهُ عَلَى الْأَنْفِ وَإِنْ ظَهَرَتْ عَيْنَاهَا لَكِنَّهُ يَسْتُرُ الصَّدْرَ وَمُعْظَمَ الْوَجْهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى إِدْنَاءِ الْجَلَابِيبِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ أَيْ: أَقْرَبُ أَنْ يُعْرَفْنَ فَيَتَمَيَّزْنَ عَنِ الْإِمَاءِ وَيَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ فَلا يُؤْذَيْنَ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الرِّيبَةِ بِالتَّعَرُّضِ لَهُنَّ مُرَاقَبَةً لَهُنَّ وَلِأَهْلِهِنَّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ أَنْ تُعْرَفَ الْوَاحِدَةُ مِنْهُنَّ مَنْ هِيَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يُعْرَفْنَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ لا إماء لأنه قَدْ لَبِسْنَ لُبْسَةً تَخْتَصُّ بِالْحَرَائِرِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لِمَا سَلَفَ مِنْهُنَّ مِنْ تَرْكِ إِدْنَاءِ الْجَلَابِيبِ رَحِيماً بِهِنَّ أَوْ غَفُورًا لِذُنُوبِ الْمُذْنِبِينَ، رَحِيمًا بِهِمْ، فَيَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. ثُمَّ تَوَعَّدَ سُبْحَانَهُ أَهْلَ النِّفَاقِ وَالْإِرْجَافِ فَقَالَ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النِّفَاقِ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَيْ: شَكٌّ وَرِيبَةٌ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ عَمَّا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنَ الْإِرْجَافِ بِذِكْرِ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِتَوْهِينِ جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَظُهُورِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ النِّفَاقِ، وَمَرَضِ الْقُلُوبِ، وَالْإِرْجَافِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ عَلَى هَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ أَيْ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرِمِ بْنِ الْهُمَامِ لَيْثِ الْكَتِيبَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ: الزُّنَاةُ. وَالْإِرْجَافُ فِي اللُّغَةِ: إِشَاعَةُ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ، يُقَالُ أَرْجَفَ بِكَذَا: إِذَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَةٍ لِكَوْنِهِ خَبَرًا مُتَزَلْزِلًا غَيْرَ ثَابِتٍ، مِنَ الرَّجْفَةِ وَهِيَ: الزَّلْزَلَةُ. يُقَالُ رَجَفَتِ الْأَرْضُ: أَيْ تَحَرَّكَتْ، وَتَزَلْزَلَتْ تَرْجُفُ رَجْفًا، وَالرَّجَفَانُ: الِاضْطِرَابُ الشَّدِيدُ، وَسُمِّيَ الْبَحْرُ رَجَّافًا لِاضْطِرَابِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: الْمُطْعِمُونَ اللَّحْمَ كُلَّ عَشِيَّةٍ ... حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ فِي الرَّجَّافِ وَالْإِرْجَافُ: وَاحِدُ الْأَرَاجِيفِ، وَأَرْجَفُوا فِي الشَّيْءِ: خَاضُوا فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ شَاعِرٍ: فَإِنَّا وَإِنْ عَيَّرْتُمُونَا بِقِلَّةٍ ... وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِدُ وَقَوْلُ الْآخَرِ «1» : أَبِالْأَرَاجِيفِ يَا ابْنَ اللُّؤْمِ تُوعِدُنِي ... وَفِي الْأَرَاجِيفِ خِلْتُ اللُّؤْمَ وَالْخَوْرَ وَذَلِكَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُرْجِفِينَ كَانُوا يُخْبِرُونَ عَنْ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ هُزِمُوا، وَتَارَةً بِأَنَّهُمْ قُتِلُوا، وَتَارَةً بِأَنَّهُمْ غُلِبُوا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا تَنْكَسِرُ لَهُ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَخْبَارِ، فَتَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أَيْ: لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بِالْقَتْلِ، وَالتَّشْرِيدِ بِأَمْرِنَا لَكَ بِذَلِكَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: قَدْ أَغْرَاهُ اللَّهُ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا فهذا في معنى الأمر بقتلهم وأخذهم، أي:

_ (1) . هو العين المنقري يهجو به العجاج بن رؤبة.

هَذَا حُكْمُهُمْ إِذَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى النِّفَاقِ وَالْإِرْجَافِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ. وَأَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِحَسَنٍ وَلَا أَحْسَنَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ مَلْعُونِينَ إِلَخْ، إِنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ لَا أَنَّهُ أَمْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ وَلَا تَسْلِيطٌ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمُ انْتَهَوْا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ الْإِرْجَافِ فَلَمْ يُغْرِهِ اللَّهُ بِهِمْ، وَجُمْلَةُ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجُمْلَةُ: ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ، أَيْ: لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا جِوَارًا قَلِيلًا حَتَّى يَهْلِكُوا، وَانْتِصَابُ مَلْعُونِينَ عَلَى الْحَالِ، كَمَا قَالَ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى مَطْرُودِينَ أَيْنَما وُجِدُوا وَأُدْرِكُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُؤْخَذُوا وَيُقَتَّلُوا تَقْتِيلًا وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِيهِمْ وَلَيْسَ بِدُعَاءٍ عَلَيْهِمْ، وَالْأَوَّلُ أولى. وقيل معنى الآية: أنهم إن أَصَرُّوا عَلَى النِّفَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُقَامٌ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا وَهُمْ مَطْرُودُونَ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أَيْ: سَنَّ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَهُوَ لَعْنُ الْمُنَافِقِينَ، وَأَخْذُهُمْ، وَتَقْتِيلُهُمْ، وَكَذَا حُكْمُ الْمُرْجِفِينَ، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: بَيَّنَ اللَّهُ فِي الَّذِينَ يُنَافِقُونَ الْأَنْبِيَاءَ، وَيُرْجِفُونَ بِهِمْ أَنْ يُقَتَّلُوا حَيْثُمَا ثُقِفُوا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أَيْ: تَحْوِيلًا، وَتَغْيِيرًا، بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ دَائِمَةٌ في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أَيْ: عَنْ وَقْتِ قِيَامِهَا وَحُصُولِهَا، قِيلَ: السَّائِلُونَ عَنِ السَّاعَةِ هُمْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقُونَ، وَالْمُرْجِفُونَ لَمَّا تُوُعِّدُوا بِالْعَذَابِ، سَأَلُوا عَنِ السَّاعَةِ اسْتِبْعَادًا، وَتَكْذِيبًا وَما يُدْرِيكَ يَا مُحَمَّدُ! أَيْ: مَا يُعْلِمُكَ وَيُخْبِرُكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أَيْ: فِي زَمَانٍ قَرِيبٍ، وَانْتِصَابُ قَرِيبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالتَّذْكِيرُ لِكَوْنِ السَّاعَةِ فِي مَعْنَى: الْيَوْمِ أَوِ الْوَقْتِ مَعَ كَوْنِ تَأْنِيثِ السَّاعَةِ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَحْجُوبَةً عَنْهُ لَا يَعْلَمُ وَقْتَهَا، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ؟ وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ عَظِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ أَيْ: طَرَدَهُمْ، وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَأَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَعَ ذَلِكَ اللَّعْنِ مِنْهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا سَعِيراً أَيْ نَارًا شَدِيدَةَ التَّسَعُّرِ خالِدِينَ فِيها أَبَداً بِلَا انْقِطَاعٍ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا يُوَالِيهِمْ وَيَحْفَظُهُمْ مِنْ عَذَابِهَا وَلا نَصِيراً يَنْصُرُهُمْ وَيُخَلِّصُهُمْ مِنْهَا، وَيَوْمَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ لَا يَجِدُونَ، وَقِيلَ: لخالدين، وقيل: لنصيرا، وقيل: لفعل مقدر، وهو الذكر. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُقَلَّبُ» بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ عِيسَى الْهَمْدَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «نُقَلِّبُ» بِالنُّونِ وَكَسْرِ اللَّامِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ عِيسَى أَيْضًا بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى تُقَلِّبُ السَّعِيرُ وُجُوهَهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّامِ عَلَى مَعْنَى تَتَقَلَّبُ، وَمَعْنَى هَذَا التَّقَلُّبِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ: هُوَ تَقَلُّبُهَا تَارَةً عَلَى جِهَةٍ مِنْهَا، وَتَارَةً عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى ظَهْرًا لِبَطْنٍ، أَوْ تَغَيُّرُ أَلْوَانِهِمْ بِلَفْحِ النَّارِ، فَتَسْوَدُّ تَارَةً وَتَخْضَرُّ أُخْرَى، أَوْ تَبْدِيلُ جُلُودِهِمْ بِجُلُودٍ أُخْرَى، فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ فَمَا حَالُهُمْ؟ فَقِيلَ: يَقُولُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يَقُولُونَ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ: يَا لَيْتَنَا إِلَخْ. تَمَنَّوْا أَنَّهُمْ أَطَاعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ، وَآمَنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ، لِيَنْجُوا مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا نَجَا الْمُؤْمِنُونَ وَهَذِهِ الْأَلِفُ فِي الرَّسُولَا، وَالْأَلِفُ الَّتِي سَتَأْتِي فِي «السَّبِيلَا» هِيَ الْأَلِفُ الَّتِي تَقَعُ فِي الْفَوَاصِلِ وَيُسَمِّيهَا النُّحَاةُ أَلِفَ الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي أَوَّلِ

هَذِهِ السُّورَةِ وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَالْمُرَادُ بِالسَّادَةِ وَالْكُبَرَاءِ: هُمُ الرُّؤَسَاءُ، وَالْقَادَةُ الَّذِينَ كَانُوا يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَقْتَدُونَ بِهِمْ، وَفِي هَذَا زَجْرٌ عَنِ التَّقْلِيدِ شَدِيدٌ. وَكَمْ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى هَذَا، وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَلَكِنْ لِمَنْ يَفْهَمُ مَعْنَى كَلَامِ اللَّهِ، وَيَقْتَدِي بِهِ، وَيُنْصِفُ مِنْ نَفْسِهِ، لَا لِمَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَنْعَامِ، في سوء الفهم، ومزيدة الْبَلَادَةِ، وَشِدَّةِ التَّعَصُّبِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ عَامِرٍ «سَادَاتِنَا» بِكَسْرِ التَّاءِ جَمْعُ سَادَةٍ، فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الْمُطْعِمُونَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ بِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أَيْ عَنِ السَّبِيلِ بِمَا زَيَّنُوا لَنَا مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالسَّبِيلُ هُوَ التَّوْحِيدُ، ثُمَّ دَعَوْا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ فَقَالُوا: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أَيْ: مِثْلَ عَذَابِنَا مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَذَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقِيلَ: عَذَابُ الْكُفْرِ، وَعَذَابُ الْإِضْلَالِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً قَرَأَ الْجُمْهُورُ «كَثِيرًا» بِالْمُثَلَّثَةِ، أَيْ: لَعْنًا كَثِيرَ الْعَدَدِ، عَظِيمَ الْقَدْرِ، شَدِيدَ الْمَوْقِعِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالنَّحَّاسُ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَعَاصِمٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: كَبِيرًا فِي نَفْسِهِ شَدِيدًا عَلَيْهِمْ ثَقِيلَ الْمَوْقِعِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَ مَا ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَسِيمَةً لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا، فَرَآهَا عُمَرُ فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ أَمَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ، قالت: فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى وَفِي يَدِهِ عَرْقٌ، فَدَخَلَتْ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَقَالَ لِي عُمَرُ كَذَا وَكَذَا، فَأُوحِيَ إِلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ، وَإِنَّ الْعَرْقَ فِي يَدِهِ مَا وَضَعَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: كَانَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ لِحَاجَتِهِنَّ، وَكَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَتَعَرَّضُونَ لَهُنَّ فَيُؤْذَيْنَ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِلْمُنَافِقِينَ، فقالوا: إنما نفعله بالإماء، فنزلت هذه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كَانَ رجل من المنافقين يتعرّض لنساء المؤمنين يؤذيهن، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: قَالَ كُنْتُ أَحْسَبُهَا أَمَةً، فَأَمَرَهُنَّ اللَّهُ أَنْ يُخَالِفْنَ زِيَّ الْإِمَاءِ وَيُدْنِينَ عليهم مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ تُخَمِّرُ وَجْهَهَا إِلَّا إِحْدَى عَيْنَيْهَا ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ يَقُولُ: ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يُعْرَفْنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: أمر الله نساء المؤمنين إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فِي حَاجَةٍ أَنْ يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بِالْجَلَابِيبِ وَيُبْدِينَ عَيْنًا وَاحِدَةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خَرَجَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ رؤوسهن الْغِرْبَانُ مِنَ السَّكِينَةِ، وَعَلَيْهِنَّ أَكْسِيَةٌ سُودٌ يَلْبَسْنَهَا، هَكَذَا فِي الزَّوَائِدِ بِلَفْظِ مِنَ السَّكِينَةِ، وَلَيْسَ لَهَا مَعْنًى، فَإِنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ الْأَكْسِيَةِ السُّودِ: بِالْغِرْبَانِ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُهُنَّ بِالسِّكِينَةِ كَمَا يقال: كأن على رؤوسهم الطَّيْرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رحم الله نساء الأنصار لما نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الْآيَةَ شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ، فَاعْتَجَرْنَ بِهَا وَصَلَّيْنَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنما على رؤوسهن الْغِرْبَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عباس

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 إلى 73]

فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَتِ الْحُرَّةُ تَلْبَسُ لِبَاسَ الْأَمَةِ فَأَمَرَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، وَإِدْنَاءُ الْجِلْبَابِ أَنْ تَقَنَّعَ وَتَشُدَّهُ عَلَى جَبِينِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ بِأَعْيَانِهِمْ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شَكٌّ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابن سعد أيضا عن عبيد ابن جبر قَالَ: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ هُمُ: الْمُنَافِقُونَ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ قَالَ: لَنُسَلِّطَنَّكَ عليهم. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 73] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) قَوْلُهُ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى هُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ بِهِ أُدْرَةً أَوْ بَرَصًا أَوْ عَيْبًا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ آخِرَ الْبَحْثِ، وَفِيهِ تَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَزَجْرٌ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مُقَاتِلٌ: وَعَظَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُؤْذُوا مُحَمَّدًا صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ كَمَا آذَى بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا أُوذِيَ بِهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ أَذِيَّتَهُمْ مُحَمَّدًا قَوْلُهُمْ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ ثابت، وَزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَمَا سَمِعَ فِيهَا مِنْ قَالَةِ النَّاسِ، وَمَعْنَى: وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ذَا وَجَاهَةٍ، وَالْوَجِيهُ عِنْدَ اللَّهِ: الْعَظِيمُ الْقَدْرِ، الرَّفِيعُ الْمَنْزِلَةِ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْوَجَاهَةِ: إِنَّهُ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ» بِالنُّونِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ «عَبْدُ اللَّهِ» بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا هِيَ: الْمَوْصُولَةُ أَوِ الْمَصْدَرِيَّةُ، أَيْ: مِنَ الَّذِي قَالُوهُ، أو من قولهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أَيْ: فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً أَيْ: قَوْلًا صَوَابًا وَحَقًّا. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي قُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا فِي شَأْنِ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ، ولا تنسبوا النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ الْقَوْلَ السَّدِيدَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُوَافِقُ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ. وَالسَّدِيدُ: مَأْخُوذٌ مِنْ تَسْدِيدِ السَّهْمِ لِيُصَابَ بِهِ الْغَرَضُ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا فِي جَمِيعِ مَا يَأْتُونَهُ وَيَذَرُونَهُ، فَلَا يَخُصُّ ذَلِكَ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، فَالْمَقَامُ يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ أَرْشَدَ سُبْحَانَهُ عباده إلى أن يقولوا قولا يخالف أَهْلِ الْأَذَى. ثُمَّ ذَكَرَ مَا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، وَالْقَوْلِ السَّدِيدِ مِنَ الْأَجْرِ فَقَالَ: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ أَيْ: يَجْعَلْهَا صَالِحَةً لَا فَاسِدَةً بِمَا يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ وَيُوَفِّقُهُمْ فِيهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أَيْ: يَجْعَلْهَا مُكَفَّرَةً مَغْفُورَةً وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

فِي فِعْلِ مَا هُوَ طَاعَةٌ وَاجْتِنَابِ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أَيْ: ظَفِرَ بِالْخَيْرِ ظَفَرًا عَظِيمًا. وَنَالَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا سَبَقَهَا. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ بَيَانِ مَا لِأَهْلِ الطَّاعَةِ مِنَ الْخَيْرِ بَعْدَ بَيَانِ مَا لِأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْعَذَابِ بَيَّنَ عِظَمَ شَأْنِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ وَصُعُوبَةَ أَمْرِهَا فَقَالَ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها. وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى الْأَمَانَةِ هَاهُنَا فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ الطَّاعَةُ وَالْفَرَائِضُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِأَدَائِهَا الثَّوَابُ، وَبِتَضْيِيعِهَا الْعِقَابُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْأَمَانَةُ: تَعُمُّ جَمِيعَ وَصَائِفِ الدِّينِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفَاصِيلِ بَعْضِهَا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ فِي أَمَانَةِ الْأَمْوَالِ كَالْوَدَائِعِ وَغَيْرِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا فِي كُلِّ الْفَرَائِضِ، وَأَشَدُّهَا أَمَانَةُ: الْمَالِ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مِنَ الْأَمَانَةِ أَنِ ائْتُمِنَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: غُسْلُ الْجَنَابَةِ أَمَانَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمَنِ ابْنَ آدَمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ غَيْرُهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْإِنْسَانِ فَرْجَهُ وَقَالَ: هَذِهِ أَمَانَةٌ أَسْتَوْدِعُكَهَا فَلَا تُلْبِسْهَا إِلَّا بِحَقٍّ، فَإِنْ حَفِظْتَهَا حَفِظْتُكَ. فَالْفَرْجُ أَمَانَةٌ، وَالْأُذُنُ أَمَانَةٌ، وَالْعَيْنُ أَمَانَةٌ، وَاللِّسَانُ أَمَانَةٌ، وَالْبَطْنُ أَمَانَةٌ، وَالْيَدُ أَمَانَةٌ، وَالرِّجْلُ أَمَانَةٌ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ ائْتِمَانُ آدَمَ ابْنَهُ قَابِيلَ عَلَى وَلَدِهِ هَابِيلَ، وَخِيَانَتُهُ إِيَّاهُ فِي قَتْلِهِ. وَمَا أَبْعَدَ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَا هُوَ الَّذِي سَوَّغَ لِلسُّدِّيِّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ دَلَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا دَلِيلَ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِكَايَةً عَنِ الْمَاضِينَ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُتَمَسَّكٌ أَبْعَدُ مِنْ كُلِّ بَعِيدٍ، وَأَوْهَنُ مِنْ بُيُوتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُ هَذَا عَمَلًا بِمَا تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ، فَلَيْسَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا يَقْتَضِي هَذَا وَيُوجِبُ حَمْلَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى شَيْءٍ كَانَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْعَالَمِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا تَفْسِيرًا مِنْهُ بِمَحْضِ الرَّأْيِ، فَلَيْسَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ عُرْضَةً لِتَلَاعُبِ آرَاءِ الرِّجَالِ بِهِ، وَلِهَذَا وَرَدَ الْوَعِيدُ عَلَى مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ، فَاحْذَرْ أَيُّهَا الطَّالِبُ لِلْحَقِّ عَنْ قَبُولِ مِثْلِ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ، وَاشْدُدْ يَدَيْكَ فِي تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ، فَهُوَ قُرْآنٌ عَرَبِيٌّ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ، فَإِنْ جَاءَكَ التَّفْسِيرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا جَاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْعَرَبِ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمِمَّنْ جَمَعَ إِلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْعِلْمَ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ مَعْنَى اللَّفْظِ أَوْسَعَ مِمَّا فسروه به فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، فَعَلَيْكَ أَنْ تَضُمَّ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الصَّحَابِيُّ مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَأَسْرَارُهَا، فَخُذْ هَذِهِ كُلِّيَّةً تَنْتَفِعُ بِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي خُطْبَةِ هَذَا التَّفْسِيرِ مَا يُرْشِدُكَ إِلَى هَذَا. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْأَمَانَةَ عُرِضَتْ على السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَقَالَتْ: وَمَا فِيهَا؟ فَقَالَ لَهَا: إِنْ أَحْسَنْتِ آجَرْتُكِ وَإِنْ أَسَأْتِ عَذَّبْتُكِ، فَقَالَتْ: لَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَرَضَهَا عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: قَدْ تحملتها. وروي نحو هذا عن غير الحسن وَمُجَاهِدٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْأَمَانَةُ هِيَ ما أودعه الله في السموات، وَالْأَرْضِ، وَالْجِبَالِ، وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ أَنْ يُظْهِرُوهَا فَأَظْهَرُوهَا، إِلَّا الْإِنْسَانَ فَإِنَّهُ كَتَمَهَا وَجَحَدَهَا. كَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ مُفَسِّرًا لِلْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ الزَّائِفِ،

فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مَعْنَى عَرَضْنَا أَظْهَرْنَا. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْجَمَادَ لَا يَفْهَمُ وَلَا يُجِيبُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْحَيَاةِ فِيهَا، وَهَذَا الْعَرْضُ فِي الْآيَةِ هُوَ عَرْضُ تَخْيِيرٍ لَا عَرْضَ إِلْزَامٍ. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ: الْعَرْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضَرْبُ مثل، أي: إن السموات وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ عَلَى كِبَرِ أَجْرَامِهَا لَوْ كَانَتْ بِحَيْثُ يَجُوزُ تَكْلِيفُهَا لَثَقُلَ عَلَيْهَا تَقَلُّدُ الشَّرَائِعِ لِمَا فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، أَيْ: أَنَّ التَّكْلِيفَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَقُّهُ أَنْ تَعْجِزَ عَنْهُ السموات وَالْأَرْضُ، وَالْجِبَالُ، وَقَدْ كُلِّفَهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ ظَلُومٌ جَهُولٌ لَوْ عَقَلَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ «1» إِنَّ عَرَضْنَا بِمَعْنَى عَارَضْنَا، أَيْ: عَارَضْنَا الْأَمَانَةَ بالسموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَضَعُفَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَنِ الْأَمَانَةِ، وَرَجَحَتِ الْأَمَانَةُ بِثِقَلِهَا عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ عَرْضَ الأمانة على السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ عَلَيْهَا. وَهَذَا أَيْضًا تَحْرِيفٌ لَا تَفْسِيرٌ، وَمَعْنَى وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أَيِ: الْتَزَمَ بِحَقِّهَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ ظَلُومٌ لِنَفْسِهِ جَهُولٌ لِمَا يَلْزَمُهُ، أَوْ جَهُولٌ لِقَدْرِ مَا دَخَلَ فِيهِ، كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ جَهُولٌ بِرَبِّهِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ: وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى حَمَلَهَا: خَانَ فِيهَا، وَجَعَلَ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ، وَالْفُسَّاقِ، وَالْعُصَاةِ، وَقِيلَ مَعْنَى حَمَلَهَا: كُلِّفَهَا وَأُلْزِمَهَا، أَوْ صَارَ مُسْتَعِدًّا لَهَا بِالْفِطْرَةِ، أَوْ حَمَلَهَا عِنْدَ عَرْضِهَا عَلَيْهِ فِي عَالَمِ الذَّرِّ عِنْدَ خُرُوجِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ وَأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ، وَاللَّامُ فِي لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ متعلق بحملها، أَيْ: حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْعَاصِيَ، وَيُثِيبَ الْمُطِيعَ، وَعَلَى هَذَا فَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَغَايَتِهَا لِلْإِيذَانِ بِعَدَمِ وَفَائِهِ بِمَا تَحْمِلُهُ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لِيُعَذِّبَهُمْ بِمَا خَانُوا مِنَ الْأَمَانَةِ، وَكَذَّبُوا مِنَ الرُّسُلِ، وَنَقَضُوا مِنَ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَقَرُّوا بِهِ حِينَ أُخْرِجُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبُونَ هُمُ الَّذِينَ خَانُوهَا، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمُ الَّذِينَ أَدَّوْهَا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ عَرَضْنَا ذَلِكَ لِيَظْهَرَ نِفَاقُ الْمُنَافِقِ، وَشِرْكُ الْمُشْرِكِ فَيُعَذِّبُهُمَا اللَّهُ، وَيَظْهَرَ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَيْ: يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ إِنْ حَصَلَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي بَعْضِ الطَّاعَاتِ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّوْبَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ خَارِجٌ مِنَ الْعَذَابِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ: كَثِيرَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا قَصَّرُوا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمَانَةِ الْعَقْلُ، وَالرَّاجِحُ مَا قَدَّمْنَا عَنِ الْجُمْهُورِ، وَمَا عَدَاهُ فَلَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ لِعَدَمِ وُرُودِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ، وَلَا انْطِبَاقِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ، وَلَا مُوَافَقَتِهِ لِمَا يَقْتَضِيهِ تَعْرِيفُ الْأَمَانَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وغيره مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَأَذَاهُ مَنْ أَذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا مَا تَسَتَّرَ هَذَا السِّتْرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ، إِمَّا بَرَصٌ، وَإِمَّا أُدْرَةٌ، وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَ مُوسَى مِمَّا قَالُوا: فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ، فَخَلَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ فَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إلى ملأ من

_ (1) . الحشر: 21.

بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه، فو الله إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا» وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى قَالَ: قَالَ لَهُ قَوْمُهُ إِنَّهُ آدَرُ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ لِيَغْتَسِلَ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ فَخَرَجَتِ الصَّخْرَةُ تَشْتَدُّ بِثِيَابِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى يَتْبَعُهَا عُرْيَانًا حَتَّى انْتَهَتْ بِهِ إِلَى مَجَالِسِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ وَلَيْسَ بِآدَرَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى إِنِّي مُتَوَفٍّ هَارُونَ فَأْتِ بِهِ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَانْطَلَقَا نَحْوَ الْجَبَلِ فَإِذَا هُمْ بِشَجَرَةٍ وَبَيْتٍ فِيهِ سَرِيرٌ عَلَيْهِ فُرُشٌ، وَرِيحٌ طَيِّبٌ، فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ إِلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ وَالْبَيْتِ وَمَا فِيهِ أَعْجَبَهُ قَالَ: يَا مُوسَى إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَنَامَ عَلَى هَذَا السَّرِيرِ، قَالَ نم عليه، قال نم معي، فلما نام أَخَذَ هَارُونَ الْمَوْتُ، فَلَمَّا قُبِضَ رُفِعَ ذَلِكَ الْبَيْتُ، وَذَهَبَتِ الشَّجَرَةُ، وَرُفِعَ السَّرِيرُ إِلَى السَّمَاءِ فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا قَتَلَ هَارُونَ، وَحَسَدَهُ حُبَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ، وَكَانَ هَارُونُ أَأْلَفَ بِهِمْ وَأَلْيَنَ، وَكَانَ فِي مُوسَى بَعْضُ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ: وَيْحَكُمْ إِنَّهُ كَانَ أَخِي أَفَتَرَوْنِي أَقْتُلُهُ؟ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا اللَّهَ، فَنَزَلَ بِالسَّرِيرِ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَصَدَّقُوهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ الله ذَاتَ يَوْمٍ قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ ثُمَّ قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمُ اثْبُتُوا، ثُمَّ أَتَى الرِّجَالَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ آمُرَكُمْ أَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ وَأَنْ تَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ آمُرَكُنَّ أَنْ تَتَّقِينَ اللَّهَ وَأَنْ تَقُلْنَ قَوْلًا سَدِيدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ الْأَضْدَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الْآيَةَ قَالَ الأمانة الفرائض عرضها الله على السموات وَالْأَرْضِ، وَالْجِبَالِ إِنْ أَدَّوْهَا أَثَابَهُمْ، وَإِنْ ضَيَّعُوهَا عَذَّبَهُمْ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَأَشْفَقُوا مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَلَكِنْ تَعْظِيمًا لِدِينِ اللَّهِ أَنْ لَا يَقُومُوا بِهَا، ثُمَّ عَرَضَهَا عَلَى آدَمَ فَقَبِلَهَا بِمَا فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا يَعْنِي: غِرًّا بِأَمْرِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ الْأَضْدَادِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: عُرِضَتْ عَلَى آدَمَ، فَقِيلَ خُذْهَا بِمَا فِيهَا فَإِنْ أَطَعْتَ غَفَرْتُ لَكَ وَإِنْ عَصَيْتَ عَذَّبْتُكَ، قَالَ: قَبِلْتُهَا بِمَا فِيهَا، فَمَا كَانَ إِلَّا مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى أَصَابَ الذَّنْبَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى نحوه.

سورة سبإ

سُورَةِ سَبَأٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً اخْتُلِفَ فِيهَا، وهي قوله: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مَكِّيَّةٌ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَفِيمَنْ نَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالنَّحَّاسُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ سَبَأٍ بمكة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ تَعْرِيفُ الْحَمْدِ، مَعَ لَامِ الِاخْتِصَاصِ: مُشْعِرَانِ بِاخْتِصَاصِ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْحَمْدِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَالْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى النَّعْتِ، أَوِ الْبَدَلِ، أَوِ النَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوِ الرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، وَمَعْنَى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَنَّ جَمِيعَ مَا هُوَ فِيهَا فِي مُلْكِهِ، وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ فِيهِ بِمَا يُرِيدُ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَى الْعَبْدِ، فَهِيَ مِمَّا خَلَقَهُ لَهُ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِ، فَحَمْدُهُ على ما في السموات والأرض هو حمد له عَلَى النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى خَلْقِهِ لَهُمْ. وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْحَمْدَ الدُّنْيَوِيَّ مِنْ عِبَادِهِ الْحَامِدِينَ لَهُ مُخْتَصٌّ بِهِ بَيَّنَ أَنَّ الْحَمْدَ الْأُخْرَوِيَّ مُخْتَصٌّ بِهِ كَذَلِكَ فَقَالَ: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ: «لَهُ» مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِ الْحَمْدِ، أَوْ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ خَبَرُ الْحَمْدِ، أَعْنِي: فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمُتَعَلِّقٍ عَامٍّ هُوَ الِاسْتِقْرَارُ، أَوْ نَحْوُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنْ لَهُ سبحانه على الاختصاص حمد

عباده الذين يحمدون فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «1» وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «2» وَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إلى قوله: الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ «3» وَقَوْلِهِ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «4» فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمَحْمُودُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّهُ الْمَحْمُودُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْمَالِكُ لِلْآخِرَةِ كَمَا أَنَّهُ الْمَالِكُ لِلدُّنْيَا وَهُوَ الْحَكِيمُ الَّذِي أَحْكَمَ أَمْرَ الدَّارَيْنِ الْخَبِيرُ بِأَمْرِ خَلْقِهِ فِيهِمَا، قِيلَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْدَيْنِ أَنَّ الْحَمْدَ فِي الدُّنْيَا عِبَادَةٌ، وَفِي الْآخِرَةِ تَلَذُّذٌ وَابْتِهَاجٌ، لِأَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ فِيهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ ما يحيط به من علمه من أمور السموات وَالْأَرْضِ فَقَالَ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أَيْ: مَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ مَطَرٍ، أَوْ كَنْزٍ، أَوْ دَفِينٍ وَما يَخْرُجُ مِنْها مِنْ زَرْعٍ، وَنَبَاتٍ، وَحَيَوَانٍ وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ مِنَ الْأَمْطَارِ، وَالثُّلُوجِ، وَالْبَرَدِ، وَالصَّوَاعِقِ، وَالْبَرَكَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَنْزِلُ مِنْهَا مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَما يَعْرُجُ فِيها مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَنْزِلُ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ مُسْنَدًا إِلَى «مَا» وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالسُّلَمِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَهُوَ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ الْغَفُورُ لِذُنُوبِهِمْ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ جِنْسُ الْكَفَرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ كُفَّارُ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَمَعْنَى لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ: أَنَّهَا لَا تَأْتِي بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، إِنْكَارًا مِنْهُمْ لِوُجُودِهَا لَا لِمُجَرَّدِ إِتْيَانِهَا فِي حَالِ تَكَلُّمِهِمْ أَوْ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ مَعَ تَحَقُّقِ وَجُودِهَا فِيمَا بَعْدُ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ وَهَذَا الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْإِتْيَانِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَتَأْتِيَنَّكُمْ» بِالْفَوْقِيَّةِ: أَيِ السَّاعَةُ، وَقَرَأَ طَلْقٌ الْمُعَلِّمُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ السَّاعَةِ بِالْيَوْمِ أَوِ الْوَقْتِ. قَالَ طَلْقٌ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَنَا يَقْرَءُونَ بِالْيَاءِ، يَعْنِي: التَّحْتِيَّةَ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قَالَ لَيَأْتِيَنَّكُمُ الْبَعْثُ أَوْ أَمْرُهُ كَمَا قال: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ «عَالِمُ الْغَيْبِ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ لَا يَعْزُبُ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وأبو عمرو بالجرّ على أنه نعت لربّي، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ عَلَّامِ بِالْجَرِّ مَعَ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَمَعْنَى لَا يَعْزُبُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ وَلَا يَسْتَتِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَبْعُدُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ الْمِثْقَالِ وَلا أَكْبَرُ مِنْهُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا وَهُوَ مُثْبَتٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى مَعْلُومَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِنَفْيِ الْعُزُوبِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَعْزُبُ بِضَمِّ الزَّايِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِكَسْرِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْكَسْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ عَزَبَ يَعْزُبُ بِالضَّمِّ، وَيَعْزِبُ بِالْكَسْرِ إِذَا بَعُدَ وَغَابَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَلَا أَصْغَرُ وَلَا أَكْبَرُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ، أَوْ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى مِثْقَالُ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ بِنَصْبِهِمَا عَطْفًا عَلَى ذَرَّةٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ لَا: هِيَ: لَا التَّبْرِئَةِ الَّتِي يُبْنَى اسْمُهَا عَلَى الْفَتْحِ، وَاللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لِلتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: لَتَأْتِيَنَّكُمْ أَيْ: إِتْيَانُ السَّاعَةِ فَائِدَتُهُ جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّوَابِ، وَالْكَافِرِينَ بِالْعِقَابِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ، أَيْ: أولئك الذي عملوا الصالحات لَهُمْ مَغْفِرَةٌ

_ (1) . الزمر: 74. (2) . الأعراف: 43. (3) . فاطر: 34 و 35. (4) . يونس: 10.

لِذُنُوبِهِمْ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ مَعَ التَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ فَرِيقَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يُعَاقَبُونَ عِنْدَ إِتْيَانِ السَّاعَةِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أَيْ سَعَوْا فِي إِبْطَالِ آيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ، وَقَدَحُوا فِيهَا وَصَدُّوا النَّاسَ عَنْهَا، وَمَعْنَى «مُعَاجِزِينَ» مُسَابِقِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَفُوتُونَنَا وَلَا يُدْرَكُونَ، وَذَلِكَ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ، يقال عاجزه أو عجزه: إِذَا غَالَبَهُ وَسَبَقَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مُعاجِزِينَ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عَمْرٍو «مُعَجِّزِينَ» أَيْ: مُثَبِّطِينَ لِلنَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْآيَاتِ أُولئِكَ أَيِ: الَّذِينَ سَعَوْا لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ الرجز: هو العذاب، فمن لِلْبَيَانِ، وَقِيلَ: الرِّجْزُ هُوَ أَسْوَأُ الْعَذَابِ وَأَشَدُّهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَلِيمٍ» بِالْجَرِّ صِفَةً لِرِجْزٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالرَّفْعِ صِفَةً لعذاب، وَالْأَلِيمُ: الشَّدِيدُ الْأَلَمِ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي إِبْطَالِ آيَاتِ الله ذكر الذين يؤمنون بها، ومعنى وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَيْ: يَعْلَمُونَ وَهُمُ الصَّحَابَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَوْصُولُ: هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ ليرى، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: الْحَقَّ، وَالضَّمِيرُ: هُوَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ. وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الضَّمِيرِ، وَالْجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَهِيَ لغة تميم، إنهم يرفعون ما بعد ضمير الفصل، وَالْجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وهي لغة تميم، فإنهم يرفعون مَا بَعْدَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ الرَّفْعُ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ وَقَالُوا النَّصْبُ أَكْثَرُ. قِيلَ وَقَوْلُهُ: يَرَى مَعْطُوفٌ عَلَى لِيَجْزِيَ، وَبِهِ قال الزجاج والفراء، واعترض عليهما بِأَنَّ قَوْلَهُ: «لِيَجْزِيَ» مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: «لَتَأْتِيَنَّكُمْ» وَلَا يُقَالُ لَتَأْتِيَنَّكُمُ السَّاعَةُ لِيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِدَفْعِ مَا يَقُولُهُ الَّذِينَ سَعَوْا فِي الْآيَاتِ، أي: إن ذلك السعي مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَقَّ عَطْفَ فِعْلٍ عَلَى اسْمٍ، لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ أَيْ: وَقَابِضَاتٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَادِيًا، وَقِيلَ إِنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى فَاعِلِ أُنْزِلَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ، أَيْ: وَيَهْدِي إِلَى طَرِيقِ الْعَزِيزِ فِي مُلْكِهِ الْحَمِيدِ عِنْدَ خَلْقِهِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يَهْدِي إِلَى دِينِ اللَّهِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ كَلَامِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ فَقَالَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ: قَالَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ، يعنون محمّد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَيْ: هَلْ نُرْشِدُكُمْ إِلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ أَيْ: يُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ عَجِيبٍ، وَنَبَّأٍ غَرِيبٍ هُوَ أَنَّكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أَيْ: فُرِّقْتُمْ كُلَّ تَفْرِيقٍ وَقُطِّعْتُمْ كُلَّ تَقْطِيعٍ وَصِرْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ رُفَاتًا وَتُرَابًا إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَيْ: تُخْلَقُونَ خَلْقًا جَدِيدًا، وَتُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً، وَتَعُودُونَ إِلَى الصُّوَرِ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْهَا، قَالَ هَذَا الْقَوْلَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اسْتِهْزَاءً بِمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ الْبَعْثِ، وَأَخْرَجُوا الْكَلَامَ مَخْرَجَ التَّلَهِّي بِهِ وَالتَّضَاحُكِ مِمَّا يَقُولُهُ مِنْ ذَلِكَ، «وَإِذَا» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِقَوْلِهِ: مُزِّقْتُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا يَنَبِّئُكُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُخْبِرُهُمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا مَا بَعْدَ إِنَّ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فيما قبلها.

وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ بُعِثْتُمْ، أَوْ نُبِّئْتُمْ بِأَنَّكُمْ تُبْعَثُونَ إِذَا مُزِّقْتُمْ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مُزِّقْتُمْ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمُضَافِ. وَأَصْلُ الْمَزْقِ: خَرْقُ الْأَشْيَاءِ، يُقَالُ: ثَوْبٌ مَزِيقٌ، وَمُمَزَّقٌ، وَمُتَمَزِّقٌ، وَمَمْزُوقٌ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ رَدَّدُوا مَا وَعَدَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَعْثِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَقَالُوا: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أَهُوَ كَاذِبٌ فِيمَا قَالَهُ أَمْ بِهِ جُنُونٌ بِحَيْثُ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُهُ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَفْتَرَى هِيَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَحُذِفَتْ لِأَجْلِهَا هَمْزَةُ الْوَصْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ مَا قَالُوهُ فِي رَسُولِهِ فَقَالَ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، بَلْ هُمُ الَّذِينَ ضَلُّوا عَنِ الْفَهْمِ وَإِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، فَكَفَرُوا بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ، فَصَارُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ وَهُمُ الْيَوْمَ فِي الضَّلَالِ الْبَعِيدِ عَنِ الْحَقِّ غَايَةَ الْبُعْدِ. ثُمَّ وبخهم سبحانه بما اجترءوا عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ إِلَّا لِعَدَمِ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْعَظِيمِ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَبْعَثَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ، وَيُعِيدُهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَمَعْنَى إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا رَأَوُا السَّمَاءَ خَلْفَهُمْ وَقُدَّامَهُمْ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَظَرُوا فِي الْأَرْضِ رَأَوْهَا خَلْفَهُمْ وَقُدَّامَهُمْ، فَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ مُحِيطَتَانِ بِهِمْ فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مَا شَاءَ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ لِرَسُولِهِ، وَإِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أن هذا الْخَلْقَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ مِنَ الْبَعْثِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ «1» . وَالْأَمْرُ الْآخَرُ: التَّهْدِيدُ لَهُمْ بِأَنَّ مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الَّتِي قَدْ أَحَاطَتْ بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهِمَا قَادِرٌ عَلَى تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَهُمْ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كَمَا خَسَفَ بِقَارُونَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً أَيْ: قِطَعًا مِنَ السَّماءِ كَمَا أَسْقَطَهَا عَلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فَكَيْفَ يَأْمَنُونَ ذَلِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنْ نَشَأْ بنون العظمة، وكذا نخسف ونسقط. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ أَيْ: إِنْ يَشَأِ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ بِإِدْغَامِ الْفَاءِ فِي الْبَاءِ فِي نَخْسِفْ بِهِمُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْفَاءَ مِنْ بَاطِنِ الشَّفَةِ السُّفْلَى وَأَطْرَافِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا بِخِلَافِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «كِسْفًا» بِسُكُونِ السِّينِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالسُّلَمِيُّ بِفَتْحِهَا إِنَّ فِي ذلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَةً وَاضِحَةً وَدَلَالَةً بَيِّنَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أَيْ: رَاجِعٍ إِلَى رَبِّهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَخَصَّ الْمُنِيبَ لِأَنَّهُ الْمُنْتَفِعُ بِالتَّفَكُّرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ قَالَ: مِنَ الْمَطَرِ وَما يَخْرُجُ مِنْها قَالَ: مِنَ النَّبَاتِ وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ قَالَ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَما يَعْرُجُ فِيها قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قَالَ: الرِّجْزُ هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ الْمُوجِعُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قال: أصحاب محمّد. وأخرج

_ (1) . يس: 81.

[سورة سبإ (34) : الآيات 10 إلى 14]

ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ قَالَ: قَالَ ذَلِكَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ يَقُولُ: إِذَا أَكَلَتْكُمُ الْأَرْضُ وَصِرْتُمْ رُفَاتًا وَعِظَامًا وَتَقَطَّعَتْكُمُ السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ إِنَّكُمْ سَتَحْيَوْنَ وَتُبْعَثُونَ، قَالُوا ذَلِكَ تَكْذِيبًا بِهِ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ قَالَ: قَالُوا إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قَالُوا: إِنَّكَ إِنْ نَظَرْتَ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ ومن بَيْنَ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ رَأَيْتَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كَمَا خَسَفْنَا بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أَيْ: قِطَعًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ يَشَأْ أَنْ يُعَذِّبَ بِسَمَائِهِ فَعَلَ وَإِنْ يَشَأْ أَنْ يُعَذِّبَ بِأَرْضِهِ فَعَلَ وَكُلُّ خَلْقِهِ لَهُ جُنْدٌ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ قال: تائب مقبل إلى الله. [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُنِيبِينَ إِلَيْهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، كَمَا قَالَ فِي دَاوُدَ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ» وَقَالَ فِي سُلَيْمَانَ: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ «2» فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أَيْ: آتَيْنَاهُ بِسَبَبِ إِنَابَتِهِ فَضْلًا مِنَّا عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْفَضْلِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَقِيلَ النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: الزَّبُورُ، وَقِيلَ: الْعِلْمُ، وَقِيلَ: الْقُوَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ «3» وقيل: تسخير الجبال، كما في قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وقيل: التوبة، قيل: الحكم بالعدل، كما في قوله: يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ «4» وَقِيلَ: هُوَ إِلَانَةُ الْحَدِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وَقِيلَ: حُسْنُ الصَّوْتِ، وَالْأَوْلَى أن يقال: إن هذا الفضل الْمَذْكُورَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ بَعْدَهُ مِنْ قوله: يا جِبالُ إلى آخر الآية، وجملة يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ مُقَدَّرَةٌ بِالْقَوْلِ، أَيْ: قُلْنَا يَا جِبَالُ. وَالتَّأْوِيبُ: التَّسْبِيحُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ «5» قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: هُوَ التَّسْبِيحُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَكَانَ إِذَا سَبَّحَ دَاوُدُ سَبَّحَتْ مَعَهُ، وَمَعْنَى تَسْبِيحِ الْجِبَالِ: أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهَا قَادِرَةً عَلَى ذَلِكَ، أَوْ يَخْلُقُ فِيهَا التَّسْبِيحَ مُعْجِزَةً لِدَاوُدَ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَوِّبِي: سِيرِي مَعَهُ، مِنَ التَّأْوِيبِ الَّذِي هُوَ سَيْرُ النَّهَارِ أَجْمَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابن مقبل:

_ (1) . ص: 24. (2) . ص: 34. (3) . ص: 17. (4) . ص: 26. [.....] (5) . ص: 18.

لحقنا بحيّ أوّبوا السير بعد ما ... دَفَعْنَا شُعَاعَ الشَّمْسِ وَالطَّرَفُ مُجْنَحُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوِّبِي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، مِنَ التَّأْوِيبِ: وَهُوَ التَّرْجِيعُ، أَوِ التَّسْبِيحُ، أَوِ السَّيْرُ، أَوِ النَّوْحُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَوِّبِي بِضَمِّ الهمزة أمرا من آب يؤوب إِذَا رَجَعَ، أَيِ: ارْجِعِي مَعَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالطَّيْرَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى فَضْلًا عَلَى مَعْنَى: وَسَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ، لِأَنَّ إِيتَاءَهُ إِيَّاهَا تَسْخِيرُهَا لَهُ، أَوْ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ يَا جِبالُ لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ تَقْدِيرًا، إِذِ الْمَعْنَى: نَادَيْنَا الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: انْتِصَابُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ عَلَى مَعْنَى وَسَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ، وَالنَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَعَهُ كَمَا تَقُولُ: اسْتَوَى الْمَاءُ وَالْخَشَبَةَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى فَضْلًا لَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: آتَيْنَاهُ فَضْلًا وَتَسْبِيحَ الطَّيْرِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَالْأَعْرَجُ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو نَوْفَلٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ، وابن هرمز، ومسلمة ابن عَبْدِ الْمَلِكِ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ الْجِبَالِ، أَوْ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي: أَوِّبِي لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ مَعْطُوفٌ عَلَى آتَيْنَاهُ: أَيْ: جَعَلْنَاهُ لَيِّنًا لِيَعْمَلَ بِهِ مَا شَاءَ. قَالَ الْحَسَنُ: صَارَ الْحَدِيدُ كَالشَّمْعِ يَعْمَلُهُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْحَدِيدُ فِي يَدِهِ كَالطِّينِ الْمَبْلُولِ وَالْعَجِينِ وَالشَّمْعِ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ وَلَا ضَرْبٍ بِمِطْرَقَةٍ، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ، وَكَانَ يَفْرَغُ مِنْ عَمَلِ الدِّرْعِ فِي بَعْضِ يَوْمٍ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ فِي: أَنْ هَذِهِ وَجْهَانِ: أحدهما أنها مصدرية على حذف الْجَرِّ، أَيْ: بِأَنِ اعْمَلْ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْمُفَسِّرَةُ لِقَوْلِهِ: وَأَلَنَّا وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْقَوْلِ أَوْ مَا هُوَ فِي معناه. وقدّر بعضهم فعلا في مَعْنَى الْقَوْلِ، فَقَالَ: التَّقْدِيرُ وَأَمَرْنَاهُ أَنِ اعْمَلْ. وَقَوْلُهُ: سابِغاتٍ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ دُرُوعًا سَابِغَاتٍ، وَالسَّابِغَاتُ: الْكَوَامِلُ الْوَاسِعَاتُ، يُقَالُ سَبَغَ الدِّرْعُ وَالثَّوْبُ وَغَيْرُهُمَا: إِذَا غَطَّى كُلَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَفَضَلَ مِنْهُ فَضْلَةٌ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ السَّرْدُ نَسْجُ الدُّرُوعِ، وَيُقَالُ السَّرْدُ وَالزَّرْدُ كَمَا يقال السراد والمراد لِصَانِعِ الدُّرُوعِ، وَالسَّرْدُ أَيْضًا الْخَرْزُ، يُقَالُ سَرَدَ يَسْرُدُ: إِذَا خَرَزَ، وَمِنْهُ سَرَدَ الْكَلَامَ: إِذَا جاء به متواليا، ومنه حَدِيثِ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمِنْهُ سرندى: أي جريء، وَمَعْنَى سَرْدِ الدُّرُوعِ إِحْكَامُهَا، وَأَنْ يَكُونَ نِظَامُ حِلَقِهَا وِلَاءً غَيْرَ مُخْتَلِفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: سَرَدَ الدُّرُوعَ مُضَاعِفًا أَسْرَادَهُ ... لِيَنَالَ طُولَ الْعَيْشِ غَيْرَ مَرُومِ وَقَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الدُّرُوعُ قَبْلَ دَاوُدَ ثِقَالًا، فَلِذَلِكَ أُمِرَ هُوَ بِالتَّقْدِيرِ فِيمَا يَجْمَعُ الْخِفَّةَ وَالْحَصَانَةَ، أَيْ: قَدِّرْ مَا تَأْخُذُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِقِسْطِهِ فَلَا تَقْصِدِ الْحَصَانَةَ فَيَثْقُلَ وَلَا الْخِفَّةَ فَيُزِيلَ الْمَنَعَةَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: التَّقْدِيرُ الذي أمر به فِي قَدْرِ الْحَلْقَةِ، أَيْ: لَا تَعْمَلْهَا صَغِيرَةً فَتَضْعُفَ وَلَا يَقْوَى الدِّرْعُ عَلَى الدِّفَاعِ، وَلَا تَعْمَلْهَا كَبِيرَةً فَتَثْقُلَ عَلَى لَابِسِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ هُوَ فِي الْمِسْمَارِ: أَيْ لَا تَجْعَلْ مسمار الدرع رقيقا فَيَقْلِقَ وَلَا غَلِيظًا

فَيَفْصِمَ الْحِلَقَ. ثُمَّ خَاطَبَ دَاوُدَ وَأَهْلَهُ فَقَالَ: وَاعْمَلُوا صالِحاً أَيْ: عَمَلًا صَالِحًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ثُمَّ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ: لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ الرِّيحَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، أَيْ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ ثَابِتَةٌ أَوْ مُسَخَّرَةٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرِّيحَ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ «الرِّيَاحَ» بِالْجَمْعِ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أَيْ تَسِيرُ بِالْغَدَاةِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَتَسِيرُ بِالْعَشِيِّ كَذَلِكَ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَسْخِيرِ الرِّيحِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا كَانَتْ تَسِيرُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ يَغْدُو مِنْ دِمَشْقَ فَيَقِيلُ بِإِصْطَخْرَ، وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْمُسْرِعِ، ثُمَّ يَرُوحُ مِنْ إِصْطَخْرَ فَيَبِيتُ بِكَابُلَ، وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ الْقِطْرُ: النُّحَاسُ الذَّائِبُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أُجْرِيَتْ لَهُ عَيْنُ الصُّفْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ كَجَرْيِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ بِمَا أُعْطِيَ سُلَيْمَانُ، وَالْمَعْنَى: أَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ النُّحَاسِ كَمَا أَلَنَّا الْحَدِيدَ لِدَاوُدَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَسَالَ اللَّهُ لَهُ عَيْنًا يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا يُرِيدُ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ من: مبتدأ، ويعمل: خبره، ومن الْجِنِّ: مُتَعَلِّقٌ بِهِ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، أَوْ: مَنْ يَعْمَلُ مَعْطُوفٌ عَلَى الرِّيحِ، ومن الْجِنِّ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: وَسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ مِنَ الْجِنِّ بِإِذْنِ رَبِّهِ، أَيْ: بِأَمْرِهِ. وَالْإِذْنُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُسَخَّرًا أَوْ مُيَسَّرًا بِأَمْرِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا أَيْ: وَمَنْ يَعْدِلْ مِنَ الْجِنِّ عَنْ أَمْرِنَا الَّذِي أَمَرْنَاهُ بِهِ: وَهُوَ طَاعَةُ سُلَيْمَانَ نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا. قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَّلَ اللَّهُ بالجنّ ملكا بيده سوط من نار، فَمَنْ زَاغَ عَنْ أَمْرِ سُلَيْمَانَ ضَرَبَهُ بِذَلِكَ السَّوْطِ ضَرْبَةً فَتَحْرُقَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَعْمَلُهُ الْجِنُّ لِسُلَيْمَانَ فَقَالَ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ مَحارِيبَ لِلْبَيَانِ، وَالْمَحَارِيبُ فِي اللُّغَةِ: كُلُّ مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ، وَهِيَ الْأَبْنِيَةُ الرَّفِيعَةُ، وَالْقُصُورُ الْعَالِيَةُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يَكُونُ الْمِحْرَابُ إِلَّا أَنْ يُرْتَقَى إِلَيْهِ بِدَرَجٍ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلَّذِي يُصَلَّى فِيهِ: مِحْرَابٌ لِأَنَّهُ يُرْفَعُ وَيُعَظَّمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَحَارِيبُ دُونَ الْقُصُورِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمِحْرَابُ: أَشْرَفُ بُيُوتِ الدَّارِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَاذَا عَلَيْهِ إِنْ ذَكَرْتُ أَوَانِسًا ... كَغِزْلَانِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أَقْيَالِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُرَادُ بِالْمَحَارِيبِ: هُنَا الْمَسَاجِدُ، وَالتَّمَاثِيلُ: جَمْعُ تِمْثَالٍ: وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ مَثَّلْتَهُ بِشَيْءٍ، أَيْ: صَوَّرْتَهُ بِصُورَتِهِ مِنْ نُحَاسٍ، أَوْ زُجَاجٍ، أَوْ رُخَامٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ التَّمَاثِيلُ صُوَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالصُّلَحَاءِ، وَكَانُوا يُصَوِّرُونَهَا فِي الْمَسَاجِدِ لِيَرَاهَا النَّاسُ، فَيَزْدَادُوا عِبَادَةً وَاجْتِهَادًا. وَقِيلَ: هِيَ تَمَاثِيلُ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ التَّصْوِيرَ كَانَ مُبَاحًا فِي شَرْعِ سُلَيْمَانَ، وَنُسِخَ ذَلِكَ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا محمّد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَالْجِفَانُ جُمَعُ جَفْنَةٍ: وَهِيَ الْقَصْعَةُ الْكَبِيرَةُ. وَالْجَوَابِ جَمْعُ جَابِيَةٍ: وَهِيَ حَفِيرَةٌ كَالْحَوْضِ، وَقِيلَ: هِيَ الْحَوْضُ الْكَبِيرُ يَجْبِي الْمَاءَ: أَيْ يَجْمَعُهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي

قِصَاعًا فِي الْعِظَمِ كَحِيَاضِ الْإِبِلِ، يَجْتَمِعُ عَلَى الْقَصْعَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفُ رَجُلٍ يَأْكُلُونَ مِنْهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: الْأَوْلَى إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِي الْجَوَابِي، وَمَنْ حَذَفَ الْيَاءَ قَالَ سَبِيلُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّكِرَةِ فَلَا تُغَيُّرُهَا عَنْ حَالِهَا، فَلَمَّا كَانَ يُقَالُ جَوَابٍ وَدَخَلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أُقِرَّ عَلَى حَالِهِ فَحَذَفَ الْيَاءَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ جَبَوْتُ الْمَاءَ وَجَبَيْتُهُ فِي الْحَوْضِ: أَيْ جَمَعْتُهُ، وَالْجَابِيَةُ الْحَوْضُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الْمَاءُ لِلْإِبِلِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَالْجَابِيَةُ، الْقِدْرُ الْعَظِيمَةُ، وَالْحَوْضُ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الشَّيْءُ، أَيْ: يُجْمَعُ، وَمِنْهُ جَبَيْتُ الْخَرَاجَ، وَجَبَيْتُ الْجَرَادَ: جَمَعْتُهُ فِي الْكِسَاءِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ قُدُورُ النُّحَاسِ تَكُونُ بِفَارِسَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ قُدُورٌ تُنْحَتُ مِنَ الْجِبَالِ الصُّمِّ عَمِلَتْهَا لَهُ الشَّيَاطِينُ، وَمَعْنَى رَاسِيَاتٍ: ثَابِتَاتٌ لَا تُحْمَلُ وَلَا تُحَرَّكُ لِعِظَمِهَا. ثُمَّ أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ: سُلَيْمَانَ وَأَهْلَهُ، فَقَالَ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمُ اعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ يَا آلَ دَاوُدَ! شُكْرًا لَهُ على ما آتاكم، واعملوا عَمَلًا شُكْرًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أو اعملوا لِلشُّكْرِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ حَالٌ، أَيْ: شَاكِرِينَ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ، وَسُمِّيَتِ الطَّاعَةُ شُكْرًا لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِهِ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مِنْ جِنْسِهِ، أَيِ: اشْكُرُوا شُكْرًا. ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ أَمْرِهِمْ بِالشُّكْرِ أَنَّ الشَّاكِرِينَ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ لَيْسُوا بِالْكَثِيرِ فَقَالَ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ أَيِ: الْعَامِلُ بِطَاعَتِي الشَّاكِرُ لِنِعْمَتِي قَلِيلٌ. وَارْتِفَاعُ قَلِيلٌ عَلَى أنه خبر مقدّم. ومن عِبَادِيَ: صِفَةٌ لَهُ. وَالشَّكُورُ: مُبْتَدَأٌ فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ أَيْ: حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِهِ وَأَلْزَمْنَاهُ إِيَّاهُ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ يَعْنِي الْأَرَضَةَ. وَقُرِئَ «الْأَرَضِ» بِفَتْحِ الرَّاءِ: أَيِ الْأَكْلِ، يُقَالُ أَرِضَتِ الْخَشَبَةُ أَرَضًا: إِذَا أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ. وَمَعْنَى تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ: تَأْكُلُ عَصَاهُ الَّتِي كَانَ مُتَّكِئًا عَلَيْهَا، وَالْمِنْسَأَةُ: الْعَصَا بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، أَوْ هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَسَأْتُ الْغَنَمَ: أَيْ زَجَرْتُهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمِنْسَأَةُ الَّتِي يُنْسَأُ بِهَا: أَيْ يُطْرَدُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْسَأَتَهُ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ. وَقَرَأَ نافع وأبو عمر بِأَلِفٍ مَحْضَةٍ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: بَعْضُ الْعَرَبِ يُبْدِلُ مِنْ هَمْزَتِهَا أَلِفًا وَأَنْشَدَ: إِذَا دَبَبْتَ عَلَى الْمِنْسَأَةِ مِنْ كِبَرٍ ... فَقَدْ تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ وَمِثْلُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ضَرَبْنَا بِمِنْسَأَةٍ وَجْهَهُ ... فَصَارَ بِذَاكَ مَهِينًا ذَلِيلَا وَمِثْلُهُ: أَمِنْ أَجْلِ حَبْلٍ لَا أَبَاكَ ضَرَبْتَهُ ... بِمِنْسَأَةٍ قَدْ جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلَا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ قَوْلُ طَرَفَةَ: أَمُونٍ كَأَلْوَاحِ الْأَرَانِ نَسَأْتُهَا ... عَلَى لَاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ «1»

_ (1) . الأمون: التي يؤمن عثارها. والإران: تابوت الموتى. واللّاحب: الطريق الواضح. والبرجد: كساء مخطط.

فَلَمَّا خَرَّ أَيْ: سَقَطَ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَيْ: ظَهَرَ لَهُمْ، مِنْ تَبَيَّنْتُ الشَّيْءَ إِذَا عَلِمْتَهُ: أَيْ: عَلِمَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أَيْ: لَوْ صَحَّ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ لَعَلِمُوا بِمَوْتِهِ، وَلَمْ يَلْبَثُوا بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ، وَالطَّاعَةِ لَهُ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ مَيِّتٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْعَذَابُ الْمُهِينُ: الشَّقَاءُ وَالنَّصَبُ فِي الْعَمَلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتِ النَّاسَ فِي زَمَانِ سُلَيْمَانَ يَقُولُونَ إِنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَلَمَّا مَكَثَ سُلَيْمَانُ قَائِمًا عَلَى عَصَاهُ حَوْلًا مَيِّتًا، وَالْجِنُّ تَعْمَلُ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ فِي حَيَاةِ سُلَيْمَانَ لَا يَشْعُرُونَ بِمَوْتِهِ حَتَّى أَكَلَتِ الْأَرَضَةُ عَصَاهُ فَخَرَّ مَيِّتًا فَعَلِمُوا بِمَوْتِهِ، وَعَلِمَ النَّاسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا تَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ مِنْ تَبَيَّنَ الشَّيْءُ، لَا مِنْ تَبَيَّنْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: ظَهَرَ وَتَجَلَّى، وَأَنْ وما في حيزها بد اشْتِمَالٍ مِنَ الْجِنِّ مَعَ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ظَهَرَ أَمْرُ الْجِنِّ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ، أَوْ ظَهَرَ أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إِلَخْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَبَيَّنَتِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ مُسْنَدًا إِلَى الْجِنِّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَعْقُوبُ تَبَيَّنَتِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ يُعْرَفُ مِمَّا قَدَّمْنَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوِّبِي مَعَهُ قَالَ: سَبِّحِي مَعَهُ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ زَيْدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ قَالَ: كَالْعَجِينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ قال: خلق الْحَدِيدِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ أَيْضًا وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ قَالَ: لَا تَدُقَّ الْمَسَامِيرَ وَتُوَسِّعَ الْحِلَقَ فَتَسْلَسَ، وَلَا تُغَلِّظَ الْمَسَامِيرَ وَتُضَيِّقِ الْحِلَقَ فَتُقْصَمَ، وَاجْعَلْهُ قَدْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ قَالَ النُّحَاسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْقِطْرُ: النُّحَاسُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ بَعْدَ سُلَيْمَانَ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ النَّاسُ بَعْدَهُ فِيمَا كَانَ أُعْطِيَ سُلَيْمَانُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْقِطْرُ: الصُّفْرُ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَماثِيلَ قَالَ: اتَّخَذَ سُلَيْمَانُ تَمَاثِيلَ مِنْ نُحَاسٍ فَقَالَ: يَا رَبِّ انْفُخْ فِيهَا الرُّوحَ، فَإِنَّهَا أَقْوَى عَلَى الْخِدْمَةِ، فَنَفَخَ اللَّهُ فِيهَا الرُّوحَ، فَكَانَتْ تَخْدِمُهُ، وَكَانَ اسْفِنْدِيَارُ مِنْ بَقَايَاهُمْ، فَقِيلَ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ كَالْجَوابِ قَالَ: كَالْجَوْبَةِ مِنَ الْأَرْضِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ قال: أثافيها منها. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ يَقُولُ: قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الْمُوَحِّدِينَ تَوْحِيدَهُمْ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَبِثَ سُلَيْمَانُ عَلَى عَصَاهُ حَوْلًا بَعْدَ مَا مَاتَ ثُمَّ خَرَّ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ، فَأَخَذَتِ الْجِنُّ عصى مِثْلَ عَصَاهُ، وَدَابَّةً مِثْلَ دَابَّتِهِ، فَأَرْسَلُوهَا عَلَيْهَا، فَأَكَلَتْهَا فِي سَنَةٍ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ الْآيَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «وَهُمْ يَدْأَبُونَ لَهُ حَوْلًا» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ السُّنِّيِّ،

[سورة سبإ (34) : الآيات 15 إلى 21]

وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا صَلَّى رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ لَهَا مَا اسمك؟ فتقول كذا وكذا، فيقول لم أَنْتِ؟ فَتَقُولُ لِكَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غُرِسَتْ، وَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ» وَصَلَّى ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا شَجَرَةٌ نَابِتَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتِ الْخَرُّوبَ. قَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ هَذَا الْبَيْتِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَنِ الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى يَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، فَهَيَّأَ عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا، وَقَبَضَهُ اللَّهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيْهَا، فَمَكَثَ حَوْلًا مَيِّتًا وَالْجِنُّ تَعْمَلُ، فَأَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ فَسَقَطَتْ، فَعَلِمُوا عِنْدَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ، فَتَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنْ الْجِنَّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، فَشَكَرَتِ الْجِنُّ لِلْأَرَضَةِ، فأينما كانت يأتونها بِالْمَاءِ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مَرْفُوعًا يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنِّي تَفَضَّلْتُ عَلَى عِبَادِي بِثَلَاثٍ: أَلْقَيْتُ الدَّابَّةَ عَلَى الْحَبَّةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَنَزَهَا الْمُلُوكُ كَمَا يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَأَلْقَيْتُ النَّتْنَ عَلَى الْجَسَدِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَدْفِنْ حَبِيبٌ حَبِيبَهُ، وَاسْتَلَبْتُ الْحُزْنَ وَلَوْلَا ذلك لذهب النّسل» . [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ بَعْضِ الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ عَقَّبَهُ بحال الْجَاحِدِينَ لَهَا، فَقَالَ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ الْمُرَادُ بِسَبَإٍ الْقَبِيلَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَوْلَادِ سَبَإٍ، وَهُوَ سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ بْنِ هُودٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ لِسَبَإٍ بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ حَيٍّ، أَيِ: الْحَيُّ الذي هُمْ أَوْلَادُ سَبَأٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لِسَبَإٍ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ بِتَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَيُقَوِّي الْقِرَاءَةَ الْأُولَى قوله: فِي مَسْكَنِهِمْ وَلَوْ كَانَ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ لَقَالَ فِي مساكنها، فمما وَرَدَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ ... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهَا جِلْدُ الْجَوَامِيسِ وَمِمَّا وَرَدَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مِنْ سَبَأَ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبُ إِذْ ... يبنون من دون سيلها الْعَرِمَا وَقَرَأَ قُنْبُلٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ لِسَبَإٍ بِإِسْكَانِ الْهَمْزَةِ، وَقُرِئَ بِقَلْبِهَا أَلِفًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ

فِي مَسْكَنِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَوَجْهُ الِاخْتِيَارِ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَمَسَاكِنُ مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ بِالْإِفْرَادِ مَعَ فَتْحِ الْكَافِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالْإِفْرَادِ مَعَ كَسْرِهَا، وَبِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ، وَوَجْهُ الْإِفْرَادِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ يَشْمَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، أَوِ اسْمُ مَكَانٍ وَأُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهَذِهِ الْمَسَاكِنُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْآنَ مَأْرِبٌ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: آيَةٌ أَيْ: عَلَامَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: جَنَّتانِ وَارْتِفَاعُهُمَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ آيَةٌ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، أَوْ: عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ وَاخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَفِيهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «جَنَّتَيْنِ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرٌ ثَانٍ وَاسْمُهَا آيَةٌ، وَهَاتَانِ الْجَنَّتَانِ: كَانَتَا عَنْ يَمِينِ وَادِيهِمْ وَشِمَالِهِ قَدْ أَحَاطَتَا بِهِ مِنْ جِهَتَيْهِ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ فِي الْوَادِي، وَالْآيَةُ هِيَ الْجَنَّتَانِ، كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمْشِي فِيهِمَا وَعَلَى رَأْسِهَا الْمِكْتَلُ، فَيَمْتَلِئُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ الَّتِي تَتَسَاقَطُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهَا بِيَدِهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ سبأ في مساكنهم أنه لَمْ يَرَوْا فِيهَا بَعُوضَةً وَلَا ذُبَابًا وَلَا بُرْغُوثًا وَلَا قَمْلَةً وَلَا عَقْرَبًا وَلَا حَيَّةً وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْهَوَامِّ، وَإِذَا جَاءَهُمُ الرَّكْبُ فِي ثِيَابِهِمُ الْقَمْلُ مَاتَتْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ لِبُيُوتِهِمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَلَمْ يُرِدْ جَنَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، بَلْ أَرَادَ مِنِ الْجِهَتَيْنِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فِي كُلِّ جِهَةِ بَسَاتِينُ كَثِيرَةٌ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ أَيْ: قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَمْرٌ، وَلَكِنِ الْمُرَادُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ، وَقِيلَ إِنَّهَا قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ: هُوَ ثِمَارُ الْجَنَّتَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ خُوطِبُوا بِذَلِكَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى مَا رَزَقَكُمْ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنِبُوا مَعَاصِيَهُ، وَجُمْلَةُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مُوجِبِ الشُّكْرِ. وَالْمَعْنَى: هَذِهِ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ لِكَثْرَةِ أَشْجَارِهَا وَطِيبِ ثِمَارِهَا. وَقِيلَ مَعْنَى كَوْنِهَا طَيِّبَةً: أَنَّهَا غَيْرُ سَبِخَةٍ، وَقِيلَ لَيْسَ فِيهَا هَوَامُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ صَنْعَاءُ. وَمَعْنَى وَرَبٌّ غَفُورٌ أَنَّ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِمْ رَبٌّ غَفُورٌ لِذُنُوبِهِمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى وَرَبُّكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ فيما رَزَقَكُمْ رَبٌّ غَفُورٌ لِلذُّنُوبِ. وَقِيلَ إِنَّمَا جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ طِيبِ الْبَلْدَةِ وَالْمَغْفِرَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ حَرَامٌ. وَقَرَأَ ورش بنصب بلدة وربّ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ اسْكُنُوا بَلْدَةً وَاشْكُرُوا رَبًّا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَأَعْرَضُوا عَنِ الشُّكْرِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وَكَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ قَالَ السُّدِّيُّ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ سَبَأٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا فَكَذَّبُوهُمْ، وَكَذَا قَالَ وَهْبٌ. ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ مِنْهُمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نِقْمَةً سَلَبَ بِهَا مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ يَأْتِي أَرْضَ سَبَأٍ مِنْ أَوْدِيَةِ الْيَمَنِ، فَرَدَمُوا رَدْمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَحَبَسُوا الْمَاءَ، وَجَعَلُوا فِي ذَلِكَ الرَّدْمِ ثَلَاثَةَ أَبْوَابٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَكَانُوا يَسْقُونَ مِنَ الْبَابِ الْأَعْلَى ثُمَّ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي، ثُمَّ مِنَ الثَّالِثِ فَأَخْصَبُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَلَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ بَعَثَ اللَّهُ جُرَذًا، فَفَتَقَتْ ذَلِكَ الرَّدْمَ حَتَّى انْتَقَضَ فَدَخَلَ الْمَاءُ جَنَّتَهُمْ فَغَرَّقَهَا وَدَفَنَ السَّيْلُ بُيُوتَهُمْ، فَهَذَا هو سيل العرم، وهو جمع عرمة: وهي السَّكْرُ «1» الَّتِي تَحْبِسُ الْمَاءَ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وغيره. وقال السدّي:

_ (1) . السكر بالسكون: ما سد به النهر.

الْعَرِمُ اسْمٌ لِلسَّدِّ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ السَّدِّ الْعَرِمِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْعَرِمُ اسْمُ الْوَادِي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَرِمُ اسْمُ الْجُرَذِ الَّذِي نَقَبَ السَّدَّ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْخُلْدُ: فَنُسِبَ السَّيْلُ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ سَبَبَ جَرَيَانِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرِمُ مِنْ أَسْمَاءِ الْفَأْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: الْعَرِمُ مَاءٌ أَحْمَرُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ فِي السَّدِّ فَشَقَّهُ وَهَدَمَهُ. وَقِيلَ إِنَّ الْعَرِمَ اسْمُ الْمَطَرِ الشَّدِيدِ، وَقِيلَ اسْمٌ لِلسَّيْلِ الشَّدِيدِ، وَالْعِرَامَةُ فِي الْأَصْلِ: الشِّدَّةُ وَالشَّرَاسَةُ وَالصُّعُوبَةُ: يُقَالُ عَرَمَ فُلَانٌ: إِذَا تَشَدَّدَ وَتَصَعَّبَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْعَرِمُ السَّيْلُ الَّذِي لَا يُطَاقُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْعَرِمُ كُلُّ شَيْءٍ حَاجِزٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ أَيْ: أَهْلَكْنَا جَنَّتَيْهِمُ اللَّتَيْنِ كَانَتَا مُشْتَمِلَتَيْنِ عَلَى تِلْكَ الْفَوَاكِهِ الطَّيِّبَةِ، وَالْأَنْوَاعِ الْحَسَنَةِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ بَدَلَهُمَا جَنَّتَيْنِ لَا خَيْرَ فِيهِمَا، وَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيمَا هُوَ نَابِتٌ فِيهِمَا وَلِهَذَا قَالَ: ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ أُكُلٍ وَعَدَمِ إِضَافَتِهِ إِلَى خَمْطٍ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْإِضَافَةِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْخَمْطُ الْأَرَاكُ، وَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْخَمْطُ كُلُّ شَجَرَةٍ مُرَّةٍ ذَاتِ شَوْكٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ نَبْتٍ فِيهِ مَرَارَةٌ لَا يُمْكِنُ أَكْلُهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: كُلُّ شَيْءٍ تَغَيَّرَ إِلَى مَا لَا يُشْتَهَى، يُقَالُ لَهُ: خَمْطٌ، وَمِنْهُ: اللَّبَنُ إِذَا تَغَيَّرَ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ أبي عمرو. والخمط: نعت لأكل أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، لِأَنَّ الْأُكُلَ هُوَ الْخَمْطُ بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْإِضَافَةُ أَحْسَنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مِثْلُ ثَوْبُ خَزٍّ وَدَارُ آجُرٍّ، وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْخَمْطِ بِمَا ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ وَمَنْ مَعَهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْخَمْطُ ضَرْبٌ مِنَ الْأَرَاكِ لَهُ حَمْلٌ يُؤْكَلُ، وَتَسْمِيَةُ الْبَدَلِ جَنَّتَيْنِ لِلْمُشَاكَلَةِ أَوِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَالْأَثْلُ هُوَ الشَّجَرُ الْمَعْرُوفُ الشَّبِيهُ بِالطَّرْفَاءِ كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ قَالَ: إِلَّا أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنَ الطَّرْفَاءِ طُولًا، الْوَاحِدَةُ أَثَلَةٌ، والجمع أثلاث. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَثْلُ: الْخَشَبُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ شَجَرُ النُّطَارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَا ثَمَرَ لِلْأَثْلِ. وَالسِّدْرُ: شَجَرٌ مَعْرُوفٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ السَّمُرُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: السِّدْرُ مِنَ الشَّجَرِ سِدْرَانِ: بَرِّيٌّ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِلْغَسُولِ، وَلَهُ ثَمَرٌ عَفِصٌ لَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الضَّالَ. وَالثَّانِي سِدْرٌ يَنْبُتُ عَلَى الْمَاءِ وَثَمَرُهُ النَّبْقُ، وَوَرَقُهُ غَسُولٌ يُشْبِهُ شَجَرَ الْعُنَّابِ. قِيلَ وَوَصَفَ السِّدْرَ بِالْقِلَّةِ لِأَنَّ مِنْهُ نَوْعًا يطيب أكله، وهو النوع الثاني ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ. قَالَ قَتَادَةُ: بَيْنَمَا شَجَرُهُمْ مِنْ خَيْرِ شَجَرٍ إِذْ صَيَّرَهُ اللَّهُ مِنْ شَرِّ الشَّجَرِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَهْلَكَ أَشْجَارَهُمُ الْمُثْمِرَةَ وَأَنْبَتَ بَدَلَهَا الْأَرَاكَ وَالطَّرْفَاءَ وَالسِّدْرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ قَوْلُهُ: قَلِيلٍ إِلَى جَمِيعِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْخَمْطِ وَالْأَثْلِ وَالسِّدْرِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّبْدِيلِ، أَوْ إِلَى مَصْدَرِ جَزَيْناهُمْ وَالْبَاءُ فِي بِما كَفَرُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: ذَلِكَ التَّبْدِيلُ، أَوْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ لِلنِّعْمَةِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ شُكْرِهَا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أَيْ: وَهَلْ نُجَازِي هَذَا الْجَزَاءَ بِسَلْبِ النِّعْمَةِ وَنُزُولِ النِّقْمَةِ إِلَّا الشَّدِيدَ الْكُفْرِ الْمُتَبَالِغَ فِيهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُجَازَى» بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الزَّايِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالْكَفُورُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مَرْفُوعٌ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ مَنْصُوبٌ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قَالَا: لِأَنَّ قَبْلَهُ جَزَيْناهُمْ وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُجَازِي إِلَّا الْكُفُورَ مَعَ كَوْنِ أَهْلِ الْمَعَاصِي يُجَازَوْنَ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُجَازِي هَذَا الْجَزَاءَ، وَهُوَ الِاصْطِلَامُ «1» وَالْإِهْلَاكُ إلا من كفر. وقال مجاهد: إن المؤمن يكفر عنه

_ (1) . قال في القاموس: اصطلمه: استأصله.

سَيِّئَاتِهِ، وَالْكَافِرَ يُجَازَى بِكُلِّ عَمَلٍ عَمِلَهُ وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْحِسَابِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا يُنَاقَشُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْمَعْنَى إِنَّهُ يُجَازِي الْكَافِرَ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَرَجَّحَ هَذَا الْجَوَابَ النَّحَّاسُ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ أَيْ: وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمْ: أَنَّا جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا بِالْمَاءِ وَالشَّجَرِ، وَهِيَ قُرَى الشَّامِ قُرىً ظاهِرَةً أَيْ: مُتَوَاصِلَةً، وَكَانَ مَتْجَرُهُمْ مِنْ أَرْضِهِمُ الَّتِي هِيَ مَأْرِبٌ إِلَى الشَّامِ، وَكَانُوا يَبِيتُونَ بِقَرْيَةٍ، وَيَقِيلُونَ بِأُخْرَى حَتَّى يَرْجِعُوا، وَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زَادٍ يَحْمِلُونَهُ مِنْ أَرْضِهِمْ إِلَى الشَّامِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَايَةِ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ هَذِهِ الْقُرَى هِيَ بَيْنَ الْيَمَنِ وَالشَّامِ، قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَسَبْعَمِائَةِ قَرْيَةٍ، وَقِيلَ هِيَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْقُرَى الظَّاهِرَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا ظَاهِرَةٌ لِظُهُورِهَا، إِذَا خَرَجْتَ مِنْ هَذِهِ ظَهَرَتْ لَكَ الْأُخْرَى فَكَانَتْ قُرًى ظَاهِرَةً: أَيْ مَعْرُوفَةً، يُقَالُ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ: أَيْ مَعْرُوفٌ وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أَيْ: جَعَلْنَا السَّيْرَ مِنَ الْقَرْيَةِ إِلَى الْقَرْيَةِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ نِصْفُ يَوْمٍ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ جَعَلْنَا بَيْنَ كُلِّ قَرْيَتَيْنِ نصف يوم حتى يكون فِي قَرْيَةٍ، وَالْمَبِيتُ فِي أُخْرَى إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى الشَّامِ، وَإِنَّمَا يُبَالِغُ الْإِنْسَانُ فِي السير لعدم الزاد والماء والخوف في الطَّرِيقِ، فَإِذَا وُجِدَ الزَّادُ وَالْأَمْنُ لَمْ يُحَمِّلْ نَفْسَهُ الْمَشَقَّةَ، بَلْ يَنْزِلُ أَيْنَمَا أَرَادَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَدَّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ النِّقَمِ، ثُمَّ عَادَ لِتَعْدِيدِ بَقِيَّةِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ بَلَدِهِمْ مِنِ اتِّصَالِ الْقُرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُونَ السَّفَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ تَبْدِيلَهُ بِالْمَفَاوِزِ وَالْبَرَارِي كَمَا سَيَأْتِي وَقَوْلُهُ: سِيرُوا فِيها هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ سِيرُوا فِي تِلْكَ الْقُرَى الْمُتَّصِلَةِ، فَهُوَ أَمْرُ تَمْكِينٍ، أَيْ: ومكناهم من السير فيها متى شاؤوا لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ مِمَّا يَخَافُونَهُ، وَانْتِصَابُ لَيَالِيَ وأياما عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَانْتِصَابُ آمِنِينَ عَلَى الْحَالِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَسِيرُونَ غَيْرَ خَائِفِينَ وَلَا جِيَاعٍ ولا ظمأى، كَانُوا يَسِيرُونَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي أَمَانٍ لَا يُحَرِّكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يُحَرِّكْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ، بَلْ طَلَبُوا التَّعَبَ وَالْكَدَّ فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ بَطَرًا وَطُغْيَانًا لَمَّا سَئِمُوا النِّعْمَةَ وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى الْعَافِيَةِ، فَتَمَنَّوْا طُولَ الْأَسْفَارِ وَالتَّبَاعُدَ بَيْنَ الدِّيَارِ، وَسَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ مَكَانَ تِلْكَ الْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةِ الْكَثِيرَةِ الْمَاءِ وَالشَّجَرِ وَالْأَمْنِ، الْمَفَاوِزَ وَالْقِفَارَ وَالْبَرَارِي الْمُتَبَاعِدَةَ الْأَقْطَارِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ وَخَرَّبَ تِلْكَ الْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةَ، وَذَهَبَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالْمَاءِ وَالشَّجَرِ، فَكَانَتْ دَعْوَتُهُمْ هَذِهِ كَدَعْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَيْثُ قَالُوا فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها «1» الْآيَةَ مَكَانَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَكَقَوْلِ النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «2» الْآيَةَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ رَبَّنا بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مُنَادَى مُضَافٌ، وَقَرَءُوا أَيْضًا باعِدْ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ (بَعِّدْ) بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ السميقع: بِضَمِّ الْعَيْنِ فِعْلًا مَاضِيًا، فَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّكْوَى مِنْ بُعْدِ الْأَسْفَارِ، وَقَرَأَ أَبُو صالح ومحمّد بن الْحَنَفِيَّةِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ «رَبُّنَا» بِالرَّفْعِ «بَاعَدَ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. وَالْمَعْنَى: لَقَدْ بَاعَدَ رَبُّنَا بَيْنَ أَسْفَارِنَا، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عن

_ (1) . البقرة: 61. (2) . الأنفال: 32.

ابن عباس، واختار أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ لِأَنَّهُمْ مَا طَلَبُوا التَّبْعِيدَ إِنَّمَا طَلَبُوا أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ الْقُرْبِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ بِالْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةِ، بَطَرًا وَأَشَرًا وَكُفْرًا لِلنِّعْمَةِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «رَبُّنَا» بِالرَّفْعِ «بَعَّدَ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُشَدَّدَةً، فَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّكْوَى بِأَنَّ رَبَّهُمْ بَعَّدَ بَيْنِ أَسْفَارِهِمْ، مَعَ كَوْنِهَا قَرِيبَةً مُتَّصِلَةً بِالْقُرَى وَالشَّجَرِ وَالْمَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ بَطَرِهِمْ، وَقَرَأَ أَخُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ كقراءة ابن السميقع السَّابِقَةِ مَعَ رَفْعِ (بَيْنَ) عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَرَوَى الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ قِرَاءَةً مِثْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَكِنْ مَعَ نَصْبِ بَيْنَ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بَعُدَ سَيْرُنَا بَيْنَ أَسْفَارِنَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ إِذَا اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إِحْدَاهَا أَجْوَدُ مِنَ الْأُخْرَى، كَمَا لَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ إِذَا اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا، وَلَكِنْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ دَعَوْا رَبَّهُمْ أَنْ يُبَعِّدَ بَيْنَ أَسْفَارِهِمْ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ شَكَوْا وَتَضَرَّرُوا، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبَطَرُوا نِعْمَتَهُ وَتَعَرَّضُوا لِنِقْمَتِهِ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِأَخْبَارِهِمْ. وَالْمَعْنَى: جَعَلْنَاهُمْ ذَوِي أَحَادِيثَ يَتَحَدَّثُ بِهَا مَنْ بعدهم تعجبا من فعلهم واعتبارا لحالهم وَعَاقِبَتِهِمْ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أَيْ: فَرَّقْنَاهُمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنَ الْبِلَادِ كُلَّ التَّفْرِيقِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِجَعْلِهِمْ أَحَادِيثَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَغْرَقَ مَكَانَهُمْ وَأَذْهَبَ جَنَّتَهُمْ، تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فَصَارَتِ الْعَرَبُ تَضْرِبُ بِهِمُ الْأَمْثَالَ، فَتَقُولُ: تَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَا. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَلَحِقَتِ الْأَنْصَارُ بِيَثْرِبَ، وَغَسَّانُ بِالشَّامِ، وَالْأَزْدُ بِعُمَانَ، وَخُزَاعَةُ بِتِهَامَةَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَيْ: فِيمَا ذُكِرَ مِنْ قِصَّتِهِمْ وَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ لَآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَدَلَالَاتٍ وَاضِحَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَيْ: لِكُلِّ مَنْ هُوَ كَثِيرُ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَخَصَّ الصَّبَّارَ الشَّكُورَ لِأَنَّهُمَا الْمُنْتَفِعَانِ بِالْمَوَاعِظِ وَالْآيَاتِ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ صَدَقَ بِالتَّخْفِيفِ وَرَفْعِ إِبْلِيسُ وَنَصْبِ ظَنَّهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ عَلَى الْمَصْدَرِ: أَيْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ ظَنًّا ظَنَّهُ، أَوْ صَدَقَ فِي ظَنِّهِ، أَوْ عَلَى الظَّرْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُ إِذَا أَغْوَاهُمُ اتَّبَعُوهُ فَوَجَدَهُمْ كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وعاصم صَدَّقَ بالتشديد، وظنه بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أَيْ صَدَّقَ الظَّنَّ الَّذِي ظَنَّهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: ظَنَّ ظَنًّا فَصَدَّقَ ظَنَّهُ، فَكَانَ كما ظنّ، وقرأ أبو جعفر وأبو الجهجاه وَالزُّهْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «صَدَقَ» بِالتَّخْفِيفِ وَ «إِبْلِيسَ» بِالنَّصْبِ وَ «ظَنُّهُ» بِالرَّفْعِ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ عِنْدِي، وَقَدْ أَجَازَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْفَرَّاءُ وَذَكَرَهَا الزَّجَّاجُ، وَجَعَلَ الظَّنَّ: فَاعِلَ صَدَقَ، وَإِبْلِيسَ: مَفْعُولَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِبْلِيسَ سَوَّلَ لَهُ ظَنُّهُ شَيْئًا فِيهِمْ فَصَدَقَ ظَنُّهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ ظَنُّ إِبْلِيسَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ بِرَفْعِهِمَا مَعَ تَخْفِيفِ صَدَقَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ إِبْلِيسَ، قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِأَهْلِ سَبَأٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ، وَقِيلَ هِيَ عَامَّةٌ، أَيْ: صَدَّقَ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ إِلَّا من أطاع الله. قال مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ إِنْ أَغْوَاهُمْ أَجَابُوهُ، وَإِنْ أَضَلَّهُمْ أَطَاعُوهُ فَصَدَّقَ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ قَالَ الْحَسَنُ: مَا ضَرَبَهُمْ بِسَوْطٍ ولا بعصا، وإنما ظنّ فكان كما ظنّ بِوَسْوَسَتِهِ، وَانْتِصَابُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الاستثناء، وفيه

وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُذْنِبُ وَيَنْقَادُ لِإِبْلِيسَ فِي بَعْضِ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُ إِلَّا فَرِيقٌ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وقيل المراد بفريقا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيَانِيَّةً وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أَيْ: مَا كَانَ لَهُ تُسَلُّطٌ عَلَيْهِمْ: أَيْ لَمْ يَقْهَرْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ منه الدعاء والوسوسة والتزيين، وقيل السلطان: القوّة، وَقِيلَ: الْحُجَّةُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ لِنَعْلَمَ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، أَيْ: مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ تَسَلُّطٌ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِيَتَمَيَّزَ مَنْ يُؤْمِنُ، وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ عِلْمًا أَزَلِيًّا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى إِلَّا لِنَعْلَمَ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ، وَقِيلَ إِلَّا لِتَعْلَمُوا أَنْتُمْ، وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاؤُنَا وَالْمَلَائِكَةُ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ «إِلَّا لِيُعْلَمَ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْعِلْمِ هُنَا عَلَى التَّمْيِيزِ وَالْإِظْهَارِ كَمَا ذَكَرْنَا وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أَيْ: مُحَافِظٌ عَلَيْهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَالشَّكِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أُقَاتِلُ مَنْ أَدْبَرَ مِنْ قَوْمِي بِمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ؟ فَأَذِنَ لِي فِي قِتَالِهِمْ وَأَمَرَنِي، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ أَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرَدَّنِي فَقَالَ: ادْعُ الْقَوْمَ، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى أُحْدِثَ إِلَيْكَ، وَأُنْزِلَ فِي سَبَأٍ مَا أُنْزِلَ، فَقَالَ رَجُلٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا سَبَأٌ: أَرْضٌ أَمِ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّهُ رِجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنَ الْعَرَبِ، فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا: فَلَخْمٌ وَجُذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا، فَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَحِمْيَرُ وَكِنْدَةُ وَمُذْحِجٌ وَأَنْمَارٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَنْمَارٌ فأزد قَالَ: الَّذِي مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ بِأَخْصَرَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَيْلَ الْعَرِمِ قَالَ: الشَّدِيدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: سَيْلَ الْعَرِمِ وَادٍ كَانَ بِالْيَمَنِ كَانَ يَسِيلُ إِلَى مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أُكُلٍ خَمْطٍ قَالَ: الْأَرَاكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ قَالَ: تِلْكَ الْمُنَاقَشَةُ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ يَعْنِي: بَيْنَ مَسَاكِنِهِمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها يَعْنِي الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ قُرىً ظاهِرَةً يَعْنِي عَامِرَةً مُخْصِبَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ يَعْنِي فِيمَا بَيْنَ مَسَاكِنِهِمْ وَبَيْنَ أَرْضِ الشَّامِ سِيرُوا فِيهَا إِذَا ظَعَنُوا من منازلهم إلى أرض الشام من الأرض الْمُقَدَّسَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قَالَ إِبْلِيسُ: إِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَمِنْ طِينٍ وَمِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ خَلْقًا ضَعِيفًا، وَإِنِّي خُلِقْتُ مِنْ نَارٍ، وَالنَّارُ تُحْرِقُ كُلَّ شَيْءٍ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ فَصَدَّقَ ظَنَّهُ عَلَيْهِمْ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ.

[سورة سبإ (34) : الآيات 22 إلى 27]

[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 27] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) قَوْلُهُ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَذَا أَمْرٌ للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ أَوْ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ هَذَا الْقَوْلَ، وَمَفْعُولَا زَعَمْتُمْ مَحْذُوفَانِ، أَيْ: زَعَمْتُمُوهُمْ آلِهَةً لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِمَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ ادْعُوهُمْ لِيَكْشِفُوا عَنْكُمُ الضُّرَّ الَّذِي نزل بكم في سنّي الْجُوعِ. ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ، وَلَا عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ وَلَا دَفْعِ ضَرَرٍ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَذَكَرَ السموات وَالْأَرْضَ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ لِكَوْنِهِمَا ظَرْفًا لِلْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أَيْ: لَيْسَ للآلهة في السموات وَالْأَرْضِ مُشَارَكَةٌ لَا بِالْخَلْقِ وَلَا بِالْمِلْكِ وَلَا بِالتَّصَرُّفِ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أَيْ: وَمَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْآلِهَةِ مِنْ معين يعينه على شيء من أمر السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِمَا وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ أَيْ: شَفَاعَةُ مَنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَائِنَةً لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الشَّفَاعَةَ، لَا لِلْكَافِرِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لا تنفع الشفاعة من الشفاء الْمُتَأَهِّلِينَ لَهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَائِنَةً لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَيْ: لِأَجْلِهِ وَفِي شَأْنِهِ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلشَّفَاعَةِ لَهُمْ، لَا مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَاللَّامُ فِي لِمَنْ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ الشَّفَاعَةِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: كَمَا تَقُولُ شَفَعْتُ لَهُ، وَيَجُوزُ أن تتعلق بتنفع، وَالْأَوْلَى أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَحْذُوفِ كَمَا ذَكَرْنَا. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ أَصْلًا إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ النَّفْيَ بِنَفْعِهَا لَا بِوُقُوعِهَا تَصْرِيحًا بِنَفْيِ مَا هُوَ غَرَضُهُمْ مِنْ وُقُوعِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَذِنَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: أَيْ أَذِنَ لَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّ اسْمَهُ سُبْحَانَهُ مَذْكُورٌ قَبْلَ هَذَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْآذِنُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «1» وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «2» ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ خَوْفِ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ وَالْمَشْفُوعِ لَهُمْ فَقَالَ: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فُزِّعَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ: هُوَ اللَّهُ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ: هُوَ الْجَارُّ والمجرور، وقرأ ابن عامر: فزّع مبنيا لِلْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وكلا القراءتين بتشديد الزاي، وفعّل:

_ (1) . البقرة: 255. (2) . الأنبياء: 28.

معناه السلب، فالتقريع إِزَالَةُ الْفَزَعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ مِثْلَ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الزَّايَ. قَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَى فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ الْفَزَعِ، وَهُوَ الْخَوْفُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُشِفَ عَنْ قُلُوبِهِمُ الْغِطَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودِينَ من دون اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَصْنَامِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَأْذَنُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَنَحْوِهِمْ فِي الشَّفَاعَةِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَهُمْ عَلَى غَايَةِ الْفَزَعِ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ فَإِذَا أَذِنَ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَزِعُوا لِمَا يَقْتَرِنُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ مِنَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ، وَالْخَوْفِ الشَّدِيدِ مِنْ أَنْ يَحْدُثَ شَيْءٌ مِنْ أَقْدَارِ اللَّهِ، فَإِذَا سُرِّيَ عَلَيْهِمْ قالُوا لِلْمَلَائِكَةِ فَوْقَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يُورِدُونَ عَلَيْهِمُ الْوَحْيَ بِالْإِذْنِ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ أَيْ: مَاذَا أَمَرَ بِهِ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ قَالَ: الْقَوْلَ الْحَقَّ وَهُوَ قَبُولُ شَفَاعَتِكُمْ لِلْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا دُونَ غَيْرِهِمْ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي عِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَيَفْعَلَ مَا يُرِيدُ، وَقِيلَ: هَذَا الْفَزَعُ يَكُونُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَأْمُرُ بِهِ الرَّبُّ. وَالْمَعْنَى: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ فَزِعُونَ الْيَوْمَ مُطِيعُونَ لِلَّهِ، دُونَ الْجَمَادَاتِ وَالشَّيَاطِينِ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ هُمُ الْمَشْفُوعُ لَهُمْ، وَالَّذِينَ أَجَابُوهُمْ: هُمُ الشُّفَعَاءُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَى الْآيَةِ: حَتَّى إِذَا كُشِفَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فِي الدُّنْيَا؟ قَالُوا الْحَقَّ، فَأَقَرُّوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِقْرَارُ. وَقَرَأَ ابْنُ عُمَرَ وَقَتَادَةُ: فَرَّغَ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْفَرَاغِ. وَالْمَعْنَى: فَرَّغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، أَيْ: كَشَفَ عَنْهَا الْخَوْفَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (افْرُنْقِعَ) بَعْدَ الْفَاءِ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ ثُمَّ نُونٌ ثُمَّ قَافٌ ثُمَّ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ مِنَ الِافْرِنْقَاعِ: وَهُوَ التَّفَرُّقُ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يُبَكِّتَ الْمُشْرِكِينَ وَيُوَبِّخَهُمْ فَقَالَ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: مَنْ يُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْأَرْزَاقِ الَّتِي تَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَالرِّزْقُ مِنَ السَّمَاءِ: هُوَ الْمَطَرُ وَمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا: مِنَ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ، وَالرِّزْقُ مِنَ الْأَرْضِ: هُوَ النَّبَاتُ، وَالْمَعَادِنُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى جَوَابِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، وَلَمْ تَقْبَلْ عُقُولُهُمْ نِسْبَةَ هَذَا الرِّزْقِ إِلَى آلِهَتِهِمْ، وَرُبَّمَا يَتَوَقَّفُونَ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ مَخَافَةَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ أَيْ: هُوَ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ من السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْصَافِ فِي الْحُجَّةِ بَعْدَ مَا سَبَقَ تَقْرِيرُ مَنْ هُوَ عَلَى الْهُدَى وَمَنْ هُوَ عَلَى الضَّلَالَةِ، فَقَالَ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الذين يوحدون الله الخالق الرّزاق وَيَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَالَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقٍ، وَلَا رِزْقٍ، وَلَا نَفْعٍ، وَلَا ضُرٍّ لَعَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْهُدَى وَالضَّلَالَةِ، وَمَعْلُومٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ مَنْ عَبَدَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيَنْفَعُ وَيَضُرُّ: هُوَ الَّذِي عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ عَبَدَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقٍ وَلَا رِزْقٍ وَلَا نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ: هُوَ الَّذِي عَلَى الضَّلَالَةِ، فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ بَيَانَ فَرِيقِ الْهُدَى، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَفَرِيقِ الضَّلَالَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى وَجْهٍ أَبْلَغَ مِنَ التَّصْرِيحِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مَعْنَى قَوْلِ الْمُتَبَصِّرِ فِي الْحُجَّةِ لِصَاحِبِهِ: أَحَدُنَا كَاذِبٌ، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهُ الصَّادِقُ الْمُصِيبُ، وَصَاحِبَهُ الكاذب المخطئ. قال: وأو عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى بَابِهَا وَلَيْسَتْ لِلشَّكِّ، لَكِنَّهَا عَلَى مَا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي مِثْلِ هَذَا إذا

لَمْ يُرِدِ الْمُخْبِرُ أَنْ يُبَيِّنَ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِنَّا عَلَى هُدًى وَإِيَّاكُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: أَثَعْلَبَةَ الْفَوَارِسِ أو رياحا ... عدلت بهم طهيّة والخشابا «1» أي ثعلبة ورياحا، وَكَذَا قَوْلُ الْآخَرِ: فَلَمَّا اشْتَدَّ بَأْسُ الْحَرْبِ فينا ... تأمّلنا رياحا أَوْ رِزَامَا أَيْ: وَرِزَامًا، وَقَوْلُهُ: أَوْ إِيَّاكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَخَبَرُهَا: هُوَ الْمَذْكُورُ، وَحُذِفَ خَبَرُ الثَّانِي لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، أَيْ: إِنَّا لَعَلَى هُدًى، أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَإِنَّكُمْ لَعَلَى هُدًى، أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ: وَهُوَ كَوْنُ الْمَذْكُورِ خَبَرَ الثَّانِي، وَخَبَرِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «2» ثُمَّ أَرْدَفَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْكَلَامَ الْمُنْصِفَ بِكَلَامٍ أَبْلَغَ مِنْهُ فِي الْإِنْصَافِ، وَأَبْعَدَ مِنَ الْجَدَلِ والمشاغبة فقال: قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أَيْ: إِنَّمَا أَدْعُوكُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَنَفْعٌ، وَلَا يَنَالُنِي مِنْ كُفْرِكُمْ وَتَرْكِكُمْ لِإِجَابَتِي ضَرَرٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «3» وَفِي إِسْنَادِ الْجُرْمِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَنِسْبَةِ مُطْلَقِ الْعَمَلِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، مَعَ كَوْنِ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْبِرِّ الْخَالِصِ وَالطَّاعَةِ الْمَحْضَةِ، وَأَعْمَالِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْبَيِّنَةِ، وَالْإِثْمِ الْوَاضِحِ مِنَ الْإِنْصَافِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ. وَالْمَقْصُودُ: الْمُهَادَنَةُ وَالْمُتَارَكَةُ، وَقَدْ نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمْثَالُهَا بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُهَدِّدَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ فَقَالَ: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أَيْ: يَحْكُمُ وَيَقْضِي بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، فَيُثِيبُ الْمُطِيعَ، وَيُعَاقِبُ الْعَاصِيَ وَهُوَ الْفَتَّاحُ أَيْ: الْحَاكِمُ بِالْحَقِّ الْقَاضِي بِالصَّوَابِ الْعَلِيمُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ. وَهَذِهِ أَيْضًا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً أُخْرَى يُظْهِرُ بِهَا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَأِ فَقَالَ: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أَيْ: أَرَوْنِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمُوهُمْ بِاللَّهِ شُرَكَاءَ لَهُ، وَهِذِهِ الرُّؤْيَةُ: هِيَ الْقَلْبِيَّةُ، فَيَكُونُ شُرَكَاءَ: هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّالِثُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ تَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَى ثَلَاثَةٍ. الْأَوَّلُ: الْيَاءُ فِي أَرَوْنِيَ، وَالثَّانِي: الْمَوْصُولُ، وَالثَّالِثُ: شُرَكَاءَ، وَعَائِدُ الْمَوْصُولِ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَلْحَقْتُمُوهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْبَصَرِيَّةُ، وَتَعَدَّى الْفِعْلُ بِالْهَمْزَةِ إِلَى اثْنَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْيَاءُ، وَالثَّانِي: الْمَوْصُولُ، وَيَكُونُ شُرَكَاءَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَأَبْطَلَ ذَلِكَ فَقَالَ: كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: ارْتَدِعُوا عَنْ دَعْوَى الْمُشَارَكَةِ، بَلِ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، الْحَكِيمُ بِالْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالَ: جُلِّيَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أَوْحَى الْجَبَّارُ إلى محمّد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ دَعَا الرَّسُولَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَبْعَثَهُ بِالْوَحْيِ،

_ (1) . ثعلبة ورياح: ممدوحا جرير، وطهية والخشاب: مهجوا جرير. [ديوان جرير: 58] . (2) . التوبة: 62. (3) . الكافرون: 6.

[سورة سبإ (34) : الآيات 28 إلى 33]

فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ صَوْتَ الْجَبَّارِ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ، فَلَمَّا كشف عن قلوبهم سئلوا عَمَّا قَالَ اللَّهُ، فَقَالُوا الْحَقَّ، وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَوْتُ الْوَحْيِ كَصَوْتِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفَا، فلما سمعوا خرّوا سجدا، فلما رفعوا رؤوسهم قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يَنْزِلُ الْأَمْرُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَهُ وَقْعَةٌ كَوَقْعَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّخْرَةِ، فَيَفْزَعُ له جميع أهل السموات فَيَقُولُونَ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَقُولُونَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» الْحَدِيثَ وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالَ: نَحْنُ عَلَى هُدًى، وَإِنَّكُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (الْفَتَّاحُ) الْقَاضِي. [سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 33] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (33) فِي انْتِصَابِ كَافَّةً وُجُوهٌ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكَافِ فِي أَرْسَلْناكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا جَامِعًا لِلنَّاسِ بِالْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ، وَالْكَافَّةُ بِمَعْنَى الْجَامِعُ، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ كَعَلَّامَةٍ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: أَمَّا قَوْلُ الزَّجَّاجِ إِنَّ كَافَّةً بِمَعْنَى جَامِعًا، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ اللُّغَةَ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ لِأَنَّ كَفَّ لَيْسَ مَعْنَاهُ جَمَعَ، بَلْ مَعْنَاهُ مَنَعَ. يُقَالُ كَفَّ يكف: مَنَعَ يَمْنَعُ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَمِنْهُ الْكَفُّ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ خُرُوجِ مَا فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَالْهَاءُ: لِلْمُبَالَغَةِ، كَالْعَاقِبَةِ، وَالْعَافِيَةِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهَا صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِلَّا رِسَالَةً كَافَّةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ حَالَ مِنَ النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ الْحَالَ مِنَ الْمَجْرُورِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَابْنُ كَيْسَانَ، وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

إِذَا الْمَرْءُ أَعْيَتْهُ السِّيَادَةُ نَاشِئًا ... فَمَطْلَبُهَا كَهْلًا عَلَيْهِ عَسِيرُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: تَسَلَّيْتُ طُرًّا عَنْكُمْ بَعْدَ بَيْنِكُمْ ... بِذِكْرَاكُمْ حَتَّى كَأَنَّكُمْ عِنْدِي وَقَوْلُ الْآخَرِ: غَافِلًا تَعْرِضُ الْمُنْيَةُ لِلْمَرْ ... ءِ فَيُدْعَى وَلَاتَ حِينَ إِبَاءِ وَمِمَّنْ رَجَّحَ كَوْنَهَا حَالًا مِنَ الْمَجْرُورِ بَعْدَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ: قُدِّمَتْ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّقَوِّي، وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِلَّا ذَا كَافَّةٍ، أَيْ: ذَا مَنْعٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ. قِيلَ: وَاللَّامُ فِي لِلنَّاسِ بِمَعْنَى: إِلَى، أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَى النَّاسِ إِلَّا جَامِعًا لَهُمْ بِالْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ، أَوْ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَانْتِصَابُ بَشِيراً وَنَذِيراً عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُبَشِّرًا لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرًا لَهُمْ مِنَ النَّارِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ما عند الله وما لهم مِنَ النَّفْعِ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ: مَتَى يَكُونُ هَذَا الْوَعْدُ الَّذِي تَعِدُونَا بِهِ وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ أَخْبِرُونَا بِهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ فَقَالَ: قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ أَيْ: مِيقَاتُ يَوْمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ. وَقِيلَ: وَقْتُ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: أَرَادَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ عَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، وَيَجُوزُ فِي مِيعَادُ: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُرَادًا بِهِ الْوَعْدُ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ زَمَانٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْمِيعَادُ بِمَعْنًى. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِتَنْوِينِ مِيعادُ وَرَفْعِهِ، وَنَصْبِ «يَوْمٍ» عَلَى أَنْ يَكُونَ مِيعَادٌ مُبْتَدَأً، وَيَوْمًا ظَرْفٌ، وَالْخَبَرُ لَكُمْ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِرَفْعِ «مِيعَادُ» مَنَوَّنًا، وَنَصْبِ «يَوْمٍ» مُضَافًا إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهُ. وَأَجَازَ النَّحْوِيُّونَ مِيعادُ يَوْمٍ بِرَفْعِهِمَا مُنَوَّنَيْنِ عَلَى أَنَّ مِيعَادٌ مُبْتَدَأٌ وَيَوْمٌ بَدَلٌ مِنْهُ، وَجُمْلَةُ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ صفة لميعاد، أَيْ: هَذَا الْمِيعَادُ الْمَضْرُوبُ لَكُمْ لَا تَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ وَلَا تَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ وُقُوعَهُ فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ طَرَفًا مِنْ قَبَائِحِ الْكُفَّارِ، وَنَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمْ فَقَالَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَهِيَ: الْكُتُبُ الْقَدِيمَةُ، كالتوراة والإنجيل، والرسل المتقدّمون. وقيل: المراد بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ الدَّارُ الْآخِرَةُ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَمَعْنَى مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ: مَحْبُوسُونَ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أَيْ: يَتَرَاجَعُونَ الْكَلَامَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِاللَّوْمِ وَالْعِتَابِ بَعْدَ أَنْ كانوا في الدنيا متعاضدين مُتَنَاصِرِينَ مُتَحَابِّينَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الْمُرَاجَعَةَ فَقَالَ: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وَهُمُ الْأَتْبَاعُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ الْمَتْبُوعُونَ لَوْلا أَنْتُمْ صَدَدْتُمُونَا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالِاتِّبَاعِ لِرَسُولِهِ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ مُصَدِّقِينَ لِرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا مُجِيبِينَ عَلَيْهِمْ مُسْتَنْكِرِينَ لِمَا قَالُوهُ أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى أَيْ: مَنَعْنَاكُمْ عَنِ الإيمان

بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الْهُدَى، قَالُوا هَذَا مُنْكِرِينَ لِمَا ادَّعَوْهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّدِّ لَهُمْ، وَجَاحِدِينَ لِمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنُوا أَنَّهُمُ الصَّادُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ، الْمُمْتَنِعُونَ مِنَ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالُوا: بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أَيْ: مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ، كَثِيرِي الْإِجْرَامِ، عَظِيمِي الْآثَامِ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا رَدًّا لِمَا أَجَابُوا بِهِ عَلَيْهِمْ، وَدَفْعًا لِمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِمْ مِنْ صَدِّهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَصْلُ الْمَكْرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْخَدِيعَةُ وَالْحِيلَةُ، يُقَالُ: مَكَرَ بِهِ إِذَا خَدَعَهُ وَاحْتَالَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: بَلْ مَكْرُكُمْ بِنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ، وَأُقِيمَ الظَّرْفُ مَقَامَهُ اتِّسَاعًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ، بَلْ مَكْرُكُمْ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَدُعَاؤُكُمْ لَنَا إِلَى الْكُفْرِ هُوَ الَّذِي حَمَلَنَا عَلَى هَذَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَلْ عَمَلُكُمْ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَاكِرَيْنِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. قَالَ الْمَبَرِّدُ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: نَهَارُهُ صَائِمٌ، وَلَيْلُهُ قَائِمٌ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ جَرِيرٍ: لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلَانَ فِي السُّرَى ... وَنِمْتِ وَمَا ليل المطيّ بنائم وأنشد سيبويه: فنام لَيْلِي وَتَجَلِّي هَمِّي وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ بِرَفْعِ «مَكْرٌ» مُنَوَّنًا، وَنَصْبِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ مَكْرٌ كَائِنٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو رَزِينٍ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مُضَافًا بِمَعْنَى الْكُرُورِ، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ إِذَا جَاءَ وَذَهَبَ، وَارْتِفَاعُ مَكْرُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ صَدَّنَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ صَدَّنَا مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْأَخْفَشِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ رَاشِدٍ كَمَا قَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَلَكِنَّهُ نَصَبَ مَكْرُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: بَلْ تُكَرِّرْنَ الْإِغْوَاءَ مَكْرًا دَائِمًا لَا تَفْتُرُونَ عَنْهُ، وَانْتِصَابُ إِذْ تَأْمُرُونَنا عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْمَكْرِ، أَيْ: بَلْ مَكْرُكُمْ بِنَا وَقْتَ أَمْرِكُمْ لَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أَيْ: أَشْبَاهًا وَأَمْثَالًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ يُقَالُ نِدُّ فُلَانٍ فُلَانٌ: أَيْ مِثْلُهُ وَأَنْشَدَ: أَتَيْمًا تَجْعَلُونَ إليّ ندّا ... وما تيم لذي حَسَبٍ نَدِيدِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ رَاجِعٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ: أَضْمَرَ الْفَرِيقَانِ النَّدَامَةَ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْكُفْرِ وَأَخْفَوْهَا عَنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ أَخْفَاهَا كُلٌّ مِنْهُمْ عَنِ الْآخَرِ مَخَافَةَ الشَّمَاتَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَسَرُّوا هُنَا أَظْهَرُوا لِأَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ يَكُونُ تَارَةً بِمَعْنَى الْإِخْفَاءِ، وَتَارَةً بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا وَأَهْوَالَ مَعْشَرٍ ... عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي وقيل معنى: أسروا الندامة: تَبَيَّنَتِ النَّدَامَةُ فِي أَسِرَّةِ وُجُوهِهِمْ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْأَغْلَالُ جَمْعُ غُلٍّ، يُقَالُ فِي رَقَبَتِهِ غُلٌّ مِنْ حَدِيدٍ، أَيْ: جُعِلَتِ الْأَغْلَالُ مِنَ الْحَدِيدِ فِي أَعْنَاقِ هَؤُلَاءِ

[سورة سبإ (34) : الآيات 34 إلى 42]

فِي النَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا: هُمُ الْمَذْكُورُونَ سَابِقًا، وَالْإِظْهَارُ لِمَزِيدِ الذَّمِّ، أَوْ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْعُمُومِ فَيَدْخُلُ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: إِلَّا جَزَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، أَوْ إِلَّا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَى حَذْفِ الْخَافِضِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ قَالَ: إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَرْسَلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ لَهُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ قَالَ: هَذَا قَوْلُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ وبالذي بين يديه من الكتب والأنبياء. [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 42] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) لَمَّا قَصَّ سُبْحَانَهُ حَالَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ أَتْبَعَهُ بِمَا فِيهِ التَّسْلِيَةُ لِرَسُولِهِ، وَبَيَانِ أَنَّ كُفْرَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ بِمَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الرُّسُلِ هُوَ كَائِنٌ مُسْتَمِرٌّ فِي الْأَعْصُرِ الْأُوَلِ فَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنَ الْقُرَى مِنْ نَذِيرٍ يُنْذِرُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ عِقَابَ اللَّهِ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أَيْ: رُؤَسَاؤُهَا وَأَغْنِيَاؤُهَا وَجَبَابِرَتُهَا وَقَادَةُ الشَّرِّ لِرُسُلِهِمْ إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أَيْ: بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، وَجُمْلَةُ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا افْتَخَرُوا بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَقَاسُوا حَالَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى حَالِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ فَقَالَ: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَنَا عَلَيْكُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يدل على أنه قد رضي ما نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ إِحْسَانِهِ إِلَيْنَا فِي الدُّنْيَا، وَرِضَاهُ عَنَّا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ وَقَالَ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أَنْ يَبْسُطَهُ لَهُ وَيَقْدِرُ أَيْ: يُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُضَيِّقَهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ يَرْزُقُ الْكَافِرَ وَالْعَاصِيَ اسْتِدْرَاجًا لَهُ، وَقَدْ يَمْتَحِنُ الْمُؤْمِنَ بِالتَّقْتِيرِ تَوْفِيرًا لِأَجْرِهِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ بَسْطِ الرِّزْقِ لمن لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ ورضي عمله، ولا قَبَضَهُ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَهُ، وَلَا رَضِيَ عَمَلَهُ، فَقِيَاسُ الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى الدَّارِ الْأُولَى فِي مِثْلِ هَذَا مِنَ الْغَلَطِ البين أو المغالطة لواضحة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا، وَمِنْ جُمْلَةِ هَؤُلَاءِ الْأَكْثَرِ مَنْ قَاسَ أَمْرَ الْآخِرَةِ على الأولى،

ثُمَّ زَادَ هَذَا الْجَوَابَ تَأْيِيدًا وَتَأْكِيدًا وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أَيْ: لَيْسُوا بِالْخَصْلَةِ الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا قُرْبَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: الزُّلْفَى: الْقُرْبَى، وَالزُّلْفَةُ: الْقُرْبَةُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: زُلْفَى اسْمُ مَصْدَرٍ كَأَنَّهُ قَالَ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا تَقْرِيبًا فَتَكُونُ زُلْفَى مَنْصُوبَةَ الْمَحَلِّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الَّتِي تَكُونُ لِلْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ جَمِيعًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْمَعْنَى وَمَا أَمْوَالُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى، وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالشَّيْءِ يُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى، ثُمَّ حُذِفَ خَبَرُ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ وَأَنْشَدَ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفٌ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ بِاللَّتَيْنِ وَبِاللَّاتِي وَبِاللَّوَاتِي وَبِالَّذِي لِلْأَوْلَادِ خَاصَّةً أَيْ: لَا تَزِيدُكُمُ الْأَمْوَالُ عِنْدَنَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَا تُقَرِّبُكُمْ تَقْرِيبًا إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ فَيَكُونُ مَحَلَّهُ النَّصْبُ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، أَوْ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي تُقَرِّبُكُمْ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ غَلَطٌ، لِأَنَّ الْكَافَ وَالْمِيمَ لِلْمُخَاطَبِ فَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ رَأَيْتُكَ زَيْدًا. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَخْفَشَ وَالْكُوفِيِّينَ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ، وقد قال بمثل قول الزجاج الفراء وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَعْنَى مَا هُوَ إِلَّا مَنْ آمَنَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ إِلَى مَنْ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أَيْ: جَزَاءُ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «1» . وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ: جَزَاءُ التَّضْعِيفِ لِلْحَسَنَاتِ، وَقِيلَ: لَهُمْ جَزَاءُ الْإِضْعَافِ لِأَنَّ الضِّعْفَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالْبَاءُ فِي بِما عَمِلُوا لِلسَّبَبِيَّةِ وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ مِنْ جَمِيعِ مَا يَكْرَهُونَ، وَالْمُرَادُ غُرُفَاتُ الْجَنَّةِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ جَزاءُ الضِّعْفِ بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَيَعْقُوبُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَقَتَادَةُ بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنَّ الضِّعْفِ بَدَلٌ مِنْ جَزَاءُ. وَرُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ أَنَّهُ قَرَأَ «جَزَاءً» بِالنَّصْبِ مُنَوَّنًا، وَ «الضعف» بالرفع على تقدير: فَأُولَئِكَ لَهُمُ الضِّعْفُ جَزَاءً، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ جَزَاءً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي الْغُرُفاتِ بِالْجَمْعِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «2» وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ «فِي الْغُرْفَةِ» بِالْإِفْرَادِ لِقَوْلِهِ: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ «3» وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا بِالرَّدِّ لَهَا وَالطَّعْنِ فِيهَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُعاجِزِينَ مُسَابِقِينَ لَنَا زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ يَفُوتُونَنَا بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ مُعَانِدِينَ لَنَا بِكُفْرِهِمْ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أَيْ: فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ تُحْضِرُهُمُ الزَّبَانِيَةُ إِلَيْهَا لَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ مَا تَقَدَّمَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ لِلْحُجَّةِ، وَالدَّفْعِ لِمَا قَالَهُ الْكَفَرَةُ فَقَالَ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أَيْ: يُوَسِّعُهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى سَعَادَةٍ وَلَا شَقَاوَةٍ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أَيْ يُخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ، يُقَالُ أَخْلَفَ لَهُ وَأَخْلَفَ عَلَيْهِ: إِذَا أَعْطَاهُ عِوَضَهُ وَبَدَلَهُ، وَذَلِكَ الْبَدَلُ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فَإِنَّ رِزْقَ الْعِبَادِ لِبَعْضِهِمُ الْبَعْضَ إِنَّمَا هُوَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَلَيْسُوا بِرَازِقِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، كَمَا يقال في الرجل إنه يرزق عياله،

_ (1) . الأنعام: 160. (2) . العنكبوت: 58. (3) . الفرقان: 75. [.....]

وفي الأمير إنه يرزق جنده، والرزاق لِلْأَمِيرِ وَالْمَأْمُورِ وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ هُوَ الْخَالِقُ لَهُمْ، وَمَنْ أَخْرَجَ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى غَيْرِهِ شَيْئًا مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِنَّمَا تَصَرَّفَ فِي رزق الله فاستحق بما خرج من الثَّوَابَ عَلَيْهِ الْمُضَاعَفَ لِامْتِثَالِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَإِنْفَاقِهِ فيما أمره الله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ نَحْوِ اذْكُرْ، أو هو متصل بقول: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ أَيْ: وَلَوْ تَرَاهُمْ أَيْضًا يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا للحساب العابد والمعبود، والمستكبر والمستضعف، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ تَقْرِيعًا لِلْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخًا لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِعِيسَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» وَإِنَّمَا خَصَّصَ الْمَلَائِكَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ قَدْ عَبَدَ غَيْرَهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْأَصْنَامِ لِأَنَّهُمْ أَشْرَفُ مَعْبُودَاتِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا أَكْذَبَتْهُمْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَبْكِيتٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَجُمْلَةُ: قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابَ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ أَنْتَ الَّذِي نَتَوَلَّاهُ وَنُطِيعُهُ وَنَعْبُدُهُ مِنْ دُونِهِمْ، مَا اتَّخَذْنَاهُمْ عَابِدِينَ وَلَا تَوَلَّيْنَاهُمْ وَلَيْسَ لَنَا غَيْرُكَ وَلِيًّا، ثُمَّ صَرَّحُوا بِمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَهُ فَقَالُوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَيِ: الشَّيَاطِينَ وَهُمْ إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، وَأَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقِيلَ: كَانُوا يَدْخُلُونَ أَجْوَافَ الْأَصْنَامِ وَيُخَاطِبُونَهُمْ مِنْهَا أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أَيْ: أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ بِالْجِنِّ مُؤْمِنُونَ بِهِمْ مُصَدِّقُونَ لَهُمْ، قِيلَ: وَالْأَكْثَرُ فِي مَعْنَى الْكُلِّ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا يَعْنِي الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الْمَعْبُودُونَ لِبَعْضٍ، وَهُمُ الْعَابِدُونَ نَفْعاً أَيْ: شَفَاعَةً وَنَجَاةً وَلا ضَرًّا أَيْ: عذابا وهلاكا، إنما قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ إِظْهَارًا لِعَجْزِهِمْ وَقُصُورِهِمْ وَتَبْكِيتًا لِعَابِدِيهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَلا ضَرًّا هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ لَهُمْ دَفْعَ ضَرٍّ، وَقَوْلُهُ: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَيْ: لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ شَرِيكَيْنِ، خَرَجَ أَحَدُهُمَا إِلَى السَّاحِلِ وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ يَسْأَلُهُ مَا فَعَلَ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا رُذَالَةُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، فَتَرَكَ تِجَارَتَهُ ثُمَّ أَتَى صَاحِبَهُ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَيْهِ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إلى ما تَدْعُو؟ قَالَ: إِلَى كَذَا وَكَذَا، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إِلَّا اتَّبَعَهُ رَذَالَةُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها الْآيَاتِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ تَصْدِيقَ مَا قُلْتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: جَزاءُ الضِّعْفِ قَالَ: تَضْعِيفُ الْحَسَنَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ غَنِيًّا تَقِيًّا آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ قَالَ: تَضْعِيفُ

_ (1) . المائدة:.

[سورة سبإ (34) : الآيات 43 إلى 50]

الْحَسَنَةِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ قَالَ: فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ، وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلَّمَا أَنْفَقَ الْعَبْدُ مِنْ نَفَقَةٍ فَعَلَى اللَّهِ خَلَفُهَا ضَامِنًا إِلَّا نَفَقَةً فِي بنيان أَوْ مَعْصِيَةٍ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ نَحْسًا، فَادْفَعُوا نَحْسَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالصَّدَقَةِ» ثُمَّ قَالَ: اقْرَءُوا مَوَاضِعَ الْخَلَفِ، فَإِنِّي سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ إِذَا لَمْ تُنْفِقُوا كَيْفَ يُخْلِفُ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَعُونَةَ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ على قدر المؤونة» . [سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 50] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمْ، فَقَالَ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أَيِ: الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ حَالَ كَوْنِهَا بَيِّناتٍ وَاضِحَاتِ الدَّلَالَاتِ ظَاهِرَاتِ الْمَعَانِي قالُوا مَا هَذَا يَعْنُونَ التَّالِيَ لَهَا، وَهُوَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ أَيْ: أَسْلَافُكُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَقالُوا ثَانِيًا مَا هَذَا يَعْنُونَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً أَيْ: كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَالِثًا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ أَيْ: لِأَمْرِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَهَذَا الْإِنْكَارُ مِنْهُمْ خَاصٌّ بِالتَّوْحِيدِ، وَأَمَّا إِنْكَارُ الْقُرْآنِ وَالْمُعْجِزَةِ فَكَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً مَعْنَاهُ، وَبِالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ نَظْمُهُ الْمُعْجِزُ. وَقِيلَ: إِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ إِفْكٌ، وَطَائِفَةٌ قَالُوا: إِنَّهُ سِحْرٌ، وَقِيلَ:

إِنَّهُمْ جَمِيعًا قَالُوا تَارَةً إِنَّهُ إِفْكٌ، وَتَارَةً إِنَّهُ سِحْرٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها أَيْ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْعَرَبِ كُتُبًا سَمَاوِيَّةً يَدْرُسُونَ فِيهَا وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَيُنْذِرُهُمْ بِالْعَذَابِ، فَلَيْسَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ وَجْهٌ، وَلَا شبه يَتَشَبَّثُونَ بِهَا. قَالَ قَتَادَةُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ كِتَابًا قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَلَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ مِنْ أَيْنَ كَذَّبُوكَ، وَلَمْ يَأْتِهِمْ كِتَابٌ وَلَا نَذِيرٌ بِهَذَا الَّذِي فعلوه؟ ثم خوّفهم سُبْحَانَهُ وَأَخْبَرَ عَنْ عَاقِبَتِهِمْ، وَعَاقِبَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ فَقَالَ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ أَيْ: مَا بَلَغَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ عُشْرَ مَا آتَيْنَا مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ، وَكَثْرَةِ الْمَالِ، وَطُولِ الْعُمُرِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، كَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَمْثَالِهِمْ. وَالْمِعْشَارُ: هُوَ الْعُشْرُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مِعْشَارُ الشَّيْءِ عُشْرُهُ. وَقِيلَ الْمِعْشَارُ: عُشْرُ الْعُشْرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: مَا بَلَغَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى. وَقِيلَ مَا بَلَغَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِعْشَارَ شُكْرِ مَا أَعْطَيْنَاهُمْ، وَقِيلَ: مَا أَعْطَى اللَّهُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِعْشَارَ مَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: الْمِعْشَارُ عُشْرُ الْعَشِيرِ، وَالْعَشِيرُ عُشْرُ الْعُشْرِ، فَيَكُونُ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّقْلِيلِ. قُلْتُ: مُرَاعَاةُ الْمُبَالَغَةِ في القليل لَا يُسَوَّغُ لِأَجْلِهَا الْخُرُوجُ عَنِ الْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ، وَقَوْلُهُ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي عَطْفٌ عَلَى كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا «1» الْآيَةَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ الْأَوَّلَ لَمَّا حُذِفَ منه الْمُتَعِلِّقِ لِلتَّكْذِيبِ أَفَادَ الْعُمُومَ، فَمَعْنَاهُ: كَذَّبُوا الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ، وَالرُّسُلَ الْمُرْسَلَةَ، وَالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةَ، وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ أخص منه، وإن كان مستلزما فَقَدْ رُوعِيَتِ الدَّلَالَةُ اللَّفْظِيَّةُ لَا الدَّلَالَةُ الِالْتِزَامِيَّةُ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَيْ: فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي لَهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْعُقُوبَةِ، فَلْيَحْذَرْ هَؤُلَاءِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَهْلَكْنَاهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ، وَالنَّكِيرُ اسْمٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً يَنْقَطِعُونَ عِنْدَهَا فَقَالَ: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَيْ: أُحَذِّرُكُمْ وَأُنْذِرُكُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ مَا أَنْتُمْ فِيهِ، وَأُوصِيكُمْ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْخَصْلَةِ الْوَاحِدَةِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا، أَيْ: هِيَ قِيَامُكُمْ وَتَشْمِيرُكُمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ بِالْفِكْرَةِ الصَّادِقَةِ مُتَفَرِّقِينَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَوَاحِدًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ يُشَوِّشُ الْفِكْرَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْقِيَامَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، بَلِ الْمُرَادُ الْقِيَامُ بِطَلَبِ الْحَقِّ وَإِصْدَاقِ الْفِكْرِ فِيهِ، كَمَا يُقَالُ قَامَ فُلَانٌ بِأَمْرِ كَذَا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فِي أَمْرِ النَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ، فَإِنَّكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قُلْ لَهُمُ اعْتَبِرُوا أَمْرِي بِوَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ، وَفِي ذَاتِهِ مُجْتَمِعِينَ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: هَلُمَّ فَلْنَتَصَادَقْ، هَلْ رَأَيْنَا بِهَذَا الرَّجُلِ مِنْ جِنَّةٍ، أَيْ: جُنُونٍ أَوْ جَرَّبْنَا عَلَيْهِ كَذِبًا، ثُمَّ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَتَفَكَّرُ وَيَنْظُرُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ على أن محمّدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ صَادِقٌ وَأَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِكَاذِبٍ وَلَا سَاحِرٍ وَلَا مَجْنُونٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ

_ (1) . القمر: 9.

أَيْ: مَا هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، وَقِيلَ إِنَّ جُمْلَةَ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَسُوقَةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّظَرِ، وَالتَّأَمُّلِ بِأَنَّ هذا الأمر العظيم والدعوى، لَا يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لَهُ إِلَّا مَجْنُونٌ لَا يُبَالِي بِمَا يُقَالُ فِيهِ، وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْكَذِبِ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ أَرْجَحُ النَّاسِ عَقْلًا، فَوَجَبَ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِي دَعْوَاهُ، لَا سِيَّمَا مَعَ انْضِمَامِ الْمُعْجِزَةِ الْوَاضِحَةِ وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَفْتَرِي الْكَذِبَ، وَلَا قَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ كَذِبًا مُدَّةَ عُمُرِهِ وَعُمُرِهِمْ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا فِي مَا بِصاحِبِكُمْ اسْتِفْهَامِيَّةً، أَيْ: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا أَيَّ شَيْءٍ بِهِ مِنْ آثَارِ الْجُنُونِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ هِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَوَاعِظَ كُلَّهَا، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ أَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَقُومُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى لَأَنْ تَقُومُوا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَى مَثْنَى وَفُرَادَى: مُنْفَرِدًا برأيه، ومشاورا لغيره. وقال القتبي مُنَاظِرًا مَعَ عَشِيرَتِهِ، وَمُفَكِّرًا فِي نَفْسِهِ. وَقِيلَ الْمُثَنَّى: عَمَلُ النَّهَارِ، وَالْفُرَادَى: عَمَلُ اللَّيْلِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَمَا أَبْرَدَ هَذَا الْقَوْلَ وَأَقَلَّ جَدْوَاهُ. وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا وَعَلَى هَذَا تَكُونُ جُمْلَةُ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ مُسْتَأْنَفَةً كَمَا قَدَّمْنَا، وَقِيلَ: لَيْسَ بِوَقْفٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا هل جربتم عليه كذبا، أو رأيتم منه جِنَّةٍ، أَوْ فِي أَحْوَالِهِ مِنْ فَسَادٍ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَا رَغْبَةٌ فِيهَا حَتَّى تَنْقَطِعَ عِنْدَهُمُ الشُّكُوكُ، وَيَرْتَفِعَ الرَّيْبُ فَقَالَ: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ أَيْ: مَا طَلَبْتُ مِنْكُمْ مِنْ جُعْلٍ تَجْعَلُونَهُ لِي مُقَابِلَ الرِّسَالَةِ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ سَأَلْتُكُمُوهُ، وَالْمُرَادُ نَفِيُ السُّؤَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: مَا أَمْلِكُهُ فِي هَذَا فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَكَ، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ أَصْلًا، ومثل هذه الآية قوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1» وقوله: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا «2» . ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ أَجْرَهُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أَيْ: مَا أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: مطلع لا يغيب عنه منه شيء قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ القذف: الرَّمْيُ بِالسَّهْمِ، وَالْحَصَى، وَالْكَلَامِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَرْمِي عَلَى مَعْنَى يَأْتِي بِهِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَتَكَلَّمُ بِالْحَقِّ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْوَحْيُ، أَيْ: يُلْقِيهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْوَحْيِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْحُجَّةَ، وَيُظْهِرُهَا لِلنَّاسِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ، وَقِيلَ: يَرْمِي الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ فَيَدْمَغُهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ عَلَّامُ عَلَى أَنَّهُ خبر ثان لأنّ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي يَقْذِفُ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّفْعُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ رَفْعٍ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعِيسَى بن عمرو بن أَبِي إِسْحَاقَ بِالنَّصْبِ نَعْتًا لِاسْمِ إِنَّ أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالرَّفْعُ فِي مِثْلِ هَذَا أَكْثَرُ كَقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ «3» ، وَقُرِئَ الْغُيُوبِ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْغَيْنِ، وَهُوَ جَمْعُ غَيْبٍ، وَالْغَيْبُ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي غَابَ وخفي جدّا قُلْ جاءَ الْحَقُ

_ (1) . الشورى: 23. (2) . الفرقان: 57. (3) . ص: 64.

[سورة سبإ (34) : الآيات 51 إلى 54]

أَيِ: الْإِسْلَامُ وَالتَّوْحِيدُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْقُرْآنُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: التَّقْدِيرُ صَاحِبُ الْحَقِّ، أَيِ: الْكِتَابُ الَّذِي فِيهِ الْبَرَاهِينُ وَالْحُجَجُ. وَأَقُولُ: لَا وَجْهَ لِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ جَاءَ كَمَا جَاءَ صَاحِبُهُ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أَيْ: ذَهَبَ الْبَاطِلُ ذَهَابًا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِقْبَالٌ وَلَا إِدْبَارٌ وَلَا إِبْدَاءٌ وَلَا إِعَادَةٌ. قَالَ قَتَادَةُ: الْبَاطِلُ هُوَ الشَّيْطَانُ أَيْ: مَا يَخْلُقُ الشَّيْطَانُ ابْتِدَاءً وَلَا يَبْعَثُ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونُ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُبْدِيهِ، وَأَيُّ شَيْءٍ يُعِيدُهُ؟ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عَنِ الطَّرِيقِ الْحَقَّةِ الْوَاضِحَةِ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أَيْ: إِثْمُ ضَلَالَتِي يَكُونُ عَلَى نَفْسِي، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لَهُ تَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ فَضَلَلْتَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْبَيَانِ بِالْقُرْآنِ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مِنِّي وَمِنْكُمْ يَعْلَمُ الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «ضَلَلْتُ» بِفَتْحِ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْعَالِيَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ يَقُولُ: مِنَ الْقُوَّةِ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي الْآيَةِ «1» قَالَ: يَقُومُ الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ أَوْ وَحْدَهُ فَيُفَكِّرُ مَا بِصَاحِبِهِ مِنْ جِنَّةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ يَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أَيْ: مِنْ جُعْلٍ فَهُوَ لَكُمْ، يَقُولُ: لَمْ أَسْأَلْكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ جُعْلًا، وَفِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ قَالَ: بِالْوَحْيِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ قَالَ: الشَّيْطَانُ لَا يُبْدِئُ وَلَا يُعِيدُ إِذَا هَلَكَ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ قَالَ: مَا يَخْلُقُ إِبْلِيسُ شَيْئًا وَلَا يَبْعَثُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي قال: إنما أؤخذ بجنايتي. [سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54] وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالًا مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، قِيلَ الْمُرَادُ فَزَعُهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ بِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ فَزَعُهُمْ فِي الْقُبُورِ مِنَ الصَّيْحَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ فَزَعُهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ فَزَعُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ بِسُيُوفِ الْمَلَائِكَةِ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا فِرَارًا وَلَا رُجُوعًا إِلَى التَّوْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ مُغَفَّلٍ: هو فزعهم إذا عاينوا

_ (1) . أي: قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى....

عِقَابَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الْخَسْفُ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِمْ فِي الْبَيْدَاءِ، فَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا لَقِيَ أَصْحَابُهُ فَيَفْزَعُونَ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا هَائِلًا، وَمَعْنَى فَلا فَوْتَ فَلَا يَفُوتُنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا يَنْجُو مِنْهُمْ نَاجٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَا مَهْرَبَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ مِنْ ظَهْرِ الْأَرْضِ أَوْ مِنَ الْقُبُورِ، أَوْ مِنْ مَوْقِفِ الْحِسَابِ. وَقِيلَ: مِنْ حَيْثُ كَانُوا، فَهُمْ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ لَا يَبْعُدُونَ عَنْهُ وَلَا يَفُوتُونَهُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَزَعُ هُوَ الْفَزَعَ الَّذِي بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، يُقَالُ فَزِعَ الرَّجُلُ: إِذَا أَجَابَ الصَّارِخَ الَّذِي يستغيث به كَفَزَعِهِمْ إِلَى الْحَرْبِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أَيْ: بِمُحَمَّدٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بِالْبَعْثِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ التَّنَاوُشُ التَّنَاوُلُ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ التَّنَاوُشِ الَّذِي هُوَ التَّنَاوُلُ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ لَهُمْ أَنْ يَتَنَاوَلُوا الْإِيمَانَ مِنْ بَعْدُ، يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ تَرَكُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَعْنَى مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي طَلَبِ الْخَلَاصِ بَعْدَ مَا فَاتَ عَنْهُمْ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا تَنَاوَلَ رَجُلًا لِيَأْخُذَ بِرَأْسِهِ أَوْ بِلِحْيَتِهِ نَاشَهُ يَنُوشُهُ نَوْشًا، وَأَنْشَدَ: فَهِيَ تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشًا مِنْ عُلَا ... نَوْشًا بِهِ تَقْطَعُ أَجْوَازَ الْفَلَا «1» أَيْ: تَنَاوَلُ مَاءَ الْحَوْضِ مِنْ فَوْقُ، وَمِنْهُ الْمُنَاوَشَةُ فِي الْقِتَالِ، وَقِيلَ التَّنَاوُشُ: الرَّجْعَةُ، أَيْ: وَأَنَّى لَهُمُ الرَّجْعَةُ إِلَى الدُّنْيَا لِيُؤْمِنُوا، وَمِنْهُ قول الشاعر: تمنّى أن تؤوب إِلَيَّ مَيٌّ ... وَلَيْسَ إِلَى تَنَاوُشِهَا سَبِيلُ وَجُمْلَةُ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا آمَنُوا بِهِ الْآنَ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْوَقْتِ، وَذَلِكَ حَالُ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ «التَّنَاؤُشُ» بِالْهَمْزِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْوَاوِ، وَاسْتَبْعَدَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالنَّحَّاسُ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِبْعَادِ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَعَدْتَ زَمَانًا عَنْ طِلَابِكَ لِلْعُلَا ... وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخيرا «2» أَيْ: وَجِئْتَ أَخِيرًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَمْزُ وَتَرْكُ الْهَمْزِ مُتَقَارِبٌ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أَيْ: يَرْمُونَ بِالظَّنِّ فَيَقُولُونَ: لَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أَيْ مِنْ جِهَةٍ بَعِيدَةٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْتَنَدٌ لِظَنِّهِمُ الْبَاطِلِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: يَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ أَقْوَالًا بَاطِلَةً: إِنَّهُ سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَقِيلَ يَقُولُونَ فِي مُحَمَّدٍ إِنَّهُ سَاحِرٌ شَاعِرٌ كَاهِنٌ مَجْنُونٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو «يُقْذَفُونَ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ: أَيْ يُرْجَمُونَ بِمَا يَسُوؤُهُمْ مِنْ جَرَّاءِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، وَفِيهِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ يَرْمِي شَيْئًا لَا يَرَاهُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا مَجَالَ لِلْوَهْمِ فِي لُحُوقِهِ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مَعْطُوفَةٌ على: وقد كفروا به على أنها حِكَايَةٌ لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ وَاسْتِحْضَارٌ لِصُورَتِهَا، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ من

_ (1) . البيت لغيلان بن حريث. (2) . في القرطبي (14/ 317) : الخبر.

النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَمُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، أَوْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أَيْ: بِأَمْثَالِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْأَشْيَاعُ جَمْعُ شِيَعٍ، وَشِيَعٌ جَمْعُ شِيعَةٍ، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: فِي شَكٍّ مُوقِعٍ فِي الرِّيبَةِ أَوْ ذِي رِيبَةٍ مِنْ أَمْرِ الرُّسُلِ وَالْبَعْثِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ فِي التَّوْحِيدِ وَمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلَ مِنَ الدِّينِ، يُقَالُ أَرَابَ الرَّجُلُ: إِذَا صَارَ ذَا رِيبَةٍ فَهُوَ مُرِيبٌ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الرَّيْبِ الَّذِي هُوَ الشَّكُّ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ: عَجَبٌ عَجِيبٌ وَشِعْرٌ شَاعِرٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا فَوْتَ قَالَ: فَلَا نَجَاةَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قَالَ: هُوَ جَيْشُ السُّفْيَانِيِّ، قِيلَ مِنْ أَيْنَ أُخِذُوا؟ قَالَ: مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يُخْسَفُ بِجَيْشٍ فِي الْبَيْدَاءِ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ، وَخَارِجِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَصَفِيَّةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنَّهُ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قِصَّةَ الْخَسْفِ هَذِهِ مَرْفُوعَةً، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ سَبَأٍ وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ قَالَ: كَيْفَ لَهُمُ الرَّدُّ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قَالَ: يَسْأَلُونَ الرَّدَّ، وَلَيْسَ بِحِينِ رَدٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ التَّيْمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قُلْتُ: مَا التَّنَاوُشُ؟ قَالَ: تَنَاوُلُ الشيء وليس بحين ذاك.

سورة فاطر

سُورَةِ فَاطِرٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ فَاطِرٍ بِمَكَّةَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) الْفَطْرُ: الشَّقُّ عَنِ الشَّيْءِ، يُقَالُ فَطَرْتُهُ فَانْفَطَرَ، وَمِنْهُ فَطَرَ نَابُ الْبَعِيرِ: إِذَا طَلَعَ، فَهُوَ بَعِيرٌ فَاطِرٌ، وَتَفَطَّرَ الشَّيْءُ تَشَقَّقَ، وَالْفَطْرُ: الِابْتِدَاءُ وَالِاخْتِرَاعُ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالْمَعْنَى الْحَمْدُ لِلَّهِ مُبْدِعِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمُخْتَرِعِهِمَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى ابْتِدَاءِ هَذَا الْخَلْقِ الْعَظِيمِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «فَاطِرِ» عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ «فَطَرَ» عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى هُوَ نَعْتٌ لِلَّهِ لِأَنَّ إِضَافَتَهُ مَحْضَةٌ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَحْضَةٍ كَانَ بَدَلًا، وَمِثْلُهُ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يَجُوزُ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَانْتِصَابُ رُسُلًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَاضِي لَا يَعْمَلُ، وَجَوَّزَ الْكِسَائِيُّ عَمَلَهُ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَهُوَ منصوب بجاعل، وَالرُّسُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: هُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَعِزْرَائِيلُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «جَاعِلُ» بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ خَلِيلُ ابن نَشِيطٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ «جَعَلَ» عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَحُمَيْدٌ «رُسْلًا» بِسُكُونِ السِّينِ، وهي لغة تميم أُولِي أَجْنِحَةٍ صفة لرسلا، وَالْأَجْنِحَةُ: جَمْعُ جَنَاحٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ صِفَةٌ لأجنحة، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فِي النِّسَاءِ. قَالَ قَتَادَةُ: بَعْضُهُمْ لَهُ جَنَاحَانِ، وَبَعْضُهُمْ ثَلَاثَةٌ، وَبَعْضُهُمْ أَرْبَعَةٌ، يَنْزِلُونَ بِهَا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَيَعْرُجُونَ بِهَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: يُرْسِلُهُمُ اللَّهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِلَى الْعِبَادِ بِنِعَمِهِ أَوْ نِقَمِهِ، وَجُمْلَةُ: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ

مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ تَفَاوُتِ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَزِيدُ فِي خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي الْخَلْقِ غَيْرُ خَاصَّةٍ بِالْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّهَا حُسْنُ الصَّوْتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَلَاحَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ، وَالْحُسْنُ فِي الْأَنْفِ، وَالْحَلَاوَةُ فِي الْفَمِ، وَقِيلَ: الْوَجْهُ الْحَسَنُ، وَقِيلَ: الْخَطُّ الْحَسَنُ، وَقِيلَ: الشَّعْرُ الْجَعْدُ، وَقِيلَ: الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ، وَقِيلَ: الْعُلُومُ وَالصَّنَائِعُ، وَلَا وَجْهَ لِقَصْرِ ذَلِكَ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ بَلْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ زِيَادَةٍ، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها أَيْ: مَا يَأْتِيهِمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ مَطَرٍ وَرِزْقٍ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُمْسِكَهُ وَما يُمْسِكْ مِنْ ذَلِكَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُرْسِلَهُ مِنْ بَعْدِ إِمْسَاكِهِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ الرُّسُلَ بُعِثُوا رَحْمَةً لِلنَّاسِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِرْسَالِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ الدُّعَاءُ، وَقِيلَ: التَّوْبَةُ، وَقِيلَ: التَّوْفِيقُ وَالْهِدَايَةُ. وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، بَلِ الْمَعْنَى: كُلُّ مَا يَفْتَحُهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ فَيَشْمَلُ كُلَّ نِعْمَةٍ يُنْعِمُ اللَّهُ بِهَا عَلَى خَلْقِهِ، وَهَكَذَا الْإِمْسَاكُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ يَمْنَعُهُ اللَّهُ مِنْ نِعَمِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ لَا مُعْطِيَ سِوَاهُ وَلَا مُنْعِمَ غَيْرُهُ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ أَنْ يَتَذَكَّرُوا نِعَمَهُ الْفَائِضَةَ عَلَيْهِمُ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها وَمَعْنَى هَذَا الْأَمْرِ لَهُمْ بِالذِّكْرِ هُوَ إِرْشَادُهُمْ إِلَى الشُّكْرِ لِاسْتِدَامَتِهَا وَطَلَبِ الْمَزِيدِ مِنْهَا هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ من: زائدة وخالق: مبتدأ، وغير اللَّهِ: صِفَةٌ لَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَرُفِعَ غَيْرُ عَلَى مَعْنَى هَلْ خَالِقٌ غَيْرُ اللَّهِ، لِأَنَّ «مِنْ» زِيَادَةٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَمَنْ خَفَضَ غَيْرُ جَعَلَهَا صِفَةً عَلَى اللَّفْظِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ «غَيْرُ» وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِخَفْضِهَا، وَقَرَأَ الْفَضْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بِنَصْبِهَا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَجُمْلَةُ: يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أو صفة أخرى لخالق، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالرِّزْقُ مِنَ السَّمَاءِ: بِالْمَطَرِ، وَمِنَ الْأَرْضِ: بِالنَّبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجُمْلَةُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مستأنفة لتقرير النَّفْيَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ مِنَ الْأَفْكِ بِالْفَتْحِ: وَهُوَ الصَّرْفُ، يُقَالُ: مَا أَفَكَكَ عَنْ كَذَا؟ أَيْ: مَا صَرَفَكَ، أَيْ: فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ، وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِفْكِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْكَذِبُ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنِ الصِّدْقِ. قَالَ الزَّجَّاجَ: أَيْ مِنْ أَيْنَ يَقَعُ لَكُمُ الْإِفْكُ وَالتَّكْذِيبُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْبَعْثِ، وَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ. ثُمَّ عَزَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ لِيَتَأَسَّى بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَتَسَلَّى عَنْ تَكْذِيبِ كُفَّارِ الْعَرَبِ لَهُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لَا إِلَى غَيْرِهِ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. قَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَيَعْقُوبُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَحُمَيْدٌ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ «تَرْجِعُ» بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ الباقون بضمها على البناء للمفعول يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ: وَعْدَهُ بِالْبَعْثِ، وَالنُّشُورِ، وَالْحِسَابِ، وَالْعِقَابِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، كَمَا أُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بِزُخْرُفِهَا وَنَعِيمِهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: غُرُورُ الْحَيَاةِ الدنيا تُرْجَعُ الْأُمُورُ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بِزُخْرُفِهَا وَنَعِيمِهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: غُرُورُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنْ يَشْتَغِلَ الْإِنْسَانُ بِنَعِيمِهَا وَلَذَّاتِهَا عَنْ عمل الآخرة حتى يقول: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي «1» وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ

_ (1) . الفجر: 24.

قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ، أَيْ: الْمُبَالِغُ فِي الْغُرُورِ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ وَأَبُو حَاتِمٍ: الْغَرُورُ الشَّيْطَانُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَاسْتَبْعَدَهُ الزَّجَّاجُ، لِأَنَّ غَرَّرَ بِهِ مُتَعَدٍّ، وَمَصْدَرُ المتعدي إنما هو على فعل نحو ضربته ضَرْبًا، إِلَّا فِي أَشْيَاءَ يَسِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَغُرَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ بِاللَّهِ فَيَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنْكُمْ، وَيَغْفِرُ لَكُمْ لِفَضْلِكُمْ، أَوْ لِسَعَةِ رَحْمَتِهِ لَكُمْ. وقرأ أبو حيوة، وأبو سماك، ومحمّد بن السميقع بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهُوَ الْبَاطِلُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَالْغُرُورُ بِالضَّمِّ: مَا يَغُرُّ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغُرُورُ جَمْعَ غَارٍّ، مِثْلَ قَاعِدٍ وَقُعُودٍ، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ غَرَّهُ كَاللُّزُومِ وَالنُّهُوكِ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الزَّجَّاجِ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ. ثُمَّ حَذَّرَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أَيْ: فَعَادُوهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا تُطِيعُوهُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ. ثُمَّ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ كَيْفِيَّةَ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ فَقَالَ: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ أَيْ: إِنَّمَا يَدْعُو أَشْيَاعَهُ، وَأَتْبَاعَهُ، وَالْمُطِيعِينَ لَهُ إِلَى مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَمَحَلُّ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ الرفع على الابتداء، ولهم عَذَابٌ شَدِيدٌ: خَبَرُهُ، أَوِ الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ فَاعِلِ يَكُونُوا، أَوِ النَّصْبُ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ حِزْبَهُ، أَوِ النَّعْتِ لَهُ، أَوْ إِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الذَّمِّ، وَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ من أصحاب، أو النعت له. وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَقْوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذِكْرِ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ وَدُعَائِهِ لِحِزْبِهِ ذَكَرَ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُطِيعِينَ لَهُ، وَالْعَاصِينَ عَلَيْهِ فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ قَالَ: «لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ» وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ قَالَ فِيهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أَيْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيُعْطِيهِمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَهُوَ الْجَنَّةُ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَ «مَنْ» : فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: مَحْذُوفٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَالتَّقْدِيرُ ذَهَبَتْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ قَالَ: وَهَذَا كَلَامٌ عَرَبِيٌّ ظَرِيفٌ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ كَمَنْ هَدَاهُ، وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُمَا كَمَنْ لَمْ يُزَيَّنْ لَهُ، وَهَذَا أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَقَدْ وَهَمَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، فَحَكَى عَنِ الزَّجَّاجِ مَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالَّذِي قَالَهُ الْكِسَائِيُّ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ، لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ شِدَّةِ الِاغْتِمَامِ بِهِمْ، وَالْحُزْنِ عَلَيْهِمْ كما قال: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ «1» وَجُمْلَةُ: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُضِلَّهُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ أَنْ يَهْدِيَهُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْهَاءِ مُسْنَدًا إِلَى النَّفْسِ، فَتَكُونُ مِنْ بَابِ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْأَشْهَبُ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَنَصْبِ «نَفْسَكَ» وَانْتِصَابِ «حَسَرَاتٍ» عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ: أَيْ لِلْحَسَرَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهَا صَارَتْ كُلُّهَا حَسَرَاتٍ لِفَرْطِ التَّحَسُّرِ كَمَا رُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّهَا تَمْيِيزٌ. وَالْحَسْرَةُ شِدَّةُ الْحُزْنِ عَلَى مَا فَاتَ مِنَ الْأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ لا يخفى

_ (1) . الكهف: 6.

[سورة فاطر (35) : الآيات 9 إلى 14]

عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ خَافِيَةٌ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مَعَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ لا أدري ما فاطر السموات وَالْأَرْضَ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، يَقُولُ: ابِتْدَأْتُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فاطِرِ السَّماواتِ بديع السموات. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ قَالَ: الصَّوْتُ الْحَسَنُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ الْآيَةَ قَالَ: مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ بَابِ تَوْبَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها هم يتوبون إن شاؤوا وإن أَبَوْا، وَمَا أَمْسَكَ مِنْ بَابِ تَوْبَةٍ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُمْ لَا يَتُوبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ: فَهُوَ الْجَنَّةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ قَالَ: الشَّيْطَانُ زَيَّنَ لَهُمْ هِيَ وَاللَّهِ الضَّلَالَاتُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي: لا تحزن عليهم. [سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 14] وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ بَدِيعِ صُنْعِهِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، لِيَتَفَكَّرُوا فِي ذَلِكَ وَلِيَعْتَبِرُوا بِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرِّيَاحَ، وَقَرَأَ ابْنُ كثير، وابن محيصن، والأعمش، ويحيى ابن وَثَّابٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «الرِّيحَ» بِالْإِفْرَادِ فَتُثِيرُ سَحاباً جَاءَ بِالْمُضَارِعِ بَعْدَ الْمَاضِي اسْتِحْضَارًا لِلصُّورَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْخَلُ فِي اعْتِبَارِ الْمُعْتَبِرِينَ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا: تُثِيرُ السَّحَابَ أَنَّهَا تُزْعِجُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سبيله فنسوقه، لِأَنَّهُ قَالَ: فَتُثِيرُ سَحَابًا. قِيلَ النُّكْتَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِالْمَاضِيَيْنِ بَعْدَ الْمُضَارِعِ: الدَّلَالَةُ عَلَى التَّحَقُّقِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: مَيْتٌ وَمَيِّتٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَنْشَدَ:

لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ «1» فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ أَيْ: أَحْيَيْنَا بِالْمَطَرِ الْأَرْضَ بِإِنْبَاتٍ مَا يَنْبُتُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْمَطَرِ فَالسَّحَابُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ أَحْيَيْنَا بِالسَّحَابِ، لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَطَرِ بَعْدَ مَوْتِها أَيْ: بَعْدَ يُبْسِهَا، اسْتَعَارَ الْإِحْيَاءَ لِلنَّبَاتِ وَالْمَوْتَ لِلْيُبْسِ كَذلِكَ النُّشُورُ أَيْ: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْعِبَادَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ كَمَا أَحْيَا الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَالنُّشُورُ: الْبَعْثُ، مِنْ نَشَرَ الْإِنْسَانَ نُشُورًا، وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، أَيْ: مِثْلُ إِحْيَاءِ مَوَاتِ الْأَرْضِ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ، فَكَيْفَ تُنْكِرُونَهُ وَقَدْ شَاهَدْتُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ مَا هو مثله وشبيه بِهِ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ قَالَ الْفَرَّاءُ: معناه من كان يريد عَلِمَ الْعِزَّةَ لِمَنْ هِيَ؟ فَإِنَّهَا لِلَّهِ جَمِيعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلْيَتَعَزَّزْ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَجَعَلَ مَعْنَى فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ: الدُّعَاءَ إِلَى طَاعَةِ مَنْ لَهُ الْعِزَّةُ، كَمَا يُقَالُ مَنْ أَرَادَ الْمَالَ فَالْمَالُ لِفُلَانٍ، أَيْ: فَلْيَطْلُبْهُ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ مَنْ كَانَ يريد بعباده الْعِزَّةَ، وَالْعِزَّةُ لَهُ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعِزُّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ: كَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا «2» وَقِيلَ الْمُرَادُ: الَّذِينَ كَانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِهِمْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ «3» الْآيَةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أَيْ: فَلْيَطْلُبْهَا مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَالظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أن من كان يريد العزّة ويطلبها مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا، لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْهَا شَيْءٌ، فَتَشْمَلُ الْآيَةُ كُلَّ مَنْ طَلَبَ الْعِزَّةَ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهَا التَّنْبِيهَ لِذَوِي الْأَقْدَارِ وَالْهِمَمِ مِنْ أَيْنَ تُنَالُ الْعِزَّةُ، وَمِنْ أَيِّ جِهَةٍ تُطْلَبُ؟ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أَيْ: إِلَى اللَّهِ يَصْعَدُ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَمَعْنَى صُعُودِهِ إِلَيْهِ: قَبُولُهُ لَهُ، أَوْ صُعُودُ الْكَتَبَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِمَا يَكْتُبُونَهُ مِنَ الصُّحُفِ، وَخَصَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ بِالذِّكْرِ لِبَيَانِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ كلام يتصف بكونه طيبا من ذكر الله، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَتِلَاوَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، أَوْ بِالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِصُعُودِهِ: صُعُودُهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِصُعُودِهِ: عِلْمُ اللَّهِ بِهِ، وَمَعْنَى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ إِلَّا مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقِيلَ إِنَّ فَاعِلَ يَرْفَعُهُ: هُوَ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، وَمَفْعُولَهُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ. وَقِيلَ: إِنَّ فَاعِلَ يَرْفَعُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ عَلَى الْكَلِمِ الطَّيِّبِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ يُحَقِّقُ الْكَلَامَ. وَقِيلَ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الْعِزَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لِصَاحِبِهِ، أَيْ: يَقْبَلُهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ عَلَى هَذَا: مُبْتَدَأً، خَبَرُهُ: يَرْفَعُهُ، وَكَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: يَرْفَعُ صَاحِبَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَصْعَدُ» مِنْ صَعِدَ الثلاثي. «والكلم الطَّيِّبُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ «يُصْعَدُ» بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ مِنْ أَصْعَدَ، «وَالْكَلِمَ الطَّيِّبَ» بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ على البناء للمفعول،

_ (1) . البيت لعدي بن الرعلاء. (2) . مريم: 81. (3) . النساء: 39.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «الْكَلِمُ» وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ «الْكَلَامُ» وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ انْتِصَابُ السَّيِّئَاتِ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يَمْكُرُونَ الْمَكْرَاتِ السَّيِّئَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ «مَكَرَ» لَازِمٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ يَمْكُرُونَ: مَعْنَى يَكْسِبُونَ، فَتَكُونُ السَّيِّئَاتُ مَفْعُولًا بِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ هُمْ أَهْلُ الرِّيَاءِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُمُ الَّذِينَ مكروا بالنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَمَّا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَمَعْنَى: لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لَهُمْ عَذَابٌ بَالِغُ الْغَايَةِ فِي الشِّدَّةِ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أَيْ: يَبْطُلُ وَيَهْلِكُ، ومنه وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً وَالْمَكْرُ فِي الْأَصْلِ: الْخَدِيعَةُ وَالِاحْتِيَالُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِلَى الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ مَكْرِهِمْ، وَجُمْلَةُ: هُوَ يَبُورُ خَبَرُ مَكْرُ أُولَئِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَقَالَ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أَيْ: خَلَقَكُمُ ابْتِدَاءً فِي ضِمْنِ خَلْقِ أَبِيكُمْ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي آدَمَ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: خَلَقَ أَبَاكُمُ الْأَوَّلَ، وَأَصْلَكُمُ الَّذِي تَرْجِعُونَ إِلَيْهِ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أَخْرَجَهَا مِنْ ظَهْرِ آبَائِكُمْ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أَيْ: زَوَّجَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، فَالذَّكَرُ زَوْجُ الْأُنْثَى، أَوْ جَعَلَكُمْ أَصْنَافًا ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أَيْ: لَا يَكُونُ حَمْلٌ وَلَا وَضْعٌ إِلَّا وَاللَّهُ عَالِمٌ بِهِ، فَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ عِلْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ أَيْ: مَا يُطَوَّلُ عُمُرُ أَحَدٍ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ، أَيْ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ آخَرَ غَيْرَ الْأَوَّلِ، فَكَنَّى عَنْهُ بِالضَّمِيرِ كَأَنَّهُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ لَفْظَ الثَّانِي لَوْ ظَهَرَ كَانَ كَالْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ مُعَمَّرٍ، فَالْكِنَايَةُ فِي عُمُرِهِ تَرْجِعُ إِلَى آخَرَ غَيْرِ الْأَوَّلِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُكَ عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ: أَيْ نِصْفٌ آخَرُ. قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ مُعَمَّرًا بِاعْتِبَارِ مَصِيرِهِ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا يُمَدُّ فِي عُمُرِ أَحَدٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ أَحَدٍ، لَكِنْ لَا عَلَى مَعْنَى لَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ بَعْدَ كَوْنِهِ زَائِدًا، بَلْ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ مِنَ الِابْتِدَاءِ نَاقِصًا إِلَّا وَهُوَ فِي كِتَابٍ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ إِلَّا كُتِبَ عُمُرُهُ: كَمْ هُوَ سَنَةً، كَمْ هُوَ شَهْرًا، كَمْ هُوَ يَوْمًا، كَمْ هُوَ سَاعَةً، ثُمَّ يُكْتَبُ فِي كِتَابٍ آخَرَ نُقِصَ مِنْ عُمُرِهِ سَاعَةٌ، نُقِصَ مِنْ عُمُرِهِ يَوْمٌ، نُقِصَ مِنْ عُمُرِهِ شَهْرٌ، نُقِصَ مِنْ عُمُرِهِ سَنَةٌ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ أَجَلَهُ، فَمَا مَضَى مِنْ أَجَلِهِ فَهُوَ النُّقْصَانُ، وَمَا يُسْتَقْبَلُ، هو الَّذِي يُعَمَّرُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُعَمَّرُ مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، وَالْمَنْقُوصُ مِنْ عُمُرِهِ مَنْ يَمُوتُ قَبْلَ سِتِّينَ سَنَةً. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عُمُرَ الْإِنْسَانِ كَذَا إِنْ أَطَاعَ، وَدَوَّنَهُ إِنْ عَصَى فَأَيُّهَمَا بَلَغَ فَهُوَ فِي كِتَابٍ، وَالضَّمِيرُ عَلَى هَذَا يَرْجِعُ إِلَى مُعَمَّرٍ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ إِلَى الْهَرَمِ، وَلَا يُنْقَصُ آخَرُ مِنْ عُمُرِ الْهَرَمِ إِلَّا فِي كِتَابٍ، أَيْ: بِقَضَاءِ اللَّهِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. قَالَ: وَهُوَ أَشْبَهُهَا بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ ظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ أَنَّ تَطْوِيلَ الْعُمُرِ وَتَقْصِيرَهُ: هُمَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ لِأَسْبَابٍ تَقْتَضِي التَّطْوِيلَ، وَأَسْبَابٍ تَقْتَضِي التَّقْصِيرَ. فَمِنْ أَسْبَابِ التَّطْوِيلِ: مَا وَرَدَ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ عن النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْ أَسْبَابِ التَّقْصِيرِ الِاسْتِكْثَارُ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا كَانَ الْعُمُرُ الْمَضْرُوبُ لِلرَّجُلِ مَثَلًا سَبْعِينَ سَنَةً، فَقَدْ يَزِيدُ اللَّهُ لَهُ عَلَيْهَا إِذَا فَعَلَ

أَسْبَابَ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ يُنْقِصُهُ مِنْهَا إِذَا فَعَلَ أَسْبَابَ النُّقْصَانِ، وَالْكُلُّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ فَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «1» وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا يَزِيدُ مَا ذَكَرْنَا هُنَا وُضُوحًا وَبَيَانًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُنْقَصُ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَسَلَّامٌ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو «يَنْقُصُ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «مِنْ عُمُرِهِ» بِضَمِّ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَالزُّهْرِيُّ بِسُكُونِهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْخَلْقِ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لا يصعب عليه منه شَيْءٍ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ كَثِيرٌ وَلَا قَلِيلٌ، وَلَا كَبِيرٌ وَلَا صَغِيرٌ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ بَدِيعِ صُنْعِهِ، وَعَجِيبِ قُدْرَتِهِ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ فالمراد بالبحران الْعَذْبُ وَالْمَالِحُ، فَالْعَذْبُ الْفُرَاتُ الْحُلْوُ، وَالْأُجَاجُ الْمُرُّ، وَالْمُرَادُ بِ سائِغٌ شَرابُهُ الَّذِي يَسْهُلُ انْحِدَارُهُ فِي الْحَلْقِ لِعُذُوبَتِهِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ «سَيِّغٌ» بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَرُوِيَ تَسْكِينُهَا عَنْهُ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَأَبُو نَهْيِكٍ «مَلْحٌ» بِفَتْحِ الْمِيمِ «وَمِنْ كُلٍّ» مِنْهُمَا تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَهُوَ مَا يُصَادُ مِنْهُمَا مِنْ حَيَوَانَاتِهِمَا الَّتِي تُؤْكَلُ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها الظاهر أن المعنى: وتستخرجون منهما حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّمَا تُسْتَخْرَجُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمَالِحِ، وَرُوِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا تُسْتَخْرَجُ الْحِلْيَةُ مِنْهُمَا إِذَا اخْتَلَطَا، لَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَرَجَّحَ النَّحَّاسُ قَوْلَ الْمُبَرِّدِ. وَمَعْنَى تَلْبَسُونَها تَلْبَسُونَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا بِحَسَبِهِ، كَالْخَاتَمِ فِي الْأُصْبُعِ، وَالسُّوَارِ فِي الذِّرَاعِ، وَالْقِلَادَةِ فِي الْعُنُقِ، وَالْخَلْخَالِ فِي الرِّجْلِ، وَمِمَّا يُلْبَسُ حِلْيَةُ السِّلَاحِ الَّذِي يُحْمَلُ كَالسَّيْفِ وَالدِّرْعِ وَنَحْوِهِمَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ أَيْ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْمَاءِ الْمَالِحِ خَاصَّةً، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: فِيهِمَا مَواخِرَ يُقَالُ مَخَرَتِ السَّفِينَةُ تَمْخُرُ: إِذَا شَقَّتِ الْمَاءَ. فَالْمَعْنَى: وَتَرَى السُّفُنَ فِي الْبَحْرَيْنِ شَوَاقَّ لِلْمَاءِ بَعْضُهَا مُقْبِلَةٌ، وَبَعْضُهَا مُدْبِرَةٌ بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ، وَاللَّامُ فِي لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، أَيْ: فَعَلَ ذَلِكَ لِتَبْتَغُوا أَوْ بِمَوَاخِرَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: ابْتِغَاءُ الْفَضْلِ هُوَ التِّجَارَةُ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْبُلْدَانِ الْبَعِيدَةِ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ ضَرْبُ الْمَثَلِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، فَكَمَا لَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَلَا الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أَيْ: يُضِيفُ بَعْضَ أَجْزَائِهِمَا إِلَى بَعْضٍ، فَيَزِيدُ فِي أَحَدِهِمَا بِالنَّقْصِ فِي الْآخَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى قَدَّرَهُ اللَّهُ لِجَرَيَانِهِمَا، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُدَّةُ الَّتِي يَقْطَعَانِ فِي مِثْلِهَا الْفَلَكَ، وَهُوَ سَنَةٌ: لِلشَّمْسِ، وَشَهْرٌ: لِلْقَمَرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ جَرْيُ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ، وَالْقَمَرِ فِي اللَّيْلَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمُ إِلَى الْفَاعِلِ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، واسم

_ (1) . الأعراف: 34. [.....] (2) . الرعد: 39.

الْإِشَارَةِ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ أَيْ: هَذَا الَّذِي مِنْ صَنْعَتِهِ مَا تَقَدَّمَ: هُوَ الْخَالِقُ الْمُقَدِّرُ، وَالْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الْمَالِكُ لِلْعَالَمِ، وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَهُ الْمُلْكُ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى خَلْقِهِ، وَالْقِطْمِيرُ: الْقِشْرَةُ الرَّقِيقَةُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ التَّمْرَةِ وَالنَّوَاةِ، وَتَصِيرُ عَلَى النَّوَاةِ كَاللِّفَافَةِ لَهَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ شِقُّ النَّوَاةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْقِمْعُ الَّذِي عَلَى رَأْسِ النَّوَاةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ هِيَ النُّكْتَةُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ تَنْبُتُ مِنْهَا النَّخْلَةُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ فَقَالَ: إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ أَيْ إِنْ تَسْتَغِيثُوا بِهِمْ فِي النَّوَائِبِ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ، لِكَوْنِهَا جَمَادَاتٍ لَا تُدْرِكُ شَيْئًا مِنَ الْمُدْرَكَاتِ وَلَوْ سَمِعُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرِ مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لِعَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى وَلَوْ سَمِعُوا لَمْ يَنْفَعُوكُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ جَعَلْنَا لَهُمْ سَمَاعًا وَحَيَاةً فَسَمِعُوا دُعَاءَكُمْ لَكَانُوا أَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْكُمْ وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِلَى مَا دَعَوْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي: يتبرؤون من عبادتكم لهم، ويقولون: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى مَنْ يَعْقِلُ مِمَّنْ عَبَدَهُمُ الْكُفَّارُ، وَهُمُ: الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ أَنْ يَكُونَ مَا فَعَلْتُمُوهُ حَقًّا، وَيُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ أَمَرُوكُمْ بِعِبَادَتِهِمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أَيْ: لَا يُخْبِرُكَ مِثْلُ مَنْ هُوَ خَبِيرٌ بِالْأَشْيَاءِ عَالِمٌ بِهَا، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ لَا أَحَدَ أَخْبَرُ بِخَلْقِهِ وَأَقْوَالِهِمْ، وَأَفْعَالِهِمْ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الْخَبِيرُ بِكُنْهِ الْأُمُورِ وَحَقَائِقِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَقُومُ مَلَكٌ بِالصُّورِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَيَنْفُخُ فِيهِ، فَلَا يبقى خلق لله في السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَّا مَاتَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مَنِيًّا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ، فَتَنْبُتُ أَجْسَامُهُمْ وَلُحُومُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ كَمَا تَنْبُتُ الْأَرْضُ مِنَ الثَّرَى، ثُمَّ قرأ عبد الله اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّيَالِسِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى؟ قَالَ: «أَمَا مَرَرْتَ بِأَرْضٍ مُجْدِبَةٍ، ثُمَّ مررت بها مخضبة تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَكَذَلِكَ النُّشُورُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا حَدَّثْنَاكُمْ بِحَدِيثٍ أَتَيْنَاكُمْ بِتَصْدِيقِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ إِذَا قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَتَبَارَكَ اللَّهُ، قَبَضَ عَلَيْهِنَّ مَلَكٌ يَضُمُّهُنَّ تَحْتَ جَنَاحِهِ، ثُمَّ يَصْعَدُ بِهِنَّ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَا يَمُرُّ بِهِنَّ عَلَى جَمْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا اسْتَغْفَرَ لِقَائِلِهِنَّ حَتَّى يَجِيءَ بِهِنَّ وَجْهُ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ قَرَأَ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قَالَ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ، فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ فِي أَدَاءِ فَرَائِضِهِ حَمَلَ عَمَلُهُ ذِكْرَ اللَّهِ فَصَعِدَ بِهِ إِلَى اللَّهِ، وَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يُؤَدِّ فَرَائِضَهُ رُدَّ كَلَامُهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَكَانَ عَمَلُهُ أَوْلَى بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ الْآيَةَ قَالَ: يَقُولُ لَيْسَ أَحَدٌ قَضَيْتُ لَهُ طُولَ الْعُمُرِ والحياة

[سورة فاطر (35) : الآيات 15 إلى 26]

إِلَّا وَهُوَ بَالِغٌ مَا قَدَّرْتُ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ، وَقَدْ قَضَيْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يَنْتَهِي إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي قَدَّرْتُ لَهُ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ قَضَيْتُ لَهُ أَنَّهُ قَصِيرُ الْعُمُرِ وَالْحَيَاةِ بِبَالِغٍ الْعُمُرَ، وَلَكِنْ يَنْتَهِي إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي كُتِبَ لَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ يَقُولُ: كُلُّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ وَيُكْتَبَانِ، ثُمَّ يَكْتُبُ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَأَثَرَهُ وَمُصِيبَتَهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي النَّبِيِّ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّكِ سَأَلْتِ اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، وَلَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ» وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُخَصَّصَةٌ بِمَا وَرَدَ مِنْ قَبُولِ الدُّعَاءِ، وَأَنَّهُ يَعْتَلِجُ هُوَ وَالْقَضَاءُ، وَبِمَا وَرَدَ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ أَنَّهَا تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ قَالَ: الْقِطْمِيرُ الْقِشْرُ، وَفِي لَفْظٍ: الجلد الذي يكون على ظهر النواة. [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 26] يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ افْتِقَارَ خَلْقِهِ إِلَيْهِ، ومزيد حاجتهم إلى فضله، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ أَيِ: الْمُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ والدنيا، فهم الفقراء إليه على الإطلاق وهُوَ الْغَنِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْحَمِيدُ أَيِ: الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ مِنْ عِبَادِهِ بِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ عِنْدَهَا افْتِقَارُهُمْ إِلَيْهِ، وَاسْتِغْنَاؤُهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ أَيْ: إِنْ يَشَأْ يُفْنِكُمْ وَيَأْتِ بَدَلَكُمْ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يُطِيعُونَهُ وَلَا يَعْصُونَهُ، أَوْ يَأْتِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ، وَعَالَمٍ مِنَ الْعَالَمِ غَيْرِ مَا تَعْرِفُونَ وَما ذلِكَ الإذهاب لَكُمْ وَالْإِتْيَانُ بِآخَرِينَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أَيْ: بِمُمْتَنِعٍ وَلَا مُتَعَسِّرٍ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ: نَفْسٌ وَازِرَةٌ فَحَذَفَ

الْمَوْصُوفَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَمَعْنَى تَزِرُ: تَحْمِلُ. وَالْمَعْنَى: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حِمْلَ نَفْسٍ أُخْرَى، أَيْ: إِثْمَهَا بَلْ كُلُّ نَفْسٍ تَحْمِلُ وِزْرَهَا، وَلَا تُخَالِفُ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلَهُ: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «1» لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا حَمَلُوا أَثْقَالَ إِضْلَالِهِمْ مَعَ أَثْقَالِ ضَلَالِهِمْ، وَالْكُلُّ مِنْ أَوْزَارِهِمْ، لَا مِنْ أَوْزَارِ غَيْرِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا حَدِيثُ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَإِنَّ الَّذِي سَنَّ السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ إِنَّمَا حَمَلَ وِزْرَ سُنَّتِهِ السَّيِّئَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ نَفْسٌ مُثْقَلَةٌ، قَالَ: وَهَذَا يَقَعُ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. قال الأخفش: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِنْسَانًا إِلَى حِمْلِهَا، وَهُوَ ذُنُوبُهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ أَيْ: مِنْ حِمْلِهَا شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيْ: وَلَوْ كَانَ الَّذِي تَدْعُوهُ ذَا قَرَابَةً لَهَا، لَمْ يَحْمِلْ مِنْ حِمْلِهَا شَيْئًا: وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَإِنْ تَدْعُ نَفْسٌ مُثْقَلَةٌ بِالذُّنُوبِ نَفْسًا أُخْرَى إِلَى حِمْلِ شَيْءٍ مِنْ ذُنُوبِهَا مَعَهَا لَمْ تَحْمِلْ تِلْكَ الْمَدْعُوَّةُ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً لَهَا فِي النَّسَبِ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهَا مِمَّا لَا قَرَابَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّاعِيَةِ لَهَا؟ وَقُرِئَ «ذُو قُرْبَى» عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، كقوله: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ «2» وَجُمْلَةُ إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَنْ يَتَّعِظُ بِالْإِنْذَارِ، وَمَعْنَى يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أنه يَخْشَوْنَهُ حَالَ كَوْنِهِمْ غَائِبِينَ عَنْ عَذَابِهِ أَوْ يَخْشَوْنَ عَذَابَهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُمْ، أَوْ يَخْشَوْنَهُ فِي الْخَلَوَاتِ عَنِ النَّاسِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّ إِنْذَارَكَ إِنَّمَا يَنْفَعُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، فَكَأَنَّكَ تُنْذِرُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِنْذَارُ، كَقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «3» وَقَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ «4» وَمَعْنَى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ أَنَّهُمُ احْتَفَلُوا بِأَمْرِهَا، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا عَنْهَا بِشَيْءٍ مِمَّا يُلْهِيهِمْ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ التَّزَكِّي: التَّطَهُّرُ مِنْ أَدْنَاسِ الشِّرْكِ وَالْفَوَاحِشِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ تَطَهَّرَ بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَاسْتَكْثَرَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّمَا يَتَطَهَّرُ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِ، كَمَا أَنَّ وِزْرَ مَنْ تَدَنَّسَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَمَنْ تزكّى فإنّما يتزكّى» وقرأ أبو عمرو «فإنّما يَزَّكَّى» بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَطَلْحَةُ «وَمَنِ ازَّكَّى فَإِنَّمَا يَزَّكَّى» وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ لَا إِلَى غَيْرِهِ، ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا أَنَّ الْمُذْنِبَ إِنْ دَعَا غَيْرَهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِ إِلَى حَمْلِ شَيْءٍ مِنْ ذُنُوبِهِ لَا يَحْمِلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَالِثًا أَنَّ ثَوَابَ الطَّاعَةِ مُخْتَصٌّ بِفَاعِلِهَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى أَيِ: الْمَسْلُوبُ حَاسَّةَ الْبَصَرِ وَالْبَصِيرُ الَّذِي لَهُ مَلَكَةُ الْبَصَرِ، فَشَبَّهَ الْكَافِرَ بِالْأَعْمَى، وَشَبَّهَ الْمُؤْمِنَ بِالْبَصِيرِ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ أَيْ: وَلَا تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ، فَشَبَّهَ الْبَاطِلَ بِالظُّلُمَاتِ، وَشَبَّهَ الْحَقَّ بِالنُّورِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَلَا فِي قَوْلِهِ: «وَلَا النُّورُ، وَلَا الْحَرُورُ» زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَالْحَرُورُ، وَالْحَرُورُ: شِدَّةُ حَرِّ الشَّمْسِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَالْحَرُورُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ شَمْسِ النَّهَارِ، وَالسَّمُومِ يَكُونُ بِاللَّيْلِ، وَقِيلَ عَكْسُهُ. وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ: الْحَرُورُ يَكُونُ بِاللَّيْلِ خَاصَّةً، وَالسَّمُومُ يَكُونُ بِالنَّهَارِ خَاصَّةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: السَّمُومُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنَّهَارِ، وَالْحَرُورُ يَكُونُ فِيهِمَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَصَحُّ. وقال قطرب: الحرور الحرّ، والظلّ البرد،

_ (1) . العنكبوت: 13. (2) . البقرة: 280. (3) . النازعات: 45. (4) . يس: 11.

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي الظِّلُّ الَّذِي لَا حَرَّ فِيهِ وَلَا أَذًى، وَالْحَرُّ الَّذِي يُؤْذِي. قِيلَ: أَرَادَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَسُمِّيَ الْحَرُّ حَرُورًا مُبَالَغَةً فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى: وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَرَادَ بِالظِّلِّ: الْجَنَّةَ، وَبِالْحَرُورِ: النَّارَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي ظِلَّ اللَّيْلِ، وَشَمْسَ النَّهَارِ. قِيلَ: وَإِنَّمَا جَمَعَ الظُّلُمَاتِ، وَأَفْرَدَ النُّورَ، لِتَعَدُّدِ فُنُونِ الْبَاطِلِ، وَاتِّحَادِ الْحَقِّ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَمْثِيلًا آخَرَ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ فَشَبَّهَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَحْيَاءِ، وَشَبَّهَ الْكَافِرِينَ بِالْأَمْوَاتِ، وَقِيلَ: أَرَادَ تَمْثِيلَ الْعُلَمَاءِ وَالْجَهَلَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْأَحْيَاءُ: الْعُقَلَاءُ، وَالْأَمْوَاتُ: الْجُهَّالُ. قَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ كُلُّهَا أَمْثَالٌ: أَيْ كَمَا لَا تَسْتَوِي هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أَنْ يُسْمِعَهُ مِنْ أوليائه الذين خَلَقَهُمْ لِجَنَّتِهِ وَوَفَّقَهُمْ لِطَاعَتِهِ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ يَعْنِي: الْكُفَّارَ الَّذِينَ أَمَاتَ الْكُفْرُ قُلُوبَهُمْ، أَيْ: كَمَا لَا تُسْمِعُ مَنْ مَاتَ كَذَلِكَ لَا تُسْمِعُ مَنْ مَاتَ قَلْبُهُ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ «مُسْمِعٍ» وَقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ بإضافة إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أَيْ: مَا أَنْتَ إلا رسول منذر ليس عليه إِلَّا الْإِنْذَارُ وَالتَّبْلِيغُ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالَةُ بِيَدِ اللَّهِ عزّ وجلّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ يجوز أَنْ يَكُونَ بِالْحَقِّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ: مُحِقِّينَ، أَوْ مِنَ المفعول، أي: محقا، أو: نعت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِرْسَالًا مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، أَوْ هو متعلق ببشيرا، أَيْ: بَشِيرًا بِالْوَعْدِ الْحَقِّ، وَنَذِيرًا بِالْوَعْدِ الْحَقِّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ، وَيَكُونَ مَعْنَى بَشِيرًا: بَشِيرًا لِأَهْلِ الطَّاعَةِ، وَنَذِيرًا لِأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أَيْ: مَا مِنْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ إِلَّا مَضَى فِيهَا نَذِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُنْذِرُهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ النَّذِيرِ دُونَ الْبَشِيرِ، لِأَنَّهُ أَلْصَقُ بِالْمَقَامِ، ثُمَّ سَلَّى نَبِيَّهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَزَّاهُ، فَقَالَ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: كَذَّبَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَنْبِيَاءَهُمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ: بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةِ، وَالدَّلَالَاتِ الظَّاهِرَةِ وَبِالزُّبُرِ أَيِ: الْكُتُبِ الْمَكْتُوبَةِ كَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، قِيلَ: الْكِتَابُ الْمُنِيرُ دَاخِلٌ تَحْتَ الزُّبُرِ وتحت البينات، والعطف لتغاير المفهومات، وإن كنت مُتَّحِدَةً فِي الصِّدْقِ، وَالْأَوْلَى تَخْصِيصُ الْبَيِّنَاتِ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَالزُّبُرِ بِالْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا مَوَاعِظُ، وَالْكِتَابُ بِمَا فِيهِ شَرَائِعُ وَأَحْكَامٌ، ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ يُفِيدُ التَّصْرِيحَ بِذَمِّهِمْ بِمَا فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، وَيُشْعِرُ بِعِلَّةِ الْأَخْذِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَيْ: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِي عَلَيْهِمْ وَعُقُوبَتِي لَهُمْ، وَقَرَأَ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وشيبة بإثبات الياء في «نكير» وصلا لا وَقْفًا، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ مَعْنَى هَذَا قَرِيبًا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ «أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، لَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ» وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي رَمْثَةَ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي نَحْوَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ قَالَ لِأَبِي: ابْنُكَ هَذَا؟ قَالَ: أَيْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: أَمَا أَنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى

[سورة فاطر (35) : الآيات 27 إلى 35]

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ: يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ لَا يَجِدُ أَحَدًا يَحْمِلُ عنه من وزره شيئا. [سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 35] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ، وَخَلْقًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الْبَدِيعَةِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ هِيَ الْقَلْبِيَّةُ: أَيْ أَلَمْ تَعْلَمْ، وَأَنَّ وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ فَأَخْرَجْنا بِهِ أَيْ: بِالْمَاءِ، وَالنُّكْتَةُ فِي هَذَا الِالْتِفَاتِ إِظْهَارُ كَمَالِ الْعِنَايَةِ بِالْفِعْلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصُّنْعِ الْبَدِيعِ، وَانْتِصَابُ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها عَلَى الْوَصْفِ لِثَمَرَاتٍ، وَالْمُرَادُ بِالْأَلْوَانِ: الْأَجْنَاسُ وَالْأَصْنَافُ، أَيْ: بَعْضُهَا أَبْيَضُ، وَبَعْضُهَا أَحْمَرُ، وَبَعْضُهَا أَصْفَرُ، وَبَعْضُهَا أَخْضَرُ، وَبَعْضُهَا أَسْوَدُ وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ الْجُدَدُ جُمَعُ جُدَّةٍ، وَهِيَ الطَّرِيقُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَلَوْ كَانَ جَمْعَ جَدِيدٍ لَقَالَ جُدُدٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ، نَحْوَ سَرِيرٍ وَسُرُرٍ. قَالَ زُهَيْرٌ: كَأَنَّهُ أَسْفَعُ الْخَدَّيْنِ ذُو جدد ... طاو ويرتع بعد الصّيف عريانا وَقِيلَ: الْجُدُدُ الْقِطَعُ، مَأْخُوذٌ مِنْ جَدَدْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعْتَهُ، حَكَاهُ ابْنُ بَحْرٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجُدَّةُ: الْخِطَّةُ الَّتِي فِي ظَهْرِ الْحِمَارِ تُخَالِفُ لَوْنَهُ، وَالْجُدَّةُ: الطَّرِيقَةُ، وَالْجَمْعُ: جُدَدٌ وَجَدَائِدُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ: جَوْنُ السَّرَاةِ لَهُ جَدَائِدُ أَرْبَعُ «1» قَالَ الْمُبَرِّدُ: جُدُدٌ: طَرَائِقُ وَخُطُوطٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَنَحْوَ هَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْجُدُدِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ الطُّرُقُ تَكُونُ فِي الْجِبَالِ كَالْعُرُوقِ بِيضٌ وَسُودٌ وَحُمْرٌ وَاحِدُهَا جدة. والمعنى: أن الله سبحانه أخبر

_ (1) . وصدر البيت: والدّهر لا يبقى على حدثانه.

عَنْ جُدُدِ الْجِبَالِ، وَهِيَ طَرَائِقُهَا، أَوِ الْخُطُوطُ الَّتِي فِيهَا بِأَنَّ لَوْنَ بَعْضِهَا الْبَيَاضُ وَلَوْنَ بَعْضِهَا الْحُمْرَةُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها قَرَأَ الْجُمْهُورُ «جُدَدٌ» بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الدَّالِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ بِضَمِّهِمَا جَمْعَ جَدِيدَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِهِمَا وَرَدَّهَا أَبُو حَاتِمٍ وَصَحَّحَهَا غَيْرُهُ وَقَالَ: الْجُدُدُ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الْبَيِّنُ وَغَرابِيبُ سُودٌ الْغِرْبِيبُ: الشَّدِيدُ السَّوَادِ الَّذِي يُشْبِهُ لَوْنُهُ لَوْنَ الْغُرَابِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: تَقُولُ هَذَا أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ: أَيْ شَدِيدُ السَّوَادِ، وَإِذَا قُلْتَ غَرَابِيبُ سُودٌ جَعَلْتَ السُّودَ بَدَلًا مِنْ غَرَابِيبَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وتقديره: وَسُودٌ غَرَابِيبُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ، وَقَلَّ مَا يُقَالُ غِرْبِيبُ أَسْوَدُ، وَقَوْلُهُ: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها صفة لجدد، وَقَوْلُهُ: وَغَرابِيبُ مَعْطُوفٌ عَلَى جُدَدٌ عَلَى مَعْنَى: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ، وَمِنَ الْجِبَالِ غَرَابِيبُ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ السَّوَادُ، أَوْ عَلَى حُمْرٌ، عَلَى مَعْنَى: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ وَسُودٌ. وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى بِيضٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ قَبْلَ جُدَدٌ، أَيْ: وَمِنَ الْجِبَالِ ذُو جُدَدٍ، لِأَنَّ الجدد إنما هي أَلْوَانِ بَعْضِهَا وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ قَوْلُهُ مُخْتَلِفٌ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَمِنْهُمْ صِنْفٌ، أَوْ نَوْعٌ أَوْ بَعْضٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ بِالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالْخُضْرَةِ وَالصُّفْرَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ خَلْقٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَاخْتِلَافِ الثَّمَرَاتِ وَالْجِبَالِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ اخْتِلَافَ الْأَلْوَانِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، وَمَعْنَى كَذلِكَ أَيْ: مُخْتَلِفًا مِثْلَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ اخْتِلَافًا كَائِنًا كَذَلِكَ، أَيْ: كَاخْتِلَافِ الْجِبَالِ وَالثِّمَارِ. وَقَرَأَ الزهري «والدواب» بتخفيف الباء. وقرأ ابن السميقع «أَلْوَانُهَا» . وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: كَذلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْمَطَرُ وَالِاعْتِبَارُ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِهَا، يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، وَهَذَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ مَا بَعْدَ إِنَّمَا لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا. وَالرَّاجِحُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَالْوَقْفُ عَلَى كَذَلِكَ تَامٌّ. ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ أَوْ هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ عَلَى مَعْنَى إِنَّمَا يَخْشَاهُ سُبْحَانَهُ بِالْغَيْبِ الْعَالِمُونَ بِهِ، وَبِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ وَأَفْعَالِهِ الْجَمِيلَةِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهْلَ خَشْيَتِهِ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ بِهِ وَتَعْظِيمِ قُدْرَتِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ مَسْرُوقٌ: كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ جَهْلًا، فَمَنْ كَانَ أَعْلَمَ بِاللَّهِ كَانَ أَخْشَاهُمْ لَهُ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّهَ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْعَالِمُ مَنْ خَافَ اللَّهَ. وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ حَصْرِ الْفَاعِلِيَّةِ وَلَوْ أُخِّرَ انْعَكَسَ الْأَمْرُ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِرَفْعِ الِاسْمِ الشَّرِيفِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْخَشْيَةُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ اسْتِعَارَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُجِلُّهُمْ وَيُعَظِّمُهُمْ كَمَا يُجَلُّ الْمَهِيبُ الْمَخْشِيُّ مِنَ الرِّجَالِ بَيْنَ النَّاسِ، وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تعليل لوجوب الخشية لدلالته عَلَى أَنَّهُ مُعَاقِبٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ غَافِرٌ لِمَنْ تَابَ مِنْ عِبَادِهِ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أَيْ: يَسْتَمِرُّونَ عَلَى تِلَاوَتِهِ وَيُدَاوِمُونَهَا. وَالْكِتَابُ: هُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِنْسُ كُتُبِ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ أَيْ: فَعَلُوهَا فِي أَوْقَاتِهَا مَعَ كَمَالِ أَرْكَانِهَا وَأَذْكَارِهَا وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً

فِيهِ حَثٌّ عَلَى الْإِنْفَاقِ كَيْفَ مَا تَهَيَّأَ، فَإِنْ تَهَيَّأَ سِرًّا فَهُوَ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَعَلَانِيَةً، وَلَا يَمْنَعُهُ ظَنُّهُ أَنْ يَكُونَ رِيَاءً، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالسِّرِّ: صَدَقَةُ النَّفْلِ، وَبِالْعَلَانِيَةِ: صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَجُمْلَةُ يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى خَبَرِيَّةِ إِنَّ كَمَا قَالَ ثَعْلَبٌ وَغَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالتِّجَارَةِ ثَوَابُ الطَّاعَةِ وَمَعْنَى: لَنْ تَبُورَ لَنْ تَكْسُدَ وَلَنْ تَهْلِكَ، وَهِيَ صِفَةٌ لِلتِّجَارَةِ وَالْإِخْبَارُ بِرَجَائِهِمْ لِثَوَابِ مَا عَمِلُوا بِمَنْزِلَةِ الْوَعْدِ بِحُصُولِ مَرْجُوِّهِمْ، وَاللَّامُ فِي: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ متعلق بلن تَبُورَ، عَلَى مَعْنَى: أَنَّهَا لَنْ تَكْسُدَ لِأَجْلِ أَنْ يُوَفِّيَهُمْ أُجُورَ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «1» وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ: فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُوَفِّيَهُمْ، وَمَعْنَى: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَنَّهُ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِزِيَادَةٍ عَلَى أُجُورِهِمُ الَّتِي هِيَ جَزَاءُ أَعْمَالِهِمْ، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ تَعْلِيلٌ لِمَا ذَكَرَ مِنَ التَّوْفِيَةِ وَالزِّيَادَةِ، أَيْ: غَفُورٌ لِذُنُوبِهِمْ شَكُورٌ لِطَاعَتِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ خَبَرُ إِنَّ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ يَرْجُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يَعْنِي: الْقُرْآنَ، وَقِيلَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ عَلَى أَنَّ مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَجُمْلَةُ: هُوَ الْحَقُّ خَبَرُ الْمَوْصُولِ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ: أَيْ مُوَافِقًا لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ أَيْ: مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أُمُورِهِمْ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا المفعول الأوّل لأورثنا: الْمَوْصُولُ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: الْكِتَابَ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِقَصْدِ التَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْكِتَابِ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الَّذِينَ اصْطَفَيْنَاهُمْ مِنْ عِبَادِنَا الْكِتَابَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، أَيْ قَضَيْنَا وَقَدَّرْنَا بِأَنْ نُوَرِّثَ الْعُلَمَاءَ مِنْ أُمَّتِكَ يَا مُحَمَّدُ هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ، وَمَعْنَى اصْطِفَائِهِمِ اخْتِيَارُهُمْ وَاسْتِخْلَاصُهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُلَمَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ قَدْ شَرَّفَهُمُ اللَّهُ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادِ، وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَأَكْرَمَهُمْ بِكَوْنِهِمْ أُمَّةَ خَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي قُرْآنَ مُحَمَّدٍ جعلناه ينتهي إلى الذين اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: أَوْرَثْنَاهُ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، أَيْ: أَخَّرْنَاهُ عَنْهُمْ وَأَعْطَيْنَاهُ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ قَسَّمَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِي أَوْرَثَهُمْ كِتَابَهُ وَاصْطَفَاهُمْ مِنْ عِبَادِهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فَقَالَ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قد استشكل كثيرا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ هَذَا الْقِسْمَ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُقَسَّمِ، وَهُوَ مَنِ اصْطَفَاهُمْ مِنَ الْعِبَادِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ؟ فَقِيلَ: إِنَّ التَّقْسِيمَ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ، أَيْ: فَمِنْ عِبَادِنَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْكَافِرُ، وَيَكُونُ ضَمِيرُ يَدْخُلُونَهَا عَائِدًا إِلَى الْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالظَّالِمِ لِنَفْسِهِ هُوَ الْمُقَصِّرُ فِي العمل به، وهو المرجئ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وَرَثَةِ الْكِتَابِ مُرَاعَاتُهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، لِقَوْلِهِ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ «2» وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ لَا يُنَاسِبُ الِاصْطِفَاءَ. وَقِيلَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: هُوَ الَّذِي عَمِلَ الصَّغَائِرَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، لِأَنَّ عَمَلَ الصَّغَائِرِ لَا يُنَافِي الِاصْطِفَاءَ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ صَاحِبِهِ مَعَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أساور

_ (1) . النساء: 173. (2) . الأعراف: 169.

مِنْ ذَهَبٍ إِلَى آخِرِ مَا سَيَأْتِي. وَوَجْهُ كَوْنِهِ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ أَنَّهُ نَقَصَهَا مِنَ الثَّوَابِ بِمَا فَعَلَ مِنَ الصَّغَائِرِ الْمَغْفُورَةِ لَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ عَمِلَ مَكَانَ تِلْكَ الصَّغَائِرِ طَاعَاتٍ لَكَانَ لِنَفْسِهِ فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ حَظًّا عَظِيمًا، وَقِيلَ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ هُوَ صَاحِبُ الْكَبَائِرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَفْسِيرِ السَّابِقِ وَالْمُقْتَصِدِ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّ الْمُقْتَصِدَ الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي، وَالسَّابِقَ التَّقِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ السَّابِقُونَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْمُقْتَصِدَ هُوَ الَّذِي يُعْطِي الدُّنْيَا حَقَّهَا وَالْآخِرَةَ حَقَّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الظَّالِمُ الَّذِي تَرْجَحُ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ، وَالسَّابِقُ: مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: أَصْحَابُ الْكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي لَمْ يُصِبْ كَبِيرَةً، وَالسَّابِقُ: الَّذِي سَبَقَ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَحَكَى النَّحَّاسُ أَنَّ الظَّالِمَ: صَاحِبُ الْكَبَائِرِ، وَالْمُقْتَصِدَ: الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَنَّةَ بِزِيَادَةِ حَسَنَاتِهِ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَتَكُونُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها لِلَّذِينَ سَبَقُوا بِالْخَيْرَاتِ لَا غَيْرُ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي حَقِيقَةِ النَّظَرِ لِمَا يَلِيهِ أَوْلَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ. فِيهِمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ: أَيْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: السَّابِقُ: الْعَالِمُ، وَالْمُقْتَصِدُ: الْمُتَعَلِّمُ، وَالظَّالِمُ لِنَفَسِهِ: الْجَاهِلُ. وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: الظَّالِمُ لِنَفَسِهِ: الذَّاكِرُ لِلَّهِ بِلِسَانِهِ فقط، المقتصد: الذَّاكِرُ بِقَلْبِهِ، وَالسَّابِقُ: الَّذِي لَا يَنْسَاهُ. وَقَالَ الْأَنْطَاكِيُّ: الظَّالِمُ: صَاحِبُ الْأَقْوَالِ، وَالْمُقْتَصِدُ: صَاحِبُ الْأَفْعَالِ، وَالسَّابِقُ: صَاحِبُ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الظَّالِمُ: الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ مِنْ أَجْلِ الدُّنْيَا، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ مِنْ أَجْلِ الْعُقْبَى، وَالسَّابِقُ: الَّذِي أَسْقَطَ مُرَادَهُ بِمُرَادِ الْحَقِّ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ خَوْفًا مِنَ النَّارِ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي يَعْبُدُهُ طَمَعًا فِي الْجَنَّةِ، وَالسَّابِقُ: الَّذِي يَعْبُدُهُ لَا لِسَبَبٍ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي يُحِبُّ نَفْسَهُ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي يُحِبُّ دِينَهُ، وَالسَّابِقُ: الَّذِي يُحِبُّ رَبَّهُ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي يَنْتَصِفُ وَلَا يُنْصِفُ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي يَنْتَصِفُ وَيُنْصِفُ، وَالسَّابِقُ: الَّذِي يُنْصِفُ وَلَا يَنْتَصِفُ. وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ أَقْوَالًا كَثِيرَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعَانِيَ اللُّغَوِيَّةَ لِلظَّالِمِ وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ مَعْرُوفَةٌ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الظُّلْمِ لِلنَّفْسِ بِمُجَرَّدِ إِحْرَامِهَا لِلْحَظِّ، وَتَفْوِيتِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهَا، فَتَارِكُ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ قَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِاعْتِبَارِ مَا فَوَّتَهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ تَارِكًا لِمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ مِمَّنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ، وَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ، وَمِنْ هذا قول آدم: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا «1» وقول يونس إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «2» وَمَعْنَى الْمُقْتَصِدِ هُوَ مَنْ يَتَوَسَّطُ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَلَا يَمِيلُ إِلَى جَانِبِ الْإِفْرَاطِ، وَلَا إِلَى جَانِبِ التَّفْرِيطِ وَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا السَّابِقُ: فَهُوَ الَّذِي سَبَقَ غَيْرَهُ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَهُوَ خَيْرُ الثَّلَاثَةِ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ تقديم الظالم على المقتصد، وتقديمها عَلَى السَّابِقِ، مَعَ كَوْنِ الْمُقْتَصِدِ أَفْضَلَ مِنَ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ، وَالسَّابِقِ أَفْضَلَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ: إِنَّ التَّقْدِيمَ لَا يَقْتَضِي التَّشْرِيفَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ

_ (1) . الأعراف: 23. (2) . الأنبياء: 87.

النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ «1» وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي فِيهَا تَقْدِيمُ أَهْلِ الشَّرِّ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْضُولِينَ عَلَى الْفَاضِلِينَ. وَقِيلَ: وَجْهُ التَّقْدِيمِ هُنَا أَنَّ الْمُقْتَصِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي قَلِيلٌ، وَالسَّابِقِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ أَقَلُّ قَلِيلٍ، فَقَدَّمَ الْأَكْثَرَ عَلَى الْأَقَلِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّ الْكَثْرَةَ بِمُجَرَّدِهَا لَا تَقْتَضِي تَقْدِيمَ الذِّكْرِ، وَقَدْ قِيلَ فِي وَجْهِ التَّقْدِيمِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى تَوْرِيثِ الْكِتَابِ وَالِاصْطِفَاءِ، وَقِيلَ: إِلَى السَّبْقِ بِالْخَيْرَاتِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أَيِ: الْفَضْلُ الَّذِي لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَارْتِفَاعُ جَنَّاتُ عَدْنٍ عَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ، وَمَا بَعْدَهَا خَبَرُهَا، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْفَضْلِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هُوَ السَّبَبَ فِي نَيْلِ الثَّوَابِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمُسَبِّبِ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ جُمْلَةُ: يَدْخُلُونَها مُسْتَأْنَفَةً وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَدْخُلُونَهَا يَعُودُ إِلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، فَلَا وَجْهَ لِقَصْرِهِ عَلَى الصِّنْفِ الْأَخِيرِ، وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَالتِّرْمِذِيُّ «جَنَّةُ» بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ «جَنَّاتٍ» بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ جَنَّاتُ خَبَرًا ثَانِيًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «يُدْخَلُونَهَا» عَلَى الْبِنَاءِ للمفعول، وقوله: يُحَلَّوْنَ خبر ثان لجنات عَدْنٍ، أَوْ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَهُوَ مِنْ حَلِيَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ حَالٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سُرْعَةِ الدُّخُولِ، فَإِنَّ فِي تَحْلِيَتِهِمْ خَارِجَ الْجَنَّةِ تَأْخِيرًا لِلدُّخُولِ، فَلَمَّا قَالَ: يُحَلَّوْنَ فِيها أَشَارَ أَنَّ دُخُولَهُمْ عَلَى وَجْهِ السُّرْعَةِ مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ الْأُولَى تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ: يُحَلَّوْنَ بَعْضَ أَسَاوِرَ كَائِنَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَالْأَسَاوِرُ جَمْعُ أَسْوِرَةٍ جَمْعِ سِوَارٍ، وَانْتِصَابُ لُؤْلُؤاً بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ مِنْ أَساوِرَ وَقُرِئَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى ذَهَبٍ وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قَرَأَ الجمهور «الحزن» بفتحتين. وقرأ جناح ابن حُبَيْشٍ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ. قَالَ قَتَادَةُ: حَزَنُ الْمَوْتِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حَزَنُ السَّيِّئَاتِ وَالذُّنُوبِ وَخَوْفُ رَدِّ الطَّاعَاتِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ: حَزَنُ زَوَالِ النِّعَمِ وَخَوْفُ الْعَاقِبَةِ. وَقِيلَ حَزَنُ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا كَانَ يُحْزِنُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَمْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَمُّ الْخُبْزِ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ هَمُّ الْمَعِيشَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلَّ الْأَحْزَانِ مَا كَانَ مِنْهَا لِمَعَاشٍ أَوْ مَعَادٍ. وَهَذَا أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا وَإِنْ بَلَغَ نَعِيمُهَا أَيَّ مَبْلَغٍ لَا تَخْلُو مِنْ شَوَائِبَ وَنَوَائِبَ تَكْثُرُ لِأَجْلِهَا الْأَحْزَانُ، وَخُصُوصًا أَهْلَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ وَجِلِينَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ خَائِفِينَ مِنْ عِقَابِهِ، مُضْطَرِبِي الْقُلُوبِ فِي كُلِّ حِينٍ، هَلْ تُقْبَلُ أَعْمَالُهُمْ أَوْ تُرَدُّ؟ حَذِرِينَ مِنْ عَاقِبَةِ السُّوءِ وَخَاتِمَةِ الشَّرِّ، ثُمَّ لَا تَزَالُ هُمُومُهُمْ وَأَحْزَانُهُمْ حَتَّى يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعِصْيَانِ: فَهُمْ وَإِنْ نُفِّسَ عَنْ خِنَاقِهِمْ قَلِيلًا فِي حَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَارُ الْغُرُورِ، وَتَنَاسَوْا دَارَ الْقَرَارِ يَوْمًا مِنْ دَهْرِهِمْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْتَدَّ وَجَلُهُمْ وَتَعْظُمَ مُصِيبَتُهُمْ، وَتَغْلِيَ مَرَاجِلُ أَحْزَانِهِمْ إِذَا شَارَفُوا الْمَوْتَ، وَقَرُبُوا مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِذَا قُبِضَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَلَاحَ لَهُمْ مَا يسوءهم مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمُ ازْدَادُوا غَمًّا وَحُزْنًا، فَإِنْ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ، وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ، فَقَدْ أَذْهَبَ عَنْهُمْ أَحْزَانَهُمْ وَأَزَالَ غُمُومَهُمْ وَهُمُومَهُمْ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ أَيْ: غَفُورٌ لِمَنْ عَصَاهُ، شكور لمن أطاعه

_ (1) . الحشر: 20.

الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ: دَارَ الْإِقَامَةِ الَّتِي يُقَامُ فِيهَا أَبَدًا، وَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهَا تَفَضُّلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أَيْ: لَا يُصِيبُنَا فِي الْجَنَّةِ عَنَاءٌ وَلَا تَعَبٌ وَلَا مَشَقَّةٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ مِنَ التَّعَبِ، وَالْكَلَالِ مِنَ النَّصَبِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها قَالَ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ قَالَ: طَرَائِقُ بِيضٌ يَعْنِي الْأَلْوَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْغِرْبِيبُ الْأَسْوَدُ: الشَّدِيدُ السَّوَادِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ قَالَ: طَرَائِقُ تَكُونُ فِي الْجَبَلِ بِيضٌ وَحُمْرٌ فَتِلْكَ الْجُدَدُ وَغَرابِيبُ سُودٌ قَالَ: جِبَالٌ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ قَالَ: كَذلِكَ اخْتِلَافُ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ كَاخْتِلَافِ الْجِبَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ قَالَ: فَصْلٌ لِمَا قَبْلَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ قَالَ: الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ الَّذِينَ يَخَافُونَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَيْسَ الْعِلْمُ مِنْ كَثْرَةِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ مِنَ الْخَشْيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ قَالَ: كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا، وَكَفَى بِاغْتِرَارٍ بِاللَّهِ جَهْلًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَلَكِنَّ الْعِلْمَ الْخَشْيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: بِحَسْبِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَخْشَى اللَّهَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن حصين بن الحارث ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ نَزَلَتْ فِيهِ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا قَالَ: هُمْ أمة محمّد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَرَّثَهُمُ اللَّهُ كُلَّ كِتَابٍ أُنْزِلَ، فَظَالِمُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُ، وَمُقْتَصِدُهُمْ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَسَابِقُهُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ قَالَ: هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» . وَفِي إِسْنَادِهِ رَجُلَانِ مَجْهُولَانِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ كِنَانَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ فَأَمَّا الَّذِينَ سَبَقُوا فَأُولَئِكَ الذين يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَأَمَّا الَّذِينَ اقْتَصَدُوا فَأُولَئِكَ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا. وَأَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا

أنفسهم، فأولئك الذين يحسبون فِي طُولِ الْمَحْشَرِ، ثُمَّ هُمُ الَّذِينَ تَلَافَاهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِذَا كَثُرَتْ رِوَايَاتٌ فِي حَدِيثٍ ظَهَرَ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا اه. وَفِي إِسْنَادِ أَحْمَدَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَفِي إِسْنَادِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، لِأَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: ذَكَرَ أَبُو ثَابِتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَوْفِ بْنُ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمَّتِي ثَلَاثَةُ أَثْلَاثٍ: فَثُلُثٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَثُلُثٌ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَثُلُثٌ يُمَحَّصُونَ وَيُكْشَفُونَ، ثُمَّ تَأْتِي الْمَلَائِكَةُ فَيَقُولُونَ وَجَدْنَاهُمْ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَدْخِلُوهُمُ الْجَنَّةَ بِقَوْلِهِمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَاحْمِلُوا خَطَايَاهُمْ عَلَى أَهْلِ التَّكْذِيبِ وَهِيَ الَّتِي قَالَ الله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَتَصْدِيقُهَا فِي الَّتِي ذَكَرَ فِي الْمَلَائِكَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَجَعَلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَفْوَاجٍ. فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، فَهَذَا الَّذِي يُكْشَفُ وَيُمَحَّصُ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَهُوَ الَّذِي يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا. وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ، فَهُوَ الَّذِي يَلِجُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ بِإِذْنِ اللَّهِ، يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: غَرِيبٌ جِدًّا اه. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا، وَيُدْفَعُ بِهَا قَوْلُ مَنْ حَمَلَ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ عَلَى الْكَافِرِ، وَيُؤَيِّدُهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الْآيَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ» وَمَا أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ صُهْبَانَ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الْآيَةَ، قَالَتْ: أَمَّا السَّابِقُ، فَمَنْ مَضَى فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ. وَأَمَّا الْمُقْتَصِدُ فَمَنْ تَبِعَ آثَارَهُمْ، فَعَمِلَ بِمِثْلِ عَمَلِهِمْ حَتَّى لَحِقَ بِهِمْ. وَأَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ، فَمِثْلِي وَمِثْلُكَ وَمَنِ اتَّبَعَنَا، وَكُلٌّ فِي الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: هَذِهِ الْأُمَّةُ ثَلَاثَةُ أَثْلَاثٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ثُلُثٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَثُلُثٌ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا، وَثُلُثٌ يَجِيئُونَ بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا، فَيَقُولُ الرَّبُّ: أَدْخِلُوا هَؤُلَاءِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِي، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ قَالَ: أَلَا إِنَّ سَابِقَنَا سَابِقٌ، وَمُقْتَصِدَنَا نَاجٍ وَظَالِمَنَا مَغْفُورٌ لَهُ. وَأَخْرَجَهُ الْعُقَيْلِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ النَّجَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْمُقْتَصِدُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَأَصْحَابُ الْأَعْرَافِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ محمّد صلّى الله عليه وسلم، وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنَّ سَابِقَنَا أَهْلُ جِهَادِنَا، أَلَا وَإِنَّ مُقْتَصِدَنَا أَهْلُ حَضَرِنَا، أَلَا وَإِنَّ ظَالِمَنَا أَهْلُ بَدْوِنَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الْآيَةَ قَالَ:

[سورة فاطر (35) : الآيات 36 إلى 45]

أشهد على الله أن يُدْخِلُهُمْ جَمِيعًا الْجَنَّةَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا قَالَ: كُلُّهُمْ نَاجٍ وَهِيَ هَذِهِ الْأُمَّةُ» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هِيَ مِثْلُ الَّتِي فِي الْوَاقِعَةِ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ: صِنْفَانِ نَاجِيَانِ، وَصِنْفٌ هَالِكٌ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ: هُوَ الْكَافِرُ، وَالْمُقْتَصِدُ: أَصْحَابُ الْيَمِينِ. وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُطَابِقُ مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ، وَلَا يُوَافِقُ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الرِّوَايَاتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ نَجَوْا كُلُّهُمْ، ثُمَّ قَالَ: تَحَاكَّتْ مَنَاكِبُهُمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ أُعْطُوا الْفَضْلَ بِأَعْمَالِهِمْ، وقد قدّمنا عن ابن عباس ما يفيده أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ مِنَ النَّاجِينَ، فَتَعَارَضَتِ الْأَقْوَالُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً فَقَالَ: «إِنَّ عَلَيْهِمُ التِّيجَانَ، إِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ مِنْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الْآيَةَ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ فِي الدُّنْيَا يَخَافُونَ اللَّهَ، وَيَجْتَهِدُونَ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَفِي قُلُوبِهِمْ حُزْنٌ مِنْ ذُنُوبٍ قَدْ سَلَفَتْ مِنْهُمْ، فَهُمْ خَائِفُونَ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ هَذَا الِاجْتِهَادُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي سَلَفَتْ، فَعِنْدَهَا قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ غَفَرَ لَنَا الْعَظِيمَ، وَشَكَرَ لَنَا الْقَلِيلَ مِنْ أَعْمَالِنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قال: حزن النار. [سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 45] وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ جَزَاءِ عباده الصالحين، ذكر جزاء عباده الكافرين فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أَيْ: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ فَيَمُوتُوا وَيَسْتَرِيحُوا مِنَ الْعَذَابِ وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها بَلْ كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى «1» قَرَأَ الْجُمْهُورُ «فَيَمُوتُوا» بِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلنَّفْيِ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ بِإِثْبَاتِ النُّونِ. قَالَ الْمَازِنِيُّ: عَلَى الْعَطْفِ عَلَى يُقْضَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّضْعِيفِ بَلْ هِيَ كَقَوْلِهِ: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «2» كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الْفَظِيعِ نَجْزِي كُلَّ مَنْ هُوَ مُبَالِغٌ في الكفر، وقرأ أبو عمرو «نجزي» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها مِنَ الصُّرَاخِ: وَهُوَ الصِّيَاحُ، أَيْ: وَهُمْ يَسْتَغِيثُونَ فِي النَّارِ رَافِعِينَ أَصْوَاتَهُمْ، وَالصَّارِخُ: الْمُسْتَغِيثُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صارخ فزغ ... كان الصّراخ له قرع الظّنابيبا «3» رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي وهم يَصْطَرِخُونَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا ... إِلَخْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ أَنَّهُمْ يُنَادُونَ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الذي نَعْمَلُ: مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، فَنَجْعَلُ الْإِيمَانَ مِنَّا بَدَلَ مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالطَّاعَةَ بَدَلَ الْمَعْصِيَةِ، وَانْتِصَابُ صَالِحًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: عَمَلًا صَالِحًا، أَوْ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: نَعْمَلُ شَيْئًا صَالِحًا. قِيلَ وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ لِلتَّحَسُّرِ عَلَى مَا عَمِلُوهُ مِنْ غَيْرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَعَ الِاعْتِرَافِ مِنْهُمْ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَالِاسْتِفْهَامُ: لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ، وَمَا: نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، أي: أو لم نُعَمِّرْكُمْ عُمُرًا يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّذَكُّرِ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ. فَقِيلَ: هُوَ سِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ بِالْأَوَّلِ: جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِالثَّانِي: الْحَسَنُ وَمَسْرُوقٌ وَغَيْرُهُمَا، وَبِالثَّالِثِ: عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «مَا يَذَّكَّرُ» بِالْإِدْغَامِ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: هو النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وقال عكرمة وسفيان ابن عُيَيْنَةَ وَوَكِيعٌ وَالْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ وَالْفَرَّاءُ وَابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ الشَّيْبُ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا القول: أو لم نُعَمِّرْكُمْ حَتَّى شِبْتُمْ، وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: الْحُمَّى. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ: أَنَّ الْحُمَّى رَسُولُ الْمَوْتِ، أَيْ: كَأَنَّهَا تُشْعِرُ بِقُدُومِهِ وَتُنْذِرُ بِمَجِيئِهِ، وَالشَّيْبُ: نَذِيرٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي سِنِّ الِاكْتِهَالِ، وَهُوَ عَلَامَةٌ لِمُفَارَقَةِ سِنِّ الصِّبَا الَّذِي هُوَ سِنُّ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْتُ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ، وَقِيلَ: هُوَ كَمَالُ الْعَقْلِ، وَقِيلَ:

_ (1) . الأعلى: 13. (2) . المرسلات: 36. (3) . البيت لسلامة بن جندل، والظّنابيب: جمع الظنبوب، وهو مسمار يكون في جبّة السّنان، وقرع ظنابيب الأمر: ذلّله. [.....]

الْبُلُوغُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أَيْ: فَذُوقُوا عَذَابَ جَهَنَّمَ، لِأَنَّكُمْ لَمْ تَعْتَبِرُوا وَلَمْ تَتَّعِظُوا، فَمَا لَكُمْ نَاصِرٌ يَمْنَعُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَيَحُولُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَذُوقُوا الْعَذَابَ، فَمَا لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ مَانَعٍ يَمْنَعُهُمْ إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بإضافة عالم إلى غيب، وقرأ جناح ابن حبيش بالتنوين ونصب غيب. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ ذَلِكَ أعمالا لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ، فَلَوْ رَدَّكُمْ إِلَى الدُّنْيَا لَمْ تَعْمَلُوا صَالِحًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1» إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ مُضْمَرَاتِ الصُّدُورِ وَهِيَ أَخْفَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عَلِمَ مَا فَوْقَهَا بِالْأَوْلَى، وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أَيْ: جَعَلَكُمْ أُمَّةً خَالِفَةً لِمَنْ قَبْلَهَا. قَالَ قَتَادَةُ: خَلْفًا بَعْدَ خَلْفٍ وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَالْخَلْفُ: هُوَ التَّالِي لِلْمُتَقَدِّمِ، وَقِيلَ: جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَهُ فِي أَرْضِهِ فَمَنْ كَفَرَ مِنْكُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أَيْ: عَلَيْهِ ضَرَرُ كُفْرِهِ، لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً أَيْ: غَضَبًا وَبُغْضًا وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً أَيْ: نَقْصًا وَهَلَاكًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ حَيْثُ لَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا الْمَقْتَ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ لَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا الْخَسَارَ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوَبِّخَهُمْ وَيُبَكِّتَهُمْ فَقَالَ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: أَخْبِرُونِي عَنِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ آلِهَةً وَعَبَدْتُمُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَجُمْلَةُ: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ أَرَأَيْتُمْ، وَالْمَعْنَى: أَخْبِرُونِي عَنْ شُرَكَائِكُمْ، أَرُونِي أَيَّ شَيْءٍ خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟ وَقِيلَ: إِنَّ الْفِعْلَانِ، وهما أرأيتم وأروني مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ. وَقَدْ أُعْمِلَ الثَّانِي عَلَى مَا هُوَ اخْتِيَارُ الْبَصْرِيِّينَ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَيْ: أَمْ لَهُمْ شَرِكَةٌ مَعَ اللَّهِ فِي خَلْقِهَا، أَوْ مِلْكِهَا، أَوِ التَّصَرُّفِ فِيهَا حَتَّى يَسْتَحِقُّوا بِذَلِكَ الشَّرِكَةَ فِي الْإِلَهِيَّةِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً أَيْ: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ كِتَابًا بِالشَّرِكَةِ فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ أَيْ: عَلَى حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ وَاضِحَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «بَيِّنَةٍ» بِالتَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ هَلْ أَعْطَيْنَا كُفَّارَ مَكَّةَ كِتَابًا، فَهُمْ عَلَى بَيَانِ مِنْهُ بِأَنَّ مَعَ اللَّهِ شَرِيكًا. ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذَا إِلَى غَيْرِهِ فَقَالَ: بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً أَيْ: مَا يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا يَفْعَلُهُ الرُّؤَسَاءُ وَالْقَادَةُ مِنَ الْمَوَاعِيدِ لِأَتْبَاعِهِمْ إِلَّا غُرُورًا يُغْرُونَهُمْ بِهِ وَيُزَيِّنُونَهُ لَهُمْ، وَهُوَ الْأَبَاطِيلُ الَّتِي تَغُرُّ وَلَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ تَنْفَعُهُمْ وَتُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَتَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الشَّيَاطِينَ تَعِدُ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَعْدِ الَّذِي يَعِدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا هُوَ أَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَغْلِبُونَهُمْ، وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَبَدِيعِ صُنْعِهِ بَعْدَ بَيَانِ ضَعْفِ الْأَصْنَامِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهَا عَلَى شَيْءٍ، وقيل المعنى: إن شركهم يقتضي زوال السموات وَالْأَرْضِ كَقَوْلِهِ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «2» وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: مَا أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِ إِمْسَاكِهِ، أَوْ مِنْ بَعْدِ زَوَالِهِمَا، وَالْجُمْلَةُ سادّة مسدّ جواب القسم والشرط، ومعنى:

_ (1) . الأنعام: 28. (2) . مريم: 90 و 91.

أَنْ تَزُولا لِئَلَّا تَزُولَا، أَوْ: كَرَاهَةَ أَنْ تَزُولَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَمْنَعُ السموات وَالْأَرْضَ مِنْ أَنْ تَزُولَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ وَلَوْ زَالَتَا مَا أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ، قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ زَوَالُهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ إمساكه تعالى للسموات وَالْأَرْضِ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الْمُرَادُ قُرَيْشٌ، أَقْسَمُوا قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، بِهَذَا الْقَسَمِ حِينَ بَلَغَهُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَمَعْنَى: مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ يَعْنِي: الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، وَالنَّذِيرُ: النَّبِيُّ، وَالْهُدَى: الِاسْتِقَامَةُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ رَسُولٌ كَمَا كَانَ الرُّسُلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا تَمَنَّوْهُ، وَهُوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ نَذِيرٌ وَأَكْرَمُ مُرْسَلٍ وَكَانَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا زادَهُمْ مَجِيئُهُ إِلَّا نُفُوراً مِنْهُمْ عَنْهُ، وَتَبَاعُدًا عَنْ إِجَابَتِهِ اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي: لأجل الاستكبار والعتوّ وَلأجل مَكْرَ السَّيِّئِ أَيْ: مَكْرَ الْعَمَلِ السَّيِّئِ، أَوْ: مَكَرُوا الْمَكْرَ السَّيِّئَ، وَالْمَكْرُ: هُوَ الْحِيلَةُ وَالْخِدَاعُ، وَالْعَمَلُ الْقَبِيحُ، وَأُضِيفَ إِلَى صِفَتِهِ كَقَوْلِهِ: مَسْجِدُ الجامع، وصلاة الأولى، وأنث إحدى لكونه أُمَّةٍ مُؤَنَّثَةً كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: مِنَ الْأُمَّةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا إِحْدَى الْأُمَمِ تَفْضِيلًا لَهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَمَكْرَ السَّيِّئِ» بِخَفْضِ هَمْزَةِ السيء، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ بِسُكُونِهَا وَصْلًا. وَقَدْ غَلَّطَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَنَزَّهُوا الْأَعْمَشَ عَلَى جَلَالَتِهِ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا، قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ يَقِفُ بِالسُّكُونِ، فَغَلِطَ مَنْ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِالسُّكُونِ وَصْلًا، وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مُمْكِنٌ، بِأَنَّ مَنْ قَرَأَ بِهَا أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ بِسُكُونِ الْبَاءِ مِنْ أَشْرَبْ، وَمِثْلُهُ قراءة من قرأ «وما يشعركم» بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو «إلى بارئكم» بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هَذَا عَلَى إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «وَمَكْرًا سَيِّئًا» وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أَيْ: لَا تَنْزِلُ عَاقِبَةُ السُّوءِ إِلَّا بِمَنْ أَسَاءَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَحِيقُ بِمَعْنَى يُحِيطُ، وَالْحَوْقُ الْإِحَاطَةُ، يُقَالُ حَاقَ بِهِ كَذَا إِذَا أَحَاطَ بِهِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَى يَحِيقُ فِي لُغَةِ العرب، ولكن قطرب فسره هنا بينزل، وأنشد: وقد دفعوا الْمَنِيَّةَ فَاسْتَقَلَّتْ ... ذِرَاعًا بَعْدَ مَا كَانَتْ تَحِيقُ أي تنزل فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أَيْ: سُنَّةَ اللَّهِ فِيهِمْ بِأَنْ يَنْزِلَ بِهَؤُلَاءِ الْعَذَابُ كَمَا نَزَلَ بِأُولَئِكَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُبَدِّلَ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي سَنَّهَا بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنْ إِنْزَالِ عَذَابِهِ بِهِمْ بِأَنْ يَضَعَ مَوْضِعَهُ غيره بدلا عنه وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا بِأَنْ يُحَوِّلَ مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّةُ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَيَدْفَعُهُ عَنْهُمْ، وَيَضَعُهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَنَفْيُ وِجْدَانِ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْوِيلِ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْيِ وُجُودِهِمَا أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ مَعْنَى مَا قَبْلَهَا وتأكيده،

أَيْ: أَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا مَا أَنْزَلْنَا بِعَادٍ وَثَمُودَ، وَمَدْيَنَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ فِي الْمُكَذِّبِينَ الَّتِي لَا تُبَدَّلُ وَلَا تُحَوَّلُ، وَآثَارُ عَذَابِهِمْ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ مَوْجُودَةٌ فِي مَسَاكِنِهِمْ ظَاهِرَةٌ فِي مَنَازِلِهِمْ وَالحال أَنَّ أُولَئِكَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَطْوَلَ أَعْمَارًا، وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا، وَأَقْوَى أَبْدَانًا وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أَيْ: مَا كَانَ لِيَسْبِقَهُ وَيَفُوتَهُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ فِيهِمَا إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً أَيْ: كَثِيرَ الْعِلْمِ، وَكَثِيرَ الْقُدْرَةِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مِنَ الذُّنُوبِ وَعَمِلُوا مِنَ الْخَطَايَا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أَيْ الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي تَدِبُّ كَائِنَةً مَا كَانَتْ، أَمَّا بَنُو آدَمَ فَلِذُنُوبِهِمْ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلِشُؤْمِ مَعَاصِي بَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ تَدِبُّ مِنْ بَنِي آدَمَ وَالْجِنِّ، وَقَدْ قَالَ بِالْأَوَّلِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ بِالثَّانِي الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْأَخْفَشُ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: أَرَادَ بِالدَّابَّةِ هُنَا النَّاسَ وَحْدَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً أَيْ: بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُمُ الثَّوَابَ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُمُ الْعِقَابَ، وَالْعَامِلُ فِي إِذَا هُوَ جَاءَ، لَا بَصِيرًا، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَوَعِيدٌ لِلْكَافِرِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ: أَيْنَ أَبْنَاءُ السِّتِّينَ؟ وَهُوَ الْعُمُرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» وَفِي إِسْنَادِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْفَضْلِ الْمَخْزُومِيُّ، وَفِيهِ مَقَالٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ عُمُرَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً» وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عن عليّ ابن أبي طالب قال: العمر الذي عمرهم اللَّهُ بِهِ سِتُّونَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِ الزُّهْدِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هُوَ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْعُمُرُ الَّذِي أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى ابْنِ آدَمَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: قَالَ: وَقَعَ

فِي نَفْسِ مُوسَى هَلْ يَنَامُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَأَرَّقَهُ ثَلَاثًا وَأَعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ، فِي كُلِّ يَدٍ قَارُورَةٌ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِهِمَا، فَجَعَلَ يَنَامُ وَتَكَادُ يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ، فَيَحْبِسُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، حَتَّى نَامَ نَوْمَةً، فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ وَانْكَسَرَتَ الْقَارُورَتَانِ. قَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَوْ كَانَ يَنَامُ لَمْ تَسْتَمْسِكَ السّماء والأرض» وأخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّ مُوسَى قَالَ: يَا جِبْرِيلُ هَلْ يَنَامُ رَبُّكَ؟ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ مُوسَى فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّهُ كَادَ الْجُعَلُ لَيُعَذَّبُ فِي جُحْرِهِ بِذَنْبِ ابْنِ آدَمَ ثُمَّ قَرَأَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ الآية.

سورة يس

سُورَةِ يس وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا أَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ نَزَلَتْ فِي بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ، وَيَنْتَقِلُوا إِلَى جِوَارِ مسجد رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالنَّحَّاسُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُورَةُ يس نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهَ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا، وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس، مَنْ قَرَأَ يس، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وفي إسناده هارون وأبو مُحَمَّدٍ، وَهُوَ شَيْخٌ مَجْهُولٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَلَا يَصِحُّ لِضَعْفِ إِسْنَادِهِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا، وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس» ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ إِلَّا زَيْدٌ عَنْ حُمَيْدٍ، يَعْنِي زَيْدَ بْنَ الْحُبَابِ عَنْ حُمَيْدٍ الْمَكِّيِّ مَوْلَى آلِ عَلْقَمَةَ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ يس فِي لَيْلَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ غَفَرَ لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ، وَالضِّيَاءُ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ يس فِي لَيْلَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ غَفَرَ لَهُ» وَإِسْنَادُهُ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ هَكَذَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ابن إِبْرَاهِيمَ مَوْلَى ثَقِيفٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعِ بْنِ الْوَلِيدِ الْكُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يس قَلْبُ الْقُرْآنِ، لَا يَقْرَؤُهَا عَبْدٌ يُرِيدُ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ إِلَّا غَفَرَ له ما تقدّم من ذنبه، فاقرؤوها عَلَى مَوْتَاكُمْ» وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ أَحْمَدُ إِسْنَادَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِيهِ مَجْهُولٌ، وَالْآخَرُ ذَكَرَ فِيهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَقَالَ: وَلَيْسَ بِالنَّهْدِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَعْقِلٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنَ عَطِيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ يس فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ عَشْرَ مَرَّاتٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُورَةُ يس تُدْعَى فِي التَّوْرَاةِ الْمُعَمِّمَةَ، تَعُمُّ صَاحِبَهَا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، تُكَابِدُ عَنْهُ بَلْوَى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ أَهَاوِيلَ الْآخِرَةِ، وَتُدْعَى الدَّافِعَةَ وَالْقَاضِيَةَ، تَدْفَعُ عَنْ صَاحِبِهَا كُلَّ سُوءٍ، وَتَقْضِي لَهُ كُلَّ حَاجَةٍ، مَنْ قَرَأَهَا عَدَلَتْ عِشْرِينَ حَجَّةً، وَمَنْ سَمِعَهَا عَدَلَتْ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ كَتَبَهَا ثُمَّ شَرِبَهَا أَدْخَلَتْ جَوْفَهُ أَلْفَ دَوَاءٍ، وَأَلْفَ نُورٍ، وَأَلْفَ يَقِينٍ، وَأَلْفَ بَرَكَةٍ، وَأَلْفَ رَحْمَةٍ، وَنَزَعَتْ عَنْهُ كُلَّ غِلٍّ وَدَاءٍ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَقَرَّبَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْجُدْعَانِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ رَافِعٍ الْجَنَدِيِّ، وَهُوَ مُنْكَرٌ. قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ

[سورة يس (36) : الآيات 1 إلى 12]

هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَتَ الْإِشَارَةُ مِنَ التِّرْمِذِيِّ إِلَى ضَعْفِ إِسْنَادِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا، فهذه الألفاظ كلها منكرة بعيدة من كَلَامِ مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَذَكَرَهُ الْخَطِيبُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَذَكَرَ نَحْوَهُ الْخَطِيبُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِأَخْصَرَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ يس: «لَوَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِي» وَإِسْنَادُهُ هَكَذَا: قال حدثنا سلمة ابن شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «من دوام عَلَى قِرَاءَةِ يس كُلَّ لَيْلَةٍ ثُمَّ مَاتَ مَاتَ شَهِيدًا» . وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ يس حِينَ يُصْبِحُ أُعْطِيَ يُسْرَ يَوْمِهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي صَدْرِ لَيْلَتِهِ أُعْطِيَ يُسْرَ لَيْلَتِهِ حَتَّى يُصْبِحَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) قَوْلُهُ: يس قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ النُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَقَالُونُ وَوَرْشٌ بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي الْوَاوِ الَّذِي بَعْدَهَا، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِفَتْحِ النُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ بِكَسْرِهَا، فَالْفَتْحُ عَلَى الْبِنَاءِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: اتْلُ يس، وَالْكَسْرُ عَلَى الْبِنَاءِ أَيْضًا كَجَيْرِ، وَقِيلَ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ لِلْفِرَارِ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَأَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالسُّكُونِ لِلنُّونِ، فَلِكَوْنِهَا مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ فَلَا حَظَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقَرَأَ هَارُونُ الْأَعْوَرُ ومحمّد بن السميقع وَالْكَلْبِيُّ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى الْبِنَاءِ كَمُنْذُ وَحَيْثُ وَقَطُّ، وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ يس، وَمُنِعَتْ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَقِيلَ: مَعْنَاهَا يَا رَجُلُ، أَوْ يَا إِنْسَانُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَقْفُ عَلَى يس حَسَنٌ لِمَنْ قَالَ هُوَ افْتِتَاحٌ لِلسُّورَةِ، وَمَنْ قَالَ مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ محمّد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ دَلِيلُهُ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وَمِنْهُ قَوْلُ السَّعْدِ الْحِمْيَرِيِّ: يَا نَفْسُ لَا تَمْحَضِي بِالنُّصْحِ جَاهِدَةً ... عَلَى الْمَوَدَّةِ إِلَّا آلَ يَاسِينَ

ومنه قوله: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ «1» أَيْ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَسَيَأْتِي فِي الصَّافَّاتِ ما المراد بآل يَاسِينَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمُفَسِّرُونَ: يُرِيدُ يَا إِنْسَانُ: يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: مَعْنَاهُ يَا سَيِّدَ الْبَشَرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أسماء الله تعالى، روى ذَلِكَ عَنْهُ أَشْهَبُ. وَحَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّ مَعْنَاهُ يَا سَيِّدُ. وَقَالَ كَعْبٌ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَرَجَّحَ الزَّجَّاجُ أَنَّ مَعْنَاهُ يَا مُحَمَّدُ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أَوْ غَيْرُ عَرَبِيٍّ؟ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ: حَبَشِيٌّ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: سُرْيَانِيٌّ تَكَلَّمَتْ بِهِ الْعَرَبُ فَصَارَ مِنْ لُغَتِهِمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ بِلُغَةِ طَيِّئٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ بِلُغَةِ كَلْبٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي طه وَفِي مُفْتَتَحِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا يُغْنِي عَنِ التَّطْوِيلِ هَاهُنَا وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ مُقْسَمٌ بِهِ ابْتِدَاءً. وَقِيلَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى يس عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَجْرُورًا بِإِضْمَارِ الْقَسَمِ. قَالَ النَّقَّاشُ: لَمْ يُقْسِمِ اللَّهُ لِأَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِ بِالرِّسَالَةِ فِي كِتَابِهِ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَمْجِيدًا، وَالْحَكِيمُ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا يَتَنَاقَضُ وَلَا يَتَخَالَفُ، أَوِ الْحَكِيمُ قَائِلُهُ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ رِسَالَتَهُ مِنَ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ: لَسْتَ مُرْسَلًا «2» وقوله: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خَبَرٌ آخَرُ لَإِنَّ، أَيْ: إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: الطَّرِيقُ الْقَيِّمُ الْمُوصِلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ بِرَفْعِ «تَنْزِيلُ» عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ تَنْزِيلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِقَوْلِهِ يس إِنْ جُعِلَ اسْمًا لِلسُّورَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: نَزَّلَ الله ذلك تنزيل العزيز الرحيم. والمعنى: أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم، وقيل المعنى: إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ، وَعَبَّرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْمُنَزَّلِ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُ التَّنْزِيلِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةُ «تَنْزِيلِ» بِالْجَرِّ عَلَى النَّعْتِ لِلْقُرْآنِ أَوِ الْبَدَلِ مِنْهُ، وَاللَّامُ فِي لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بتنزيل، أَوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ: أَرْسَلْنَاكَ لِتُنْذِرَ، وَ «مَا» فِي مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ هِيَ النَّافِيَةُ، أَيْ: لَمْ يُنْذَرْ آبَاؤُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً أَوْ مَوْصُوفَةً، أَيْ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا الَّذِي أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ، أَوْ لِتُنْذِرَهُمْ عَذَابًا أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: إِنْذَارَ آبَائِهِمْ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا نَافِيَةٌ يَكُونُ الْمَعْنَى: مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ بِرَسُولٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمُ الْأَقْرَبُونَ لِتَطَاوُلِ مُدَّةِ الْفَتْرَةِ، وَقَوْلِهِ: فَهُمْ غافِلُونَ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْيِ الْإِنْذَارِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَيْ لَمْ يُنْذَرْ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ غَافِلُونَ، وَعَلَى الْوُجُوهِ الْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لِتُنْذِرَ، أَيْ: فَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا أَنْذَرْنَا بِهِ آبَاءَهُمْ، وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ النَّظْمِ لِتَرْتِيبِ فَهُمْ غَافِلُونَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ وَمَعْنَى حَقَّ: ثَبَتَ وَوَجَبَ الْقَوْلُ، أَيِ: الْعَذَابُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، أَيْ: أَكْثَرِ أهل

_ (1) . الصافات: 130. (2) . الرعد: 43.

مَكَّةَ، أَوْ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ أَكْثَرِ كُفَّارِ الْعَرَبِ، وَهُمْ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ طُولَ حَيَاتِهِ فَيَتَفَرَّعُ قَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، أَيْ: لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ مِنْهُمُ الْإِصْرَارَ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَوْتِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ هُنَا هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ «1» وَجُمْلَةُ إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا تَقْرِيرٌ لِمَا قَبْلَهَا مَثَّلَتْ حَالَهُمْ بِحَالِ الَّذِينَ غُلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ فَهِيَ أَيِ: الْأَغْلَالُ مُنْتَهِيَةٌ إِلَى الْأَذْقانِ فَلَا يَقْدِرُونَ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى الِالْتِفَاتِ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ عَطْفِهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَهُمْ مُقْمَحُونَ أي: رافعون رؤوسهم غَاضُّونَ أَبْصَارَهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْمُقْمَحُ: الْغَاضُّ بَصَرَهُ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ وَمَعْنَى الْإِقْمَاحِ رَفْعُ الرَّأْسِ وَغَضُّ الْبَصَرِ، يُقَالُ أَقْمَحَ الْبَعِيرُ رَأْسَهُ وَقَمَحَ: إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَشْرَبِ الْمَاءَ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَرَادَ اللَّهُ أَنَّ أَيْدِيَهُمْ لَمَّا غُلَّتْ عِنْدَ أَعْنَاقِهِمْ رَفَعَتِ الْأَغْلَالَ إِلَى أَذْقَانِهِمْ ورؤوسهم صعداء، فهم مرفوعو الرؤوس رفع الْأَغْلَالِ إِيَّاهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى مُقْمَحُونَ: مَغْلُولُونَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كَالْإِبِلِ الْقِمَاحِ قَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ لِلْكَانُونَيْنِ شَهْرَا قِمَاحٍ، لِأَنَّ الْإِبِلَ إذا وردت الماء رفعت رؤوسها لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي زَيْدٍ الْهُذَلِيِّ: فَتًى مَا ابْنُ الْأَغَرِّ إِذَا شَتَوْنَا ... وَحُبَّ الزَّادُ فِي شَهْرَيْ قُمَاحِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَمَحَ الْبَعِيرُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ الْحَوْضِ وَلَمْ يَشْرَبْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا: هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي امْتِنَاعِهِمْ عَنِ الْهُدَى كَامْتِنَاعِ الْمَغْلُولِ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ حِمَارٌ، أَيْ: لَا يُبْصِرُ الْهُدَى، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأَقْيَادُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هذا ضرب مثل، أي: حسبناهم عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ «2» وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: الْآيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِقَوْمٍ فِي النَّارِ مِنْ وَضْعِ الْأَغْلَالِ فِي أَعْنَاقِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ «3» وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْمَانِهِمْ أَغْلَالًا» قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ فِي أَيْدِيهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَفْسِيرٌ وَلَا يُقْرَأُ بِمَا خَالَفَ الْمُصْحَفَ. قَالَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ، التَّقْدِيرُ: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ وفي أيديهم أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَلَفْظُ هِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَيْدِي لَا عَنِ الْأَعْنَاقِ، وَالْعَرَبُ تَحْذِفُ مثل هذا، ونظيره سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «4» وَتَقْدِيرُهُ: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْبَرْدَ، لِأَنَّ مَا وَقَى مِنَ الْحَرِّ وَقَى مِنَ الْبَرْدِ، لِأَنَّ الْغُلَّ إذا كان في العنق فلا بدّ أَنْ يَكُونَ فِي الْيَدِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْأَيْدِي فَهُمْ مُقْمَحُونَ، أَيْ: رافعو رؤوسهم لَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِطْرَاقَ، لِأَنَّ مَنْ غُلَّتْ يَدَاهُ إِلَى ذَقْنِهِ ارْتَفَعَ رَأْسُهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ «إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْدِيهِمْ أَغْلَالًا» وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ «إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْمَانِهِمْ أَغْلَالًا» كَمَا رُوِيَ سَابِقًا من قراءة ابن عباس

_ (1) . ص: 84 و 85. (2) . الإسراء: 29. (3) . غافر: 73. (4) . النحل: 81.

وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا أَيْ: مَنَعْنَاهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَوَانِعَ فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، كَالْمَضْرُوبِ أَمَامَهُ وَخَلْفَهُ بِالْأَسْدَادِ، وَالسَّدُّ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ قول الشاعر: ومن الحوادث لا أبالك أَنَّنِي ... ضُرِبَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِالْأَسْدَادِ لَا أَهْتَدِي فيها لموضع تلعة ... بين العذيب وَبَيْنَ أَرْضِ مُرَادِ فَأَغْشَيْناهُمْ أَيْ: غَطَّيْنَا أَبْصَارَهُمْ فَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ لَا يُبْصِرُونَ أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِبْصَارِ شَيْءٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فَأَلْبَسْنَا أَبْصَارَهُمْ غِشَاوَةً: أَيْ عَمًى، فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ سَبِيلَ الْهُدَى، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا يُبْصِرُونَ الْهُدَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يُبْصِرُونَ مُحَمَّدًا حِينَ ائْتَمَرُوا عَلَى قَتْلِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا: أَيِ الدُّنْيَا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا: أَيِ الْآخِرَةَ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ: أَيْ عَمُوا عَنِ الْبَعْثِ، وَعَمُوا عَنْ قَبُولِ الشَّرَائِعِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمُ الْآخِرَةُ وَمَا خَلْفَهُمُ الدُّنْيَا، قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ: أَيْ غَطَّيْنَا أَبْصَارَهُمْ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُمَرُ بن عبد العزيز، والحسن، ويحيى ابن يعمر، وأبو رجاء، وعكرمة بالعين الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْعَشَا، وَهُوَ ضَعْفُ الْبَصَرِ. وَمِنْهُ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ «1» وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ: إِنْذَارُكَ إِيَّاهُمْ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ هَذَا الْإِضْلَالَ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِنْذَارُ إِنَّمَا يَنْفَعُ الْإِنْذَارُ مَنْ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أَيِ: اتَّبَعَ الْقُرْآنَ، وَخَشِيَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا، وَجُمْلَةُ «لَا يُؤْمِنُونَ» مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الِاسْتِوَاءِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ بَدَلٌ، وبالغيب فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أَيْ: بِشِّرْ هَذَا الَّذِي اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ بِمَغْفِرَةٍ عَظِيمَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ، أَيْ: حَسَنٍ، وَهُوَ الْجَنَّةُ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى فقال: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أَيْ: نَبْعَثُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: أَيْ نُحْيِيهِمْ بِالْإِيمَانِ بَعْدَ الْجَهْلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِكَتْبِ آثَارِهِمْ فَقَالَ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا أَيْ أَسْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ والطالحة وَآثارَهُمْ أي ما أبقوه من الحسنة الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ نَفْعُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ: كَمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوِ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ فَاعِلِهَا، كَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً. قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ «2» وقوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ «3» وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ آثَارُ الْمَشَّائِينَ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ أَوْلَى مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ الْآيَةِ لَا بِخُصُوصِ سَبَبِهَا، وَعُمُومُهَا يَقْتَضِي كَتْبَ جَمِيعِ آثَارِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمِنَ الخير تعليم العلم وَتَصْنِيفَهُ، وَالْوَقْفُ عَلَى الْقِرَبِ، وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ، وَالْقَنَاطِرِ. وَمِنَ الشَّرِّ ابْتِدَاعُ الْمَظَالِمِ وَإِحْدَاثُ مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ، وَيَقْتَدِي بِهِ أَهْلُ الْجَوْرِ، وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَكْسٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أَيْ: وَكُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا كَائِنًا مَا كَانَ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ، أَيْ: كِتَابٍ

_ (1) . الزخرف: 36. (2) . الانفطار: 5. (3) . القيامة: 13.

[سورة يس (36) : الآيات 13 إلى 27]

مُقْتَدًى بِهِ مُوَضِّحٍ لِكُلِّ شَيْءٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَرَادَ صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَنَكْتُبُ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ زِرٌّ وَمَسْرُوقٌ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ بِنَصْبِ كُلَّ عَلَى الِاشْتِغَالِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمْأَلِ بِالرَّفْعِ. عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يس قَالَا: يَا مُحَمَّدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يس قَالَ: يَا إِنْسَانُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، حَتَّى تَأَذَّى بِهِ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى قَامُوا لِيَأْخُذُوهُ، وَإِذَا أَيْدِيهِمْ مَجْمُوعَةٌ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ، وَإِذَا هم عمي لا يبصرون، فجاؤوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: نَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إلا وللنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَنَزَلَتْ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ: فَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْ ذَلِكَ النَّفَرِ أَحَدٌ» . وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ فِي سَبَبِ نُزُولِ ذَلِكَ، هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَحْسَنُهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى الصِّحَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْأَغْلَالُ مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الذَّقَنِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ كَمَا تُقْمَحُ الدَّابَّةُ بِاللِّجَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا الْآيَةَ قَالَ: كَانُوا يَمُرُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَلَا يَرَوْنَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ بِبَابِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ لِيُؤْذُوهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ يس، وَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ وَخَرَجَ وَهُوَ يَقْرَؤُهَا ويذرّ التراب على رؤوسهم، فَمَا رَأَوْهُ حَتَّى جَازَ، فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ يَلْمِسُ رَأْسَهُ فَيَجِدُ التُّرَابَ، وَجَاءَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا نَنْتَظِرُ مُحَمَّدًا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، قَالَ: قُومُوا فَقَدْ سَحَرَكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ بَنُو سَلَمَةَ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قرب المسجد، فأنزل الله إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَكْتُبُ آثَارَكُمْ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِمُ الْآيَةَ فَتَرَكُوا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «إِنَّ بَنِي سَلَمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَبِيعُوا دِيَارَهُمْ وَيَتَحَوَّلُوا قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بَنِي سَلَمَةَ، دِيَارُكُمْ تَكْتُبُ آثَارَكُمْ» . [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

قَوْلُهُ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسُورَةِ النَّمْلِ، وَالْمَعْنَى: اضْرِبْ لِأَجْلِهِمْ مَثَلًا، أَوِ اضْرِبْ لِأَجْلِ نَفْسِكَ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ مَثَلًا: أَيْ مَثِّلْهُمْ عِنْدَ نَفْسِكَ بِأَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقال: لِتُنْذِرَ قَوْماً قَالَ قُلْ لَهُمْ: مَا أَنَا بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّ قَبْلِي بِقَلِيلٍ جَاءَ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ مُرْسَلُونَ، وَأَنْذَرُوهُمْ بِمَا أَنْذَرْتُكُمْ، وَذَكَرُوا التَّوْحِيدَ، وَخَوَّفُوا بِالْقِيَامَةِ، وَبَشَّرُوا بِنَعِيمِ دَارِ الْإِقَامَةِ. وَعَلَى الثَّانِي لَمَّا قَالَ: إِنَّ الْإِنْذَارَ لَا يَنْفَعُ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، قال النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: اضْرِبْ لِنَفْسِكَ وَلِقَوْمِكَ مَثَلًا: أَيْ مَثِّلْ لَهُمْ عِنْدَ نَفْسِكَ مَثَلًا بِأَصْحَابِ الْقَرْيَةِ حَيْثُ جَاءَهُمْ ثَلَاثَةُ رُسُلٍ وَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَصَبَرَ الرُّسُلُ عَلَى الْإِيذَاءِ وَأَنْتَ جِئْتَ إِلَيْهِمْ وَاحِدًا، وَقَوْمُكَ أَكْثَرُ مِنْ قَوْمِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُمْ جَاءُوا إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَأَنْتَ بَعَثْتُكَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً. وَالْمَعْنَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا مَثَلَ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، أَيِ: اذْكُرْ لَهُمْ قِصَّةً عَجِيبَةً قِصَّةَ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، فَتُرِكَ الْمَثَلُ، وَأُقِيمَ أَصْحَابُ الْقَرْيَةِ مَقَامَهُ فِي الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ، بَلِ الْمَعْنَى: اجْعَلْ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ لَهُمْ مَثَلًا على أن يكون مثلا وأصحاب القرية مفعولين لا ضرب، أَوْ يَكُونَ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ بَدَلًا مِنْ مَثَلًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَيْنِ الْمَفْعُولَيْنِ هَلْ هُوَ مَثَلًا أَوْ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً فِي تَطْبِيقِ حَالَةٍ غَرِيبَةٍ بِحَالَةٍ أُخْرَى مِثْلِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ «1» وَيُسْتَعْمَلُ أُخْرَى فِي ذِكْرِ حَالَةٍ غَرِيبَةٍ، وَبَيَانِهَا لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى تَطْبِيقِهَا بِنَظِيرِهِ لَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ «2» أَيْ: بَيَّنَّا لَكُمْ أَحْوَالًا بَدِيعَةً غَرِيبَةً. هِيَ فِي الْغَرَابَةِ كَالْأَمْثَالِ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ هُنَا وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْقَرْيَةُ هِيَ أَنْطَاكِيَةُ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَوْلُهُ: إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، وَالْمُرْسَلُونَ: هُمْ أَصْحَابُ عِيسَى بَعَثَهُمْ إِلَى أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ لِلدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، فَأَضَافَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْإِرْسَالَ إِلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ لِأَنَّ عِيسَى أَرْسَلَهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْسَلَهُمْ بَعْدَ رَفْعِ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ، فَكَذَّبُوهُمَا فِي الرِّسَالَةِ، وَقِيلَ ضَرَبُوهُمَا وَسَجَنُوهُمَا. قِيلَ: وَاسْمُ الِاثْنَيْنِ يُوحَنَّا وَشَمْعُونُ. وَقِيلَ: أَسْمَاءُ الثَّلَاثَةِ صَادِقٌ وَمَصْدُوقٌ وَشَلُومُ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: سَمْعَانُ وَيَحْيَى وَبُولُسُ فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ قرأ الجمهور

_ (1) . التحريم: 10. (2) . إبراهيم: 45.

بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ «فَعَزَّزْنَا» يُخَفَّفُ وَيُشَدَّدُ، أَيْ: قَوَّيْنَا وَشَدَّدْنَا فَالْقِرَاءَتَانِ عَلَى هَذَا بِمَعْنًى. وَقِيلَ: التَّخْفِيفُ بِمَعْنَى غَلَبْنَا وَقَهَرْنَا، وَمِنْهُ وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «1» وَالتَّشْدِيدُ بِمَعْنَى: قَوَّيْنَا وَكَثَّرْنَا. قِيلَ: وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ شَمْعُونُ، وَقِيلَ غَيْرُهُ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ أَيْ: قَالَ الثَّلَاثَةُ جَمِيعًا، وَجَاءُوا بِكَلَامِهِمْ هَذَا مُؤَكَّدًا لَسَبْقِ التَّكْذِيبِ لِلِاثْنَيْنِ، وَالتَّكْذِيبُ لَهُمَا تَكْذِيبٌ لِلثَّالِثِ، لِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا جَمِيعًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا قَالَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ بَعْدَ التَّعْزِيزِ لَهُمْ بِثَالِثٍ؟ وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ: قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فإنها مستأنفة جواب سؤال قدّر: كَأَنَّهُ قِيلَ فَمَا قَالَ لَهُمْ أَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ، فَقِيلَ: قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا، أَيْ: مُشَارِكُونَ لَنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، فَلَيْسَ لَكُمْ مَزِيَّةٌ عَلَيْنَا تَخْتَصُّونَ بِهَا. ثُمَّ صَرَّحُوا بِجُحُودِ إِنْزَالِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ فَقَالُوا: وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا تَدَّعُونَهُ أَنْتُمْ وَيَدَّعِيهِ غَيْرُكُمْ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أَيْ: مَا أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ فِي دَعْوَى مَا تَدَّعُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَجَابُوهُمْ بِإِثْبَاتِ رِسَالَتِهِمْ بِكَلَامٍ مُؤَكَّدٍ تَأْكِيدًا بَلِيغًا لِتَكَرُّرِ الإنكار من أهل أنطاكية، وهو قوله: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ فَأَكَّدُوا الْجَوَابَ بِالْقَسَمِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَبُّنَا يَعْلَمُ، وَبِإِنَّ، وَبِاللَّامِ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَيْ: مَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ جِهَةِ رَبِّنَا إِلَّا تَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ عَلَى وَجْهِ الظُّهُورِ وَالْوُضُوحِ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ: قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ فَإِنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِنَّا تَشَاءَمْنَا بِكُمْ، لَمْ تَجِدُوا جَوَابًا تُجِيبُونَ بِهِ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا هَذَا الْجَوَابَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الْجَهْلِ الْمُنْبِئِ عَنِ الْغَبَاوَةِ الْعَظِيمَةِ، وَعَدَمِ وُجُودِ حُجَّةٍ تَدْفَعُونَ الرُّسُلَ بِهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ ثَلَاثَ سِنِينَ. قِيلَ: إِنَّهُمْ أَقَامُوا يُنْذِرُونَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى التَّجَبُّرِ وَالتَّكَبُّرِ لَمَّا ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ وَأَعْيَتْهُمُ الْعِلَلُ فَقَالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ أَيْ: لَئِنْ لَمْ تَتْرُكُوا هَذِهِ الدَّعْوَى وَتُعْرِضُوا عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَنَرْجُمَنَّكُمْ بِالْحِجَارَةِ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: شَدِيدٌ فَظِيعٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: عَامَّةُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الرَّجْمِ الْمُرَادُ بِهِ الْقَتْلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ عَلَى بَابِهِ مِنَ الرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ. قِيلَ: وَمَعْنَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ: الْقَتْلُ، وَقِيلَ: الشَّتْمُ، وَقِيلَ: هُوَ التَّعْذِيبُ الْمُؤْلِمُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِنَوْعٍ خَاصٍّ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. ثُمَّ أَجَابَ عَلَيْهِمُ الرُّسُلُ دَفْعًا لِمَا زَعَمُوهُ من التطير بهم قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي: شأمكم مَعَكُمْ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِكُمْ، لَازِمٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ شُؤْمِنَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ: أَيْ رِزْقُكُمْ وَعَمَلُكُمْ وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «طَائِرُكُمْ» اسْمُ فَاعِلٍ: أَيْ مَا طَارَ لَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ «طيركم» أي: تطيركم أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا إِنِ الشَّرْطِيَّةُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي التَّسْهِيلِ وَالتَّحْقِيقِ، وَإِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ وَعَدَمِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وابن السميقع وَطَلْحَةُ بِهَمْزَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ «أَيْنَ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ على صيغة الظرف.

_ (1) . ص: 23. [.....]

وَاخْتَلَفَ سِيبَوَيْهِ وَيُونُسُ إِذَا اجْتَمَعَ اسْتِفْهَامٌ وَشَرْطٌ أَيُّهُمَا يُجَابُ؟ فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّهُ يُجَابُ الِاسْتِفْهَامُ، وَذَهَبَ يُونُسُ إِلَى أَنَّهُ يُجَابُ الشَّرْطُ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالْجَوَابُ هُنَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ فَطَائِرُكُمْ مَعَكُمْ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْمَاجِشُونُ «أَنْ ذُكِّرْتُمْ» بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ، أَيْ: لِأَنْ ذُكِّرْتُمْ، ثُمَّ أَضْرَبُوا عَمَّا يَقْتَضِيهِ الِاسْتِفْهَامُ وَالشَّرْطُ مِنْ كَوْنِ التَّذْكِيرِ سَبَبًا لِلشُّؤْمِ فَقَالُوا: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادَتُكُمُ الْإِسْرَافُ فِي الْمَعْصِيَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: مُسْرِفُونَ فِي تَطَيُّرِكُمْ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: مُسْرِفُونَ فِي كُفْرِكُمْ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: السَّرَفُ هُنَا الْفَسَادُ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْأَصْلِ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي مُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى هُوَ حَبِيبُ بْنُ مُوسَى النَّجَّارُ، وَكَانَ نَجَّارًا، وَقِيلَ: إِسْكَافًا، وَقِيلَ: قَصَّارًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ حَبِيبُ بْنُ إِسْرَائِيلَ النجار، وَكَانَ يَنْحِتُ الْأَصْنَامَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي غَارٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِخَبَرِ الرُّسُلِ جاء يسعى، وجملة: قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ لَهُمْ عِنْدَ مَجِيئِهِ؟ فَقِيلَ: قال يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْكُمْ فَإِنَّهُمْ جَاءُوا بِحَقٍّ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ وكرّره فقال: اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً أَيْ: لَا يَسْأَلُونَكُمْ أَجْرًا عَلَى مَا جَاءُوكُمْ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَهُمْ مُهْتَدُونَ يَعْنِي: الرُّسُلَ. ثُمَّ أَبْرَزَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ النَّصِيحَةِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ مُنَاصَحَةَ قَوْمِهِ فَقَالَ: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أَيْ: أَيُّ مَانِعٍ مِنْ جَانِبِي يَمْنَعُنِي مِنْ عِبَادَةِ الَّذِي خَلَقَنِي. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خِطَابِهِمْ لِبَيَانِ أَنَّهُ مَا أَرَادَ نَفْسَهُ، بَلْ أَرَادَهُمْ بِكَلَامِهِ فَقَالَ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلَمْ يَقُلْ إِلَيْهِ أَرْجِعُ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّهْدِيدِ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَسَاقِ الْأَوَّلِ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَمَزِيدِ الْإِيضَاحِ فَقَالَ: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً فَجَعَلَ الْإِنْكَارَ مُتَوَجِّهًا إِلَى نَفْسِهِ، وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِهِ، أَيْ: لَا أَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً وَأَعْبُدُهَا، وَأَتْرُكُ عِبَادَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَهُوَ الَّذِي فَطَرَنِي. ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ، وَبَيَانًا لِضَلَالِ عُقُولِهِمْ وَقُصُورِ إِدْرَاكِهِمْ فَقَالَ: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً أَيْ: شَيْئًا مِنَ النَّفْعِ كَائِنًا مَا كَانَ وَلا يُنْقِذُونِ مِنْ ذَلِكَ الضُّرِّ الَّذِي أَرَادَنِي الرَّحْمَنُ بِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِآلِهَةٍ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِهَا فِي عَدَمِ النَّفْعِ وَالدَّفْعِ، وَقَوْلُهُ: لَا تُغْنِ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ «إِنْ يُرِدْنِيَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ، قَالَ: إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: إِنِّي إِذَا اتَّخَذْتُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَاضِحٍ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِهِمْ كَمَا سَبَقَ، وَالضَّلَالُ: الْخُسْرَانُ. ثُمَّ صَرَّحَ بِإِيمَانِهِ تَصْرِيحًا لَا يَبْقَى بَعْدَهُ شَكٌّ فَقَالَ: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ خاطب بهذا الكلام المرسلين. قال المفسرون: أراد الْقَوْمُ قَتْلَهُ، فَأَقْبَلَ هُوَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ أَيُّهَا الرُّسُلُ فَاسْمَعُونِ، أَيِ: اسْمَعُوا إِيمَانِي وَاشْهَدُوا لِي بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ خَاطَبَ بِهَذَا الْكَلَامِ قَوْمَهُ لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ تَصَلُّبًا فِي الدِّينِ وَتَشَدُّدًا فِي الْحَقِّ، فَلَمَّا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَصَرَّحَ بِالْإِيمَانِ وَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَقِيلَ: وَطِئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ، وَقِيلَ: حَرَقُوهُ، وَقِيلَ: حفروا له حفرة وَأَلْقَوْهُ فِيهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقِيلَ: نَشَرُوهُ بِالْمِنْشَارِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ أَيْ: قِيلَ لَهُ ذَلِكَ تَكْرِيمًا لَهُ بِدُخُولِهَا بَعْدَ قَتْلِهِ كَمَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي شُهَدَاءَ عِبَادِهِ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَلَمْ يُقْتَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ

[سورة يس (36) : الآيات 28 إلى 40]

لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ نَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ الْقَتْلِ، وَقِيلَ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ فَلَمَّا دَخَلَهَا وَشَاهَدَهَا قالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: فَمَاذَا قَالَ بَعْدَ أَنْ قِيلَ لَهُ ادْخُلِ الْجَنَّةَ فَدَخَلَهَا؟ فَقِيلَ: قال يا ليت قومي إلخ، وما: فِي بِما غَفَرَ لِي هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ، أَيْ: بِغُفْرَانِ رَبِّي، وَقِيلَ: هِيَ الْمَوْصُولَةُ، أَيْ: بِالَّذِي غَفَرَ لِي رَبِّي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: غَفَرَهُ لِي رَبِّي، وَاسْتُضْعِفَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَمَنِّيهِ أَنْ يَعْلَمَ قَوْمُهُ بِذُنُوبِهِ الْمَغْفُورَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِلَّا التَّمَنِّي مِنْهُ بِأَنْ يَعْلَمَ قَوْمُهُ بِغُفْرَانِ رَبِّهِ لَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ غَفَرَ لِي رَبِّي. قَالَ الْكِسَائِيُّ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَقَالَ بِمَ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ إِثْبَاتُهَا وَإِنْ كَانَ مَكْسُورًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَذْفِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي دَمَانِ وَفِي مَعْنَى تَمَنِّيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَمَنَّى أَنْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ لِيَعْلَمُوا حُسْنَ مَآلِهِ، وَحَمِيدَ عَاقِبَتِهِ إِرْغَامًا لَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تَمَنَّى أَنْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ لِيُؤْمِنُوا مِثْلَ إِيمَانِهِ، فَيَصِيرُوا إِلَى مِثْلِ حَالِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ قَالَ: هِيَ أَنْطَاكِيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَبَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَلْفُ سَنَةٍ وَتِسْعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ، وَأَنَّهُ أُرْسِلَ بَيْنَهُمَا أَلْفُ نَبِيٍّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سِوَى مَنْ أُرْسِلَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ بَيْنَ مِيلَادِ عِيسَى وَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، بُعِثَ فِي أَوَّلِهَا ثَلَاثَةُ أَنْبِيَاءَ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ وَالَّذِي عَزَّزَ بِهِ شَمْعُونَ، وَكَانَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، وَكَانَتِ الْفَتْرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْعَثُ اللَّهُ فِيهَا رَسُولًا أربعمائة سنة وأربع وثلاثون سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ قَالَ: شُؤْمُكُمْ مَعَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا في قوله: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ قَالَ: هُوَ حَبِيبٌ النَّجَّارُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، قَالَ اسْمُ صَاحِبِ يس: حَبِيبٌ، وَكَانَ الْجُذَامُ قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مسعود قال: لما قال صاحب يس يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ خَنَقُوهُ لِيَمُوتَ فَالْتَفَتَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أَيْ: فَاشْهَدُوا لي. [سورة يس (36) : الآيات 28 الى 40] وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

لَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَعَ حَبِيبٍ النَّجَّارِ غَضَبَ اللَّهُ لَهُ وَعَجَّلَ لَهُمُ النِّقْمَةَ وَأَهْلَكَهُمْ بِالصَّيْحَةِ، وَمَعْنَى وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: عَلَى قَوْمِ حَبِيبٍ النَّجَّارِ مِنْ بَعْدِ قَتْلِهِمْ لَهُ، أَوْ مِنْ بَعْدِ رفع الله له إلى السموات عَلَى الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ لِإِهْلَاكِهِمْ وَلِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، أَيْ: لَمْ نَحْتَجْ إِلَى إِرْسَالِ جُنُودٍ مِنَ السَّمَاءِ لِإِهْلَاكِهِمْ كَمَا وَقَعَ ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ إِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ لِنُصْرَتِهِ وَحَرْبِ أَعْدَائِهِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أَيْ: وَمَا صَحَّ فِي قَضَائِنَا وَحِكْمَتِنَا أَنْ نُنْزِلَ لِإِهْلَاكِهِمْ جُنْدًا لَسَبْقِ قَضَائِنَا وَقَدَرِنَا بِأَنَّ إِهْلَاكَهُمْ بِالصَّيْحَةِ لَا بِإِنْزَالِ الْجُنْدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: أَيْ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْهِمْ مِنْ رِسَالَةٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا نَبِيٍّ بَعْدَ قَتْلِهِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ النَّازِلُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ تَحْقِيرُ شَأْنِهِمْ وَتَصْغِيرُ أَمْرِهِمْ، أَيْ: لَيْسُوا بِأَحِقَّاءَ بِأَنْ نُنْزِلَ لِإِهْلَاكِهِمْ جُنْدًا مِنَ السَّمَاءِ، بَلْ أَهْلَكْنَاهُمْ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أَيْ: إِنْ كَانَتِ الْعُقُوبَةُ أَوِ النِّقْمَةُ أَوِ الْأَخْذَةُ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً صَاحَ بِهَا جِبْرِيلُ فَأَهْلَكَهُمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ جِبْرِيلُ بِعِضَادَتَيْ بَابِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ صَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً فَإِذَا هُمْ مَيِّتُونَ لَا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسٌّ كَالنَّارِ إِذَا طَفِئَتْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أَيْ: قَوْمٌ خَامِدُونَ مَيِّتُونَ، شَبَّهَهُمْ بِالنَّارِ إِذَا طَفِئَتْ، لِأَنَّ الْحَيَاةَ كَالنَّارِ السَّاطِعَةِ، وَالْمَوْتَ كَخُمُودِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ صَيْحَةً بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ كَانَ نَاقِصَةٌ، وَاسْمُهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ السِّيَاقِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَمُعَاذٌ القاري بِرَفْعِهَا عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، أَيْ: وَقَعَ وَحَدَثَ، وَأَنْكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ بِسَبَبِ التَّأْنِيثِ فِي قَوْلِهِ إِنْ كانَتْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فَلَوْ كَانَ كَمَا قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ لَقَالَ: إِنْ كَانَ إِلَّا صَيْحَةٌ وَقَدَّرَ الزَّجَّاجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كَانَتْ عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً، وَقَدَّرَهَا غَيْرُهُ: مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِمْ إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إِنْ كَانَتْ إِلَّا زَقْيَةً وَاحِدَةً وَالزَّقْيَةُ: الصَّيْحَةُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْمُصْحَفِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللُّغَةَ الْمَعْرُوفَةَ زَقَا يَزْقُو إِذَا صَاحَ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ «أَثْقَلُ مِنَ الزَّوَاقِي» فَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ زَقْوَةً، وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ: الزَّقْوُ وَالزَّقْيُ مَصْدَرٌ، وَقَدْ زَقَا الصَّدَا يزقو زقاء: أَيْ: صَاحَ، وَكُلُّ صَائِحٍ زَاقٍ، وَالزَّقْيَةُ الصَّيْحَةُ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ حَسْرَةً، عَلَى أَنَّهَا مُنَادًى مُنَكَّرٌ كَأَنَّهُ نَادَى الْحَسْرَةَ وَقَالَ لَهَا: هَذَا أَوَانُكِ فَاحْضُرِي. وَقِيلَ: إِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَالْمُنَادَى: مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا هَؤُلَاءِ تَحَسَّرُوا حَسْرَةً. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأُبَيٌّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِضَمِّ حَسْرَةُ عَلَى النِّدَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: إِنَّ الِاخْتِيَارَ النَّصْبُ وَإِنَّهَا لَوْ رُفِعَتِ النَّكِرَةُ لَكَانَ صَوَابًا، وَاسْتَشْهَدَ بِأَشْيَاءَ

نَقَلَهَا عَنِ الْعَرَبِ مِنْهَا أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْعَرَبِ يَا مُهْتَمُّ بِأَمْرِنَا لَا تَهْتَمَّ، وَأَنْشَدَ: يَا دَارُ غَيَّرَهَا الْبِلَى تَغْيِيرًا قَالَ النَّحَّاسُ: وَفِي هَذَا إِبْطَالُ بَابِ النِّدَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِ. قال: وَتَقْدِيرُ مَا ذَكَرَهُ: يَا أَيُّهَا الْمُهْتَمُّ لَا تَهْتَمَّ بِأَمْرِنَا، وَتَقْدِيرُ الْبَيْتِ: يَا أَيَّتُهَا الدَّارُ. وَحَقِيقَةُ الْحَسْرَةِ أَنْ يَلْحَقَ الْإِنْسَانَ مِنَ النَّدَمِ مَا يَصِيرُ بِهِ حَسِيرًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمَعْنَى يَا حَسْرَةً مِنَ الْعِبَادِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَنَدُّمًا وَتَلَهُّفًا فِي اسْتِهْزَائِهِمْ بِرُسُلِ اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ «يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ» عَلَى الْإِضَافَةِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أُبَيٍّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّهَا حَسْرَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْكُفَّارِ حِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَقِيلَ: هِيَ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ إِنَّ الْقَائِلَ: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ هُمُ الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ، وَالْعُبَّادُ: الرُّسُلُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ تَحَسَّرُوا عَلَى قَتْلِهِمْ وَتَمَنَّوُا الْإِيمَانَ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّحَسُّرَ عَلَيْهِمْ هُوَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ لِتَعْظِيمِ مَا جَنَوْهُ وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ يَا حَسْرَةً بِسُكُونِ الْهَاءِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقُرِئَ «يَا حَسْرَتَا» كَمَا قُرِئَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، وَجُمْلَةُ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ التَّحَسُّرِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ عَجِبَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَالِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فَقَالَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَيْ: أَلَمْ يَعْلَمُوا كَثْرَةَ مَنْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَجُمْلَةُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بَدَلٌ مِنْ كَمْ أَهْلَكْنَا عَلَى الْمَعْنَى. قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ بَدَلٌ مِنْ كَمْ، وَهِيَ الْخَبَرِيَّةُ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُبْدَلَ مِنْهَا مَا لَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الْقُرُونَ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِ (يَرَوْا) ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَلَمْ يَرَوْا مَنْ أَهْلَكْنَا» وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ تَكُونَ كَمْ فِي مَوْضِعِ نصب بأهلكنا. قَالَ النَّحَّاسُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مُحَالٌ، لِأَنَّ كَمْ لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا اسْتِفْهَامٌ، وَمُحَالٌ أَنْ يَدْخُلَ الِاسْتِفْهَامُ فِي حَيِّزِ مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا حُكْمُهَا إِذَا كَانَتْ خَبَرًا، وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ قَدْ أَوْمَأَ إِلَى بَعْضِ هَذَا فَجَعَلَ أَنَّهُمْ بَدَلًا مِنْ كَمْ، وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ الْمُبَرِّدُ أَشَدَّ رَدٍّ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أَيْ: مُحْضَرُونَ لَدَيْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْجَزَاءِ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ لَمَّا بِتَشْدِيدِهَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: من شدّد جعل لما بمعنى إلا، وإن بِمَعْنَى مَا: أَيْ مَا كُلٌّ إِلَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ، وَمَعْنَى جَمِيعٌ مَجْمُوعُونَ، فَهُوَ فَعِيلٌ بمعنى مفعول، ولدينا ظرف له، وأما على قراءة التخفيف فإن هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَمَا بَعْدَهَا مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَتَنْوِينُ كُلٌّ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَمَا بَعْدَهُ الْخَبَرُ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ المخففة والنافية. قال أبو عبيدة: وما عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: وَإِنْ كُلٌّ لَجَمِيعٌ. وَقِيلَ مَعْنَى مُحْضَرُونَ مُعَذَّبُونَ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ مِنَ الْإِحْضَارِ لِلْحِسَابِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْبُرْهَانَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ مَعَ تَعْدَادِ النِّعَمِ وَتَذْكِيرِهَا فَقَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ فآية: خبر مقدّم، وتنكيرها للتفخيم، ولهم صفتها، أو متعلقة بآية لأنها بمعنى علامة، والأرض: مُبْتَدَأٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ مُبْتَدَأً لِكَوْنِهَا قَدْ تَخَصَّصَتْ بِالصِّفَةِ، وَمَا بَعْدَهَا

الْخَبَرُ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ «الْمَيِّتَةَ» بِالتَّشْدِيدِ وَخَفَّفَهَا الْبَاقُونَ، وَجُمْلَةُ أَحْيَيْناها مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِكَيْفِيَّةِ كَوْنِهَا آيَةً، وَقِيلَ هِيَ صِفَةٌ لِلْأَرْضِ فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ بِهَذَا عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَذَكَّرَهُمْ نِعَمَهُ وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْيَا الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ: وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْحُبُوبَ الَّتِي يَأْكُلُونَهَا وَيَتَغَذَّوْنَ بِهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَهُوَ مَا يَقْتَاتُونَهُ مِنَ الْحُبُوبِ، وَتَقْدِيمُ مِنْهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحَبَّ مُعْظَمُ مَا يُؤْكَلُ وَأَكْثَرُ مَا يَقُومُ بِهِ الْمَعَاشُ وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أَيْ: جَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ جَنَّاتٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ، وَخَصَّصَهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَعْلَى الثِّمَارِ وَأَنْفَعُهَا لِلْعِبَادِ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ أَيْ: فَجَّرْنَا فِي الْأَرْضِ بَعْضًا مِنَ الْعُيُونِ، فَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مقامه، أو المفعول العيون، ومن مَزِيدَةٌ عَلَى رَأْيِ مَنْ جَوَّزَ زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ وَهُوَ الْأَخْفَشُ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعُيُونِ عُيُونُ الْمَاءِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ فَجَّرْنا بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْفَجْرُ وَالتَّفْجِيرُ: كَالْفَتْحِ وَالتَّفْتِيحِ، لَفْظًا وَمَعْنًى، وَاللَّامُ فِي لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ متعلق بجعلنا، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ ثَمَرِهِ يَعُودُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالنَّخِيلِ، وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَاءِ الْعُيُونِ لِأَنَّ الثَّمَرَ مِنْهُ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثَمَرِهِ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهِمَا، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِضَمِّ الثَّاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي الْأَنْعَامِ، وَقَوْلُهُ: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى ثَمَرِهِ، أَيْ: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَيَأْكُلُوا مِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ كَالْعَصِيرِ وَالدِّبْسِ وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَلِكَ مَا غَرَسُوهُ وَحَفَرُوهُ عَلَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ، وَقِيلَ: هِيَ نَافِيَةٌ وَالْمَعْنَى: لَمْ يَعْمَلُوهُ، بَلِ الْعَامِلُ لَهُ هُوَ اللَّهُ، أَيْ: وَجَدُوهَا مَعْمُولَةً وَلَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ عَمِلَتْهُ وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ «عَمِلَتْ» بِحَذْفِ الضَّمِيرِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا يَشْكُرُونَ للتقريع والتوبيخ لهم بعدم شُكْرِهِمْ لِلنِّعَمِ، وَجُمْلَةُ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَنْزِيهِهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ تَرْكِ الشُّكْرِ لِنِعَمِهِ الْمَذْكُورَةِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ إِخْلَالِهِمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُسْتَوْفًى فِي مَعْنَى سُبْحَانَ، وَهُوَ فِي تَقْدِيرِ الْأَمْرِ لِلْعِبَادِ بِأَنْ يُنَزِّهُوهُ عَمًّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْأَزْوَاجُ: الْأَنْوَاعُ وَالْأَصْنَافُ، لِأَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مُخْتَلِفُ الألوان والطعوم والأشكال، ومِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ بَيَانٌ لِلْأَزْوَاجِ، وَالْمُرَادُ كُلُّ مَا يَنْبُتُ فِيهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ: خَلَقَ الْأَزْوَاجَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُمُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ مِنْ أَصْنَافِ خَلْقِهِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ الْكَلَامُ فِي هَذَا كَمَا قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ عَلَامَةٌ دَالَّةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَوُجُوبِ إِلَهِيَّتِهِ، وَالسَّلْخُ: الْكَشْطُ وَالنَّزْعُ، يُقَالُ سَلَخَهُ اللَّهُ مِنْ دينه، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْإِخْرَاجِ، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ ذَهَابَ الضَّوْءِ وَمَجِيءَ الظُّلْمَةِ كَالسَّلْخِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ بَلِيغَةٌ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أَيْ: دَاخِلُونَ فِي الظَّلَامِ مُفَاجَأَةً وَبَغْتَةً، يُقَالُ أَظْلَمْنَا: أَيْ دَخَلْنَا فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ، وَأَظْهَرْنَا دَخْلَنَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَكَذَلِكَ أَصْبَحْنَا وَأَمْسَيْنَا، وَقِيلَ «مِنْهُ» بِمَعْنَى عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: نَسْلَخُ عَنْهُ ضِيَاءَ النَّهَارِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَرْمِي بِالنَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ فَيَأْتِي بِالظُّلْمَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ هِيَ الظُّلْمَةُ وَالنَّهَارُ دَاخِلٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ سُلِخَ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ: كُشِطَ وَأُزِيلَ فَتَظْهَرُ الظُّلْمَةُ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها

يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى اللَّيْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَآيَةٌ لَهُمُ الشَّمْسُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ ابْتِدَائِيَّةً، وَالشَّمْسُ مُبْتَدَأً، وَمَا بَعْدَهَا الْخَبَرَ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ مُسْتَأْنَفًا مُشْتَمِلًا عَلَى ذِكْرِ آيَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: تَجْرِي لِمَجْرًى مُسْتَقَرٍّ لَهَا، فَتَكُونُ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ: أَيْ: لِأَجْلٍ مُسْتَقَرٍّ لَهَا، وَقِيلَ اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى وَقَدْ قُرِئَ بِذَلِكَ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالْمُسْتَقَرِّ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَعِنْدَهُ تَسْتَقِرُّ وَلَا يَبْقَى لَهَا حَرَكَةٌ، وَقِيلَ مُسْتَقَرُّهَا هُوَ أَبْعَدُ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ وَلَا تُجَاوِزُهُ، وَقِيلَ نِهَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي الصَّيْفِ وَنِهَايَةُ هُبُوطِهَا فِي الشِّتَاءِ، وَقِيلَ مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، لِأَنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى هُنَالِكَ فَتَسْجُدُ، فَتَسْتَأْذِنُ فِي الرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ لِلشَّمْسِ فِي السَّنَةِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَطْلَعًا تَنْزِلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَطْلَعًا ثُمَّ لَا تَنْزِلُ إِلَى الْحَوْلِ، فَهِيَ تَجْرِي فِي تِلْكَ الْمَنَازِلِ، وَهُوَ مُسْتَقَرُّهَا، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَزَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَابْنُهُ الْبَاقِرُ، وَالصَّادِقُ بْنُ الْبَاقِرِ: «لا مستقرّ لها» الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَبِنَاءِ مُسْتَقَرَّ عَلَى الْفَتْحِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: لَا مُسْتَقَرٌّ بِلَا التي بمعنى ليس، ومستقرّ اسمها، ولها خَبَرُهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى جَرْيِ الشَّمْسِ، أَيْ: ذَلِكَ الْجَرْيُ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ أَيِ: الْغَالِبُ الْقَاهِرُ الْعَلِيمِ: أَيِ: الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ رَاجِعَةً إِلَى الْمُسْتَقَرِّ، أَيْ: ذَلِكَ الْمُسْتَقَرُّ: تَقْدِيرُ اللَّهِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِرَفْعِ الْقَمَرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَانْتِصَابُ مَنَازِلَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، لِأَنَّ قَدَّرْنَا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: قَدَّرْنَا سَيْرَهُ حَالَ كَوْنِهِ ذَا مَنَازِلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: فِي مَنَازِلَ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ النَّصْبَ فِي الْقَمَرَ، قَالَ: لِأَنَّ قَبْلَهُ فِعْلًا وَهُوَ نَسْلَخُ، وَبَعْدَهُ فِعْلًا وَهُوَ قَدَّرْنَا. قَالَ النَّحَّاسُ: أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ جَمِيعًا فِيمَا عَلِمْتُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ. مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ قَالَ: الرَّفْعُ أَعْجَبُ إِلَيَّ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ الرَّفْعُ عِنْدَهُمْ أَوْلَى لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَمَعْنَاهُ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْقَمَرُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الرَّفْعُ أَوْلَى، لِأَنَّكَ شَغَلْتَ الْفِعْلَ عَنْهُ بِالضَّمِيرِ فَرَفَعْتَهُ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمَنَازِلُ: هِيَ الثَّمَانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ الَّتِي يَنْزِلُ الْقَمَرُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا، فَإِذَا صَارَ الْقَمَرُ فِي آخِرِهَا عَادَ إِلَى أَوَّلِهَا، فَيَقْطَعُ الْفَلَكَ فِي ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَسْتَتِرُ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ يَطْلُعُ هِلَالًا، فَيَعُودُ فِي قطع تلك المنازل من الْفَلَكِ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْعُرْجُونُ هُوَ عُودُ الْعِذْقِ الَّذِي فِيهِ الشَّمَارِيخُ، وَهُوَ فُعْلُونٌ مِنَ الِانْعِرَاجِ، وَهُوَ الِانْعِطَافُ، أَيْ: سَارَ فِي مَنَازِلِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِهَا دَقَّ وَاسْتَقْوَسَ وَصَغُرَ حَتَّى صَارَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، وَعَلَى هَذَا فَالنُّونُ زَائِدَةٌ. قَالَ قَتَادَةُ: وَهُوَ الْعِذْقُ الْيَابِسُ الْمُنْحَنِي مِنَ النَّخْلَةِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: الْعُرْجُونُ الَّذِي يَبْقَى فِي النَّخْلَةِ إِذَا قُطِعَتْ، وَالْقَدِيمُ: الْبَالِي. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعُرْجُونُ أَصْلُ الْعِذْقِ وَهُوَ أَصْفَرُ عَرِيضٌ، يُشَبَّهُ بِهِ الْهِلَالُ إِذَا انْحَنَى، وَكَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: إِنَّهُ أَصْلُ الْعِذْقِ الَّذِي يَعْوَجُّ وَيُقْطَعُ مِنْهُ الشَّمَارِيخُ، فَيَبْقَى عَلَى النَّخْلِ يَابِسًا، وَعَرَّجْتُهُ: ضَرَبْتُهُ بِالْعُرْجُونِ، وَعَلَى هَذَا فالنون أصلية. قرأ الجمهور كَالْعُرْجُونِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْجِيمِ: وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْقَدِيمُ: الْعَتِيقُ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ الشَّمْسُ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَعْمَلَ لَا فِي الْمَعْرِفَةِ: أَيْ لَا يَصِحُّ وَلَا يُمْكِنْ لِلشَّمْسِ أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ فِي

سرعة السير وتنزل في المنزل الذي ينزل فِيهِ الْقَمَرُ، لِأَنَّ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُلْطَانًا عَلَى انْفِرَادِهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ أَحَدُهُمَا مِنَ الدُّخُولِ عَلَى الْآخَرِ، فَيَذْهَبُ سُلْطَانُهُ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ بِالْقِيَامَةِ، فَتَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَمَرِ ضَوْءٌ، وَإِذَا طَلَعَ الْقَمَرُ لَمْ يَكُنْ لِلشَّمْسِ ضَوْءٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا يُشْبِهُ ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الْآخَرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي السَّمَاءِ لَيْلَةَ الْهِلَالِ خَاصَّةً، وَكَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِذَا اجْتَمَعَا فِي السَّمَاءِ كَانَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ يَدَيِ الْآخَرِ فِي مَنْزِلٍ لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ. وَقِيلَ الْقَمَرُ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَالشَّمْسُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ «1» . ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَالْمَهْدَوِيُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ وَأَبَيْنُهُ: أَنَّ سَيْرَ الْقَمَرِ سَيْرٌ سَرِيعٌ، وَالشَّمْسُ لَا تُدْرِكُهُ فِي السَّيْرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «2» فَذَلِكَ حِينَ حَبَسَ الشَّمْسَ عَنِ الطُّلُوعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْأَنْعَامِ، وَيَأْتِي فِي سورة القيامة أيضا، وجمعهما لِانْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أَيْ: لَا يَسْبِقُهُ فَيَفُوتُهُ، وَلَكِنْ يُعَاقِبُهُ. وَيَجِيءُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي وَقْتِهِ وَلَا يَسْبِقُ صَاحِبَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَتَاهُمَا، وَهُمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَيَكُونُ عَكْسَ قَوْلِهِ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ أَيْ: وَلَا الْقَمَرُ سَابِقُ الشَّمْسِ، وَإِيرَادُ السَّبْقِ مَكَانَ الْإِدْرَاكِ لِسُرْعَةِ سَيْرِ الْقَمَرِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ التَّنْوِينُ فِي «كُلٌّ» عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ: أَيْ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْفَلَكُ: هُوَ الْجِسْمُ الْمُسْتَدِيرُ أَوِ السَّطْحُ الْمُسْتَدِيرُ أَوِ الدَّائِرَةُ، وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِ السَّمَاءِ مَبْسُوطَةً أَوْ مُسْتَدِيرَةً مَعْرُوفٌ، وَالسَّبْحُ: السَّيْرُ بِانْبِسَاطٍ وَسُهُولَةٍ، وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: يَسْبَحُونَ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ مَطَالِعِهِمَا، فَكَأَنَّهُمَا مُتَعَدِّدَانِ بِتَعَدُّدِهَا، أَوِ الْمُرَادُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ الْآيَةَ يَقُولُ: مَا كَابَدْنَاهُمْ بِالْجُمُوعِ: أَيِ الْأَمْرُ أَيْسَرُ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن عباس في قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ يَقُولُ: يَا وَيْلًا لِلْعِبَادِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يا حسرة عَلَى الْعِبَادِ قَالَ: النَّدَامَةُ عَلَى الْعِبَادِ الَّذِينَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَقُولُ: النَّدَامَةُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قَالَ: وَجَدُوهُ مَعْمُولًا لَمْ تَعْمَلْهُ أَيْدِيهِمْ: يَعْنِي الْفُرَاتَ وَدِجْلَةَ وَنَهْرَ بَلْخٍ وَأَشْبَاهَهَا أَفَلا يَشْكُرُونَ لها. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عَنْ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: إِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» . وَفِي لَفْظٍ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ؟ قلت: الله ورسوله أعلم،

_ (1) . هذا الكلام لا يعتمد على نص من القرآن أو السنة، فكل ما يخالف الحقائق العلمية في هذا المجال لا يعتد به. (2) . القيامة: 9.

[سورة يس (36) : الآيات 41 إلى 54]

قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا فَتَسْتَأْذِنُ فِي الرُّجُوعِ فَيَأْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا اطْلُعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، ثُمَّ قَرَأَ «ذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا» وَذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ النُّجُومِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ الْآيَةَ قَالَ: هِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا يَنْزِلُهَا الْقَمَرُ فِي كُلِّ شَهْرٍ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهَا شَامِيَّةٌ، وأربعة عشر منها يمانية، أولها الشرطين وَالْبَطِينُ وَالثُّرَيَّا وَالدَّبَرَانُ وَالْهَقْعَةُ وَالْهَنْعَةُ وَالذِّرَاعُ وَالنَّثْرَةُ والطرف والجبهة والدبرة وَالصَّرْفَةُ وَالْعَوَّاءُ وَالسِّمَاكُ، وَهُوَ آخِرُ الشَّامِيَّةِ، وَالْغَفْرُ والزبانا وَالْإِكْلِيلُ وَالْقَلْبُ وَالشَّوْلَةُ وَالنَّعَائِمُ وَالْبَلْدَةُ وَسَعْدُ الذَّابِحِ وَسَعْدُ بُلَعَ وَسَعْدُ السُّعُودِ وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ وَمُقَدَّمُ الدَّلْوِ وَمُؤَخَّرُ الدَّلْوِ وَالْحُوتُ، وَهُوَ آخِرُ الْيَمَانِيَّةِ، فَإِذَا سَارَ هَذِهِ الثَّمَانِيَةَ وَعِشْرِينَ مَنْزِلًا عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ: يَعْنِي أصل العذق العتيق. [سورة يس (36) : الآيات 41 الى 54] وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَوْعًا آخَرَ مِمَّا امْتَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ فَقَالَ: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أَيْ: دَلَالَةٌ وَعَلَامَةٌ، وَقِيلَ مَعْنَى: آيَةٌ هُنَا: الْعِبْرَةُ، وَقِيلَ: النِّعْمَةُ، وَقِيلَ النِّذَارَةُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ وَإِلَى مَنْ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْأَوَّلَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَآيَةٌ لَهُمْ لِأَهْلِ مَكَّةَ، أَوْ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ، أَوْ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْكَائِنِينَ في عصر محمّد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ حَمَلَ ذُرِّيَّةَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَالضَّمِيرَانِ مُخْتَلِفَانِ. وَهَذَا حَكَاهُ النَّحَّاسُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ لِكُفَّارِ مَكَّةَ وَنَحْوِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ حَمَلَ ذُرِّيَّاتِهِمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَضُعَفَائِهِمْ عَلَى الْفُلْكِ، فَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، أَيْ: إِنَّهُمْ يَحْمِلُونَهُمْ مَعَهُمْ فِي السُّفُنِ إِذَا سَافَرُوا، أَوْ يَبْعَثُونَ أَوْلَادَهُمْ لِلتِّجَارَةِ لَهُمْ فِيهَا. وَقِيلَ: الذُّرِّيَّةُ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ، وَالْفُلْكُ: هُوَ سَفِينَةُ نُوحٍ أَيْ: إِنَّ اللَّهَ حَمَلَ آبَاءَ هَؤُلَاءِ وَأَجْدَادَهُمْ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالذُّرِّيَّةُ تَقَعُ عَلَى الْآبَاءِ

كَمَا تَقَعُ عَلَى الْأَوْلَادِ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَسُمِّيَ الْآبَاءُ ذُرِّيَّةً، لِأَنَّ مِنْهُمْ ذَرْءُ الْأَبْنَاءِ، وَقِيلَ الذُّرِّيَّةُ النُّطَفُ الْكَائِنَةُ فِي بُطُونِ النِّسَاءِ، وَشَبَّهَ الْبُطُونَ بِالْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَالرَّاجِحُ الْقَوْلُ الثَّانِي ثُمَّ الْأَوَّلُ ثُمَّ الثَّالِثُ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَالنَّكَارَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الذُّرِّيَّةِ وَاشْتِقَاقِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى، وَالْمَشْحُونُ الْمَمْلُوءُ الْمُوقَرُ، وَالْفُلْكُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي يُونُسَ، وَارْتِفَاعُ آيَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالْمُبْتَدَأُ أَنَّا حَمَلْنا أَوِ الْعَكْسُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى الْعِبَادِ المذكورين في قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ وقال: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ. ثُمَّ قَالَ: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَآيَةٌ لِلْعِبَادِ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّاتِ الْعِبَادِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ الْبَعْضَ مِنْهُمْ، وَبِالضَّمِيرِ الْآخَرِ الْبَعْضَ الْآخَرَ، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ أَيْ: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا يُمَاثِلُ الْفُلْكَ مَا يَرْكَبُونَهُ عَلَى أَنَّ مَا هِيَ الْمَوْصُولَةُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: وَهِيَ الْإِبِلُ خَلَقَهَا لَهُمْ لِلرُّكُوبِ فِي الْبَرِّ مِثْلَ السُّفُنِ الْمَرْكُوبَةِ فِي الْبَحْرِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْإِبِلَ: سَفَائِنَ الْبَرِّ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَخَلَقْنَا لَهُمْ سُفُنًا أَمْثَالَ تِلْكَ السُّفُنِ يَرْكَبُونَهَا، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو مَالِكٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: هِيَ السُّفُنُ الْمُتَّخَذَةُ بَعْدَ سَفِينَةِ نُوحٍ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْآيَةِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَوَجْهُ الِامْتِنَانِ أَنَّهُ لَمْ يُغْرِقْهُمْ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِمَّا إِلَى أَصْحَابِ الذُّرِّيَّةِ، أَوْ إِلَى الذُّرِّيَّةِ، أَوْ إِلَى الْجَمِيعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ، وَالصَّرِيخُ بِمَعْنَى الْمُصْرِخِ وَالْمُصْرِخُ هُوَ الْمُغِيثُ، أَيْ: فَلَا مُغِيثَ لَهُمْ يُغِيثُهُمْ إِنْ شِئْنَا إِغْرَاقَهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَنَعَةُ. وَمَعْنَى ينقذون: يخلصون، يقال أنقذه واستنفذه، إِذَا خَلَّصَهُ مِنْ مَكْرُوهٍ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعِلَلِ، أَيْ: لَا صَرِيخَ لَهُمْ، وَلَا يُنْقَذُونَ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِرَحْمَةٍ مِنَّا، كَذَا قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ لِرَحْمَةٍ مِنَّا. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ وَانتصاب مَتاعاً عَلَى الْعَطْفِ عَلَى رَحْمَةً، أَيْ: نُمَتِّعُهُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلى حِينٍ وَهُوَ الْمَوْتُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: إِلَى الْقِيَامَةِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ أَيْ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنَ الْآفَاتِ وَالنَّوَازِلِ فَإِنَّهَا مُحِيطَةٌ بِكُمْ، وَمَا خَلْفَكُمْ مِنْهَا، قَالَ قَتَادَةُ مَعْنَى اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أَيْ: مِنَ الْوَقَائِعِ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ وَما خَلْفَكُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مَا مَضَى مِنَ الذُّنُوبِ وَما خَلْفَكُمْ مَا بَقِيَ مِنْهَا. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ الدُّنْيَا وَما خَلْفَكُمْ الْآخِرَةُ، قَالَهُ سُفْيَانُ. وَحَكَى عَكْسَ هَذَا الْقَوْلِ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مَا ظَهَرَ لَكُمْ وَما خَلْفَكُمْ مَا خُفِيَ عَنْكُمْ، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ أَعْرَضُوا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَيْ: رَجَاءَ أَنْ تُرْحَمُوا، أَوْ كَيْ تُرْحَمُوا، أَوْ رَاجِينَ أَنْ تُرْحَمُوا وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ مَا: هِيَ النافية، وصيغة المضارع للدلالة على التجدّد، ومن الْأُولَى: مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَالثَّانِيَةُ: لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمَعْنَى: مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صِحَّةٍ مَا دَعَا إِلَيْهِ

مِنَ التَّوْحِيدِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ. وَظَاهِرُهُ يَشْمَلُ الْآيَاتِ التَّنْزِيلِيَّةَ، وَالْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةَ، وَجُمْلَةُ: إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَالْمُرَادُ بِالْإِعْرَاضِ: عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَتَرْكُ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيهَا، وَهَذِهِ الآية متعلقة بقوله: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ: إِذَا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ كَذَّبُوا، وَإِذَا أُتُوا بِالْآيَاتِ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أَيْ: تَصَدَّقُوا عَلَى الْفُقَرَاءِ مِمَّا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ، قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي الْيَهُودَ أُمِرُوا بِإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ: أَنْفِقُوا عَلَى الْمَسَاكِينِ مِمَّا زَعَمْتُمْ أَنَّهُ لِلَّهِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً «1» فَكَانَ جَوَابُهُمْ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اسْتِهْزَاءً بِهِمْ، وَتَهَكُّمًا بِقَوْلِهِمْ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ أَيْ: مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ رَزَقَهُ، وَقَدْ كَانُوا سَمِعُوا الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّزَّاقَ هُوَ اللَّهُ، وَأَنَّهُ يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ فَكَأَنَّهُمْ حَاوَلُوا بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِلْزَامَ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: نَحْنُ نُوَافِقُ مَشِيئَةَ اللَّهِ فَلَا نُطْعِمُ مَنْ لَمْ يُطْعِمْهُ اللَّهُ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ، وَمُكَابَرَةٌ وَمُجَادَلَةٌ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَغْنَى بَعْضَ خَلْقِهِ وَأَفْقَرَ بَعْضًا، وَأَمَرَ الْغَنِيَّ أَنْ يُطْعِمَ الْفَقِيرَ، وَابْتَلَاهُ بِهِ فِيمَا فَرَضَ لَهُ مِنْ مَالِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ. وَقَوْلُهُمْ: مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ هُوَ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا بِهِ الْإِنْكَارَ لِقُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ إِنْكَارَ جَوَازِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ مَعَ قُدْرَةِ اللَّهِ كَانَ احْتِجَاجُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بَاطِلًا. وَقَوْلُهُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْكُفَّارِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ فِي سُؤَالِ الْمَالِ، وَأَمْرِنَا بِإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ لَفِي ضَلَالٍ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَالظُّهُورِ. وَقِيلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ جَوَابًا عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي قَالَهَا الْكُفَّارُ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ. وَقَدْ كَانَ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ قَوْمٌ يَتَزَنْدَقُونَ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِالصَّانِعِ، فَقَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ اسْتِهْزَاءً بِالْمُسْلِمِينَ وَمُنَاقَضَةً لَهُمْ. وَحَكَى نَحْوَ هَذَا الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ الَّذِي تَعِدُونَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْقِيَامَةِ، وَالْمَصِيرِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِيمَا تَقُولُونَهُ وَتَعِدُونَا بِهِ. قَالُوا ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ وَسُخْرِيَةً بِالْمُؤْمِنِينَ. وَمَقْصُودُهُمْ إِنْكَارُ ذَلِكَ بِالْمَرَّةِ، وَنَفْيُ تَحَقُّقِهِ وَجَحْدُ وُقُوعِهِ، فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أَيْ: مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ نَفْخَةُ إِسْرَافِيلَ فِي الصُّورِ تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أَيْ: يَخْتَصِمُونَ فِي ذَاتِ بَيْنِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَهَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَهِيَ نَفْخَةُ الصَّعْقِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي يَخِصِّمُونَ، فَقَرَأَ حَمْزَةُ بِسُكُونِ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ مِنْ خَصَمَ يَخْصِمُ، وَالْمَعْنَى: يَخْصِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ بِإِخْفَاءِ فَتْحَةِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَهِشَامٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ أَخْلَصُوا فَتْحَةَ الْخَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بكسر الخاء وتشديد الصاد. والأصل

_ (1) . الأنعام: 136.

فِي الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ يَخْتَصِمُونَ فَأُدْغِمَتِ التَّاءَ فِي الصَّادِ، فَنَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَهِشَامٌ نَقَلُوا فَتْحَةَ التاء قَبْلَهَا نَقْلًا كَامِلًا، وَأَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ اخْتَلَسَا حَرَكَتَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْخَاءَ أُصْلُهَا السُّكُونُ، وَالْبَاقُونَ حَذَفُوا حَرَكَتَهَا، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ فَكَسَرُوا أَوَّلَهُمَا. وروي عن أبي عمرو، وقالون أنهما قرءا بتسكين الخاء وتشديد الصاد وهي مُشْكِلَةٌ لِاجْتِمَاعِ سَاكِنَيْنِ فِيهَا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ «يَخْتَصِمُونَ» عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُ بَعْضُهُمْ أَنْ يُوصِيَ إِلَى بعض بما له وَمَا عَلَيْهِ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُوصِيَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الْمَعَاصِي، بَلْ يَمُوتُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَمَوَاضِعِهِمْ وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أَيْ: إِلَى مَنَازِلِهِمُ الَّتِي مَاتُوا خَارِجِينَ عَنْهَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا يُرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِهِمْ قَوْلًا، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَمَّا يَنْزِلُ بِهِمْ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَنْزِلُ بِهِمْ عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الَّتِي يُبْعَثُونَ بِهَا مِنْ قُبُورِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ أَيِ: الْقُبُورِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أَيْ: يُسْرِعُونَ، وَبَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَعَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي حَيْثُ قَالَ: وَنُفِخَ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْبَيَانِ، وَجَعَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ مثالا له، والصور بِإِسْكَانِ الْوَاوِ، هُوَ الْقَرْنُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ، وَإِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَى الْقَرْنِ مَعْرُوفٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْغَوْرَيْنِ ... بالضّابحات في غبار النّقعين نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ. أَيِ: الْقَرْنَيْنِ. وقد مضى هذا مستوفى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الصُّورُ: جَمْعُ صُورَةٍ، أَيْ: نَفَخَ فِي الصُّورِ الْأَرْوَاحَ، وَالْأَجْدَاثُ: جمع جدث، وهو القبر. وقرئ «الأجداف» وَهِيَ لُغَةٌ، وَاللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ. وَالنَّسْلُ، وَالنَّسَلَانُ: الْإِسْرَاعُ فِي السَّيْرِ، يُقَالُ: نَسَلَ يَنْسِلُ، كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَيُقَالُ يَنْسُلُ بِالضَّمِّ، وَمِنْهُ: قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تنسلي وَقَوْلُ الْآخَرِ: عَسَلَانَ الذِّئْبِ أَمْسَى قَارِبًا ... بَرَدَ اللّيل عليه فنسل قَالُوا: يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أَيْ: قَالُوا عِنْدَ بَعْثِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ بِالنَّفْخَةِ يَا وَيْلَنَا: نَادَوْا وَيْلَهُمْ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ احْضُرْ فَهَذَا أَوَانُ حُضُورِكَ، وَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ هُمُ الْكُفَّارُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَقْفُ عَلَى يَا وَيْلَنَا وَقْفٌ حَسَنٌ. ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ظَنُّوا لِاخْتِلَاطِ عُقُولِهِمْ بِمَا شَاهَدُوا مِنَ الْهَوْلِ، وَمَا دَاخَلَهُمْ مِنَ الْفَزَعِ أَنَّهُمْ كَانُوا نِيَامًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَا وَيْلَنا وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى «يَا وَيْلَتَنَا» بِزِيَادَةِ التَّاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَنْ بَعَثَنا بِفَتْحِ مِيمِ مَنْ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو نَهِيكٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ جَرٍّ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ مِنْ مُتَعَلِّقَةً بِالْوَيْلِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَنْ بَعَثَنا. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «مَنْ أَهَبَّنَا» مِنْ هَبَّ مِنْ نَوْمِهِ: إِذَا انْتَبَهَ،

وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَعَاذِلَةٍ هَبَّتْ بليل تلومني ... ولم يعتمرني قَبْلَ ذَاكَ عَذُولُ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ إِذَا عَايَنُوا جَهَنَّمَ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: إِذَا نَفَخَ النَّفْخَةَ الْأُولَى رُفِعَ الْعَذَابُ عَنْ أَهْلِ الْقُبُورِ وَهَجَعُوا هَجْعَةً إِلَى النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَجُمْلَةُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ جَوَابٌ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ الْكَفَرَةِ يُجِيبُ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ بِالْأَوَّلِ الْفَرَّاءُ، وَبِالثَّانِي مُجَاهِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مِنْ قَوْلِ الله سبحانه، وما فِي قَوْلِهِ: مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ مَوْصُولَةٌ وَعَائِدُهَا مَحْذُوفٌ وَالْمَعْنَى: هَذَا الَّذِي وَعَدَهُ الرَّحْمَنُ، وَصَدَقَ فِيهِ الْمُرْسَلُونَ قَدْ حَقَّ عَلَيْكُمْ، وَنَزَلَ بِكُمْ، وَمَفْعُولَا الْوَعْدِ وَالصِّدْقِ مَحْذُوفَانِ: أَيْ وَعَدَكُمُوهُ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَكُمُوهُ الْمُرْسَلُونَ، وَالْأَصْلُ وَعَدَكُمْ بِهِ، وَصَدَقَكُمْ فِيهِ، أو وعدناه الرحمن، وصدقنا الْمُرْسَلُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أَيْ: مَا كَانَتْ تِلْكَ النَّفْخَةُ الْمَذْكُورَةُ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً صَاحَهَا إِسْرَافِيلُ بِنَفْخَةٍ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أَيْ: فَإِذَا هُمْ مُجْمُوعُونَ مُحْضَرُونَ لَدَيْنَا بِسُرْعَةٍ لِلْحِسَابِ وَالْعِقَابِ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ مِنَ النُّفُوسِ شَيْئاً مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ، أَيْ: لَا يَنْقُصُ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِهَا شَيْئًا مِنَ النَّقْصِ، وَلَا تُظْلَمُ فِيهِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ: إِلَّا جَزَاءَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ، أَيْ: بِسَبَبِهِ، أَوْ: فِي مُقَابَلَتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ الْآيَةَ قَالَ: فِي سَفِينَةِ نُوحٍ حَمَلَ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ قَالَ: السُّفُنُ الَّتِي فِي الْبَحْرِ وَالْأَنْهَارِ الَّتِي يَرْكَبُ النَّاسُ فِيهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ قَالَ: هِيَ السُّفُنُ جُعِلَتْ مِنْ بَعْدِ سَفِينَةِ نُوحٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي الْإِبِلَ خَلَقَهَا اللَّهُ كَمَا رَأَيْتَ، فَهِيَ سُفُنُ الْبَرِّ يَحْمِلُونَ عَلَيْهَا وَيَرْكَبُونَهَا. وَمِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً الْآيَةَ قَالَ: تَقُومُ السَّاعَةُ وَالنَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ يَتَبَايَعُونَ وَيَذْرَعُونَ الثِّيَابَ وَيَحْلِبُونَ اللِّقَاحَ، وَفِي حَوَائِجِهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ وَالرَّجُلُ يَذْرَعُ الثَّوْبَ، وَالرَّجُلُ يَحْلِبُ النَّاقَةَ، ثُمَّ قَرَأَ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا، فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ، وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهُ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا قَالَ: يَنَامُونَ قَبْلَ الْبَعْثِ نومة.

[سورة يس (36) : الآيات 55 إلى 70]

[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 70] إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَالَ الْكَافِرِينَ أَتْبَعَهُ بِحِكَايَةِ حَالِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَجَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ لِلْكُفَّارِ يَوْمَئِذٍ زِيَادَةً لِحَسْرَتِهِمْ، وَتَكْمِيلًا لِجَزَعِهِمْ، وَتَتْمِيمًا لِمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ، وَمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الشَّقَاءِ، فَإِذَا رَأَوْا مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَمَا أَعَدَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ، بَلَغَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ مَبْلَغًا عظيما، وزاد في ضيق صدورهم زيادة لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا. وَالْمَعْنَى إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ اللَّذَّاتِ الَّتِي هِيَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ على قلب بشر على الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْكُفَّارِ، وَمَصِيرُهُمْ إِلَى النَّارِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَرَابَتِهِمْ. وَالْأَوْلَى عَدَمُ تَخْصِيصِ الشُّغْلِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: شُغُلُهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِافْتِضَاضِ الْعَذَارَى. وَقَالَ وَكِيعٌ: شُغُلُهُمْ بِالسَّمَاعِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: بِزِيَارَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَقِيلَ شُغُلُهُمْ كَوْنُهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي ضِيَافَةِ اللَّهِ. قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: شُغُلٍ بِضَمَّتَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ. وَهُمَا لُغَتَانِ كما قال الفراء. وقرأ مجاهد وأبو السمال بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَ يَزِيدُ النَّحْوِيُّ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ بِفَتْحِ الشين وسكون الغين. وقرأ الْجُمْهُورِ فاكِهُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ، وَفِي شُغُلٍ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ إِنَّ وَفَاكِهُونَ خَبَرٌ ثَانٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ «فَاكِهِينَ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَفِي شُغُلٍ هُوَ الْخَبَرُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَشَيْبَةُ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ «فَكِهُونَ» قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ كَالْفَارِهِ وَالْفَرِهِ، وَالْحَاذِرِ وَالْحَذِرِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ الْفَاكِهُ: ذُو الْفَاكِهَةِ مِثْلُ تَامِرٍ وَلَابِنٍ، وَالْفَكِهُ: الْمُتَفَكِّهُ وَالْمُتَنَعِّمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَكِهُونَ الْمُعْجَبُونَ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ رَجُلٌ فَكِهٌ: إِذَا كَانَ طَيِّبَ النَّفْسِ ضَحُوكًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ كَمَا قَالَ الْكِسَائِيُّ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ شُغُلِهِمْ وَتَفَكُّهِهِمْ وَتَكْمِيلِهَا بِمَا يَزِيدُهُمْ سُرُورًا وَبَهْجَةً مِنْ كَوْنِ أَزْوَاجِهِمْ مَعَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الِاتِّكَاءِ عَلَى الْأَرَائِكِ، فَالضَّمِيرُ وَهُوَ هُمْ: مُبْتَدَأٌ، وأزواجهم مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَالْخَبَرُ: مُتَّكِئُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هم تأكيدا للضمير في فاكِهُونَ

وأزواجهم مَعْطُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ، وَارْتِفَاعُ مُتَّكِئُونَ عَلَى أنه خبر لمبتدأ محذوف، وفي ظِلَالٍ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَوْ حَالٌ، وَكَذَا عَلَى الْأَرَائِكِ وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي ظِلالٍ هو الخبر وعَلَى الْأَرائِكِ مُسْتَأْنَفٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي ظِلالٍ بِكَسْرِ الظَّاءِ وَبِالْأَلِفِ وَهُوَ جَمْعُ ظِلٍّ. وَقَرَأَ ابْنُ مسعود وعبيد بْنُ عُمَيْرٍ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ فِي ظُلَلٍ بِضَمِّ الظَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ جَمْعُ ظُلَّةٍ، وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْمُرَادُ الفرش والستور التي تظلهم كالخيام والحجال، والأرائك جَمْعُ أَرِيكَةٍ، كَسَفَائِنَ جَمْعِ سَفِينَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا السُّرُرُ الَّتِي فِي الْحِجَالِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ: الْأَرِيكَةُ لَا يَكُونُ إِلَّا سَرِيرًا فِي قُبَّةٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالظِّلَالِ أَكْنَانُ الْقُصُورِ، وَجُمْلَةُ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَنَحْوِهَا. وَالْمُرَادُ فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ مَا هَذِهِ هِيَ الْمَوْصُولَةُ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَوْ موصوفة أو مصدرية، ويدّعون مُضَارِعُ ادَّعَى. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَدَّعُونَ يَتَمَنَّوْنَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: ادْعُ عَلَيَّ مَا شِئْتَ: أَيْ تَمَنِّ، وَفُلَانٌ فِي خَيْرٍ مَا يَدَّعِي: أَيْ مَا يَتَمَنَّى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ هُوَ مِنَ الدُّعَاءِ، أَيْ: مَا يَدْعُونَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَأْتِيهِمْ، مِنْ دَعَوْتُ غُلَامِي، فَيَكُونُ الِافْتِعَالُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ كَالِاحْتِمَالِ بِمَعْنَى الْحَمْلِ وَالِارْتِحَالِ بِمَعْنَى الرَّحْلِ. وَقِيلَ: افْتَعَلَ بِمَعْنَى تَفَاعَلَ، أَيْ: مَا يَتَدَاعَوْنَهُ كَقَوْلِهِمُ ارْتَمَوْا وَتَرَامَوْا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ مَنِ ادَّعَى مِنْهُمْ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَّعَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَدَّعِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ يَحْسُنُ وَيَجْمُلُ بِهِ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وما: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا: لَهُمْ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَقُرِئَ «يَدْعُونَ» بِالتَّخْفِيفِ وَمَعْنَاهَا وَاضِحٌ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالْوَقْفُ عَلَى يَدَّعُونَ وَقْفٌ حَسَنٌ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ سَلامٌ عَلَى مَعْنَى لَهُمْ سَلَامٌ، وَقِيلَ: إِنَّ سَلَامٌ هُوَ خَبَرُ مَا، أَيْ: مُسَلَّمٌ خَالِصٌ أَوْ ذُو سَلَامَةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سَلَامٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَا، أَيْ: وَلَهُمْ أَنْ يُسَلِّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مُنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ عَلَى الْعُمُومِ، وَهَذَا السَّلَامُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَلَا وَجْهَ لِقَصْرِهِ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ، وَإِنْ كَانَ أَشْرَفَ أَنْوَاعِهِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْعُمُومِ، وَرِعَايَةً لِمَا يَقْتَضِيهِ النَّظْمُ الْقُرْآنِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّ سَلَامٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: سَلَامٌ يُقَالُ لَهُمْ: قَوْلًا وقيل: إن سلام مبتدأ، وخبره: الناصب لقولا، أَيْ: سَلَامٌ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلًا، وَقِيلَ: خَبَرُهُ من ربّ العالمين، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: سَلَامُ عَلَيْكُمْ هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعِيسَى «سَلَامًا» بِالنَّصْبِ إِمَّا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ بِمَعْنَى خَالِصًا، وَالسَّلَامُ: إِمَّا مِنَ التَّحِيَّةِ أَوْ مِنَ السَّلَامَةِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ «سَلْمٌ» كَأَنَّهُ قَالَ سَلْمٌ لَهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ، وَانْتِصَابُ قَوْلًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَعْنَى: قَالَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ قَوْلًا، أَوْ يَقُولُهُ لَهُمْ قَوْلًا، أَوْ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أَيْ: مِنْ جِهَتِهِ، قيل: يرسل الله سبحانه إِلَيْهِمْ بِالسَّلَامِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ كُلِّ بَابٍ يَقُولُونَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ مُقَابِلَ مَا قِيلَ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: وَيُقَالُ لِلْمُجْرِمِينَ: امْتَازُوا، أَيِ: انْعَزِلُوا، مِنْ مَازَهَ غَيْرَهُ، يُقَالُ مِزْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ: إِذَا عَزَلْتَهُ عَنْهُ وَنَحَّيْتَهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ اعْتَزِلُوا الْيَوْمَ: يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كُونُوا عَلَى حِدَةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: انْفَرِدُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ

قَتَادَةُ: عُزِلُوا عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَمْتَازُ الْمُجْرِمُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَيَمْتَازُ الْيَهُودُ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى فِرْقَةً، وَالْمَجُوسُ فِرْقَةً، وَالصَّابِئُونَ فِرْقَةً، وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فِرْقَةً. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ الْجَرَّاحِ: يَمْتَازُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُجْرِمِينَ إِلَّا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ مَعَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ سبحانه وقرعهم بقوله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ لَهُمْ. وَالْعَهْدُ: الْوَصِيَّةُ، أَيْ: أَلَمْ أُوصِكُمْ وَأُبْلِغْكُمْ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِي أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ، أَيْ: لَا تُطِيعُوهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ يَا بَنِي آدَمَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الَّذِينَ أُمِرُوا بِالِاعْتِزَالِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: لَا لِلنَّهْيِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ هُنَا: الْمِيثَاقُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ حِينَ أُخْرِجُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَقِيلَ: هُوَ مَا نَصَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ النَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَقَبُولِ وَسْوَسَتِهِ، وَجُمْلَةُ وَأَنِ اعْبُدُونِي عَطْفٌ على أن لا تعبدوا، وأن فِي الْمَوْضِعَيْنِ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِلْعَهْدِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً فِيهِمَا، أي ألم أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا بِأَنِ اعْبُدُونِي، أَوْ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ فِي تَرْكِ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَفِي عِبَادَتِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيْ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ، أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ لِبَنِي آدَمَ فَقَالَ: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّقْرِيعِ والتوبيخ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَضَلَّ إِلَخْ. قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ جِبِلًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَقَرَأَ أَبُو عمرو، وابن عامر بضم الجيم وسكون الباء، وقرأ الباقون بضمتين مع تخفيف اللام، وقرأ ابن إِسْحَاقَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ هُرْمُزَ بِضَمَّتَيْنِ مَعَ تَشْدِيدِ اللَّامِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْحَسَنُ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَالنَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَرَأَ أَبُو يَحْيَى، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَبْيَنُهَا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ قَرَءُوا جَمِيعًا وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ «1» بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، فَيَكُونُ جِبِلًّا جَمْعَ جِبِلَّةٍ، وَاشْتِقَاقُ الْكُلِّ مِنْ جَبَلَ اللَّهُ الْخَلْقَ، أَيْ: خَلَقَهُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَغْوَى خَلْقًا كَثِيرًا كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أُمَمًا كَثِيرَةً. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَالْقِرَاءَاتُ كُلُّهَا بِمَعْنَى الْخَلْقِ، وَقُرِئَ «جِيلًا» بِالْجِيمِ وَالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الْجِيلُ الْوَاحِدُ عَشْرَةُ آلَافٍ، والكثير ما يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ، أَيْ: أَتُشَاهِدُونَ آثَارَ الْعُقُوبَاتِ، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ، أَوْ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ لَكُمْ، أَوْ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ شَيْئًا أَصْلًا قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ الخطاب. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَعِيسَى بِالْغَيْبَةِ هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أَيْ: وَيُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ أَنْ يَدْنُوا مِنَ النَّارِ: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَالْقَائِلُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ يَقُولُونَ لَهُمْ: اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَيْ: قَاسُوا حَرَّهَا الْيَوْمَ وَادْخُلُوهَا وَذُوقُوا أَنْوَاعَ الْعَذَابِ فِيهَا بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، أَيْ: بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ بِاللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَطَاعَتِكُمْ لِلشَّيْطَانِ وَعِبَادَتِكُمْ لِلْأَوْثَانِ، وَهَذَا الْأَمْرُ أمر تنكيل

_ (1) . الشعراء: 184.

وَإِهَانَةٍ كَقَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ الْيَوْمَ ظَرْفٌ لِمَا بَعْدَهُ، وَقُرِئَ يُخْتَمُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالنَّائِبُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ بَعْدَهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الشِّرْكَ وَتَكْذِيبَ الرُّسُلِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ خَتْمًا لَا يَقْدِرُونَ مَعَهُ عَلَى الْكَلَامِ، وَفِي هَذَا الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ أَفْعَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ مُسْتَدْعِيَةٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ خِطَابِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ: تَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَشَهِدَتْ أَرْجُلُهُمْ عَلَيْهِمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ «وَلِتُكَلِّمَنَا» ، «وَلِتَشْهَدَ» بِلَامِ كَيْ. وَقِيلَ سَبَبُ الْخَتْمِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ لِيَعْرِفَهُمْ أَهْلُ الْمَوْقِفِ. وَقِيلَ خُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ مِنْ جَوَارِحِهِمْ لِأَنَّ شَهَادَةَ غَيْرِ النَّاطِقِ أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ مِنْ شَهَادَةِ النَّاطِقِ لِخُرُوجِهِ مَخْرَجِ الْإِعْجَازِ. وَقِيلَ: لِيَعْلَمُوا أَنَّ أَعْضَاءَهُمُ الَّتِي كَانَتْ أَعْوَانًا لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ صَارَتْ شُهُودًا عَلَيْهِمْ، وَجُعِلَ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَيْدِي كَلَامًا وَإِقْرَارًا لِأَنَّهَا كَانَتِ الْمُبَاشِرَةُ لِغَالِبِ الْمَعَاصِي، وَجُعِلَ نُطْقُ الْأَرْجُلِ شَهَادَةً لِأَنَّهَا حَاضِرَةٌ عِنْدَ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَكَلَامُ الْفَاعِلِ إِقْرَارٌ، وَكَلَامُ الْحَاضِرِ شَهَادَةٌ، وَهَذَا اعْتِبَارٌ بِالْغَالِبِ، وَإِلَّا فَالْأَرْجُلُ قَدْ تَكُونُ مُبَاشِرَةً لِلْمَعْصِيَةِ كَمَا تَكُونُ الْأَيْدِي مُبَاشِرَةً لَهَا وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ أَيْ: أَذْهَبْنَا أَعْيُنَهُمْ وَجَعَلْنَاهَا بِحَيْثُ لَا يَبْدُو لَهَا شِقٌّ وَلَا جَفْنٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: طَمَسَ يَطْمُسُ وَيَطْمِسُ وَالْمَطْمُوسُ وَالطَّمِيسُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الَّذِي لَيْسَ فِي عَيْنَيْهِ شِقٌّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ «3» وَمَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَوْ نَشَاءُ أَنْ نَطْمِسَ عَلَى أَعْيُنِهِمْ لَطَمَسْنَا. قَالَ السُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى لَتَرَكْنَاهُمْ عُمْيًا يَتَرَدَّدُونَ لَا يُبْصِرُونَ طَرِيقَ الْهُدَى، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَطَمَسْنَا، أَيْ: تَبَادَرُوا إِلَى الطَّرِيقِ ليجوزوه ويمضوا فيه، والصراط مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: فَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: الْمَعْنَى لَوْ نَشَاءُ لَفَقَأْنَا أَعْيُنَهُمْ وَأَعْمَيْنَاهُمْ عَنْ غَيِّهِمْ، وَحَوَّلْنَا أَبْصَارَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، فَأَبْصَرُوا رُشْدَهُمْ، وَاهْتَدَوْا وَتَبَادَرُوا إِلَى طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أَيْ: كَيْفَ يُبْصِرُونَ الطَّرِيقَ وَيُحْسِنُونَ سُلُوكَهُ وَلَا أَبْصَارَ لَهُمْ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ فَاسْتَبَقُوا عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، أَيْ: فَيُقَالُ لَهُمُ اسْتَبِقُوا، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ. ثُمَّ كَرَّرَ التَّهْدِيدَ لَهُمْ فَقَالَ: وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ الْمَسْخُ تَبْدِيلُ الْخِلْقَةِ إِلَى حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْجَمَادِ أَوْ بَهِيمَةٍ، وَالْمَكَانَةُ الْمَكَانُ، أَيْ: لَوْ شِئْنَا لَبَدَّلْنَا خَلْقَهُمْ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُمْ فيه. قيل: والمكانة أخص من المكانة كَالْمُقَامَةِ وَالْمُقَامِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ لَأَقْعَدْنَاهُمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَهَابٍ وَلَا مَجِيءٍ. قَالَ الْحَسَنُ: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمْضُوا أَمَامَهُمْ وَلَا يَرْجِعُوا وَرَاءَهُمْ، وَكَذَلِكَ الْجَمَادُ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ نَشَاءُ لَأَهْلَكْنَاهُمْ فِي مَسَاكِنِهِمْ، وَقِيلَ: لَمَسَخْنَاهُمْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي فَعَلُوا فِيهِ الْمَعْصِيَةَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: هَذَا كُلُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلى مَكانَتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ «مَكَانَاتِهِمْ» بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُضِيًّا بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ مُضِيًّا بِفَتْحِهَا، وروي عنه أنه قرأ بكسرها ورويت

_ (1) . الدخان: 49. (2) . الأنعام: 23. (3) . البقرة: 20.

هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ. قِيلَ وَالْمَعْنَى: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ رُجُوعًا، فَوُضِعَ الْفِعْلُ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ لِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ، يُقَالُ مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا: إِذَا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ، وَرَجَعَ يَرْجِعُ رُجُوعًا: إِذَا عَادَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ نُنَكِّسْهُ بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ وَضَمِّ الْكَافِ مُخَفَّفَةً. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ مُشَدَّدَةً. وَالْمَعْنَى: مَنْ نُطِلْ عُمُرَهُ نُغَيِّرْ خَلْقَهُ، وَنَجْعَلْهُ عَلَى عَكْسِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلًا مِنَ الْقُوَّةِ وَالطَّرَاوَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى مَنْ أَطَلْنَا عُمُرَهُ نَكَّسْنَا خُلُقَهُ، فَصَارَ بَدَلُ الْقُوَّةِ الضَّعْفَ، وَبَدَلُ الشَّبَابِ الْهِرَمُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً «1» وقوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ «2» ومعنى «ألا تعقلون» أَفَلَا تَعْلَمُونَ بِعُقُولِكُمْ أَنَّ مَنْ قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ قَدِرَ عَلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَعْقِلُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَلَمَّا قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ: إِنَّ الْقُرْآنَ شِعْرٌ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا شَاعِرٌ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَالْمَعْنَى: نَفْيُ كَوْنِ الْقُرْآنِ شِعْرًا، ثُمَّ نَفَى أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ شَاعِرًا، فَقَالَ: وَما يَنْبَغِي لَهُ أَيْ: لَا يَصِحُّ لَهُ الشِّعْرُ وَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ، وَلَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ لَوْ طَلَبَهُ وَأَرَادَ أَنْ يقوله، بل كان صلّى الله عليه وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُنْشِدَ بَيْتًا قَدْ قَالَهُ شَاعِرٌ مُتَمَثِّلًا بِهِ كَسَرَ وَزْنَهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْشَدَ بَيْتَ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ الْمَشْهُورَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا ... وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ قَالَ: وَيَأْتِيكَ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْهُ بِالْأَخْبَارِ وَأَنْشَدَ مَرَّةً أُخْرَى قَوْلَ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ: أَتَجْعَلُ نهبي ونهب العبيد ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَقَالَ: بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ، وَأَنْشَدَ أَيْضًا: كَفَى بِالْإِسْلَامِ وَالشَّيْبِ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ مِنْ مِثْلِ هَذَا. قَالَ الْخَلِيلُ كان الشعر أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَكِنْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ اه. وَوَجْهُ عَدَمِ تَعْلِيمِهِ الشِّعْرَ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، التَّكْمِيلُ لِلْحُجَّةِ وَالدَّحْضُ لِلشُّبْهَةِ، كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سبيل الله ما لقيت

_ (1) . الحج: 5. (2) . التين: 5.

وَقَوْلِهِ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمِنَ الِاتِّفَاقِ الْوَارِدِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا يَأْتِي ذَلِكَ فِي بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا مُرَادٌ بِهِ الشِّعْرَ، بَلِ اتَّفَقَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا كَمَا يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَتَكَلَّمُونَ بِمَا لَوِ اعْتَبَرَهُ مُعْتَبِرٌ لَكَانَ عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ وَلَا يَعُدُّونَهُ شِعْرًا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «1» وقوله: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ «2» عَلَى أَنَّهُ قَدْ قَالَ الْأَخْفَشُ إِنَّ قَوْلَهُ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ لَيْسَ بِشِعْرٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ: إِنَّ مَا جَاءَ من السجع على جزءين لَا يَكُونُ شِعْرًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْأَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَالَ لَا كَذِبُ بِرَفْعِ الْبَاءِ مِنْ كَذِبٍ، وَبِخَفْضِهَا مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ النَّحَّاسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا الرِّوَايَةُ بِالْإِعْرَابِ، وَإِذَا كَانَتْ بِالْإِعْرَابِ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا، لِأَنَّهُ إِذَا فَتَحَ الْبَاءَ مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ ضَمَّهُمَا أَوْ نَوَّنَهَا وَكَسَرَ الْبَاءَ مِنَ الثَّانِي خَرَجَ عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ. وَقِيلَ إِنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ أَيْ وَمَا يَنْبَغِي لِلْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أَيْ مَا الْقُرْآنُ إِلَّا ذِكْرٌ مِنَ الْأَذْكَارِ وَمَوْعِظَةٌ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أَيْ: كتب مِنْ كُتُبِ اللَّهِ السَّمَاوِيَّةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا أَيْ: لِيُنْذِرَ الْقُرْآنُ مَنْ كَانَ حَيًّا أَيْ: قَلْبُهُ صَحِيحٌ يَقْبَلُ الْحَقَّ وَيَأْبَى الْبَاطِلَ، أَوْ لِيُنْذِرَ الرَّسُولُ مَنْ كَانَ حَيًّا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالْفَوْقِيَّةِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى الْمُرَادُ الْقُرْآنُ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ الْمُرَادُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ أَيْ: وَتَجِبُ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْمُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ قَالَ: فِي افْتِضَاضِ الْأَبْكَارِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: شَغَلَهُمُ افْتِضَاضُ الْعَذَارَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ كُلَّمَا أَرَادَ زَوْجَةً وَجَدَهَا عَذْرَاءَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مَرْفُوعًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الصَّغِيرِ وَأَبِي الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ. وَرُوِيَ أَيْضًا نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ الضِّيَاءِ الْمَقْدِسِيِّ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ قَالَ: ضَرْبُ الْأَوْتَارِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هَذَا لَعَلَّهُ خَطَأٌ مِنَ الْمُسْتَمِعِ، وَإِنَّمَا هُوَ افْتِضَاضُ الْأَبْكَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ فاكِهُونَ فَرِحُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْآجُرِّيُّ فِي الرُّؤْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فَإِذَا الرَّبُّ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ قَالَ: فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، ومسلم،

_ (1) . آل عمران: 92. (2) . سبأ: 13.

وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي التَّوْبَةِ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فضحك حتّى بدت نواجذه، قال: أتردون مِمَّا ضَحِكْتُ؟ قُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ فَيَقُولُ بَلَى، فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَيَّ إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي، فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ. وَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يلقى العبد ربه فيقول الله: فل ألم أكرمك وأسوّدك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فَيَقُولُ بَلَى أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ أنك ملاقيّ؟ فيقول لا، إني أنساك كما نسيتني. ثم يلقي فيقول له مثل ذلك، ثم يلقى فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرَسُولِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: أَلَا نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ، فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ مَنِ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ انْطِقِي فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَفَمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ مَا كَانَ وَذَلِكَ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ عَلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ قَالَ: أَعْمَيْنَاهُمْ وَأَضْلَلْنَاهُمْ عَنِ الْهُدَى فَأَنَّى يُبْصِرُونَ فَكَيْفَ يَهْتَدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ قَالَ: أَهْلَكْنَاهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ قَالَ: فِي مَسَاكِنِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ لِعَائِشَةَ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَثَّلُ بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ؟ قَالَتْ كَانَ أَبْغَضَ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ بِبَيْتِ أَخِي بَنِي قَيْسٍ فَيَجْعَلُ أَوَّلَهُ آخِرَهُ يَقُولُ: «وَيَأْتِيكَ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ بِالْأَخْبَارِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ هَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَنَا بِشَاعِرٍ وَلَا يَنْبَغِي لِي» وَهَذَا يَرُدُّ مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الْخَلِيلِ سَابِقًا أَنَّ الشِّعْرَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَرَاثَ الْخَبَرَ «1» تَمَثَّلَ بِبَيْتِ طَرَفَةَ: وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَثَّلُ مِنَ الْأَشْعَارِ: وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيْتَ شِعْرٍ قَطُّ إِلَّا بَيْتًا وَاحِدًا: تَفَاءَلْ بِمَا تَهْوَى يَكُنْ فَلَقَلَّمَا ... يُقَالُ لِشَيْءٍ كان إلا تحقّق

_ (1) . في النهاية: راث علينا خبر فلان يريث: إذا أبطأ.

[سورة يس (36) : الآيات 71 إلى 83]

قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَمْ يَقُلْ تَحَقُّقًا لِئَلَّا يُعْرِبَهُ فَيَصِيرَ شِعْرًا، وَإِسْنَادُهُ هَكَذَا: قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ: يَعْنِي الْحَاكِمَ حَدَّثَنَا أَبُو حفص عمر بْنُ أَحْمَدَ بْنِ نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عبد الله بن خلال النَّحْوِيُّ الضَّرِيرُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَذَكَرَهُ. وَقَدْ سُئِلَ الْمِزِّيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هُوَ مُنْكَرٌ وَلَمْ يعرف شيخ الحاكم ولا الضرير. [سورة يس (36) : الآيات 71 الى 83] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ قُدْرَتَهُ الْعَظِيمَةَ، وَإِنْعَامَهُ عَلَى عَبِيدِهِ، وَجَحْدَ الْكُفَّارِ لِنِعَمِهِ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ وَالرُّؤْيَةُ هِيَ الْقَلْبِيَّةُ، أَيْ: أَوَ لَمْ يَعْلَمُوا بِالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ أَيْ: لِأَجْلِهِمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا، أي: مما أبدعناه وعملنا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا شَرِكَةٍ، وَإِسْنَادُ الْعَمَلِ إِلَى الْأَيْدِي مُبَالَغَةٌ فِي الِاخْتِصَاصِ، وَالتَّفَرُّدِ بِالْخَلْقِ كَمَا يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنَّا: عَمِلْتُهُ بِيَدَيَّ لِلدَّلَالَةِ على تفرّده بعمله، وما بِمَعْنَى الَّذِي، وَحُذِفَ الْعَائِدُ لِطُولِ الصِّلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَالْأَنْعَامُ جَمْعُ نَعَمٍ، وَهِيَ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْإِبِلُ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْمَنَافِعَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى خَلْقِ الْأَنْعَامِ فَقَالَ: فَهُمْ لَها مالِكُونَ أَيْ ضابطون قاهرون يتصرفون بها كيف شاؤوا، وَلَوْ خَلَقْنَاهَا وَحْشِيَّةً لَنَفَرَتْ عَنْهُمْ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ضَبْطِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا صَارَتْ فِي أَمْلَاكِهِمْ، وَمَعْدُودَةً مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهِمُ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِمْ نِسْبَةَ الْمُلْكِ وَذَلَّلْناها لَهُمْ أَيْ: جَعَلْنَاهَا لَهُمْ مُسَخَّرَةً لَا تَمْتَنِعُ مِمَّا يُرِيدُونَ مِنْهَا مِنْ مَنَافِعِهِمْ حَتَّى الذَّبْحِ، وَيَقُودُهَا الصَّبِيُّ فَتَنْقَادُ لَهُ، وَيَزْجُرُهَا فَتَنْزَجِرُ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ لِتَفْرِيعِ أَحْكَامِ التَّذْلِيلِ عَلَيْهِ أَيْ: فَمِنْهَا مَرْكُوبُهُمُ الَّذِي يَرْكَبُونَهُ كَمَا يُقَالُ نَاقَةٌ حَلُوبٌ: أَيْ مَحْلُوبَةٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «رَكُوبُهُمْ» بِفَتْحِ الراء. وقرأ الأعمش والحسن وابن السميقع بِضَمِّ الرَّاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَائِشَةُ «رَكُوبَتُهُمْ» وَالرَّكُوبُ وَالرَّكُوبَةُ وَاحِدٌ، مِثْلُ الْحَلُوبِ وَالْحَلُوبَةِ وَالْحَمُولِ وَالْحُمُولَةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّكُوبَةُ تَكُونُ لِلْوَاحِدَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالرَّكُوبُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْجَمَاعَةِ. وَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ بِضَمِّ الرَّاءِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالرُّكُوبُ مَا يركب، وأجاز

ذَلِكَ الْفَرَّاءُ كَمَا يُقَالُ: فَمِنْهَا أَكْلُهُمْ وَمِنْهَا شُرْبُهُمْ وَمَعْنَى: وَمِنْها يَأْكُلُونَ مَا يَأْكُلُونَهُ مِنْ لحمها، ومن لِلتَّبْعِيضِ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ أَيْ: لَهُمْ فِي الْأَنْعَامِ مَنَافِعُ غَيْرُ الرُّكُوبِ لَهَا، وَالْأَكْلِ مِنْهَا، وَهِيَ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ أَصْوَافِهَا، وَأَوْبَارِهَا، وَأَشْعَارِهَا، وَمَا يَتَّخِذُونَهُ مِنَ الْأَدْهَانِ مِنْ شُحُومِهَا، وَكَذَلِكَ الْحَمْلُ عَلَيْهَا وَالْحِرَاثَةُ بِهَا وَمَشارِبُ أَيْ: وَلَهُمْ فِيهَا مَشَارِبُ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ أَلْبَانِهَا أَفَلا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ، وَيُوَحِّدُونَهُ، وَيَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ جَهْلَهُمْ، وَاغْتِرَارَهُمْ، وَوَضْعَهُمْ كُفْرَانَ النِّعَمِ مَكَانَ شُكْرِهَا فَقَالَ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً مِنَ الْأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا يَعْبُدُونَهَا وَلَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى شَيْءٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِنْهَا فَائِدَةٌ، وَلَا عَادَ عَلَيْهِمْ مِنْ عِبَادَتِهَا عَائِدَةٌ لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أَيْ: رَجَاءَ أَنْ يُنْصَرُوا مِنْ جِهَتِهِمْ إِنْ نَزَلَ بِهِمْ عذاب أو دهمهم مِنَ الْأُمُورِ، وَجُمْلَةُ: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ بُطْلَانِ مَا رَجَوْهُ مِنْهَا وَأَمَّلُوهُ مِنْ نَفْعِهَا، وَجَمَعَهُمْ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ جَمْعَ الْعُقَلَاءِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَنْفَعُونَ وَيَضُرُّونَ وَيَعْقِلُونَ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أَيْ: وَالْكُفَّارُ جُنْدٌ لِلْأَصْنَامِ مُحْضَرُونَ، أَيْ: يَحْضُرُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْحَسَنُ: يَمْنَعُونَ مِنْهُمْ وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ يَغْضَبُونَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَنْتَصِرُونَ لِلْأَصْنَامِ وَهِيَ لَا تَسْتَطِيعُ نَصْرَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ نَهْيٌ لَهُمْ عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُحْزِنُ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَإِنَّ النَّهْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التأثر بما يَصْدُرُ مِنْهُمْ هُوَ مِنْ بَابِ «لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا» فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهِ نَهْيُ مَنْ خَاطَبَهُ عَنِ الْحُضُورِ لَدَيْهِ. لَا نَهْيُ نَفْسِهِ عَنِ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَالْكَلَامُ مِنْ باب التسلية كما ذكرناه، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ هُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَمَجْنُونٌ، وَجُمْلَةُ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ لِتَعْلِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ. فَإِنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ بِمَا يظهرون ويضمرون مستلزم للمجازاة لَهُمْ بِذَلِكَ. وَأَنَّ جَمِيعَ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ خَافِيًا أَوْ بَادِيًا، سِرًّا أَوْ جَهْرًا، مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا. وَتَقْدِيمُ السِّرِّ عَلَى الْجَهْرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شُمُولِ عِلْمِهِ لِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَجُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَلِلتَّعْجِيبِ مِنْ جَهْلِهِ، فَإِنَّ مُشَاهَدَةَ خَلْقِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلِاعْتِرَافِ بِقُدْرَةِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ بَعْثِ الْأَجْسَامِ وَرَدِّهَا كَمَا كَانَتْ، وَالْإِنْسَانُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْإِنْسَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً «1» وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِإِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ كَمَا قِيلَ: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لَمَّا أَنْكَرَ الْبَعْثَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: هو الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، فَإِنَّ أَحَدَ هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلنُّزُولِ فَمَعْنَى الْآيَةِ خِطَابُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، لَا إِنْسَانَ مُعَيَّنٌ، وَيَدْخُلُ مَنْ كَانَ سَبَبًا لِلنُّزُولِ تَحْتَ جِنْسِ الْإِنْسَانِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَالنُّطْفَةُ هِيَ الْيَسِيرُ من الماء، وقد تقدّم مَعْنَاهَا فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ قَبْلَهَا دَاخِلَةٌ مَعَهَا في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، وإذا هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، أَيْ: أَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ أَضْعَفِ الْأَشْيَاءِ، فَفَجَأَ خُصُومَتَنَا فِي أَمْرٍ قَدْ قَامَتْ فِيهِ عَلَيْهِ حُجَجُ اللَّهِ وبراهينه، والخصيم الشديد

_ (1) . مريم: 61.

الْخُصُومَةِ الْكَثِيرُ الْجِدَالِ، وَمَعْنَى الْمُبِينِ: الْمُظْهِرُ لِمَا يَقُولُهُ الْمُوَضِّحُ لَهُ بِقُوَّةِ عَارَضَتِهِ وَطَلَاقَةِ لِسَانِهِ، وَهَكَذَا جُمْلَةُ: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ الْمَفْهُومِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، فَهِيَ تَكْمِيلٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ، وَبَيَانُ جَهْلِهِ بِالْحَقَائِقِ، وَإِهْمَالِهِ لِلتَّفَكُّرِ فِي نَفْسِهِ فَضْلًا عَنِ التَّفَكُّرِ فِي سَائِرِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى خَلَقْنَا، وَهَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا، أَيْ: أَوْرَدَ فِي شَأْنِنَا قِصَّةً غريبة كالمثل: وهي إنكاره إحياءنا للعظام، ونسي خَلْقَهُ: أَيْ خَلْقَنَا إِيَّاهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى ضَرَبَ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ قَدْ، وجملة: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ اسْتِئْنَافٌ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هَذَا الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ؟ فَقِيلَ قَالَ: مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ لِأَنَّهُ قَاسَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى قُدْرَةِ الْعَبْدِ، فَأَنْكَرَ أَنَّ اللَّهَ يحيي العظام البالية حيث لم يكن فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ، يُقَالُ رَمَّ الْعَظْمُ يَرِمُّ رَمًّا إِذَا بَلِيَ فَهُوَ رَمِيمٌ وَرِمَامٌ وَإِنَّمَا قَالَ رَمِيمٌ وَلَمْ يَقُلْ رَمِيمَةٌ مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا لِلْمُؤَنَّثِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا بَلِيَ مِنَ الْعِظَامِ غَيْرُ صِفَةٍ كَالرُّمَّةِ وَالرُّفَاتِ، وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ مَعْدُولًا عَنْ فَاعِلِهِ وَكُلُّ مَعْدُولٍ عَنْ وَجْهِهِ يَكُونُ مَصْرُوفًا عَنْ إِعْرَابِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «1» لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ بَاغِيَةٍ، كَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ بِالْأَوَّلِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ وَهُوَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ كَمَا قِيلَ فِي جَرِيحٍ وَصَبُورٍ. ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنِ الضَّارِبِ لِهَذَا الْمَثَلِ فَقَالَ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ أَيِ: ابْتَدَأَهَا وَخَلَقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى النَّشْأَةِ الْأُولَى قَدَرَ عَلَى النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عِلْمِهِ خَارِجٌ كَائِنًا مَا كَانَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعِظَامَ مِمَّا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ وأن المراد بقوله: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ مَنْ يُحْيِي أَصْحَابَ الْعِظَامِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، وَرَدَّ بِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ خِلَافُ الظَّاهِرِ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا هَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ إِلَى تَقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ دَفْعِ اسْتِبْعَادِهِمْ، فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَدَلَّ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ إِخْرَاجِ النَّارِ الْمُحْرِقَةِ مِنَ الْعُودِ النِّدِّيِّ الرَّطِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّجَرَ الْمَعْرُوفَ بِالْمَرْخِ، وَالشَّجَرَ الْمَعْرُوفَ بِالْعَفَارِ إِذَا قُطِعَ مِنْهُمَا عُودَانِ، وَضُرِبَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ انْقَدَحَتْ منهما النار وهما أخضران. قيل: الْمَرْخُ هُوَ الذَّكْرُ وَالْعَفَارُ هُوَ الْأُنْثَى، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ الزَّنْدَ وَالثَّانِي الزَّنْدَةَ، وَقَالَ الْأَخْضَرِ وَلَمْ يَقُلِ الْخَضْرَاءِ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ. وَقُرِئَ (الْخُضْرِ) اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَذْكِيرُ اسْمِ الجنس كما في قوله: نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «2» وقوله: نَخْلٍ خاوِيَةٍ «3» فَبَنُو تَمِيمٍ وَنَجْدٍ يُذَكِّرُونَهُ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُؤَنِّثُونَهُ إِلَّا نَادِرًا، وَالْمَوْصُولُ بَدَلٌ مِنَ الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَيْ: تَقْدَحُونَ مِنْهُ النَّارَ وَتُوقِدُونَهَا مِنْ ذَلِكَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ خَلْقًا مِنَ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَنَظَائِرِهِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أن من قدر على خلق السموات وَالْأَرْضِ وَهُمَا فِي غَايَةِ الْعِظَمِ، وَكِبَرِ الْأَجْزَاءِ يقدر على إعادة

_ (1) . مريم: 28. [.....] (2) . القمر: 20. (3) . الحاقة: 7.

خلق البشر الذي هو صغير الشكل ضَعِيفُ الْقُوَّةِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «1» . وقرأ الْجُمْهُورُ بِقادِرٍ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْأَعْرَجُ، وَسَلَّامُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيُّ «يَقْدِرُ» بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ. ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَمَّا أَفَادَهُ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ الْإِنْكَارِ التَّقْرِيرِيِّ بِقَوْلِهِ: بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ أَيْ: بَلَى هُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي الْخَلْقِ وَالْعِلْمِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَأَتَمِّهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ «وَهُوَ الْخَالِقُ» . ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَتَيَسُّرِ الْمَبْدَأِ وَالْإِعَادَةِ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ: إِنَّمَا شَأْنُهُ سُبْحَانَهُ إِذَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: احْدُثْ فَيَحْدُثُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ أَصْلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَفِي الْبَقَرَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَكُونُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى يَقُولُ. ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِغَيْرِ الْقُدْرَةِ فَقَالَ: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَالْمَلَكُوتُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَفْظُ مُبَالَغَةٍ فِي الْمُلْكِ كَالْجَبَرُوتِ وَالرَّحَمُوتِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَالِكِيَّةُ الْأَشْيَاءِ الْكُلِّيَّةُ. قَالَ قَتَادَةُ: مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ: مَفَاتِحُ كُلِّ شَيْءٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَلَكُوتُ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَإِبْرَاهِيمُ التيمي «ملكة» بزنة شجرة، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَأَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْضًا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ: تَرْجِعُونَ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ حَائِلٍ فَفَتَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَيُحْيِي اللَّهُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرَى؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا، ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ نَارَ جَهَنَّمَ» فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ يس أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي يَدِهِ عَظْمٌ حَائِلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا مُنْكَرٌ، لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تقدّم.

_ (1) . غافر: 57.

سورة الصافات

سُورَةِ الصَّافَّاتِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَابْنُ النَّحَّاسِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِالتَّخْفِيفِ وَيَؤُمُّنَا بِالصَّافَّاتِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَفَرَّدَ بِهِ النَّسَائِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَابْنُ النَّجَّارِ فِي تاريخه من طريق نهشل بن سعد الْوَرْدَانِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنِ قَرَأَ يس وَالصَّافَّاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثمّ سأل الله أعطاه سؤاله» . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَالسِّلَفِيُّ فِي الطُّيُورِيَّاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ مُلُوكُ حَضْرَمَوْتَ عِنْدَ قُدُومِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ الله قرأ الصَّافَّاتِ صَفًّا حتى بلغ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ» الحديث. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) قَوْلُهُ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَقِيلَ: حَمْزَةُ فَقَطْ بِإِدْغَامِ التَّاءِ مِنَ الصَّافَّاتِ فِي صَادِ صَفًّا، وَإِدْغَامِ التَّاءِ مِنَ الزَّاجِرَاتِ فِي زَايِ زَجْرًا، وَإِدْغَامِ التَّاءِ مِنَ التَّالِيَاتِ فِي ذَالِ ذِكْرًا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ قَدْ أَنْكَرَهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمَّا سَمِعَهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهِيَ بَعِيدَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: الْجِهَةُ الْأُولَى أَنَّ التَّاءَ لَيْسَتْ مِنْ مَخْرَجِ الصَّادِ، وَلَا مِنْ مَخْرَجِ الزَّايِ، وَلَا مِنْ مَخْرَجِ الدَّالِ، وَلَا مِنْ أَخَوَاتِهِنَّ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ التَّاءَ فِي كَلِمَةٍ وَمَا بَعْدَهَا فِي كَلِمَةٍ أُخْرَى. الثَّالِثَةُ: أَنَّكَ إِذَا أَدْغَمْتَ جَمَعْتَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا إِذَا كَانَا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الصَّادِ حَسَنٌ لِمُقَارَبَةِ الْحَرْفَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِظْهَارِ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَالْوَاوُ لِلْقَسَمِ، وَالْمُقْسَمُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ: الصَّافَّاتُ، وَالزَّاجِرَاتُ، وَالتَّالِيَاتُ وَالْمُرَادُ بِالصَّافَّاتِ: الَّتِي تُصَفُّ فِي السَّمَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَصُفُوفِ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا تصفّ

أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ وَاقِفَةً فِيهِ حَتَّى يَأْمُرَهَا اللَّهُ بِمَا يُرِيدُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: صَفًّا كَصُفُوفِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّافَّاتِ هُنَا الطَّيْرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ «1» . وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالصَّفُّ: تَرْتِيبُ الْجَمْعِ عَلَى خَطٍّ كالصفّ في الصلاة، وقيل: الصافات جماعات النَّاسِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا قَامُوا صَفًّا فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْجِهَادِ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَالْمُرَادُ بِ فَالزَّاجِراتِ الْفَاعِلَاتُ لِلزَّجْرِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِمَّا لِأَنَّهَا تَزْجُرُ السَّحَابَ كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا تَزْجُرُ عَنِ الْمَعَاصِي بِالْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ بِالزَّاجِرَاتِ: الزَّوَاجِرُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهِيَ كُلُّ مَا يَنْهَى، وَيَزْجُرُ عَنِ الْقَبِيحِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَانْتِصَابُ صفّا. وزَجْراً على المصدرية لتأكيد ما قبلها. وقيل: المراد بالزاجرات العلماء، لأنهم هم الَّذِينَ يَزْجُرُونَ أَهْلَ الْمَعَاصِي. وَالزَّجْرُ فِي الْأَصْلِ: الدَّفْعُ بِقُوَّةٍ، وَهُوَ هُنَا: قُوَّةُ التَّصْوِيتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: زَجْرَ أَبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إِذَا ... أَشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بِالْغَنَمِ وَمِنْهُ زَجَرْتُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ: إِذَا أَفْزَعْتَهَا بِصَوْتِكَ، وَالْمُرَادُ بِ فَالتَّالِياتِ ذِكْراً الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَتْلُو الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ جِبْرِيلُ وَحْدَهُ، فَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَتْبَاعٍ لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ كُلُّ مَنْ تَلَا ذِكْرَ اللَّهِ وَكُتُبَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَوَصْفُهَا بِالتِّلَاوَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَتْلُوَّةً كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ «2» وقيل: لأن بعضها يتلو بعضها وَيَتْبَعُهُ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ التَّالِيَاتِ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ يَتْلُونَ الذِّكْرَ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَانْتِصَابُ ذِكْرًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ صَفًّا وزَجْراً. قِيلَ: وَهَذِهِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالزَّاجِراتِ، فَالتَّالِياتِ إِمَّا لترتب الصفات أنفسها في الوجود أو لترتب مَوْصُوفَاتِهَا فِي الْفَضْلِ، وَفِي الْكُلِّ نَظَرٌ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ إِنَّهُ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ فَتْحَ إِنَّ الْوَاقِعَةِ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ لَواحِدٌ وَأَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَقْفُ عَلَى لَوَاحِدٌ وَقْفٌ حَسَنٌ، ثم يبتدئ ربّ السموات والأرض على معنى هو ربّ السموات وَالْأَرْضِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ لَوَاحِدٌ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى هَذَا الشَّكْلِ الْبَدِيعِ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ رَبُّ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَيْ: خَالِقُهُ وَمَالِكُهُ، وَالْمُرَادُ بما بينهما: ما بين السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَالْمُرَادُ بِ الْمَشارِقِ مَشَارِقُ الشَّمْسِ. قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ لِلشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا بِعَدَدِ أَيَّامِ السَّنَةِ، تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا وَتَغْرُبُ مِنْ وَاحِدٍ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ عبد البرّ. وأما قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ «3» فَالْمُرَادُ بِالْمَشْرِقَيْنِ: أَقْصَى مَطْلَعٍ تَطْلُعُ مِنْهُ الشَّمْسُ فِي الْأَيَّامِ الطِّوَالِ، وَأَقْصَرُ يَوْمٍ فِي الْأَيَّامِ الْقِصَارِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرِبَيْنِ. وَأَمَّا ذِكْرُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بِالْإِفْرَادِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَةُ الَّتِي تُشْرِقُ مِنْهَا الشَّمْسُ، وَالْجِهَةُ الَّتِي تَغْرُبُ مِنْهَا، وَلَعَلَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي هَذَا كَلَامٌ أَوْسَعُ من هذا

_ (1) . الملك: 19. (2) . النمل: 36. (3) . الرحمن: 17.

إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا الَّتِي تَلِي الْأَرْضَ، مِنَ الدُّنُوِّ وهو القرب، فهي أقرب السموات إِلَى الْأَرْضِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بِإِضَافَةِ زِينَةِ إِلَى الْكَوَاكِبِ. وَالْمَعْنَى: زَيَّنَّاهَا بِتَزْيِينِ الْكَوَاكِبِ: أَيْ بِحُسْنِهَا. وَقَرَأَ مَسْرُوقٌ وَالْأَعْمَشُ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمْزَةُ بِتَنْوِينِ «زِينَةٍ» وَخَفْضِ الْكَواكِبِ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الزِّينَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ الِاسْمُ لَا الْمَصْدَرُ، وَالتَّقْدِيرُ بَعْدَ طَرْحِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ بِالْكَوَاكِبِ، فَإِنَّ الْكَوَاكِبَ فِي أَنْفُسِهَا زِينَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّهَا فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ لَهَا كَالْجَوَاهِرِ الْمُتَلَأْلِئَةِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أبي بكر عنه بتنوين بِزِينَةٍ وَنَصْبِ «الْكَوَاكِبَ» عَلَى أَنَّ الزِّينَةَ مَصْدَرٌ وَفَاعِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بِأَنَّ اللَّهَ زَيَّنَ الْكَوَاكِبَ بِكَوْنِهَا مُضِيئَةً حَسَنَةً فِي أَنْفُسِهَا، أَوْ تَكُونُ الْكَوَاكِبُ مَنْصُوبَةً بِإِضْمَارِ أَعْنِي، أَوْ بَدَلًا مِنَ السَّمَاءِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، وَانْتِصَابُ حِفْظًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِإِضْمَارِ فعل: أي حفظناها حفظا، أو على أنه مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ: أَيْ زَيَّنَّاهَا بِالْكَوَاكِبِ لِلْحِفْظِ، أَوْ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ زِينَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا خَلَقْنَا الْكَوَاكِبَ زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ أَيْ: مُتَمَرِّدٍ خَارِجٍ عَنِ الطَّاعَةِ يُرْمَى بِالْكَوَاكِبِ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «1» ، وَجُمْلَةُ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِهِمْ بَعْدَ حِفْظِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَيْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا، ثُمَّ حَذَفَ إِنْ فَرَفَعَ الْفِعْلَ، وَكَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ، وَالْمَلَأُ الْأَعْلَى: أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَمَا فَوْقَهَا، وَسُمِّيَ الْكُلُّ مِنْهُمْ أَعْلَى بِإِضَافَتِهِ إِلَى مَلَأِ الْأَرْضِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَسَّمَّعُونَ إِلَى الشَّيَاطِينِ. وَقِيلَ: إِنَّ جُمْلَةَ لَا يَسَّمَّعُونَ صِفَةٌ لِكُلِّ شَيْطَانٍ، وَقِيلَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا كَانَ حَالُهُمْ بَعْدَ حِفْظِ السَّمَاءِ عَنْهُمْ؟ فَقَالَ: لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَسْمَعُونَ» بِسُكُونِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالسِّينِ، وَالْأَصْلُ يَتَسَمَّعُونَ فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي السِّينِ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ سَمَاعِهِمْ دُونَ اسْتِمَاعِهِمْ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِمَا وَفِي مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ «2» قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَتَسَمَّعُونَ وَلَكِنْ لَا يَسْمَعُونَ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ، قَالَ: لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَكَادُ تَقُولُ: سَمِعْتُ إِلَيْهِ، وَتَقُولُ تَسَمَّعْتُ إِلَيْهِ وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً أَيْ: يُرْمَوْنَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ السَّمَاءِ بِالشُّهُبِ إِذَا أَرَادُوا الصُّعُودَ لِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَانْتِصَابُ دُحُورًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ وَالدُّحُورُ الطَّرْدُ، تَقُولُ دَحَرْتُهُ دَحْرًا وَدُحُورًا: طَرَدْتُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ دُحُوراً بِضَمِّ الدَّالِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالسُّلَمِيُّ وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ يُقْذَفُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لِمَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ انْتِصَابَ دُحُورًا عَلَى الْحَالِ: أَيْ مَدْحُورِينَ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ دَاحِرٍ نَحْوُ قَاعِدٍ وَقُعُودٍ فَيَكُونُ حَالًا أَيْضًا. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ لِمُقَدَّرٍ: أَيْ يُدْحَرُونَ دُحُورًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْمَعْنَى يُقْذَفُونَ بِمَا يَدْحَرُهُمْ: أَيْ بِدُحُورٍ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْبَاءُ فَانْتَصَبَ بنزع الخافض.

_ (1) . الملك: 5. (2) . الشعراء: 212.

وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ هَذَا الرَّمْيُ لَهُمْ بِالشُّهُبِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ أَوْ بَعْدَهُ، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ طَائِفَةٌ، وَبِالْآخَرِ آخَرُونَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَمْ تَكُنْ تُرْمَى قَبْلَ الْمَبْعَثِ رَمْيًا يَقْطَعُهَا عَنِ السَّمْعِ، وَلَكِنْ كَانَتْ تُرْمَى وَقْتًا وَلَا تُرْمَى وَقْتًا آخَرَ وَتُرْمَى مِنْ جَانِبٍ وَلَا تُرْمَى مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، ثُمَّ بَعْدَ الْمَبْعَثِ رُمِيَتْ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى صَارَتْ لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِرَاقِ شَيْءٍ مِنَ السَّمْعِ إِلَّا مَنِ اخْتَطَفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ، وَمَعْنَى وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ الْعَذَابِ الَّذِي لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الرَّمْيِ بِالشُّهُبِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي دَائِمًا إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْوَاصِبَ الدَّائِمُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ الْمُوجِعُ الَّذِي يَصِلُ وَجَعُهُ إِلَى الْقَلْبِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَصَبِ وَهُوَ الْمَرَضُ، وَقِيلَ: هُوَ الشَّدِيدُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَسَّمَّعُونَ أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُقْذَفُونَ. وَقِيلَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ الْوَحْيِ لِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ بَلْ يَخْطِفُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ خَطْفَةً مِمَّا يَتَفَاوَضُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَيَدُورُ بَيْنَهُمْ مِمَّا سَيَكُونُ فِي الْعَالَمِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ. وَالْخَطْفُ الِاخْتِلَاسُ مُسَارَقَةً وَأَخْذُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ خَطِفَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ مُخَفَّفَةً، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ بِكَسْرِهِمَا وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمِ بْنِ مُرٍّ وَبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَسْرِهِمَا مَعَ تَخْفِيفِ الطَّاءِ، وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ أَيْ: لَحِقَهُ وَتَبِعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ: نَجْمٌ مُضِيءٌ فَيَحْرُقُهُ، وَرُبَّمَا لَا يَحْرُقُهُ فَيُلْقِي إِلَى إِخْوَانِهِ مَا خَطِفَهُ، وَلَيْسَتِ الشُّهُبُ الَّتِي يُرْجَمُ بها هي الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ بَلْ مِنْ غَيْرِ الثَّوَابِتِ، وَأَصْلُ الثُّقُوبِ الْإِضَاءَةُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: ثَقَبَتِ النَّارُ تَثْقُبُ ثَقَابَةً وَثُقُوبًا: إِذَا اتَّقَدَتْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ كَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ «1» فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا أَيِ: اسْأَلِ الْكُفَّارَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا وَأَقْوَى أَجْسَامًا وَأَعْظَمُ أَعْضَاءً، أَمْ مَنْ خلقنا من السموات وَالْأَرْضِ وَالْمَلَائِكَةِ؟ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فَاسْأَلْهُمْ سُؤَالَ تَقْرِيرٍ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا: أَيْ أَحْكَمُ صَنْعَةً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ؟ يُرِيدُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَحْكَمَ خَلْقًا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ وَقَدْ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالتَّكْذِيبِ فَمَا الَّذِي يُؤَمِّنُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أَيْ: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ فِي ضِمْنِ خَلْقِ أَبِيهِمْ آدَمَ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ: أَيْ لَاصِقٍ، يُقَالُ لَزَبَ يَلْزُبُ لُزُوبًا: إِذَا لَصِقَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: اللَّازِبُ اللَّازِقُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: اللَّازِبُ اللَّزِجُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: اللَّازِبُ الْجَيِّدُ الَّذِي يُلْصَقُ بِالْيَدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ اللَّازِمُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: طِينٌ لَازِبٌ وَلَازِمٌ تُبْدِلُ الْبَاءَ مِنَ الْمِيمِ، وَاللَّازِمُ الثَّابِتُ كَمَا يُقَالُ: صَارَ الشَّيْءُ ضَرْبَةَ لَازِبٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: لَا تَحْسَبُونَ الْخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ ... وَلَا تَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبٍ وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: طِينٌ لَاتِبٌ بِمَعْنَى لَازِمٍ، وَاللَّاتِبُ: الثَّابِتُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ. وَاللَّاتِبُ: اللَّاصِقُ مِثْلُ اللَّازِبِ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أن هؤلاء كيف يستبعدون المعاد وهم مخلقون من هذا الخلق الضيف

_ (1) . الحجر: 18.

وَلَمْ يُنْكِرْهُ مَنْ هُوَ مَخْلُوقٌ خَلْقًا أَقْوَى مِنْهُمْ وَأَعْظَمَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ. وَقِيلَ اللَّازِبُ هُوَ الْمُنْتِنُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمْ مَنْ خَلَقْنا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَهِيَ أَمِ الْمُتَّصِلَةُ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ ثَانٍ عَلَى قِرَاءَتِهِ. قِيلَ: وَقَدْ قُرِئَ لَازِمٍ وَلَاتِبٍ، وَلَا أَدْرِي مَنْ قَرَأَ بِذَلِكَ. ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَقَالَ: بَلْ عَجِبْتَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَيَسْخَرُونَ مِنْكَ بسبب تعجبك، أو يسخرون مِنْكَ بِمَا تَقُولُهُ مِنْ إِثْبَاتِ الْمَعَادِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ عَجِبْتَ عَلَى الْخِطَابِ للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ وَالْفَرَّاءُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: قَرَأَهَا النَّاسُ بِنَصْبِ التَّاءِ وَرَفْعِهَا، وَالرَّفْعُ أَحَبُّ إِلَيَّ لِأَنَّهَا عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَالْعَجَبُ أَنْ أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ مِنَ اللَّهِ كَمَعْنَاهُ مِنَ الْعِبَادِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبْتَ بَلْ جَازَيْتَهُمْ عَلَى عَجَبِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِالتَّعَجُّبِ مِنَ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ «1» وقالوا: إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ «2» أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ «3» وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ بَلْ عَجِبْتُ لِأَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُخَاطَبٌ بِالْقُرْآنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ وَإِضْمَارُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْإِخْبَارِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَجَبِ أَنَّهُ ظَهَرَ مِنْ أَمْرِهِ وَسُخْطِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْعَجَبِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَيُقَالُ مَعْنَى عَجِبَ رَبُّكُمْ: أَيْ رَضِيَ رَبُّكُمْ وَأَثَابَ، فَسَمَّاهُ عَجَبًا، وَلَيْسَ بِعَجَبٍ فِي الْحَقِيقَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى عَجِبْتَ هُنَا عَظُمَ فِعْلُهُمْ عِنْدِي. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ مَعْنَى بَلْ عَجِبْتَ: بَلْ أَنْكَرْتَ. قَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: التَّعَجُّبُ مِنَ اللَّهِ إِنْكَارُ الشَّيْءِ وَتَعْظِيمُهُ، وَهُوَ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ بَلَغَ فِي كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَكَثْرَةِ مَخْلُوقَاتِهِ إِلَى حَيْثُ عُجِبَ مِنْهَا، وَهَؤُلَاءِ لِجَهْلِهِمْ يَسْخَرُونَ مِنْهَا، وَالْوَاوُ فِي وَيَسْخَرُونَ لِلْحَالِ أَيْ: بَلْ عَجِبْتَ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَسْخَرُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِئْنَافِ وَإِذا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ أَيْ: وَإِذَا وُعِظُوا بِمَوْعِظَةٍ مِنْ مَوَاعِظِ اللَّهِ أَوْ مَوَاعِظِ رَسُولِهِ لَا يَذْكُرُونَ، أَيْ: لَا يَتَّعِظُونَ بِهَا وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا فِيهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَيْ إِذَا ذُكِرَ لَهُمْ مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا وَإِذا رَأَوْا آيَةً أَيْ مُعْجِزَةً مِنْ مُعْجِزَاتِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَسْتَسْخِرُونَ أَيْ يُبَالِغُونَ فِي السُّخْرِيَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَسْخَرُونَ وَيَقُولُونَ إِنَّهَا سُخْرِيَةٌ، يُقَالُ سَخِرَ وَاسْتَسْخَرَ بِمَعْنًى، مِثْلُ قَرَّ وَاسْتَقَرَّ، وَعَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زيادة المعنى. وقيل معنى يستسخرون: يستدعون السخرية مِنْ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَسْتَهْزِئُونَ وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ: مَا هَذَا الَّذِي تَأْتِينَا بِهِ إِلَّا سِحْرٌ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ: أَيْ أَنُبْعَثُ إِذَا مِتْنَا؟ فَالْعَامِلُ فِي إِذَا هُوَ ما دلّ عليه أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ وهو أنبعث، لا نفس مَبْعُوثُونَ لِتَوَسُّطِ مَا يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِهِ فِيهِ، وَهَذَا الْإِنْكَارُ لِلْبَعْثِ مِنْهُمْ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَمَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَهْزَءُوا بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوَاضِعَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ هو: مبتدأ، وخبره: محذوف، وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا، وَقِيلَ: على

_ (1) . ص: 4. (2) . ص: 5. (3) . يونس: 2.

[سورة الصافات (37) : الآيات 20 إلى 49]

الضَّمِيرِ فِي مَبْعُوثُونَ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ دَاخِلَةٌ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلِهَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَقَالُونُ بِسُكُونِهَا عَلَى أَنَّ أَوْ هِيَ الْعَاطِفَةُ، وَلَيْسَتِ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ تَبْكِيتًا لَهُمْ، فَقَالَ: قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أَيْ: نَعَمْ تُبْعَثُونَ، وَأَنْتُمْ صَاغِرُونَ ذَلِيلُونَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالدُّخُورُ أَشَدُّ الصَّغَارِ، وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ بَعْثَهُمْ يَقَعُ بِزَجْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ أَوِ الْبِعْثَةِ الْمَفْهُومَةِ مِمَّا قَبْلَهَا، أَيْ: إِنَّمَا قِصَّةُ الْبَعْثِ أَوِ الْبِعْثَةِ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، أَيْ: صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ إِسْرَافِيلَ بِنَفْخِهِ فِي الصُّورِ عِنْدَ الْبَعْثِ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أَيْ: يُبْصِرُونَ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ، وَسُمِّيَتِ الصَّيْحَةُ زَجْرَةً، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الزَّجْرُ، وَقِيلَ مَعْنَى يَنْظُرُونَ: يَنْتَظِرُونَ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا قَالَ: الْمَلَائِكَةُ فَالزَّاجِراتِ زَجْراً قَالَ: الْمَلَائِكَةُ فَالتَّالِياتِ ذِكْراً قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى مُخَفَّفَةً. وَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَمَّعُونَ وَلَكِنْ لَا يَسْمَعُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: عَذابٌ واصِبٌ قَالَ: دَائِمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عنه أيضا إذا رمي الشهاب لم يخطئ من رمي به وتلا فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ قَالَ: لَا يُقْتَلُونَ بِالشِّهَابِ وَلَا يَمُوتُونَ، وَلَكِنَّهَا تُحْرَقُ، وَتُخْبَلُ، وَتُجْرَحُ فِي غَيْرِ قَتْلٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مِنْ طِينٍ لازِبٍ قَالَ: مُلْتَصِقٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ طِينٍ لازِبٍ قَالَ: اللَّزِجُ الْجَيِّدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: اللَّازِبُ، وَالْحَمَأُ، وَالطِّينُ وَاحِدٌ: كَانَ أَوَّلُهُ تُرَابًا ثُمَّ صَارَ حَمَأً مُنْتِنًا، ثُمَّ صَارَ طِينًا لَازِبًا، فَخَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ آدَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: اللَّازِبُ الَّذِي يَلْصَقُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ بِالرَّفْعِ لِلتَّاءِ من عجبت. [سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 49] وَقالُوا يَا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)

قَوْلُهُ: وَقالُوا يَا وَيْلَنا أَيْ: قَالَ أُولَئِكَ الْمَبْعُوثُونَ لَمَّا عَايَنُوا الْبَعْثَ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا: يَا وَيْلَنَا، دَعَوْا بِالْوَيْلِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَيْلُ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْقَائِلُ وَقْتَ الْهَلَكَةِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ أَصْلَهُ ياوي لَنَا، وَوَيْ بِمَعْنَى الْحُزْنِ كَأَنَّهُ قَالَ: يَا حُزْنُ لَنَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ مُنْفَصِلًا، وَهُوَ فِي الْمُصْحَفِ مُتَّصِلٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَكْتُبُهُ إِلَّا مُتَّصِلًا، وَجُمْلَةُ هَذَا يَوْمُ الدِّينِ تَعْلِيلٌ لِدُعَائِهِمْ بِالْوَيْلِ عَلَى أنفسهم، والدين الْجَزَاءُ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي نُجَازَى فِيهِ بِأَعْمَالِنَا مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ لِلرُّسُلِ فَأَجَابَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِقَوْلِهِمْ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَالْفَصْلُ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ لِأَنَّهُ يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، وَقَوْلُهُ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ هُوَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِلْمَلَائِكَةِ بِأَنْ يَحْشُرُوا الْمُشْرِكِينَ وَأَزْوَاجَهُمْ، وَهُمْ أَشْبَاهُهُمْ فِي الشِّرْكِ، وَالْمُتَابِعُونَ لَهُمْ فِي الْكُفْرِ، وَالْمُشَايِعُونَ لَهُمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ بِأَزْوَاجِهِمْ نِسَاؤُهُمُ الْمُشْرِكَاتُ الْمُوَافِقَاتُ لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَزْوَاجُهُمْ قُرَنَاؤُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ يُحْشَرُ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالشَّيَاطِينِ، وَهَذَا الْعُمُومُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ مَا الْمَوْصُولَةِ، فَإِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمَعْبُودِينَ، لَا عَنِ الْعَابِدِينَ كَمَا قِيلَ مَخْصُوصٌ، لِأَنَّ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ مَنْ عَبَدَ الْمَسِيحَ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ فَيَخْرُجُونَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «1» وَوَجْهُ حَشْرِ الْأَصْنَامِ مَعَ كَوْنِهَا جَمَادَاتٍ لَا تَعْقِلُ هُوَ زِيَادَةُ التَّبْكِيتِ لِعَابِدِيهَا وَتَخْجِيلُهُمْ وَإِظْهَارُ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أَيْ عَرِّفُوا هَؤُلَاءِ الْمَحْشُورِينَ طَرِيقَ النَّارِ وَسُوقُوهُمْ إِلَيْهَا، يُقَالُ هَدَيْتُهُ الطَّرِيقَ وَهَدَيْتُهُ إِلَيْهَا: أَيْ دَلَلْتُهُ عَلَيْهَا، وَفِي هَذَا تَهَكُّمٌ بهم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أَيِ احْبِسُوهُمْ، يُقَالُ وَقَفْتُ الدَّابَّةَ أَقِفُهَا وَقْفًا فَوَقَفَتْ هِيَ وُقُوفًا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، وَهَذَا الْحَبْسُ لَهُمْ يَكُونُ قَبْلَ السَّوْقِ إِلَى جَهَنَّمَ: أي وقوفهم لِلْحِسَابِ ثُمَّ سُوقُوهُمْ إِلَى النَّارِ بَعْدَ ذَلِكَ، وجملة إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ تعليل للجملة الأولى. قال الكلبي: أي: مسؤولون عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنْ خَطَايَاهُمْ، وَقِيلَ: عَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: عَنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ، وَقِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ هُوَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ لَا يَنْصُرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَتَقْرِيعٌ وَتَهَكُّمٌ بِهِمْ، وَأَصْلُهُ تتناصر وفطرحت إحدى التاءين تخفيفا. قرأ

_ (1) . الأنبياء: 101.

الجمهور إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِفَتْحِهَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ لِأَنَّهُمْ أَوْ بِأَنَّهُمْ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ إِلَى قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ «1» ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَمَّا تَقَدَّمَ إِلَى بَيَانِ الْحَالَةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا هُنَالِكَ فَقَالَ: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ أَيْ: مُنْقَادُونَ لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْحِيلَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: مُسْتَسْلِمُونَ فِي عَذَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مُلْقُونَ بِأَيْدِيهِمْ، يُقَالُ اسْتَسْلَمَ لِلشَّيْءِ: إِذَا انْقَادَ لَهُ وَخَضَعَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أَيْ: أَقْبَلَ بَعْضُ الْكُفَّارِ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. قِيلَ: هُمُ الْأَتْبَاعُ وَالرُّؤَسَاءُ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ وَمُخَاصَمَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ قَوْلُ الْكُفَّارِ لِلشَّيَاطِينِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ قَوْلُ الْإِنْسِ لِلْجِنِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أَيْ: كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا فِي الدُّنْيَا عَنِ الْيَمِينِ: أَيْ مِنْ جِهَةِ الْحَقِّ وَالدِّينِ وَالطَّاعَةِ وَتَصُدُّونَا عَنْهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا مِنْ قِبَلِ الدِّينِ، فَتُرُونَنَا أَنَّ الدِّينَ وَالْحَقَّ مَا تُضِلُّونَنَا بِهِ، وَالْيَمِينُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَقِّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْلِيسَ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ «2» قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّ الرُّؤَسَاءَ كَانُوا قَدْ حَلَفُوا لِهَؤُلَاءِ الْأَتْبَاعِ أَنَّ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ فَوَثِقُوا بِأَيْمَانِهِمْ فَمَعْنَى تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَيْمَانِ الَّتِي كُنْتُمْ تَحْلِفُونَهَا فَوَثِقْنَا بِهَا. قَالَ: وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ الَّتِي نُحِبُّهَا وَنَتَفَاءَلُ بِهَا لِتُغْرُونَا بِذَلِكَ عَنْ جِهَةِ النُّصْحِ، وَالْعَرَبُ تَتَفَاءَلُ بِمَا جَاءَ عَنِ الْيَمِينِ وَتُسَمِّيهِ السَّانِحَ. وَقِيلَ الْيَمِينُ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، أَيْ: تَمْنَعُونَنَا بِقُوَّةٍ وَغَلَبَةٍ وَقَهْرٍ كَمَا في قوله: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ «3» أَيْ: بِالْقُوَّةِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مقدّر، وكذلك جملة: قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَإِنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَالَ الرُّؤَسَاءُ أَوِ الشَّيَاطِينُ لِهَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ: كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَلَمْ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ قَطُّ حَتَّى نَنْقُلَكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ بَلْ كُنْتُمْ مِنَ الْأَصْلِ عَلَى الْكُفْرِ فَأَقَمْتُمْ عَلَيْهِ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ مِنْ تَسَلُّطٍ بِقَهْرٍ وَغَلَبَةٍ حَتَّى نُدْخِلَكُمْ فِي الْإِيمَانِ وَنُخْرِجَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أَيْ: مُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَقَوْلُهُ: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ مِنْ قَوْلِ الْمَتْبُوعِينَ، أَيْ: وَجَبَ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ، وَلَزِمَنَا قَوْلُ رَبِّنَا، يَعْنُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «4» إِنَّا لَذَائِقُو الْعَذَابِ: أَيْ إِنَّا جَمِيعًا لَذَائِقُو الْعَذَابِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْوَعِيدُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ إِنَّ الْمُضِلَّ وَالضَّالَّ فِي النَّارِ فَأَغْوَيْناكُمْ أَيْ أَضْلَلْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى، وَدَعَوْنَاكُمْ إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ مِنَ الْغَيِّ، وَزَيَّنَّا لَكُمْ مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فَلَا عَتْبَ عَلَيْنَا فِي تَعَرُّضِنَا لِإِغْوَائِكُمْ، لِأَنَّا أَرَدْنَا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَنَا فِي الْغَوَايَةِ وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَقْدَمْنَا عَلَى إِغْوَائِكُمْ لِأَنَّا كُنَّا مَوْصُوفِينَ فِي أَنْفُسِنَا بِالْغَوَايَةِ، فَأَقَرُّوا هَاهُنَا بِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا لِإِغْوَائِهِمْ، لَكِنْ لَا بِطْرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَنَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُمْ قَهَرُوهُمْ وَغَلَبُوهُمْ، فَقَالُوا: وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْأَتْبَاعِ وَالْمَتْبُوعِينَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كَمَا كانوا مشتركين في الغواية

_ (1) . القمر: 44. [.....] (2) . الأعراف: 17. (3) . الصافات: 93. (4) . ص: 85.

إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أَيْ: إِنَّا نَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِالْمُجْرِمِينَ، أَيْ: أَهْلِ الْإِجْرَامِ، وهم المشركون كما يفيده قوله سبحانه: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ أَيْ: إِذَا قِيلَ لَهُمْ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ القول، وَمَحَلُّ يَسْتَكْبِرُونَ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، أَوِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ، وَكَانَ ملغاة وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يَعْنُونُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَيْ: لِقَوْلِ شَاعِرٍ مَجْنُونٍ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ يَعْنِي الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أَيْ: صَدَّقَهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَإِثْبَاتِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ وَلَا جَاءَ بِشَيْءٍ لَمْ تَأْتِ بِهِ الرُّسُلُ قبله إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ أَيْ: إِنَّكُمْ بِسَبَبِ شِرْكِكُمْ وَتَكْذِيبِكُمْ لذائقوا العذاب الشديد الألم. قرأ الجمهور لَذائِقُوا بِحَذْفِ النُّونِ وَخَفْضِ الْعَذَابِ، وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ ثعلب عن عاصم وأبو السمال بِحَذْفِهَا وَنَصْبِ الْعَذَابِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِالْحَذْفِ لِلنُّونِ وَالنَّصْبِ لِلْعَذَابِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ أَيْضًا وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ بنصب الصلاة على هذا التوجيه. وقد قريء بِإِثْبَاتِ النُّونِ وَنَصْبِ الْعَذَابِ عَلَى الْأَصْلِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا ذَاقُوهُ مِنَ الْعَذَابِ لَيْسَ إِلَّا بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ، فَقَالَ: وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ: إِلَّا جَزَاءَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، أَوْ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ الْمُخْلَصِينَ بِفَتْحِ اللَّامِ، أَيِ: الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، أَيِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا لِلَّهِ الْعِبَادَةَ وَالتَّوْحِيدَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا مُتَّصِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ تَعْمِيمِ الْخِطَابِ فِي تُجْزَوْنَ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، أَوْ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لَا يَذُوقُونَ الْعَذَابَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمُخْلَصِينَ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الْمُخْلَصِينَ رِزْقٌ يَرْزُقُهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ مَعْلُومٌ فِي حُسْنِهِ وَطِيبِهِ، وَعَدَمِ انْقِطَاعِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْجَنَّةَ، وَقِيلَ: مَعْلُومُ الْوَقْتِ، وَهُوَ أَنْ يُعْطُوا مِنْهُ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «1» وَقِيلَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ فَواكِهُ فَإِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ رِزْقٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ فَوَاكِهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَالْفَوَاكِهُ جَمْعُ الْفَاكِهَةِ وَهِيَ الثِّمَارُ كُلُّهَا رَطِبُهَا وَيَابِسُهَا، وَخَصَّصَ الْفَوَاكِهَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ أَرْزَاقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّهَا فَوَاكِهُ كَذَا قِيلَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَخْصِيصَهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَطْيَبُ مَا يَأْكُلُونَهُ وَأَلَذُّ مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْفَوَاكِهَ مِنْ أَتْبَاعِ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ، فَذِكْرُهَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهَا، وَجُمْلَةُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَلَهُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِكْرَامٌ عَظِيمٌ بِرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ عِنْدَهُ، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ وَلِقَائِهِ فِي الْجَنَّةِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ مُكْرَمُونَ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو مِقْسَمٍ بِتَشْدِيدِهَا وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ يَجُوزُ أَنْ يتعلق بمكرمون وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا، وَقَوْلُهُ: عَلى سُرُرٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَالِثًا، وَانْتِصَابُ مُتَقابِلِينَ عَلَى الحالية من الضمير

_ (1) . مريم: 62.

فِي مُكْرَمُونَ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُتَعَلِّقِ عَلَى سُرُرٍ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَى التَّقَابُلِ أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ فِي قَفَا بَعْضٍ، وقيل: إنها تدور بهم الأسرّة كيف شاؤوا فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ قَفَا بَعْضٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ سُرُرٍ بضم الراء. وقرأ أبو السمال بِفَتْحِهَا، وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ تَمِيمٍ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ صِفَةً أُخْرَى لَهُمْ فَقَالَ: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ مُتَقَابِلِينَ، وَالْكَأْسُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ اسْمٌ شَامِلٌ لِكُلِّ إِنَاءٍ فِيهِ الشَّرَابُ، فَإِنْ كَانَ فَارِغًا فَلَيْسَ بِكَأْسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: كُلُّ كَأْسٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ الْخَمْرُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَكَى مَنْ يَوْثَقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِلْقَدَحِ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْرٌ كَأْسٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَمْرٌ فَهُوَ قَدَحٌ كَمَا يُقَالُ لِلْخُوَانِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ طَعَامٌ مَائِدَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عليه طعام لم يقل له مائدة، ومن معين متعلق بمحذوف هو صفة لكأس. قَالَ الزَّجَّاجُ: بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، أَيْ: مِنْ خَمْرٍ تَجْرِي كَمَا تَجْرِي الْعُيُونُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالْمَعِينُ الْمَاءُ الْجَارِي، وَقَوْلُهُ: بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ صِفَتَانِ لِكَأْسٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ ذَاتُ لَذَّةٍ فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي كَوْنِهَا لَذَّةً فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ. قَالَ الْحَسَنُ: خَمْرُ الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ لَهُ لَذَّةٌ لَذِيذَةٌ، يُقَالُ شَرَابٌ لَذٌّ وَلَذِيذٌ كَمَا يُقَالُ نَبَاتٌ غَضٌّ وَغَضِيضٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بِحَدِيثِهَا اللَّذِّ الَّذِي لَوْ كَلَّمَتْ ... أُسْدَ الْفَلَاةِ بِهِ أتين سراعا واللذيد: كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَابٌ، وَقِيلَ الْبَيْضَاءُ: هِيَ الَّتِي لَمْ يَعْتَصِرْهَا الرِّجَالُ. ثُمَّ وَصَفَ هَذِهِ الْكَأْسَ مِنَ الْخَمْرِ بِغَيْرِ مَا يَتَّصِفُ بِهِ خَمْرُ الدُّنْيَا، فَقَالَ: لَا فِيها غَوْلٌ أَيْ: لَا تَغْتَالُ عُقُولُهُمْ فَتَذْهَبُ بِهَا، وَلَا يُصِيبُهُمْ مِنْهَا مَرَضٌ وَلَا صُدَاعٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أَيْ: يَسْكَرُونَ، يُقَالُ: نَزَفَ الشَّارِبُ فَهُوَ مَنْزُوفٌ وَنَزِيفٌ إِذَا سَكِرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وإذ هي تمشي كمشي النّزيف ... يَصْرَعُهُ بِالْكَثِيبِ الْبُهُرُ وَقَالَ أَيْضًا: نَزِيفٌ إِذَا قَامَتْ لِوَجْهٍ تَمَايَلَتْ ... ...... «1» .... وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا ... شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ لَيْسَ فِيهَا غِيلَةٌ وَغَائِلَةٌ وَغَوْلٌ سَوَاءٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْغَوْلُ أَنْ تَغْتَالَ عُقُولَهُمْ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ مُطِيعِ بن إياس:

_ (1) . وعجز البيت: تراشي الفؤاد الرّخص ألّا تختّرا. والختر: خدر يحصل عند شراب الدواء أو السّم.

وَمَا زَالَتِ الْكَأْسُ تَغْتَالُهُمْ ... وَتَذْهَبُ بِالْأَوَّلِ الْأَوَّلِ وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْغَوْلُ حَقِيقَتُهُ الْإِهْلَاكُ، يُقَالُ غَالَهُ غَوْلًا وَاغْتَالَهُ: أَيْ أَهْلَكَهُ، وَالْغَوْلُ كُلُّ مَا اغْتَالَكَ: أَيْ أَهْلَكَكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْزَفُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ مِنْ أَنْزَفَ الرَّجُلُ: إِذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ مِنَ السُّكْرِ فَهُوَ نزيف ومنزوف، يُقَالُ أَحْصُدُ الزَّرْعَ: إِذَا حَانَ حَصَادُهُ، وَأَقْطِفُ الْكَرْمَ: إِذَا حَانَ قِطَافُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ كَسَرَ الزَّايَ فَلَهُ مَعْنَيَانِ، يُقَالُ أَنْزَفَ الرَّجُلُ: إِذَا فَنِيَتْ خَمْرُهُ، وَأَنْزَفَ: إِذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ مِنَ السُّكْرِ، وَتُحْمَلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى مَعْنَى لا ينفذ شَرَابُهُمْ لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَبْيَنُ وَأَصَحُّ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى لَا يُنْزَفُونَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ: لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ، فَنَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ الْآفَاتِ الَّتِي تَلْحَقُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَمْرِهَا مِنَ الصُّدَاعِ وَالسُّكْرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مَعْنَى: لَا يَنْزِفُونَ بِكَسْرِ الزَّايِ: لَا يَسْكَرُونَ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: لَا يَكُونُ مَعْنَى يَنْزِفُونَ يَسْكَرُونَ، لِأَنَّ قَبْلَهُ لَا فِيها غَوْلٌ أَيْ: لَا تَغْتَالُ عُقُولَهُمْ فَيَكُونُ تَكْرِيرًا، وَهَذَا يُقَوِّي مَا قَالَهُ قَتَادَةُ: إِنَّ الْغَوْلَ وَجَعُ الْبَطْنِ وكذا روى ابن أبي نجيع عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْغَوْلَ الصُّدَاعُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ الْمَغَصُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا فِيهَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ الْمُصَاحِبَةِ لِشُرْبِ الْخَمْرِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَغَصٍ أَوْ وَجَعِ بَطْنٍ أَوْ صُدَاعٍ أَوْ عَرْبَدَةٍ أَوْ لَغْوٍ أَوْ تَأْثِيمٍ وَلَا هُمْ يَسْكَرُونَ مِنْهَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ أَصْلَ الْغَوْلِ الْفَسَادُ الَّذِي يَلْحَقُ فِي خَفَاءٍ، يُقَالُ اغْتَالَهُ اغْتِيَالًا: إِذَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ فِي خُفْيَةٍ، وَمِنْهُ الْغَوْلُ وَالْغِيلَةُ الْقَتْلُ خُفْيَةً. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ يُنْزَفُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ. وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ صِفَةَ مَشْرُوبِهِمْ ذَكَرَ عَقِبَهُ صِفَةَ مَنْكُوحِهِمْ فَقَالَ: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَيْ نِسَاءٌ قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ، وَالْقَصْرُ مَعْنَاهُ الْحَبْسُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا وَالْمُحْوِلُ: الصَّغِيرُ مِنَ الذَّرِّ، وَالْإِتْبُ الْقَمِيصُ، وَقِيلَ الْقَاصِرَاتُ: الْمَحْبُوسَاتُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ قَالَ: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ، وَلَمْ يَقُلْ مَقْصُورَاتِ، وَالْعِينُ عِظَامُ الْعُيُونِ جَمْعُ عَيْنَاءَ وَهِيَ الْوَاسِعَةُ الْعَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى عِينٌ كِبَارُ الْأَعْيُنِ حِسَانُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعِينُ حِسَانُ الْعُيُونِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُنَّ الشَّدِيدَاتُ بَيَاضِ الْعَيْنِ الشَّدِيدَاتُ سَوَادِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ قَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو زَيْدٍ: شبههنّ ببيض النعام تكنها النَّعَامَةُ بِالرِّيشِ مِنَ الرِّيحِ وَالْغُبَارِ. فَلَوْنُهُ أَبْيَضُ فِي صُفْرَةٍ، وَهُوَ أَحْسَنُ أَلْوَانِ النِّسَاءِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ: شَبَّهَهُنَّ بِبَطْنِ الْبَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُقَشَّرَ وَتَمَسُّهُ الْأَيْدِي وَبِهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا ... تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَتَقُولُ الْعَرَبُ إِذَا وَصَفَتِ الشَّيْءَ بِالْحُسْنِ وَالنَّظَافَةِ كَأَنَّهُ بَيْضُ النَّعَامِ الْمُغَطَّى بِالرِّيشِ. وَقِيلَ

الْمَكْنُونُ: الْمَصُونُ عَنِ الْكَسْرِ: أَيْ إِنَّهُنَّ عَذَارَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَيْضِ اللُّؤْلُؤُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَهِيَ بَيْضَاءُ مِثْلُ لُؤْلُؤَةِ الْغَوَّا ... صِ مُيِّزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُونٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا قَالَ مَكْنُونٌ وَلَمْ يَقُلْ مَكْنُونَاتٌ لِأَنَّهُ وَصَفَ الْبَيْضَ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ قَالَ: تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلزَّبَانِيَةِ هَذَا الْقَوْلَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ مَنِيعٍ فِي مسنده، وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ قَالَ: أَمْثَالَهُمُ الَّذِينَ هُمْ مِثْلُهُمْ: يَجِيءُ أَصْحَابُ الرِّبَا مَعَ أَصْحَابِ الرِّبَا، وَأَصْحَابُ الزّنا مع أصحاب الزّنا، وَأَصْحَابُ الْخَمْرِ مَعَ أَصْحَابِ الْخَمْرِ، أَزْوَاجٌ فِي الْجَنَّةِ، وَأَزْوَاجٌ فِي النَّارِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ قَالَ: أَشْبَاهَهُمْ، وَفِي لَفْظٍ: نُظَرَاءَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ قَالَ: وَجِّهُوهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: دُلُّوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ قَالَ: طَرِيقِ النَّارِ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ قَالَ: احْبِسُوهُمْ إِنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ دَاعٍ دَعَا إِلَى شَيْءٍ إِلَّا كَانَ مَوْقُوفًا مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَازِمًا بِهِ لَا يُفَارِقُهُ وَإِنْ دَعَا رَجُلٌ رَجُلًا، ثم قرأ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قوله: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قَالَ: ذَلِكَ إِذَا بُعِثُوا فِي النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ قَالَ: كَانُوا إِذَا لَمْ يُشْرَكْ بِاللَّهِ يستنكفون، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ لَا يُعْقَلُ، قَالَ: فَحَكَى اللَّهُ صِدْقَهُ فَقَالَ: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» . وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَ قَوْمًا اسْتَكْبَرُوا، فَقَالَ: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَقَالَ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها «1» وَهِيَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» اسْتَكْبَرَ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، يَوْمَ كاتبهم رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَضِيَّةِ الْمُدَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي البعث.

_ (1) . الفتح: 26.

[سورة الصافات (37) : الآيات 50 إلى 74]

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ قَالَ: الْخَمْرُ لَا فِيها غَوْلٌ قَالَ لَيْسَ فِيهَا صُدَاعٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قَالَ: لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: السُّكْرُ وَالصُّدَاعُ وَالْقَيْءُ وَالْبَوْلُ، فَنَزَّهَ اللَّهُ خَمْرَ الْجَنَّةِ عَنْهَا، فَقَالَ: لَا فِيها غَوْلٌ لَا تَغُولُ عُقُولُهُمْ مِنَ السُّكْرِ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قَالَ: يَقِيئُونَ عَنْهَا كَمَا يَقِيءُ صَاحِبُ خَمْرِ الدُّنْيَا عَنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا فِيها غَوْلٌ قَالَ: هِيَ الْخَمْرُ لَيْسَ فِيهَا وَجَعُ بَطْنٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ يَقُولُ: عن غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ قَالَ: اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ قَالَ: بَيَاضُ الْبَيْضَةِ يُنْزَعُ عنها فوقها وغشاؤها. [سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 74] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) قَوْلُهُ: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى يُطَافُ، أَيْ: يَسْأَلُ هَذَا ذَاكَ، وَذَاكَ هَذَا حَالَ شُرْبِهِمْ عَنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَيُقْبِلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أَيْ: قَالَ قَائِلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي حَالِ إِقْبَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْحَدِيثِ وَسُؤَالِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ أَيْ: صَاحِبٌ مُلَازِمٌ لِي فِي الدُّنْيَا كَافِرٌ بِالْبَعْثِ منكر له كما يدلّ عليه قوله: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ يَعْنِي: بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مِنَ الْقَرِينِ لِتَوْبِيخِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ وَتَبْكِيتِهِ بِإِيمَانِهِ وَتَصْدِيقِهِ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِبْعَادِ لِلْبَعْثِ عِنْدَهُ وفي زعمه فقال: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أَيْ: مَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِنَا وَمُحَاسَبُونَ بِهَا بَعْدَ أَنْ صِرْنَا تُرَابًا وَعِظَامًا وَقِيلَ مَعْنَى مَدِينُونَ: مَسُوسُونَ، يُقَالُ دَانَهُ: إِذَا سَاسَهُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَرِينُهُ شَرِيكُهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقَرِينِ الشَّيْطَانَ الَّذِي يُقَارِنُهُ وَأَنَّهُ كَانَ يُوَسْوِسُ إِلَيْهِ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ قِصَّتِهِمَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي

اسْمَيْهِمَا، قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ مِنَ التَّصْدِيقِ، أَيْ: لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِالْبَعْثِ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِهَا، وَلَا أَدْرِي مَنْ قَرَأَ بِهَا، وَمَعْنَاهَا بَعِيدٌ لِأَنَّهَا مِنَ التَّصَدُّقِ لَا مِنَ التَّصْدِيقِ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا بِأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقَ بِمَالِهِ لِطَلَبٍ الثَّوَابِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِاسْتِبْعَادِ الْبَعْثِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَقَرَأَ نَافِعٌ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ بِالِاسْتِفْهَامِ بِهَمْزَةٍ، وَالثَّالِثَةَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَوَافَقَهُ الْكِسَائِيُّ إِلَّا أَنَّهُ يَسْتَفْهِمُ الثَّالِثَةَ بِهَمْزَتَيْنِ، وَابْنُ عَامِرٍ الْأُولَى وَالثَّالِثَةَ بِهَمْزَتَيْنِ، وَالثَّانِيَةَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَالْبَاقُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ فِي جَمِيعِهَا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَابْنُ كَثِيرٍ يَسْتَفْهِمُ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُطَوَّلَةٍ، وَبَعْدَهُ سَاكِنَةٌ خَفِيفَةٌ، وَأَبُو عَمْرٍو مُطَوَّلَةٍ، وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِهَمْزَتَيْنِ. قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ الْقَائِلُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ بَعْدَ مَا حَكَى لِجُلَسَائِهِ فِيهَا مَا قَالَهُ لَهُ قَرِينُهُ فِي الدُّنْيَا، أَيْ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إِلَى أَهْلِ النَّارِ لِأُرِيَكُمْ ذَلِكَ الْقَرِينَ الَّذِي قَالَ لِي تِلْكَ الْمَقَالَةَ كَيْفَ مَنْزِلَتُهُ فِي النار؟ قال ابن الأعرابي: والاستفهام هُوَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ: اطَّلِعُوا، وَقِيلَ: الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أَيْ: فَاطَّلَعَ عَلَى النَّارِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي صَارَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ فِي الْجَنَّةِ بِمَا قَالَ لَهُ قَرِينُهُ فِي الدُّنْيَا، فَرَأَى قَرِينَهُ فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: سَوَاءُ كُلِّ شَيْءٍ وَسَطُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مُطَّلِعُونَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ مَفْتُوحَةً وَبِفَتْحِ النُّونِ، فَاطَّلَعَ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنَ الطُّلُوعِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مُطْلِعُونَ بِسُكُونِ الطَّاءِ وَفَتْحِ النُّونِ فَاطَّلَعَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ مَضْمُومَةً وَكَسْرِ اللَّامِ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَأُطْلِعَ فِيهِ قَوْلَانِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا، أَيْ: فَأَطَّلِعُ أَنَا، وَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَقَرَأَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ مُطَّلِعُونَ بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ وَكَسْرِ النُّونِ فَاطُّلِعَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَأَنْكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: هِيَ لَحْنٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ النُّونِ وَالْإِضَافَةِ، وَلَوْ كَانَ مُضَافًا لَقَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعِيَّ، وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءُ قَدْ حَكَيَا مِثْلَهُ وَأَنْشَدَا: هُمُ الْقَائِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ ... إِذَا مَا خَشُوا مِنْ مُحْدَثِ الدَّهْرِ مُعْظَمًا وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ خَارِجٌ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أَيْ قَالَ ذَلِكَ الَّذِي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى قَرِينِهِ وَرَآهُ فِي النَّارِ: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ: أَيْ لَتُهْلِكُنِي بِالْإِغْوَاءِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: لتردين لتهلكني، والردى: الْهَلَاكُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَوْ قِيلَ لَتُرْدِينِ لَتُوقِعُنِي فِي النَّارِ لَكَانَ جَائِزًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى وَاللَّهِ لَقَدْ كِدْتَ أَنْ تُغْوِيَنِي فَأَنْزِلُ مَنْزِلَتَكَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، فَمَنْ أَغْوَى إِنْسَانًا فَقَدْ أَهْلَكَهُ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَيْ: لَوْلَا رَحْمَةُ رَبِّي، وَإِنْعَامُهُ عَلَيَّ بِالْإِسْلَامِ، وَهِدَايَتِي إِلَى الْحَقِّ، وَعِصْمَتِي عَنِ الضَّلَالِ لَكُنْتُ مِنَ الْمَحْضَرِينَ مَعَكَ فِي النَّارِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لَكُنْتُ مَعَكَ فِي النَّارِ مُحْضَرًا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأُحْضِرَ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشَّرِّ. وَلَمَّا تَمَّمَ كَلَامَهُ مَعَ ذَلِكَ الْقَرِينِ الَّذِي هُوَ فِي النَّارِ عَادَ إِلَى مُخَاطَبَةِ جُلَسَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْجِيبِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ، أَيْ: أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ مُنَعَّمُونَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ هَذَا

كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ الِابْتِهَاجِ وَالسُّرُورِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَأَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ لَا يَمُوتُونَ أَبَدًا، وَقَوْلُهُ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ هُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِهِ، أَيْ: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ كَمَا يُعَذَّبُ الْكُفَّارُ. ثُمَّ قَالَ مُشِيرًا إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيْ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ، وَالنَّعِيمَ الْمُقِيمَ، وَالْخُلُودَ الدَّائِمَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُقَادَرُ قَدَرُهُ وَلَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِوَصْفِهِ، وَقَوْلُهُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِهِ أَيْ: لِمِثْلِ هَذَا الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ الْعَظِيمِ فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ، فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ التِّجَارَةُ الرَّابِحَةُ، لَا الْعَمَلُ لِلدُّنْيَا الزَّائِلَةِ فَإِنَّهَا صَفْقَةٌ خَاسِرَةٌ، نَعِيمُهَا مُنْقَطِعٌ، وَخَيْرُهَا زَائِلٌ، وَصَاحِبُهَا عَنْ قَرِيبٍ مِنْهَا رَاحِلٌ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمَيِّتِينَ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «بِمَايِتِينَ» وَانْتِصَابُ إِلَّا مَوْتَتَنَا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا. أَيْ: لَكِنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: خير، ونزلا: تَمْيِيزٌ، وَالنُّزُلُ فِي اللُّغَةِ الرِّزْقُ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَنْزِلُوا مَعَهُ وَيُقِيمُوا فِيهِ، وَالْخَيْرِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اخْتَارَهُ الْكُفَّارُ عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَذَلِكَ خَيْرٌ فِي بَابِ الْإِنْزَالِ الَّتِي يَبْقُونَ بِهَا نُزُلًا أَمْ نُزُلُ أَهْلِ النَّارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وَهُوَ مَا يُكْرَهُ تَنَاوُلُهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهُوَ شَيْءٌ مُرٌّ كَرِيهٌ يُكْرَهُ أَهْلُ النَّارِ عَلَى تَنَاوُلِهِ فَهُمْ يَتَزَقَّمُونَهُ، وَهِيَ عَلَى هَذَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التزقيم وَهُوَ الْبَلْعُ عَلَى جُهْدٍ لِكَرَاهَتِهَا وَنَتَنِهَا. وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا الَّتِي يَعْرِفُهَا الْعَرَبُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا فَقَالَ قُطْرُبٌ: إِنَّهَا شَجَرَةٌ مُرَّةٌ تَكُونُ بِتِهَامَةَ مِنْ أَخْبَثِ الشَّجَرِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ هُوَ كُلُّ نَبَاتٍ قَاتِلٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فِي شَجَرِ الدُّنْيَا. قَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ افْتُتِنَ بِهَا الظَّلَمَةُ فَقَالُوا: كَيْفَ تَكُونُ فِي النَّارِ شَجَرَةٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: حِينَ افْتُتِنُوا بِهَا وَكَذَّبُوا بِوُجُودِهَا. وَقِيلَ: مَعْنَى جَعْلِهَا فتنة لهم: أنها محنة لهم لكونهم يُعَذَّبُونَ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ هُنَا: الْكُفَّارُ أَوْ أَهْلُ الْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَوْصَافَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ رَدًّا عَلَى مُنْكِرِيهَا فَقَالَ: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أَيْ: فِي قَعْرِهَا، قَالَ الْحَسَنُ: أَصْلُهَا فِي قَعْرِ جهنم، وأغصانها ترفع إلى دركاتها، ثم قال: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ أَيْ: ثَمَرُهَا وَمَا تَحْمِلُهُ كَأَنَّهُ فِي تناهي قبحه وشناعة منظره رؤوس الشَّيَاطِينِ، فَشَبَّهَ الْمَحْسُوسَ بِالْمُتَخَيَّلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْئِيٍّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ غَايَةٌ فِي الْقُبْحِ كَمَا تَقُولُ فِي تَشْبِيهِ مَنْ يَسْتَقْبِحُونَهُ: كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ، وَفِي تَشْبِيهِ مَنْ يَسْتَحْسِنُونَهُ: كَأَنَّهُ مَلَكٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ «1» وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرِفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: الشياطين حيات لها رؤوس وَأَعْرَافٌ، وَهِيَ مِنْ أَقْبَحِ الْحَيَّاتِ وَأَخْبَثِهَا، وَأَخَفِّهَا جسما، وقيل إن رؤوس الشَّيَاطِينِ اسْمٌ لِنَبْتٍ قَبِيحٍ مَعْرُوفٍ بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ الْأَسْتنُ، وَيُقَالُ لَهُ الشَّيْطَانُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: هُوَ شَجَرٌ خَشِنٌ مُنْتِنٌ مُرٌّ مُنْكَرُ الصُّورَةِ يُسَمَّى ثمره رؤوس

_ (1) . يوسف: 31.

الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أَيْ: مِنَ الشَّجَرَةِ أَوْ مِنْ طَلْعِهَا، وَالتَّأْنِيثُ لِاكْتِسَابِ الطَّلْعِ التَّأْنِيثَ من إضافته إلى الشجرة فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُكْرَهُونَ عَلَى أَكْلِهَا حَتَّى تَمْتَلِئَ بُطُونُهُمْ، فَهَذَا طَعَامُهُمْ، وَفَاكِهَتُهُمْ بَدَلُ رِزْقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها بَعْدَ الْأَكْلِ مِنْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ الشَّوْبُ: الخلط. قال الفراء: شَابَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ: إِذَا خَلَطَهُمَا بِشَيْءٍ يَشُوبُهُمَا شَوْبًا وَشِيَابَةً، وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُشَابُ لَهُمْ طَعَامُهُمْ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ بِالْمَاءِ الْحَارِّ لِيَكُونَ أَفْظَعَ لِعَذَابِهِمْ وَأَشْنَعَ لِحَالِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ قرأ الجمهور لَشَوْباً بِفَتْحِ الشِّينِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَقَرَأَ شَيْبَانُ النَّحْوِيُّ بِالضَّمِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَفْتُوحُ مَصْدَرٌ، وَالْمَضْمُومُ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَشُوبِ، كَالنَّقْصِ بِمَعْنَى الْمَنْقُوصِ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ أَيْ: مَرْجِعُهُمْ بَعْدَ شُرْبِ الْحَمِيمِ وَأَكْلِ الزَّقُّومِ إِلَى الْجَحِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُورَدُونَ الْحَمِيمَ لِشُرْبِهِ، وَهُوَ خَارِجُ الْجَحِيمِ، كَمَا تُورَدُ الْإِبِلُ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى الْجَحِيمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ وَقِيلَ: إِنَّ الزَّقُّومَ وَالْحَمِيمَ نُزُلٌ يُقَدَّمُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ دُخُولِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا أَيْ: وَجَدُوا آباءَهُمْ ضالِّينَ تَعْلِيلٌ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، أَيْ: صَادَفُوهُمْ كَذَلِكَ فَاقْتَدَوْا بِهِمْ تَقْلِيدًا وَضَلَالَةً لَا لِحُجَّةٍ أَصْلًا فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ الإهراع الإسراع، الإهراع بِرِعْدَةٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُهْرَعُونَ: يُسْتَحَثُّونَ مِنْ خَلْفِهِمْ، يُقَالُ جَاءَ فُلَانٌ يُهْرَعُ إِلَى النَّارِ: إِذَا اسْتَحَثَّهُ الْبَرْدُ إِلَيْهَا. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ يُزْعِجُونَ مِنْ شِدَّةِ الْإِسْرَاعِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَرِعَ وَأُهْرِعَ: إِذَا اسْتُحِثَّ وَانْزَعَجَ، وَالْمَعْنَى: يَتْبَعُونَ آبَاءَهُمْ فِي سُرْعَةٍ كَأَنَّهُمْ يُزْعِجُونَ إِلَى اتِّبَاعِ آبَائِهِمْ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: ضَلَّ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أَيْ: أَرْسَلْنَا فِي هَؤُلَاءِ الْأَوَّلِينَ رُسُلًا أَنْذَرُوهُمُ الْعَذَابَ وَبَيَّنُوا لَهُمُ الْحَقَّ فَلَمْ يَنْجَعْ ذَلِكَ فِيهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أَيِ: الَّذِينَ أَنْذَرَتْهُمُ الرُّسُلُ فَإِنَّهُمْ صَارُوا إِلَى النَّارِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ كَانَ عَاقِبَتَهُمُ الْعَذَابُ، يُحَذِّرُ كُفَّارَ مَكَّةَ ثُمَّ اسْتَثْنَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أَيْ: إِلَّا مَنْ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ بِتَوْفِيقِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، وَقُرِئَ الْمُخْلَصِينَ بِكَسْرِ اللَّامِ، أَيِ: الَّذِينَ أَخْلَصُوا لِلَّهِ طَاعَاتِهِمْ وَلَمْ يَشُوبُوهَا بِشَيْءٍ مِمَّا يُغَيِّرُهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ. قَالَ: اطَّلَعَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ جَمَاجِمَ الْقَوْمِ تَغْلِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قَالَ هَنِيئًا: أَيْ لَا تَمُوتُونَ فِيهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ قَالَ: هَذَا قَوْلُ اللَّهِ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُهُ فِي يَدِي، فَرَأَى جِنَازَةً فَأَسْرَعَ المشي حتى أتى القبر، ثم جثى عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى مَرِيضٍ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:

[سورة الصافات (37) : الآيات 75 إلى 113]

مَرَّ أَبُو جَهْلٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَلَمَّا بَعُدَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «1» . فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو جَهْلٍ قَالَ: مَنْ تَوَعَّدُ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: إِيَّاكَ، قَالَ: بِمَا تَوَعَّدُنِي؟ قال: أوعدك بالعزيز الكريم، قال أَبُو جَهْلٍ: أَلَيْسَ أَنَا الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ؟ فَأَنْزَلَ الله: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ «2» إِلَى قَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «3» فَلَمَّا بَلَغَ أَبَا جَهْلٍ مَا نَزَلَ فِيهِ جَمَعَ أَصْحَابَهُ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِمْ زُبْدًا وَتَمْرًا فَقَالَ: تزقموا من هذا، فو الله مَا يَتَوَعَّدُكُمْ مُحَمَّدٌ إِلَّا بِهَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ زَقُّومِ جَهَنَّمَ أُنْزِلَتْ إِلَى الْأَرْضِ لَأَفْسَدَتْ عَلَى النَّاسِ مَعَايِشَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابن جرير، وابن المنذ عَنْهُ أَيْضًا ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً قَالَ: لَمَزْجًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ فِي قَوْلِهِ: لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ يُخَالِطُ طَعَامَهُمْ وَيُشَابُ بِالْحَمِيمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يَقِيلَ هَؤُلَاءِ، وَيَقِيلَ هَؤُلَاءِ، أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ، وَقَرَأَ «ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ قال: وجدوا آباءهم. [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 113] وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

_ (1) . القيامة: 34 و 35. (2) . الدخان: 43 و 44. (3) . الدخان: 49.

لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَرْسَلَ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مُنْذِرِينَ ذَكَرَ تَفْصِيلَ بَعْضِ مَا أَجْمَلَهُ فَقَالَ: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ وَاللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَكَذَا اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أَيْ: نَحْنُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ نُوحًا دَعَا رَبَّهُ عَلَى قَوْمِهِ لَمَّا عَصَوْهُ، فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَأَهْلَكَ قَوْمَهُ بِالطُّوفَانِ. فَالنِّدَاءُ هُنَا هُوَ نِدَاءُ الدعاء وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِ، كَقَوْلِهِ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» وقوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «2» قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ لَهُ كُنَّا فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الْمُرَادُ بِأَهْلِهِ أَهْلُ دِينِهِ، وَهُمْ مَنْ آمَنَ مَعَهُ وَكَانُوا ثَمَانِينَ، وَالْكَرْبُ الْعَظِيمُ: هُوَ الْغَرَقُ، وَقِيلَ: تَكْذِيبُ قَوْمِهِ لَهُ، وَمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَايَا وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ وَحْدَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ ضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ الْكَفَرَةَ بِدُعَائِهِ، وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ بَاقِيَةً، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَاتُوا كَمَا قِيلَ، وَلَمْ يُبْقِ إِلَّا أَوْلَادَهُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ وَلَدُ نُوحٍ ثَلَاثَةٌ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ وَلَدِ نُوحٍ، فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ وَفَارِسَ وَالرُّومِ وَالْيَهُودِ والنصارى. وحاتم أَبُو السُّودَانِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ: السِّنْدِ، وَالْهِنْدِ، وَالنُّوبِ، وَالزِّنْجِ، وَالْحَبَشَةِ، وَالْقِبْطِ، وَالْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ. وَيَافِثٌ أَبُو الصَّقَالِبِ وَالتُّرْكِ وَالْخَزَرِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لِمَنْ مَعَ نُوحٍ ذُرِّيَّةٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ «3» وقوله: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ «4» فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مَعْنَى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ وَذُرِّيَّتَهُ وَذُرِّيَّةَ مَنْ مَعَهُ دُونَ ذُرِّيَّةِ مَنْ كَفَرَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْرَقَهُمْ فَلَمْ يُبْقِ لَهُمْ ذُرِّيَّةً وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ يَعْنِي فِي الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأُمَمِ، وَالْمَتْرُوكُ هَذَا هُوَ قَوْلُهُ: سَلامٌ عَلى نُوحٍ أَيْ: تَرَكْنَا هَذَا الْكَلَامَ بِعَيْنِهِ، وَارْتِفَاعِهِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَالسَّلَامُ هُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، أَيْ: يُثْنُونَ عَلَيْهِ ثَنَاءً حَسَنًا وَيَدْعُونَ لَهُ وَيَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَرَكْنَا عَلَيْهِ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ الذِّكْرُ هُوَ قَوْلُهُ: سَلامٌ عَلى نُوحٍ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: فِي ارْتِفَاعِ سَلَامٌ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ يُقَالُ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَبْقَيْنَا عَلَيْهِ، وَتَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ، أَيْ: سلامة لَهُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ بِسُوءٍ فِي الْآخِرِينَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بَاقِيَةً: يَعْنِي يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ تَسْلِيمًا وَيَدْعُونَ لَهُ، وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ كَقَوْلِهِ: سُورَةٌ أَنْزَلْناها «5» وَقِيلَ: إِنَّهُ ضَمَّنَ تَرَكْنَا مَعْنَى قُلْنَا. قَالَ الْكُوفِيُّونَ: جُمْلَةُ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ مَفْعُولِ تَرَكْنَا، لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى قُلْنَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مسعود «سلاما» منصوب بتركنا، أَيْ: تَرَكْنَا عَلَيْهِ ثَنَاءً حَسَنًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالآخرين أمة محمّد صلّى الله عليه وسلم، وفي الْعَالَمِينَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الْوَاقِعُ خَبَرًا، وَهُوَ عَلَى نُوحٍ، أَيْ: سَلَامٌ ثَابِتٌ أَوْ مُسْتَمِرٌّ أَوْ مُسْتَقِرٌّ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قِيلَ: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ التَّكْرِمَةِ لِنُوحٍ بِإِجَابَةِ دُعَائِهِ، وَبَقَاءِ الثَّنَاءِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَبَقَاءِ ذُرِّيَّتِهِ، أَيْ: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ كَانَ مُحْسِنًا فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ رَاسِخًا فِي الْإِحْسَانِ مَعْرُوفًا بِهِ، وَالْكَافُ فِي كَذَلِكَ نعت مصدر محذوف، أي:

_ (1) . نوح: 26. (2) . القمر: 10. (3) . الإسراء: 3. (4) . هود: 48. [.....] (5) . النور: 1.

جَزَاءٌ كَذَلِكَ الْجَزَاءِ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ هَذَا بَيَانٌ لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَتَعْلِيلٌ لَهُ بِأَنَّهُ كَانَ عَبْدًا مُؤْمِنًا مُخْلِصًا لِلَّهِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أَيِ: الْكَفَرَةَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَلَا صَدَّقُوا نُوحًا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِمَّنْ شَايَعَ نُوحًا فَقَالَ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ أَيْ: مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، وَمِمَّنْ شَايَعَهُ وَوَافَقَهُ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى تَوْحِيدِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ عَلَى مِنْهَاجِهِ وَسُنَّتِهِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الشِّيعَةُ الْأَعْوَانُ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّيَاعِ، وَهُوَ الْحَطَبُ الصِّغَارُ الَّذِي يُوقَدُ مَعَ الْكِبَارِ حَتَّى يُسْتَوْقَدَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى وَإِنَّ مِنْ شِيعَةِ مُحَمَّدٍ لَإِبْرَاهِيمَ، فَالْهَاءُ فِي شِيعَتِهِ عَلَى هَذَا لمحمّد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَكَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ. وَلَا يُخْفَى مَا فِي هَذَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلسِّيَاقِ. وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْكُرْ، وَقِيلَ: بِمَا فِي الشِّيعَةِ مِنْ مَعْنَى الْمُتَابَعَةِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ الْفَصْلَ بِينَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ لَامَ الِابْتِدَاءِ تَمْنَعُ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْعَمَلِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَالْقَلْبُ السَّلِيمُ الْمُخَلَّصُ مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ. وَقِيلَ: هُوَ النَّاصِحُ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَقِيلَ: الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَمَعْنَى مَجِيئِهِ إِلَى رَبِّهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عِنْدَ دُعَائِهِ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ. الثَّانِي: عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ. وَقَوْلُهُ: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ بَدَلٌ من الجملة الأولى، أو ظرف لسليم، أو ظرف لجاء، وَالْمَعْنَى: وَقْتَ قَالَ لِأَبِيهِ آزَرَ وَقَوْمِهِ مِنَ الكفار: أيّ شيء تعبدون أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ انْتِصَابُ إِفْكًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَانْتِصَابُ آلِهَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ تُرِيدُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَتُرِيدُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِ الله للإفك، ودون: ظرف لتريدون، وَتَقْدِيمُ هَذِهِ الْمَعْمُولَاتِ لِلْفِعْلِ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ. وَقِيلَ: انتصاب إفكا على أنه مفعول به لتريدون، وآلهة بَدَلٌ مِنْهُ، جَعَلَهَا نَفْسَ الْإِفْكِ مُبَالَغَةً، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تُرِيدُونَ، أَيْ: أَتُرِيدُونَ آلِهَةً آفِكِينَ، أَوْ ذَوِي إِفْكٍ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْإِفْكُ أَسْوَأُ الْكَذِبِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ وَيَضْطَرِبُ وَمِنْهُ ائْتَفَكَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ: مَا ظَنُّكُمْ بِهِ إِذَا لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ وَمَا تَرَوْنَهُ يَصْنَعُ بِكُمْ؟ وَهُوَ تَحْذِيرٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ «1» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَيَّ شَيْءٍ تَوَهَّمْتُمُوهُ بِاللَّهِ حَتَّى أَشْرَكْتُمْ بِهِ غَيْرَهُ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ عِلْمَ النُّجُومِ فَعَامَلَهُمْ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُنْكِرُوا عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُكَايِدَهُمْ فِي أَصْنَامِهِمْ لِتَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةُ فِي أَنَّهَا غَيْرُ مَعْبُودَةٍ، وَكَانَ لَهُمْ مِنَ الْغَدِ يَوْمُ عِيدٍ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ فَاعْتَلَّ بِالسَّقَمِ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَلَّفُوهُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ إِلَى عِيدِهِمْ فَنَظَرَ إِلَى النُّجُومِ يُرِيهِمْ أَنَّهُ مستدلّ بها عَلَى حَالِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ إِنِّي سَقِيمٌ أَيْ سَأَسْقُمُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُمْ لَمَّا كَلَّفُوهُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ تَفَكَّرَ فِيمَا يَعْمَلُ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ نَظَرَ فِيمَا نَجَمَ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ، أَيْ: فِيمَا طَلَعَ لَهُ مِنْهُ، فَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَسْقَمُ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ. قَالَ الْخَلِيلُ وَالْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا فَكَّرَ فِي الشَّيْءِ يُدَبِّرُهُ: نَظَرَ فِي النُّجُومِ. وَقِيلَ: كَانَتِ السَّاعَةُ الَّتِي دَعَوْهُ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُمْ فِيهَا سَاعَةً تَعْتَادُهُ فِيهَا الْحُمَّى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى إِنِّي سَقِيمٌ: سَأَسْقُمُ سُقْمَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ يَسْقُمُ فِي الْغَالِبِ ثُمَّ يَمُوتُ، وَهَذَا تَوْرِيَةٌ وَتَعْرِيضٌ كَمَا قَالَ لِلْمَلِكِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ سَارَّةَ هِيَ أُخْتِي، يَعْنِي: أُخُوَّةَ الدِّينِ. وَقَالَ سَعِيدُ

_ (1) . الإنفطار: 6

ابن جُبَيْرٍ: أَشَارَ لَهُمْ إِلَى مَرَضٍ يُسْقِمُ وَيُعْدِي وَهُوَ الطَّاعُونُ وَكَانُوا يَهْرُبُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أَيْ: تَرَكُوهُ وَذَهَبُوا مَخَافَةَ الْعَدْوَى فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ يُقَالُ رَاغَ رَوْغًا وَرَوَغَانًا: إِذَا مَالَ، وَمِنْهُ طَرِيقٌ رَائِغٌ: أَيْ مَائِلٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَيُرِيكَ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ حَلَاوَةً ... وَيَرُوغُ عَنْكَ كَمَا يَرُوغُ الثَّعْلَبُ وَقَالَ السُّدِّيُّ: ذَهَبَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: جَاءَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ: وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ أَيْ: فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي رَاغَ إِلَيْهَا اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً: أَلَا تَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَهُ لَهَا، وَخَاطَبَهَا كَمَا يُخَاطَبُ مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَإِنَّهُ خَاطَبَهُمْ خِطَابَ مَنْ يَعْقِلُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّهَكُّمِ بِهِمْ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا تَنْطِقُ. قِيلَ: إِنَّهُمْ تَرَكُوا عِنْدَ أَصْنَامِهِمْ طَعَامَهُمْ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا، وَلِيَأْكُلُوهُ إِذَا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ. وَقِيلَ تَرَكُوهُ لِلسَّدَنَةِ، وَقِيلَ إِنَّ إبراهيم هو الذي قرب إليها الطَّعَامَ مُسْتَهْزِئًا بِهَا فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ أَيْ: فَمَالَ عَلَيْهِمْ يَضْرِبُهُمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ هو مصدر لراغ، لأنه بمعنى ضرب. قال الواحد: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي بِيَدِهِ الْيُمْنَى يَضْرِبُهُمْ بِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ أَقْوَى الْيَدَيْنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ ضَرْبًا بِالْقُوَّةِ، وَالْيَمِينُ الْقُوَّةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمُرَادُ بِالْيَمِينِ: الْيَمِينُ الَّتِي حَلَفَهَا حِينَ قَالَ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْيَمِينِ هُنَا الْعَدْلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أَيْ: بِالْعَدْلِ، وَالْيَمِينُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدْلِ، كَمَا أَنَّ الشِّمَالَ: كِنَايَةٌ عَنِ الْجَوْرِ، وَأَوَّلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَوْلَاهَا فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ أَيْ: أَقْبَلَ إِلَيْهِ عَبَدَةُ تِلْكَ الْأَصْنَامِ يُسْرِعُونَ لَمَّا عَلِمُوا بما صنعه بها، ويزفون فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ أَقْبَلُوا قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَزِفُّونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ زَفَّ الظَّلِيمُ «1» يَزُفُّ إِذَا عَدَا بِسُرْعَةٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَزَفَّ يُزِفُّ: أَيْ دَخَلَ فِي الزَّفِيفِ، أَوْ يَحْمِلُونَ غَيْرَهُمْ عَلَى الزَّفِيفِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَزْفَفْتُ الْإِبِلَ: أَيْ حَمَلْتُهَا عَلَى أَنْ تَزِفَّ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ زَفَّ الْقَوْمُ وَأَزَفُّوا، وَزُفَّتِ الْعَرُوسُ وَأَزْفَفْتُهَا، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْخَلِيلِ. قَالَ النَّحَّاسُ: زَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ اللُّغَةَ: يَعْنِي يُزِفُّونَ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَقَدْ عَرَفَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ العلماء منهم الفراء، وشبهها بقولهم أطردت الرجل: أَيْ صَيَّرْتُهُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الزَّفِيفُ الْإِسْرَاعُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الزَّفِيفُ أَوَّلُ عَدْوِ النَّعَامِ. وقال قتادة والسدّي: معنى يَزِفُّونَ يَمْشُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَسْعَوْنَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: يُرْعِدُونَ غَضَبًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَخْتَالُونَ، أَيْ: يَمْشُونَ مَشْيَ الْخُيَلَاءِ، وَقِيلَ: يَتَسَلَّلُونَ تَسَلُّلًا بين المشي والعدو، والأولى تفسير يزفون بيسرعون، وَقُرِئَ يَزِفُّونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقُرِئَ يَزِفُّونَ كيرمون. وحكى الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميقع أنهم قرءوا «يزفّون» بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ رَكْضٌ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالْعَدْوِ قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ مَا فَعَلَهُ بِالْأَصْنَامِ، ذَكَرَ لَهُمُ الدَّلِيلَ الدال على فساد عبادتها، فقال

_ (1) . الظليم: ذكر النعام.

مُبَكِّتًا لَهُمْ، وَمُنْكِرًا عَلَيْهِمْ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ أَيْ: أَتَعْبُدُونَ أَصْنَامًا أَنْتُمْ تَنْحِتُونَهَا، وَالنَّحْتُ: النَّجْرُ وَالْبَرْيُ، نَحَتَهُ يَنْحِتُهُ بِالْكَسْرِ نَحْتًا: أَيْ بَرَاهُ، وَالنُّحَاتَةُ الْبُرَايَةُ، وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تعبدون، وما في ما تَعْمَلُونَ مَوْصُولَةٌ، أَيْ: وَخَلَقَ الَّذِي تَصْنَعُونَهُ عَلَى الْعُمُومِ وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَصْنَامُ الَّتِي يَنْحِتُونَهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَيَكُونُ مَعْنَى الْعَمَلِ هُنَا التَّصْوِيرَ وَالنَّحْتَ وَنَحْوَهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ عَمَلَكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ، أَيْ: وَأَيَّ شَيْءٍ تَعْمَلُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، أَيْ: إِنَّ الْعَمَلَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لَكُمْ فَأَنْتُمْ لَا تَعْمَلُونَ شَيْئًا، وَقَدْ طَوَّلَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ الْكَلَامَ فِي رَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَلَكِنْ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَجَعْلُهَا مَوْصُولَةً أَوْلَى بالمقام، وأوفق بسياق الكلام، وجملة: قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَالْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ جَوَابِ مَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، فَتَشَاوَرُوا فيما بينهم أن بينوا له حائطا من حجارة ويملؤوه حَطَبًا وَيُضْرِمُوهُ، ثُمَّ يُلْقُوهُ فِيهِ، وَالْجَحِيمُ: النَّارُ الشَّدِيدَةُ الِاتِّقَادِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَكُلُّ نَارٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فَهِيَ جَحِيمٌ، وَاللَّامُ فِي الْجَحِيمِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ: فِي جَحِيمِ ذَلِكَ الْبُنْيَانِ، ثُمَّ لَمَّا أَلْقَوْهُ فِيهَا نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَجَعَلَهَا عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ الْكَيْدُ: الْمَكْرُ وَالْحِيلَةُ، أَيِ: احْتَالُوا لِإِهْلَاكِهِ فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ الْمَقْهُورِينَ الْمَغْلُوبِينَ، لِأَنَّهَا قَامَتْ لَهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ الَّتِي لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهَا، وَلَا يُمْكِنُهُمْ جَحْدُهَا، فَإِنَّ النَّارَ الشَّدِيدَةَ الِاتِّقَادِ الْعَظِيمَةَ الِاضْطِرَامِ الْمُتَرَاكِمَةَ الْجِمَارِ إِذَا صَارَتْ بَعْدَ إِلْقَائِهِ عَلَيْهَا بَرْدًا وَسَلَامًا، وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ أَقَلَّ تَأْثِيرٍ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْحُجَّةِ بِمَكَانٍ يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ، وَصَارَ الْمُنْكِرُ لَهُ سَافِلًا سَاقِطَ الْحُجَّةِ ظَاهِرَ التَّعَصُّبِ وَاضِحَ التَّعَسُّفِ، وَسُبْحَانَ مَنْ يَجْعَلُ الْمِحَنَ لِمَنْ يَدْعُو إِلَى دِينِهِ مِنَحًا، وَيَسُوقُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ بِمَا هُوَ مِنْ صِوَرِ الضَّيْرِ. وَلَمَّا انْقَضَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ، وَظَهَرَتْ حُجَّةُ اللَّهِ لِإِبْرَاهِيمَ، وَقَامَتْ بَرَاهِينُ نُبُوَّتِهِ، وَسَطَعَتْ أَنْوَارُ معجزته قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أَيْ: مُهَاجِرٌ مِنْ بَلَدٍ قَوْمِي الَّذِينَ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا تَعَصُّبًا لِلْأَصْنَامِ، وَكُفْرًا بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبًا لِرُسُلِهِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَنِي بِالْمُهَاجَرَةِ إِلَيْهِ. أَوْ إِلَى حَيْثُ أَتَمَكَّنُ مِنْ عِبَادَتِهِ سَيَهْدِينِ أَيْ: سَيَهْدِينِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَمَرَنِي بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى مَقْصِدِي. قيل: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ مُسْتَوْفًى «1» . قَالَ مُقَاتِلٌ: فَلَمَّا قَدِمَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ سَأَلَ رَبَّهُ الْوَلَدَ فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ وَلَدًا صَالِحًا مِنَ الصَّالِحِينَ يُعِينُنِي عَلَى طَاعَتِكَ وَيُؤْنِسُنِي فِي الْغُرْبَةِ هَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْهِبَةَ قَدْ غَلَبَ مَعْنَاهَا فِي الْوَلَدِ، فَتُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهِ، وَإِذَا وَرَدَتْ مُقَيَّدَةً حُمِلَتْ عَلَى مَا قُيِّدَتْ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا «2» وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهَا لَمْ تَغْلِبْ فِي طَلَبِ الْوَلَدِ فَقَوْلُهُ: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أنه

_ (1) . ورده سير إبراهيم إلى الشام في سورة العنكبوت آية: 26. (2) . مريم: 53.

مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ إِلَّا الْوَلَدَ، وَمَعْنَى حَلِيمٍ: أَنْ يَكُونَ حَلِيمًا عِنْدَ كِبَرِهِ، فَكَأَنَّهُ بُشِّرَ بِبَقَاءِ ذَلِكَ الْغُلَامِ حَتَّى يَكْبَرَ وَيَصِيرَ حَلِيمًا، لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يُوصَفُ بِالْحِلْمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْبِشَارَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبَشَّرٌ بِابْنٍ ذَكَرٍ، وَأَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى يَنْتَهِيَ فِي السِّنِّ وَيُوَصَفَ بِالْحِلْمِ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ كَمَا تُشْعِرُ بِهِ هَذِهِ الْفَاءُ الْفَصِيحَةُ وَالتَّقْدِيرُ: فَوَهَبْنَا لَهُ الْغُلَامَ فَنَشَأَ حَتَّى صَارَ إِلَى السِّنِّ الَّتِي يُسْعَى فِيهَا مَعَ أَبِيهِ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أَيْ: شَبَّ وَأَدْرَكَ سَعْيُهُ سَعْيَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا مَشَى مَعَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ كَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ سَعْيُ الْعَقْلِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ السَّعْيُ فِي العبادة، وقيل: هو الاحتلام قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ قَالَ إبراهيم لابنه لما بلغ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ هَذِهِ الرُّؤْيَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: رَأَى إِبْرَاهِيمُ ذَلِكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَتَابِعَاتٍ. قَالَ قَتَادَةُ: رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ إِذَا رَأَوْا شَيْئًا فَعَلُوهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الذَّبِيحِ؟ هَلْ هُوَ إِسْحَاقُ أَوْ إِسْمَاعِيلُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَقَالَ أَكْثَرُهُمُ: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ وابنه عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. قَالَ: وَمِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ: عَلْقَمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَقَتَادَةُ، ومسروق، وعكرمة، والقاسم بن أبي برزة، وعطاء، ومقاتل، وعبد الرحمن بن سابط، والمهري، وَالسُّدِّيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ كُلُّهُمْ قَالُوا الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ، وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ: النَّحَّاسُ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، وَعَلْقَمَةُ، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنِ الذَّبِيحِ فَقَالَ: يَا أَصْمَعِيُّ أَيْنَ عَزَبَ عَنْكَ عَقْلُكَ، وَمَتَى كَانَ إِسْحَاقُ بِمَكَّةَ؟ وَإِنَّمَا كَانَ إِسْمَاعِيلُ بِمَكَّةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ حَتَّى يُقَالَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَمَا أَظُنُّ ذَلِكَ تُلُقِّيَ إِلَّا عَنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأُخِذَ مُسَلَّمًا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، وَكِتَابُ اللَّهِ شَاهِدٌ وَمُرْشِدٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْبِشَارَةَ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ الذَّبِيحُ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ إِسْحَاقُ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَهُمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ حِينَ فَارَقَ قَوْمَهُ، فَهَاجَرَ إِلَى الشَّامِ مَعَ امْرَأَتِهِ سَارَّةَ وَابْنِ أَخِيهِ لُوطٍ فَقَالَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ أَنَّهُ دَعَا فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ «1» وَلِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فَذَكَرَ أَنَّهُ فِي الْغُلَامِ الْحَلِيمِ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ إبراهيم، وإنما بشر بإسحاق،

_ (1) . مريم: 49.

لِأَنَّهُ قَالَ: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ وَقَالَ هُنَا: بِغُلامٍ حَلِيمٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ هَاجَرَ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِيرَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ بُشِّرَ بِوَلَدٍ إِلَّا إِسْحَاقَ. قَالَ الزَّجَّاجُ اللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا الذَّبِيحُ اه، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْفَرِيقَانِ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ وَالْمُنَاقَشَةُ لَهُ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِسْمَاعِيلُ بِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَهُ بِالصَّبْرِ دُونَ إِسْحَاقَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ «1» وَهُوَ صَبْرُهُ عَلَى الذَّبْحِ، وَوَصَفَهُ بِصِدْقِ الْوَعْدِ في قوله: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ «2» لِأَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى الذَّبْحِ، فَوَفَى بِهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِذَبْحِهِ، وَقَدْ وَعَدَهُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ «3» فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ قَبْلَ إِنْجَازِ الْوَعْدِ فِي يَعْقُوبَ، وَأَيْضًا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ تَعْلِيقُ قَرْنِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ، وَلَوْ كَانَ إِسْحَاقَ لَكَانَ الذَّبْحُ وَاقِعًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكُلُّ هَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ الْمُنَاقِشَةَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «تُرِي» بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ، أَيِ: انْظُرْ مَاذَا تُرِينِي إِيَّاهُ مِنْ صَبْرِكَ وَاحْتِمَالِكَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ مِنَ الرَّأْيِ، وَهُوَ مُضَارِعُ رَأَيْتُ، وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَالْأَعْمَشُ، «تُرَى» بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: مَاذَا يُخَيَّلُ إِلَيْكَ وَيَسْنَحُ لِخَاطِرِكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: انْظُرْ مَاذَا تَرَى مِنْ صَبْرِكَ وَجَزَعِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ مَاذَا تُشِيرُ؟ أَيْ مَا تُرِيكَ نَفْسُكَ مِنَ الرَّأْيِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا يَكُونُ هَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ خَاصَّةً وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَغَلَّطَهُمَا النَّحَّاسُ وَقَالَ: هَذَا يَكُونُ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا، وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ، وَإِنَّمَا شَاوَرَهُ لِيَعْلَمَ صَبْرَهُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِلَّا فَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ أَيْ: مَا تُؤْمَرُ بِهِ مما أوحي إليك من ذبحي، وما: مَوْصُولَةٌ، وَقِيلَ: مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى افْعَلْ أَمْرَكَ، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَتَسْمِيَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْرًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على ما ابتلاني مِنَ الذَّبْحِ، وَالتَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَبَرُّكًا بِهَا مِنْهُ فَلَمَّا أَسْلَما أَيِ: اسْتَسْلَمَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَأَطَاعَاهُ وَانْقَادَا لَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَسْلَمْنا وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ «فَلَمَّا سَلَّمَا» أَيْ: فَوَّضَا أَمْرَهُمَا إِلَى اللَّهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ اسْتَسْلَمَا قَالَ قَتَادَةُ: أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ لِلَّهِ، وَأَسْلَمَ الْآخَرُ ابْنَهُ، يُقَالُ: سَلَّمَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَأَسْلَمَ وَاسْتَسْلَمَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَابِ لَمَّا مَاذَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ ظَهَرَ صَبْرُهُمَا أَوْ أَجْزَلْنَا لَهُمَا أَجْرَهُمَا أَوْ فَدَيْنَاهُ بِكَبْشٍ هَكَذَا قَالَ الْبَصْرِيُّونَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْجَوَابُ هُوَ نَادَيْنَاهُ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ مُقْحَمَةٌ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمُ النَّحَّاسُ بِأَنَّ الْوَاوَ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي وَلَا يجوز أن تزاد، وَقَالَ الْأَخْفَشُ الْجَوَابُ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنِ الْكُوفِيِّينَ. وَاعْتِرَاضُ النَّحَّاسِ يُرَدُّ عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ التلّ: الصرع والدفع، يقال تلت الرَّجُلَ: إِذَا أَلْقَيْتَهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَضْجَعَهُ عَلَى جبينه على الأرض، والجبين أحد

_ (1) . الأنبياء: 85. (2) . مريم: 54. (3) . هود: 71.

جَانِبَيِ الْجَبْهَةِ، فَلِلْوَجْهِ جَبِينَانِ وَالْجَبْهَةُ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: كَبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ كَيْلَا يُرَى مِنْهُ مَا يُؤَثِّرُ الرِّقَّةَ لِقَلْبِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَرَادَ ذَبْحَهُ فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ مَكَّةُ فِي الْمَقَامِ، وَقِيلَ: فِي الْمَنْحَرِ بِمِنًى عِنْدَ الْجِمَارِ، وَقِيلَ: عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي بِأَصْلِ جَبَلِ ثَبِيرٍ، وقيل: بالشام وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أَيْ: عَزَمْتَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمَا رَأَيْتَهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا أَضْجَعَهُ لِلذَّبْحِ نُودِيَ مِنَ الْجَبَلِ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْهُ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا أَمْكَنَهُ، وَالْمَطْلُوبُ اسْتِسْلَامُهُمَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَقَدْ فَعَلَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ إِنَّ نَفْسَ الذَّبْحِ لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ وَقَعَ لَمْ يُتَصَوَّرْ رَفْعُهُ، فَكَانَ هَذَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْفَرَاغُ مِنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ مَا تَحَقَّقَ الْفِدَاءُ. قَالَ: وَمَعْنَى. صَدَّقْتَ الرُّؤْيا فَعَلْتَ مَا أَمْكَنَكَ ثُمَّ امْتَنَعْتَ لَمَّا مَنَعْنَاكَ، هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُنْسَخُ بِوَجْهٍ، لِأَنَّ مَعْنَى ذَبَحْتَ الشَّيْءَ قَطَعْتَهُ، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَأْخُذُ السِّكِّينَ فَيَمُرُّ بِهَا عَلَى حَلْقِهِ فَتَنْقَلِبُ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا الْتَأَمَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ السُّدِّيُّ: ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى عُنُقِهِ صَفِيحَةَ نُحَاسٍ، فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَحُزُّ وَلَا يَقْطَعُ شَيْئًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا أُمِرَ بِالذَّبْحِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ فَرْيُ الْأَوْدَاجِ، وَإِنْهَارُ الدَّمِ، وَإِنَّمَا رَأَى أَنَّهُ أَضْجَعَهُ لِلذَّبْحِ، فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ أَمْرٌ بالذبح الحقيقي فلما أتى بما أمر بِهِ مِنَ الْإِضْجَاعِ قِيلَ لَهُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أَيْ: نَجْزِيهِمْ بِالْخَلَاصِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالسَّلَامَةِ مِنِ الْمِحَنِ، فَالْجُمْلَةُ كالتعليل لما قبلها. قال مقاتل: جزاء اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِإِحْسَانِهِ فِي طَاعَتِهِ الْعَفْوَ عَنْ ذَبْحِ ابْنِهِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الْبَلَاءُ وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ هَذَا هُوَ الِاخْتِبَارُ الظَّاهِرُ حَيْثُ اخْتَبَرَهُ اللَّهُ فِي طَاعَتِهِ بذبح ولده. وقيل المعنى: إن هذا هو النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ حَيْثُ سَلَّمَ اللَّهُ وَلَدَهُ مِنَ الذَّبْحِ وَفَدَاهُ بِالْكَبْشِ، يُقَالُ أَبْلَاهُ اللَّهُ إِبْلَاءً وَبَلَاءً: إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الِابْتِلَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِي الِاخْتِبَارِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، ومنه وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً «1» وَلَكِنَّ الْمُنَاسِبَ لِلْمَقَامِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: هَذَا فِي الْبَلَاءِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ فِي أَنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ. قَالَ: وَهَذَا مِنَ الْبَلَاءِ الْمَكْرُوهِ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ الذِّبْحُ: اسْمُ الْمَذْبُوحِ وَجَمْعُهُ ذُبُوحٌ كَالطَّحْنِ اسْمٌ لِلْمَطْحُونِ، وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، وَمَعْنَى عَظِيمٍ: عَظِيمُ الْقَدْرِ، وَلَمْ يُرِدْ عِظَمَ الْجُثَّةِ وَإِنَّمَا عَظَّمَ قَدْرَهُ لِأَنَّهُ فُدِيَ بِهِ الذَّبِيحُ، أَوْ لِأَنَّهُ مُتَقَبَّلٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْعَظِيمُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ لِلْكَبِيرِ وَلِلشَّرِيفِ، وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّهُ هَاهُنَا لِلشَّرِيفِ: أَيِ الْمُتَقَبَّلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَبْشٌ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا فُدِيَ إِلَّا بِتَيْسٍ مِنَ الْأَرْوَى أُهْبِطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبِيرٍ فَذَبَحَهُ إِبْرَاهِيمُ فِدَاءً عَنِ ابْنِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَدْ قِيلَ إِنَّهُ فُدِيَ بِوَعْلٍ، وَالْوَعْلُ التَّيْسُ الْجَبَلِيُّ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: جَعَلْنَا الذِّبْحَ فِدَاءً لَهُ وَخَلَّصْنَاهُ بِهِ مِنَ الذَّبْحِ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ أَيْ: فِي الْأُمَمِ الْآخِرَةِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَهُ، وَالسَّلَامُ الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَلَامٌ مِنَّا، وَقِيلَ: سَلَامَةٌ مِنَ الْآفَاتِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ مَعْنَاهُ، وَوَجْهُ إِعْرَابِهِ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ نَجْزِي مَنِ انقاد لأمر الله

_ (1) . الأنبياء: 35.

إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أَيِ: الَّذِينَ أَعْطَوُا الْعُبُودِيَّةَ حَقَّهَا، وَرَسَخُوا فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ: بَشَّرْنَا إِبْرَاهِيمَ بِوَلَدٍ يُولَدُ لَهُ وَيَصِيرُ نَبِيًّا بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَ السِّنَّ الَّتِي يَتَأَهَّلُ فِيهَا لِذَلِكَ، وَانْتِصَابُ نَبِيًّا عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنْ كَانَ الذَّبِيحُ إِسْحَاقَ فَيَظْهَرُ كَوْنُهَا مُقَدَّرَةً وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّ مَنْ فَسَّرَ الذَّبِيحَ بِإِسْحَاقَ جَعَلَ الْبِشَارَةَ هُنَا خَاصَّةً بِنُبُوَّتِهِ. وَفِي ذِكْرِ الصَّلَاحِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى وُجُودِ الْمُبَشَّرِ بِهِ وَقْتَ الْبِشَارَةِ، فَإِنَّ وُجُودَ ذِي الْحَالِ لَيْسَ بشرط، وإنما الشرط المقارنة للفعل، و «من الصالحين» كما يجوز أن يكون صفة لنبيا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِيهِ، فَتَكُونُ أَحْوَالًا مُتَدَاخِلَةً وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أَيْ: عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى إِسْحَاقَ بِمُرَادَفَةِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ: كَثَّرْنَا وَلَدَهُمَا، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِ يَعُودُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُبَارَكَةِ هُنَا: هِيَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ عَلَيْهِمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ أَيْ: مُحْسِنٌ فِي عَمَلِهِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، وَظَالِمٌ لَهَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْبَرَكَةَ فِي الذُّرِّيَّةِ بَيَّنَ أَنَّ كَوْنَ الذُّرِّيَّةِ مِنْ هَذَا الْعُنْصُرِ الشَّرِيفِ وَالْمَحْتِدِ الْمُبَارَكِ لَيْسَ بِنَافِعٍ لَهُمْ، بَلْ إِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، لَا بِآبَائِهِمْ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَإِنْ كَانُوا مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ فَقَدْ صَارُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ الْبَيِّنِ، وَالْعَرَبُ وَإِنْ كَانُوا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ فَقَدْ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ إِلَّا مَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ يَقُولُ: لَمْ يُبْقِ إِلَّا ذُرِّيَّةَ نُوحٍ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ يَقُولُ: يُذْكَرُ بِخَيْرٍ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قَالَ: حَامٌ وَسَامٌ وَيَافِثٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ سَمُرَةَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ، وَيَافِثٌ أَبُو الرُّومِ» وَالْحَدِيثَانِ هُمَا مِنْ سَمَاعِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، وَفِي سَمَاعِهِ مِنْهُ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ فَقَطْ وَمَا عَدَاهُ فَبِوَاسِطَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ عن عمران ابن حصين عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْخَطِيبُ فِي تَالِي التَّلْخِيصِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَدُ نُوحٍ ثَلَاثَةٌ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ، فَوَلَدُ سَامٍ الْعَرَبُ وَفَارِسُ وَالرُّومُ وَالْخَيْرُ فِيهِمْ، وَوَلَدُ يَافِثَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالتُّرْكُ وَالصَّقَالِبَةُ وَلَا خَيْرَ فِيهِمْ، وَوَلَدُ حَامٍ الْقِبْطُ وَالْبَرْبَرُ وَالسُّودَانُ» وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ قَالَ: مِنْ أَهْلِ دينه. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي سَقِيمٌ قَالَ: مَرِيضٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: مَطْعُونٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ: يَخْرُجُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي قَالَ: حِينَ هَاجَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ: الْعَمَلَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ

عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَمَّا أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَذْبَحَ إِسْحَاقَ قَالَ لِأَبِيهِ: إِذَا ذَبَحْتَنِي فَاعْتَزِلْ لَا أَضْطَرِبُ فَيَنْتَضِحُ عَلَيْكَ دَمِي، فَشَدَّهُ، فَلَمَّا أَخَذَ الشَّفْرَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَذْبَحَهُ نُودِيَ مِنْ خلفه أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا مِثْلَهُ مَعَ زِيَادَةٍ وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ قَالَ: مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ عَلَى مِنْهَاجِهِ وَسُنَنِهِ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ شَبَّ حَتَّى بَلَغَ سَعْيُهُ سَعْيَ أَبِيهِ فِي الْعَمَلِ فَلَمَّا أَسْلَما سَلَّمَا مَا أُمِرَ بِهِ وَتَلَّهُ وَضَعَ وَجْهَهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ لَا تَذْبَحْنِي وَأَنْتَ تَنْظُرُ عَسَى أَنْ تَرْحَمَنِي، فَلَا تُجْهِزُ عَلَيَّ، وَأَنْ أَجْزَعَ فَأَنْكِصُ فَأَمْتَنِعُ مِنْكَ، وَلَكِنِ ارْبُطْ يَدَيَّ إِلَى رَقَبَتِي ثُمَّ ضَعْ وَجْهِي إِلَى الْأَرْضِ، فَلَمَّا أَدْخَلَ يَدَهُ لِيَذْبَحَهُ فلم تصل المدية حتى نودي: أن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا فَأَمْسَكَ يَدَهُ، قَوْلُهُ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ بِكَبْشٍ عَظِيمٍ مُتَقَبِّلٍ، وَزَعَمَ ابْنُ عباس أن الذبيح إِسْمَاعِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ» وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ قَوْلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَفْدِيُّ إِسْمَاعِيلُ، وَزَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ وَكَذَبَتِ الْيَهُودُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَيُوسُفُ بْنُ مَاهِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طريق يوسف ابن مَاهِكَ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قَالَ: إِسْمَاعِيلُ ذَبَحَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ الْكَبْشَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْفَرَزْدَقِ الشَّاعِرِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ: إِنَّ الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ إِسْمَاعِيلُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ العباس ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ دَاوُدُ: يَا رَبِّ أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ: رَبَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فَاجْعَلْنِي رَابِعًا، قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَصَبَرَ مِنْ أَجْلِي، وَإِنَّ إِسْحَاقَ جَادَ لِي بِنَفْسِهِ، وَإِنَّ يَعْقُوبَ غَابَ عَنْهُ يُوسُفُ، وَتِلْكَ بَلِيَّةٌ لَمْ تَنَلْكَ» وَفِي إِسْنَادِهِ الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ الْبَصْرِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ بَهَارٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: إِسْحَاقُ ذَبِيحُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: «يُوسُفُ بْنُ يعقوب ابن إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ

[سورة الصافات (37) : الآيات 114 إلى 148]

ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ قَالَ: أَكَبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: صَرَعَهُ لِلذَّبْحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قَالَ: كَبْشٌ أَعْيَنُ أَبْيَضُ أَقْرَنُ قَدْ رُبِطَ بِسَمُرَةٍ فِي أَصْلِ ثَبِيرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قَالَ: كَبْشٌ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: فُدِيَ إِسْمَاعِيلُ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَعْيَنَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: نَذَرْتُ لِأَنْحَرَ نَفْسِي، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، ثُمَّ تَلَا وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، فَأَمَرَهُ بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ: إِنَّمَا بُشِّرَ بِهِ نَبِيًّا حِينَ فَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الذَّبْحِ وَلَمْ تَكُنِ الْبِشَارَةُ بِالنُّبُوَّةِ عِنْدَ مَوْلِدِهِ. وَبِمَا سُقْنَاهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الذَّبِيحِ هَلْ هُوَ إِسْحَاقُ أَوْ إِسْمَاعِيلُ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَقَامِ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، أَوْ يَتَعَيَّنُ رُجْحَانُهُ تَعَيُّنًا ظَاهِرًا، وَقَدْ رَجَّحَ كُلُّ قَوْلٍ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ الْمُنْصِفِينَ كَابْنِ جَرِيرٍ فَإِنَّهُ رَجَّحَ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَدِلْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَعْضٍ مِمَّا سُقْنَاهُ هَاهُنَا، وَكَابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ رَجَّحَ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ، وَجَعَلَ الْأَدِلَّةَ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَى وَأَصَحَّ، وَلَيْسَ الأمر كما ذكره، فإنها لَمْ تَكُنْ دُونَ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ لَمْ تَكُنْ فَوْقَهَا وَلَا أَرْجَحَ مِنْهَا، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ فَهُوَ إِمَّا مَوْضُوعٌ أَوْ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُجَرَّدُ اسْتِنْبَاطَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا أشرنا إلى ذلك فيما سبق، هي مُحْتَمَلَةٌ وَلَا تَقُومُ حُجَّةٌ بِمُحْتَمَلٍ، فَالْوَقْفُ هُوَ الذي لا ينبغي مجاوزته، وفيه السَّلَامَةِ مِنَ التَّرْجِيحِ، بِلَا مُرَجَّحٍ، وَمِنَ الِاسْتِدْلَالِ بما هو محتمل. [سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 148] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)

لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ إِنْجَاءِ الذَّبِيحِ مِنَ الذَّبْحِ، وَمَا مَنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ ذَكَرَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، فَقَالَ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ يَعْنِي بِالنُّبُوَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمَا وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الْمُرَادُ بِقَوْمِهِمَا: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْمُرَادُ بِالْكَرْبِ الْعَظِيمِ: هُوَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنِ اسْتِعْبَادِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُمْ، وَمَا كَانَ نَصِيبَهُمْ مِنْ جِهَتِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ الْغَرَقُ الَّذِي أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَنَصَرْناهُمْ جَاءَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمِيرُ لِمُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمِهِمَا، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا، وَالْمُرَادُ بِالنَّصْرِ التَّأْيِيدُ لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَكانُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ هُمُ الْغالِبِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا تَحْتَ أَسْرِهِمْ وَقَهْرِهِمْ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي نَصَرْنَاهُمْ عَائِدٌ عَلَى الِاثْنَيْنِ مُوسَى وَهَارُونَ تَعْظِيمًا لَهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ: وَالْمُسْتَبِينُ: الْبَيِّنُ الظَّاهِرُ، يُقَالُ: اسْتَبَانَ كَذَا. أَيْ: صَارَ بَيِّنًا وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أَيِ: الْقَيِّمَ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ أَيْ: أَبْقَيْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْأُمَمِ الْمُتَأَخِّرَةِ الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي السَّلَامِ وَفِي وَجْهِ إِعْرَابِهِ بِالرَّفْعِ، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ مَعَ قَوْمِهِ، قِيلَ: وَهُوَ إِلْيَاسُ بْنُ يس مِنْ سِبْطِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: كَانَ إِلْيَاسُ هُوَ الْقَيِّمُ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ يُوشَعَ، وَقِيلَ: هُوَ إِدْرِيسُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلْياسَ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مَقْطُوعَةٍ، وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ بِوَصْلِهَا، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «وَإِنَّ إِدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» وقرأ أبيّ «وإنّ إبليس» بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ تَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ لَامٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ تَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ هُوَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ قَالَ، وَالْمَعْنَى: أَلَا تَتَّقُونَ عَذَابَ اللَّهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَتَدْعُونَ بَعْلًا هُوَ اسْمٌ لِصَنَمٍ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، أَيْ: أَتَعْبُدُونَ صَنَمًا وَتَطْلُبُونَ الْخَيْرَ مِنْهُ. قَالَ ثَعْلَبٌ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: بَعْلًا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْبَعْلُ هُنَا الصَّنَمُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْبَعْلُ هُنَا مَلَكٌ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: امْرَأَةٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ رَبًّا، وَهُوَ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، يَقُولُونَ لِلسَّيِّدِ وَالرَّبِّ الْبَعْلَ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْقَوْلَانِ صَحِيحَانِ، أَيْ: أَتَدْعُونَ صنما عملتموه رَبًّا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ أَيْ: وَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ أَحْسَنِ مَنْ يُقَالُ لَهُ خَالِقٌ، وَانْتِصَابُ الِاسْمِ الشَّرِيفِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَحْسَنَ، هَذَا على قراءة حمزة والكسائي والربيع

ابن خُثَيْمٍ وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشِ، فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا بِنَصْبِ الثَّلَاثَةِ الْأَسْمَاءِ وَقِيلَ: النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ، وَقِيلَ: عَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ النَّصْبَ عَلَى النَّعْتِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ غَلَطٌ وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ، وَلَا يَجُوزُ النَّعْتُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَحْلِيَةٍ وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ بِالرَّفْعِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: بِمَعْنَى هُوَ اللَّهُ رَبُّكُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَوْلَى مَا قِيلَ: إِنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ بِغَيْرِ إِضْمَارٍ وَلَا حَذْفٍ. وَحُكِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ الرَّفْعَ أَوْلَى وَأَحْسَنُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَنْ رَفَعَ أَوْ نَصَبَ لَمْ يَقِفْ عَلَى أَحْسَنِ الْخَالِقِينَ عَلَى جِهَةِ التَّمَامِ لِأَنَّ اللَّهَ مُتَرْجَمٌ عَنْ أَحْسَنِ الْخَالِقِينَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَالْمَعْنَى، أَنَّهُ خَالِقُكُمْ وخالق ومن قَبْلَكُمْ فَهُوَ الَّذِي تَحِقُّ لَهُ الْعِبَادَةُ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي: فإنهم بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِ لَمُحْضَرُونَ فِي الْعَذَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِحْضَارَ الْمُطْلَقَ مَخْصُوصٌ بِالشَّرِّ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أَيْ: مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ من قومه، وقرئ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ: أَنَّهُمْ أَخْلَصُوا لِلَّهِ وَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ: أَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَصَهُمْ مِنْ عِبَادِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ والأعرج عَلَى آلِ يَاسِينَ بِإِضَافَةِ آلٍ بِمَعْنَى آلِ يَاسِينَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ موصولة بياسين إِلَّا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ قَرَأَ «الْيَاسِينَ» بِإِدْخَالِ آلَةِ التَّعْرِيفِ عَلَى يَاسِينَ، قِيلَ: الْمُرَادُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا إِلْيَاسُ، وَعَلَيْهِ وَقَعَ التَّسْلِيمُ، وَلَكِنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَالْعَرَبُ تَضْطَرِبُ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ وَيَكْثُرُ تَغْيِيرُهُمْ لَهَا. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا فياسين، وَإِلْيَاسُ، وَإِلْيَاسِينُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْعَرَبُ تُسَمِّي قَوْمَ الرَّجُلِ بِاسْمِ الرَّجُلِ الْجَلِيلِ مِنْهُمْ، فَيَقُولُونَ الْمَهَالِبَةُ عَلَى أَنَّهُمْ سَمَّوْا كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِالْمُهَلَّبِ. قَالَ: فَعَلَى هَذَا إِنَّهُ سَمَّى كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِالْيَاسِينِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُذْهَبُ بِالْيَاسِينِ إِلَى أَنْ يَجْعَلَهُ جَمْعًا فَيُجْعَلُ أَصْحَابُهُ دَاخِلِينَ مَعَهُ فِي اسْمِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسي: تقديره الياسيين إلا أَنَّ الْيَاءَيْنِ لِلنِّسْبَةِ حُذِفَتَا كَمَا حُذِفَتَا فِي الْأَشْعَرِينَ وَالْأَعْجَمِينَ. وَرَجَّحَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ قَالَا: لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي شَيْءٍ مِنَ السُّوَرِ عَلَى آلِ فُلَانٍ، إِنَّمَا جَاءَ بِالِاسْمِ كَذَلِكَ الْيَاسِينُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى إِلْيَاسَ أَوْ بِمَعْنَى إِلْيَاسَ وَأَتْبَاعِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ بِآلِ يَاسِينَ آلُ مُحَمَّدٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَمَا قَبْلُهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَوْفًى وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ قِصَّةِ لُوطٍ مُسْتَوْفَاةً إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ اذكر ولا يصح تعلقه بالمرسلين، لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ وَقْتَ تَنْجِيَتِهِ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْغَابِرَ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْبَاقِي، فَالْمَعْنَى: إِلَّا عَجُوزًا فِي الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ، أَوِ الْمَاضِينَ الَّذِينَ قَدْ هَلَكُوا ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أَيْ: أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِي نَجَاتِهِ وَأَهْلِهِ جَمِيعًا إِلَّا الْعَجُوزَ وَتَدْمِيرَ الْبَاقِينَ مِنْ قَوْمِهِ الذين لم يُؤْمِنُوا بِهِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى ثُبُوتِ كَوْنِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ خَاطَبَ بِهَذَا الْعَرَبَ أَوْ أَهْلَ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ: أَيْ تَمُرُّونَ عَلَى مَنَازِلِهِمُ الَّتِي فِيهَا آثَارُ الْعَذَابِ وَقْتَ الصَّبَاحِ وَبِاللَّيْلِ وَالْمَعْنَى تَمُرُّونَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ فِي ذَهَابِكُمْ إِلَى الشَّامِ وَرُجُوعِكُمْ مِنْهُ نَهَارًا وَلَيْلًا أَفَلا تَعْقِلُونَ مَا تُشَاهِدُونَهُ فِي دِيَارِهِمْ مِنْ آثَارِ عُقُوبَةِ

اللَّهِ النَّازِلَةِ بِهِمْ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَدَبِّرِينَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ يُونُسُ هُوَ ذُو النُّونِ، وَهُوَ ابْنُ مَتَّى. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ يُونُسُ قَدْ وَعَدَ قَوْمَهُ الْعَذَابَ، فَلَمَّا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ خَرَجَ عَنْهُمْ وَقَصَدَ الْبَحْرَ وَرَكِبَ السَّفِينَةَ، فَكَانَ بِذَهَابِهِ إِلَى الْبَحْرِ كَالْفَارِّ مِنْ مَوْلَاهُ فَوُصِفَ بِالْإِبَاقِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَأَصْلُ الْإِبَاقِ الْهَرَبُ مِنَ السَّيِّدِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ هَرَبُهُ مِنْ قَوْمِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ وصف به. وقال المبرد. تأويل أبق تباعد: أَيْ ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ عَبْدٌ آبِقٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ كَانَتْ رِسَالَتُهُ قَبْلَ الْتِقَامِ الْحُوتِ إِيَّاهُ أَوْ بَعْدَهُ؟ وَمَعْنَى الْمَشْحُونِ: الْمَمْلُوءُ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ الْمُسَاهَمَةُ أَصْلُهَا الْمُغَالَبَةُ، وَهِيَ الِاقْتِرَاعُ، وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ عَلَى مَنْ غَلَبَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ فَقَارَعَ. قَالَ: وَأَصْلُهُ مِنَ السِّهَامِ الَّتِي تُجَالُ، وَمَعْنَى فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَصَارَ مِنَ المغلوبين. قال: يقال دحضت حجته وأدحضها اللَّهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الزَّلَقِ عَنْ مَقَامِ الظُّفْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَتَلْنَا الْمُدْحَضِينَ بِكُلِّ فَجٍّ ... فَقَدْ قَرَّتْ بِقَتْلِهِمُ الْعُيُونُ أَيِ: الْمَغْلُوبِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ يُقَالُ: لَقِمْتُ اللُّقْمَةَ وَالْتَقَمْتُهَا: إِذَا ابْتَلَعْتُهَا، أَيْ: فَابْتَلَعَهُ الْحُوتُ، وَمَعْنَى وَهُوَ مُلِيمٌ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلَّوْمِ، يُقَالُ: رَجُلٌ مُلِيمٌ إِذَا أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَلُومُ: فَهُوَ الَّذِي يُلَامُ سَوَاءٌ أَتَى بِمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُلَامَ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَقِيلَ: الْمُلِيمُ الْمَعِيبُ، يُقَالُ أَلَامَ الرَّجُلُ إِذَا عَمِلَ شَيْئًا صَارَ بِهِ مَعِيبًا. وَمَعْنَى هَذِهِ الْمُسَاهَمَةِ: أَنَّ يُونُسَ لَمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ احْتُبِسَتْ، فَقَالَ الْمَلَّاحُونَ: هَاهُنَا عَبْدٌ أَبَقَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَهَذَا رَسْمُ السَّفِينَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا آبِقٌ لَا تَجْرِي، فَاقْتَرَعُوا فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَقَالَ أَنَا الْآبِقُ وَزَجَّ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا اسْتَهَمُوا جَاءَ حُوتٌ إِلَى السَّفِينَةِ فَاغِرًا فَاهُ يَنْتَظِرُ أَمْرَ رَبِّهِ حَتَّى إِذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ أَخَذَهُ الْحُوتُ فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أَيِ: الذَّاكِرِينَ لِلَّهِ، أَوِ الْمُصَلِّينَ لَهُ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أَيْ: لَصَارَ بَطْنُ الْحُوتِ لَهُ قَبْرًا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَقِيلَ: لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ حَيًّا. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ كَمْ أَقَامَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ؟ فَقَالَ: السُّدِّيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عِشْرِينَ يَوْمًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حِبَّانَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: سَاعَةً وَاحِدَةً. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبٌ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، وَتَنْشِيطٌ لِلذَّاكِرِينَ لَهُ فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ النبذ الطرح. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُوَ الصَّحْرَاءُ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْفَضَاءُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْوَاسِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَكَانُ الْخَالِي. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: هُوَ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَأَنْشَدَ لِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ: وَرَفَعْتُ رِجْلًا لَا أَخَافُ عِثَارَهَا ... وَنَبَذْتُ بِالْبَلَدِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ طَرَحَهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ فِي الصَّحْرَاءِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَهُوَ عِنْدَ إِلْقَائِهِ سَقِيمٌ

لِمَا نَالَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ مِنَ الضَّرَرِ، قِيلَ صَارَ بَدَنُهُ كَبَدَنِ الطِّفْلِ حِينَ يُولَدُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْجَمْعَ بَيْنَ مَا وَقَعَ هُنَا مِنْ قَوْلِهِ: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ، وَقَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ «1» فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْبَذْ بِالْعَرَاءِ. وَأَجَابَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ هَاهُنَا أَنَّهُ نُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَلَوْلَا رَحْمَتُهُ عَزَّ وَجَلَّ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أَيْ: شَجَرَةً فَوْقَهُ تُظَلِّلُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ مَعْنَى عَلَيْهِ: عِنْدَهُ، وَقِيلَ مَعْنَى عَلَيْهِ: لَهُ. وَالْيَقْطِينُ: هِيَ شَجَرَةُ الدُّبَّاءِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْيَقْطِينُ يُقَالُ لِكُلِّ شَجَرَةٍ لَيْسَ لَهَا سَاقٌ، بَلْ تَمْتَدُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نَحْوَ الدُّبَّاءِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالْحَنْظَلِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا سَاقٌ يُقِلُّهَا فَيُقَالُ لَهَا شَجَرَةٌ فَقَطْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمُقَاتِلٌ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ يَنْبُتُ ثُمَّ يَمُوتُ مِنْ عَامِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْيَقْطِينُ مَا لَا سَاقَ لَهُ مِنْ شَجَرٍ كَشَجَرِ الْقَرْعِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اشْتِقَاقُ الْيَقْطِينِ مِنْ قَطَنَ بِالْمَكَانِ: أَيْ: أَقَامَ بِهِ فَهُوَ يَفْعِيلٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ يُسْتَظَلُّ بِظِلِّهَا مِنَ الشَّمْسِ، وَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ أَرْوِيَّةً مِنَ الْوَحْشِ تَرُوحُ عَلَيْهِ بَكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَكَانَ يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا حَتَّى اشْتَدَّ لَحْمُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ هُمْ قَوْمُهُ الَّذِينَ هَرَبَ مِنْهُمْ إِلَى الْبَحْرِ وَجَرَى لَهُ مَا جَرَى بَعْدَ هَرَبِهِ كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُمْ أَهْلُ نِينَوَى. قَالَ قَتَادَةُ: أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمُوصِلِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّتِهِ فِي سورة يونس مستوفى، «وأو» فِي أَوْ يَزِيدُونَ، قِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالْمَعْنَى: وَيَزِيدُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَوْ هَاهُنَا بِمَعْنَى بَلْ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، وَالْكَلْبِيِّ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ، وَالزَّجَّاجُ، وَالْأَخْفَشُ: أَوْ هُنَا عَلَى أَصْلِهِ، وَالْمَعْنَى: أَوْ يَزِيدُونَ فِي تَقْدِيرِكُمْ إِذَا رَآهُمُ الرَّائِي قَالَ: هَؤُلَاءِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَالشَّكُّ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَى حِكَايَةِ قَوْلِ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانُوا يَزِيدُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: بِضْعًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَبْعِينَ أَلْفًا. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَيَزِيدُونَ بِدُونِ أَلِفِ الشَّكِّ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ هَلْ هَذَا الْإِرْسَالُ الْمَذْكُورُ هُوَ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْتِقَامِ الْحُوتِ لَهُ، وَتَكُونُ الْوَاوُ فِي وَأَرْسَلْنَاهُ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا وَقَعَ لَهُ مَعَ الْحُوتِ وَبَيْنَ إِرْسَالِهِ إِلَى قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَقْدِيمِ مَا تَقَدَّمَ فِي السِّيَاقِ، وَتَأْخِيرِ مَا تَأَخَّرَ، أَوْ هُوَ إرسال له بعد ما وَقَعَ لَهُ مَعَ الْحُوتِ مَا وَقَعَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمَنَا الْإِشَارَةَ إِلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ هَلْ كَانَ قَدْ أُرْسِلَ قَبْلَ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْبَحْرِ أَوْ لَمْ يُرْسَلْ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْبَحْرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَبَقِيَ مُسْتَمِرًّا عَلَى الرِّسَالَةِ، وَهَذَا الْإِرْسَالُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ بَعْدَ تَقَدُّمِ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أَيْ: وَقَعَ مِنْهُمُ الإيمان بعد ما شَاهَدُوا أَعْلَامَ نُبُوَّتِهِ فَمَتَّعَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى حِينِ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ وَمُنْتَهَى أَعْمَارِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

_ (1) . القلم: 49.

قال: قال صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْخَضِرُ هُوَ إِلْيَاسُ» وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَضَعَّفَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَإِذَا رَجُلٌ فِي الْوَادِي يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْحُومَةِ الْمَغْفُورِ الْمُثَابِ لَهَا فَأَشْرَفْتُ عَلَى الْوَادِي فَإِذَا طُولُهُ ثَمَانُونَ ذِرَاعًا وَأَكْثَرُ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَسٌ خَادِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْنَ هُوَ؟ فَقُلْتُ: هُوَ ذَا يسمع كلامك، قال: فأته وأقرئه السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ أَخُوكَ إِلْيَاسُ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَجَاءَ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَعَدَا يَتَحَدَّثَانِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِنَّمَا آكُلُ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمًا وَهَذَا يَوْمُ فِطْرِي فَآكُلُ أَنَا وَأَنْتَ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمَا الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزٌ وَحُوتٌ وَكَرَفْسٌ، فَأَكَلَا وَأَطْعَمَانِي وَصَلَّيَا الْعَصْرَ ثُمَّ وَدَّعَهُ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ مَرَّ عَلَى السَّحَابِ نَحْوَ السَّمَاءِ» . قَالَ الذَّهَبِيُّ مُتَعَقِّبًا لِتَصْحِيحِ الْحَاكِمِ لَهُ: بَلْ مَوْضُوعٌ قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ وَضَعَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَتَدْعُونَ بَعْلًا قَالَ: صَنَمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قَالَ: نَحْنُ آلُ مُحَمَّدٍ آلُ يَاسِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ يُونُسَ إِلَى أَهْلِ قَرْيَتِهِ فَرَدُّوا عَلَيْهِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ فَامْتَنَعُوا مِنْهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِنِّي مُرْسِلٌ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فَأُخْرِجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَأَعْلَمَ قَوْمَهُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ مِنْ عَذَابِهِ إِيَّاهُمْ، فَقَالُوا ارْمُقُوهُ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَهُوَ وَاللَّهِ كَائِنٌ مَا وَعَدَكُمْ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُعِدُوا بِالْعَذَابِ فِي صَبِيحَتِهَا أَدْلَجَ فَرَآهُ الْقَوْمُ فَحَذِرُوا، فَخَرَجُوا مِنَ الْقَرْيَةِ إِلَى بَرَازٍ مِنْ أَرْضِهِمْ وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ دَابَّةٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ وَأَنَابُوا وَاسْتَقَالُوا فَأَقَالَهُمُ اللَّهُ، وَانْتَظَرَ يُونُسُ الْخَبَرَ عَنِ الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا حَتَّى مَرَّ بِهِ مَارٌّ، فَقَالَ مَا فَعَلَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، قَالَ: إِنَّ نبيهم لما خرج من بني أَظْهُرِهِمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ صَدَقَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَخَرَجُوا مِنْ قَرْيَتِهِمْ إِلَى بَرَازٍ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذَاتِ وَلَدٍ وَوَلَدِهَا ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ وَتَابُوا إِلَيْهِ، فَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ وَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَقَالَ يُونُسُ عِنْدَ ذَلِكَ: لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ كَذَّابًا أَبَدًا وَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ على قصته وما روي فيها في سُورَةِ يُونُسَ فَلَا نُكَرِّرُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَساهَمَ قَالَ: اقْتَرَعَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ قَالَ: الْمَقْرُوعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ مُلِيمٌ قَالَ: مُسِيءٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَأَحْمَدُ، فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قَالَ: مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ قَالَ: أَلْقَيْنَاهُ بِالسَّاحِلِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ قَالَ: الْقَرْعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْيَقْطِينُ كُلُّ شَيْءٍ يَذْهَبُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نَبَذَهُ الْحُوتُ، ثُمَّ تَلَا: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِسَالَتَهُ كَانَتْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ: وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ

[سورة الصافات (37) : الآيات 149 إلى 182]

قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قَالَ: يَزِيدُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَزِيدُونَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ بِضْعَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ في هذا كثير فائدة. [سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 182] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) لَمَّا كَانَتْ قُرَيْشٌ، وَقَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِفْتَائِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، فَقَالَ: فَاسْتَفْتِهِمْ يَا مُحَمَّدُ: أَيِ اسْتَخْبِرْهُمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَيْ: كَيْفَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ عَلَى تَقْدِيرِ صِدْقٍ مَا زَعَمُوهُ مِنَ الْكَذِبِ أَدْنَى الْجِنْسَيْنِ وَأَوْضَعَهُمَا وَهُوَ الْإِنَاثُ، وَلَهُمْ أَعْلَاهُمَا وَأَرْفَعَهُمَا وَهُمُ الذُّكُورُ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا حَيْفٌ فِي القسمة لضعف عقولهم، وسواء إِدْرَاكِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «1» ثُمَّ زَادَ فِي تَوْبِيخِهِمْ، وَتَقْرِيعِهِمْ فَقَالَ: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ فَأَضْرَبَ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ فِي التَّبْكِيتِ وَالتَّهَكُّمِ بِهِمْ، أَيْ: كَيْفَ جَعَلُوهُمْ إِنَاثًا وَهُمْ لَمْ يَحْضُرُوا عِنْدَ خَلْقِنَا لَهُمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «2» فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَلَمْ يَشْهَدُوا، وَلَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِمْ مِنَ السَّمْعِ، وَلَا هُوَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ حَتَّى يَنْسُبُوا إِدْرَاكَهُ إِلَى عُقُولِهِمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ كَذِبِهِمْ فَقَالَ: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا هُوَ مِنَ الْإِفْكِ وَالِافْتِرَاءِ مِنْ دُونِ دَلِيلٍ وَلَا شُبْهَةِ دَلِيلٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَدَ اللَّهُ فِعْلًا مَاضِيًا مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ. وَقُرِئَ بِإِضَافَةِ وَلَدٍ إِلَى اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يَقُولُونَ الملائكة ولد الله، والولد بمعنى

_ (1) . النجم: 21 و 22. (2) . الزخرف: 19.

مَفْعُولٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْمُثَنَّى، وَالْمَجْمُوعُ، وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ تَقْرِيعَهُمْ، وَتَوْبِيخَهُمْ فَقَالَ: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهَا لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَقَدْ حُذِفَ مَعَهَا هَمْزَةُ الْوَصْلِ اسْتِغْنَاءً بِهِ عَنْهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْمَشُ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ تَثْبُتُ ابْتِدَاءً، وَتَسْقُطُ دَرْجًا، وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مَنْوِيًّا قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَحُذِفَ حَرْفُهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَوْ عَلَى أَنِ اصْطَفَى وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ بِالْقَوْلِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْبَدَلِ. فَقَدْ حَكَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ أَنَّ التَّوْبِيخَ يَكُونُ بِاسْتِفْهَامٍ، وَبِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ كَمَا فِي قوله: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا «1» وقيل: هو على إضمار القول. وما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ جُمْلَتَانِ اسْتِفْهَامِيَّتَانِ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا تَعَلُّقٌ بِالْأُخْرَى مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ: اسْتَفْهِمْهُمْ أَوَّلًا عَمَّا اسْتَقَرَّ لَهُمْ وَثَبَتَ؟ اسْتِفْهَامٌ بِإِنْكَارٍ، وَثَانِيًا: اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي حَكَمُوا بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ لِلَّهِ بِالْبَنَاتِ وَهُمُ الْقِسْمُ الَّذِي تَكْرَهُونَهُ، وَلَكُمْ بِالْبَنِينَ وَهُمُ الْقِسْمُ الَّذِي تُحِبُّونَهُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَيْ: تَتَذَكَّرُونَ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَلَا تَعْتَبِرُونَ وَتَتَفَكَّرُونَ فَتَتَذَكَّرُونَ بُطْلَانَ قَوْلِكُمْ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أَيْ: حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى هَذَا الَّذِي تَقُولُونَهُ، وَهُوَ إِضْرَابٌ عَنْ تَوْبِيخٍ إِلَى تَوْبِيخٍ وَانْتِقَالٌ مِنْ تَقْرِيعٍ إِلَى تَقْرِيعٍ. فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ: فَأْتُوا بِحُجَّتِكُمُ الْوَاضِحَةِ عَلَى هَذَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا تَقُولُونَهُ، أَوْ فَأْتُوا بِالْكُتَّابِ الَّذِي يَنْطِقُ لَكُمْ بِالْحُجَّةِ وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهَا وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْجِنَّةِ هُنَا الْمَلَائِكَةُ، قِيلَ لَهُمْ: جِنَّةٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يُرَوْنَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنَّةُ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُمُ الْجِنَّةُ لِأَنَّهُمْ خُزَّانٌ عَلَى الْجِنَانِ. وَالنَّسَبُ: الصِّهْرُ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: قَالُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ: إِنِ اللَّهَ صَاهَرَ الْجِنَّ فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ أَوْلَادِهِمْ قَالَا: وَالْقَائِلُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ الْيَهُودُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: إِنَّ الْقَائِلَ بِذَلِكَ كِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ خَطَبَ إِلَى سَادَاتِ الْجِنِّ فَزَوَّجُوهُ مِنْ سَرَوَاتِ بَنَاتِهِمْ، فَالْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ بَنَاتِ الْجِنِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَشْرَكُوا الشَّيْطَانَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، فَهُوَ النَّسَبُ الَّذِي جَعَلُوهُ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أَيْ: عَلِمُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ يُحْضَرُونَ النَّارَ وَيُعَذَّبُونَ فِيهَا. وَقِيلَ: عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أَنَّهُمْ أَنْفُسَهُمْ يَحْضُرُونَ لِلْحِسَابِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْإِحْضَارَ إِذَا أطلق فالمراد لعذاب. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أَنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ. ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ فَقَالَ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أَوْ هُوَ حِكَايَةٌ لِتَنْزِيهِ الْمُلْكِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ بَرِيئُونَ عَنْ أَنْ يَصِفُوا اللَّهَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ قُرِئَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا وَمَعْنَاهُمَا مَا بَيَّنَاهُ قَرِيبًا. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَحْضَرِينَ، أَيْ: إِنَّهُمْ يُحْضَرُونَ النَّارَ إِلَّا مَنْ أَخْلَصَ، فَيَكُونُ مُتَّصِلًا لَا مُنْقَطِعًا، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ جُمْلَةُ التَّسْبِيحِ مُعْتَرِضَةً. ثُمَّ خَاطَبَ الْكُفَّارُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ كُفَّارُ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ فَقَالَ: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ أَيْ: فَإِنَّكُمْ وَآلِهَتَكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَ من دون الله لستم

_ (1) . الأحقاف: 20. [.....]

بفاتنين على الله بإفساد عباده وإضلالهم، وعلى متعلقة بفاتنين، وَالْوَاوُ فِي وَمَا تَعْبُدُونَ إِمَّا لِلْعَطْفِ عَلَى اسْمِ إِنَّ، أَوْ هُوَ بِمَعْنَى مَعَ، وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: فَإِنَّكُمْ وَالَّذِي تَعْبُدُونَ، أَوْ وَعِبَادَتَكُمْ، وَمَعْنَى فَاتِنِينَ مُضِلِّينَ، يُقَالُ فَتَنْتُ الرجل وأفتنته، ويقال فتنه على الشَّيْءِ وَبِالشَّيْءِ كَمَا يُقَالُ أَضَلَّهُ عَلَى الشَّيْءِ وَأَضَلَّهُ بِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ فَتَنْتُهُ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ أَفْتَنْتُهُ، وَيُقَالُ فَتَنَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ امْرَأَتَهُ: أَيْ أَفْسَدَهَا عَلَيْهِ، فَالْفِتْنَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِضْلَالِ وَالْإِفْسَادِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ مَا أَنْتُمْ بِمُضِلِّينَ أَحَدًا بِآلِهَتِكُمْ إِلَّا مَنْ قَدَرَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَصْلَى الْجَحِيمَ، وما في ما أَنْتُمْ نافية وأَنْتُمْ خِطَابٌ لَهُمْ وَلِمَنْ يَعْبُدُونَهُ عَلَى التَّغْلِيبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَهْلُ التَّفْسِيرِ مُجْمِعُونَ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ الْمَعْنَى: مَا أَنْتُمْ بِمُضِلِّينَ أَحَدًا إِلَّا مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ أَنْ يَضِلَّ، ومنه قول الشاعر: فردّ بنعمته كَيْدَهُ ... عَلَيْهِ وَكَانَ لَنَا فَاتِنًا أَيْ: مُضِلًّا إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ صالِ بِكَسْرِ اللَّامِ لِأَنَّهُ مَنْقُوصٌ مُضَافٌ حُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَحُمِلَ عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَأُفْرِدَ كَمَا أُفْرِدَ هُوَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِضَمِّ اللَّامِ مع واو بعدها، وروي عنهما أنهما قرءا بِضَمِّ اللَّامِ بِدُونِ وَاوٍ. فَأَمَّا مَعَ الْوَاوِ فَعَلَى أَنَّهُ جَمْعُ سَلَامَةٍ بِالْوَاوِ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَحُذِفَتْ نُونُ الْجَمْعِ لِلْإِضَافَةِ، وَأَمَّا بِدُونِ الْوَاوِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَإِنَّمَا حُذِفَتِ الْوَاوُ خَطًّا كَمَا حُذِفَتْ لَفْظًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا، وَحَقُّهُ عَلَى هَذَا كَسْرُ اللَّامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَجَمَاعَةُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَحْنٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ هَذَا قَاضِ الْمَدِينَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ وَمَا يَعْبُدُونَهُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِضْلَالِ أَحَدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا يُصِرُّ عَلَى الْكُفْرِ مَنْ سَبَقَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِالشَّقَاوَةِ، وَإِنَّهُ مِمَّنْ يَصْلَى النَّارَ: أَيْ: يَدْخُلُهَا، ثُمَّ قَالَ الْمَلَائِكَةُ مخبرين للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَفِي الْكَلَامِ حذف، والتقدير: وما منا من أَحَدٌ، أَوْ وَمَا مِنَّا مَلَكٌ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: وَمَا مَنَّا إِلَّا مَنْ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، رَجَّحَ الْبَصْرِيُّونَ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ، وَرَجَّحَ الْكُوفِيُّونَ الثَّانِيَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ وَفِيهِ مُضْمَرٌ. الْمَعْنَى وَمَا مِنَّا مَلَكٌ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ. ثُمَّ قَالُوا: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أَيْ: فِي مَوَاقِفِ الطَّاعَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ صَفُّوا أَقْدَامَهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: صُفُوفُ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ كَصُفُوفِ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أَيِ: الْمُنَزِّهُونَ لِلَّهِ الْمُقَدِّسُونَ لَهُ عَمَّا أَضَافَهُ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، وَقِيلَ: الْمُصَلُّونَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمُ الْمُسَبِّحُونَ مَجْمُوعُ التَّسْبِيحِ بِاللِّسَانِ وَبِالصَّلَاةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ هِيَ صِفَاتُ الْمَلَائِكَةِ، وَلَيْسُوا كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ الْكُفَّارُ مِنْ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ هَذَا رُجُوعٌ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ: كَانُوا قَبْلَ المبعث المحمّدي إذا عيروا بِالْجَهْلِ قَالُوا: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أَيْ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أَيْ: لَأَخْلَصْنَا الْعِبَادَةَ لَهُ وَلَمْ نَكْفُرْ بِهِ، وَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانُوا هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَفِيهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ كَانَ كَفَّارُ الْعَرَبِ لَيَقُولُونَ ... إِلَخْ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَكَفَرُوا بِهِ هِيَ الْفَصِيحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى

مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ فِي الْكَلَامِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقْدِيرُهُ فَجَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ بِالذِّكْرِ فَكَفَرُوا بِهِ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ مِنْهُمْ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَيْ: عَاقِبَةَ كُفْرِهِمْ وَمَغَبَّتَهُ، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ شَدِيدٌ، وَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِلْوَعِيدِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ عَلَى الْكُفَّارِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَنَى بِالْكَلِمَةِ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا بِالسَّعَادَةِ لَهُمْ، وَالْأُولَى تَفْسِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِمَا هُوَ مَذْكُورٌ هُنَا، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فهذه هي الْكَلِمَةُ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا وَهَذَا تَفْسِيرٌ لَهَا، وَالْمُرَادُ بِجُنْدِ اللَّهِ حِزْبُهُ وَهُمُ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ. قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: جَاءَ هُنَا عَلَى الْجَمْعِ: يَعْنِي قَوْلَهُ: هُمُ الْغالِبُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ، وَهَذَا الْوَعْدُ لَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالْغَلَبَةِ لَا يُنَافِيهِ انْهِزَامُهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ، وَغَلَبَةُ الْكُفَّارِ لَهُمْ، فَإِنَّ الْغَالِبَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ هُوَ انْتِصَارُهُمْ عَلَى الأعداء، وغلبتهم لَهُمْ، فَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، عَلَى أَنَّ الْعَاقِبَةَ الْمَحْمُودَةَ لَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ مَوْطِنٍ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَالْإِغْمَاضِ عَمَّا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنَ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ فَقَالَ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ أَيْ: أَعْرِضْ عَنْهُمْ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهِيَ مُدَّةُ الْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ. قَالَ السُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ: حَتَّى نَأْمُرَكَ بِالْقِتَالِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَى الْمَوْتِ، وَقِيلَ: إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَقِيلَ: إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَيْ: وَأَبْصِرْهُمْ إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِبْصَارُ، وَعَبَّرَ بِالْإِبْصَارِ عَنْ قُرْبِ الْأَمْرِ: أَيْ: فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ عَنْ قَرِيبٍ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ هَدَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ كَانُوا يَقُولُونَ مِنْ فَرْطِ تَكْذِيبِهِمْ: مَتَى هَذَا الْعَذَابُ؟ فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ أَيْ: إِذَا نَزَلَ عَذَابُ اللَّهِ لَهُمْ بِفَنَائِهِمْ، وَالسَّاحَةُ فِي اللُّغَةِ: فِنَاءُ الدَّارِ الْوَاسِعِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ وَنَزَلَ بِهِمْ سَوَاءٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَكَانَ عَذَابُ هَؤُلَاءِ بِالْقَتْلِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ نُزُولُ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِمْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «نَزَلَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ قَائِمٌ مُقَامَ الْفَاعِلِ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أَيْ: بِئْسَ صَبَاحُ الَّذِينَ أُنْذِرُوا بِالْعَذَابِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: صَبَاحُهُمْ. وَخَصَّ الصَّبَاحَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعَذَابَ كَانَ يَأْتِيهِمْ فِيهِ. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ مَا سَبَقَ تَأْكِيدًا لِلْوَعْدِ بِالْعَذَابِ فَقَالَ: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ وَحَذَفَ مَفْعُولَ أَبْصِرْ هَاهُنَا وَذَكَرَهُ أَوَّلًا إِمَّا لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ فَتَرَكَهُ هُنَا اخْتِصَارًا، أَوْ قَصْدًا إِلَى التَّعْمِيمِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَا يُبْصِرُهُ مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِهِمْ لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُرَادُ بِهَا أَحْوَالُ الْقِيَامَةِ، وَالْجُمْلَةُ الْأُولَى الْمُرَادُ بِهَا عَذَابُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ، بَلْ مِنْ بَابِ التَّأْسِيسِ. ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عَنْ قَبِيحِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ فَقَالَ: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ الْعِزَّةُ: الْغَلَبَةُ وَالْقُوَّةُ، وَالْمُرَادُ تَنْزِيهُهُ عَنْ كُلِّ مَا يَصِفُونَهُ بِهِ مما لا يليق بجنابه الشريف، وربّ الْعِزَّةِ بَدَلٌ مِنْ رَبِّكَ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَشْرِيفِ رُسُلِهِ وَتَكْرِيمِهِمْ فَقَالَ: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ أي: الذين أرسلهم

_ (1) . المجادلة: 21.

إِلَى عِبَادِهِ وَبَلَّغُوا رِسَالَاتِهِ، وَهُوَ مِنَ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ التَّحِيَّةُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَمْنٌ لَهُمْ وَسَلَامَةٌ مِنَ الْمَكَارِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إِرْشَادٌ لِعِبَادِهِ إِلَى حَمْدِهِ عَلَى إِرْسَالِ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَتَعْلِيمٌ لَهُمْ كَيْفَ يَصْنَعُونَ عِنْدَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا يُثْنُونَ عَلَيْهِ بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْحَمْدُ عَلَى هَلَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَنَصْرِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ حَمْدٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ كَمَا يُفِيدُهُ حَذْفُ الْمَحْمُودِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ حَذْفَهُ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَالْحَمْدُ: هُوَ الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ بِقَصْدِ التَّعْظِيمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً قَالَ: زَعَمَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ وَإِبْلِيسُ أَخَوَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ قَالَ: فَإِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا تَعْبُدُونَ: يَعْنِي الْآلِهَةَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ قَالَ: بِمُضِلِّينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ يَقُولُ: إِلَّا مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِي أَنَّهُ سَيَصْلَى الْجَحِيمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ يَقُولُ: إِنَّكُمْ لَا تَضِلُّونَ أَنْتُمْ وَلَا أُضِلُّ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ قَضَيْتُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَالِ الْجَحِيمِ. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: لَا تُفْتَنُونَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فِي السَّمَاءِ مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ، وَذَلِكَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ» . وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ، ثُمَّ قَرَأَ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «إن من السموات لَسَمَاءٌ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ أَوْ قَدَمَاهُ قَائِمًا أَوْ سَاجِدًا، ثُمَّ قَرَأَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، إِنَّ السَّمَاءَ أَطَّتْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَمَرَ الصَّحَابَةَ أَنْ يَصُفُّوا كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فَقَالُوا: وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ: يُقِيمُونَ الصُّفُوفَ الْمُقَدَّمَةَ «1» ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ قَالَ: لَمَّا جَاءَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ذِكْرُ الْأَوَّلِينَ، وَعِلْمُ الآخرين كفروا بالكتاب

_ (1) . في صحيح مسلم (430) : يتمون الصفوف الأول.

فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «صَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَقَدْ خَرَجُوا بِالْمَسَاحِي، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذِرِينَ» الْحَدِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَلَّمْتُمْ عَلَى الْمُرْسَلِينَ فَسَلِّمُوا عَلَيَّ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَوَّامِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن أبي سعيد عن رسول الله أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنَّا نَعْرِفُ انْصِرَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: سُبْحانَ رَبِّكَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أبي سعيد. وأخرج الطبراني عن زيد ابن أَرْقَمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «فَقَدِ اكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ» . وَأَخْرَجَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ فِي تَرْغِيبِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوَهُ. وَإِلَى هُنَا انْتَهَى الْجُزْءُ الثَّالِثُ «1» مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُبَارَكِ بِمَعُونَةِ اللَّهِ، المقبول بفضل الله، بقلم مصنفه «مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيِّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا» ، فِي نَهَارِ الْخَمِيسِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ الْحَرَامِ مِنْ شُهُورٍ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ وَأَلْفٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، حَامِدًا لِلَّهِ شَاكِرًا لَهُ مُصَلِّيًا مُسَلِّمًا عَلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ، وَيَتْلُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَفْسِيرُ سُورَةِ ص. انْتَهَى سَمَاعُ هَذَا الْجُزْءِ عَلَى مُؤَلِّفِهِ حَفِظَهُ اللَّهُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ غُرَّةَ شَهْرِ جَمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ 1230 هـ. كَتَبَهُ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا

_ (1) . (من تجزئة المؤلف) .

سورة ص

سورة ص آياتها ست وثمانون، وقيل خمس وثمانون، وقيل ثمان وثمانون آية، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالنَّحَّاسُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ «ص» بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَشْتُمُ آلِهَتَنَا، وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ ... وَيَقُولُ وَيَقُولُ ... فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ فَنَهَيْتَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْرُ مَجْلِسِ رَجُلٍ، فَخَشِيَ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَيَكُونُ أَرْقَى عَلَيْهِ- فَوَثَبَ فَجَلَسَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَلَمْ يَجِدْ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ الْبَابِ، فقال أَبُو طَالِبٍ: أَيِ ابْنَ أَخِي مَا بَالُ قَوْمِكِ يَشْكُونَكَ؟ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ. وَتَقُولُ وتقول ... قال: وأكثروا عليه من القول، وتلكم رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا عَمِّ إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ، فَفَزِعُوا لِكَلِمَتِهِ وَلِقَوْلِهِ: فَقَالَ الْقَوْمُ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ نَعَمْ وَأَبِيكَ عَشْرًا، قَالُوا فَمَا هِيَ؟ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَامُوا فَزِعِينَ يَنْفُضُونَ ثِيَابَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ فَنَزَلَ فِيهِمْ: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ إِلَى قوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) قَوْلُهُ: ص قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ الدَّالِ كَسَائِرِ حُرُوفِ التَّهَجِّي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَإِنَّهَا سَاكِنَةُ الْأَوَاخِرِ عَلَى الْوَقْفِ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَنَصْرُ بن عاصم، وابن أبي عبلة، وأبو السمال بِكَسْرِ الدَّالِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَوَجْهُ الْكَسْرِ أَنَّهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَقِيلَ: وَجْهُ الْكَسْرِ أَنَّهُ مِنْ صَادَى يُصَادِي إِذَا عَارَضَ- وَالْمَعْنَى صَادِ الْقُرْآنَ بِعَمَلِكَ: أَيْ عَارِضْهُ بِعَمَلِكَ وَقَابِلْهُ فَاعْمَلْ بِهِ، وَهَذَا حَكَاهُ النَّحَّاسُ عَنِ

الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَالَ: إِنَّهُ فَسَّرَ قِرَاءَتَهُ هَذِهِ بِهَذَا، وَعَنْهُ أَنَّ الْمَعْنَى: اتْلُهُ وَتَعَرَّضْ لِقِرَاءَتِهِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: صَادَ بِفَتْحِ الدَّالِ، وَالْفَتْحُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: صَادَ مُحَمَّدٌ قُلُوبَ الْخَلْقِ وَاسْتَمَالَهَا حَتَّى آمَنُوا بِهِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ «صَادِ» بِالْكَسْرِ وَالتَّنْوِينِ تَشْبِيهًا لِهَذَا الْحَرْفِ بِمَا هُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنَ الأصوات. وقرأ هارون الأعور وابن السميقع «صَادُ» بِالضَّمِّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى الْبِنَاءِ نَحْوُ مُنْذُ وَحَيْثُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى «صَادْ» فَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّهُ. وَقَالَ عطاء: صدق محمّد. وقال سعيد ابن جُبَيْرٍ: هُوَ بَحْرٌ يُحْيِي اللَّهُ بِهِ الْمَوْتَى بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ مِفْتَاحُ اسْمِ اللَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ فَاتِحَةُ السُّورَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ كَمَا قَدَّمْنَا فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قِيلَ: وَهُوَ إِمَّا اسْمٌ لِلْحُرُوفِ مَسْرُودًا عَلَى نَمَطِ التَّعَبُّدِ، أَوِ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ منصوب إضمار اذْكُرْ أَوِ اقْرَأْ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ هِيَ وَاوُ الْقَسَمِ، وَالْإِقْسَامُ بِالْقُرْآنِ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِ قَدْرِهِ وَعُلُوِّ مَحَلِّهِ، وَمَعْنَى ذِي الذِّكْرِ أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الذِّكْرِ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَى ذِي الذِّكْرِ ذِي الْبَيَانِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذِي الشَّرَفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ «1» أَيْ: شَرَفُكُمْ، وَقِيلَ: أَيْ ذِي الْمَوْعِظَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَابِ هَذَا الْقِسْمِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ غَيْرَ الْفَرَّاءِ: إِنَّهُ قَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا نَجِدُهُ مُسْتَقِيمًا لِتَأَخُّرِهِ جِدًّا عَنْ قَوْلِهِ: وَالْقُرْآنِ وَرَجَّحَ هُوَ وَثَعْلَبٌ أَنَّ الْجَوَابَ قَوْلُهُ: كَمْ أَهْلَكْنا وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْجَوَابُ هُوَ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ وَقِيلَ: هُوَ صَادْ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَقٌّ، فَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَالْقُرْآنِ كَمَا تَقُولُ حَقًّا وَاللَّهِ وَجَبَ وَاللَّهِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ثَعْلَبٍ وَالْفَرَّاءِ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ يَجُوزُ تَقَدُّمُهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ لَتُبْعَثُنَّ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُهُ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُ الْكُفَّارُ، وَالْقَوْلُ بِالْحَذْفِ أَوْلَى. وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: ص مُقْسَمٌ بِهِ، وَعَلَى هذا القول تكون الواو في «القرآن» لِلْعَطْفِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِقْسَامُ بِالْقُرْآنِ دَالًّا عَلَى صِدْقِهِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلرَّيْبِ قَالَ سُبْحَانَهُ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ فَأَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ قَالَ لَا رَيْبَ فِيهِ قَطْعًا، وَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ قَبُولِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ لِرَيْبٍ فِيهِ. بَلْ هُمْ فِي عِزَّةٍ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ: أَيْ تَكَبُّرٍ وَتَجَبُّرٍ. وَشِقَاقٍ: أَيْ وَامْتِنَاعٍ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَالْعِزَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ، يُقَالُ: مَنْ عَزَّ بَزَّ أَيْ: مَنْ غَلَبَ سَلَبَ، وَمِنْهُ: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أَيْ: غَلَبَنِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : يَعُزُّ عَلَى الطَّرِيقِ بِمَنْكِبَيْهِ ... كَمَا ابْتَرَكَ الْخَلِيعُ عَلَى الْقِدَاحِ

_ (1) . الأنبياء: 10. (2) . هو جرير.

وَالشِّقَاقُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّقِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. ثُمَّ خَوَّفَهُمْ سُبْحَانَهُ وَهَدَّدَهُمْ بِمَا فَعَلَهُ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ فَقَالَ: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يَعْنِي الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ الْمُهْلَكَةَ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، أَيْ: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَمْنَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَشَدَّ قوّة وأكثر أموالا، وكم: هِيَ الْخَبَرِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَهِيَ فِي محل نصب بأهلكنا على أنها مفعول به، ومن قَرْنٍ: تَمْيِيزٌ، وَ «مِنْ» فِي «مِنْ قَبْلِهِمْ» هِيَ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ النِّدَاءُ هُنَا: هُوَ نِدَاءُ الِاسْتِغَاثَةِ مِنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَلَيْسَ الْحِينُ حِينَ مَنَاصٍ. قَالَ الْحَسَنُ: نَادَوْا بِالتَّوْبَةِ وَلَيْسَ حِينَ التَّوْبَةِ وَلَا حِينَ يَنْفَعُ الْعَمَلُ. وَالْمَنَاصُ: مَصْدَرُ نَاصَ يَنُوصُ، وَهُوَ الْفَوْتُ وَالتَّأَخُّرُ. وَلَاتَ: بِمَعْنَى لَيْسَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ. وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: هِيَ لَا التي بمعنى لي زيدت عليه التَّاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: رُبَّ وَرُبَّتَ، وَثَمَّ وَثَمَّتَ قَالَ الْفَرَّاءُ: النَّوْصُ التَّأَخُّرُ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَمِنْ ذِكْرِ لَيْلَى إِذْ نَأَتْكَ تَنُوصُ قَالَ: يُقَالُ نَاصَ عَنْ قَرْنِهِ يَنُوصُ نَوْصًا: أَيْ فَرَّ وَزَاغَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ نَاصَ يَنُوصُ: إِذَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَنَاصٌ، أَيْ: عَلَيْكُمْ بِالْفِرَارِ وَالْهَزِيمَةِ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ قَالُوا مَنَاصٌ، فَقَالَ اللَّهُ وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَاتَ مُشَبَّهَةٌ بِلَيَسَ، وَالِاسْمُ فِيهَا مُضْمَرٌ، أَيْ: لَيْسَ حِينُنَا حِينَ مَنَاصٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ وَلَيْسَ أَوَانُنَا. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: وَالْقَوْلُ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْكِسَائِيِّ بِالْهَاءِ، وَبِهِ قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالْأَخْفَشُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ: وَالتَّاءُ تُكْتَبُ مُنْقَطِعَةً عَنْ حِينَ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي الْمَصَاحِفِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تكتب متصلة بحين، فيقال: «ولا تحين» ومنه قول أبي وجرة السَّعْدِيِّ: الْعَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ ... وَالْمُطْعِمُونَ زَمَانَ مَا مِنْ مُطْعِمِ وَقَدْ يُسْتَغْنَى بِحِينَ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لَاتَ حِينًا ... وَأَمْسَى الشَّيْبُ قَدْ قَطَعَ الْقَرِينَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ نَجِدِ الْعَرَبَ تَزِيدُ هَذِهِ التَّاءَ إِلَّا فِي حِينَ وَأَوَانَ وَالْآنَ. قُلْتُ: بَلْ قَدْ يَزِيدُونَهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَلَتَعْرِفُنَّ خَلَائِقًا مَشْمُولَةً ... وَلَتَنْدَمُنَّ وَلَاتَ سَاعَةِ مَنْدَمِ وَقَدْ أَنْشَدَ الْفَرَّاءُ هَذَا الْبَيْتَ مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخْفِضُ بِهَا، وَجُمْلَةُ: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ نَادَوْا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَاتَ» بِفَتْحِ التَّاءِ، وَقُرِئَ «لَاتِ» بِالْكَسْرِ كَجَيْرِ وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أَيْ: عَجِبَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، أَيْ: رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُنْذِرُهُمْ بِالْعَذَابِ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الكفر، وأن وَمَا فِي حَيِّزِهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنْ أَنْ جَاءَهُمْ، وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ لَمَّا شَاهَدُوا مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْخَارِجَةِ

عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، أَيْ: هَذَا الْمُدَّعِي لِلرِّسَالَةِ سَاحِرٌ فِيمَا يُظْهِرُهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ كَذَّابٌ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ. قِيلَ: وَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِإِظْهَارِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ مَا قَالُوهُ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى مِثْلِهِ إِلَّا الْمُتَوَغِّلُونَ فِي الْكُفْرِ. ثُمَّ أَنْكَرُوا مَا جَاءَ به صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَمَا نَفَاهُ مِنَ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ فَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً أَيْ: صَيَّرَهَا إِلَهًا وَاحِدًا وَقَصَرَهَا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ أَيْ: لَأَمْرٌ بَالِغٌ فِي الْعَجَبِ إِلَى الْغَايَةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَجِيبُ الْأَمْرُ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْعُجَابُ بِالضَّمِّ وَالْعُجَّابُ بِالتَّشْدِيدِ أَكْثَرُ مِنْهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «عُجَابٌ» مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالسُّلَمِيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَابْنُ مِقْسَمٍ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عُجَابٌ يَعْنِي بِالتَّخْفِيفِ لُغَةُ أَزْدِ شَنُوءَةَ، قِيلَ: وَالْعُجَابُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْعَجَبِ، كَمَا يُقَالُ الطَّوِيلُ: الَّذِي فِيهِ طُولٌ، وَالطِّوَالُ الَّذِي قَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ الطُّولِ وَكَلَامُ الْجَوْهَرِيِّ يُفِيدُ اخْتِصَاصَ الْمُبَالَغَةِ بِعُجَّابٍ مُشَدَّدِ الْجِيمِ لَا بِالْمُخَفَّفِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ الْمُرَادُ بِالْمَلَأِ: الْأَشْرَافُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَيِ: انْطَلَقُوا مِنْ مَجْلِسِهِمُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَائِلِينَ أَنِ امْشُوا أَيْ: قَائِلِينَ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا امْضُوا عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ وَلَا تَدْخُلُوا فِي دِينِهِ وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أَيِ: اثْبُتُوا عَلَى عِبَادَتِهَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَانْطَلَقَ الْأَشْرَافُ مِنْهُمْ فَقَالُوا لِلْعَوَامِّ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ، وَ «أَنْ» فِي قَوْلِهِ: أَنِ امْشُوا هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِلْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ، أَوْ لِقَوْلِهِ: وَانْطَلَقَ لِأَنَّهُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مَعْمُولَةً لِلْمُقَدَّرِ، أَوْ لِلْمَذْكُورِ، أَيْ: بِأَنِ امْشُوا. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالِانْطِلَاقِ: الِانْدِفَاعُ فِي الْقَوْلِ، وَامْشُوا مِنْ مَشَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا كَثُرَتْ وِلَادَتُهَا، أَيِ: اجْتَمَعُوا وَأَكْثَرُوا، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَخِلَافُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِانْطِلَاقُ وَالْمَشْيُ بِحَقِيقَتِهِمَا، وَخِلَافُ مَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ، أَيْ: يُرِيدُهُ مُحَمَّدٌ بِنَا وَبِآلِهَتِنَا، وَيَوَدُّ تَمَامَهُ ليعلو علينا، ونكون له أتباعا فيتحكم بِمَا يُرِيدُ، فَيَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ خَارِجًا مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ مِنْهُ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ يُرِيدُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمَا أَرَادَهُ فَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَاصْبِرُوا عَلَى عِبَادَةِ آلِهَتِكُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ دِينَكُمْ لَشَيْءٌ يُرَادُ، أَيْ: يُطْلَبُ لِيُؤْخَذَ مِنْكُمْ وَتُغْلَبُوا عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ أَيْ: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ مِنَ التَّوْحِيدِ فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ. وَهِيَ مِلَّةُ النَّصْرَانِيَّةِ فَإِنَّهَا آخِرُ الْمِلَلِ قَبْلَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، كَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ، وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنُونَ مِلَّةَ قُرَيْشٍ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى مَا سَمِعْنَا: أَنَّ هَذَا يَكُونُ آخر الزمان. وقيل المعنى: ما سمعناه مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ أَيْ: مَا هَذَا إِلَّا كَذِبٌ اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ وَافْتَرَاهُ. ثُمَّ اسْتَنْكَرُوا أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ رَسُولَهُ بِمَزِيَّةِ النُّبُوَّةِ دُونَهُمْ فَقَالُوا: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَنَحْنُ الرُّؤَسَاءُ وَالْأَشْرَافُ؟ قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالُوا كَيْفَ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنِنَا وَنَحْنُ أَكْبَرُ سِنًّا وَأَعْظَمُ شَرَفًا مِنْهُ؟ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» فَأَنْكَرُوا أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ. وَلَمَّا ذَكَرَ اسْتِنْكَارَهُمْ لِنُزُولِ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

_ (1) . الزخرف: 31.

دُونَهُمْ بَيَّنَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَرَكُوا تَصْدِيقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ، فَقَالَ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أَيْ: مِنَ الْقُرْآنِ، أَوِ الْوَحْيِ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ الْمُوجِبِ لِتَصْدِيقِهِ، وَإِهْمَالِهِمْ لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أَيْ: بَلِ السَّبَبُ أَنَّهُمْ لَمْ يَذُوقُوا عَذَابِي فَاغْتَرُّوا بِطُولِ الْمُهْلَةِ، وَلَوْ ذَاقُوا عَذَابِي عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ لَصَدَّقُوا مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَشُكُّوا فِيهِ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَيْ: مَفَاتِيحُ نِعَمِ رَبِّكَ وَهِيَ النُّبُوَّةُ وَمَا هُوَ دُونَهَا مِنَ النِّعَمِ حَتَّى يُعْطُوهَا من شاؤوا، فَمَا لَهُمْ وَلِإِنْكَارِ مَا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ وَاخْتَارَهُ لَهُ وَاصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ. وَالْمَعْنَى: بَلْ أَعِنْدَهُمْ، لِأَنَّ أَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ. وَالْعَزِيزُ: الْغَالِبُ الْقَاهِرُ. وَالْوَهَّابُ: الْمُعْطِي بِغَيْرِ حِسَابٍ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أَيْ: بَلْ أَلَهُمْ مُلْكُ هذه الأشياء حتى يعطوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، وَيَعْتَرِضُوا عَلَى إِعْطَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ لِمَنْ شَاءَ، وَقَوْلُهُ: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْعَدُوا فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوصِلُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ أو إلى الْعَرْشِ حَتَّى يَحْكُمُوا بِمَا يُرِيدُونَ مِنْ عَطَاءٍ وَمَنْعٍ، وَيُدَبِّرُوا أَمْرَ الْعَالَمِ بِمَا يَشْتَهُونَ، أَوْ فَلْيَصْعَدُوا، وَلِيَمْنَعُوا الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُزُولِهِمْ بِالْوَحْيِ عَلَى محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والأسباب: أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها. قال مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ «1» قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْأَسْبَابُ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ وَلَكِنْ لَا تُرَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي الْأَسْبابِ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ. وَقِيلَ: فَلْيَعْمَلُوا فِي أَسْبَابِ الْقُوَّةِ إِنْ ظَنُّوا أَنَّهَا مَانِعَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ الْأَسْبَابُ: الْحِبَالُ، يَعْنِي: إِنْ وَجَدُوا حِبَالًا يَصْعَدُونَ فِيهَا إِلَى السَّمَاءِ فَعَلُوا، وَالْأَسْبَابُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ كُلُّ شَيْءٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ كَائِنًا مَا كَانَ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَتَعْجِيزٌ لَهُمْ جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنصر عليهم والظفر بهم، وجند: مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ جُنْدٌ، يَعْنِي الْكُفَّارَ مَهْزُومٌ مَكْسُورٌ عَمَّا قَرِيبٍ، فَلَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَظُنَّ أَنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا يُضْمِرُونَهُ بِكَ مِنَ الْكَيْدِ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا هُنالِكَ هي صفة لجند لِإِفَادَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّحْقِيرِ، أَيْ: جُنْدٌ أَيُّ جُنْدٍ. وَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ، يُقَالُ: هَزَمْتَ الْجَيْشَ كَسَرْتَهُ، وَتَهَزَّمَتِ الْقَرْيَةُ: إِذَا تَكَسَّرَتْ، وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ وَهُمْ جُنْدٌ مِنَ الْأَحْزَابِ مَهْزُومُونَ، فَلَا تَحْزَنْ لِعِزَّتِهِمْ وَشِقَاقِهِمْ، فَإِنِّي أَسْلُبُ عِزَّهُمْ وَأَهْزِمُ جَمْعَهُمْ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ وَلِلَّهِ الحمد في يوم بَدْرٍ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ مُوَاطِنِ اللَّهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: سُئِلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عباس عن ص فقال:

_ (1) . وصدره: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه.

[سورة ص (38) : الآيات 12 إلى 25]

لَا نَدْرِي مَا هُوَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ص مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قَالَ: ذِي الشَّرَفِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ التَّمِيمِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قَالَ: لَيْسَ بِحِينِ نَزْوٍ وَلَا فِرَارٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ فِي الآية قال: نادوا النداء حين لا يَنْفَعُهُمْ، وَأَنْشَدَ: تَذَكَّرْتُ لَيْلَى لَاتَ حِينَ تَذَكُّرِ ... وَقَدْ بِنْتُ مِنْهَا وَالْمَنَاصُ بِعِيدُ وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: لَيْسَ هَذَا حِينَ زَوَالٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَا حِينَ فِرَارٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ الْآيَةَ قَالَ: نَزَلَتْ حِينَ انْطَلَقَ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَكَلَّمُوهُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ قَالَ: أَبُو جَهْلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ قَالَ: النَّصْرَانِيَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ قَالَ: فِي السَّمَاءِ. [سورة ص (38) : الآيات 12 الى 25] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَمْثَالَهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُمْ وَعَمِلَ عَمَلَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، فَقَالَ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتْ لَهُ أَوْتَادٌ يُعَذِّبُ بِهَا النَّاسَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا غَضِبَ عَلَى أَحَدٍ وَتَدَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَرَأْسَهُ عَلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْأَوْتَادِ: الْجُمُوعُ وَالْجُنُودُ الْكَثِيرَةُ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَوُّونَ أَمْرَهُ وَيَشُدُّونَ سُلْطَانَهُ كَمَا تُقَوِّي الْأَوْتَادُ مَا ضُرِبَتْ عَلَيْهِ، فَالْكَلَامُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ عَلَى هَذَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْعَرَبُ تَقُولُ هُمْ فِي عِزٍّ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ، وَمُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ، يُرِيدُونَ مُلْكًا دَائِمًا شَدِيدًا، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْبَيْتَ مِنْ بُيُوتِ الشِّعْرِ إِنَّمَا يُثَبَّتُ وَيُقَوَّمُ بِالْأَوْتَادِ. وَقِيلَ:

الْمُرَادُ بِالْأَوْتَادِ هُنَا الْبِنَاءُ الْمُحْكَمُ، أَيْ: وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَبْنِيَةِ الْمُحْكَمَةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَالْبُنْيَانُ يُسَمَّى أَوْتَادًا، وَالْأَوْتَادُ: جَمْعُ وَتِدٍ أَفْصَحُهَا فَتْحُ الْوَاوِ وكسر التاء، ويقال وتد بفتحهما وَوَدٌّ بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الدَّالِ وَوَدَتٌ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَيُقَالُ وَتِدٌ وَاتِدٌ مِثْلُ شُغْلٍ شَاغِلٍ وَأَنْشَدَ: لَاقَتْ عَلَى الْمَاءِ جُذَيْلًا وَاتِدًا ... وَلَمْ يَكُنْ يُخْلِفُهَا الْمَوَاعِدَا وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْأَيْكَةُ: الْغَيْضَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَتِهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَمَعْنَى أُولئِكَ الْأَحْزابُ أَنَّهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ هُوَ الرَّجُلُ، وَقُرَيْشٌ وَإِنْ كَانُوا حِزْبًا كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَصَّهُمُ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ هُمْ أَكْثَرُ مِنْهُمْ عَدَدًا، وَأَقْوَى أَبْدَانًا، وَأَوْسَعُ أَمْوَالًا وَأَعْمَارًا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا، وَالْمُبْتَدَأُ قَوْلُهُ: وَعادٌ كَذَا قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ (عَادٌ) وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفَاتٌ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ بَدَلًا مِنَ الْأُمَمِ الْمَذْكُورَةِ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ إِنْ: هِيَ النَّافِيَةُ، وَالْمَعْنَى: مَا كَلُّ حِزْبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْزَابِ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ، لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْحِزْبِ لِرَسُولِهِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ تَكْذِيبٌ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ أَوْ هُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ تَكْذِيبُ كُلِّ حِزْبٍ لِرَسُولِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: مَا كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْأَحْزَابِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ إِلَّا وَقَعَ مِنْهُ تَكْذِيبُ الرُّسُلِ فَحَقَّ عِقابِ أَيْ: فَحَقَّ عَلَيْهِمْ عِقَابِي بِتَكْذِيبِهِمْ، وَمَعْنَى حَقَّ: ثَبَتَ وَوَجَبَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَكَأَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. قَرَأَ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي «عِقَابِ» وَحَذَفَهَا الْبَاقُونَ مُطَابَقَةً لرؤوس الْآيِ وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أَيْ: مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا صَيْحَةً، وَهِيَ النَّفْخَةُ الْكَائِنَةُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: الْمُرَادُ مَنْ عَاصَرَ نَبِيَّنَا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَعَلَى الثَّانِي: الْمُرَادُ كُفَّارُ الْأُمَمِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حُلُولِ ما أعدّ الله لهم من عذاب إِلَّا أَنْ يُنْفَخَ فِي الصُّورِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّيْحَةِ عَذَابٌ يَفْجَؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرِ: صَاحَ الزَّمَانُ بِآلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً ... خَرُّوا لِشِدَّتِهَا عَلَى الْأَذْقَانِ وَجُمْلَةُ مَا لَها مِنْ فَواقٍ فِي مَحَلِّ نَصْبِ صِفَةٍ لصيحة. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَوَاقٍ وَفُوَاقٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا، أَيْ: مَا لَهَا مِنْ رُجُوعٍ، وَالْفَوَاقُ: مَا بَيْنَ حَلْبَتَيِ النَّاقَةِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّجُوعِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَأَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ: أَيْ رَجَعَ إِلَى الصِّحَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: إِنَّ الْفَوَاقَ الرُّجُوعُ. وَقَالَ قَتَادَةُ مَا لَهَا مِنْ مَثْنَوِيَّةٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا لَهَا مِنْ إِفَاقَةٍ، وَقِيلَ مَا لَهَا مِنْ مَرَدٍّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَا لَهَا مِنْ نَظْرَةٍ وَرَاحَةٍ وَإِفَاقَةٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ هِيَ مِيعَادُ عَذَابِهِمْ، فَإِذَا جَاءَتْ لَمْ تَرْجِعْ، وَلَا تُرَدُّ عَنْهُمْ، وَلَا تُصْرَفُ مِنْهُمْ، وَلَا تَتَوَقَّفُ مِقْدَارَ فَوَاقِ نَاقَةٍ، وَهِيَ مَا بَيْنَ حَلْبَتَيِ الْحَالِبِ لَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: حَتَّى إِذَا فِيقَةٌ فِي ضَرْعِهَا اجْتَمَعَتْ ... جَاءَتْ لِتُرْضِعَ شِقَّ النَّفْسِ لَوْ رَضَعَا

وَالْفِيقَةُ اسْمُ اللَّبَنِ الَّذِي يَجْتَمِعُ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَجَمْعُهَا فِيقٌ وَأَفْوَاقٌ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ بِضَمِّ الْفَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَوَاقُ بِفَتْحِ الْفَاءِ الرَّاحَةُ، أَيْ: لَا يُفِيقُونَ فِيهَا كَمَا يُفِيقُ الْمَرِيضُ، وَالْمَغْشِيُّ عَلَيْهِ، وَبِالضَّمِّ الِانْتِظَارُ وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ لَمَّا سَمِعُوا مَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً. وَالْقِطُّ فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ، مِنَ الْقَطِّ، وَهُوَ الْقَطْعُ، وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقِطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلصَّكِّ: قِطٌّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: الْقِطُّ الْكِتَابُ بِالْجَوَائِزِ، وَالْجَمْعُ الْقُطُوطُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ ... بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ وَمَعْنَى يَأْفِقُ: يُصْلِحُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ سُؤَالُهُمْ لِرَبِّهِمْ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ وَحَظَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَقَالَ السُّدِّيُّ: سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَنْ يُمَثِّلَ لَهُمْ مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ لِيَعْلَمُوا حَقِيقَةَ مَا يُوعَدُونَ بِهِ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: الْمَعْنَى عَجِّلْ لَنَا أَرْزَاقَنَا، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: لَمَّا نَزَلَ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ «1» وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ «2» قَالَتْ قُرَيْشٌ: زَعَمْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّا نُؤْتَى كِتَابَنَا بِشِمَالِنَا فَعَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا يَسْمَعُهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَقَالَ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي هَذَا الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ قُرُونِ الضَّلَالَةِ، وَأُمَمِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَسْمَعُهُ زَادَ فِي تَسْلِيَتِهِ بِذِكْرِ قِصَّةِ دَاوُدَ وَمَا بَعْدَهَا. وَمَعْنَى اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ اذْكُرْ قِصَّتَهُ فَإِنَّكَ تَجِدُ فِيهَا مَا تَتَسَلَّى بِهِ، وَالْأَيْدُ: الْقُوَّةُ وَمِنْهُ رَجُلٌ أَيْدٌ: أَيْ قَوِيٌّ، وَتَأَيَّدَ الشَّيْءُ: تَقَوَّى وَالْمُرَادُ مَا كَانَ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَكَانَتْ قُوَّةُ دَاوُدَ عَلَى الْعِبَادَةِ أَتَمَّ قُوَّةٍ، وَمِنْ قُوَّتِهِ مَا أخبرنا به نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَكَانَ يُصَلِّي نِصْفَ اللَّيْلِ وَكَانَ لَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى الْعَدُوَّ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ أَوَّابٌ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ ذَا الْأَيْدِ، وَالْأَوَّابُ: الرَّجَّاعُ عَنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ قَوِيًّا فِي دِينِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُلَّمَا ذَكَرَ ذَنْبَهُ اسْتَغْفَرَ مِنْهُ وَتَابَ عَنْهُ، وَهَذَا دَاخِلٌ تَحْتَ المعنى الأوّل، يقال آب يؤوب: إِذَا رَجَعَ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ أَيْ: يُقَدِّسْنَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيُنَزِّهْنَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَجُمْلَةُ يُسَبِّحْنَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَفِي هَذَا بَيَانُ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْبُرْهَانِ وَالْمُعْجِزَةِ، وَهُوَ تَسْبِيحُ الْجِبَالِ مَعَهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ دَاوُدُ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ ذَكَرَتِ الْجِبَالُ مَعَهُ، وَكَانَ يَفْقَهُ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أُوتِيَ دَاوُدُ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ مَا يَكُونُ لَهُ فِي الْجِبَالِ دَوِيٌّ حَسَنٌ، فَهَذَا مَعْنَى تَسْبِيحِ الْجِبَالِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ مَعْنَى «يُسَبِّحْنَ» يصلين، و «معه» متعلق بسخرنا. وَمَعْنَى «بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ» قَالَ الْكَلْبِيُّ: غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، يُقَالُ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ: إِذَا أَضَاءَتْ، وَذَلِكَ وَقْتَ الضُّحَى. وَأَمَّا شُرُوقُهَا فَطُلُوعُهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: شَرِقَتِ الشَّمْسُ: إِذَا طَلَعَتْ، وَأَشْرَقَتْ: إِذَا أَضَاءَتْ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً معطوف على الجبال، وانتصاب

_ (1) . الحاقة: 19. (2) . الحاقة: 25.

مَحْشُورَةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الطَّيْرِ، أَيْ: وَسَخَّرْنَا الطَّيْرَ حَالَ كَوْنِهَا مَحْشُورَةً، أَيْ: مَجْمُوعَةً إِلَيْهِ تُسَبِّحُ اللَّهَ مَعَهُ، قِيلَ: كَانَتْ تَجْمَعُهَا إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: كَانَتْ تَجْمَعُهَا الرِّيحُ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ دَاوُدَ وَالْجِبَالِ وَالطَّيْرِ رَجَّاعٌ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وقيل: الضمير لداود، أَيْ: لِأَجْلِ تَسْبِيحِ دَاوُدَ مُسَبِّحٌ، فَوَضَعَ أَوَّابٌ مَوْضِعَ مُسَبِّحٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَوَّابَ: الْكَثِيرُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قَوَّيْنَاهُ وَثَبَّتْنَاهُ بِالنَّصْرِ فِي الْمَوَاطِنِ عَلَى أَعْدَائِهِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ مِنْهُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ: بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ الْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ: النُّبُوَّةُ وَالْمَعْرِفَةُ بِكُلِّ مَا يَحْكُمُ بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَدْلُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْعِلْمُ بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ شريح: السنة. والمراد بفصل الْخِطَابِ الْفَصْلُ فِي الْقَضَاءِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ: الشُّهُودُ وَالْإِيمَانُ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ بِهَذَا. وَقِيلَ: هُوَ الْإِيجَازُ بِجَعْلِ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ، وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ لَمَّا مَدَحَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِذِكْرِ هذه القصة الواقعة له لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْعَجِيبَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ مَلَكَيْنِ، جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لِيُنَبِّهَهُ عَلَى التَّوْبَةِ، فَأَتَيَاهُ وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَصْمِ هَاهُنَا الْمَلَكَانِ، وَالْخَصْمُ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ. وَمَعْنَى تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أَتَوْهُ مِنْ أَعْلَى سُورِهِ وَنَزَلُوا إِلَيْهِ، وَالسُّورُ: الْحَائِطُ الْمُرْتَفِعُ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي تَسَوَّرُوا مَعَ كَوْنِهِمُ اثْنَيْنِ نَظَرًا إِلَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ الْخَصْمِ مِنَ الْجَمْعِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر: وخصم غضاب ينفضون لِحَاهُمُ ... كَنَفْضِ الْبَرَاذِينِ الْعِرَابِ الْمَخَالِيَا وَالْمِحْرَابُ: الْغُرْفَةُ لِأَنَّهُمْ تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِيهَا، كَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهُ صَدْرُ الْمَجْلِسِ وَمِنْهُ مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا كَانَا إِنْسِيَّيْنِ وَلَمْ يَكُونَا مَلَكَيْنِ، وَالْعَامِلُ فِي «إِذْ» فِي قَوْلِهِ: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ النبأ: هَلْ أَتَاكَ الْخَبَرُ الْوَاقِعُ فِي وَقْتِ تَسَوُّرِهِمْ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَكِّيٌّ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ أَتَاكَ. وَقِيلَ: مَعْمُولٌ لِلْخَصْمِ. وقيل: معمول المحذوف، أَيْ: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ تَحَاكُمِ الْخَصْمِ. وَقِيلَ: هو معمول لتسوروا. وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ إِنْ أَحَدَ الظَّرْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِمَعْنَى لَمَّا فَفَزِعَ مِنْهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ لَيْلًا فِي غَيْرِ وَقْتِ دُخُولِ الْخُصُومِ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَمْ يَدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ الناس. قال ابن العربي: وَكَانَ مِحْرَابُ دَاوُدَ مِنَ الِامْتِنَاعِ بِالِارْتِفَاعِ بِحَيْثُ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ آدَمِيٌّ بِحِيلَةٍ، وَجُمْلَةُ: قالُوا لَا تَخَفْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالُوا لِدَاوُدَ لَمَّا فَزِعَ مِنْهُمْ؟ وَارْتِفَاعُ خَصْمانِ. عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: نَحْنُ خَصْمَانِ، وَجَاءَ فِيمَا سَبَقَ بِلَفْظِ الجمع، وهنا بلفظ التثنية لما ذكرنا مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْخَصْمِ يَحْتَمِلُ الْمُفْرَدَ، وَالْمُثَنَّى، وَالْمَجْمُوعَ، فَالْكُلُّ جَائِزٌ. قَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ كَمَا تَقُولُ نَحْنُ فَعَلْنَا كَذَا: إِذَا كُنْتُمَا اثْنَيْنِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: جَمَعَ لَمَّا كَانَ خَبَرًا فَلَمَّا انْقَضَى الْخَبَرُ وَجَاءَتِ الْمُخَاطَبَةُ أَخْبَرَ الِاثْنَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، فَقَالَا: خَصْمَانِ، وَقَوْلُهُ: بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، وَعَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ لَا يَبْغِيَانِ. ثُمَّ طَلَبَا مِنْهُ أَنْ يَحْكُمَ بينهما بالحق

وَنَهَيَاهُ عَنِ الْجَوْرِ فَقَالَا: فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ أَيْ: لَا تَجُرْ فِي حُكْمِكَ، يُقَالُ شَطَّ الرَّجُلُ وَأَشَطَّ شَطَطًا وَإِشْطَاطًا: إِذَا جَارَ فِي حُكْمِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: شَطَطْتُ عَلَيْهِ وَأَشْطَطْتُ: أَيْ جُرْتُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَاهُ لَا تُسْرِفْ، وَقِيلَ: لَا تُفَرِّطْ، وَقِيلَ: لَا تَمِلْ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْبُعْدُ، مِنْ شَطَّتِ الدَّارُ: إِذَا بَعُدَتْ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الشَّطَطُ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ سَوَاءُ الصِّرَاطِ: وَسَطُهُ. وَالْمَعْنَى: أَرْشِدْنَا إِلَى الْحَقِّ وَاحْمِلْنَا عَلَيْهِ. ثُمَّ لَمَّا أَخْبَرَاهُ عَنِ الْخُصُومَةِ إِجْمَالًا شَرَعَا فِي تَفْصِيلِهِمَا وشرحهما فَقَالَا: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً الْمُرَادُ بِالْأُخُوَّةِ هُنَا: أُخُوَّةُ الدِّينِ أَوِ الصُّحْبَةُ، وَالنَّعْجَةُ هِيَ الْأُنْثَى مِنَ الضَّأْنِ، وَقَدْ يُقَالُ لِبَقْرِ الْوَحْشِ نَعْجَةٌ وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: النَّعْجَةُ: الْبَقَرَةُ الْوَحْشِيَّةُ، وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الْمَرْأَةِ بِهَا، وَتُشَبِّهُ النِّسَاءَ بِالنِّعَاجِ مِنَ الْبَقَرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ، وَإِنَّمَا عَنَى بِ «هَذَا» دَاوُدَ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، وَعَنَى بِقَوْلِهِ: وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ [أُورِيَا] زَوْجَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا دَاوُدُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فَقالَ أَكْفِلْنِيها أَيْ: ضُمَّهَا إِلَيَّ وَانْزِلْ لِي عَنْهَا حَتَّى أَكْفُلَهَا وَأَصِيرَ بَعْلًا لَهَا. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: اجْعَلْهَا كِفْلِي وَنَصِيبِي وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أَيْ: غَلَبَنِي، يُقَالُ عَزَّهُ يَعُزُّهُ عِزًّا: إِذَا غَلَبَهُ. وَفِي الْمَثَلِ «مَنْ عَزَّ بَزَّ» أَيْ: مَنْ غَلَبَ سَلَبَ وَالِاسْمُ الْعِزَّةُ: وَهِيَ الْقُوَّةُ. قَالَ عَطَاءٌ: الْمَعْنَى إِنْ تَكَلَّمَ كَانَ أَفْصَحَ مِنِّي. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ «وَعَازَّنِي فِي الْخِطَابِ» أَيْ: غَالَبَنِي مِنَ الْمُعَازَّةِ وَهِيَ الْمُغَالَبَةُ قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أَيْ: بِسُؤَالِهِ نَعْجَتِكَ لِيَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِهِ التِّسْعِ وَالتِّسْعِينَ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَقُولُ، وَاللَّامُ: هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَهِيَ: وَمَا بَعْدَهَا جَوَابٌ لِلْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ، وَجَاءَ بِالْقَسَمِ فِي كلامه مبالغة في إنكار ما سمعه مِنْ طَلَبِ صَاحِبِ التِّسْعِ وَالتِّسْعِينَ النَّعْجَةَ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ النَّعْجَةَ الْوَاحِدَةَ الَّتِي مَعَ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهَا. وَيُمْكِنُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ بِهَذَا بَعْدَ أَنْ سَمِعَ الِاعْتِرَافَ مِنَ الْآخَرِ. قَالَ النَّحَّاسُ. وَيُقَالُ: إِنَّ خَطِيئَةَ دَاوُدَ هِيَ قَوْلُهُ: لَقَدْ ظَلَمَكَ لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ وَهُمُ الشُّرَكَاءُ وَاحِدُهُمْ خَلِيطٌ: وَهُوَ الْمُخَالِطُ فِي الْمَالِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أَيْ: يَتَعَدَّى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَظْلِمُهُ غَيْرَ مُرَاعٍ لِحَقِّهِ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَإِنَّهُمْ يَتَحَامَوْنَ ذَلِكَ، وَلَا يَظْلِمُونَ خَلِيطًا وَلَا غَيْرَهُ وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي: وقليل هم، وما: زائدة للتوكيد والتعجيب. وقيل: هي موصولة، وهم: مبتدأ، وقليل: خَبَرُهُ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالْفَرَّاءُ: ظَنَّ يَعْنِي أَيْقَنَ. وَمَعْنَى «فَتَنَّاهُ» ابْتَلَيْنَاهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عِنْدَ أَنْ تَخَاصَمَا إِلَيْهِ وَقَالَ مَا قَالَ عَلِمَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمُرَادُ، وَأَنَّ مَقْصُودَهُمَا التَّعْرِيضُ بِهِ وَبِصَاحِبِهِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَلَمَّا قَضَى بَيْنَهُمَا دَاوُدُ نَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَضَحِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَلِمَ دَاوُدُ بِمَا أَرَادَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَتَنَّاهُ» بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّاءِ وَالنُّونِ، وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي الْفِتْنَةِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ «افْتَنَّاهُ» وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السميقع «فَتَنَاهُ» بِتَخْفِيفِهِمَا وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَلَكَيْنِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ أَبِي عَمْرٍو فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ

لِذَنْبِهِ وَخَرَّ راكِعاً أَيْ: سَاجِدًا، وَعَبَّرَ بِالرُّكُوعِ عَنِ السُّجُودِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّكُوعِ هُنَا السُّجُودُ، فَإِنَّ السُّجُودَ هُوَ الْمَيْلُ، وَالرُّكُوعُ هُوَ الِانْحِنَاءُ وَأَحَدُهُمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهَيْئَةٍ. ثُمَّ جَاءَ فِي هَذَا عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى لِلسُّجُودِ رَاكِعًا: أَيْ: مُصَلِّيًا. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ رُكُوعُهُمْ سُجُودًا، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ سُجُودُهُمْ رُكُوعًا وَأَنابَ أَيْ: رَجَعَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَنْبِ دَاوُدَ الَّذِي اسْتَغْفَرَ لَهُ وَتَابَ عَنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةِ الرَّجُلِ الَّتِي أَرَادَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ، كَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَمْ يَتَعَمَّدْ دَاوُدُ النَّظَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ لَكِنَّهُ عَاوَدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا، وَصَارَتِ الْأُولَى لَهُ وَالثَّانِيَةُ عَلَيْهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ أَرْسَلَ زَوْجَهَا فِي جُمْلَةِ الْغُزَاةِ. الثَّالِثُ أَنَّهُ نَوَى إِنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. الرَّابِعُ أَنَّ أُورِيَا كَانَ خَطَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ فَلَمَّا غَابَ خَطَبَهَا دَاوُدُ فَزُوِّجَتْ مِنْهُ لِجَلَالَتِهِ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ أُورِيَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَتْرُكْهَا لِخَاطِبِهَا. الْخَامِسُ أَنَّهُ لَمْ يَجْزَعْ عَلَى قَتْلِ أُورِيَا كَمَا كَانَ يَجْزَعُ عَلَى مَنْ هَلَكَ مِنَ الْجُنْدِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ ذُنُوبَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ صَغُرَتْ فَهِيَ عَظِيمَةٌ. السَّادِسُ أَنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ كَمَا قَدَّمْنَا «1» . وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنَ الْخُصُومَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ الْمَلَكَيْنِ تَعْرِيضًا لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ زَوْجِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ أَنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنْهَا وَيَضُمَّهَا إِلَى نِسَائِهِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا الْعِصْمَةَ الْكَائِنَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ، فقد نبهه اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَرَّضَ لَهُ بِإِرْسَالِ مَلَائِكَتِهِ إِلَيْهِ لِيَتَخَاصَمُوا فِي مِثْلِ قِصَّتِهِ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لِذَنْبِهِ وَيَتُوبَ مِنْهُ فَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ. وَقَدْ قَالَ سبحانه وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «2» وهو أبو والبشر وَأَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَقَعَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَبِلَ اسْتِغْفَارَهُ وَتَوْبَتَهُ قَالَ: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أَيْ: ذَلِكَ الذَّنْبَ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ. قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ دَاوُدَ بَقِيَ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى نَبَتَ الرَّعْيُ حَوْلَ وَجْهِهِ وَغَمَرَ رَأْسَهُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ تَامٌّ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ الزُّلْفَى: الْقُرْبَةُ وَالْكَرَامَةُ بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ لِذَنْبِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الزُّلْفَى الدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِحُسْنِ الْمَآبِ: حُسْنُ الْمَرْجِعِ وَهُوَ الْجَنَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا لَها مِنْ فَواقٍ قَالَ: مِنْ رَجْعَةٍ. وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قال: سألوا الله أن يجعل لَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْهُ عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَالَ: نَصِيبَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: ذَا الْأَيْدِ قَالَ: الْقُوَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْأَوَّابُ الْمُسَبِّحُ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الْأَوَّابِ فَقَالَ: سَأَلْتُ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ في الخلاء فيستغفر الله. وأخرج

_ (1) . هذا هو القول السديد والله أعلم لأن ما عداه مما ذكر لا يصح بحق أنبياء الله ورسله وهو من الإسرائيليات. (2) . طه: 121.

عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَوَّابُ الْمُوقِنُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى حَتَّى قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زمان وما أدري وجه الْآيَةِ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ حَتَّى رَأَيْتُ النَّاسَ يُصَلُّونَ الضُّحَى. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَمُرُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ فَمَا أَدْرِي مَا هِيَ؟ حَتَّى حَدَّثَتْنِي أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْفَتْحِ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الضُّحَى، ثُمَّ قَالَ: «يَا أُمَّ هَانِئٍ هَذِهِ صَلَاةُ الْإِشْرَاقِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَالْأَحَادِيثُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى كَثِيرَةٌ جِدًّا قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَعْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ دَاوُدَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ عُظَمَائِهِمْ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا غَصَبَنِي بَقَرًا لِي، فَسَأَلَ دَاوُدُ الرَّجُلَ عَنْ ذَلِكَ فَجَحَدَهُ، فَسَأَلَ الْآخَرَ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَقَالَ لَهُمَا دَاوُدُ: قُومَا حَتَّى أنظر في أمر كما، فَقَامَا مِنْ عِنْدِهِ، فَأُتِيَ دَاوُدُ فِي مَنَامِهِ فَقِيلَ لَهُ: اقْتُلِ الرَّجُلَ الَّذِي اسْتَعْدَى، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ رُؤْيَا وَلَسْتُ أَعْجَلُ حَتَّى أَتَثَبَّتَ، فَأُتِيَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ فِي مَنَامِهِ فَأُمِرَ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلَ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ أُتِيَ اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ، فَقِيلَ لَهُ: اقْتُلِ الرَّجُلَ أَوْ تَأْتِيكَ الْعُقُوبَةُ مِنَ اللَّهِ، فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَى الرَّجُلِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَكَ، قَالَ: تَقْتُلُنِي بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا تَثَبُّتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ لَأُنَفِّذَنَّ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ حَتَّى أُخْبِرَكَ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أُخِذْتُ بِهَذَا الذَّنْبِ وَلَكِنِّي كُنْتُ اغْتَلْتُ وَالِدَ هَذَا فَقَتَلْتُهُ فَبِذَلِكَ أُخِذْتُ، فَأَمَرَ بِهِ دَاوُدُ فَقُتِلَ فَاشْتَدَّتْ هَيْبَتُهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَشُدِّدَ بِهِ مُلْكُهُ، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ وَشَدَدْنا مُلْكَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ قَالَ: أُعْطِيَ الْفَهْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَالَ أَمَّا بَعْدُ داود عليه السلام وَهو فَصْلَ الْخِطابِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ يَقُولُ: فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيَ دَاوُدُ: أَمَّا بَعْدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ دَاوُدَ حَدَّثَ نَفْسَهُ إِذَا ابْتُلِيَ أَنَّهُ يَعْتَصِمُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ سَتُبْتَلَى وَسَتَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي تُبْتَلَى فِيهِ فَخُذْ حَذَرَكَ، فَقِيلَ لَهُ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تُبْتَلَى فِيهِ، فَأَخَذَ الزَّبُورَ وَدَخَلَ الْمِحْرَابَ وَأَغْلَقَ بَابَ الْمِحْرَابِ وَأَخَذَ الزَّبُورَ فِي حِجْرِهِ، وَأَقْعَدَ مُنْصِفًا: يَعْنِي خَادِمًا عَلَى الْبَابِ وَقَالَ: لَا تَأْذَنْ لِأَحَدٍ عَلَيَّ الْيَوْمَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ إِذْ جَاءَ طَائِرٌ مُذَهَّبٌ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ الطَّيْرُ، فِيهِ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، فَجَعَلَ يَدُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَنَا مِنْهُ فَأَمْكَنَ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَتَنَاوَلَهُ بِيَدِهِ لِيَأْخُذَهُ فَاسْتَوْفَزَ مِنْ خَلْفِهِ، فَأَطْبَقَ الزَّبُورَ وَقَامَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى كُوَّةِ الْمِحْرَابِ، فَدَنَا مِنْهُ لِيَأْخُذَهُ فَأَفْضَى فَوَقَعَ عَلَى خُصٍّ فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ لِيَنْظُرَ أَيْنَ وَقَعَ؟ فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ عِنْدَ بِرْكَتِهَا تَغْتَسِلُ مِنَ الْحَيْضِ، فَلَمَّا رَأَتْ ظِلَّهُ حَرَّكَتْ رَأْسَهَا، فَغَطَّتْ جَسَدَهَا أَجْمَعَ بِشَعْرِهَا، وَكَانَ زَوْجُهَا غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَتَبَ دَاوُدُ إِلَى رَأْسِ الْغُزَاةِ: انْظُرْ أُورِيَا فَاجْعَلْهُ فِي حَمَلَةِ التَّابُوتِ وَكَانَ حَمَلَةُ التَّابُوتِ إِمَّا أَنْ يُفْتَحَ عَلَيْهِمْ وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلُوا، فَقَدَّمَهُ فِي حَمَلَةِ التَّابُوتِ فَقُتِلَ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا دَاوُدُ، فَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ إِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ

[سورة ص (38) : الآيات 26 إلى 33]

بَعْدِهِ، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ خَمْسِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، فَمَا شَعَرَ بِفِتْنَتِهِ أَنَّهُ افْتُتِنَ حَتَّى وَلَدَتْ سُلَيْمَانَ، وَشَبَّ فَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ الْمَلَكَانِ الْمِحْرَابَ وَكَانَ شَأْنُهُمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَخَرَّ دَاوُدُ سَاجِدًا، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَتَابَ عَلَيْهِ «1» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ قَالَ: مَا أَصَابَ دَاوُدَ بعد ما أصابه بعد القدر إلا من عَجِبَ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ مَا مِنْ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ إِلَّا وَعَابِدٌ مِنْ آلِ دَاوُدَ يَعْبُدُكَ يُصَلِّي لَكَ أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ يُكَبِّرُ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ، فَكَرِهَ اللَّهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا دَاوُدُ إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِي فَلَوْلَا عَوْنِي مَا قَوِيتَ عَلَيْهِ، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَكِلَنَّكَ إِلَى نَفْسِكَ يَوْمًا، قَالَ: يَا رَبِّ فَأَخْبِرْنِي بِهِ، فَأُخْبِرَ بِهِ فَأَصَابَتْهُ الْفِتْنَةُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَأَخْرَجَ أَصْلَ الْقِصَّةِ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَأَخْرَجَهَا ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُطَوَّلَةً. وَأَخْرَجَهَا جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا أَخِي قَالَ: عَلَى دِينِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ قَالَ: مَا زَادَ دَاوُدُ عَلَى أَنْ فَقالَ أَكْفِلْنِيها. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن عباس في قوله: أَكْفِلْنِيها قَالَ مَا زَادَ دَاوُدُ عَلَى أَنْ قَالَ: تحوّل لي عنها. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ يَقُولُ: قَلِيلٌ الَّذِي هُمْ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ قَالَ: اخْتَبَرْنَاهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي السُّجُودِ فِي ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي ص وَقَالَ: سَجَدَهَا دَاوُدُ وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي ص» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ص، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةٌ وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَهَيَّأْتُمْ لِلسُّجُودِ، فَنَزَلَ فَسَجَدَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَعَظَّمَ شَأْنَهُ وَشِدَّتَهُ قَالَ: وَيَقُولُ الرَّحْمَنُ عَزَّ وَجَلَّ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُرَّ بَيْنَ يَدَيَّ، فَيَقُولُ دَاوُدُ: يَا رَبِّ أَخَافُ أَنْ تَدْحَضَنِي خَطِيئَتِي، فَيَقُولُ خُذْ بِقَدَمِي، فَيَأْخُذُ بِقَدَمِهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَمُرُّ، قَالَ: فَتِلْكَ الزُّلْفَى الَّتِي قَالَ اللَّهُ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ. [سورة ص (38) : الآيات 26 الى 33] يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)

_ (1) . هذه القصة من الإسرائيليات التي لا يعتد بها ولا تجوز في حق داود عليه السلام.

لَمَّا تَمَّمَ سُبْحَانَهُ قِصَّةَ دَاوُدَ أَرْدَفَهَا بِبَيَانِ تَفْوِيضِ أَمْرِ خِلَافَةِ الْأَرْضِ إِلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ مَقُولَةٌ لِقَوْلٍ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى غَفَرْنَا: أَيْ وَقُلْنَا له يا داوُدُ إِنَّا اسْتَخْلَفْنَاكَ عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ جَعَلْناكَ خَلِيفَةً لِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِتَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أَيْ بِالْعَدْلِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أَيْ: هَوَى النَّفْسِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الَّذِي عُوتِبَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِعَدْلٍ وَأَنَّ فِيهِ شَائِبَةً مِنِ اتِّبَاعِ هَوَى النَّفْسِ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِلنَّهْيِ وَفَاعِلُ يُضِلَّكَ هُوَ الْهَوَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَجْزُومًا بِالْعَطْفِ عَلَى النَّهْيِ، وَإِنَّمَا حُرِّكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على حدة. وسبيل اللَّهِ: هُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ، أَوْ طَرِيقُ الْجَنَّةِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ، وَالْبَاءُ فِي بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَمَعْنَى النِّسْيَانِ التَّرْكُ: أَيْ: بِسَبَبِ تَرْكِهِمُ الْعَمَلَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ بِتَرْكِهِمُ الْعَمَلَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ النَّاسِينَ وَإِنْ كَانُوا يُنْذَرُونَ وَيُذَكَّرُونَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الْحِسَابِ بِمَا نَسُوا، أَيْ: تَرَكُوا الْقَضَاءَ بِالْعَدْلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَجُمْلَةُ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ: أَيْ مَا خَلَقْنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ خَلْقًا بَاطِلًا خارجا على الْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ، بَلْ خَلَقْنَاهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِنَا، فَانْتِصَابُ بَاطِلًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمَنْفِيِّ قَبْلَهُ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ: مَظْنُونُهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ خُلِقَتْ لَا لِغَرَضٍ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَا قِيَامَةَ، وَلَا بَعْثَ، وَلَا حِسَابَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ بَاطِلًا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ وَالْفَاءُ لِإِفَادَةِ تَرَتُّبِ ثُبُوتِ الْوَيْلِ لَهُمْ عَلَى ظَنِّهِمُ الْبَاطِلِ، أَيْ: فَوَيْلٌ لَهُمْ بِسَبَبِ النَّارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى ظَنِّهِمْ وَكُفْرِهِمْ. ثُمَّ وَبَّخَهُمْ وَبَكَّتَهُمْ فَقَالَ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلْمُؤْمِنِينَ: إِنَّا نُعْطَى فِي الْآخِرَةِ كَمَا تُعْطَوْنَ فنزلت، وأم هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ: أَيْ بَلِ أنجعل الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَصَدَّقُوا رُسُلَهُ، وَعَمِلُوا بِفَرَائِضِهِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعَاصِي. ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ إِضْرَابًا آخَرَ، وَانْتَقَلَ عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى مَا هُوَ أَظْهَرُ اسْتِحَالَةً مِنْهُ فَقَالَ: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ أَيْ: بَلْ نَجْعَلُ أَتْقِيَاءَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَشْقِيَاءِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمُنْهَمِكِينَ فِي مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْفُجَّارَ هُنَا خَاصٌّ بِالْكَافِرِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ الصَّحَابَةُ، وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ

ارْتِفَاعُ كِتَابٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وأنزلناه إليك صفة له، ومبارك: خَبَرٌ ثَانٍ لِلْمُبْتَدَأِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لِكِتَابٍ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْوَصْفِ الصَّرِيحِ عَنْ غَيْرِ الصَّرِيحِ، وَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ، وَالتَّقْدِيرُ: الْقُرْآنُ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ كَثِيرُ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ. وَقُرِئَ «مُبَارَكًا» عَلَى الْحَالِ وَقَوْلُهُ: لِيَدَّبَّرُوا أصله ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال وهو متعلق بأنزلناه. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ، لَا لِمُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لِيَدَّبَّرُوا» بِالْإِدْغَامِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ «لِتَدَبَّرُوا» بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْأَصْلُ لِتَتَدَبَّرُوا بِتَاءَيْنِ فَحَذَفَ إِحْدَاهُمَا تخفيفا وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أَيْ: لِيَتَّعِظَ أَهْلُ الْعُقُولِ، وَالْأَلْبَابُ جَمْعُ لُبٍّ: وَهُوَ الْعَقْلُ وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِهِ عَلَى دَاوُدَ أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ سُلَيْمَانَ وَلَدًا، ثُمَّ مَدَحَ سُلَيْمَانَ فَقَالَ: نِعْمَ الْعَبْدُ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: نِعْمَ الْعَبْدُ سُلَيْمَانُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَدْحَ هُنَا بِقَوْلِهِ: نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ لِدَاوُدَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ أَوَّابٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْمَدْحِ، وَالْأَوَّابُ: الرَّجَّاعُ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ اذْكُرْ، أَيِ: اذْكُرْ مَا صَدَرَ عَنْهُ وَقْتَ عَرْضِ الصَّافِنَاتِ الْجِيَادِ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ وقيل: هو متعلق بنعم، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَصَرِّفٍ لَا وَجْهَ لتقييده بذلك الوقت، وقيل: متعلق بأواب، وَلَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ كَوْنِهِ أَوَّابًا بِذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْعَشِيُّ مِنَ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، وَالصَّافِنَاتُ جَمْعُ صَافِنٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللغة في معناه، فقال القتبي والفراء: الصافن في كلام العرب الواقف مِنَ الْخَيْلِ أَوْ غَيْرِهَا، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ صُفُونًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» أَيْ: يُدِيمُونَ الْقِيَامَ لَهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّابِغَةِ: لَنَا قُبَّةٌ مَضْرُوبَةٌ بِفِنَائِهَا ... عِتَاقُ الْمَهَارِي وَالْجِيَادُ الصَّوَافِنُ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا فَإِنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ مُصَادَرَةٌ لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الصَّافِنِ مَاذَا هُوَ؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ هُوَ الَّذِي يَقِفُ عَلَى إِحْدَى الْيَدَيْنِ وَيَرْفَعُ الْأُخْرَى وَيَجْعَلُ عَلَى الْأَرْضِ طَرَفَ الْحَافِرِ مِنْهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُومُ عَلَى ثَلَاثٍ وَهِيَ الرِّجْلَانِ وَإِحْدَى الْيَدَيْنِ، وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِإِحْدَى رِجْلَيْهِ وَهِيَ عَلَامَةُ الْفَرَاهَةِ، وَأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ قَوْلَ الشَّاعِرِ: أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيَرُ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: تَرَكْنَا الْخَيْلَ عَاكِفَةً عَلَيْهِ ... مُقَلَّدَةً أَعِنَّتَهَا صُفُونًا فَإِنَّ قَوْلَهُ صُفُونًا لَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مُجَرَّدِ الْقِيَامِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْقِيَامِ قَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: عَاكِفَةً عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الصَّافِنُ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ يَدَيْهِ وَيُسَوِّيهُمَا، وَأَمَّا الَّذِي يَقِفُ عَلَى سُنْبُكِهِ فاسمه المتخيم،

وَالْجِيَادُ: جَمْعُ جَوَادٍ، يُقَالُ لِلْفَرَسِ إِذَا كَانَ شديد العدو. وقيل: إنها الطوال الْأَعْنَاقِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْجِيدِ: وَهُوَ الْعُنُقُ، قِيلَ: كَانَتْ مِائَةَ فَرَسٍ، وَقِيلَ: كَانَتْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ: كَانَتْ عِشْرِينَ فَرَسًا، وَقِيلَ: إِنَّهَا خَرَجَتْ لَهُ مِنَ الْبَحْرِ وَكَانَتْ لَهَا أَجْنِحَةٌ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي انْتِصَابُ حُبَّ الْخَيْرِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ أَحْبَبْتُ بَعْدَ تَضْمِينِهِ مَعْنَى آثَرْتُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ آثَرْتُ حُبَّ الْخَيْرِ، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا فَقَدْ آثَرَهُ. وَقِيلَ: انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِحَذْفِ الزَّوَائِدِ وَالنَّاصِبُ لَهُ أَحْبَبْتُ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ، أَيْ: حُبًّا مِثْلَ حُبِّ الْخَيْرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ هُنَا: الْخَيْلُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْخَيْرُ: هُنَا الْخَيْلُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخَيْرُ وَالْخَيْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَاحِدٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَفِي الْحَدِيثِ «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ» فَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ خَيْرًا لِهَذَا. وَقِيلَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ خَيْرًا لِمَا فيها من المنافع. «وعن» فِي عَنْ ذِكْرِ رَبِّي بِمَعْنَى عَلَى. وَالْمَعْنَى: آثَرْتُ حُبَّ الْخَيْلِ عَلَى ذِكْرِ رَبِّي: يَعْنِي صَلَاةَ الْعَصْرِ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ يَعْنِي الشَّمْسَ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ، وَلَكِنَّ الْمَقَامَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا يَجُوزُ الْإِضْمَارُ إِذَا جَرَى ذِكْرُ الشَّيْءِ أَوْ دَلِيلُ الذِّكْرِ، وَقَدْ جَرَى هُنَا الدَّلِيلُ، وَهُوَ قَوْلُهُ بِالْعَشِيِّ. وَالتَّوَارِي: الِاسْتِتَارُ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَالْحِجَابُ: مَا يَحْجُبُهَا عَنِ الْأَبْصَارِ. قَالَ قَتَادَةُ وَكَعْبٌ: الْحِجَابُ جَبَلٌ أَخْضَرُ مُحِيطٌ بِالْخَلَائِقِ وَهُوَ جَبَلُ قَافَ، وَسُمِّيَ اللَّيْلُ حِجَابًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ مَا فِيهِ، وَقِيلَ: والضمير فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ لِلْخَيْلِ، أَيْ: حَتَّى تَوَارَتْ فِي الْمُسَابَقَةِ عَنِ الْأَعْيُنِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ: رُدُّوها عَلَيَّ مِنْ تَمَامِ قَوْلِ سُلَيْمَانَ: أَيْ أَعِيدُوا عَرْضَهَا عَلَيَّ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا شَغَلَهُ عَرْضُ الْخَيْلِ حَتَّى فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ غَضِبَ لِلَّهِ وَقَالَ رُدُّوهَا عَلَيَّ: أَيْ: أَعِيدُوهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي ردّوها يعود إِلَى الشَّمْسِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِإِرْجَاعِهَا بَعْدَ مَغِيبِهَا لِأَجْلِ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ هِيَ الْفَصِيحَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَحْذُوفٍ فِي الْكَلَامِ، وَالتَّقْدِيرُ هُنَا: فَرُدُّوهَا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: طَفِقَ يَفْعَلُ مِثْلُ مَا زَالَ يَفْعَلُ، وَهُوَ مِثْلُ ظَلَّ وَبَاتَ وَانْتِصَابُ مَسْحًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يمسح مَسْحًا لِأَنَّ خَبَرَ طَفِقَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِعْلًا مُضَارِعًا، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالسُّوقُ جَمْعُ سَاقٍ، وَالْأَعْنَاقُ جَمْعُ عُنُقٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ طَفِقَ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهَا وَسُوقَهَا، يُقَالُ مَسَحَ عِلَاوَتَهُ: أَيْ ضَرَبَ عُنُقَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَسْحُ هُنَا الْقَطْعُ، قَالَ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَقْبَلَ يَضْرِبُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ سَبَبَ فَوْتِ صَلَاتِهِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يُبَاحَ ذلك لسليمان ويحظر فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِالْمَسْحِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَسْحُ عَلَى سُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا لِكَشْفِ الْغُبَارِ عَنْهَا حُبًّا لَهَا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أولى بسياق الكلام فإنه ذكر أنه آثرها عَلَى ذِكْرِ رَبِّهِ حَتَّى فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ لِيُعَاقِبَ نَفْسَهُ بِإِفْسَادِ مَا أَلْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَمَا صَدَّهُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَشَغَلَهُ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُنَاسِبُ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ رَدِّهَا عَلَيْهِ هُوَ كَشْفُ الْغُبَارِ عَنْ سُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا بِيَدِهِ أَوْ بثوبه، ولا متمسك لمن قال: إن

[سورة ص (38) : الآيات 34 إلى 40]

إفساد المال لا يصدر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإن هذا مجرّد استبعاد بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمُتَقَرِّرُ فِي شَرْعِنَا مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي شَرْعِ سُلَيْمَانَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مُبَاحٌ عَلَى أَنَّ إِفْسَادَ الْمَالِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي شَرْعِنَا إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ إِضَاعَتِهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَقَدْ جَازَ مِثْلُهُ فِي شَرْعِنَا كَمَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ إِحْرَاقِ طَعَامِ الْمُحْتَكِرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ قَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا: عَلِيٌّ، وَحَمْزَةُ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ: عُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، وَالْوَلِيدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الصَّافِناتُ الْجِيادُ خَيْلٌ خُلِقَتْ عَلَى مَا شَاءَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: الصَّافِناتُ قَالَ: صُفُونُ الْفَرَسِ رَفْعُ إِحْدَى يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَ عَلَى أَطْرَافِ الْحَافِرِ، وَفِي قَوْلِهِ: الْجِيادُ السِّرَاعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حُبَّ الْخَيْرِ قَالَ: الْمَاءُ، وَفِي قَوْلِهِ رُدُّوهَا عَلَيَّ قَالَ: الْخَيْلُ فَطَفِقَ مَسْحاً قَالَ: عَقْرًا بِالسَّيْفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الصَّلَاةُ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا سُلَيْمَانُ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ قَالَ: كَانَتْ عِشْرِينَ أَلْفَ فَرَسٍ ذَاتَ أَجْنِحَةٍ فَعَقَرَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ قَالَ: تَوَارَتْ مِنْ وَرَاءِ يَاقُوتَةٍ خَضْرَاءَ، فَخُضْرَةُ السَّمَاءِ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ لَا يُكَلَّمُ إِعْظَامًا لَهُ، فَلَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَمَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يُكَلِّمَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يَقُولُ: مِنْ ذِكْرِ رَبِّي فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ قَالَ: قَطَعَ سُوقَهَا وأعناقها بالسيف. [سورة ص (38) : الآيات 34 الى 40] وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أَيِ: ابْتَلَيْنَاهُ وَاخْتَبَرْنَاهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: تَزَوَّجَ سُلَيْمَانُ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ، فَعَبَدَتِ الصَّنَمَ فِي دَارِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ سُلَيْمَانُ، فَامْتُحِنَ بِسَبَبِ غَفْلَتِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ الْفِتْنَةِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ سُلَيْمَانُ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا جَرَادَةُ وَكَانَ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا، فَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ جَرَادَةَ، فَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ لَهُمْ، ثُمَّ قَضَى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ. وَقِيلَ: إِنَّ السَّبَبَ أَنَّهُ احْتَجَبَ عَنِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَقْضِي بَيْنَ أَحَدٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تَزَوَّجَ جَرَادَةَ هَذِهِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ لِأَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَقَالَتِ: اقْتُلْنِي وَلَا أُسْلِمُ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّهُ لَمَّا ظَلَمَ الْخَيْلَ بِالْقَتْلِ سُلِبَ مُلْكُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ قَارَبَ بَعْضَ نِسَائِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أُمِرَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً إِلَّا مِنْ بَنِي

إِسْرَائِيلَ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ غَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ فِتْنَتِهِ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً تَأْتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ بِفَارِسٍ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقِلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا عَاقَبَهُ بِهِ فَقَالَ: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً انْتِصَابُ جَسَدًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ أَلْقَيْنَا، وَقِيلَ: انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمُشْتَقِّ، أَيْ: ضَعِيفًا أَوْ فَارِغًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا الْجَسَدُ الَّذِي أَلْقَاهُ اللَّهُ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ هُوَ شَيْطَانٌ اسْمُهُ صَخْرٌ، وَكَانَ مُتَمَرِّدًا عَلَيْهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي طَاعَتِهِ، أَلْقَى اللَّهُ شَبَهَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ وَمَا زَالَ يَحْتَالُ حَتَّى ظَفِرَ بِخَاتَمِ سُلَيْمَانَ، وَذَلِكَ عِنْدَ دُخُولِ سُلَيْمَانَ الْكَنِيفَ لِأَنَّهُ كَانَ يُلْقِيهِ إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ، فَجَاءَ صَخْرٌ فِي صُورَةِ سُلَيْمَانَ فَأَخَذَ الْخَاتَمَ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ سُلَيْمَانَ، فَقَعَدَ عَلَى سَرِيرِ سُلَيْمَانَ وَأَقَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى مُلْكِهِ وَسُلَيْمَانُ هَارِبٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ شَيْطَانًا قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: كَيْفَ تَفْتِنُونَ النَّاسَ؟ قَالَ: أَرِنِي خَاتَمَكَ أُخْبِرْكَ، فَلَمَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ نَبَذَهُ فِي الْبَحْرِ، فَذَهَبَ مُلْكُهُ وَقَعَدَ الشَّيْطَانُ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَمَنَعَهُ اللَّهُ نِسَاءَ سُلَيْمَانَ فَلَمْ يَقْرَبْهُنَّ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ يَسْتَطْعِمُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُونَنِي أَطْعِمُونِي؟ فَيُكَذِّبُوهُ حَتَّى أَعْطَتْهُ امْرَأَةٌ يَوْمًا حُوتًا فَشَقَّ بَطْنَهُ فَوَجَدَ خَاتَمَهُ فِي بَطْنِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ مُلْكَهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنابَ أَيْ: رَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ مَعْنَى أَنَابَ: رَجَعَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ أَنَابَ وَتَفْسِيرًا لَهُ، أَيِ: اغْفِرْ لِي مَا صَدَرَ عَنِّي مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي ابْتَلَيْتَنِي لِأَجْلِهِ. ثُمَّ لَمَّا قَدَّمَ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ جَعَلَهَا وَسِيلَةً إِلَى إِجَابَةِ طَلْبَتِهِ فَقَالَ: وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي: لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْلُبَهُ مِنِّي بَعْدَ هَذِهِ السُّلْبَةِ، أَوْ لا يصح لأحد من بعدي لِعَظَمَتِهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ سُؤَالِ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلدُّنْيَا وَمُلْكِهَا وَالشَّرَفِ بَيْنَ أَهْلِهَا، بَلِ الْمُرَادُ بِسُؤَالِهِ الْمُلْكَ أَنْ يَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ إِنْفَاذِ أَحْكَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْأَخْذِ عَلَى يَدِ الْمُتَمَرِّدِينَ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُقْتَضَيَاتِ لِهَذَا السُّؤَالِ مِنْهُ إِلَّا مَا رَآهُ عِنْدَ قُعُودِ الشَّيْطَانِ عَلَى كُرْسِيِّهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْجَارِيَةِ فِي عِبَادِ اللَّهِ «1» ، وَجُمْلَةُ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِمَّا طَلَبَهُ مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ وَهِبَةُ الْمَلِكِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ: أَيْ فَإِنَّكَ كَثِيرُ الْهِبَاتِ عظيم الموهبات. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ إِجَابَتَهُ لِدَعْوَتِهِ وَإِعْطَاءَهُ لِمَسْأَلَتِهِ فَقَالَ: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ أَيْ: ذَلَّلْنَاهَا لَهُ وَجَعَلْنَاهَا مُنْقَادَةً لِأَمْرِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التَّسْخِيرِ لَهَا بِقَوْلِهِ: تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً أَيْ: لَيِّنَةَ الْهُبُوبِ لَيْسَتْ بِالْعَاصِفِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّخَاوَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا رِيحٌ لَيِّنَةٌ لَا تُزَعْزِعُ وَلَا تَعْصِفُ مَعَ قُوَّةِ هُبُوبِهَا وَسُرْعَةِ جَرْيِهَا، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ «2» لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا فِي قُوَّةِ الْعَاصِفَةِ وَلَا تَعْصِفُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ تَارَةً رُخَاءً، وَتَارَةً عَاصِفَةً عَلَى مَا يُرِيدُهُ سُلَيْمَانُ وَيَشْتَهِيهِ، وَهَذَا أَوْلَى فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ حَيْثُ أَصابَ أَيْ: حَيْثُ أَرَادَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَى حَيْثُ أَصَابَ: حَيْثُ أَرَادَ، وَحَقِيقَتُهُ حَيْثُ قَعَدَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَابْنُ الأعرابي: العرب تقول:

_ (1) . ما جاء في تفسير فتنة سليمان غير الحديث الصحيح إنما هو من الإسرائيليات التي تنسب إلى الأنبياء ما لا يليق بهم، فلا يعتد بها. (2) . الأنبياء: 81. [.....] .

أَصَابَ الصَّوَابَ، وَأَخْطَأَ الْجَوَابَ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى أَصَابَ بِلُغَةِ حِمْيَرَ أَرَادَ، وَلَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَقِيلَ: هُوَ بِلِسَانِ هَجَرَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ إِصَابَةِ السَّهْمِ لِلْغَرَضِ وَالشَّياطِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الرِّيحِ، أَيْ: وَسَخَّرْنَا لَهُ الشَّيَاطِينَ، وَقَوْلُهُ: كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَيْ: كُلُّ بِنَّاءٍ مِنْهُمْ، وَغَوَّاصٍ مِنْهُمْ يَبْنُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْمَبَانِي، وَيَغُوصُونَ فِي الْبَحْرِ فَيَسْتَخْرِجُونَ لَهُ الدُّرَّ مِنْهُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْجَلِيلُ لَهُ ... قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ وخيّس الْجِنَّ أَنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصِّفَاحِ وَالْعُمُدِ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ مَعْطُوفٌ عَلَى كُلَّ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ، وَهُمْ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ سُخِّرُوا لَهُ حَتَّى قَرَّنَهُمْ فِي الْأَصْفَادِ. يُقَالُ: قَرَّنَهُمْ فِي الْحِبَالِ إِذَا كَانُوا جماعة كثيرة، والأصفاد: الأغلال واحدها صفة. قَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ السَّلَاسِلُ، فَكُلُّ مَا شَدَدْتَهُ شَدًّا وَثِيقًا بِالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِ فَقَدْ صَفَدْتَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صَفَدْتُ الرَّجُلَ فَهُوَ مَصْفُودٌ، وَصَفَّدْتَهُ فَهُوَ مُصَفَّدٌ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا ... وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِكُفَّارِهِمْ، فَإِذَا آمَنُوا أَطْلَقَهُمْ وَلَمْ يُسَخِّرْهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: «هَذَا» إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيحِ وَالشَّيَاطِينِ لَهُ، وَهُوَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ وَقُلْنَا لَهُ هَذَا عَطاؤُنا الَّذِي أَعْطَيْنَاكَهُ مِنَ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ الَّذِي طَلَبْتَهُ فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا: أَيْ فَأَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَامْنَعْ مَنْ شِئْتَ بِغَيْرِ حِسابٍ لَا حِسَابَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ الْإِعْطَاءِ أَوِ الْإِمْسَاكِ، أَوْ عَطَاؤُنَا لَكَ بِغَيْرِ حِسَابٍ لِكَثْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ قَوْلَهُ: هَذَا عَطاؤُنا إِشَارَةٌ إِلَى مَا أُعْطِيَهُ مِنْ قُوَّةِ الْجِمَاعِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لِقَصْرِ الْآيَةِ عَلَيْهِ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ، فَكَيْفَ يَدَّعِي اخْتِصَاصَ الْآيَةِ بِهِ مَعَ عَدَمِ ذِكْرِهِ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أَيْ قُرْبَةً فِي الْآخِرَةِ وَحُسْنَ مَآبٍ وَحُسْنَ مَرْجِعٍ، وَهُوَ الْجَنَّةُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً قَالَ: هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي كَانَ عَلَى كُرْسِيِّهِ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا جَرَادَةُ، وَكَانَ بَيْنَ بَعْضِ أَهْلِهَا وَبَيْنَ قَوْمٍ خُصُومَةٌ، فَقَضَى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ إِلَّا أَنَّهُ وَدَّ أَنَّ الْحَقَّ كَانَ لِأَهْلِهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ سَيُصِيبُكَ بَلَاءٌ، فَكَانَ لَا يَدْرِي أَيَأْتِيهِ مِنَ السَّمَاءِ أَمْ مِنَ الْأَرْضِ؟ وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرَادَ سُلَيْمَانُ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ فَأَعْطَى لِجَرَادَةَ خَاتَمَهُ، وَكَانَتْ جَرَادَةُ امْرَأَتَهُ وَكَانَتْ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهَا: هَاتِي خَاتَمِي فَأَعْطَتْهُ، فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الإنس والجن والشياطين، فلما خرج سليمان

_ (1) . هو النابغة الذبياني.

[سورة ص (38) : الآيات 41 إلى 54]

مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ هَاتِي خَاتَمِي، قَالَتْ قَدْ أَعْطَيْتُهُ سُلَيْمَانَ. قَالَ أَنَا سُلَيْمَانُ، قَالَتْ كَذَبْتَ لَسْتَ سُلَيْمَانَ، فَجَعَلَ لَا يَأْتِي أَحَدًا يَقُولُ أَنَا سُلَيْمَانُ إِلَّا كَذَّبَهُ، حَتَّى جَعَلَ الصِّبْيَانُ يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَقَامَ الشَّيْطَانُ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى سُلَيْمَانَ سُلْطَانَهُ أَلْقَى فِي قُلُوبِ النَّاسِ إِنْكَارَ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى نِسَاءِ سُلَيْمَانَ فَقَالُوا لَهُنَّ: تُنْكِرْنَ مِنْ أَمْرِ سُلَيْمَانَ شَيْئًا؟ قُلْنَ نَعَمْ إِنَّهُ يَأْتِينَا وَنَحْنُ نَحِيضُ، وَمَا كَانَ يَأْتِينَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّيْطَانُ أَنَّهُ قَدْ فُطِنَ لَهُ ظَنَّ أَنَّ أَمْرَهُ قَدِ انْقَطَعَ، فَكَتَبُوا كُتُبًا فِيهَا سِحْرٌ وَكُفْرٌ فَدَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ أَثَارُوهَا وَقَرَءُوهَا عَلَى النَّاسِ وَقَالُوا بِهَذَا كَانَ يَظْهَرُ سُلَيْمَانُ عَلَى النَّاسِ وَيَغْلِبُهُمْ فَأَكْفَرَ النَّاسُ سُلَيْمَانَ فَلَمْ يَزَالُوا يُكَفِّرُونَهُ، وَبَعَثَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ بِالْخَاتَمِ فَطَرَحَهُ فِي الْبَحْرِ فَتَلَقَّتْهُ سَمَكَةٌ فَأَخَذَتْهُ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ بِالْأَجْرِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاشْتَرَى سَمَكًا فِيهِ تِلْكَ السَّمَكَةُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا الْخَاتَمُ، فَدَعَا سُلَيْمَانَ فَقَالَ: تَحْمِلُ لِي هَذَا السَّمَكَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ بِكَمْ؟ قَالَ بِسَمَكَةٍ مِنْ هَذَا السَّمَكِ، فَحَمَلَ سُلَيْمَانُ السَّمَكَ ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى الرَّجُلُ إِلَى بَابِ دَارِهِ أَعْطَاهُ تِلْكَ السَّمَكَةَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا الْخَاتَمُ، فَأَخَذَهَا سُلَيْمَانُ فَشَقَّ بَطْنَهَا فَإِذَا الْخَاتَمُ فِي جَوْفِهَا فَأَخَذَهُ فَلَبِسَهُ، فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالشَّيَاطِينُ وَعَادَ إِلَى حَالِهِ وَهَرَبَ الشَّيْطَانُ حَتَّى لَحِقَ بِجَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، فَأَرْسَلَ سُلَيْمَانُ فِي طَلَبِهِ، وَكَانَ شَيْطَانًا مَرِيدًا، فَجَعَلُوا يَطْلُبُونَهُ وَلَا يَقْدِرُونَ عليه حتى وجدوه يوما نائما فجاؤوا فَبَنَوْا عَلَيْهِ بُنْيَانًا مِنْ رَصَاصٍ فَاسْتَيْقَظَ فَوَثَبَ، فَجَعَلَ لَا يَثِبُ فِي مَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ إلا أنباط مَعَهُ الرَّصَاصُ فَأَخَذُوهُ فَأَوْثَقُوهُ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى سُلَيْمَانَ فَأَمَرَ بِهِ فَنُقِرَ لَهُ تَخْتٌ مِنْ رُخَامٍ ثُمَّ أَدْخَلَهُ فِي جَوْفِهِ ثُمَّ شُدَّ بِالنُّحَاسِ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ «1» ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً يَعْنِي الشَّيْطَانَ الَّذِي كَانَ سُلِّطَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ قَالَ: صَخْرٌ الْجِنِّيُّ تَمَثَّلَ عَلَى كُرْسِيِّهِ عَلَى صُورَتِهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ جَعَلَ يَتَفَلَّتُ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي وَإِنَّ اللَّهَ أَمْكَنَنِي مِنْهُ، فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَامْنُنْ يَقُولُ: اعْتِقْ مِنَ الْجِنِّ مَنْ شِئْتَ وأمسك منهم من شئت. [سورة ص (38) : الآيات 41 الى 54] وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)

_ (1) . هذا كسابقه من الإسرائيليات التي لا يعتد بها.

قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ وأيوب عطف بيان، وإِذْ نَادَى رَبَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ عَبْدَنَا أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ لِكَلَامِهِ الَّذِي نَادَى رَبَّهُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَحْكِهِ لَقَالَ إِنَّهُ مَسَّهُ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِكَسْرِهَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ. وفي ذكر قِصَّةِ أَيُّوبَ إِرْشَادٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ النُّونِ مِنْ قَوْلِهِ: بِنُصْبٍ وَسُكُونِ الصَّادِ، فَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ نَصَبٍ بِفَتْحَتَيْنِ نَحْوَ أَسَدٍ وَأُسْدٍ، وَقِيلَ: هُوَ لُغَةٌ فِي النَّصَبِ، نَحْوَ رَشَدٍ وَرُشْدٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَشَيْبَةُ وَحَفْصٌ، وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِضَمَّتَيْنِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ الْحَسَنِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ فِي رِوَايَةٍ بِفَتْحٍ وَسُكُونٍ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْقِرَاءَاتُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ.. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ النَّصَبَ بِفَتْحَتَيْنِ: التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ، وَعَلَى بَقِيَّةِ الْقِرَاءَاتِ الشَّرُّ وَالْبَلَاءُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَعَذابٍ أَيْ أَلَمٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: النَّصَبُ فِي الْجَسَدِ، وَالْعَذَابُ فِي الْمَالِ. قَالَ النَّحَّاسُ وَفِيهِ بَعْدُ كَذَا قَالَ. وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ النَّصَبِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ، وَتَفْسِيرُ الْعَذَابِ بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْعَذَابِ وَهُوَ الْأَلَمُ، وَكِلَاهُمَا رَاجِعٌ إِلَى الْبَدَنِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هُوَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ قُلْنَا لَهُ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ كَذَا قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَالرَّكْضُ الدَّفْعُ بِالرِّجْلِ، يُقَالُ رَكَضَ الدَّابَّةَ بِرِجْلِهِ: إِذَا ضَرَبَهَا بِهَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الرَّكْضُ التَّحْرِيكُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ رَكَضْتُ الدَّابَّةَ، وَلَا يُقَالُ رَكَضَتْ هِيَ، لِأَنَّ الرَّكْضَ إِنَّمَا هُوَ تَحْرِيكُ رَاكِبِهَا رِجْلَيْهِ، وَلَا فِعْلَ لَهَا فِي ذَلِكَ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: رَكَضْتُ الدَّابَّةَ فَرَكَضَتْ، مِثْلُ جَبَرْتُ الْعَظْمَ فَجَبَرَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ هَذَا أَيْضًا مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ: الْمُغْتَسَلُ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ، وَالشَّرَابُ الَّذِي يُشْرَبُ مِنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُغْتَسَلَ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُغْتَسَلُ فِيهِ. قَالَ قَتَادَةُ: هُمَا عَيْنَانِ بِأَرْضِ الشَّامِ فِي أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا الْجَابِيَةُ فَاغْتَسَلَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَأَذْهَبَ اللَّهُ ظَاهِرَ دَائِهِ، وَشَرِبَ مِنَ الْأُخْرَى فَأَذْهَبَ اللَّهُ بَاطِنَ دَائِهِ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ نَبَعَتْ عَيْنٌ جَارِيَةٌ فَاغْتَسَلَ فِيهَا فَخَرَجَ صَحِيحًا، ثُمَّ نَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى فَشَرِبَ مِنْهَا مَاءً عَذْبًا بَارِدًا. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَقُلْنَا لَهُ: هَذَا مُغْتَسَلٌ إِلَخْ، وَأَسْنَدَ الْمَسَّ إِلَى الشَّيْطَانِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي مَسَّهُ بِذَلِكَ: إِمَّا لِكَوْنِهِ لَمَّا عَمِلَ بِوَسْوَسَتِهِ عُوقِبَ عَلَى ذلك النَّصَبِ وَالْعَذَابِ. فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ أُعْجِبَ بِكَثْرَةِ مَالِهِ، وَقِيلَ اسْتَغَاثَهُ مَظْلُومٌ فَلَمْ يُغِثْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَدَبِ، وَقِيلَ إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ وَسْوَسَ إِلَى أَتْبَاعِهِ فَرَفَضُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ يُوَسْوِسُهُ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِ حَالَ مَرَضِهِ وَابْتِلَائِهِ مِنْ تَحْسِينِ الْجَزَعِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاغْتَسَلَ وَشَرِبَ، فَكَشَفْنَا بِذَلِكَ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَوَهَبَنَا لَهُ أَهْلَهُ. قِيلَ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ أَمَاتَهُمْ. وَقِيلَ: جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ، وَقِيلَ: غَيَّرَهُمْ مِثْلَهُمْ، ثُمَّ زَادَهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وهو معنى قوله:

وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فكانوا مثل ما كَانُوا مِنْ قَبْلِ ابْتِلَائِهِ، وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ: رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ: وَهَبْنَاهُمْ لَهُ لِأَجْلِ رَحْمَتِنَا إِيَّاهُ، وَلِيَتَذَكَّرَ بِحَالِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ فَيَصْبِرُوا عَلَى الشَّدَائِدِ كَمَا صَبَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فَلَا نُعِيدُهُ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً مَعْطُوفٌ عَلَى ارْكُضْ، أَوْ عَلَى وهبنا أو التقدير وقلنا له: خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً وَالضِّغْثُ: عِثْكَالُ النَّخْلِ بِشَمَارِيخِهِ، وَقِيلَ: هُوَ قَبْضَةٌ مِنْ حَشِيشٍ مُخْتَلِطٌ رَطِبُهَا بِيَابِسِهَا، وَقِيلَ: الْحِزْمَةُ الْكَبِيرَةُ مِنَ الْقُضْبَانِ، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ تَدُلُّ عَلَى جَمْعِ الْمُخْتَلَطَاتِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الضِّغْثُ مِلْءُ الْكَفِّ مِنَ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ وَالشَّمَارِيخِ فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ أَيِ: اضْرِبْ بِذَلِكَ الضِّغْثِ، وَلَا تَحْنَثْ فِي يَمِينِكَ، وَالْحِنْثُ: الْإِثْمُ، وَيُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ مَا حُلِفَ عَلَى تَرْكِهِ، وَكَانَ أَيُّوبُ قَدْ حَلَفَ فِي مَرَضِهِ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ، فقال سعيد بن المسيب إنه جَاءَتْهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا كَانَتْ تَأْتِيهِ بِهِ مِنَ الْخُبْزِ، فَخَافَ خِيَانَتَهَا فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ أَغْوَاهَا أَنْ تَحْمِلَ أَيُّوبَ عَلَى أَنْ يَذْبَحَ سَخْلَةً تقرّبا إليه، فإنه إذا فعل ذلك برىء، فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا إِنْ عُوفِيَ مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَقِيلَ: بَاعَتْ ذُؤَابَتَهَا بِرَغِيفَيْنِ إِذْ لَمْ تَجِدْ شَيْئًا، وَكَانَ أَيُّوبُ يَتَعَلَّقُ بِهَا إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ، فَلِهَذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا. وَقِيلَ: جَاءَهَا إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ طَبِيبٍ فَدَعَتْهُ لِمُدَاوَاةِ أَيُّوبَ، فَقَالَ أُدَاوِيهِ على أنه إذا برىء قَالَ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، لَا أُرِيدُ جَزَاءً سِوَاهُ، قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَشَارَتْ عَلَى أَيُّوبَ بِذَلِكَ فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذَا خَاصٌّ بِأَيُّوبَ أَوْ عَامٌّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ؟ وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ خَرَجَ مِنْ يَمِينِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ فُلَانًا مِائَةَ جَلْدَةٍ أَوْ ضَرْبًا وَلَمْ يَقُلْ ضَرْبًا شَدِيدًا وَلَمْ يَنْوِ بِقَلْبِهِ فَيَكْفِيهِ مِثْلُ هَذَا الضَّرْبِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ خَاصٌّ بِأَيُّوبَ وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ. ثُمَّ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَيُّوبَ فَقَالَ: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً أَيْ: عَلَى الْبَلَاءِ الَّذِي ابْتَلَيْنَاهُ بِهِ، فَإِنَّهُ ابْتُلِيَ بِالدَّاءِ الْعَظِيمِ فِي جَسَدِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فَصَبَرَ نِعْمَ الْعَبْدُ أَيْ: أَيُّوبُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أَيْ: رَجَّاعٌ إِلَى اللَّهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ عِبادَنا بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ «عَبْدَنَا» بِالْإِفْرَادِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ عَطْفُ بَيَانٍ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى يَكُونُ إِبْرَاهِيمُ عَطْفُ بَيَانٍ، وَمَا بَعْدَهُ عَطْفٌ عَلَى عَبْدَنَا لَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِعَبْدِنَا الْجِنْسُ جَازَ إِبْدَالُ الْجَمَاعَةِ مِنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ، أَوِ: النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَعَطْفُ الْبَيَانِ أَظْهَرُ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَبْيَنُ وَقَدِ اخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ الْأَيْدِي، جَمْعُ الْيَدِ الَّتِي بِمَعْنَى الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: أُعْطُوا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَنَصْرًا فِي الدِّينِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْمُفَسِّرُونَ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَمَّا الْأَبْصَارُ فَمُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهَا الْبَصَائِرُ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ. وَأَمَّا الْأَيْدِي فَمُخْتَلَفٌ فِي تَأْوِيلِهَا فَأَهْلُ التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ: إِنَّهَا الْقُوَّةُ فِي الدِّينِ، وَقَوْمٌ يَقُولُونَ: الْأَيْدِي جَمْعُ يَدٍ وَهِيَ النِّعْمَةُ، أَيْ: هُمْ أَصْحَابُ النِّعَمِ، أَيِ: الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ النِّعَمِ عَلَى النَّاسِ وَالْإِحْسَانِ

إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَحْسَنُوا وَقَدَّمُوا خَيْرًا، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أُولِي الْأَيْدِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْأَيْدِي. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى الْأَيْدِ بِغَيْرِ يَاءٍ، فَقِيلَ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا حُذِفَتِ الْيَاءُ لِدَلَالَةِ كَسْرَةِ الدَّالِ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: الْأَيْدُ: الْقُوَّةُ، وَجُمْلَةُ: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ تَعْلِيلٌ لِمَا وُصِفُوا بِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِخالِصَةٍ بِالتَّنْوِينِ وَعَدَمِ الْإِضَافَةِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِخْلَاصِ، فَيَكُونُ ذِكْرَى مَنْصُوبًا بِهِ، أَوْ: بِمَعْنَى الْخُلُوصِ، فَيَكُونُ ذِكْرَى مَرْفُوعًا بِهِ، أَوْ يَكُونُ خَالِصَةٍ اسم فاعل على بابه، وذكرى بَدَلٌ مِنْهَا أَوْ بَيَانٌ لَهَا أَوْ بِإِضْمَارِ أعني أو مرفوعة بإضمار مبتدأ، والدار يجوز أن تكون مفعولا به لذكرى وَأَنْ تَكُونَ ظَرْفًا: إِمَّا عَلَى الِاتِّسَاعِ، أَوْ على إسقاط الخافض وعلى كلّ تقدير فخالصة: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَالْبَاءُ: لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ خَصْلَةٍ خَالِصَةٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِإِضَافَةِ خَالِصَةٍ إِلَى ذِكْرَى عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلْبَيَانِ، لِأَنَّ الْخَالِصَةَ تَكُونُ ذِكْرَى وَغَيْرَ ذِكْرَى، أَوْ عَلَى أَنَّ خالصة: مصدر مضاف إلى مفعول، وَالْفَاعِلُ: مَحْذُوفٌ. أَيْ: بِأَنْ أَخْلَصُوا ذِكْرَى الدَّارِ، أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْخُلُوصِ مُضَافًا إِلَى فَاعِلِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى الْآيَةِ اسْتَصْفَيْنَاهُمْ بِذِكْرِ الْآخِرَةِ فَأَخْلَصْنَاهُمْ بِذِكْرِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْآخِرَةِ وَإِلَى اللَّهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَخْلَصُوا بِخَوْفِ الْآخِرَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّنْوِينِ فِي خَالِصَةٍ كَانَ الْمَعْنَى جَعَلْنَاهُمْ لَنَا خَالِصِينَ بِأَنْ خَلَصَتْ لَهُمْ ذِكْرَى الدَّارِ، وَالْخَالِصَةُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْخُلُوصِ، وَالذِّكْرَى بِمَعْنَى التَّذَكُّرِ، أَيْ: خَلَصَ لَهُمْ تذكر الدار، وهو أنهم يذكرون التأهب لها، وَيَزْهَدُونَ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا مَنْ أَضَافَ فَالْمَعْنَى: أَخْلَصْنَا لَهُمْ بِأَنْ خَلَصَتْ لَهُمْ ذِكْرَى الدَّارِ، وَالْخَالِصَةُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالذِّكْرَى عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الذِّكْرُ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ الِاصْطِفَاءُ: الِاخْتِيَارُ، وَالْأَخْيَارُ، جَمْعُ خَيِّرٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَالتَّخْفِيفِ كَأَمْوَاتٍ فِي جَمْعِ مَيِّتٍ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُخْتَارِينَ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ مِنَ الْأَخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ قِيلَ: وَجْهُ إِفْرَادِهِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ أَبِيهِ، وَأَخِيهِ، وَابْنِ أَخِيهِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ عَرِيقٌ فِي الصَّبْرِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّذْكِيرِ هنا وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْيَسَعَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي الْأَنْعَامِ، وتقدّم ذكر ذا الْكِفْلِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَبَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَتَحَمَّلُوا الشَّدَائِدَ فِي دِينِ اللَّهِ. أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَذْكُرَهُمْ لِيَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ فِي الصَّبْرِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ يَعْنِي: الَّذِينَ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِنُبُوَّتِهِ، وَاصْطَفَاهُمْ مِنْ خَلْقِهِ هَذَا ذِكْرٌ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ أَوْصَافِهِمْ، أَيْ: هَذَا ذِكْرٌ جَمِيلٌ فِي الدُّنْيَا وَشَرَفٌ يُذْكَرُونَ بِهِ أَبَدًا وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أَيْ: لهم مع الذِّكْرِ الْجَمِيلِ حُسْنُ مَآبٍ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمَآبُ: الْمَرْجِعُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي الْآخِرَةِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ، وَرِضْوَانِهِ، وَنَعِيمِ جَنَّتِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ حُسْنَ الْمَرْجِعِ فَقَالَ: جَنَّاتِ عَدْنٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ جَنَّاتِ بِالنَّصْبِ بَدَلًا مِنْ حُسْنَ مَآبٍ، سَوَاءٌ كَانَ جَنَّاتِ عَدْنٍ مَعْرِفَةً أَوْ نَكِرَةً لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُبَدَّلُ مِنَ النَّكِرَةِ وَبِالْعَكْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَنَّاتِ عَطْفَ بَيَانٍ إِنْ كَانَتْ نَكِرَةً، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا إِنْ كَانَتْ مَعْرِفَةً عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ النُّحَاةِ وَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ جَنَّاتِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ. وَالْعَدْنُ فِي الْأَصْلِ: الْإِقَامَةُ،

يُقَالُ عَدَنَ بِالْمَكَانِ: إِذَا أَقَامَ فِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِقَصْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَقُرِئَ بِرَفْعِ جَنَّاتِ عَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ. وَخَبَرُهَا مُفَتَّحَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَقَوْلُهُ: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ حَالٌ مِنْ جَنَّاتِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا فِي الْمُتَّقِينَ من معنى الفعل، والأبواب: مرتفعة باسم المفعول، كقوله: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَالرَّابِطُ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا ضَمِيرٌ مُقَدَّرٌ، أَيْ: مِنْهَا، أَوِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الضَّمِيرِ، إِذِ الْأَصْلُ أَبْوَابُهَا. وَقِيلَ: إِنَّ ارْتِفَاعَ الْأَبْوَابِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُفَتَّحَةٌ الْعَائِدِ عَلَى جَنَّاتِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، أَيْ: مُفَتَّحَةٌ هِيَ الْأَبْوَابُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مُفَتَّحَةٌ أَبْوَابُهَا، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الْأَلِفَ وَاللَّامَ خَلَفًا مِنَ الْإِضَافَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى مُفَتَّحَةٌ لَهُمُ الْأَبْوَابُ مِنْهَا. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْأَبْوَابَ يُقَالُ لَهَا: انْفَتِحِي فَتَنْفَتِحُ، انْغَلِقِي فَتَنْغَلِقُ، وَقِيلَ: تَفْتَحُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْأَبْوَابَ، وَانْتِصَابُ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَهُمُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مُفَتَّحَةً، وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنْ يَدْعُونَ قُدِّمَتْ عَلَى الْعَامِلِ فِيها أَيْ يَدْعُونَ فِي الْجَنَّاتِ حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَّكِئِينَ فِيهَا بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ أَيْ: بِأَلْوَانٍ متنوّعة مُتَكَثِّرَةٍ مِنَ الْفَوَاكِهِ وَشَرابٍ كَثِيرٍ، فَحَذَفَ كَثِيرًا لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَعَلَى جَعْلِ مُتَّكِئِينَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَهُمُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مُفَتَّحَةً، فَتَكُونُ جُمْلَةُ يَدْعُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِهِمْ. وَقِيلَ إِنَّ يَدْعُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ مُتَّكِئِينَ وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ أَيْ: قَاصِرَاتٌ طَرَفَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَالْأَتْرَابُ: الْمُتَّحِدَاتُ فِي السِّنِّ، أَوِ الْمُتَسَاوِيَاتُ فِي الْحُسْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى أَتْرَابٌ أَنَّهُنَّ مُتَوَاخِيَاتٌ لَا يَتَبَاغَضْنَ وَلَا يَتَغَايَرْنَ. وَقِيلَ: أَتْرَابًا لِلْأَزْوَاجِ. وَالْأَتْرَابُ: جَمْعُ تِرْبٍ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ التُّرَابِ لِأَنَّهُ يَمَسُّهُنَّ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ مَوْلِدِهِنَّ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ أَيْ: هَذَا الْجَزَاءُ الَّذِي وُعِدْتُمْ بِهِ لِأَجْلِ يَوْمِ الْحِسَابِ، فَإِنَّ الْحِسَابَ عِلَّةٌ لِلْوُصُولِ إِلَى الْجَزَاءِ، أَوِ الْمَعْنَى: في يوم الحساب. قرأ الْجُمْهُورُ مَا تُوعَدُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ فَإِنَّهُ خَبَرٌ. إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا أَيْ: إِنَّ هَذَا الْمَذْكُورَ مِنَ النِّعَمِ وَالْكَرَامَاتِ لَرِزْقُنَا الَّذِي أَنْعَمْنَا بِهِ عَلَيْكُمْ مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ أَيِ انْقِطَاعٍ وَلَا يَفْنَى أَبَدًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ «1» فَنِعَمُ الْجَنَّةِ لَا تَنْقَطِعُ عَنْ أَهْلِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ سَلِّطْنِي عَلَى أَيُّوبَ، قَالَ اللَّهُ: لَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَلَمْ أُسَلِّطْكَ عَلَى جَسَدِهِ، فَنَزَلَ فَجَمَعَ جُنُودَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ سُلِّطْتُ عَلَى أَيُّوبَ فَأَرُونِي سُلْطَانَكُمْ، فَصَارُوا نِيرَانًا ثُمَّ صاروا ماء، فبيناهم فِي الْمَشْرِقِ إِذَا هُمْ بِالْمَغْرِبِ، وَبَيْنَمَا هُمْ بِالْمَغْرِبِ إِذَا هُمْ بِالْمَشْرِقِ. فَأَرْسَلَ طَائِفَةً مِنْهُمْ إِلَى زَرْعِهِ، وَطَائِفَةً إِلَى أَهْلِهِ، وَطَائِفَةً إِلَى بَقَرِهِ، وَطَائِفَةً إِلَى غَنَمِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُعْتَصَمُ مِنْكُمْ إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ، فَأَتَوْهُ بِالْمَصَائِبِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَجَاءَ صَاحِبُ الزَّرْعِ فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ أَرْسَلَ عَلَى زَرْعِكَ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُ؟ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُ الْإِبِلِ، فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ أَرْسَلَ إِلَى إِبِلِكَ عَدُوًّا فَذَهَبَ بِهَا، ثُمَّ جاء صاحب البقر فقال:

_ (1) . هود: 108.

يَا أَيُّوبُ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ أَرْسَلَ إِلَى بَقَرِكَ عَدُوًّا فَذَهَبَ بِهَا؟ ثُمَّ جَاءَهُ صَاحِبُ الْغَنَمِ فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ أَرْسَلَ عَلَى غَنَمِكَ عَدُوًّا فَذَهَبَ بِهَا؟ وَتَفَرَّدَ هُوَ لِبَنِيهِ فَجَمَعَهُمْ فِي بَيْتِ أَكْبَرِهِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ إِذْ هَبَّتْ رِيحٌ فَأَخَذَتْ بِأَرْكَانِ الْبَيْتِ فَأَلْقَتْهُ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ إِلَى أَيُّوبَ بِصُورَةِ غُلَامٍ بِأُذُنَيْهِ قُرْطَانِ فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ جَمَعَ بَنِيكَ فِي بَيْتِ أَكْبَرِهِمْ فَبَيْنَمَا هُمْ يأكلون ويشربون إذ هبت ريح أخذت بِأَرْكَانِ الْبَيْتِ فَأَلْقَتْهُ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ حِينَ اختلطت دماءهم وَلُحُومُهُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ؟ فَقَالَ لَهُ أَيُّوبُ: فَأَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ مَعَهُمْ، قَالَ: فَكَيْفَ انْفَلَتَّ؟ قَالَ انْفَلَتُّ، قَالَ أَيُّوبُ أَنْتَ الشَّيْطَانُ ثُمَّ قَالَ أَيُّوبُ أَنَا الْيَوْمَ كَيَوْمِ وَلَدَتْنِي أُمِّي، فَقَامَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَقَامَ يُصَلِّي، فَرَنَّ إِبْلِيسُ رَنَّةً سَمِعَهَا أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ إِنَّهُ قَدِ اعْتَصَمَ فَسَلِّطْنِي عَلَيْهِ فَإِنِّي لَا أَسْتَطِيعُهُ إِلَّا بِسُلْطَانِكَ، قَالَ: قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى جَسَدِهِ وَلَمْ أُسَلِّطْكَ عَلَى قَلْبِهِ، فَنَزَلَ فَنَفَخَ تَحْتَ قدمه نفخة قرح ما بين قدمه إِلَى قَرْنِهِ، فَصَارَ قُرْحَةً وَاحِدَةً وَأُلْقِيَ عَلَى الرَّمَادِ حَتَّى بَدَا حِجَابُ قَلْبِهِ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَسْعَى عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَتْ لَهُ: أَلَا تَرَى يَا أَيُّوبُ قَدْ نَزَلَ وَاللَّهِ بِي مِنَ الْجَهْدِ وَالْفَاقَةِ مَا إِنْ بِعْتُ قُرُونِي بِرَغِيفٍ فَأَطْعَمْتُكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَكَ وَيُرِيحَكَ قَالَ: ويحك كنا في النعم سَبْعِينَ عَامًا فَاصْبِرِي حَتَّى نَكُونَ فِي الضَّرَّاءِ سَبْعِينَ عَامًا، فَكَانَ فِي الْبَلَاءِ سَبْعَ سِنِينَ وَدَعَا فَجَاءَ جِبْرِيلُ يَوْمًا فَدَعَا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ قُمْ، فَقَامَ فَنَحَّاهُ عَنْ مَكَانِهِ وَقَالَ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَقَالَ اغْتَسِلْ، فَاغْتَسَلَ مِنْهَا، ثُمَّ جَاءَ أَيْضًا فَقَالَ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى فَقَالَ لَهُ اشْرَبْ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ وَأَلْبَسَهُ اللَّهُ حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَنَحَّى أَيُّوبُ فَجَلَسَ فِي نَاحِيَةٍ وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَيْنَ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَاهُنَا؟ لَعَلَّ الْكِلَابَ قَدْ ذَهَبَتْ بِهِ أَوِ الذِّئَابَ وَجَعَلَتْ تُكَلِّمُهُ سَاعَةً، فَقَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ جَسَدِي. وَرَدَّ عَلَيْهِ مَالَهُ وَوَلَدَهُ عِيَانًا وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ الْجَرَادَ بِيَدِهِ ثُمَّ يَجْعَلُهُ فِي ثَوْبِهِ وَيَنْشُرُ كِسَاءَهُ وَيَأْخُذُهُ فَيَجْعَلُ فِيهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا أَيُّوبُ أَمَا شَبِعْتَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْبَعُ مِنْ فَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ. وَفِي هَذَا نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُمَكِّنُ الشَّيْطَانَ مِنْ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ هَذَا التَّسْلِيطَ الْعَظِيمَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ إِبْلِيسَ قَعَدَ عَلَى الطَّرِيقِ وَأَخَذَ تَابُوتًا يُدَاوِي النَّاسَ، فَقَالَتِ امْرَأَةُ أَيُّوبَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ هَاهُنَا مُبْتَلًى مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا فَهَلْ لَكَ أَنْ تُدَاوِيَهُ قَالَ: نَعَمْ بِشَرْطٍ إِنْ أَنَا شَفَيْتُهُ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ شَفَيْتَنِي لَا أُرِيدُ مِنْهُ أَجْرًا غَيْرَهُ. فَأَتَتْ أَيُّوبَ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَيْحَكِ ذَاكَ الشَّيْطَانُ، لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ شَفَانِي اللَّهُ أَنْ أَجْلِدَكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ، فَأَخَذَ عِذْقًا فيه شِمْرَاخٍ فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً قَالَ: هُوَ الْأَسَلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الضِّغْثُ القبضة مِنَ الْمَرْعَى الرَّطْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الضِّغْثُ: الْحُزْمَةُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ من طريق أبي أمامة ابن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ

[سورة ص (38) : الآيات 55 إلى 70]

قَالَ: «حَمَلَتْ وَلِيدَةُ فِي بَنِي سَاعِدَةَ مِنْ زنا، فَقِيلَ لَهَا مِمَّنْ حَمْلُكِ؟ قَالَتْ مِنْ فُلَانٍ الْمُقْعَدِ، فَسُئِلَ الْمُقْعَدُ فَقَالَ صَدَقَتْ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: خُذُوا عُثْكُولًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فاضربوه به ضربة واحدة» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ابن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَيُّوبُ رَأْسُ الصَّابِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أُولِي الْأَيْدِي قَالَ: الْقُوَّةُ فِي الْعِبَادَةِ وَالْأَبْصارِ قَالَ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أُولِي الْأَيْدِي قَالَ: النِّعْمَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ قَالَ: أَخْلَصُوا بِذِكْرِ دَارِ الْآخِرَةِ أَنْ يَعْمَلُوا لها. [سورة ص (38) : الآيات 55 الى 70] هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا مَا لَنا لَا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) قَوْلُهُ: هَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْأَمْرُ هَذَا فَيُوقَفُ عَلَى هَذَا. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا وَقْفٌ حَسَنٌ ثُمَّ يَبْتَدِئُ وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: هَذَا كَمَا ذُكِرَ، أَوْ هَذَا ذُكِرَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا لِأَهْلِ الشَّرِّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا لِأَهْلِ الْخَيْرِ فَقَالَ: وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ أَيِ: الَّذِينَ طَغَوْا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ لَشَرَّ مَآبٍ لَشَرَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَانْتِصَابُ جَهَنَّمَ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ شَرَّ مَآبٍ، أَوْ منصوبة بأعني، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ كَمَا سَلَفَ قَرِيبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَيْ: يَصْلَوْنَ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا، وَمَعْنَى يَصْلَوْنَهَا: يَدْخُلُونَهَا، وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِيَّةِ فَبِئْسَ الْمِهادُ أَيْ: بِئْسَ مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ الْفِرَاشُ، مَأْخُوذٌ مِنْ مَهْدِ الصَّبِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَهْدِ: الْمَوْضِعَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِئْسَ الْمِهَادُ هِيَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ «1» شَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا تَحْتَهُمْ مِنْ نَارِ جهنم بالمهاد هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ هذا: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ: هَذَا حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: هَذَا حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ، أَوْ يُقَالُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هَذِهِ الْمَقَالَةُ. وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ الذي قد انتهى حرّه،

_ (1) . الأعراف: 41.

وَالْغَسَّاقُ: مَا سَالَ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، مِنْ قَوْلِهِمْ غَسَقَتْ عَيْنُهُ إِذَا انْصَبَّتْ، وَالْغَسَقَانُ الِانْصِبَابُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْأَمْرَ هَذَا، وَارْتِفَاعُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرَانِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: لِيَذُوقُوا هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَمِيمٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ، أَيْ: مِنْهُ حَمِيمٌ، وَمِنْهُ غَسَّاقٌ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: حَتَّى مَا إِذَا أَضَاءَ الْبَرْقُ فِي غَلَسٍ ... وَغُودِرَ الْبَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَخْضُودُ أَيْ: مِنْهُ مَلْوِيٌّ، وَمِنْهُ مَخْضُودٌ، وَقِيلَ: الْغَسَّاقُ مَا قَتَلَ بِبَرْدِهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّيْلِ: غَاسِقٌ، لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنَ النَّهَارِ، وَقِيلَ: هُوَ الزَّمْهَرِيرُ، وَقِيلَ: الْغَسَّاقُ الْمُنْتِنُ، وَقِيلَ: الْغَسَّاقُ عَيْنٌ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ مِنْهُ كُلُّ ذَوْبِ حَيَّةٍ وَعَقْرَبٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا يُسِيلُ مِنْ فُرُوجِ النِّسَاءِ الزَّوَانِي، وَمِنْ نَتَنِ لُحُومِ الْكَفَرَةِ، وَجُلُودِهِمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْغَسَّاقُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ دُمُوعِ أَهْلِ النَّارِ يَسْقُونَهُ مَعَ الْحَمِيمِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ الثَّلْجُ الْبَارِدُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى بَرْدُهُ، وَتَفْسِيرُ الْغَسَّاقِ بِالْبَارِدِ أَنْسَبُ بِمَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا مَا تَذَكَّرْتُ الْحَيَاةَ وَطِيبَهَا ... إِلَيَّ جَرَى دَمْعٌ مِنَ اللَّيْلِ غَاسِقُ أَيْ: بَارِدٌ، وَأَنْسَبُ أَيْضًا بِمُقَابَلَةِ الْحَمِيمِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِتَخْفِيفِ السِّينِ مِنْ غَسَّاقٌ وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، فَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ اسْمٌ مِثْلُ عَذَابٍ وَجَوَابٍ وَصَوَابٍ، وَمَنْ شَدَّدَ قَالَ: هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ ضَرَّابٍ وَقَتَّالٍ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَآخَرُ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «وَأُخَرُ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ، وَأَنْكَرَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ أَزْوَاجٌ، وَأَنْكَرَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو وَقَالَ: لَوْ كَانَتْ كَمَا قَرَأَ لِقَالَ مِنْ شَكْلِهَا، وَارْتِفَاعُ آخَرُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَزْوَاجٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شكله خبرا مقدّما، وأزواج مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ آخَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون خبرا آخر مقدرا، أي: وآخر لهم، ومِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَعَذَابٌ آخَرُ أَوْ مَذُوقٌ آخَرُ، أو نوع آخر من شكل العذاب، أو الْمَذُوقِ، أَوِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَالشَّكْلُ الْمَثَلُ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَذُوقَاتٌ أُخَرُ، أَوْ أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِنْ شَكْلِ ذَلِكَ الْمَذُوقِ أَوِ النَّوْعِ الْمُتَقَدِّمِ. وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ فِي شَكْلِهِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: مِنْ شَكْلِ الْمَذْكُورِ، وَمَعْنَى أَزْواجٌ: أَجْنَاسٌ، وَأَنْوَاعٌ، وَأَشْبَاهٌ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ لِأَهْلِ النَّارِ حَمِيمًا، وَغَسَّاقًا، وَأَنْوَاعًا مِنَ الْعَذَابِ مِنْ مِثْلِ الْحَمِيمِ، وَالْغَسَّاقِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ الزَّمْهَرِيرُ، وَلَا يُتِمُّ هَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الزَّمْهَرِيرَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَأَجْنَاسٌ مُتَفَاوِتَةٌ لِيُطَابِقَ مَعْنَى أَزْوَاجٍ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ زَمْهَرِيرًا هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ الْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ، وَالِاقْتِحَامُ: الدُّخُولُ، وَهَذَا حِكَايَةٌ لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةُ

النَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَادَةَ، وَالرُّؤَسَاءَ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَهُمُ الْأَتْبَاعُ قَالَتِ الْخَزَنَةُ لِلْقَادَةِ: هَذَا فَوْجٌ، يَعْنُونَ: الْأَتْبَاعَ، مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ: أَيْ دَاخِلٌ مَعَكُمْ إِلَى النَّارِ، وَقَوْلُهُ: لَا مَرْحَباً بِهِمْ مِنْ قَوْلِ الْقَادَةِ وَالرُّؤَسَاءِ لَمَّا قَالَتْ لَهُمُ الْخَزَنَةُ ذَلِكَ قَالُوا لَا مَرْحَبًا بِهِمْ، أَيْ: لَا اتَّسَعَتْ مُنَازِلُهُمْ فِي النَّارِ، وَالرَّحْبُ: السَّعَةُ، وَالْمَعْنَى: لَا كَرَامَةَ لَهُمْ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِانْقِطَاعِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ الْمَوَدَّةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ تَصِيرُ عَدَاوَةً. وَجُمْلَةُ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ: دُعَائِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، أَوْ صِفَةٌ لِلْفَوْجِ، أَوْ حَالٌ مِنْهُ أَوْ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ: مَقُولًا فِي حَقِّهِمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِ الْخَزَنَةِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْأَتْبَاعِ الْآتِي، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ تَعْلِيلٌ مِنْ جِهَةِ الْقَائِلِينَ لا مرحبا بهم، أي: إنهم صالوا النَّارِ كَمَا صَلِينَاهَا وَمُسْتَحِقُّونَ لَهَا كَمَا اسْتَحَقَّيْنَاهَا. وَجُمْلَةُ (قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ) مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: قَالَ الْأَتْبَاعُ عند سماع ما قاله الرؤساء لهم بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ، أَيْ: لَا كَرَامَةَ لَكُمْ، ثُمَّ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أَيْ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُ الْعَذَابَ أَوِ الصَّلْيَ لَنَا وَأَوْقَعْتُمُونَا فِيهِ، وَدَعَوْتُمُونَا إِلَيْهِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لَنَا مِنْ أَنَّ الْحَقَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ غَيْرُ صَادِقِينَ فِيمَا جَاءُوا بِهِ فَبِئْسَ الْقَرارُ أَيْ: بِئْسَ الْمَقَرُّ جَهَنَّمُ لَنَا وَلَكُمْ. ثُمَّ حَكَى عَنِ الْأَتْبَاعِ أَيْضًا أَنَّهُمْ أَرْدَفُوا هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلٍ آخَرَ، وَهُوَ قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ أَيْ: زِدْهُ عَذَابًا ذَا ضِعْفٍ، وَالضِّعْفُ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ، وَمَعْنَى مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا: مَنْ دَعَانَا إِلَيْهِ، وَسَوَّغَهُ لَنَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مَنْ سَوَّغَ لَنَا هَذَا وَسَنَّهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: قَدَّمَ لَنَا هَذَا الْعَذَابَ بِدُعَائِهِ إِيَّانَا إِلَى الْكُفْرِ فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ، أَيْ: عَذَابًا بِكُفْرِهِ، وَعَذَابًا بِدُعَائِهِ إِيَّانَا، فَصَارَ ذَلِكَ ضِعْفًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ «1» وقوله: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ «2» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالضِّعْفِ هُنَا الْحَيَّاتُ وَالْعَقَارِبُ وَقالُوا مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الرُّؤَسَاءِ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ الطَّاغِينَ الْمَذْكُورِينَ سَابِقًا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَنْظُرُونَ فِي النَّارِ فَلَا يَرَوْنَ مَنْ كَانَ يُخَالِفُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ فِيهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ. وَقِيلَ: يَعْنُونَ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ كَعَمَّارٍ، وَخَبَّابٍ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَسَالِمٍ، وَسَلْمَانَ. وَقِيلَ: أَرَادُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْعُمُومِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا فِي الدُّنْيَا فَأَخْطَأْنَا، أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ فَلَمْ نَعْلَمْ مَكَانَهُمْ؟ وَالْإِنْكَارُ الْمَفْهُومُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ فعلوا: اتخذوهم سخريا، وزاغت عنهم أبصارهم. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّعَجُّبِ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْأَعْمَشُ بِحَذْفِ هَمْزَةِ أَتَّخَذْنَاهُمْ فِي الْوَصْلِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ خَبَرًا مَحْضًا، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةً ثَانِيَةً لرجالا، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِاسْتِفْهَامَ، وَحُذِفَتْ أَدَاتُهُ لِدَلَالَةِ أَمْ عَلَيْهَا فَتَكُونُ أَمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ منقطعة بمعنى بل والهمزة، أي: بل أزاغت عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ عَلَى مَعْنَى تَوْبِيخِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الِاسْتِسْخَارِ، ثُمَّ الْإِضْرَابِ وَالِانْتِقَالِ مِنْهُ إِلَى التَّوْبِيخِ عَلَى الِازْدِرَاءِ وَالتَّحْقِيرِ، وَعَلَى الثَّانِي أَمْ هِيَ المتصلة.

_ (1) . الأعراف: 38. (2) . الأحزاب: 68.

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ سَقَطَتْ لِأَجْلِهَا هَمْزَةُ الْوَصْلِ، وَلَا مَحَلَّ لِلْجُمْلَةِ حِينَئِذٍ، وَفِيهِ التَّوْبِيخُ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ أَمْ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هِيَ لِلتَّسْوِيَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَنَافِعٌ، وَشَيْبَةُ، وَالْمُفَضَّلُ، وَهُبَيْرَةُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «سُخْرِيًّا» بِضَمِّ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ كَسَرَ جَعَلَهُ مِنَ الْهَزْءِ، وَمَنْ ضَمَّ جَعَلَهُ مِنَ التَّسْخِيرِ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ حَالِهِمْ، وَخَبَرُ إِنَّ قَوْلُهُ: لَحَقٌّ أَيْ: لَوَاقِعٌ ثَابِتٌ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لا يتخلف ألبتة، وتَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لذلك، وقيل: بيان لحقّ، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْهُ، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِرَفْعِ تُخَاصُمُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ ذَلِكَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ لَحَقٌّ لَا بُدَّ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ، وَهُوَ تَخَاصُمُ أهل النار فيها، وَمَا قَالَتْهُ الرُّؤَسَاءُ لِلْأَتْبَاعِ، وَمَا قَالَتْهُ الْأَتْبَاعُ لَهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِنَصْبِ تَخاصُمُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ بِإِضْمَارِ أعني. وقرأ ابن السميقع «تَخَاصُمُ» بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، فَتَكُونُ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا جَامِعًا بَيْنَ التَّخْوِيفِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى التَّوْحِيدِ فَقَالَ: قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أَيْ: مُخَوِّفٌ لَكُمْ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ وَما مِنْ إِلهٍ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ الْقَهَّارُ لِكُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ الْغَفَّارُ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَقِيلَ مَعْنَى الْعَزِيزُ: الْمَنِيعُ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ، وَمَعْنَى الْغَفَّارُ السَّتَّارُ لِذُنُوبِ خَلْقِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُبَالِغَ فِي إِنْذَارِهِمْ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ عِظَمَ الْأَمْرِ، وَجَلَالَتَهُ فَقَالَ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَيْ: مَا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْعِقَابِ، وَمَا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ مِنَ التَّوْحِيدِ: هُوَ خَبَرٌ عَظِيمٌ، وَنَبَأٌ جَلِيلٌ، مِنْ شَأْنِهِ الْعِنَايَةُ بِهِ، وَالتَّعْظِيمُ لَهُ، وَعَدَمُ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ «1» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ: هُوَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قُلِ النَّبَأَ الَّذِي أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ عَنِ اللَّهِ نَبَأٌ عَظِيمٌ: يَعْنِي مَا أَنْبَأَهُمْ بِهِ مِنْ قصص الأولين، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ، وَنُبُوَّتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، وَجُمْلَةُ: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ، وَتَقْرِيعٌ لِكَوْنِهِمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِيهِ فَيَعْلَمُوا صِدْقَهُ وَيَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَى مَا أَنْكَرُوهُ مِنَ الْبَعْثِ، وَقَوْلُهُ: مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى اسْتِئْنَافٌ مَسُوقٌ لِتَقْرِيرِ أَنَّهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَالْمَلَأُ الْأَعْلَى هُمُ الْمَلَائِكَةُ إِذْ يَخْتَصِمُونَ أَيْ: وقت اختصامهم، فقوله: بِالْمَلَإِ الْأَعْلى متعلق بعلم عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِحَاطَةِ، وَقَوْلُهُ: إِذْ يَخْتَصِمُونَ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: مَا كَانَ لِي فِيمَا سَبَقَ عِلْمٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ بِحَالِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَقْتَ اخْتِصَامِهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي يَخْتَصِمُونَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَالْخُصُومَةُ الْكَائِنَةُ بَيْنَهُمْ هِيَ فِي أَمْرِ آدَمَ كَمَا يُفِيدُهُ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَجُمْلَةُ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ اخْتِصَامِهِمُ الْمُجْمَلِ وَبَيْنَ تَفْصِيلِهِ بِقَوْلِهِ: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ. وَالْمَعْنَى: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّنِي نَذِيرٌ مُبِينٌ أُبَيِّنُ لَكُمْ مَا تَأْتُونَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَمَا تَدَعُونَ من الحرام والمعصية. قال:

_ (1) . النبأ: 1 و 2.

كَأَنَّكَ قُلْتَ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا الْإِنْذَارُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِمَعْنَى مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا لِأَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّمَا عَلَى أَنَّهَا وَمَا فِي حَيِّزِهَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْفَاعِلِ، أَيْ: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا الْإِنْذَارُ، أَوْ إِلَّا كَوْنِي نَذِيرًا مُبِينًا، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، أَوْ جَرٍّ بَعْدَ إِسْقَاطِ لَامِ الْعِلَّةِ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ عَلَى هَذَا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ فِي الْوَحْيِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَهِيَ الْقَائِمَةُ مَقَامَ الْفَاعِلِ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِهَذَا الْإِخْبَارِ، وَهُوَ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ: إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي يَخْتَصِمُونَ عَائِدٌ إِلَى قُرَيْشٍ يَعْنِي قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْهُمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ لِي عِلْمٌ بِالْمَلَائِكَةِ إِذْ تَخْتَصِمُ فِيهِمْ قُرَيْشٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَغَسَّاقٌ قَالَ: الزَّمْهَرِيرُ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ قَالَ: مِنْ نَحْوِهِ أَزْواجٌ قَالَ: أَلْوَانٌ مِنَ الْعَذَابِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لو أنّ دلوا من غسّاق يهرق فِي الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْلُ الدُّنْيَا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ. قُلْتُ: وَرِشْدِينُ فِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ قَالَ: أَفَاعِي وَحَيَّاتٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِالْمَلَإِ الْأَعْلى قَالَ: الْمَلَائِكَةُ حِينَ شُووِرُوا فِي خَلْقِ آدَمَ فَاخْتَصَمُوا فِيهِ، وَقَالُوا: لَا تَجْعَلْ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ قَالَ: هِيَ الْخُصُومَةُ فِي شَأْنِ آدَمَ حَيْثُ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، أَحْسَبُهُ قَالَ فِي الْمَنَامِ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ لَا، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ أَوْ فِي نَحْرِي، فَعَلِمْتُ ما في السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ نَعَمْ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَالْكَفَّارَاتُ: الْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَالْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَإِبْلَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ» الْحَدِيثَ «1» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ، وَقَالَ «وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ» «2» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ نَحْوَهُ بِأَخْصَرَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ.

_ (1) . للحديث روايات عدة ذكرها السيوطي في الدر المنثور (7/ 202) وللحافظ ابن رجب الحنبلي رسالة في شرح هذا الحديث سماها: «اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى» فلتراجع فإنها قيمة. (2) . السبرات: جمع سبرة وهي شدة البرد.

[سورة ص (38) : الآيات 71 إلى 88]

[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 88] إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خُصُومَةَ الْمَلَائِكَةِ إِجْمَالًا فِيمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَهَا هُنَا تَفْصِيلًا، فَقَالَ: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِذْ هَذِهِ هِيَ بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ لِاشْتِمَالِ مَا فِي حَيِّزِ هَذِهِ عَلَى الْخُصُومَةِ. وَقِيلَ: هِيَ مَنْصُوبَةٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِذَا كَانَتْ خُصُومَةُ الْمَلَائِكَةِ فِي شَأْنِ مَنْ يَسْتَخْلِفُ فِي الْأَرْضِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَالثَّانِي أَوْلَى إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ أَيْ: خَالِقٌ فِيمَا سَيَأْتِي مِنَ الزَّمَنِ بَشَراً: أَيْ جِسْمًا مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ مَأْخُوذٌ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ لِلْأَرْضِ، أَوْ مِنْ كَوْنِهِ بَادِيَ الْبَشَرَةِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ طِينٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِبَشَرٍ أَوْ بِخَالِقٍ وَمَعْنَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ صَوَّرْتُهُ عَلَى صُورَةِ البشر، وصارت أَجْزَاؤُهُ مُسْتَوِيَةً وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أَيْ: مِنَ الرُّوحِ الَّذِي أَمْلِكُهُ، وَلَا يَمْلِكُهُ غَيْرِي. وَقِيلَ: هُوَ تَمْثِيلٌ، وَلَا نَفْخَ وَلَا مَنْفُوخَ فِيهِ. وَالْمُرَادُ: جَعَلَهُ حَيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمَادًا لَا حَيَاةَ فِيهِ. وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ في هذا في سورة الحجر فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ هُوَ أَمْرٌ مِنْ وَقَعَ يَقَعُ، وَانْتِصَابُ سَاجِدِينَ عَلَى الْحَالِ، وَالسُّجُودُ هُنَا: هُوَ سُجُودُ التَّحِيَّةِ، لَا سُجُودُ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ وَالتَّقْدِيرُ: فَخَلَقَهُ فَسَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، فَسَجَدَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ. وَقَوْلُهُ: كُلُّهُمْ يُفِيدُ أَنَّهُمْ سَجَدُوا جَمِيعًا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَقَوْلُهُ: أَجْمَعُونَ يُفِيدُ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى السُّجُودِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ: فَالْأَوَّلُ لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ، وَالثَّانِي: لِقَصْدِ الِاجْتِمَاعِ. قال في الكشاف: فأفاد مَعًا أَنَّهُمْ سَجَدُوا عَنْ آخِرِهِمْ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ مَلَكٌ إِلَّا سَجَدَ، وَأَنَّهُمْ سَجَدُوا جَمِيعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ فِي أَوْقَاتٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَكَّدَ بِتَأْكِيدَيْنِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْمِيمِ إِلَّا إِبْلِيسَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ كَانَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ دَاخِلًا فِي عِدَادِهِمْ فَغَلَبُوا عَلَيْهِ، أَوْ مُنْقَطِعٌ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عَدَمِ دُخُولِهِ فِيهِمْ أَيْ لَكِنَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أَيْ: أَنِفَ مِنَ السُّجُودِ جَهْلًا منه بأنه طاعة لله، وَكان اسْتِكْبَارُهُ اسْتِكْبَارَ كُفْرٍ، فَلِذَلِكَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ أَيْ: صَارَ مِنْهُمْ بِمُخَالَفَتِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَنْ طَاعَتِهِ، أَوْ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْأَعْرَافِ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْكَهْفِ، وَطه. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ تَرْكِهِ لِلسُّجُودِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ فَ قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَيْ: مَا صَرَفَكَ وَصَدَّكَ عَنِ السُّجُودِ لِمَا تَوَلَّيْتُ خَلْقَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَأَضَافَ

خَلْقَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَكْرِيمًا لَهُ وَتَشْرِيفًا، مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا أَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ الرُّوحَ، وَالْبَيْتَ، وَالنَّاقَةَ، وَالْمَسَاجِدَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْيَدُ هُنَا بِمَعْنَى التَّأْكِيدِ وَالصِّلَةِ مَجَازًا كقوله: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْيَدِ الْقُدْرَةَ، يُقَالُ: مَا لِي بِهَذَا الْأَمْرِ يَدٌ، وَمَا لِي بِهِ يَدَانِ، أَيْ قُدْرَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَحَمَّلْتُ مِنْ ذَلْفَاءَ مَا لَيْسَ لِي يَدٌ ... وَلَا لِلْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ يَدَانِ وَقِيلَ: التَّثْنِيَةُ فِي الْيَدِ لِلدَّلَالَةِ على أنها ليست بِمَعْنَى الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، بَلْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: لِما خَلَقْتُ هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ أَوِ الْمَوْصُولَةُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ «لَمَّا» بِالتَّشْدِيدِ مَعَ فَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا ظَرْفٌ بِمَعْنَى: حِينَ، كَمَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَقُرِئَ «بِيَدِي» عَلَى الْإِفْرَادِ أَسْتَكْبَرْتَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ استفهام توبيخ وتقريع وأَمْ مُتَّصِلَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَأَهْلُ مَكَّةَ بِأَلِفِ وَصْلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُرَادًا فَيُوَافِقُ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ وَقَوْلِ الْآخَرِ: بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِيَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ لِلِاسْتِفْهَامِ فَتَكُونُ أَمْ مُنْقَطِعَةً، وَالْمَعْنَى: اسْتَكْبَرْتَ عن السجود الذي أمرت به بل كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أَيِ: الْمُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرَفُّعِ عَنْ طَاعَةِ أَمْرِ اللَّهِ الْمُتَعَالِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: اسْتَكْبَرْتَ عَنِ السُّجُودِ الْآنَ، أَمْ لَمْ تَزَلْ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَجُمْلَةُ: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، ادَّعَى اللَّعِينُ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ، وَفِي ضِمْنِ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ سُجُودَ الْفَاضِلِ لِلْمَفْضُولِ لَا يَحْسُنُ، ثُمَّ عَلَّلَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ كَوْنِهِ خَيْرًا مِنْهُ بِقَوْلِهِ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ وَفِي زَعْمِهِ أَنَّ عُنْصُرَ النَّارِ أَشْرَفُ مِنْ عُنْصُرِ الطِّينِ، وَذَهَبَ عَنْهُ أَنَّ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْخَادِمِ لِعُنْصُرِ الطِّينِ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهَا اسْتُدْعِيَتْ كَمَا يُسْتَدْعَى الْخَادِمُ وَإِنِ اسْتُغْنِيَ عَنْهَا طُرِدَتْ، وَأَيْضًا فَالطِّينُ يَسْتَوْلِي عَلَى النَّارِ فَيُطْفِئُهَا، وَأَيْضًا فَهِيَ لَا تُوجَدُ إِلَّا بِمَا أَصْلُهُ مِنْ عُنْصُرِ الْأَرْضِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ شُرِّفَ آدَمُ بِشَرَفٍ وَكُرِّمَ بِكَرَامَةٍ لَا يُوَازِيهَا شَيْءٌ مِنْ شَرَفِ الْعَنَاصِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَالْجَوَاهِرُ فِي أَنْفُسِهَا مُتَجَانِسَةٌ، وَإِنَّمَا تُشَرَّفُ بِعَارِضٍ مِنْ عَوَارِضِهَا، وَجُمْلَةُ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها مُسْتَأْنَفَةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا: أَيْ: فَاخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ عَلَّلَ أَمْرَهُ بِالْخُرُوجِ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أَيْ: مَرْجُومٌ بِالْكَوَاكِبِ مَطْرُودٌ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ أَيْ: طَرْدِي لَكَ عَنِ الرَّحْمَةِ وَإِبْعَادِي لَكَ مِنْهَا، وَيَوْمُ الدِّينِ: يَوْمُ الْجَزَاءِ، فَأَخْبَرَ سبحانه وتعالى أن تلك اللعنة مُسْتَمِرَّةٌ لَهُ دَائِمَةٌ عَلَيْهِ مَا دَامَتِ الدُّنْيَا، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ يَلْقَى مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ وَسُخْطِهِ مَا هُوَ بِهِ حَقِيقٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّعْنَةَ تَزُولُ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ هُوَ مَلْعُونٌ أَبَدًا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَا يُنْسَى عِنْدَهُ اللَّعْنَةُ وَيَذْهَلُ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِيهِ

مِنْهَا صَارَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِجَنْبِ مَا يكون فيه، وجملة: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ كما تقدّم فيما قَبْلَهَا، أَيْ: أَمْهِلْنِي وَلَا تُعَاجِلْنِي إِلَى غَايَةٍ هِيَ يَوْمُ يُبْعَثُونَ، يَعْنِي: آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أَيِ: الْمُمْهَلِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لِفَنَاءِ الْخَلَائِقِ، وَهُوَ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ النَّفْخَةُ الأولى. قيل: إنما طلب إبليس الانتظار إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ لِيَتَخَلَّصَ مِنَ الْمَوْتِ، لِأَنَّهُ إِذَا أُنْظِرَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ لَمْ يَمُتْ قَبْلَ الْبَعْثِ، وَعِنْدَ مَجِيءِ الْبَعْثِ لَا يَمُوتُ، فَحِينَئِذٍ يَتَخَلَّصُ مِنَ الْمَوْتِ. فَأُجِيبَ بِمَا يُبْطِلُ مُرَادَهُ، وَيَنْقُضُ عَلَيْهِ مَقْصِدَهُ، وَهُوَ الْإِنْظَارُ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَلَمَّا سَمِعَ اللَّعِينُ إِنْظَارَ اللَّهِ لَهُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فَأَقْسَمَ بِعِزَّةِ اللَّهِ أَنَّهُ يَضِلُّ بَنِي آدَمَ بِتَزْيِينِ الشَّهَوَاتِ لَهُمْ، وَإِدْخَالِ الشُّبَهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَصِيرُوا غَاوِينَ جَمِيعًا. ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ كَيْدَهُ لَا يَنْجَعُ إِلَّا فِي أَتْبَاعِهِ، وَأَحْزَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، اسْتَثْنَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِضْلَالِهِ، وَلَا يَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى إِغْوَائِهِ فَقَالَ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أَيِ: الَّذِينَ أَخْلَصْتَهُمْ لِطَاعَتِكَ وَعَصَمْتَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ أَقْسَمَ هَاهُنَا بِعِزَّةِ اللَّهِ، وَأَقْسَمَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقَسَمَيْنِ فَإِنَّ إِغْوَاءَهُ إِيَّاهُ مِنْ آثَارِ عِزَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَجُمْلَةُ: قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ الْحَقَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ مُقْسَمٌ بِهِ حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ الْقَسَمِ فَانْتَصَبَ، أَوْ هُمَا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْإِغْرَاءِ: أَيِ الْزَمُوا الْحَقَّ، أَوْ مَصْدَرَانِ مُؤَكِّدَانِ لِمَضْمُونٍ قَوْلُهُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَعْمَشُ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ بِرَفْعِ الْأَوَّلِ، وَنَصْبِ الثَّانِي، فَرَفْعُ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: فَالْحَقُّ مني، أو الحق أَنَا، أَوْ خَبَرُهُ: لَأَمْلَأَنَّ، أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَأَمَّا نَصْبُ الثَّانِي: فَبِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ، أَيْ: وَأَنَا أَقُولُ الْحَقَّ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِمَعْنَى حَقًّا لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِمَا بِأَنَّ مَا بَعْدَ اللَّامِ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهَا. وَرُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَالْفَرَّاءِ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْنَى فَالْحَقَّ أَنَّ إِمْلَاءَ جَهَنَّمَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قرءا برفعهما، فَرَفْعُ الْأَوَّلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَرَفْعُ الثَّانِي بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وقرأ ابن السميقع وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِخَفْضِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الْقَسَمِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَمَا يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَغَلَّطَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ الْخَفْضُ بِحَرْفٍ مُضْمَرٍ، وَجُمْلَةُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ جَوَابُ الْقَسَمِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَجُمْلَةُ: وَالْحَقَّ أَقُولُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ، وَمَعْنَى مِنْكَ أَيْ: مِنْ جِنْسِكَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَيْ: مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال والغواية وأَجْمَعِينَ تَأْكِيدٌ لِلْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَيْ: لَأَمْلَأَنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ وَأَتْبَاعِهِمْ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ امْتِثَالَ أَمْرِهِ لَا عَرَضَ الدُّنْيَا الزائل، فقال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَى تَبْلِيغِ الْوَحْيِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، ولكنه مفهوم من السياق. وقل: هُوَ عَائِدٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: إِلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ الْقُرْآنَ وغيره من الوحي

ومن قول الرسول صلّى الله عليه وسلم. وَالْمَعْنَى مَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ مِنْ جُعْلٍ تُعْطُونِيهِ عَلَيْهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ حَتَّى أَقُولَ مَا لَا أَعْلَمُ إِذْ أَدْعُوكُمْ إِلَى غَيْرِ مَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّكَلُّفُ: التَّصَنُّعُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أَيْ: مَا هَذَا الْقُرْآنُ، أَوِ الْوَحْيُ، أَوْ مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ إِلَّا ذِكْرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ. قَالَ الْأَعْمَشُ: مَا الْقُرْآنُ إِلَّا مَوْعِظَةٌ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّهَا الْكُفَّارُ نَبَأَهُ أَيْ: مَا أَنْبَأَ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَالتَّرْغِيبِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ حِينٍ قَالَ قَتَادَةُ وَالزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَنْ بَقِيَ عَلِمَ ذَلِكَ لَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهُ وَعَلَا، وَمَنْ مات علمه بعد الموت. قال السُّدِّيُّ: وَذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ يَخْتَصِمُونَ أَنَّ الْخُصُومَةَ هِيَ إِذْ قالَ رَبُّكَ إِلَخْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ أَرْبَعًا بِيَدِهِ: الْعَرْشَ، وَجَنَّةَ عَدْنٍ، وَالْقَلَمَ، وَآدَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَلَقَ اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ الْفِرْدَوْسَ بِيَدِهِ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ قَالَ: أَنَا الْحَقُّ أَقُولُ الْحَقَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ قَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ عَرَضِ دُنْيَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِمَا عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ فِيمَا يَقُولُ: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ قَالَ: دُخَانٌ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، قَالَ: قُمْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى قَاعِدًا فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ الْعَالِمُ لِمَا لَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ نتكلف للضيف.

سورة الزمر

سورة الزّمر هي اثنتان وسبعون آية، وقيل خمس وسبعون، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ الزُّمَرِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ سُورَةُ الزُّمَرِ سوى ثلاث آيَاتٍ نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ فِي وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الثلاث الآيات. وقال آخرون: إلا سبع آيات من قوله: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إِلَى آخِرِ السَّبْعِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ، وَيُفْطِرَ حَتَّى نَقُولَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالزُّمَرَ» وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهَا بِلَفْظِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الزُّمَرَ وَبَنِي إسرائيل. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) قَوْلُهُ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ ارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ، أَيْ: هَذَا تَنْزِيلٌ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: إِنَّ الْمُبْتَدَأَ الْمُقَدَّرَ لَفْظُ هُوَ لَيَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَذَا الذِّكْرُ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: ارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ بَعْدَهُ، أَيْ: تَنْزِيلٌ كَائِنٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِمَعْنَى هَذَا تَنْزِيلٌ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ النَّصْبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اتَّبِعُوا أَوِ اقْرَءُوا تَنْزِيلَ الْكِتَابِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: الْزَمُوا، وَالْكِتَابُ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ صِلَةٌ لِلتَّنْزِيلِ، أَوْ: خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ

حَالٌ عَمِلَ فِيهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ الْمُقَدَّرُ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِنْزَالِ، أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ بِسَبَبِ الْحَقِّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ: أَيْ مُتَلَبِّسِينَ بِالْحَقِّ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ، وَالْمُرَادُ كُلُّ مَا فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَالْمَعَادِ، وَأَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ لَمْ نُنْزِلْهُ بَاطِلًا لِغَيْرِ شَيْءٍ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَانْتِصَابُ مُخْلِصًا عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ اعْبُدْ، وَالْإِخْلَاصُ: أَنْ يَقْصِدَ الْعَبْدُ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالدِّينُ: الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ، وَرَأْسُهَا تَوْحِيدُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «الدِّينَ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مُخْلِصًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّ مُخْلِصًا مُسْنَدٌ إِلَى الدِّينَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ. قِيلَ: وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ مُخْلِصًا بِفَتْحِ اللَّامِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ، وَإِخْلَاصِهَا عَنِ الشَّوَائِبِ، لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ مِنَ الْأُمُورِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا بِأَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ مَلَاكَ الْأَمْرِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ النِّيَّةُ، كَمَا في حديث «إنّما الأعمال بالنيّات» ، وحديث «ولا قَوْلَ وَلَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ» ، وَجُمْلَةُ: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِخْلَاصِ، أَيْ: إِنِ الدِّينَ الْخَالِصَ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، وَغَيْرِهِ: هُوَ لِلَّهِ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَدْيَانِ فَلَيْسَ بِدِينِ اللَّهِ الْخَالِصِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: الدِّينُ الْخَالِصُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَمَّا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ وَأَنَّ الدِّينَ الْخَالِصَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ بَيَّنَ بُطْلَانَ الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِخْلَاصِ، وَالْمَوْصُولُ: عِبَارَةٌ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَجُمْلَةُ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعِلَلِ، وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ لَمْ يُخْلِصُوا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، بَلْ شَابُوهَا بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ قَائِلِينَ مَا نَعْبُدُهُمْ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ تَقْرِيبًا، وَالضَّمِيرُ فِي نَعْبُدُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى وَالْأَصْنَامِ، وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِالْأَوْلِيَاءِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى الشَّفَاعَةُ، كَمَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَنْ رَبُّكُمْ وَخَالِقُكُمْ وَمَنْ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً؟ قَالُوا: اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا مَعْنَى عِبَادَتِكُمْ لِلْأَصْنَامِ؟ قَالُوا: لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَيَشْفَعُوا لَنَا عِنْدَهُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: جَوَابُ هَذَا الْكَلَامِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً، وَالزُّلْفَى: اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ تَقْرِيبًا. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ «قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ» وَمَعْنَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أَيْ: بَيْنَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، وَقِيلَ: بَيْنَ الْمُخْلِصِينَ لِلدِّينِ وَبَيْنَ الذين لم يخلصوا، وحذف الأول لدلالة الحال عَلَيْهِ، وَمَعْنَى: فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فِي الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الدِّينِ بِالتَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّ الْحَقَّ مَعَهَا إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ أي: يُرْشِدُ لِدِينِهِ، وَلَا يُوَفِّقُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْحَقِّ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْآلِهَةَ تُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَكَفَرَ بِاتِّخَاذِهَا آلِهَةً، وَجَعْلِهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَالْكُفَّارُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفْرَ هَؤُلَاءِ قَدْ بَلَغَ إِلَى الْغَايَةِ. وقرأ الحسن، والأعرج عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ كَكُفَّارٍ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عن أنس.

لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى هَذَا مُقَرَّرٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ إِبْطَالِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ لِتَضَمُّنِهُ اسْتِحَالَةَ الْوَلَدِ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَامْتَنَعَ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ حَقِيقَةً، وَلَمْ يَتَأَتَّ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ يَصْطَفِيَ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ أَيْ: يَخْتَارُ مِنْ جملة خلقه ما شاء أَنْ يَصْطَفِيَهُ، إِذْ لَا مَوْجُودَ سِوَاهُ إِلَّا وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ وَلَدًا لِلْخَالِقِ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَصْطَفِيَهُ عَبْدًا كَمَا يُفِيدُهُ التَّعْبِيرُ بِالِاصْطِفَاءِ مَكَانَ الِاتِّخَاذِ فَمَعْنَى الْآيَةِ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَوَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ لَيْسَ هُوَ مِنَ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ، بَلْ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الِاصْطِفَاءِ لِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلِهَذَا نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَقَالَ: سُبْحانَهُ أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَجُمْلَةُ: هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ مُبَيِّنَةٌ لِتَنَزُّهِهِ بِحَسْبِ الصِّفَاتِ بَعْدَ تَنَزُّهِهِ بِحَسْبِ الذَّاتِ، أَيْ: هُوَ الْمُسْتَجْمِعُ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْمُتَوَحِّدُ فِي ذَاتِهِ فَلَا مُمَاثِلَ لَهُ الْقَهَّارُ لِكُلِّ مَخْلُوقَاتِهِ، وَمَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ اسْتَحَالَ وُجُودُ الْوَلَدِ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ مُمَاثِلٌ لِوَالِدِهِ وَلَا مُمَاثِلَ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ كَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنِ الْوَلَدِ بِكَوْنِهِ إِلَهًا وَاحِدًا قَهَّارًا ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ فَقَالَ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ: لَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا لِغَيْرِ شَيْءٍ، وَمَنْ كَانَ هَذَا الْخَلْقُ الْعَظِيمُ خَلْقَهُ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ، أَوْ صَاحِبَةٌ، أَوْ وَلَدٌ. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ تَصَرُّفِهِ في السموات وَالْأَرْضِ فَقَالَ: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ التَّكْوِيرُ فِي اللُّغَةِ: طَرْحُ الشَّيْءِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. يُقَالُ كَوَّرَ الْمَتَاعَ: إِذَا أَلْقَى بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ كَوَّرَ الْعِمَامَةَ فَمَعْنَى تَكْوِيرِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ تَغْشِيَتُهُ إياه حتى يذهب ضوؤه، وَمَعْنَى تَكْوِيرِ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ: تَغْشِيَتُهُ إِيَّاهُ حَتَّى تَذْهَبَ ظُلْمَتُهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً هَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ يُلْقِي هَذَا عَلَى هَذَا، وَهَذَا عَلَى هَذَا، وَهُوَ مُقَارِبٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ اللَّيْلِ دَخَلَ فِي النَّهَارِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ النَّهَارِ دَخَلَ فِي اللَّيْلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ هَذَا يَكُرُّ عَلَى هَذَا وَهَذَا يَكُرُّ عَلَى هَذَا كُرُورًا مُتَتَابِعًا. قَالَ الرَّاغِبُ: تَكْوِيرُ الشَّيْءِ إِدَارَتُهُ وَضَمُّ بَعْضِهِ إِلَى بعض ككور الْعِمَامَةَ اه. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا التَّكْوِيرِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ إِلَى جَرَيَانِ الشَّمْسِ فِي مَطَالِعِهَا، وَانْتِقَاصِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَازْدِيَادِهِمَا. قَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ عَسْكَرَانِ عَظِيمَانِ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ يَغْلِبُ هَذَا ذَاكَ، وَذَاكَ هَذَا؟ ثُمَّ ذَكَرَ تَسْخِيرَهُ لِسُلْطَانِ النَّهَارِ، وَسُلْطَانِ اللَّيْلِ، وَهُمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَقَالَ: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَيْ: جَعَلَهُمَا مُنْقَادَيْنِ لِأَمْرِهِ بِالطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ هَذَا التَّسْخِيرِ فَقَالَ: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ: يَجْرِي فِي فَلَكِهِ إِلَى أَنْ تَنْصَرِمَ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى لِجَرْيِهِمَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «يس» . أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ أَلَا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ، وَالْمَعْنَى: تَنَبَّهُوا أَيُّهَا الْعِبَادُ، فَاللَّهُ هُوَ الْغَالِبُ السَّاتِرُ لِذُنُوبِ خَلْقِهِ بِالْمَغْفِرَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ قُدْرَتِهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، فَقَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَهِيَ: نَفْسُ آدَمَ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها جَاءَ بثمّ للدلالة على ترتب خَلْقِ حَوَّاءَ عَلَى خَلْقِ آدَمَ، وَتَرَاخِيهِ عَنْهُ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْهُ، وَالْعَطْفُ: إِمَّا عَلَى مُقَدَّرٍ هُوَ صِفَةٌ لِنَفْسٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ التَّقْدِيرُ خلقكم

مِنْ نَفْسٍ خَلَقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى مَعْنَى وَاحِدَةٍ، أَيْ: مِنْ نَفْسٍ انْفَرَدَتْ ثُمَّ جَعَلَ إِلَخْ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْجَعْلِ دُونَ الْخَلْقِ مَعَ الْعَطْفِ بثمّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ خَلْقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ أُدْخِلَ فِي كَوْنِهِ آيَةً بَاهِرَةً دَالَّةً عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، لِأَنَّ خَلْقَ آدَمَ هُوَ عَلَى عَادَةِ اللَّهِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي خَلْقِهِ، وَخَلْقُهَا عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ لِكَوْنِهِ لَمْ يَخْلُقْ سُبْحَانَهُ أُنْثَى مِنْ ضِلْعِ رَجُلٍ غَيْرَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ فَقَالَ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى خَلَقَكُمْ، وَعَبَّرَ بِالْإِنْزَالِ لِمَا يُرْوَى أَنَّهُ خَلَقَهَا فِي الْجَنَّةِ ثُمَّ أَنْزَلَهَا، فَيَكُونُ الْإِنْزَالُ حَقِيقَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا، لِأَنَّهَا لَمْ تَعِشْ إِلَّا بِالنَّبَاتِ، وَالنَّبَاتُ إِنَّمَا يَعِيشُ بِالْمَاءِ وَالْمَاءُ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ، كَانَتِ الْأَنْعَامُ كَأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ، لِأَنَّ سَبَبَ سَبَبِهَا مُنَزَّلٌ كَمَا أُطْلِقَ عَلَى السَّبَبِ فِي قَوْلِهِ: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا وَقِيلَ: إِنَّ أَنْزَلَ بِمَعْنَى أَنْشَأَ وَجَعَلَ، أَوْ بِمَعْنَى: أَعْطَى، وَقِيلَ: جُعِلَ الْخَلْقُ إِنْزَالًا، لِأَنَّ الْخَلْقَ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَمْرٍ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَالثَّمَانِيَةُ الْأَزْوَاجُ: هِيَ مَا فِي قَوْلِهِ مِنَ الضَّأْنِ اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، وَيَعْنِي بِالِاثْنَيْنِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَوَاضِعِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ قُدْرَتِهِ الْبَدِيعَةِ فَقَالَ: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِبَيَانِ مَا تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم، وخلقا: مصدر مؤكد للفعل المذكور، ومِنْ بَعْدِ خَلْقٍ: صِفَةٌ لَهُ، أَيْ: خَلْقًا كَائِنًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ عَظْمًا، ثُمَّ لَحْمًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: خَلَقَكُمْ خَلْقًا فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ مِنْ بَعْدِ خَلْقِكُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ، وَقَوْلُهُ: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَخْلُقُكُمْ وَهَذِهِ الظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ هِيَ: ظُلْمَةُ الْبَطْنِ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ظُلْمَةُ صُلْبِ الرَّجُلِ، وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْمَرْأَةِ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِاعْتِبَارِ أَفْعَالِهِ السَّابِقَةِ، وَالِاسْمُ الشَّرِيفُ: خَبَرُهُ رَبُّكُمْ خَبَرٌ آخَرُ لَهُ الْمُلْكُ الْحَقِيقِيُّ فِي الدنيا والآخرة لا شركة لغيره فِيهِ، وَهُوَ خَبَرٌ ثَالِثٌ، وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خَبَرٌ رَابِعٌ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أَيْ: فَكَيْفَ تَنْصَرِفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَتَنْقَلِبُونَ عَنْهَا إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ. قَرَأَ حَمْزَةُ: «إِمِّهَاتِكُمْ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُعْطِي أَمْوَالَنَا الْتِمَاسَ الذِّكْرِ فَهَلْ لَنَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا نُعْطِي الْتِمَاسَ الْأَجْرِ وَالذِّكْرِ فَهَلْ لَنَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا أُخْلِصَ لَهُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ

[سورة الزمر (39) : الآيات 7 إلى 12]

قَالَ: يَحْمِلُ اللَّيْلَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ قَالَ: عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ عِظَامًا فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ البطن، والرحم، والمشيمة. [سورة الزمر (39) : الآيات 7 الى 12] إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ النِّعَمَ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ بَدِيعِ صُنْعِهِ، وَعَجِيبِ فِعْلِهِ مَا يُوجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أَيْ: غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْكُمْ وَلَا إِلَى إِيمَانِكُمْ وَلَا إِلَى عِبَادَتِكُمْ لَهُ فَإِنَّهُ الغنيّ المطلق، وَمع كَوْنِ كُفْرِ الْكَافِرِ لَا يَضُرُّهُ كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِ، فَهُوَ أَيْضًا لَا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ أَيْ: لَا يَرْضَى لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يُحِبُّهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ «1» وَمِثْلُهَا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى قَلْبِ أَفْجَرِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ عَلَى عُمُومِهَا، وَإِنَّ الْكُفْرَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ هِيَ خَاصَّةٌ؟ وَالْمَعْنَى: لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْكُفْرَ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى التَّخْصِيصِ حَبْرِ الْأُمَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ آخِرَ الْبَحْثِ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ اخْتِلَافًا آخَرَ. فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ يُرِيدُ كُفْرَ الْكَافِرِ وَلَا يَرْضَاهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يَرْضَاهُ، وَالْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ مِثْلِ هَذَا يَطُولُ جِدًّا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمُثْبِتُونَ لِلْإِرَادَةِ مَعَ عَدَمِ الرِّضَا بِمَا ثَبَتَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ «2» وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ «3» وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «4» وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ بَيَّنَ أَنَّهُ يَرْضَى لَهُمُ الشُّكْرَ، فَقَالَ: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أَيْ: يَرْضَى لَكُمُ الشُّكْرَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وإن تشكروا ويثيبكم عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا رَضِيَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ الشُّكْرَ لِأَنَّهُ سَبَبُ سَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ سبحانه لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «5» قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، وشيبة،

_ (1) . إبراهيم: 8. (2) . الرعد: 27. (3) . يونس: 25. (4) . الإنسان: 30. (5) . إبراهيم: 7. [.....]

وَهُبَيْرَةُ عَنْ عَاصِمٍ بِإِسْكَانِ الْهَاءِ مَنْ يَرْضَهُ، وَأَشْبَعَ الضَّمَّةَ عَلَى الْهَاءِ ابْنُ ذَكْوَانَ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَاخْتَلَسَ الْبَاقُونَ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةٌ لِلْوِزْرِ حِمْلَ نَفْسٍ أُخْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَفِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما تُضْمِرُهُ الْقُلُوبُ وَتَسْتُرُهُ، فَكَيْفَ بِمَا تُظْهِرُهُ وَتُبْدِيهِ وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ أَيْ ضُرٌّ كَانَ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ خَوْفٍ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ أَيْ: رَاجِعًا إِلَيْهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ فِي دَفْعِ مَا نَزَلَ بِهِ تَارِكًا لما كَانَ يَدْعُوهُ، وَيَسْتَغِيثُ بِهِ مِنْ مَيِّتٍ، أَوْ حَيٍّ، أَوْ صَنَمٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ أَيْ: أَعْطَاهُ وَمَلَّكَهُ، يقال خوّله الشيء: أَيْ مَلَّكَهُ إِيَّاهُ، وَكَانَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العلاء ينشد: هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وَإِنْ يُسْأَلُوا يُعْطُوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يَغْلُوا «1» وَمِنْهُ قول أبي النجم: أعطى ولم يبخل فلم يَبْخَلِ ... كُومُ الذُّرَى مَنْ خَوَلِ الْمُخَوَّلِ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أَيْ: نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كَانَ يَدْعُو اللَّهَ إِلَى كَشْفِهِ عَنْهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخَوِّلَهُ مَا خَوَّلَهُ، وَقِيلَ: نَسِيَ الدُّعَاءَ الَّذِي كَانَ يَتَضَرَّعُ بِهِ وَتَرَكَهُ، أَوْ نَسِيَ رَبَّهِ الَّذِي كَانَ يَدْعُوهُ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ، ثُمَّ جَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً أَيْ: شُرَكَاءَ مِنَ الْأَصْنَامِ أَوْ غَيْرِهَا يَسْتَغِيثُ بِهَا وَيَعْبُدُهَا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أَيْ: لِيُضِلَّ النَّاسَ عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ الْإِسْلَامُ وَالتَّوْحِيدُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي أَنْدَادًا مِنَ الرِّجَالِ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَدِّدَ مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَقَالَ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أَيْ: تَمَتُّعًا قَلِيلًا، أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا، فَمَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أَيْ: مَصِيرُكَ إِلَيْهَا عَنْ قَرِيبٍ، وَفِيهِ مِنَ التَّهْدِيدِ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيُضِلَّ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِهَا. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ صِفَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَتَمَسُّكَهُمْ بِغَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ انْدِفَاعِ الْمَكْرُوهَاتِ عَنْهُمْ ذَكَرَ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ وَهَذَا إِلَى آخِرِهِ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى ذَلِكَ الْكَافِرُ أَحْسَنُ حَالًا وَمَآلًا، أَمَّنْ هُوَ قَائِمٌ بِطَاعَاتِ اللَّهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ، مُسْتَمِرٌّ عَلَى ذَلِكَ، غَيْرُ مُقْتَصِرٍ عَلَى دُعَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ نُزُولِ الضَّرَرِ بِهِ. قَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ أَمَّنْ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ نافع، وابن كثير، وحمزة، ويحيى ابن وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ بِالتَّخْفِيفِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: أَمْ دَاخِلَةٌ عَلَى مَنْ الْمَوْصُولَةِ وَأُدْغِمَتِ الْمِيمُ فِي الميم، وأم هِيَ الْمُتَّصِلَةُ وَمُعَادِلُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْكَافِرُ خَيْرٌ أَمِ الَّذِي هُوَ قَانِتٌ؟ وَقِيلَ: هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ المقدّرة ببل وَالْهَمْزَةِ، أَيْ: بَلْ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ كَالْكَافِرِ؟ وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: فَقِيلَ: الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ دخلت على من

_ (1) . البيت لزهير، ومعنى «إن ييسروا يغلوا» : إذا قامروا بالميسر، يأخذون سمان الإبل، فيقامرون عليها.

وَالِاسْتِفْهَامُ: لِلتَّقْرِيرِ وَمُقَابِلُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ كَمَنْ كَفَرَ؟ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْهَمْزَةَ في هذه القراءة للنداء، ومن: مُنَادَى، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ الْمَأْمُورِ بِقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعْ وَالتَّقْدِيرُ: يَا مَنْ هُوَ قَانِتٌ قُلْ: كَيْتَ وَكَيْتَ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: يَا مَنْ هُوَ قَانِتٌ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْهَمْزَةَ لِلنِّدَاءِ الْفَرَّاءُ، وَضَعَّفَ ذَلِكَ أَبُو حَيَّانَ، وَقَالَ: هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَمَّا قَبْلَهُ، وَعَمَّا بَعْدَهُ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا التَّضْعِيفِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَاعْتَرَضَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ أَصْلِهَا أَبُو حَاتِمٍ، وَالْأَخْفَشُ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ فَإِنَّا إِذَا ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بَطَلَتِ الدِّرَايَةُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْقَانِتِ هُنَا فَقِيلَ: الْمُطِيعُ، وَقِيلَ: الْخَاشِعُ فِي صَلَاتِهِ، وَقِيلَ: الْقَائِمُ فِي صَلَاتِهِ، وَقِيلَ: الدَّاعِي لِرَبِّهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَصْلُ الْقُنُوتَ: الطَّاعَةُ، فَكُلُّ مَا قِيلَ فِيهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الطَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ بِآنَاءِ اللَّيْلِ: سَاعَاتُهُ، وَقِيلَ: جَوْفُهُ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، وَانْتِصَابُ ساجِداً وَقائِماً عَلَى الْحَالِ، أَيْ: جَامَعًا بَيْنَ السُّجُودِ وَالْقِيَامِ، وَقُدِّمَ السُّجُودُ عَلَى الْقِيَامِ لِكَوْنِهِ أَدْخَلَ فِي الْعِبَادَةِ، وَمَحَلُّ يَحْذَرُ الْآخِرَةَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا، أَيْ: يَحْذَرُ عَذَابَ الْآخِرَةِ قَالَهُ سَعِيدُ بن جبير ومقاتل وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَمَا اجْتَمَعَا فِي قَلْبِ رَجُلٍ إِلَّا فَازَ. قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَمَنْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ قَوْلًا آخَرَ يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ فَقَالَ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَيِ: الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ حَقٌّ، وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، أَوِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ، وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، أَوِ الْمُرَادُ: الْعُلَمَاءُ وَالْجُهَّالُ، وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَنَّهُ لَا اسْتِوَاءَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَلَا بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ كَمَا لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ يَعْلَمُونَ: هُمُ الْعَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ فَإِنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أَيْ: إِنَّمَا يَتَّعِظُ وَيَتَدَبَّرُ وَيَتَفَكَّرُ أَصْحَابُ الْعُقُولِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لَا الْكُفَّارُ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ لَهُمْ عُقُولًا فَهِيَ كَالْعَدَمِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَلْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لَمَّا نَفَى سُبْحَانَهُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ، وبين أنه إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَأْمُرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ بِالثَّبَاتِ عَلَى تَقْوَاهُ، وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ اتَّقُوا رَبَّكُمْ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَإِخْلَاصِ الْإِيمَانِ لَهُ، وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ قُلْ لَهُمْ قَوْلِي هَذَا بِعَيْنِهِ. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّقْوَى بَيَّنَ لَهُمْ مَا فِي هَذِهِ التَّقْوَى مِنَ الْفَوَائِدِ فَقَالَ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أَيْ: لِلَّذِينِ عَمِلُوا الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ حَسَنَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَقَوْلُهُ: فِي هذِهِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بأحسنوا، وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِحَسَنَةٍ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَكَانِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا فِي الْعَمَلِ حَسَنَةٌ فِي الدُّنْيَا بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ لَمَّا كَانَ بَعْضُ الْعِبَادِ قَدْ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَالْإِحْسَانِ فِي وَطَنِهِ أَرْشَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ إِلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ

أَيْ فَلْيُهَاجِرْ إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ طَاعَةُ اللَّهِ. وَالْعَمَلُ بِمَا أَمَرَ بِهِ. وَالتَّرْكُ لِمَا نَهَى عَنْهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها «1» وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْهِجْرَةِ مُسْتَوْفًى فِي سورة النساء، وقيل المراد بأرض هُنَا: أَرْضُ الْجَنَّةِ، رَغَّبَهُمْ فِي سِعَتِهَا وَسِعَةِ نعيمها كما في قوله: جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ «2» وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا لِلْمُحْسِنِينَ إِذَا أَحْسَنُوا، وَكَانَ لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَعَلَى كَفِّ النَّفْسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، أَشَارَ إِلَى فَضِيلَةِ الصَّبْرِ وَعَظِيمِ مِقْدَارِهِ فَقَالَ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ: يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ أَجْرَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ صَبْرِهِمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَيْ: بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى حَصْرِهِ حَاصِرٌ، وَلَا يَسْتَطِيعُ حُسْبَانَهُ حَاسِبٌ. قَالَ عَطَاءٌ: بِمَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ عَقْلٌ وَلَا وَصْفٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَجْرُهُمُ الْجَنَّةُ، وَأَرْزَاقُهُمْ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ الصَّابِرِينَ وَأَجْرَهُمْ لَا نِهَايَةَ لَهُ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَدْخُلُ تَحْتَ الْحِسَابِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، وَمَا كَانَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحِسَابِ فَهُوَ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَهَذِهِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَثُوبَةٌ جَلِيلَةٌ تَقْتَضِي أَنَّ عَلَى كُلِّ رَاغِبٍ فِي ثَوَابِ اللَّهِ، وَطَامِعٍ فِيمَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَى الصَّبْرِ وَيَزُمَّ نَفْسَهُ بِزِمَامِهِ وَيُقَيِّدَهَا بِقَيْدِهِ، فَإِنَّ الْجَزَعَ لَا يَرُدُّ قَضَاءً قَدْ نَزَلَ، وَلَا يَجْلِبُ خَيْرًا قَدْ سُلِبَ، وَلَا يَدْفَعُ مَكْرُوهًا قَدْ وَقَعَ، وَإِذَا تَصَوَّرَ الْعَاقِلُ هَذَا حَقَّ تَصَوُّرِهِ وَتَعَقَّلَهُ حَقَّ تَعَقُّلِهِ عَلِمَ أَنَّ الصَّابِرَ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ قَدْ فَازَ بِهَذَا الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَظَفِرَ بِهَذَا الْجَزَاءِ الْخَطِيرِ، وَغَيْرَ الصَّابِرِ قَدْ نَزَلَ بِهِ الْقَضَاءُ شَاءَ أَمْ أَبَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ وَلَا يُبْلَغُ مَدَاهُ، فَضَمَّ إِلَى مُصِيبَتِهِ مُصِيبَةً أُخْرَى وَلَمْ يَظْفَرْ بِغَيْرِ الْجَزَعِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: أَرَى الصَّبْرَ مَحْمُودًا وَعَنْهُ مَذَاهِبُ ... فَكَيْفَ إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مَذْهَبُ هُنَاكَ يَحِقُّ الصَّبْرُ وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ ... وَمَا كَانَ مِنْهُ لِلضَّرُورَةِ أَوْجَبُ ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ فَقَالَ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَيْ: أَعْبُدُهُ عِبَادَةً خَالِصَةً مِنَ الشِّرْكِ وَالرِّيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى الَّذِي أَتَيْتَنَا بِهِ، أَلَا تَنْظُرُ إِلَى مِلَّةِ أَبِيكَ وَجَدِّكَ وَسَادَاتِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى فَتَأْخُذُ بِهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَذَلِكَ كان صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ دِينَ آبَائِهِ وَدَعَا إِلَى التَّوْحِيدِ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ: أَيْ وَأَمَرْتُ بِمَا أَمَرْتُ بِهِ لِأَجْلِ أَنْ أَكُونَ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ يَعْنِي: الْكُفَّارَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ فَيَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَهُمْ عِبَادُهُ الْمُخْلِصُونَ الَّذِينَ قَالَ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فَأَلْزَمَهُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحَبَّبَهَا إِلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ قَالَ: لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ الْكُفْرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَضِيَ

_ (1) . النساء: 97. (2) . آل عمران: 133.

[سورة الزمر (39) : الآيات 13 إلى 20]

اللَّهُ لِعَبْدٍ ضَلَالَةً، وَلَا أَمَرَهُ بِهَا، وَلَا دَعَا إِلَيْهَا، وَلَكِنْ رَضِيَ لَكُمْ طَاعَتَهُ، وَأَمَرَكُمْ بِهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ في الحليلة، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ قَالَ: ذَاكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَفِي لَفْظٍ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ يَقُولُ: يَحْذَرُ عَذَابَ الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ: «كَيْفَ تَجِدُكَ؟» قَالَ: أَرْجُو اللَّهَ وَأَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ الَّذِي يَرْجُو وَأَمَّنَهُ الَّذِي يَخَافُ» أَخْرَجُوهُ مِنْ طَرِيقِ سَيَّارِ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ، وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلا. [سورة الزمر (39) : الآيات 13 الى 20] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) قَوْلُهُ: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أَيْ: بِتَرْكِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَتَوْحِيدِهِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى تَرْكِ الشِّرْكِ وَتَضْلِيلِ أَهْلِهِ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بِإِجَابَةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَا دَعَوْنِي إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو حَمْزَةَ الْيَمَانِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ فَالْمُرَادُ: عِصْيَانُ هَذَا الْأَمْرِ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ التَّقْدِيمُ مُشْعِرٌ بِالِاخْتِصَاصِ، أَيْ: لَا أَعْبُدُ غَيْرَهُ لَا اسْتِقْلَالًا، وَلَا عَلَى جِهَةِ الشَّرِكَةِ، وَمَعْنَى مُخْلِصاً لَهُ دِينِي أَنَّهُ خَالِصٌ لِلَّهِ غَيْرُ مَشُوبٍ بِشِرْكٍ وَلَا رِيَاءٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. قَالَ الرَّازِيُّ: فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى التَّكْرِيرِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِتَكْرِيرٍ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ: إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ، وَالثَّانِي: إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ لَا يَعْبُدَ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ مِنْ دُونِهِ هَذَا الْأَمْرُ لِلتَّهْدِيدِ وَالتَّقْرِيعِ

_ (1) . الفتح: 2.

والتوبيخ كقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1» وَقِيلَ إِنَّ الْأَمْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ: إِنَّ الْكَامِلِينَ فِي الْخُسْرَانِ هُمْ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ فَقَدْ خَسِرَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا يَعْنِي بِهِ الْكُفَّارَ، فَإِنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّخْلِيدِ فِي النَّارِ، وَخَسِرُوا أَهْلِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا مَدْخَلَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمْ أَهْلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَجُمْلَةُ: أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَأْكِيدِ مَا قَبْلَهَا، وَتَصْدِيرُهَا بحرف التنبيه للإشعار بأن هذا الخسران الذي حلّ بهم قد بلغ من العظم إلى غاية ليس فوقها غاية، وكذلك تعريف الْخُسْرَانَ وَوَصْفُهُ بِكَوْنِهِ مُبِينًا، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْفَرْدُ الْكَامِلُ مِنْ أَفْرَادِ الْخُسْرَانِ، وَأَنَّهُ لَا خُسْرَانَ يُسَاوِيهِ، وَلَا عُقُوبَةَ تُدَانِيهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْخُسْرَانَ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ والبلاء النازل عليهم بِقَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ الظُّلَلُ عِبَارَةٌ عَنْ أَطْبَاقِ النَّارِ، أَيْ: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ أَطْبَاقٌ مِنَ النَّارِ تَلْتَهِبُ عَلَيْهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أَيْ: أَطْبَاقٌ مِنَ النَّارِ، وَسُمِّيَ مَا تَحْتَهُمْ ظُلَلًا لِأَنَّهَا تُظِلُّ مَنْ تَحْتِهَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، لِأَنَّ طَبَقَاتِ النَّارِ صَارَ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهَا طَائِفَةٌ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ «2» وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «3» وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ وَصْفِ عَذَابِهِمْ فِي النَّارِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: قَوْلُهُ: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أَيْ: يُحَذِّرُهُمْ بِمَا تَوَعَّدَ بِهِ الْكُفَّارَ مِنَ الْعَذَابِ ليخافوه فيتقوه، وهو معنى يا عِبادِ فَاتَّقُونِ أَيِ: اتَّقُوا هَذِهِ الْمَعَاصِيَ الْمُوجِبَةَ لِمِثْلِ هَذَا الْعَذَابِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْعِبَادِ بِالْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ لِلْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها الْمَوْصُولُ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: قَوْلُهُ: لَهُمُ الْبُشْرى وَالطَّاغُوتُ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ فِي الْمَصْدَرِ كَالرَّحَمُوتِ وَالْعَظَمُوتِ، وَهُوَ الْأَوْثَانُ وَالشَّيْطَانُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْأَوْثَانُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْكَاهِنُ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مِثْلُ طَالُوتَ، وَجَالُوتَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنَ الطُّغْيَانِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: الطَّاغُوتُ جَمْعٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهُ مُؤَنَّثًا، وَمَعْنَى اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ: أَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَتِهِ وَخَصُّوا عِبَادَتَهُمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَوْلُهُ: أَنْ يَعْبُدُوها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الطَّاغُوتِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: اجْتَنِبُوا عِبَادَةَ الطَّاغُوتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ الطَّاغُوتِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَوْلُهُ: وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى اجْتَنِبُوا، وَالْمَعْنَى: رَجَعُوا إِلَيْهِ وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَتِهِ مُعْرِضِينَ عَمَّا سِوَاهُ لَهُمُ الْبُشْرى بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَهَذِهِ الْبُشْرَى إِمَّا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، أَوْ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ أو عند البعث فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ الْمُرَادُ بِالْعِبَادِ هُنَا الْعُمُومُ، فَيَدْخُلُ الْمَوْصُوفُونَ بِالِاجْتِنَابِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَالْمَعْنَى: يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ الْحَقَّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أَيْ مُحْكَمَهُ، وَيَعْمَلُونَ بِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ: يَتَّبِعُونَ أَحْسَنَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ فَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ الرَّجُلُ يَسْمَعُ الْحَسَنَ، وَالْقَبِيحَ فَيَتَحَدَّثُ بِالْحَسَنِ، وَيُنْكُفُ عَنِ الْقَبِيحِ فَلَا يَتَحَدَّثُ به، وقيل: يستمعون القرآن، وغيره فيتبعون

_ (1) . فصلت: 40. (2) . الأعراف: 41. (3) . العنكبوت: 5.

الْقُرْآنَ، وَقِيلَ: يَسْتَمِعُونَ الرُّخَصَ وَالْعَزَائِمَ، فَيَتَّبِعُونَ الْعَزَائِمَ، وَيَتْرُكُونَ الرُّخَصَ، وَقِيلَ: يَأْخُذُونَ بِالْعَفْوِ، وَيَتْرُكُونَ الْعُقُوبَةَ. ثُمَّ أَثْنَى سُبْحَانَهُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أَيْ هُمُ الَّذِينَ أَوْصَلَهُمُ اللَّهُ إِلَى الْحَقِّ وَهُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِعُقُولِهِمْ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ مَنْ عَدَاهُمْ بِعُقُولِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الشَّقَاوَةُ وَحُرِمَ السَّعَادَةَ فَقَالَ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ مَنْ هَذِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهَا: مَحْذُوفٌ، أَيْ: كَمَنْ يَخَافُ، أَوْ فَأَنْتَ تُخَلِّصُهُ أَوْ تَتَأَسَّفُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَجَوَابُهُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ فَالْفَاءُ: فَاءُ الْجَوَابِ دَخَلَتْ عَلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ، وَأُعِيدَتِ الْهَمْزَةُ الْإِنْكَارِيَّةُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ إِنَّهُ كَرَّرَ الِاسْتِفْهَامَ لِطُولِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَالْمُرَادُ بِكَلِمَةِ الْعَذَابِ هُنَا هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «1» وَقَوْلُهُ: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ «2» وَمَعْنَى الْآيَةِ التَّسْلِيَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَحَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ اللَّهِ لَا يَقْدِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُنْقِذَهُ مِنَ النَّارِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُؤْمِنًا. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ أَبَا لَهَبٍ وَوَلَدَهُ، وَمَنْ تَخَلَّفَ مِنْ عَشِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ، وَفِي الْآيَةِ تَنْزِيلٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ بِمَنْ قَدْ صَارَ فِيهِ، وَتَنْزِيلُ دُعَائِهِ إِلَى الْإِيمَانِ مَنْزِلَةَ الْإِخْرَاجِ لَهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ لِأَهْلِ الشَّقَاوَةِ ظُلَلًا مِنْ فَوْقِهِمُ النَّارُ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ اسْتَدْرَكَ عَنْهُمْ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَقَالَ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَنَّةَ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَمَعْنَى مَبْنِيَّةٌ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ بِنَاءَ الْمَنَازِلِ فِي إِحْكَامِ أَسَاسِهَا وَقُوَّةِ بِنَائِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَنَازِلُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِشَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أَيْ: مِنْ تَحْتِ تِلْكَ الْغُرَفِ، وَفِي ذَلِكَ كَمَالٌ لِبَهْجَتِهَا وَزِيَادَةٌ لِرَوْنَقِهَا، وَانْتِصَابُ وَعْدَ اللَّهِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَهُمْ غُرَفٌ فِي مَعْنَى وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَجُمْلَةُ: لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ مُقَرِّرَةٌ لِلْوَعْدِ، أَيْ: لَا يُخْلِفُ اللَّهُ مَا وَعَدَ بِهِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ. قَالَ: هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللَّهُ لِلنَّارِ زَالَتْ عَنْهُمُ الدُّنْيَا وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ قَالَ: أَهْلِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَانُوا أُعِدُّوا لَهُمْ لَوْ عَمِلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ فَغُبِنُوهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وسلمان يتبعون في الجاهلية أحسن القول، وأحسن الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالُوا بِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: قَالَ: لما نزل: «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أرسل رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَاسْتَقْبَلَ عُمَرُ الرَّسُولَ فَرَدَّهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَشِيتُ أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ فَلَا يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو

_ (1) . ص: 85. (2) . الأعراف: 18.

[سورة الزمر (39) : الآيات 21 إلى 26]

يعلم الناس قدر رحمة ربي لا تكلوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ قَدْرَ سُخْطِ رَبِّي وَعِقَابِهِ لَاسْتَصْغَرُوا أَعْمَالَهُمْ» وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حديث أبي هريرة. [سورة الزمر (39) : الآيات 21 الى 26] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْآخِرَةَ، وَوَصَفَهَا بِوَصْفٍ يُوجِبُ الرَّغْبَةَ فِيهَا، وَالشَّوْقَ إِلَيْهَا أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الدُّنْيَا، وَوَصَفَهَا بِوَصْفٍ يُوجِبُ الرَّغْبَةَ عَنْهَا، وَالنَّفْرَةَ مِنْهَا، فَذَكَرَ تَمْثِيلًا لَهَا فِي سُرْعَةِ زَوَالِهَا وقرب اضْمِحْلَالِهَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ وَصُنْعِهِ الْبَدِيعِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً أَيْ: مِنَ السَّحَابِ مَطَرًا فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أَيْ: فَأَدْخَلَهُ وَأَسْكَنَهُ فِيهَا، وَالْيَنَابِيعُ جَمْعُ يَنْبُوعٍ مِنْ نَبَعَ الْمَاءُ يَنْبُعُ، وَالْيَنْبُوعُ: عَيْنُ الْمَاءِ وَالْأَمْكِنَةُ الَّتِي يَنْبُعُ مِنْهَا الْمَاءُ، وَالْمَعْنَى أَدْخَلَ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَهُ فِيهَا عُيُونًا جَارِيَةً، أَوْ جَعَلَهُ فِي يَنَابِيعَ، أَيْ: فِي أَمْكِنَةٍ يَنْبُعُ مِنْهَا الْمَاءُ، فَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَجَعَلَهُ عُيُونًا وَرَكَايَا «1» فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أَيْ: يُخْرِجُ بِذَلِكَ الْمَاءَ مِنَ الْأَرْضِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ مِنْ أَصْفَرَ وَأَخْضَرَ وَأَبْيَضَ وَأَحْمَرَ، أَوْ مِنْ بُرٍّ وَشَعِيرٍ وَغَيْرِهِمَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَلْوَانِ الْأَصْنَافُ ثُمَّ يَهِيجُ يُقَالُ هَاجَ النَّبْتُ يَهِيجُ هَيْجًا إِذَا تَمَّ جَفَافُهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ هَاجَ النَّبْتُ هِيَاجًا: إِذَا يَبِسَ، وَأَرْضٌ هَائِجَةٌ يَبِسَ بَقْلُهَا أَوِ اصْفَرَّ، وَأَهَاجَتِ الرِّيحُ النَّبْتَ أَيْبَسَتْهُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ هَاجَتِ الْأَرْضُ تَهِيجُ: إِذَا أَدْبَرَ نَبْتُهَا وَوَلَّى. قَالَ: وَكَذَلِكَ هَاجَ النَّبْتُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا أَيْ: تَرَاهُ بَعْدَ خُضْرَتِهِ وَنَضَارَتِهِ وَحُسْنِ رَوْنَقِهِ مُصْفَرًّا قَدْ ذَهَبَتْ خُضْرَتُهُ وَنَضَارَتُهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي: متفتتا متكسرا، مِنْ تَحَطَّمَ الْعُودُ: إِذَا تَفَتَّتَ مِنَ الْيُبْسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أَيْ: فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ تَذْكِيرٌ لِأَهْلِ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَعَقَّلُونَ الْأَشْيَاءَ عَلَى حَقِيقَتِهَا فَيَتَفَكَّرُونَ وَيَعْتَبِرُونَ وَيَعْلَمُونَ بِأَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا حَالُهَا كَحَالِ هَذَا الزَّرْعِ فِي سُرْعَةِ التَّصَرُّمِ وَقُرْبِ التَّقَضِّي، وَذَهَابِ بَهْجَتِهَا وَزَوَالِ رَوْنَقِهَا وَنَضَارَتِهَا، فَإِذَا أَنْتَجَ لَهُمُ التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمُ الِاغْتِرَارُ بِهَا وَالْمَيْلُ إِلَيْهَا وَإِيثَارُهَا عَلَى دَارِ النَّعِيمِ الدَّائِمِ وَالْحَيَاةِ الْمُسْتَمِرَّةِ وَاللَّذَّةِ الْخَالِصَةِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ شَكٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ قادر على البعث والحشر،

_ (1) . الرّكية: البئر، ج. ركايا.

لِأَنَّ مِنْ قَدِرَ عَلَى هَذَا قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْقُرْآنِ وَلِصُدُورِ مَنْ فِي الْأَرْضِ. وَالْمَعْنَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ قُرْآنًا فَسَلَكَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ دِينًا بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَزْدَادُ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَأَمَّا الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ فَإِنَّهُ يَهِيجُ كَمَا يَهِيجُ الزرع، وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير. قرأ الْجُمْهُورُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَرَأَ أَبُو بِشْرٍ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ، ذَكَرَ شَرْحَ الصَّدْرِ لِلْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ الْكَامِلَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِ فَقَالَ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أَيْ: وَسَّعَهُ لِقَبُولِ الْحَقِّ وَفَتَحَهُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَسِعَ صَدْرُهُ لِلْإِسْلَامِ لِلْفَرَحِ بِهِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ، وَالْكَلَامُ فِي الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ومن: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَمَنْ قَسَا قَلَبُهُ وَحَرِجَ صَدْرُهُ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ وَسَّعَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَقَبِلَهُ، وَاهْتَدَى بِهَدْيِهِ فَهُوَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الشَّرْحِ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يَفِيضُ عَلَيْهِ كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ، فَصَارَ فِي ظُلُمَاتِ الضَّلَالَةِ، وَبَلِيَّاتِ الْجَهَالَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: النُّورُ كِتَابُ اللَّهِ بِهِ يُؤْخَذُ وَإِلَيْهِ يُنْتَهَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ كَمَنْ طَبَعَ عَلَى قَلْبِهِ فَلَمْ يَهْتَدِ لِقَسْوَتِهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: أَيْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ أُتْخِمْتُ عَنْ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ وَمِنْ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ غَلُظَ قَلْبُهُ وَجَفَا عَنْ قَبُولِ ذِكْرِ اللَّهِ، يُقَالُ: قَسَا الْقَلْبُ إِذَا صَلُبَ، وَقَلْبٌ قَاسٍ أَيْ: صُلْبٌ لَا يَرِقُّ وَلَا يَلِينُ، وَقِيلَ: مَعْنَى مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذِكْرِهِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ تَنْشَرِحَ لَهُ الصُّدُورُ، وَتَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ اشْمَأَزُّوا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: ظَاهِرٍ وَاضِحٍ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ أَوْصَافِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَسَمَّاهُ حَدِيثًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ قَوْمَهُ وَيُخْبِرُهُمْ بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْهُ. وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ أَحْسَنَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ سَابِقًا هُوَ الْقُرْآنُ، وَانْتِصَابُ كِتاباً عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يكون حالا منه مُتَشابِهاً صفة لكتابا، أَيْ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحُسْنِ وَالْإِحْكَامِ وَصِحَّةِ الْمَعَانِي، وَقُوَّةِ الْمَبَانِي، وَبُلُوغِهِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْبَلَاغَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْآيِ وَالْحُرُوفِ، وَقِيلَ: يُشْبِهُ كُتُبَ اللَّهِ المنزلة على أنبيائه، ومَثانِيَ صفة أخرى لكتابا: أي تثنى فيه القصص وتتكرر فيه الموعظ والأحكام. وقيل: يثنى في التِّلَاوَةِ فَلَا يَمَلُّ سَامِعُهُ وَلَا يَسْأَمُ قَارِئُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَثانِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ هِشَامُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَبِشْرٌ بِسُكُونِهَا تَخْفِيفًا وَاسْتِثْقَالًا لِتَحْرِيكِهَا، أَوْ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ مَثَانِي، وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَبْيِينِ مَثَانِي أَنَّ أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ مُتَكَرِّرَةٌ: زَوْجَيْنِ زَوْجَيْنِ مِثْلُ: الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْعَامِّ والخاصّ، والمجمل والمفصل، وأحوال السموات وَالْأَرْضِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْبَيَانِ بِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ زَوْجٌ، وَأَنَّ الْفَرْدَ الْأَحَدَ الْحَقَّ هُوَ اللَّهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِهِ هَذَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالْبُعْدِ عَنْ مَقْصُودِ التنزيل تَقْشَعِرُّ

مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِكِتَابًا، وَأَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فَقَدْ تَخَصَّصَ بِالصِّفَةِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ مَا يَحْصُلُ عِنْدَ سَمَاعِهِ مِنَ التَّأَثُّرِ لِسَامِعِيهِ، وَالِاقْشِعْرَارُ: التَّقَبُّضُ، يُقَالُ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ: إِذَا تَقَبَّضَ وَتَجَمَّعَ مِنَ الْخَوْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَأْخُذُهُمْ مِنْهُ قُشَعْرِيرَةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا ذُكِرَتْ آيَاتُ الْعَذَابِ اقْشَعَرَّتْ جُلُودُ الْخَائِفِينَ لِلَّهِ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِذَا ذُكِرَتْ آيَاتُ الرَّحْمَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَبِتُّ أُكَابِدُ لَيْلَ التَّمَامِ ... وَالْقَلْبُ مِنْ خَشْيَةٍ مُقْشَعِرُّ «1» وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا كَانَ فِي غَايَةِ الْجَزَالَةِ وَالْبَلَاغَةِ، فَكَانُوا إِذَا رَأَوْا عَجْزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ اقْشَعَرَّتِ الْجُلُودُ مِنْهُ إِعْظَامًا لَهُ، وَتَعَجُّبًا مِنْ حُسْنِهِ وَبَلَاغَتِهِ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ عُدِّيَ تَلِينُ بِإِلَى لِتَضْمِينِهِ فِعْلًا يَتَعَدَّى بِهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: سَكَنَتْ وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ لَيِّنَةً غَيْرَ مُنْقَبِضَةٍ، وَمَفْعُولُ ذِكْرِ اللَّهِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ رَحْمَتَهُ وَثَوَابَهُ وَجَنَّتَهُ، وَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، نَعَتَهُمْ بِأَنَّهَا تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ عُقُولِهِمْ وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَهُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وهُدَى اللَّهِ خَبَرُهُ، أَيْ: ذَلِكَ الْكِتَابُ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ أَنْ يَهْدِيَهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا وَهَبَهُ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ مِنْ خَشْيَةِ عَذَابِهِ، وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أَيْ: يَجْعَلْ قَلْبَهُ قَاسِيًا مُظْلِمًا غَيْرَ قَابِلٍ لِلْحَقِّ فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى الْحَقَّ، وَيُخَلِّصُهُ مِنَ الضَّلَالِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ هادٍ بِغَيْرِ يَاءٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالْيَاءِ. ثُمَّ لَمَّا حَكَمَ عَلَى الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ بِحُكْمٍ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الضَّلَالُ، حَكَمَ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِحُكْمٍ آخَرَ وَهُوَ الْعَذَابُ فَقَالَ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَفِي هَذِهِ الْفَاءِ الدَّاخِلَةِ عَلَى مَنْ فِي قوله: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ وَمَنْ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا: مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ بِوَجْهِهِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ أَعْضَائِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِكَوْنِ يَدِهِ قَدْ صَارَتْ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِهِ كَمَنْ هُوَ آمِنٌ لَا يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاتِّقَاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ كَمَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. قَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ زَيْدٍ: يُرْمَى بِهِ مَكْتُوفًا فِي النَّارِ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ تَمَسُّ مِنْهُ وَجْهَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ أَفْضَلُ، أَمْ مَنْ سَعِدَ؟ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ «2» ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّا تَقُولُهُ الْخَزَنَةُ لِلْكُفَّارِ فَقَالَ: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى يَتَّقِي، أَيْ: وَيُقَالُ لَهُمْ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ. قَالَ عَطَاءٌ: أَيْ جَزَاءَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ «3» وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الذَّوْقِ فِي

_ (1) . «ليل التّمام» : أطول ما يكون من ليالي الشتاء. (2) . فصلت: 40. (3) . التوبة: 35.

غَيْرِ مَوْضِعٍ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ حَالِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَالَ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: مِنْ قَبْلِ الْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ: مِنْ جِهَةٍ لَا يَحْتَسِبُونَ إِتْيَانَ الْعَذَابِ مِنْهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ أَمْنِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ عَنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ لَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أَيِ: الذُّلَّ وَالْهَوَانَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بِالْمَسْخِ، وَالْخَسْفِ، وَالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ مَعَ دَوَامِهِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أَيْ: لَوْ كَانُوا مِمَّنْ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ، وَيَتَفَكَّرُ فِيهَا، وَيَعْمَلُ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِكُلِّ مَا نَالَ الْجَارِحَةَ مِنْ شَيْءٍ قَدْ ذَاقَتْهُ، أَيْ: وَصَلَ إِلَيْهَا كَمَا تَصِلُ الْحَلَاوَةُ وَالْمَرَارَةُ إِلَى الذَّائِقِ لَهُمَا. قَالَ: وَالْخِزْيُ الْمَكْرُوهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً الْآيَةَ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ مَاءٌ إِلَّا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَكِنَّ عروق فِي الْأَرْضِ تُغَيِّرُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعُودَ الْمِلْحُ عَذْبًا فَلْيُصْعِدْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ قُلْنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ انْشِرَاحُ صَدْرِهِ؟ قَالَ: إِذَا دَخَلَ النُّورُ الْقَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ. قُلْنَا: فَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالتَّأَهُّبُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ، وَأَحْسَنُهُمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا، وَإِذَا دَخَلَ النُّورُ فِي الْقَلْبِ انْفَسَحَ وَاسْتَوْسَعَ، فَقَالُوا: مَا آيَةُ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ» . وَأَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمِسْوَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينحوه، وَزَادَ فِيهِ. ثُمَّ قَرَأَ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ شَاهِينَ فِي التَّرْغِيبِ فِي الذِّكْرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ حَدَّثْتَنَا، فَنَزَلَ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: مَثانِيَ قَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَثَانِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ مَثَانِي ثُنِّيَ فِيهِ الْأَمْرُ مِرَارًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِجَدَّتِي أَسْمَاءَ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَءُوا الْقُرْآنَ؟ قَالَتْ: كَانُوا كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، قُلْتُ: فَإِنَّ نَاسًا هَاهُنَا إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ تَأْخُذُهُمْ عَلَيْهِ غَشْيَةٌ، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ قَالَ: يُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى النَّارِ مَكْتُوفًا ثُمَّ يُرْمَى به فيها، فأوّل ما تمسّ وجهه النار.

[سورة الزمر (39) : الآيات 27 إلى 35]

[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 35] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) قَوْلُهُ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ قَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ الْمَثَلِ، وَكَيْفِيَّةَ ضَرْبِهِ فِي غَيْرِ موضع، ومعنى مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ما يحتاجونه إِلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ هُنَا كَمَا فِي قَوْلُهُ: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ: مِنْ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِهْلَاكِ الأمم السالفة مثل لهؤلاء لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتعظمون فَيَعْتَبِرُونَ، وَانْتِصَابُ قُرْآناً عَرَبِيًّا عَلَى الْحَالِ مِنْ هَذَا وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَتُسَمَّى هَذِهِ حَالًا مُوطِئَةً، لِأَنَّ الْحَالَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ عَرَبِيًّا، وَقُرْآنًا تَوْطِئَةً لَهُ، نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ رَجُلًا صَالِحًا: كَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَدْحِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: عَرَبِيًّا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، وَقُرْآنًا تَوْكِيدٌ، وَمَعْنَى غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ: غَيْرَ مُخْتَلِفٍ. قَالَ النَّحَّاسُ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الضَّحَّاكِ، وَقِيلَ: غَيْرَ مُتَضَادٍّ، وَقِيلَ: غَيْرَ ذِي لَبْسٍ، وَقِيلَ: غَيْرَ ذِي لَحْنٍ، وَقِيلَ: غَيْرَ ذِي شَكٍّ كما قال الشاعر: وقد أتاك يقين غَيْرُ ذِي عِوَجٍ ... مِنَ الْإِلَهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عِلَّةٌ أُخْرَى بَعْدَ الْعِلَّةِ الْأُولَى. وَهِيَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَيْ: لِكَيْ يَتَّقُوا الْكُفْرَ وَالْكَذِبَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَثَلًا مِنَ الأمثال القرآنية للتذكير والاتعاظ، فَقَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أَيْ: تَمْثِيلُ حَالَةٍ عَجِيبَةٍ بِأُخْرَى مِثْلِهَا. ثُمَّ بَيَّنَ الْمَثَلَ فَقَالَ: رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ قَالَ الْكِسَائِيُّ: نَصَبَ رَجُلًا لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِرَجُلٍ، وَقِيلَ: إِنَّ رَجُلًا هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَمَثَلًا: هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَأُخِّرَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِيَتَّصِلَ بِمَا هُوَ مِنْ تَمَامِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ «يس» ، وَجُمْلَةُ فِيهِ شُرَكاءُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةً لِرَجُلٍ، وَالتَّشَاكُسُ: التَّخَالُفُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ مُخْتَلِفُونَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ مُتَعَاسِرُونَ مِنْ شَكِسَ يَشْكَسُ شَكَسًا فَهُوَ شَكِسٌ مِثْلَ عَسِرَ يَعْسَرُ عَسَرًا فَهُوَ عَسِرٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: التَّشَاكُسُ الِاخْتِلَافُ. قَالَ: وَيُقَالُ رَجُلٌ شَكْسٌ بِالتَّسْكِينِ: أَيْ صَعْبُ الْخُلُقِ، وَهَذَا مِثْلُ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَعَبَدَ آلِهَةً كَثِيرَةً. ثُمَّ قَالَ: وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ أَيْ: خَالِصًا لَهُ، وَهَذَا مِثْلُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «سَلَمًا» بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ، وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ،

وَيَعْقُوبُ «سَالِمًا» بِالْأَلِفِ وَكَسْرِ اللَّامِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَلِمَ لَهُ فَهُوَ سَالِمٌ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: لِأَنَّ السَّالِمَ الْخَالِصَ ضِدُّ الْمُشْتَرَكِ، وَالسِّلْمَ ضِدُّ الْحَرْبِ، وَلَا مَوْضِعَ لِلْحَرْبِ هَاهُنَا. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحَرْفَ إِذَا كَانَ لَهُ مَعْنَيَانِ لَمْ يُحْمَلْ إِلَّا عَلَى أَوْلَاهُمَا: فَالسِّلْمُ وَإِنْ كَانَ ضِدَّ الْحَرْبِ فَلَهُ مَعْنًى آخَرُ بِمَعْنَى سَالِمٍ، مِنْ سَلِمَ لَهُ كَذَا: إِذَا خَلَصَ لَهُ. وَأَيْضًا يَلْزَمُهُ فِي سَالِمٍ مَا أُلْزِمَ بِهِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ شَيْءٌ سَالِمٌ: أَيْ لَا عَاهَةَ بِهِ، وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ هِيَ عَلَى الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَا سِلْمٍ، وَمِثْلُهَا قِرَاءَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُ. ثُمَّ جَاءَ سُبْحَانَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَقَالَ: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَالْمَعْنَى: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الَّذِي يَخْدِمُ جَمَاعَةً شُرَكَاءَ أَخْلَاقُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، وَنِيَّاتُهُمْ مُتَبَايِنَةٌ يَسْتَخْدِمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيَتْعَبُ وَيَنْصَبُ مَعَ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرَ رَاضٍ بِخِدْمَتِهِ، وَهَذَا الَّذِي يَخْدِمُ وَاحِدًا لَا يُنَازِعُهُ غَيْرُهُ إِذَا أَطَاعَهُ رَضِيَ عَنْهُ، وَإِذَا عَصَاهُ عَفَا عَنْهُ. فَإِنَّ بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الِاخْتِلَافِ الظَّاهِرِ الْوَاضِحِ مَا لَا يَقْدِرُ عَاقِلٌ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِاسْتِوَائِهِمَا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا فِي أَعْلَى الْمَنَازِلِ، وَالْآخَرَ فِي أَدْنَاهَا، وَانْتِصَابُ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ هَلْ يَسْتَوِي مَثَلُهُمَا، وَأَفْرَدَ التَّمْيِيزَ وَلَمْ يُثَنِّهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّمْيِيزِ الْإِفْرَادُ لِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِلْجِنْسِ وَجُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَقْرِيرٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ، وَلِلْإِيذَانِ لِلْمُوَحِّدِينَ بِمَا فِي تَوْحِيدِهِمْ لِلَّهِ مِنَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِتَخْصِيصِ الْحَمْدِ بِهِ. ثُمَّ أَضْرَبَ سبحانه عن نفي الاستواء المفهوم من الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ إِلَى بَيَانِ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يعلمون فقال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ وَوُضُوحِهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ الْكُلُّ وَالظَّاهِرُ خِلَافُ مَا قَالَاهُ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّوْحِيدِ مِنْ رِفْعَةِ شَأْنِهِ وَعُلُوِّ مَكَانِهِ، وَإِنَّ الشِّرْكَ لَا يُمَاثِلُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يُسَاوِيهِ فِي وَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَأَنَّ الْحَمْدَ مُخْتَصٌّ بِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ الموت يدركه لَا مَحَالَةَ فَقَالَ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «مَيِّتٌ، وَمَيِّتُونَ» بِالتَّشْدِيدِ وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْيَمَانِيُّ «مَائِتٌ وَمَائِتُونَ» وَبِهَا قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَقَدِ اسْتَحْسَنَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِكَوْنِ مَوْتِهِ وَمَوْتِهِمْ مُسْتَقْبَلًا، وَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِحْسَانِ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: الْمَيِّتُ بِالتَّشْدِيدِ مَنْ لَمْ يَمُتْ وَسَيَمُوتُ، وَالْمَيْتُ بِالتَّخْفِيفِ مَنْ قَدْ مَاتَ وَفَارَقَتْهُ الرُّوحُ. قَالَ قَتَادَةُ: نعيت إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَفْسُهُ وَنُعِيَتْ إِلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَوَجْهُ هَذَا الإخبار الْإِعْلَامُ لِلصَّحَابَةِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مَعَ كَوْنِهِ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ أَيْ: تُخَاصِمُهُمْ يَا مُحَمَّدُ وَتَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَهُمْ وَأَنْذَرْتَهُمْ وَهُمْ يُخَاصِمُونَكَ، أَوْ يُخَاصِمُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ، وَالظَّالِمُ الْمَظْلُومَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُخْتَصِمِينَ فَقَالَ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، فَزَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا، أَوْ شَرِيكًا، أَوْ صَاحِبَةً وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُعَاءِ النَّاسِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَأَمْرِهِمْ بِالْقِيَامِ بِفَرَائِضِ الشَّرْعِ، وَنَهْيِهِمْ عَنْ مُحَرَّمَاتِهِ وَإِخْبَارِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُطِيعِ

وَالْعَاصِي. ثُمَّ اسْتَفْهَمَ سُبْحَانَهُ اسْتِفْهَامًا تَقْرِيرِيًّا فَقَالَ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أَيْ: أَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالصِّدْقِ، وَالْمَثْوَى: الْمُقَامُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ ثَوَى بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ يَثْوِي ثَوَاءً وَثُوِيًّا، مِثْلُ مَضَى مَضَاءً وَمُضِيًّا. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ يُقَالُ أَثْوَى وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْأَعْشَى: أَثْوَى وَقَصَّرَ لَيْلَةً لِيُزَوَّدَا ... وَمَضَى وَأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدَا وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْأَصْمَعِيُّ، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُ أَثْوَى. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فَرِيقَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ فَقَالَ: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ الْمَوْصُولُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَخَبَرُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وَقِيلَ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي صدّق به أَبُو بَكْرٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ جِبْرِيلُ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ زَيْدٍ: الَّذِي جاء بالصدق النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ دَعَا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَأَرْشَدَ إِلَى مَا شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ «وَالَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ» . وَلَفْظُ الَّذِي كَمَا وَقَعَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا فَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ، لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أَيِ الْمُتَّصِفُونَ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ النَّجَاةِ. وَقَرَأَ أَبُو صَالِحٍ «وَصَدَقَ بِهِ» مُخَفَّفًا، أَيْ: صَدَقَ بِهِ النَّاسُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا لِهَؤُلَاءِ الصادقين المصدّقين في الآخرة فقال: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ: لَهُمْ كُلُّ مَا يَشَاءُونَهُ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ، وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَفِي هَذَا تَرْغِيبٌ عَظِيمٌ، وَتَشْوِيقٌ بَالِغٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ جَزَائِهِمْ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أَيِ: الَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي أَعْمَالِهِمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْإِحْسَانَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا هُوَ الْغَايَةُ مِمَّا لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَقَالَ: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ أَعْظَمُ مَا يَرْجُونَهُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِذَا غَفَرَ لَهُمْ مَا هُوَ الْأَسْوَأُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ غَفَرَ لَهُمْ مَا دُونَهُ بطريقة الأولى، واللّام متعلقة بيشاؤون، أو بالمحسنين، أَوْ بِمَحْذُوفٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَسْوَأَ» عَلَى أَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ بَلْ بِمَعْنَى سيئ الَّذِي عَمِلُوا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَسْوَاءَ بِأَلِفٍ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ بِزِنَةِ أَجْمَالٍ جَمْعُ سُوءٍ، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَلْبِ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِمْ، وَإِضَافَةِ الْأَحْسَنِ إِلَى مَا بَعْدَهُ لَيْسَتْ مِنْ إِضَافَةِ الْمُفَضَّلِ إِلَى الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، بَلْ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى بَعْضِهِ قَصْدًا إِلَى التَّوْضِيحِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَفْضِيلٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَجْزِيهِمْ بِالْمَحَاسِنِ مِنْ أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوي. وَقَدْ أَخْرَجَ الْآجُرِّيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ قَالَ: غَيْرَ مَخْلُوقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا الْآيَةَ قَالَ: الرَّجُلُ يَعْبُدُ آلِهَةً شَتَّى،

[سورة الزمر (39) : الآيات 36 إلى 42]

فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ الْأَوْثَانِ وَرَجُلًا سَلَماً يَعْبُدُ إِلَهًا وَاحِدًا ضَرَبَ لِنَفْسِهِ مَثَلًا. وَأَخْرَجَا عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَرَجُلًا سَلَماً قَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ لَبِثْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِينَا وَفِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ الْآيَةَ، حَتَّى رَأَيْتُ بَعْضَنَا يَضْرِبُ وُجُوهَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِينَا. وَأَخْرَجَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي الْفِتَنِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَهُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: نَزَلَتْ عَلَيْنَا الْآيَةُ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ وَمَا نَدْرِي مَا تَفْسِيرُهَا حَتَّى وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، فَقُلْنَا هَذَا الَّذِي وَعَدَنَا رَبُّنَا أَنْ نَخْتَصِمَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَنِيعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُكَرَّرُ عَلَيْنَا مَا يَكُونُ بَيْنَنَا فِي الدُّنْيَا مَعَ خَوَاصِّ الذُّنُوبِ؟ قَالَ: نَعَمْ لَيُكَرَّرَنَّ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ حَتَّى يُؤَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. قَالَ الزُّبَيْرُ فو الله إِنَّ الْأَمْرَ لَشَدِيدٌ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ كُنَّا نَقُولُ: رَبُّنَا وَاحِدٌ، وَدِينُنَا وَاحِدٌ، وَنَبِيُّنَا وَاحِدٌ فَمَا هَذِهِ الْخُصُومَةُ؟ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ صِفِّينَ وَشَدَّ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ، قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ يعني بلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَصَدَّقَ بِهِ يَعْنِي بِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ يَعْنِي: اتَّقَوُا الشِّرْكَ. وأخرج ابن جرير، والباوردي فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أُسَيْدِ بْنِ صَفْوَانَ، وَلَهُ صُحْبَةٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَصَدَّقَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مردويه عن أبي هريرة مثله. [سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 42] أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

قَوْلُهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ عَبْدَهُ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «عِبَادَهُ» بِالْجَمْعِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى الْمُرَادُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَوِ الْجِنْسُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى الْمُرَادُ: الْأَنْبِيَاءُ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ، أَوِ الْجَمِيعُ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ عَقِبَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ لِعَدَمِ كِفَايَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ كأنها بِمَكَانٍ مِنَ الظُّهُورِ لَا يَتَيَسَّرُ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَبْدِ وَالْعِبَادِ: مَا يَعُمُّ الْمُسْلِمَ، وَالْكَافِرَ. قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: إِنَّ اللَّهَ كَافٍ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ، وَعَبْدَهُ الْكَافِرَ هَذَا بِالثَّوَابِ، وَهَذَا بِالْعِقَابِ. وَقُرِئَ «بِكَافِي عِبَادِهِ» بِالْإِضَافَةِ، وَقُرِئَ «يُكَافِي» بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَقَوْلُهُ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، إِذِ الْمَعْنَى أَلَيْسَ كَافِيكَ حَالَ تَخْوِيفِهِمْ إِيَّاكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أَيْ: مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِضَلَالِهِ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ يَهْدِيهِ إِلَى الرُّشْدِ، وَيُخْرِجُهُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ يُخْرِجُهُ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَيُوقِعُهُ فِي الضَّلَالَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ أَيْ: غَالِبٍ لِكُلِّ شَيْءٍ قَاهِرٍ لَهُ ذِي انْتِقامٍ يَنْتَقِمُ مِنْ عُصَاتِهِ بِمَا يَصُبُّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِهِ وَمَا يُنْزِلُهُ بِهِمْ مِنْ سَوْطِ عِقَابِهِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ اعترافهم إذا سئلوا عن الخالق بأنه الله سبحانه مع عِبَادَتَهُمْ لِلْأَوْثَانِ، وَاتِّخَاذَهُمُ الْآلِهَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَفِي هَذَا أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَفْلَةٍ شَدِيدَةٍ وَجَهَالَةٍ عَظِيمَةٍ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ الْخَالِقَ لَهُمْ وَلِمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَكَيْفَ اسْتَحْسَنَتْ عُقُولُهُمْ عِبَادَةَ غَيْرِ خَالِقِ الْكُلِّ وَتَشْرِيكَ مَخْلُوقٍ مَعَ خَالِقِهِ فِي الْعِبَادَةِ؟ وَقَدْ كَانُوا يُذْكَرُونَ بِحُسْنِ الْعُقُولِ، وَكَمَالِ الْإِدْرَاكِ، وَالْفِطْنَةِ التَّامَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا قَلَّدُوا أَسْلَافَهُمْ وَأَحْسَنُوا الظَّنَّ بِهِمْ هَجَرُوا مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ، وَعَمِلُوا بِمَا هُوَ مَحْضُ الْجَهْلِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يُبَكِّتَهُمْ بَعْدَ هَذَا الِاعْتِرَافِ وَيُوَبِّخَهُمْ فَقَالَ: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَيْ: أَخْبِرُونِي عَنْ آلِهَتِكُمْ هَذِهِ هَلْ تَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِي مِنَ الضُّرِّ، وَالضُّرُّ هُوَ الشِّدَّةُ أَوْ أَعْلَى أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ عَنِّي بِحَيْثُ لَا تَصِلُ إِلَيَّ، وَالرَّحْمَةُ النِّعْمَةُ وَالرَّخَاءُ. قرأ الجمهور ممسكات وكاشفات فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْإِضَافَةِ وَقَرَأَهُمَا أَبُو عَمْرٍو بِالتَّنْوِينِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سَأَلَهُمُ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَسَكَتُوا، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَالُوا لَا تَدْفَعُ شَيْئًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ وَلَكِنَّهَا تُشَفَّعُ، فَنَزَلَ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِي فِي جَلْبِ النَّفْعِ، وَدَفْعِ الضُّرِّ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ أَيْ: عَلَيْهِ، لَا عَلَى غَيْرِهِ يَعْتَمِدُ الْمُعْتَمِدُونَ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو، لِأَنَّ كَاشِفَاتٍ اسْمُ فَاعِلٍ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَنْوِينُهُ أَجْوَدُ، وَبِهَا قرأ الحسن، وعاصم ثم أمره سبحانه أَنْ يُهَدِّدَهُمْ، وَيَتَوَعَّدَهُمْ فَقَالَ: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أَيْ: عَلَى حَالَتِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا وَتَمَكَّنْتُمْ مِنْهَا إِنِّي عامِلٌ أَيْ: عَلَى حَالَتِي الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا، وَتَمَكَّنْتُ مِنْهَا، وَحُذِفَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَبْلَهُ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أَيْ: يُهِينُهُ، وَيُذِلُّهُ فِي الدُّنْيَا، فَيَظْهَرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمُبْطِلُ وَخَصْمَهُ الْمُحِقُّ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْعَذَابِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَالْقَهْرِ، وَالذِّلَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ عَذَابَ الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ

أَيْ: دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَعْظُمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ إِلَّا بِالْبَيَانِ، لَا بِأَنْ يَهْدِيَ مَنْ ضَلَّ، فَقَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ أي: لأجلهم ولبيان ما كلفوا به، وبِالْحَقِّ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ: أَيْ مُحِقِّينَ، أو ملتبسا بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى طَرِيقَ الْحَقِّ وَسَلَكَهَا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ عَنْهَا فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أَيْ: عَلَى نَفْسِهِ، فَضَرَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أَيْ: بِمُكَلَّفٍ بِهِدَايَتِهِمْ مُخَاطَبٍ بِهَا، بَلْ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَقَدْ فَعَلْتَ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَعْمَلُوا بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ قُدْرَتِهِ الْبَالِغَةِ وَصَنْعَتِهِ الْعَجِيبَةِ فَقَالَ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها أَيْ: يَقْبِضُهَا عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهَا، وَيُخْرِجُهَا مِنَ الْأَبْدَانِ وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أَيْ: وَيَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ، أَيْ: لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهَا فِي مَنَامِهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا، فَقِيلَ يَقْبِضُهَا عَنِ التَّصَرُّفِ مَعَ بَقَاءِ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى وَيَقْبِضُ الَّتِي لَمْ تَمُتْ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِهَا قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ تَوَفِّيهَا نَوْمَهَا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ وَفَاتُهَا نَوْمُهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِكُلِّ إِنْسَانٍ نَفْسَانِ: أَحَدُهُمَا نَفْسُ التَّمْيِيزِ وَهِيَ الَّتِي تُفَارِقُهُ إِذَا نَامَ فَلَا يعقل، والأخرى نفس الحياة إذا زالت معها زال النَّفَسُ، وَالنَّائِمُ يَتَنَفَّسُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فِي هَذَا بُعْدٌ إِذِ الْمَفْهُومُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ النَّفْسَ الْمَقْبُوضَةَ فِي الْحَالَيْنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا قَالَ: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أَيِ: النَّائِمَةَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِمَوْتِهِ، وَقَدْ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِ الزَّجَّاجِ: ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ إِذَا مَاتُوا، وَأَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إِذَا نَامُوا فَتَتَعَارَفُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَتَعَارَفَ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى فَيُعِيدُهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَوَفِّي الْأَنْفُسِ حَالَ النَّوْمِ بِإِزَالَةِ الْإِحْسَاسِ وَحُصُولِ الْآفَةِ بِهِ فِي مَحَلِّ الْحِسِّ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَلَا يَرُدُّهَا إِلَى الْجَسَدِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى بِأَنْ يُعِيدَ عَلَيْهَا إِحْسَاسَهَا. قِيلَ وَمَعْنَى: يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: عِنْدَ مَوْتِ أَجْسَادِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِي النَّفْسِ وَالرُّوحِ هَلْ هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ أَوْ شَيْئَانِ؟ وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ يَطُولُ جِدًّا، وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْكُتُبِ الْمَوْضُوعَةِ لِهَذَا الشَّأْنِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «قَضَى» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ: قَضَى اللَّهُ عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى لِمُوَافَقَتِهَا لِقَوْلِهِ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّوَفِّي، وَالْإِمْسَاكِ، وَالْإِرْسَالِ لِلنُّفُوسِ لَآياتٍ أَيْ: لَآيَاتٍ عَجِيبَةٍ بَدِيعَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ كَوْنُ ذَلِكَ آيَاتٍ يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ وَيَتَدَبَّرُونَهُ وَيَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى تَوْحِيدِ الله وكما قُدْرَتِهِ، فَإِنَّ فِي هَذَا التَّوَفِّي وَالْإِمْسَاكِ وَالْإِرْسَالِ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّعِظِينَ وَتَذْكِرَةً لِلْمُتَذَكِّرِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها الْآيَةَ قَالَ: نَفْسٌ وَرُوحٌ بَيْنَهُمَا مِثْلُ شُعَاعِ الشمس، فيتوفى الله النفس في منامه، وَيَدَعُ الرُّوحَ فِي جَوْفِهِ تَتَقَلَّبُ

[سورة الزمر (39) : الآيات 43 إلى 48]

وَتَعِيشُ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ قَبَضَ الرُّوحَ فَمَاتَ، وَإِنْ أَخَّرَ أَجَلَهُ رَدَّ النَّفْسَ إِلَى مَكَانِهَا مِنْ جَوْفِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: تَلْتَقِي أَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ، وَأَرْوَاحُ الْأَمْوَاتِ فِي الْمَنَامِ فَيَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُمْسِكُ الله أرواح الأموات، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَا يَغْلَطُ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُّ نَفْسٍ لَهَا سَبَبٌ تَجْرِي فِيهِ، فَإِذَا قُضِيَ عَلَيْهَا الْمَوْتُ نَامَتْ حَتَّى يَنْقَطِعَ السَّبَبُ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا تُتْرَكُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِاسْمِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ» . [سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 48] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) قَوْلُهُ: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أَمْ: هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلْ، وَالْهَمْزَةِ، أَيْ: بَلِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً شُفَعَاءَ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَيَشْفَعُونَ وَلَوْ كَانُوا ... إِلَخْ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ تَتَّخِذُونَهُمْ. أَيْ: وَإِنْ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَتَّخِذُونَهُمْ، وَمَعْنَى لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا أَنَّهُمْ غَيْرُ مَالِكِينَ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَتَدْخُلُ الشَّفَاعَةُ في ذلك دخولا أوّليا، ولا يعقلون شيئا لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا عَقْلَ لَهَا، وَجَمَعَهُمْ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ لِاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ فَقَالَ: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِهِ لِمَنِ ارْتَضَى، كَمَا فِي قَوْلُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «1» وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «2» وَانْتِصَابُ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ، وَإِنَّمَا أَكَّدَ الشَّفَاعَةَ بِمَا يُؤَكَّدُ بِهِ الِاثْنَانِ فَصَاعِدًا لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالِاثْنَيْنِ، وَالْجَمَاعَةِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِسَعَةِ الْمُلْكِ فَقَالَ: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: يَمْلِكُهُمَا، وَيَمْلِكُ مَا فِيهِمَا، وَيَتَصَرَّفُ فِي ذَلِكَ كَيْفَ يَشَاءُ، وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْبَعْثِ وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ

_ (1) . البقرة: 255. [.....] (2) . الأنبياء: 28.

انْتِصَابُ وَحْدَهُ عَلَى الْحَالِ عِنْدَ يُونُسَ، وَعَلَى الْمَصْدَرِ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَالِاشْمِئْزَازُ فِي اللُّغَةِ: النُّفُورُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اشْمَأَزَّتْ: نَفَرَتْ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: انْقَبَضَتْ. وَبِالْأَوَّلِ: قَالَ قَتَادَةُ، وَبِالثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: أَنْكَرَتْ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: اشْمَأَزَّ الرَّجُلُ ذُعِرَ مِنَ الْفَزَعِ، والمناسب للمقام تفسير اشمأزت بانقبضت، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الِازْوِرَارُ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ انْقَبَضُوا، كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً «1» ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ اسْتِبْشَارَهُمْ بِذِكْرِ أَصْنَامِهِمْ فَقَالَ: وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي: يفرحون بذلك ويبتهجون بِهِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهَا، وَهُوَ اشْمَأَزَّتْ، وَالْعَامِلُ فِي إِذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الْفِعْلُ الْعَامِلُ فِي إِذَا الفجائية، والتقدير: فاجؤوا الِاسْتِبْشَارَ وَقْتَ ذِكْرِ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. وَلَمَّا لَمْ يَقْبَلِ الْمُتَمَرِّدُونَ مِنَ الْكُفَّارِ مَا جَاءَهُمْ به صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ وَصَمَّمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَرُدَّ الْأَمْرَ إليه فَقَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ فاطر السموات، وَتَفْسِيرُ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَهُمَا مَنْصُوبَانِ عَلَى النِّدَاءِ وَمَعْنَى: تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ تُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَتُعَاقِبُ الْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يُظْهِرُ مَنْ هُوَ الْمُحِقُّ، وَمَنْ هُوَ الْمُبْطِلُ، وَيَرْتَفِعُ عِنْدَهُ خِلَافُ الْمُخْتَلِفِينَ، وَتَخَاصُمُ الْمُتَخَاصِمِينَ. ثُمَّ لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ مَا حَكَاهُ مِنَ الِاشْمِئْزَازِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالِاسْتِبْشَارِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَصْنَامِ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ عَذَابِهِمْ، وَعَظِيمِ عُقُوبَتِهِمْ فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أَيْ جَمِيعَ مَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَيْ: مُنْضَمًّا إِلَيْهِ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ: مِنْ سُوءِ عَذَابِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أَيْ: ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ عُقُوبَاتِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ وَشِدَّةِ عَذَابِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ، وَتَهْدِيدٌ بَالِغٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَمِلُوا أَعْمَالًا تَوَهَّمُوا أَنَّهَا حَسَنَاتٌ فَإِذَا هِيَ سَيِّئَاتٌ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الرِّيَاءِ، وَيْلٌ لِأَهْلِ الرِّيَاءِ، وَيْلٌ لِأَهْلِ الرِّيَاءِ هَذِهِ آيَتُهُمْ وَقِصَّتُهُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ: جَزِعَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عِنْدَ مَوْتِهِ جَزَعًا شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ مَا هَذَا الْجَزَعُ؟ قَالَ: أَخَافُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فَأَنَا أَخْشَى أَنْ يَبْدُوَ لِي مَا لَمْ أَكُنْ أَحْتَسِبُ وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي مساوي أَعْمَالِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَظُلْمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَ «مَا» يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: سَيِّئَاتُ كَسْبِهِمْ، وَأَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً: أَيْ سَيِّئَاتُ الَّذِي كسبوه وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ وَنَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يستهزءون بِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ الَّذِي كَانَ يُنْذِرُهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ الْآيَةَ قَالَ: قَسَتْ وَنَفَرَتْ قُلُوبُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَبُو جَهْلِ بن هشام، والوليد بن عقبة،

_ (1) . الإسراء: 46.

[سورة الزمر (39) : الآيات 49 إلى 61]

وَصَفْوَانُ، وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ اللَّاتُ وَالْعُزَّى إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي من تشاء إلى صراط مستقيم» . [سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 61] فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) قَوْلُهُ: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا: الْجِنْسُ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ أَوْ غَالِبِهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ فَقَطْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْجِنْسِ خُصُوصُ سَبَبِهِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ: بِعُمُومُ اللَّفْظِ وَفَاءٌ بِحَقِّ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ، وَوَفَاءٌ بِمَدْلُولِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ شَأْنَ غَالِبِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ إِذَا مَسَّهُ ضُرٌّ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ فَقْرٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا دَعَا اللَّهَ، وَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ فِي رَفْعِهِ وَدَفْعِهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا أَيْ: أَعْطَيْنَاهُ نِعْمَةً كَائِنَةً مِنْ عِنْدِنَا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ مِنِّي بِوُجُوهِ الْمَكَاسِبِ، أَوْ عَلَى خَيْرٍ عِنْدِي، أَوْ عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ بِفَضْلِي. وَقَالَ الْحَسَنُ، عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَنِي اللَّهُ إِيَّاهُ، وَقِيلَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنِّي إِذَا أُوتِيتُ هَذَا فِي الدُّنْيَا أَنَّ لِي عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً، وَجَاءَ بِالضَّمِيرِ فِي أُوتِيتُهُ مُذَكَّرًا مَعَ كَوْنِهِ رَاجِعًا إِلَى النِّعْمَةِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى مَا، وَهِيَ مَوْصُولَةٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ هَذَا رَدٌّ لِمَا قَالَهُ، أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ الَّذِي أَعْطَيْنَاكَ لِمَا ذَكَرْتَ، بَلْ هُوَ مِحْنَةٌ لَكَ، وَاخْتِبَارٌ لِحَالِكَ أَتَشْكُرُ أَمْ تَكْفُرُ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: «هِيَ» لِتَأْنِيثِ الْفِتْنَةِ، وَلَوْ قَالَ بَلْ هُوَ فِتْنَةٌ لَجَازَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: بَلْ عَطِيَّتُهُ فِتْنَةٌ. وَقِيلَ: تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْفِتْنَةِ، وَتَذْكِيرُ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ: أُوتِيتُهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ

لَهُمْ مِنَ اللَّهِ وَامْتِحَانٌ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشُّكْرِ أَوِ الْكُفْرِ قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالُوهَا وَهِيَ قَوْلُهُمْ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَقَارُونَ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ قَارُونَ قَالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي «1» فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا هَذِهِ نَافِيَةً، أَيْ: لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا شَيْئًا، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ ذَلِكَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا أَيْ: جَزَاءُ سَيِّئَاتِ كَسْبِهِمْ، أَوْ أَصَابَهُمْ سَيِّئَاتٌ هِيَ جَزَاءُ كَسْبِهِمْ، وَسُمِّيَ الْجَزَاءُ سَيِّئَاتٍ لِوُقُوعِهَا فِي مُقَابَلَةِ سَيِّئَاتِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ المشاكلة كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2» ، ثُمَّ أَوْعَدَ سُبْحَانَهُ الْكُفَّارَ فِي عَصْرِهِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ الْمَوْجُودِينَ مِنَ الْكُفَّارِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا كَمَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ أَصَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَحْطِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْقَهْرِ وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ: بِفَائِتِينَ عَلَى اللَّهِ بَلْ مَرْجِعُهُمْ إِلَيْهِ يَصْنَعُ بِهِمْ مَا شَاءَ مِنَ الْعُقُوبَةِ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أَيْ: يُوَسِّعُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ أَنْ يُوَسِّعَهُ لَهُ وَيَقْدِرُ أَيْ: يَقْبِضُهُ لِمَنْ يَشَاءُ أَنْ يَقْبِضَهُ وَيُضَيِّقَهُ عَلَيْهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَعَظَهُمُ اللَّهُ لِيَعْتَبِرُوا فِي تَوْحِيدِهِ، وَذَلِكَ حِينَ مُطِرُوا بعد سبع سنين، فقال: أو لم يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُوَسِّعُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُقَتِّرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَذْكُورِ لَدَلَالَاتٍ عَظِيمَةً وَعَلَامَاتٍ جَلِيلَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالْآيَاتِ الْمُتَفَكِّرُونَ فِيهَا. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْوَعِيدِ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ سعة رحمته وعظيم مغفرته وَأُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُبَشِّرَهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الْمُرَادُ بِالْإِسْرَافِ: الْإِفْرَاطُ فِي الْمَعَاصِي، وَالِاسْتِكْثَارُ مِنْهَا، وَمَعْنَى لَا تَقْنَطُوا: لَا تَيْأَسُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ: مِنْ مَغْفِرَتِهِ. ثُمَّ لما نهاهم عن القنوط أخرهم بِمَا يَدْفَعُ ذَلِكَ وَيَرْفَعُهُ وَيَجْعَلُ الرَّجَاءَ مَكَانَ الْقُنُوطِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى أَعْظَمِ بِشَارَةٍ، فَإِنَّهُ أَوَّلًا أَضَافَ الْعِبَادَ إِلَى نَفْسِهِ لِقَصْدِ تَشْرِيفِهِمْ، وَمَزِيدِ تَبْشِيرِهِمْ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِالْإِسْرَافِ فِي الْمَعَاصِي، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْقُنُوطِ مِنَ الرَّحْمَةِ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْثِرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْقُنُوطِ لِلْمُذْنِبِينَ غَيْرِ الْمُسْرِفِينَ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَبِفَحْوَى الْخِطَابِ، ثُمَّ جَاءَ بِمَا لَا يُبْقِي بَعْدَهُ شَكٌّ وَلَا يَتَخَالَجُ الْقَلْبَ عِنْدَ سَمَاعِهِ ظَنٌّ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ قَدْ صَيَّرَتِ الْجَمْعَ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ لِلْجِنْسِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ اسْتِغْرَاقَ أَفْرَادِهِ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ كُلَّ ذَنْبٍ كَائِنًا مَا كَانَ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ النَّصُّ الْقُرْآنِيُّ وَهُوَ الشِّرْكُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «3» ثم لم يكتف بما أخبر عباده مِنْ مَغْفِرَةِ كُلِّ ذَنْبٍ، بَلْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً فَيَا لَهَا مِنْ بِشَارَةٍ تَرْتَاحُ لَهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ ظَنَّهُمْ بِرَبِّهِمُ الصَّادِقِينَ فِي رَجَائِهِ. الْخَالِعِينَ لِثِيَابِ الْقُنُوطِ الرَّافِضِينَ لِسُوءِ الظَّنِّ بِمَنْ لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ، وَلَا يَبْخَلُ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ الْعَفْوِ الْمُلْتَجِئِينَ بِهِ فِي مَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ وَمَا أَحْسَنَ مَا عَلَّلَ سُبْحَانَهُ بِهِ هَذَا الْكَلَامَ قَائِلًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ عَظِيمُهُمَا بَلِيغُهُمَا وَاسِعُهُمَا، فَمَنْ

_ (1) . القصص: 78. (2) . الشورى: 40. (3) . النساء: 48.

أَبَى هَذَا التَّفَضُّلَ الْعَظِيمَ وَالْعَطَاءَ الْجَسِيمَ وَظَنَّ أَنَّ تَقْنِيطَ عِبَادِ اللَّهِ وَتَأْيِيسَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَوْلَى بِهِمْ مِمَّا بَشَّرَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ رَكِبَ أَعْظَمَ الشَّطَطِ وَغَلِطَ أَقْبَحَ الْغَلَطِ، فَإِنَّ التَّبْشِيرَ وَعَدَمَ التَّقْنِيطِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ مَوَاعِيدُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَالْمَسْلَكَ الَّذِي سَلَكَهُ رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: «يَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» . وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ هو أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ كَائِنًا مَا كَانَ مَا عَدَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ مَغْفُورٌ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ إِخْبَارَهُ لَنَا بِأَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَشَاءُ غُفْرَانَهَا جَمِيعًا، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَشَاءُ الْمَغْفِرَةَ لِكُلِّ الْمُذْنِبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَعَارُضٌ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. وَأَمَّا مَا يَزْعُمُهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ تَقْيِيدِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّوْبَةِ وَأَنَّهَا لَا تَغْفِرُ إِلَّا ذُنُوبَ التَّائِبِينَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ. فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الضَّبِّ وَالنُّونِ، وَبَيْنَ الْمَلَّاحِ وَالْحَادِي، وَعَلَى نَفْسِهَا بَرَاقِشُ تَجْنِي، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ الْعَظِيمَةُ مُقَيَّدَةً بِالتَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَثِيرُ مَوْقِعٍ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْمُشْرِكِ يَغْفِرُ الله بِهَا مَا فَعَلَهُ مِنَ الشِّرْكِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَلَوْ كَانَتِ التَّوْبَةُ قَيْدًا فِي الْمَغْفِرَةِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الشِّرْكِ فَائِدَةٌ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ «1» قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمُفَسِّرُونَ كُلُّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي قَوْمٍ خَافُوا إِنْ أَسْلَمُوا أَنْ لَا يَغْفِرَ لَهُمْ مَا جَنَوْا مِنَ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، كَالشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَمُعَادَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ. قُلْتُ: هَبْ أَنَّهَا فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَكَانَ مَاذَا؟ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعُمُومِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَوْ كَانَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِأَسْبَابِهَا غَيْرَ مُتَجَاوِزَةٍ لَهَا لَارْتَفَعَتْ أَكْثَرُ التَّكَالِيفِ عَنِ الْأُمَّةِ إِنْ لَمْ تَرْتَفِعْ كُلُّهَا، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. وَفِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي هَذَا الْبَابِ مَا إِنْ عَرَفَهُ الْمُطَّلِعُ عَلَيْهِ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَقَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ عَلِمَ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَعَرَفَ حَقِيَقَةَ مَا حَرَّرْنَاهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَا عبادي» بإثبات الياء وصلا ووفقا، وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ يَقِفُ بِغَيْرِ يَاءٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَقْنَطُوا» بِفَتْحِ النُّونِ، قرأ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِهَا وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ أَيِ: ارْجِعُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ. لَمَّا بَشَّرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، أَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ الْآيَةِ الْأُولَى بِالتَّوْبَةِ لَا بِمُطَابَقَةٍ، وَلَا تَضَمُّنٍ، وَلَا الْتِزَامٍ، بَلْ غَايَةُ مَا فِيهَا أَنَّهُ بَشَّرَهُمْ بِتِلْكَ الْبِشَارَةِ الْعُظْمَى، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَخَوَّفَهُمْ مِنَ الشَّرِّ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ خِطَابًا لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأَسْلِمُوا لَهُ جَاءَ بِهَا لِتَحْذِيرِ الْكُفَّارِ وَإِنْذَارِهِمْ بَعْدَ تَرْغِيبِ الْمُسْلِمِينَ بِالْآيَةِ الْأُولَى وَتَبْشِيرِهِمْ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا وَلَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِهِ، وَالْمَعْنَى عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ: أَنَّ اللَّهَ جَمَعَ لِعِبَادِهِ بَيْنَ التَّبْشِيرِ الْعَظِيمِ، وَالْأَمْرِ بِالْإِنَابَةِ إليه والإخلاص له والاستسلام لأمره

_ (1) . الرعد: 6.

وَالْخُضُوعِ لِحُكْمِهِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ أَيْ: عَذَابُ الدُّنْيَا كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا زَعَمَهُ الزَّاعِمُونَ، وَتَمَسَّكَ بِهِ الْقَانِطُونَ الْمُقَنِّطُونَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يَعْنِي: الْقُرْآنَ، يَقُولُ: أَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَسَنٌ. قَالَ الْحَسَنُ: الْتَزِمُوا طَاعَتَهُ وَاجْتَنِبُوا مَعَاصِيَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْأَحْسَنُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي الْمُحْكَمَاتِ، وَكِلُوا عِلْمَ الْمُتَشَابِهِ إِلَى عَالِمِهِ. وَقِيلَ: النَّاسِخُ دُونَ الْمَنْسُوخِ، وَقِيلَ: الْعَفْوُ دُونَ الِانْتِقَامِ بِمَا يَحِقُّ فِيهِ الِانْتِقَامُ، وَقِيلَ: أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُفَاجِئَكُمُ الْعَذَابُ وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ عَنْهُ لَا تَشْعُرُونَ بِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ بَغْتَةً فَيَقَعُونَ فِي الْعَذَابِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الَّذِي يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً هُوَ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَالْقَهْرِ، وَالْخَوْفِ، وَالْجَدْبِ، لَا عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَلَا الْمَوْتُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسْنِدِ الْإِتْيَانَ إِلَيْهِ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: أَيْ حَذَرًا أَنْ تَقُولَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لِئَلَّا تَقُولَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: بَادِرُوا خَوْفَ أَنْ تَقُولَ، أَوْ حَذَرًا مِنْ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خَوْفَ أَنْ تَصِيرُوا إِلَى حَالٍ تَقُولُونَ فِيهَا: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ هُنَا النَّفْسُ الْكَافِرَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ كَمَا في قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ «1» قرأ الجمهور «يا حسرتا» بِالْأَلِفِ بَدَلًا مِنَ الْيَاءِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا، وَالْأَصْلُ يَا حَسْرَتِي، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «يَا حَسْرَتَاهُ» بِهَاءِ السَّكْتِ وَقْفًا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ «يَا حَسْرَتِي» بِالْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَالْحَسْرَةُ: النَّدَامَةُ، وَمَعْنَى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، وَيَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ، وَالْعَمَلَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي جَنْبِ اللَّهِ أَيْ: فِي ثَوَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَنْبُ: الْقُرْبُ وَالْجِوَارُ، أَيْ: فِي قُرْبِ اللَّهِ وَجِوَارِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ «2» وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي طَلَبِ جَنْبِ اللَّهِ: أَيْ فِي طَلَبِ جِوَارِهِ وَقُرْبِهِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ فَرَّطْتُ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ اللَّهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَالْإِقْرَارِ بنبوّة رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا فَالْجَنْبُ بِمَعْنَى الْجَانِبِ: أَيْ قَصَّرْتُ فِي الْجَانِبِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى رِضَا الله، ومنه قول الشاعر: النّاس جنب والأمير جنبا «3» أَيِ النَّاسُ مِنْ جَانِبٍ وَالْأَمِيرُ مِنْ جَانِبٍ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَيْ: وَمَا كُنْتُ إِلَّا مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِدِينِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَكْفِهِ أَنْ ضَيَّعَ طَاعَةَ اللَّهِ حَتَّى سَخِرَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَيْ لَوْ أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَنِي إِلَى دِينِهِ لَكُنْتُ مِمَّنْ يَتَّقِي الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْحُجَجِ الزَّائِفَةِ، وَيَتَعَلَّلُونَ بِهِ مِنَ الْعِلَلِ الْبَاطِلَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا «4» فَهِيَ كَلِمَةُ حَقٍّ يُرِيدُونَ بِهَا بَاطِلًا. ثُمَّ ذكر سبحانه مقالة.

_ (1) . التكوير: 14. (2) . النساء: 36. (3) . وصدره: قسم مجهودا لذاك القلب. (4) . الأنعام: 148.

أُخْرَى مِمَّا قَالُوا فَقَالَ: أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أَيْ: رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ الْمُوَحِّدِينَ لَهُ، الْمُحْسِنِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَانْتِصَابُ أَكُونَ: إِمَّا لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى كَرَّةٍ فَإِنَّهَا مَصْدَرٌ وَأَكُونُ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ: كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ عَلَى هَذَا: فَمَا لَكَ مِنْهَا غَيْرُ ذِكْرَى وَخَشْيَةٍ ... وَتَسْأَلُ عَنْ رُكْبَانِهَا أَيْنَ يَمَّمُوا وَإِمَّا لِكَوْنِهِ جَوَابَ التَّمَنِّي الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ جَوَابَهُ عَلَى هذه النفس الْمُتَمَنِّيَةِ الْمُتَعَلِّلَةِ بِغَيْرِ عِلَّةٍ فَقَالَ: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ. الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: هِيَ الْآيَاتُ التَّنْزِيلِيَّةُ وَهُوَ القرآن، ومعنى التكذيب بها قوله: إنها ليست مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَتَكَبُّرٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِكْبَارِ مِنَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ. وَجَاءَ سُبْحَانَهُ بِخِطَابِ الْمُذَكَّرِ فِي قَوْلِهِ: جَاءَتْكَ وَكَذَّبْتَ وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ، لِأَنَّ النَّفْسَ تُطْلَقُ عَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: تَقُولُ الْعَرَبُ نَفْسٌ وَاحِدٌ، أَيْ: إِنْسَانٌ وَاحِدٌ، وَبِفَتْحِ التَّاءِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وأبو حيوة، ويحيى ابن يَعْمُرَ بِكَسْرِهَا فِي جَمِيعِهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنَتِهِ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَيْ: تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بِأَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ وَصَاحِبَةً وَوَلَدًا وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ لِمَا أَحَاطَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَشَاهَدُوهُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ، وَجُمْلَةُ «وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: تَرَى غَيْرَ عَامِلٍ فِي وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ، إِنَّمَا هُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَرَى إِنْ كَانَتْ مِنَ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ، فَجُمْلَةُ «وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ» حَالِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ قَلْبِيَّةً فَهِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِتَرَى، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ لِلتَّقْرِيرِ، أَيْ: لَيْسَ فِيهَا مَقَامٌ لِلْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْكِبْرُ هُوَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيِ: اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَمَعَاصِيَ اللَّهِ، وَالْبَاءُ فِي بِمَفازَتِهِمْ مُتَعَلِّقَةٌ بمحذوف هو حال من الموصول، أي: متلبسين بِمَفَازَتِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمَفَازَتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ وَالْفَوْزُ: الظَّفَرُ بِالْخَيْرِ، وَالنَّجَاةُ مِنَ الشَّرِّ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَفَازَةُ مَفْعَلَةٌ مِنَ الْفَوْزِ وَهُوَ السَّعَادَةُ، وَإِنْ جُمِعَ فَحَسُنٌ: كَقَوْلِكَ السَّعَادَةُ وَالسَّعَادَاتُ. وَالْمَعْنَى يُنْجِيهِمُ اللَّهُ بِفَوْزِهِمْ، أَيْ: بِنَجَاتِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَفَوْزِهِمْ بِالْجَنَّةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ بِمَفَازَاتِهِمْ جَمْعُ مَفَازَةٍ، وَجَمْعُهَا مَعَ كونها مصدر لِاخْتِلَافِ الْأَنْوَاعِ، وَجُمْلَةُ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَوْصُولِ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ يَنْفِي السُّوءَ وَالْحُزْنَ عَنْهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي بِمَفَازَتِهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ فَوْزِهِمْ مَعَ انْتِفَاءِ مَسَاسِ السُّوءِ لَهُمْ، وَعَدَمِ وُصُولِ الْحُزْنِ إِلَى قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِثَوَابِ اللَّهِ، وَأَمِنُوا مِنْ عِقَابِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ

قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الْآيَةَ فِي مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ لَيْسَ لِمُفْتَتِنٍ تَوْبَةٌ وَمَا اللَّهُ بِقَابِلٍ مِنْهُ شَيْئًا، عَرَفُوا اللَّهَ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ لِبَلَاءٍ أَصَابَهُمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أنزل الله فيهم يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الْآيَاتِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي، ثُمَّ بَعَثْتُ بِهَا إِلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبي سعد قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ وَحْشِيٌّ أَنْزَلَ اللَّهِ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ «1» قَالَ وَحْشِيٌّ وَأَصْحَابُهُ: قَدِ ارْتَكَبْنَا هَذَا كُلَّهُ، فأنزل الله قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَضْحَكُونَ وَيَتَحَدَّثُونَ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، ثُمَّ انْصَرَفَ وَأَبْكَى الْقَوْمَ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا مُحَمَّدُ لِمَ تُقَنِّطُ عِبَادِي؟ فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبْشِرُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أنها نزلت فيمن افتتن. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ لَمَّا قَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ مَا قَدِ اقْتَرَفُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ ثَوْبَانَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا وما فيها بهذه الآية يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ وَمَنْ أَشْرَكَ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، قَالَ أَلَا وَمَنْ أَشْرَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ «يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا يُبَالِي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَاضٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ فَقَالَ: يَا مُذَكِّرَ النَّاسِ لَا تُقَنِّطِ النَّاسَ، ثم قرأ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: أَيُّ آيَةٍ أَوْسَعُ؟ فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ «2» الْآيَةَ وَنَحْوَهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا فِي الْقُرْآنِ أَوْسَعُ مِنْ يَا عِبادِيَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ قَالَ: قَدْ دَعَا اللَّهُ إِلَى مَغْفِرَتِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ يَدَ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وَمَنْ زعم أن الله ثالث لِهَؤُلَاءِ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثُمَّ دَعَا إِلَى تَوْبَتِهِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ قَوْلًا مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «3» وَقَالَ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «4» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ آيَسَ الْعِبَادَ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدَ هَذَا فَقَدْ جَحَدَ كِتَابَ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ أَنْ يَتُوبَ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المنذر،

_ (1) . الفرقان: 68. (2) . النساء: 110. (3) . النازعات: 24. (4) . القصص: 38. [.....]

[سورة الزمر (39) : الآيات 62 إلى 72]

وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ مَا الْعِبَادُ قَائِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوا، وَعَلَّمَهُمْ قبل أن يعلموا. [سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 72] اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) قَوْلُهُ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَنْعَامِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أَيِ: الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ فَهُوَ الْقَائِمُ بِحِفْظِهَا وَتَدْبِيرِهَا مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ لَهُ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْمَقَالِيدُ وَاحِدُهَا مِقْلِيدٌ وَمِقْلَادٌ أَوْ لَا وَاحِدَ لَهُ من لفظه كأساطير، وهي مفاتيح السموات وَالْأَرْضِ، وَالرِّزْقِ وَالرَّحْمَةِ. قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْمِقْلَادُ الْخِزَانَةُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ لَهُ خزائن السموات وَالْأَرْضِ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: خَزَائِنُ السموات: الْمَطَرُ، وَخَزَائِنُ الْأَرْضِ: النَّبَاتُ. وَقِيلَ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَحِفْظِهِ لَهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْإِقْلِيدُ الْمِفْتَاحُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْجَمْعُ مقاليد، وَقِيلَ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيْ: بِالْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَوْحِيدِهِ، وَمَعْنَى الْخَاسِرُونَ: الْكَامِلُونَ فِي الْخُسْرَانِ لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِهَذَا الْكُفْرِ إِلَى النَّارِ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ التَّوْبِيخِيِّ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كنظائره، وغير منصوب بأعبد، وأعبد معمول لتأمروني عَلَى تَقْدِيرِ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ، فَلَمَّا حُذِفَتْ بَطَلَ عَمَلُهَا، وَالْأَصْلُ: أَفَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ. قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ: مَنْصُوبًا بِتَأْمُرُونِّي، وَأَعْبُدُ: بَدَلٌ مِنْهُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، وَأَنْ مُضْمَرَةٌ مَعَهُ أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَنْصُوبَةً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَفَتُلْزِمُونِي غَيْرَ اللَّهِ، أَيْ: عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ، أَوْ أَعْبُدُ غير الله أعبد. أمره الله سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا لِلْكُفَّارِ لَمَّا دَعَوْهُ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وقالوا هو

دِينُ آبَائِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَأْمُرُونِّي» بِإِدْغَامِ نُونِ الرَّفْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي فَتْحِ الْيَاءِ وَتَسْكِينِهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ «تَأْمُرُونِيَ» بِنُونٍ خَفِيفَةٍ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «تَأْمُرُونَنِي» بِالْفَكِّ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ أَيْ: مِنَ الرُّسُلِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ بَابِ التَّعْرِيضِ لِغَيْرِ الرُّسُلِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَصَمَهُمْ عَنِ الشِّرْكِ، وَوَجْهُ إِيرَادِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ التَّحْذِيرُ، وَالْإِنْذَارُ لِلْعِبَادِ مِنَ الشِّرْكِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُوجِبًا لِإِحْبَاطِ عَمَلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرِ: فَهُوَ مُحْبِطٌ لِعَمَلِ غَيْرِهِمْ مِنْ أُمَمِهِمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ وَأُوحِيَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ كَذَلِكَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِكَ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّوْحِيدُ مَحْذُوفٌ، قَالَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ يَا مُحَمَّدُ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَقِيلَ إِفْرَادُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ هَذَا الْكَلَامُ، وَهُوَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَيَّدَةٌ بِالْمَوْتِ عَلَى الشِّرْكِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ «1» وَقِيلَ: هَذَا خَاصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الشِّرْكَ مِنْهُمْ أَعْظَمُ ذَنْبًا مِنَ الشِّرْكِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أولى، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِتَوْحِيدِهِ، فَقَالَ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ أَمَرُوهُ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَوَجْهُ الرَّدِّ مَا يُفِيدُهُ التَّقْدِيمُ مِنَ الْقَصْرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَفْظُ اسْمِ اللَّهِ مَنْصُوبٌ باعبد قَالَ: وَلَا اخْتِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ والكوفيين. قال الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْفَاءُ فِي فَاعْبُدْ لِلْمُجَازَاةِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: زَائِدَةٌ. قَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ مَعْنَى فَاعْبُدْ: وَحِّدْ، لِأَنَّ عِبَادَتَهُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِتَوْحِيدِهِ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِإِنْعَامِهِ عَلَيْكَ بِمَا هَدَاكَ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالدُّعَاءِ إِلَى دِينِهِ وَاخْتَصَّكَ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ قَالَ الْمُبَرِّدُ: أي عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ، مِنْ قَوْلِكَ فُلَانٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِهَذَا لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَأَمَرُوا رَسُولَهُ بِأَنْ يَكُونَ مِثْلَهُمْ فِي الشِّرْكِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ قَدَّرُوا بِالتَّشْدِيدِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ الْقَبْضَةُ فِي اللُّغَةِ مَا قَبَضْتَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ كَفِّكَ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَعَ عِظَمِهَا وَكَثَافَتِهَا فِي مَقْدُورِهِ كَالشَّيْءِ الَّذِي يَقْبِضُ عَلَيْهِ الْقَابِضُ بِكَفِّهِ كَمَا يَقُولُونَ: هُوَ فِي يَدِ فُلَانٍ وَفِي قَبْضَتِهِ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَهُونُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ ذِكْرَ الْيَمِينِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَمَالِ الْقُدْرَةِ كَمَا يَطْوِي الْوَاحِدُ مِنَّا الشَّيْءَ الْمَقْدُورَ لَهُ طَيُّهُ بِيَمِينِهِ، وَالْيَمِينُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْمِلْكِ. قَالَ الْأَخْفَشُ بِيَمِينِهِ يَقُولُ فِي قُدْرَتِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «2» أَيْ: مَا كَانَتْ لَكُمْ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمِلْكُ لِلْيَمِينِ دُونَ الشِّمَالِ وَسَائِرِ الْجَسَدِ، وَمِنْهُ قوله سبحانه: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ «3» أَيْ: بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا مَا رَايَةٌ نُصِبَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

_ (1) . البقرة: 217. (2) . النساء: 3. (3) . الحاقة: 45.

وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَلَمَّا رَأَيْتُ الشَّمْسَ أَشْرَقَ نُورُهَا ... تَنَاوَلْتُ مِنْهَا حَاجَتِي بِيَمِينِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: عَطَسَتْ بِأَنْفٍ شَامِخٍ وَتَنَاوَلَتْ ... يَدَايَ الثُّرَيَّا قَاعِدًا غَيْرَ قَائِمِ وَجُمْلَةُ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ «قَبْضَتُهُ» عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِنَصْبِهَا، ووجه ابن خالويه بأنه على الظرفية: وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «مَطْوِيَّاتٌ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ كالتي قبلها، وبيمينه متعلق بمطويات، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مَطْوِيَّاتٌ أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ، وَقَرَأَ عِيسَى وَالْجَحْدَرِيُّ بِنَصْبِ «مَطْوِيَّاتٍ» ، ووجه ذلك أن السموات مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَتَكُونُ قَبْضَتُهُ خَبَرًا عَنِ الأرض والسموات، وَتَكُونُ مَطْوِيَّاتٌ حَالًا، أَوْ تَكُونُ مَطْوِيَّاتٌ مَنْصُوبَةً بفعل مقدّر، وبيمينه الْخَبَرُ، وَخُصَّ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَتْ قُدْرَتُهُ شَامِلَةً، لِأَنَّ الدَّعَاوَى تَنْقَطِعُ فِيهِ كَمَا قال سبحانه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «1» وقال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «2» ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ فَقَالَ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا شُرَكَاءَ لَهُ مَعَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ هَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَالصُّورُ: هُوَ الْقَرْنُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَمَعْنَى صَعِقَ: زَالَتْ عُقُولُهُمْ فَخَرُّوا مَغْشِيًّا عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: مَاتُوا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَاتَ مِنَ الْفَزَعِ وشدة الصوت أهل السموات وَالْأَرْضِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ الصُّورِ بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِهَا جَمْعُ صُورَةٍ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ مُتَّصِلٌ، وَالْمُسْتَثْنَى جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَقِيلَ: رِضْوَانُ، وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَخَزَنَةُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُخْرَى فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى النِّيَابَةِ وَهِيَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: نَفْخَةٌ أُخْرَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ فِيهِ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ يَعْنِي الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَنْظُرُونَ مَا يُقَالُ لَهُمْ، أَوْ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «قِيَامٌ» بِالرَّفْعِ عَلَى أنه خبر، وينظرون فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَالْخَبَرُ يَنْظُرُونَ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا عَمِلَ فِي إِذَا الْفُجَائِيَّةِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ كَمَا تَقُولُ خَرَجْتُ فَإِذَا زِيدٌ جَالِسًا وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها الْإِشْرَاقُ الْإِضَاءَةُ، يُقَالُ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ: إِذَا أَضَاءَتْ، وَشَرَقَتْ: إِذَا طَلَعَتْ، وَمَعْنَى بِنُورِ رَبِّهَا: بِعَدْلِ رَبِّهَا، قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِحُكْمِ رَبِّهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَرْضَ أَضَاءَتْ وَأَنَارَتْ بِمَا أَقَامَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَدْلِ بَيْنَ أَهْلِهَا، وَمَا قَضَى بِهِ مِنَ الْحَقِّ فِيهِمْ، فَالْعَدْلُ نُورٌ وَالظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلْبِسُهُ وَجْهَ الْأَرْضِ فَتُشْرِقُ بِهِ غَيْرَ نُورِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هو نور السموات

_ (1) . الحج: 56. (2) . الفاتحة: 4.

وَالْأَرْضِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَشْرَقَتْ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَوُضِعَ الْكِتابُ قِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْكُتُبَ وَالصُّحُفَ الَّتِي فِيهَا أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ وَضْعِ الْمُحَاسِبِ كِتَابَ الْمُحَاسَبَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ: وُضِعَ الْكِتَابُ لِلْحِسَابِ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ أَيْ: جِيءَ بِهِمْ إِلَى الْمَوْقِفِ فَسُئِلُوا عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ وَالشُّهَداءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «1» وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشُّهَدَاءِ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَشْهَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ ذَبَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ. وَقِيلَ: هُمُ الْحَفَظَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ «2» وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ: وَقُضِيَ بَيْنَ الْعِبَادِ بِالْعَدْلِ وَالصِّدْقِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ: أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِهِمْ، وَلَا يُزَادُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ عِقَابِهِمْ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فِي الدُّنْيَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَاتِبٍ، وَلَا حَاسِبٍ، وَلَا شَاهِدٍ، وَإِنَّمَا وُضِعَ الْكِتَابُ، وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ لِتَكْمِيلِ الْحُجَّةِ وَقَطْعِ الْمَعْذِرَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَفْصِيلَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَوْفِيَةِ كُلِّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ فَقَالَ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أَيْ: سِيقَ الْكَافِرُونَ إِلَى النَّارِ حَالَ كَوْنِهِمْ زُمَرًا، أَيْ: جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ بَعْضُهَا يَتْلُو بَعْضًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ، زُمَرًا: جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ بَعْضُهَا إِثْرَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَتَرَى النَّاسَ إِلَى أَبْوَابِهِ ... زُمَرًا تَنْتَابُهُ بَعْدَ زُمَرِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الزَّمْرِ، وَهُوَ الصَّوْتُ، إِذِ الْجَمَاعَةُ لَا تَخْلُو عَنْهُ حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها أَيْ: فُتِحَتْ أَبْوَابُ النَّارِ لِيَدْخُلُوهَا، وَهِيَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها جَمْعُ خَازِنٍ نَحْوَ سَدَنَةٍ وَسَادِنٍ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أَيْ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَيْهِمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أَيْ: يُخَوِّفُونَكُمْ لِقَاءَ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي صِرْتُمْ فِيهِ، قَالُوا لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، فَأَجَابُوا بِالِاعْتِرَافِ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْجَدَلِ الَّذِي كَانُوا يَتَعَلَّلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا لِانْكِشَافِ الْأَمْرِ وَظُهُورِهِ، وَلِهَذَا قالُوا بَلى أَيْ: قَدْ أَتَتْنَا الرُّسُلُ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَأَنْذَرُونَا بِمَا سَنَلْقَاهُ وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ وَهِيَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَلَمَّا اعْتَرَفُوا هَذَا الِاعْتِرَافَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ الَّتِي قَدْ فُتِحَتْ لَكُمْ لِتَدْخُلُوهَا وَانْتِصَابُ خالِدِينَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِئْسَ مَثْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْمَثْوَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ: مَفَاتِيحُهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَيُوسُفُ الْقَاضِي فِي سُنَنِهِ، وأبو الحسن القطان، وابن

_ (1) . البقرة: 143. (2) . ق: 21.

السُّنِّيِّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ لِي: «يَا عُثْمَانُ لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ يَسْأَلْنِي عَنْهَا أَحَدٌ قَبْلَكَ، مقاليد السموات وَالْأَرْضِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وسبحانه اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ثُمَّ ذكر فضل هذه الكلمات» وأخرجه ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: أخبرني عن مقاليد السموات وَالْأَرْضِ، فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ عُثْمَانَ. وَأَخْرَجَهُ الْعَقِيلِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُثْمَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا دَعَتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُعْطُوهُ مَالًا فَيَكُونَ أَغْنَى رَجُلٍ بِمَكَّةَ، وَيُزَوِّجُوهُ مَا أَرَادَ مِنَ النِّسَاءِ وَيَطَئُونَ عَقِبَهُ، فَقَالُوا لَهُ: هَذَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَتَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا وَلَا تَذْكُرْهَا بِسُوءٍ، قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِينِي مِنْ رَبِّي، فجاء بالوحي قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْخاسِرِينَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا نَجِدُ أَنَّ الله يحمل السموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ، وَآثَارٌ تَقْتَضِي حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ دُونِ تَكَلُّفٍ لِتَأْوِيلٍ، وَلَا تَعَسُّفٍ لِقَالٍ وَقِيلٍ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، فَرَفَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَدَهُ فَلَطَمَهُ، فَقَالَ: أَتَقُولُ هَذَا وَفِينَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «قَالَ اللَّهُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْإِفْرَادِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قَالَ: «هُمُ الشُّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُونَ أَسْيَافَهُمْ حَوْلَ عَرْشِهِ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ أَقْوَالِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ فِي الْإِبَانَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فَقَالَ: «جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ وَإِسْرَافِيلُ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَابِرٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قَالَ: مُوسَى، لِأَنَّهُ كَانَ صُعِقَ قَبْلُ. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي كَيْفِيَّةِ نَفْخِ الصُّوَرِ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:

[سورة الزمر (39) : الآيات 73 إلى 75]

وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ قَالَ: النَّبِيِّينَ: الرُّسُلِ، وَالشُّهَدَاءِ: الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِالْبَلَاغِ لَيْسَ فِيهِمْ طَعَّانٌ وَلَا لَعَّانٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَشْهَدُونَ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وتكذيب الأمم إياهم. [سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 75] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) لَمَّا ذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ حَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَسَوْقَهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ، ذَكَرَ هُنَا حَالَ الْمُتَّقِينَ وَسَوْقَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً أَيْ سَاقَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ سَوْقَ إِعْزَازٍ وَتَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ. وَقَدْ سَبَقَ بيان معنى الزمر حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها جَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ. قَالَ الْمُبَرِّدُ تَقْدِيرُهُ: سَعِدُوا وَفُتِحَتْ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً ... وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تُسَاقِطُ أَنْفُسَا فَحُذِفَ جَوَابُ لَوْ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكَانَ أَرْوَحَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَوْلُ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذُكِرَتْ دَخَلُوهَا فَالْجَوَابُ دَخَلُوهَا وَحُذِفَ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكُوفِيُّونَ: الْجَوَابُ فُتِحَتْ وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَهُوَ خَطَأٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ الْوَاوَ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي فَلَا تُزَادُ. وَقِيلَ: إِنَّ زِيَادَةَ الْوَاوِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَبْوَابَ فُتِحَتْ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا لِكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَأَبْوَابُهَا مُفَتَّحَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ «1» وَحُذِفَتِ الْوَاوُ فِي قِصَّةِ أَهْلِ النَّارِ، لِأَنَّهُمْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ وَفُتِحَتْ بَعْدَ وُقُوفِهِمْ إِذْلَالًا وَتَرْوِيعًا. ذَكَرَ مَعْنَاهُ النَّحَّاسُ مَنْسُوبًا إِلَى بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَبَقَهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ قَدْ، أَيْ: جَاءُوهَا وَقَدْ فُتِحَتْ لَهُمُ الْأَبْوَابُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا وَاوُ الثَّمَانِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْعَدَدِ: خَمْسَةٌ سِتَّةٌ سَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ مُسْتَوْفًى، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ أَيْضًا. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ خَزَنَةَ الْجَنَّةِ يُسَلِّمُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي: سلامة لَكُمْ مِنْ كُلِّ آفَةٍ طِبْتُمْ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ تَتَدَنَّسُوا بِالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي. قَالَ مُجَاهِدٌ: طِبْتُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقِيلَ: بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا قَطَعُوا جِسْرَ جَهَنَّمَ حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَطُيِّبُوا قَالَ لَهُمْ رِضْوَانُ وَأَصْحَابُهُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ فَادْخُلُوها أَيِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ خالِدِينَ أَيْ: مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بِالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ بِالْجَنَّةِ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أَيْ: أَرْضَ الْجَنَّةِ كَأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ إِلَيْهِمْ فَمَلَكُوهَا، وَتَصَرَّفُوا فِيهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ وَرِثُوا الْأَرْضَ الَّتِي كَانَتْ لأهل النار لو كانوا

_ (1) . ص: 50.

مُؤْمِنِينَ. قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا أَرْضُ الدُّنْيَا، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ نَتَّخِذُ فِيهَا مِنَ الْمَنَازِلِ مَا نَشَاءُ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الْجَنَّةُ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أَيْ: مُحِيطِينَ مُحَدِّقِينَ بِهِ، يُقَالُ حَفَّ الْقَوْمُ بِفُلَانٍ: إِذَا أَطَافُوا بِهِ، وَ «مِنْ» مَزِيدَةٌ. قَالَهُ الْأَخْفَشُ، أَوْ لِلِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّائِيَ يَرَاهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَجُمْلَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ مُسَبِّحِينَ لله متلبسين بِحَمْدِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى يُسَبِّحُونَ يُصَلُّونَ حَوْلَ الْعَرْشِ شُكْرًا لِرَبِّهِمْ، وَالْحَافِّينَ: جَمْعُ حَافٍّ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لَهُ إِذْ لَا يَقَعُ لَهُمْ هَذَا الِاسْمُ إِلَّا مُجْتَمِعِينَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ: بَيْنَ الْعِبَادِ بِإِدْخَالِ بَعْضِهِمُ الْجَنَّةَ وَبَعْضِهِمُ النَّارَ، وَقِيلَ: بَيْنَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ جِيءَ بِهِمْ مَعَ الشُّهَدَاءِ وَبَيْنَ أُمَمِهِمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ بِإِقَامَتِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ عَلَى حَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الْقَائِلُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَمِدُوا اللَّهَ عَلَى قَضَائِهِ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ أَهْلِ النَّارِ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْقَائِلُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ حَمِدُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَدْلِهِ فِي الْحُكْمِ وَقَضَائِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ بِالْحَقِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى ضَوْءِ أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً» . وَأَخْرَجَا وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ مِنْهَا بَابٌ يُسَمَّى بَابَ الرَّيَّانِ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ» وَقَدْ وَرَدَ فِي كَوْنِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ أَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ قَالَ: أَرْضَ الْجَنَّةِ. وأخرج هناد عن أبي العالية مثله.

سورة غافر

سورة غافر وهي سورة المؤمن، وتسمى سورة الطّول، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَجَابِرٍ. قَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا قَوْلَهُ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ لِأَنَّ الصَّلَوَاتِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا آيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ، وَهُمَا إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ وَالَّتِي بَعْدَهَا، وَهِيَ خَمْسٌ وَثَمَانُونَ آيَةً، وَقِيلَ: اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ آيَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ حم الْمُؤْمِنِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالنَّحَّاسُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتِ الْحَوَامِيمُ السَّبْعُ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: نَزَلَتِ الْحَوَامِيمُ جَمِيعًا بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنّ الله أعطاني السّبع «1» مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأَعْطَانِيَ الرَّاءَاتِ إِلَى الطَّوَاسِينِ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ، وَأَعْطَانِي مَا بَيْنَ الطَّوَاسِينِ إِلَى الْحَوَامِيمِ مَكَانَ الزَّبُورِ، وَفَضَّلَنِي بِالْحَوَامِيمِ وَالْمُفَصَّلِ، مَا قَرَأَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ لبابا، وإن لباب القرآن الحواميم. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْحَوَامِيمُ دِيبَاجُ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: إذا وقعت في الحواميم وقعت في روضات دَمِثَاتٍ أَتَأَنَّقُ فِيهِنَّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْحَوَامِيمُ دِيبَاجُ الْقُرْآنِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ خَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْحَوَامِيمُ سَبْعٌ، وَأَبْوَابُ النَّارِ سَبْعٌ، تَجِيءُ كُلُّ حم مِنْهَا تَقِفُ عَلَى بَابٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ تَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُدْخِلْ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِي ويقرؤني» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير وآية الكرسيّ حِينَ يُصْبِحُ، حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِينَ يُمْسِي، حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبِحَ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

_ (1) . وهي الطوال وآخرها براءة. انظر تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص: 35.

قَوْلُهُ: حم قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْحَاءِ مُشْبَعًا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِإِمَالَتِهِ إِمَالَةً مَحْضَةً. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِإِمَالَتِهِ بَيْنَ بَيْنَ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ حم بِسُكُونِ الْمِيمِ كَسَائِرِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ بِضَمِّهَا عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ أَوْ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَا بَعْدَهُ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَوْ عَلَى أَنَّهَا حَرَكَةُ بِنَاءٍ لَا حَرَكَةُ إِعْرَابٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وأبو السمال بِكَسْرِهَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ الْقَسَمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِوَصْلِ الْحَاءِ بِالْمِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِقَطْعِهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَقِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ قَضَى، وَجَعَلَاهُ بِمَعْنَى حُمَّ: أَيْ قُضِيَ وَوَقَعَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حُمَّ أَمْرُ اللَّهِ، أَيْ: قَرُبَ نَصْرُهُ لِأَوْلِيَائِهِ، وَانْتِقَامُهُ مِنْ أَعْدَائِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ تَكَلُّفٌ لَا مُوجِبَ لَهُ، وَتَعَسُّفٌ لَا مُلْجِئَ إِلَيْهِ، والحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة، وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهُ كَمَا قَدَّمْنَا تَحْقِيقَهُ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ البقرة. تَنْزِيلُ الْكِتابِ هو خبر لحم عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، أَوْ: خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَوْ: هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ قال الرازي: المراد بتنزيل: الْمُنَزَّلُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ بِكَذِبٍ عَلَيْهِ. وَالْعَزِيزُ: الْغَالِبُ الْقَاهِرُ، وَالْعَلِيمُ: الْكَثِيرُ الْعِلْمِ بِخَلْقِهِ، وَمَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ قَالَ الْفَرَّاءُ: جَعَلَهَا كَالنَّعْتِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَهِيَ نَكِرَةٌ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ هَذَا أَنَّ إِضَافَتَهَا لَفْظِيَّةٌ، وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ إِضَافَتُهَا مَعْنَوِيَّةً، كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ كُلَّ مَا إِضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مَحْضَةً، وَتُوصَفُ بِهِ الْمَعَارِفُ إِلَّا الصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَلَمْ يَسْتَثْنُوا شَيْئًا بَلْ جَعَلُوا الصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ كَاسْمِ الْفَاعِلِ فِي جَوَازِ جَعْلِهَا إِضَافَةً مَحْضَةً، وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يُرَادُ بِهَا زَمَانٌ مَخْصُوصٌ، فَيُجَوِّزُونَ فِي شَدِيدِ هُنَا أَنْ تَكُونَ إِضَافَتُهُ مَحْضَةً. وَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ بِمُشَدَّدٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَ مَخْفُوضَةٌ عَلَى الْبَدَلِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ غَافِرَ، وَقَابِلَ: مخفوضين على الوصف، وشديد: مخفوض عَلَى الْبَدَلِ، وَالْمَعْنَى: غَافِرِ الذَّنْبِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَقَابِلِ تَوْبَتِهِمْ، وَشَدِيدِ الْعِقَابِ لِأَعْدَائِهِ، وَالتَّوْبُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّوْبَةِ مِنْ تَابَ يَتُوبُ تَوْبَةً وَتَوْبًا، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ تَوْبَةٍ، وَقِيلَ: غَافِرِ الذَّنْبِ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَابِلِ التَّوْبِ مِنَ الشِّرْكِ، وَشَدِيدِ الْعِقَابِ لِمَنْ لَا يُوَحِّدُهُ، وَقَوْلُهُ: ذِي الطَّوْلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً، لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا، وَأَصْلُ الطَّوْلِ: الْإِنْعَامُ وَالتَّفَضُّلُ، أَيْ: ذِي الْإِنْعَامِ عَلَى عِبَادِهِ، وَالتَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذِي الْغِنَى وَالسَّعَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا «1» أَيْ: غِنًى وَسَعَةً، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ذِي الطَّوْلِ ذي المنّ. قال

_ (1) . النساء: 25.

الْجَوْهَرِيُّ: وَالطَّوْلُ بِالْفَتْحِ الْمَنُّ يُقَالُ مِنْهُ طَالَ عَلَيْهِ وَيَطُولُ عَلَيْهِ إِذَا امْتَنَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ذِي الطَّوْلِ ذِي التَّفَضُّلِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنِّ وَالتَّفَضُّلِ أَنَّ الْمَنَّ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ، وَالتَّفَضُّلَ إِحْسَانٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَأَنَّهُ الْحَقِيقُ بِالْعِبَادَةِ فَقَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ لِيُهْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ ذَكَرَ أَحْوَالَ مَنْ يُجَادِلُ فِيهِ لِقَصْدِ إِبْطَالِهِ فَقَالَ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ: مَا يُخَاصِمُ فِي دَفْعِ آيَاتِ اللَّهِ وَتَكْذِيبِهَا إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْمُرَادُ الْجِدَالُ بِالْبَاطِلِ، وَالْقَصْدُ إِلَى دَحْضِ الْحَقِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، فَأَمَّا الْجِدَالُ لِاسْتِيضَاحِ الْحَقِّ، وَرَفْعِ اللَّبْسِ، وَالْبَحْثِ عَنِ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ، وَعَنِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَدَفْعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُبْطِلُونَ مِنْ مُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِ، وَرَدِّهِمْ بِالْجِدَالِ إِلَى الْمُحْكَمِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَقَرَّبُ الْمُتَقَرِّبُونَ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَقَالَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «1» قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ «2» وَقَالَ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «3» فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ لَمَّا حَكَمَ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِالْكُفْرِ، نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَغْتَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ حُظُوظِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ فَقَالَ: فَلَا يَغْرُرْكَ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ التِّجَارَةِ فِي الْبِلَادِ، وَمَا يُحَصِّلُونَهُ مِنَ الْأَرْبَاحِ، وَيَجْمَعُونَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُمْ مُعَاقَبُونَ عَمَّا قَلِيلٍ، وَإِنْ أُمْهِلُوا فَإِنَّهُمْ لَا يُهْمَلُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَغْرُرْكَ سَلَامَتُهُمْ بَعْدَ كُفْرِهِمْ، فَإِنَّ عَاقِبَتَهُمُ الْهَلَاكُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَا يَغْرُرْكَ» بِفَكِّ الْإِدْغَامِ. وقرأ زيد ابن عَلِيٍّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ بِالْإِدْغَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ سَلَكُوا سَبِيلَ أُولَئِكَ فِي التَّكْذِيبِ فَقَالَ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ الضمير من بَعْدِهِمْ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِ نُوحٍ، أَيْ: وَكَذَّبَتِ الْأَحْزَابُ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى الرُّسُلِ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ كَعَادٍ وَثَمُودَ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ أَيْ: هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِرَسُولِهِمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ لِيَأْخُذُوهُ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْهُ، فَيَحْبِسُوهُ وَيُعَذِّبُوهُ وَيُصِيبُوا مِنْهُ مَا أَرَادُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: لِيَقْتُلُوهُ، وَالْأَخْذُ قَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ «4» وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَسِيرَ: الْأَخِيذَ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أَيْ: خَاصَمُوا رَسُولَهُمْ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْقَوْلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ لِيُزِيلُوهُ، وَمِنْهُ مَكَانٌ دَحْضٌ: أَيْ مُزْلِقَةٌ وَمُزِلَّةُ أَقْدَامٍ، وَالْبَاطِلُ: دَاحِضٌ لِأَنَّهُ يَزْلَقُ، وَيَزُولُ فَلَا يَسْتَقِرُّ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: جَادَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بِالشِّرْكِ لِيُبْطِلُوا بِهِ الْإِيمَانَ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أَيْ: فَأَخَذْتُ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ بِالْبَاطِلِ، فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِي الَّذِي عَاقَبْتُهُمْ بِهِ، وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ عِقَابِ اجْتِزَاءٌ بِالْكَسْرَةِ عَنْهَا وَصْلًا وَوَقْفًا لِأَنَّهَا رَأْسُ آيَةٍ وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ: وَجَبَتْ وَثَبَتَتْ وَلَزِمَتْ، يُقَالُ حَقَّ الشَّيْءُ إِذَا لَزِمَ وَثَبَتَ، وَالْمَعْنَى: وَكَمَا حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِرُسُلِهِمْ حَقَّتْ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، وَجَادَلُوكَ بِالْبَاطِلِ، وَتَحَزَّبُوا عَلَيْكَ، وَجُمْلَةُ أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: لأجل أنهم مستحقون للنار. قال

_ (1) . آل عمران: 187. (2) . البقرة: 159. (3) . العنكبوت: 46. (4) . الحج: 44. [.....]

الْأَخْفَشُ: أَيْ لِأَنَّهُمْ، أَوْ بِأَنَّهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بَدَلًا مِنْ كَلِمَةُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «كَلِمَةُ» بِالتَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ «كَلِمَاتٌ» بِالْجَمْعِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ وَالْمَوْصُولُ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِبَيَانِ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَى طَبَقَاتِهِمْ يَضُمُّونَ إِلَى تَسْبِيحِهِمْ لِلَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ الِاسْتِغْفَارَ لِلَّذِينِ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَصَدَقُوا، وَالْمُرَادُ بِمَنْ حَوْلَ الْعَرْشِ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِهِ مُهَلِّلِينَ مُكَبِّرِينَ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْعَرْشِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ ينزهون الله متلبسين بِحَمْدِهِ عَلَى نِعَمِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ اسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ حَاكِيًا عَنْهُمْ رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وَهُوَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ يَقُولُونَ رَبَّنَا، أَوْ قَائِلِينَ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، انْتِصَابُ رَحْمَةً وَعِلْمًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَالْأَصْلُ وَسِعَتْ رَحْمَتُكَ وَعِلْمُكَ كُلَّ شَيْءٍ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ أَيْ: أَوْقَعُوا التَّوْبَةَ عَنِ الذُّنُوبِ وَاتَّبَعُوا سَبِيلَ اللَّهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أَيِ: احْفَظْهُمْ مِنْهُ رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ «وَأَدْخِلْهُمْ» مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: «قِهِمْ» وَوَسَّطَ الْجُمْلَةَ النِّدَائِيَّةَ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ بِالتَّكْرِيرِ، وَوَصَفَ جَنَّاتِ عَدْنٍ بِأَنَّهَا الَّتِي وَعَدْتَهُمْ إِيَّاهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أَيْ: وَأَدْخِلْ مَنْ صَلَحَ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاحِ هَاهُنَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْعَمَلُ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ صَلَحَ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَيَجُوزُ عَطْفُ (وَمَنْ صَلَحَ) عَلَى الضَّمِيرِ فِي وَعَدْتَهُمْ: أَيْ وَوَعَدْتَ مَنْ صَلَحَ، وَالْأَوْلَى عَطْفُهُ عَلَى الضَّمِيرِ الْأَوَّلِ فِي: وَأَدْخِلْهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: نَصْبُهُ مِنْ مَكَانَيْنِ إِنْ شِئْتَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي أَدْخِلْهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي وَعَدْتَهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ اللَّامِ مَنْ صَلَحَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِضَمِّهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَذُرِّيَّاتِهِمْ» عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَلَى الْإِفْرَادِ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: الْغَالِبُ الْقَاهِرُ الْكَثِيرُ الْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أَيِ: الْعُقُوبَاتِ، أَوْ: جَزَاءَ السَّيِّئَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ. قال قتادة: وقهم ما يسوءهم مِنَ الْعَذَابِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ رَحِمْتَهُ يُقَالُ وَقَاهُ يَقِيهِ وِقَايَةً: أَيْ حَفِظَهُ، وَمَعْنَى فَقَدْ رَحِمْتَهُ أَيْ: رَحِمْتَهُ مِنْ عَذَابِكَ وَأَدْخَلْتَهُ جَنَّتَكَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّاتِ، وَوِقَايَتِهِمُ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيِ: الظَّفَرُ الَّذِي لَا ظَفَرَ مِثْلُهُ، والنجاة التي لا تساويها نجاة. وقد أخرج ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: حم اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وابن مردويه عن المهلب ابن أَبِي صُفْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَقُولُ لَيْلَةَ الْخَنْدَقِ «إِنْ أُتِيتُمُ اللَّيْلَةَ فَقُولُوا حم لَا يُنْصَرُونَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكُمْ

[سورة غافر (40) : الآيات 10 إلى 20]

تَلْقَوْنَ عَدُوَّكُمْ فَلْيَكُنْ شِعَارُكُمْ حم لَا يُنْصَرُونَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ذِي الطَّوْلِ قَالَ: ذِي السَّعَةِ وَالْغِنَى. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: غافِرِ الذَّنْبِ الْآيَةَ قَالَ: غَافِرِ الذَّنْبِ لِمَنْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إلا الله قابِلِ التَّوْبِ مِمَّنْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَدِيدِ الْعِقابِ لِمَنْ لَا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ذِي الطَّوْلِ ذِي الْغِنَى لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كَانَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لَا يُوَحِّدُونَهُ فَوَحَّدَ نَفْسَهُ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مَصِيرُ مَنْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ، وَمَصِيرُ مَنْ لَا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيُدْخِلُهُ النَّارَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ جِدَالًا فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مراء في القرآن كفر» . [سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 20] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ أَصْحَابِ النَّارِ، وَأَنَّهَا حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ذَكَرَ أَحْوَالَهُمْ بَعْدَ دُخُولِ النَّارِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَعْمَالَهُمْ، وَنَظَرُوا فِي كِتَابِهِمْ، وَأُدْخِلُوا النَّارَ، وَمَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُوءِ صَنِيعِهِمْ نَادَاهُمْ حِينَ عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ مُنَادٍ لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هَذِهِ اللَّامُ فِي لَمَقْتُ هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ أُوقِعَتْ بَعْدَ يُنَادَوْنَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ يُقَالُ لَهُمْ، وَالنِّدَاءُ قَوْلٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ كُلُّ إِنْسَانٍ لِنَفْسِهِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ: مَقَتُّكِ يَا نَفْسُ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ وَهُمْ فِي النَّارِ: لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا أَشَدُّ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُعْطَوْنَ كِتَابَهُمْ، فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى سَيِّئَاتِهِمْ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ، فَيُنَادَوْنَ: لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ عَايَنْتُمُ النَّارَ، وَالظَّرْفُ فِي إِذْ تُدْعَوْنَ مَنْصُوبٌ بِمُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، أَيْ: مَقْتِكُمْ وَقْتَ دُعَائِكُمْ، وَقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ هُوَ

اذْكُرُوا، وَقِيلَ: بِالْمَقْتِ الْمَذْكُورِ، وَالْمَقْتُ: أَشَدُّ الْبُغْضِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَقُولُونَ فِي النَّارِ فَقَالَ: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ نَعْتَانِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَمَتَّنَا إِمَاتَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَأَحْيَيْتَنَا إِحْيَاءَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ وَالْمُرَادُ بِالْإِمَاتَتَيْنِ: أَنَّهُمْ كَانُوا نُطَفًا لَا حَيَاةَ لَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ بَعْدَ أَنْ صَارُوا أَحْيَاءً فِي الدُّنْيَا، وَالْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءَتَيْنِ: أَنَّهُ أَحْيَاهُمُ الْحَيَاةَ الْأُولَى فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «1» وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ أُمِيتُوا فِي الدُّنْيَا عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ فِي قُبُورِهِمْ لِلسُّؤَالِ، ثُمَّ أُمِيتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمَوْتَ سَلْبُ الْحَيَاةِ، وَلَا حَيَاةَ لِلنُّطْفَةِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى عَادِمِ الْحَيَاةِ مِنَ الْأَصْلِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى تَفْسِيرِ الْأَوَّلِ جُمْهُورُ السَّلَفِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ وَاسْتَخْرَجَهُمْ وَأَحْيَاهُمْ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ ثُمَّ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَمَاتَهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ اعْتِرَافَهُمْ بَعْدَ أَنْ صَارُوا فِي النَّارِ بِمَا كَذَّبُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ حَاكِيًا عَنْهُمْ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا الَّتِي أَسْلَفْنَاهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ وَتَرْكِ تَوْحِيدِهِ، فَاعْتَرَفُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ الِاعْتِرَافُ، وَنَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، وَقَدْ جَعَلُوا اعْتِرَافَهُمْ هَذَا مُقَدِّمَةً لِقَوْلِهِمْ: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أَيْ: هَلْ إِلَى خُرُوجٍ لَنَا مِنَ النَّارِ، وَرُجُوعٍ لَنَا إِلَى الدُّنْيَا مِنْ سَبِيلٍ، وَمِثْلُ هذا قولهم الذي حكاه الله عنهم هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ «2» وقوله: فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً «3» وقوله: يا لَيْتَنا نُرَدُّ «4» الْآيَةَ. ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِ أَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ كَفَرْتُمْ بِهِ، وَتَرَكْتُمْ تَوْحِيدَهُ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الأصنام أو غيرها تُؤْمِنُوا بالإشراك وَتُجِيبُوا الدَّاعِيَ إِلَيْهِ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ لَهُمُ السَّبَبَ الْبَاعِثَ عَلَى عَدَمِ إِجَابَتِهِمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، وَهُوَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ تَرْكِ تَوْحِيدِ اللَّهَ، وَإِشْرَاكِ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي رَأْسُهَا الدُّعَاءُ، وَمَحَلُّ ذَلِكُمْ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: الْأَمْرُ ذَلِكُمْ، أَوْ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: ذَلِكُمُ الْعَذَابُ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأُجِيبُوا بِأَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى الرَّدِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ ... إِلَخْ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ عَلَيْكُمْ بالخلود في النار، وعدم الخروج منها والْعَلِيِّ الْمُتَعَالِي عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُمَاثِلٌ فِي ذاته ولا صفاته، والْكَبِيرِ الذي كبر على أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ صَاحِبَةٌ أَوْ وَلَدٌ أَوْ شَرِيكٌ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ أَيْ: دَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ، وَعَلَامَاتِ قُدْرَتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً يَعْنِي الْمَطَرَ فَإِنَّهُ سَبَبُ الْأَرْزَاقِ. جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ إِظْهَارِ الْآيَاتِ، وَإِنْزَالِ الْأَرْزَاقِ، لِأَنَّ بِإِظْهَارِ الْآيَاتِ قِوَامُ الْأَدْيَانِ، وَبِالْأَرْزَاقِ قِوَامُ الْأَبْدَانِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ التَّكْوِينِيَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُنَزِّلُ» بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أَيْ: مَا يَتَذَكَّرُ وَيَتَّعِظُ بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ فَيَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَصِدْقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ، أَيْ: يَرْجِعُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِمَا يَسْتَفِيدُهُ مِنَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ. ثُمَّ لَمَّا ذكر سبحانه ما نصبه من

_ (1) . البقرة: 28. (2) . الشورى: 44. (3) . السجدة: 12. (4) . الأنعام: 27.

الْأَدِلَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ أَمَرَ عِبَادَهُ بِدُعَائِهِ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ فَقَالَ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ فَادْعُوَا اللَّهَ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الْعِبَادَةَ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِهَا وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ذَلِكَ، فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى كَرَاهَتِهِمْ، وَدَعُوهُمْ يَمُوتُوا بِغَيْظِهِمْ وَيَهْلِكُوا بِحَسْرَتِهِمْ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ وَارْتِفَاعُ رَفِيعِ الدرجات على أنه خبر آخر عن الْمُبْتَدَأِ الْمُتَقَدِّمِ: أَيْ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ، وَهُوَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ، وَكَذَلِكَ ذُو الْعَرْشِ خَبَرٌ ثَالِثٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ: مُبْتَدَأً، وَخَبَرُهُ: «ذُو الْعَرْشِ» ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ لمبتدأ محذوف، ورفيع صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ. وَالْمَعْنَى: رَفِيعُ الصِّفَاتِ، أَوْ رَفِيعُ دَرَجَاتِ مَلَائِكَتِهِ: أَيْ مَعَارِجِهِمْ، أَوْ رَفِيعُ دَرَجَاتِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَسَعِيدُ بن جبير: رفيع السموات السَّبْعِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ رَفِيعُ بِمَعْنَى رَافِعٍ، وَمَعْنَى ذُو الْعَرْشِ: مَالِكُهُ وَخَالِقُهُ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عُلُوَّ شَأْنِهِ وَعِظَمَ سُلْطَانِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الْعِبَادَةُ وَيَجِبُ لَهُ الْإِخْلَاصُ، وَجُمْلَةُ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ آخَرُ لِلْمُبْتَدَأِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ لِلْمُقَدَّرِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُلْقِي الْوَحْيَ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَسُمِّيَ الْوَحْيُ رُوحًا، لِأَنَّ النَّاسَ يَحْيَوْنَ بِهِ مِنْ مَوْتِ الْكُفْرِ. كَمَا تَحْيَا الْأَبْدَانُ بِالْأَرْوَاحِ وَقَوْلُهُ: مِنْ أَمْرِهِ مُتَعَلِّقٌ بيلقي، وَ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الرُّوحِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «1» وَقِيلَ الرُّوحُ جِبْرِيلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ «2» وَقَوْلِهِ: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ «3» وَقَوْلِهِ: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَمَعْنَى مِنْ أَمْرِهِ مِنْ قَضَائِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لِيُنْذِرَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصَبَ الْيَوْمَ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوِ الرَّسُولُ أَوْ مَنْ يَشَاءُ، وَالْمُنْذَرُ بِهِ مَحْذُوفٌ تقديره: لينذر العذاب يوم التلاق. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَجَمَاعَةٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ رَفَعَ الْيَوْمَ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ مَجَازًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، والحسن، وابن السميقع «لِتُنْذِرَ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ الرَّسُولُ، أَوْ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى الرُّوحِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَأْنِيثُهَا. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ «لِيُنْذَرَ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَرَفَعَ يَوْمَ عَلَى النِّيَابَةِ، وَمَعْنَى يَوْمَ التَّلاقِ يوم يلتقي أهل السموات وَالْأَرْضِ فِي الْمَحْشَرِ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ: يَوْمَ يَلْتَقِي الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ، وَقِيلَ الظَّالِمُ وَالْمَظْلُومُ، وَقِيلَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَقِيلَ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ وَالْعَامِلُونَ، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ التَّلَاقِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. هُوَ مُنْتَصِبٌ بِقَوْلِهِ: لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ وَقِيلَ: مُنْتَصِبٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمَعْنَى بَارِزُونَ: خَارِجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ لَا يَسْتُرُهُمْ شَيْءٌ، وَجُمْلَةُ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِبُرُوزِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ بَارِزُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا لِلْمُبْتَدَأِ: أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَجُمْلَةُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا يُقَالُ عِنْدَ بُرُوزِ الْخَلَائِقِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ فَقِيلَ: يُقَالُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِذَا هَلَكَ كُلُّ من في السموات وَالْأَرْضِ، فَيَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ يعني يوم القيامة

_ (1) . الشورى: 52. (2) . الشعراء: 193 و 194. (3) . النحل: 102.

فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ فَيُجِيبُ تَعَالَى نَفْسَهُ، فَيَقُولُ: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ السَّائِلُ تَعَالَى، وَهُوَ الْمُجِيبُ حِينَ لَا أَحَدَ يُجِيبُهُ فَيُجِيبُ نَفْسَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي بِذَلِكَ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْمَحْشَرِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وَقِيلَ: إِنَّهُ يُجِيبُ الْمُنَادِيَ بِهَذَا الْجَوَابِ أَهْلُ الْجَنَّةِ دُونَ أَهْلِ النَّارِ، وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةٌ لِمَا يَنْطِقُ بِهِ لِسَانُ الْحَالِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِانْقِطَاعِ دَعَاوَى الْمُبْطِلِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «1» وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ مِنْ تَمَامِ الْجَوَابِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُجِيبَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُجِيبَ هُمُ الْعِبَادُ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ فَهُوَ مستأنف لبيان ما يقوله اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ جَوَابِهِمْ، أَيِ: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بِنَقْصٍ مِنْ ثَوَابِهِ أَوْ بِزِيَادَةٍ فِي عِقَابِهِ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي: سريع حساب لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفَكُّرٍ فِي ذَلِكَ كَمَا يَحْتَاجُهُ غَيْرُهُ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِإِنْذَارِ عِبَادِهِ فَقَالَ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِقُرْبِهَا، يُقَالُ أَزِفَ فُلَانٌ: أَيْ قَرُبَ، يَأْزَفُ أَزَفًا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمَّا تَزَلْ بِرِكَابِنَا وَكَأَنَّ قد ومنه قوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «2» أَيْ: قَرُبَتِ السَّاعَةُ، وَقِيلَ: إِنَّ يَوْمَ الْآزِفَةِ هُوَ يَوْمُ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقِيلَ: لَهَا آزِفَةٌ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ، وَإِنِ اسْتَبْعَدَ النَّاسُ أَمْرَهَا، وَمَا هُوَ كَائِنٌ فَهُوَ قَرِيبٌ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ وَذَلِكَ أَنَّهَا تَزُولُ عَنْ مَوَاضِعِهَا مِنَ الْخَوْفِ حَتَّى تَصِيرَ إِلَى الْحَنْجَرَةِ كَقَوْلِهِ: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «3» كاظِمِينَ مَغْمُومِينَ، مَكْرُوبِينَ، مُمْتَلِئِينَ غَمًّا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِذْ قُلُوبُ النَّاسِ لَدَى الْحَنَاجِرِ فِي حَالِ كَظْمِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: وَقَعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي الْحَنَاجِرِ مِنَ الْمَخَافَةِ، فَهِيَ لَا تَخْرُجُ وَلَا تَعُودُ فِي أَمْكِنَتِهَا. وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ نِهَايَةِ الْجَزَعِ، وَإِنَّمَا قَالَ كَاظِمِينَ بِاعْتِبَارِ أَهْلِ الْقُلُوبِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِذْ قُلُوبُ النَّاسِ لَدَى حَنَاجِرِهِمْ، فَيَكُونُ حَالًا مِنْهُمْ. وَقِيلَ: حَالًا مِنَ الْقُلُوبِ، وَجُمِعَ الْحَالُ مِنْهَا جَمْعَ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّهُ أُسْنِدَ إِلَيْهَا مَا يُسْنَدُ إِلَى الْعُقَلَاءِ، فَجُمِعَتْ جَمْعَهُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْكَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ فَقَالَ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أَيْ: قَرِيبٍ يَنْفَعُهُمْ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فِي شَفَاعَتِهِ لَهُمْ، وَمَحَلُّ يُطَاعُ الْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِشَفِيعٍ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ شُمُولَ عِلْمِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ فَقَالَ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَهِيَ مُسَارَقَةُ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ آخَرُ لِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ قَالَ الْمُؤَرِّجُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: يَعْلَمُ الْأَعْيُنَ الْخَائِنَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ: الْهَمْزُ بِالْعَيْنِ فِيمَا لَا يُحِبُّ اللَّهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ مَا رَأَيْتُ، وَقَدْ رَأَى، وَرَأَيْتُ وَمَا رَأَى. وَقَالَ سُفْيَانُ: هِيَ النَّظْرَةُ بَعْدَ النَّظْرَةِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ مِنَ الضَّمَائِرِ وَتُسِرُّهُ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ فَيُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ خَيْرٍ وشرّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ

_ (1) . الانفطار: 17- 19. (2) . النجم: 57. (3) . الأحزاب: 10.

أَيْ: تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَدْعُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ يَعْنِي: الظَّالِمِينَ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَشَيْبَةُ، وَهِشَامٌ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ خَافِيَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ قَالَ: هِيَ مِثْلُ الَّتِي في البقرة كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «1» كَانُوا أَمْوَاتًا فِي صُلْبِ آبَائِهِمْ ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ فَأَحْيَاهُمْ ثُمَّ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ يُحْيِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُنْتُمْ تُرَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكُمْ، فَهَذِهِ مِيتَةٌ، ثُمَّ أَحْيَاكُمْ فَخَلَقَكُمْ فَهَذِهِ حَيَاةٌ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فَتَرْجِعُونَ إِلَى الْقُبُورِ فَهَذِهِ مِيتَةٌ أُخْرَى، ثُمَّ يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة، فما مَوْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ كَقَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ التَّلاقِ قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَلْتَقِي فِيهِ آدَمُ وَآخِرُ وَلَدِهِ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ الْآزِفَةِ، وَنَحْوُ هَذَا مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَلْتَقِي فِيهِ آدَمُ وَآخِرُ وَلَدِهِ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ الْآزِفَةِ، وَنَحْوُ هَذَا مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَظَّمَهُ اللَّهُ وَحَذَّرَهُ عِبَادَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يُنَادِي مُنَادٍ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ، فَيَسْمَعُهَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، وَيَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْبَعْثِ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «يَجْمَعُ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَعِيدٍ وَاحِدٍ بِأَرْضٍ بَيْضَاءَ كَأَنَّهَا سَبِيكَةُ فِضَّةٍ لَمْ يُعْصَ اللَّهُ فِيهَا قَطُّ، فَأَوَّلُ مَا يَتَكَلَّمُ أَنْ يُنَادِيَ مُنَادٍ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فَأَوَّلُ مَا يُبْدَأُ بِهِ مِنَ الْخُصُومَاتِ الدِّمَاءُ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ قَالَ: الرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ فَتَمُرُّ بِهِمُ الْمَرْأَةُ فَيُرِيهِمْ أَنَّهُ يَغُضُّ بَصَرَهُ عَنْهَا، وَإِذَا غَفَلُوا لَحَظَ إِلَيْهَا، وَإِذَا نَظَرُوا غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا، وَقَدِ اطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ وَدَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَوْرَتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: إذا نظر إليها يريد الخيانة أو لَا وَما تُخْفِي الصُّدُورُ قَالَ: إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا أَيَزْنِي بِهَا أَمْ لَا؟ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالَّتِي تَلِيهَا وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْزِيَ بِالْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ، وَبِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، مِنْهُمْ عبد الله بن سعد ابن أَبِي سَرْحٍ، فَاخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى بيعته، ثم بايعه، ثم أقبل على أصحابه

_ (1) . البقرة: 28.

[سورة غافر (40) : الآيات 21 إلى 29]

فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إِلَى هَذَا حِينَ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟ فَقَالُوا: مَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يكون له خائنة الأعين» . [سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 29] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) لَمَّا خَوَّفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ تَخْوِيفِهِمْ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا فَقَالَ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ أَرْشَدَهُمْ سبحانه إلى الاعتبار بغيرهم، فإن الذين مَضَوْا مِنَ الْكُفَّارِ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْحَاضِرِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَقْوَى وَآثاراً فِي الْأَرْضِ بِمَا عَمَّرُوا فِيهَا مِنَ الْحُصُونِ وَالْقُصُورِ وَبِمَا لَهُمْ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، فَلَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ: فَيَنْظُرُوا إِمَّا مَجْزُومٌ بِالْعَطْفِ عَلَى يَسِيرُوا، أَوْ مَنْصُوبٌ بجواب الاستفهام، وقوله: كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً بَيَانٌ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ حَالِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ، وَقَوْلُهُ: وَآثاراً عَطْفٌ عَلَى قُوَّةً. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَشَدَّ مِنْهُمْ» وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «أَشَدَّ مِنْكُمْ» عَلَى الِالْتِفَاتِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أَيْ: بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أَيْ مِنْ دَافِعٍ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوَاضِعَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَخْذِ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ: بِالْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ فَكَفَرُوا بِمَا جَاءُوهُمْ بِهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ يَفْعَلُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ شَدِيدُ الْعِقابِ لِمَنْ عَصَاهُ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ قِصَّةَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ لِيَعْتَبِرُوا فَقَالَ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا هِيَ التِّسْعُ الْآيَاتُ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أَيْ: حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ وَاضِحَةٍ، وَهِيَ التَّوْرَاةُ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا إِنَّهُ ساحِرٌ كَذَّابٌ أَيْ: فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ رُؤَسَاءُ الْمُكَذِّبِينَ بِمُوسَى، فَفِرْعَوْنُ الْمَلِكُ، وَهَامَانُ الْوَزِيرُ، وَقَارُونُ صَاحِبُ الْأَمْوَالِ

وَالْكُنُوزِ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا وَهِيَ مُعْجِزَاتُهُ الظَّاهِرَةُ الْوَاضِحَةُ قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا قَتْلٌ غَيْرُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ كَانَ أَمْسَكَ عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ وَقْتَ وِلَادَةِ مُوسَى، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى أَعَادَ الْقَتْلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الذُّكُورِ، وَتَرْكِ النِّسَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ فِرْعَوْنَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ «1» وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أَيْ: فِي خُسْرَانٍ وَوَبَالٍ، لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بَاطِلًا، وَيَحِيقُ بِهِمْ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ فِي خَاصَّةِ قَوْمِهِ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِ مُوسَى مَخَافَةَ أَنْ يَنْزِلَ الْعَذَابُ، وَالْمَعْنَى: اتْرُكُونِي أَقْتُلْهُ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا فَلْيَمْنَعْهُ مِنَ الْقَتْلِ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ: لَا يَهُولَنَّكُمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا رَبَّ لَهُ حَقِيقَةً، بَلْ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى، ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عبادة غير الله ويدخلكم فِي دِينِهِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ أَيْ: يُوقِعَ بَيْنَ النَّاسِ الْخِلَافَ وَالْفِتْنَةَ، جَعَلَ اللَّعِينُ ظُهُورَ مَا دَعَا إِلَيْهِ مُوسَى، وَانْتِشَارَهُ فِي الْأَرْضِ، وَاهْتِدَاءَ النَّاسِ بِهِ فَسَادًا، وَلَيْسَ الْفَسَادُ إِلَّا مَا هُوَ عَلَيْهِ هُوَ وَمَنْ تَابَعَهُ. قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَيَعْقُوبُ «أَوْ أَنْ يُظْهِرَ» بِأَوِ الَّتِي لِلْإِبْهَامِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «وَأَنْ يُظْهِرَ» بِدُونِ أَلِفٍ عَلَى مَعْنَى وُقُوعِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ «إِنِّي أَخَافُ» وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ يُظْهِرَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ أَظْهَرَ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرُ مُوسَى، وَالْفَسَادُ نَصْبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ، وَرَفْعِ الْفَسَادِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ قَرَأَ أَبُو عمرو، وحمزة، والكسائي بِإِدْغَامِ الذَّالِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ، لَمَّا هَدَّدَهُ فِرْعَوْنُ بِالْقَتْلِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كُلِّ مُتَعَظِّمٍ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ غَيْرِ مُؤْمِنٍ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَيَدْخُلُ فِرْعَوْنُ فِي هَذَا الْعُمُومِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ: كَانَ قِبْطِيًّا، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ الَّذِي نَجَا مَعَ مُوسَى، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى «2» الْآيَةَ، وَقِيلَ: كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي الْآيَةِ، وَقَدْ تُمُحِّلَ لِذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمَنْ جَعَلَهُ إِسْرَائِيلِيًّا فَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ يُقَالُ كَتَمَهُ أَمْرَ كَذَا وَلَا يُقَالُ كَتَمَ مِنْهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «3» وَأَيْضًا مَا كَانَ فِرْعَوْنُ يَحْتَمِلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ، فَقِيلَ: حَبِيبٌ، وَقِيلَ: حِزْقِيلُ، وقيل: غير ذلك، قرأ الْجُمْهُورُ «رَجُلٌ» بِضَمِّ الْجِيمِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعَبْدُ الْوَارِثِ بِسُكُونِهَا، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَنَجْدٍ، وَالْأُولَى هِيَ الْفَصِيحَةُ، وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْجِيمِ «وَمُؤْمِنٌ» صِفَةٌ لرجل، «ومن آل فرعون» صفة أخرى، و «يكتم إِيمَانَهُ» صِفَةٌ ثَالِثَةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا للإنكار، وأَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِنَزْعِ

_ (1) . الأعراف: 127. (2) . القصص: 20. (3) . النساء: 42. [.....]

الْخَافِضِ، أَيْ: لِأَنْ يَقُولَ أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولَ، وَجُمْلَةُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَاتِ، وَالدَّلَالَاتِ الظَّاهِرَاتِ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ، ثُمَّ تَلَطَّفَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْهُ فَقَالَ: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ هَذَا لِشَكٍّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ، وَلَا يَشُكُّ الْمُؤْمِنُ، وَمَعْنَى يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُصِبْكُمْ كُلُّهُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُصِيبَكُمْ بَعْضُهُ، وَحُذِفَتِ النُّونُ مِنْ يَكُنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ: كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو الْهَيْثَمِ: بَعْضُ هُنَا بِمَعْنَى كُلٍّ: أَيْ يُصِبْكُمْ كلّ الذي يعدكم، وأنشد أبو عبيد عَلَى هَذَا قَوْلَ لَبِيدٍ: تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا أَيْ كُلَّ النُّفُوسِ، وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَعْضَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الْكُلِّ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ وَقَوْلِ الْآخَرِ: إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا الْأَحْدَاثُ دَبَّرَهَا ... دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلَا وَلَيْسَ فِي الْبَيْتَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا زَعَمُوهُ، وَأَمَّا بَيْتُ لَبِيدٍ فَقِيلَ إِنَّهُ أَرَادَ بِبَعْضِ النُّفُوسِ نَفْسَهُ، وَلَا ضَرُورَةَ تُلْجِئُ إِلَى حَمْلِ مَا فِي الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّنَزُّلَ مَعَهُمْ وَإِيهَامَهُمْ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: يَكْتُمُ إِيمانَهُ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَهَذَا عَلَى الْمُظَاهَرَةِ فِي الْحِجَاجِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: أَقَلُّ مَا يَكُونُ فِي صِدْقِهِ أَنْ يُصِيبَكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ هَلَاكُكُمْ، فَكَأَنَّ الْحَاصِلَ بِالْبَعْضِ هُوَ الْحَاصِلُ بِالْكُلِّ: وَقَالَ اللَّيْثُ: بَعْضُ هَاهُنَا صِلَةٌ يُرِيدُ يُصِبْكُمُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، وَقِيلَ: يُصِبْكُمْ هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي يَقُولُهُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ بَعْضُ مَا يَتَوَعَّدُكُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَعَدَهُمْ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَإِذَا كَفَرُوا أَصَابَهُمُ الْعِقَابُ، وَهُوَ بَعْضُ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ آخَرُ ذُو وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْرِفًا كَذَّابًا لَمَا هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى الْبَيِّنَاتِ وَلَا أَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ خَذَلَهُ اللَّهُ وَأَهْلَكَهُ، فَلَا حَاجَةَ لَكُمْ إِلَى قَتْلِهِ، وَالْمُسْرِفُ الْمُقِيمُ عَلَى الْمَعَاصِي الْمُسْتَكْثِرُ مِنْهَا، وَالْكَذَّابُ الْمُفْتَرِي يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ذَكَّرَهُمْ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لِيَشْكُرُوا اللَّهَ وَلَا يَتَمَادَوْا فِي كُفْرِهِمْ، وَمَعْنَى ظَاهِرِينَ: الظُّهُورُ عَلَى النَّاسِ وَالْغَلَبَةُ لَهُمْ وَالِاسْتِعْلَاءُ عَلَيْهِمْ، وَالْأَرْضُ أَرْضُ مِصْرَ، وَانْتِصَابُ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَالِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا أَيْ: مَنْ يَمْنَعُنَا مِنْ عَذَابِهِ وَيَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عِنْدَ مَجِيئِهِ، وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ مِنْهُ لَهُمْ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ بِهِمْ، وَإِنْزَالِ عَذَابِهِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ مَا قَالَهُ هَذَا الرَّجُلُ مِنَ النُّصْحِ الصَّحِيحِ جَاءَ بِمُرَاوَغَةٍ يُوهِمُ بِهَا قَوْمَهُ أَنَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالرِّعَايَةِ بِمَكَانٍ مَكِينٍ، وَأَنَّهُ لَا يَسْلُكُ بِهِمْ إِلَّا مَسْلَكًا يَكُونُ فِيهِ جَلْبُ النَّفْعِ لَهُمْ، وَدَفْعُ الضُّرِّ عَنْهُمْ، ولهذا قال:

[سورة غافر (40) : الآيات 30 إلى 40]

مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ مَا أُشِيرُ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِمَا أَرَى لِنَفْسِي. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا أُعْلِمُكُمْ إِلَّا مَا أَعْلَمُ، وَالرُّؤْيَةُ هُنَا هِيَ الْقَلْبِيَّةُ لَا الْبَصَرِيَّةُ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي: هُوَ إِلَّا مَا أَرَى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أَيْ: مَا أَهْدِيكُمْ بِهَذَا الرَّأْيِ إِلَّا طَرِيقَ الْحَقِّ. قَرَأَ الجمهور «الرشاد» بتخفيف الشين، وقرأ معاذ ابن جَبَلٍ بِتَشْدِيدِهَا عَلَى أَنَّهَا صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ كَضَرَّابٍ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هِيَ لَحْنٌ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ في آل فرعون مؤمن غير امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي أَنْذَرَ مُوسَى الَّذِي قَالَ: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ «1» قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، أُخْبِرْتُ أَنَّ اسْمَهُ حِزْقِيلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: اسْمُهُ حَبِيبٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ قَالَ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبِرْنَا بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ المشركون برسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبَيْهِ وَدَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَالْبَزَّارُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَخْبِرُونِي مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ؟ قَالُوا أَنْتَ. قَالَ: أَمَا أَنِّي مَا بَارَزْتُ أَحَدًا إِلَّا انْتَصَفْتُ مِنْهُ وَلَكِنْ أَخْبِرُونِي بِأَشْجَعِ النَّاسِ؟ قَالُوا لَا نَعْلَمُ فَمَنْ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذته قريش، فهذا يجؤه وَهَذَا يُتَلْتِلُهُ «2» ، وَهُمْ يَقُولُونَ أَنْتَ الَّذِي جَعَلْتَ الآلهة إلها واحدا، قال: فو الله مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ يَضْرِبُ هَذَا وَيَجِيءُ هَذَا وَيُتَلْتِلُ هَذَا، وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ ثُمَّ رَفَعَ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيْهِ، فَبَكَى حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ أَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ أَمْ أَبُو بَكْرٍ؟ فَسَكَتَ القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فو الله لَسَاعَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ مِثْلِ مؤمن آل فرعون، ذاك رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَهَذَا رَجُلٌ أَعْلَنَ إِيمَانَهُ. [سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 40] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)

_ (1) . القصص: 20. (2) . «يجؤه» : يضربه. و «يتلتله» : يحرّكه بعنف.

ثُمَّ كَرَّرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ تَذْكِيرَهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلْ بِمَنْ قَبْلَهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ حَاكِيًا عَنْهُ: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ أَيْ: مِثْلَ يَوْمِ عَذَابِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَأَفْرَدَ الْيَوْمَ لِأَنَّ جَمْعَ الْأَحْزَابِ قَدْ أَغْنَى عَنْ جَمْعِهِ، ثُمَّ فَسَّرَ الْأَحْزَابَ فَقَالَ: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ: مِثْلَ حَالِهِمْ فِي الْعَذَابِ، أَوْ مِثْلَ عَادَتِهِمْ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى التَّكْذِيبِ، أَوْ مِثْلَ جَزَاءِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أَيْ: لَا يُعَذِّبُهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَنَفْيُ الْإِرَادَةِ لِلظُّلْمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الظُّلْمِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ. ثُمَّ زَادَ فِي الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ فَقَالَ: وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «التَّنَادِ» بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَحَذْفِ الْيَاءِ، وَالْأَصْلُ التَّنَادِي، وَهُوَ التَّفَاعُلُ مِنَ النِّدَاءِ، يُقَالُ تَنَادَى الْقَوْمُ: أَيْ نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وقرأ الحسن، وابن السميقع، وَيَعْقُوبُ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَمُجَاهِدٌ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَعِكْرِمَةُ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ هُوَ لَحْنٌ، لِأَنَّهُ مِنْ نَدَّ يَنِدُّ: إِذَا مَرَّ عَلَى وَجْهِهِ هَارِبًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ، وَالْقِرَاءَةُ حَسَنَةٌ عَلَى مَعْنَى التَّنَافِي. قَالَ الضَّحَّاكُ: فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا بِزَفِيرِ جَهَنَّمَ نَدُّوا هَرَبًا، فَلَا يَأْتُونَ قُطْرًا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ إِلَّا وَجَدُوا صُفُوفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَوْمَ التَّنادِ وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ الْمَعْنَى: يَوْمَ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ يُنَادِي أَهْلُ النَّارِ أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ، أَوْ يُنَادَى فِيهِ بِسَعَادَةِ السُّعَدَاءِ، وَشَقَاوَةِ الْأَشْقِيَاءِ، أَوْ يَوْمَ يُنَادَى فِيهِ كُلُّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمِ التَّنَادِ، أَيْ: مُنْصَرِفِينَ عَنِ الْمَوْقِفِ إِلَى النَّارِ، أَوْ فَارِّينَ مِنْهَا. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى إِلَى النَّارِ بَعْدَ الْحِسَابِ، وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَا لَكُمْ مَنْ يَعْصِمُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَيَمْنَعُكُمْ مِنْهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ يَهْدِيهِ إِلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ. ثُمَّ زَادَ فِي وَعْظِهِمْ وَتَذْكِيرِهِمْ فَقَالَ: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ أَيْ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ جَاءَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَالْآيَاتِ الْوَاضِحَاتِ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ مُوسَى إِلَيْهِمْ، أَيْ: جَاءَ إِلَى آبَائِكُمْ، فَجَعَلَ الْمَجِيءَ إِلَى الْآبَاءِ مَجِيئًا إِلَى الْأَبْنَاءِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِيُوسُفَ هُنَا يُوسُفُ بْنُ إِفْرَاثِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَكَانَ أَقَامَ فِيهِمْ نَبِيًّا عِشْرِينَ سَنَةً. وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا مِنَ الْجِنِّ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ فِرْعَوْنَ مُوسَى أَدْرَكَ أَيَّامَ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ لِطُولِ عُمْرِهِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ يُوسُفُ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا فَكَفَرُوا بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَكَفَرُوا بِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الضَّلَالِ الْوَاضِحِ

يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ فِي مَعَاصِي اللَّهِ مُسْتَكْثِرٌ مِنْهَا مُرْتَابٌ فِي دِينِ اللَّهِ شَاكٌّ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بَدَلٌ مِنْ «مَنْ» . وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، أَوْ بَيَانٌ لَهَا، أَوْ صِفَةٌ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ، أو: مبتدأ، وخبره: يطبع، وبِغَيْرِ سُلْطانٍ متعلق بيجادلون، أَيْ: يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ واضحة، وأَتاهُمْ صِفَةٌ لِسُلْطَانٍ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّعَجُّبُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الذَّمُّ كَبِئْسَ، وَفَاعِلُ كَبُرَ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الْجِدَالِ الْمَفْهُومِ مِنْ يُجَادِلُونَ، وَقِيلَ: فَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مَنْ فِي «مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ» وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ متعلق بكبر، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا قِيلَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ، وَقِيلَ: ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ أَيْ: كَمَا طَبَعَ عَلَى قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ فَكَذَلِكَ يَطْبَعُ: أَيْ يَخْتِمُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ قَلْبٍ إِلَى مُتَكَبِّرٍ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَتَقْدِيرُهُ: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ، فَحُذِفَ كُلٌّ الثَّانِيَةُ لِدَلَالَةِ الْأُولَى عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ جَمِيعِ الْمُتَكَبِّرِينَ الْجَبَّارِينَ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِتَنْوِينِ قَلْبِ عَلَى أَنَّ مُتَكَبِّرٍ صِفَةٌ لَهُ، فَيَكُونُ الْقَلْبُ مُرَادًا بِهِ الْجُمْلَةُ، لِأَنَّ الْقَلْبَ هُوَ مَحَلُّ التَّكَبُّرِ، وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ. ثُمَّ لَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ هَذَا رَجَعَ إِلَى تَكَبُّرِهِ وَتَجَبُّرِهِ مُعْرِضًا عَنِ الْمَوْعِظَةِ نَافِرًا مِنْ قَبُولِهَا وَقَالَ: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً أَيْ: قَصْرًا مَشِيدًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ تَفْسِيرِهِ لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَيِ الطُّرُقَ. قَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَالْأَخْفَشُ: هِيَ الْأَبْوَابُ. وَقَوْلُهُ: أَسْبابَ السَّماواتِ بَيَانٌ لِلْأَسْبَابِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا أُبْهِمَ ثُمَّ فُسِّرَ كَانَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ، وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لِلْآيَةِ بَيْتَ زُهَيْرٍ: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وَقِيلَ: أَسْبَابَ السموات الْأُمُورُ الَّتِي يُسْتَمْسَكُ بِهَا فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى أَبْلُغُ، فَهُوَ عَلَى هَذَا دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ التَّرَجِّي. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَالسُّلَمِيُّ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَحَفْصٌ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: ابْنِ لِي أَوْ عَلَى جَوَابِ التَّرَجِّي كَمَا قَالَ أبو عبيد وَغَيْرُهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَعْنَى النَّصْبِ خِلَافُ مَعْنَى الرَّفْعِ، لِأَنَّ مَعْنَى النَّصْبِ: مَتَى بَلَغْتَ الْأَسْبَابَ اطَّلَعْتَ، وَمَعْنَى الرَّفْعِ: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، وَلَعَلِّي أَطَّلِعُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ بِمَكَانٍ مِنَ الْجَهْلِ عَظِيمٍ، وَبِمَنْزِلَةٍ مِنْ فَهْمِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ سَافِلَةٍ جِدًّا وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً أَيْ: وَإِنِّي لَأَظُنُّ مُوسَى كَاذِبًا فِي ادِّعَائِهِ بِأَنَّ لَهُ إِلَهًا، أَوْ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الرِّسَالَةِ وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّزْيِينِ زَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِفِرْعَوْنَ سُوءَ عَمَلِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ، فَتَمَادَى فِي الْغَيِّ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الطُّغْيَانِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ أَيْ: سَبِيلِ الرَّشَادِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَصَدَّ» بِفَتْحِ الصَّادِ وَالدَّالِ: أَيْ صَدَّ فِرْعَوْنُ الناس عن السبيل، وقرأ الكوفيون «وصدّ» بِضَمِّ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الِاخْتِيَارِ لَهَا مِنْهُمَا كَوْنُهَا مُطَابِقَةً لِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي زُيِّنَ مِنَ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَعَلْقَمَةُ «صِدَّ» بِكَسْرِ الصَّادِ،

وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّ الدَّالِ مُنَوَّنًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مَعْطُوفٌ عَلَى سُوءِ عَمَلِهِ: أَيْ: زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ سُوءَ الْعَمَلِ وَالصَّدِّ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ التَّبَابُ: الْخَسَارُ وَالْهَلَاكُ وَمِنْهُ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «1» ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ أَعَادَ التَّذْكِيرَ وَالتَّحْذِيرَ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ أَيِ: اقْتَدُوا بِي فِي الدِّينِ أَهْدِكُمْ طَرِيقَ الرَّشَادِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: هَذَا مِنْ قَوْلِ مُوسَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ «الرَّشَّادِ» بِتَشْدِيدِ الشِّينِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَوَقَعَ فِي الْمُصْحَفِ اتَّبِعُونِ بِدُونِ يَاءٍ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَنَافِعٌ بِحَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ، وَإِثْبَاتِهَا فِي الْوَصْلِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِإِثْبَاتِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا وَصْلًا، وَوَقْفًا فَمَنْ أَثْبَتَهَا فَعَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، وَمَنْ حَذَفَهَا فَلِكَوْنِهَا حُذِفَتْ في المصحف يَا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ يَتَمَتَّعُ بِهَا أَيَّامًا، ثُمَّ تَنْقَطِعُ وَتَزُولُ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ أَيِ: الِاسْتِقْرَارُ لِكَوْنِهَا دَائِمَةً لَا تَنْقَطِعُ وَمُسْتَمِرَّةً لَا تَزُولُ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها أَيْ: مَنْ عَمِلَ فِي دَارِ الدُّنْيَا مَعْصِيَةً مِنَ الْمَعَاصِي كَائِنَةً مَا كَانَتْ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَلَا يُعَذَّبُ إِلَّا بِقَدْرِهَا، وَالظَّاهِرُ شُمُولُ الْآيَةِ لِكُلِّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّيِّئَةِ، وَقِيلَ: هِيَ خَاصَّةٌ بِالشِّرْكِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي: من عمل صَالِحًا مَعَ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ، وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِيمَانِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ: بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَمُحَاسَبَةٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُعْطَوْنَ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ، وَقِيلَ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَدْخُلُونَ» بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ دَأْبِ قَالَ: مِثْلَ حَالِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ قَالَ: هُمُ الْأَحْزَابُ: قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ قَالَ: رُؤْيَا يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ قَالَ يَهُودٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا فِي تَبابٍ قَالَ: خُسْرَانٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ قَالَ: الدُّنْيَا جُمْعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَلَيْسَ مِنْ مَتَاعِهَا شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ، الَّتِي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حفظتك في نفسها ومالك» .

_ (1) . المسد: 1.

[سورة غافر (40) : الآيات 41 إلى 52]

[سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 52] وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) كَرَّرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ دُعَاءَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَصَرَّحَ بِإِيمَانِهِ، وَلَمْ يَسْلُكِ الْمَسَالِكَ الْمُتَقَدِّمَةَ مِنْ إِيهَامِهِ لَهُمْ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ إنما تصدّى للتذكير كَرَاهَةَ أَنْ يُصِيبَهُمْ بَعْضُ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مُوسَى، كَمَا يَقُولُهُ الرَّجُلُ الْمُحِبُّ لِقَوْمِهِ مِنَ التَّحْذِيرِ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا يَخَافُ عَلَيْهِمُ الْوُقُوعَ فِيهِ فَقَالَ: وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ أَيْ: أَخْبِرُونِي عَنْكُمْ كَيْفَ هَذِهِ الْحَالُ: أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَإِجَابَةِ رُسُلِهِ، وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ بِمَا تُرِيدُونَهُ مِنِّي مِنَ الشِّرْكِ. قِيلَ: مَعْنَى مَا لِي أَدْعُوكُمْ ما لكم أدعوكم كما تقول: مالي أراك حزينا أي مالك. ثُمَّ فَسَّرَ الدَّعْوَتَيْنِ فَقَالَ: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، فَقَوْلُهُ تَدْعُونَنِي بَدَلٌ مِنْ تَدْعُونَنِي الْأُولَى أَوْ بيان لها مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أَيْ مَا لَا عِلْمَ لِي بِكَوْنِهِ شَرِيكًا لِلَّهِ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ أَيْ: إِلَى الْعَزِيزِ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ «الْغَفَّارِ» لِذَنْبِ مَنْ آمَنَ بِهِ لَا جَرَمَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ هُودٍ، وَجَرَمَ فِعْلٌ مَاضٍ بِمَعْنَى حَقَّ، وَلَا الدَّاخِلَةُ عَلَيْهِ لِنَفْيِ مَا ادَّعَوْهُ وَرَدِّ مَا زَعَمُوهُ، وَفَاعِلُ هَذَا الْفِعْلِ هُوَ قَوْلُهُ: أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ أَيْ: حَقَّ وَوَجَبَ بُطْلَانُ دَعْوَتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِجَابَةُ دَعْوَةٍ تَنْفَعُ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ تُوجِبُ لَهُ الْأُلُوهِيَّةَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَيْسَ لَهُ شَفَاعَةٌ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أَيْ: مَرْجِعَنَا ومصيرنا إلى بِالْمَوْتِ أَوَّلًا، وَبِالْبَعْثِ آخِرًا، فَيُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ أَيِ: الْمُسْتَكْثِرِينَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ سِيرِينَ: يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ: هُمُ السُّفَهَاءُ السَّفَّاكُونَ لِلدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْجَبَّارُونَ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ. وَقِيلَ: هم الذين تعدّوا حدود الله، «وأن» فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَطْفٌ عَلَى «أَنَّ» فِي قَوْلِهِ:

أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَالْمَعْنَى: وَحَقٌّ أَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ، وَحَقٌّ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ إِلَخْ فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ إذا نزل بكم الْعَذَابُ وَتَعْلَمُونَ أَنِّي قَدْ بَالَغْتُ فِي نُصْحِكُمْ وَتَذْكِيرِكُمْ، وَفِي هَذَا الْإِبْهَامِ مِنَ التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ مَا لَا يَخْفَى وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أَيْ: أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَأُسَلِّمُ أَمْرِي إِلَيْهِ. قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ هَذَا لَمَّا أَرَادُوا الْإِيقَاعَ بِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: هَرَبَ هَذَا الْمُؤْمِنُ إِلَى الْجَبَلِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْقَائِلُ هُوَ مُوسَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا أَيْ: وَقَاهُ اللَّهُ مَا أَرَادُوا بِهِ مِنَ المكر السيئ، وما أرادوه بِهِ مِنَ الشَّرِّ. قَالَ قَتَادَةُ: نَجَّاهُ اللَّهُ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ، وَنَزَلَ عَلَيْهِمْ سُوءُ الْعَذَابِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ حَاقَ يَحِيقُ حَيْقًا وَحُيُوقًا: إِذَا نَزَلَ وَلَزِمَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: غَرِقُوا فِي الْبَحْرِ وَدَخَلُوا النَّارَ، وَالْمُرَادُ بِآلِ فِرْعَوْنَ: فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَتَرَكَ التَّصْرِيحَ بِهِ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِذِكْرِهِمْ عَنْ ذِكْرِهِ لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِآلِ فِرْعَوْنَ فِرْعَوْنُ نَفْسُهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُمْ قَدْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا جَمِيعًا بِالْغَرَقِ، وَسَيُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا أَجْمَلَهُ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ، فَقَالَ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا فَارْتِفَاعُ النَّارِ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ، وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: يُعْرَضُونَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً جَوَابَ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ. وقريء بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ يُعْرَضُونَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَيْ: يَصِلُونَ النَّارَ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا، أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الْخَفْضَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْعَذَابِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَذَا الْعَرْضَ هُوَ فِي الْبَرْزَخِ، وَقِيلَ: هُوَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَلَا مُلْجِئَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَرْضَ هُوَ فِي الْبَرْزَخِ، وَقَوْلُهُ: أَدْخِلُوا هُوَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أي يقال للملائكة أدخلوا آل فرعون، وأَشَدَّ الْعَذابِ هُوَ عَذَابُ النَّارِ. قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَنَافِعٌ، وَحَفْصٌ «أَدْخِلُوا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْخَاءِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ كَمَا ذُكِرَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «ادْخُلُوا» بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مِنْ دَخَلَ يَدْخُلُ أَمْرًا لِآلِ فِرْعَوْنَ بِالدُّخُولِ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ النِّدَاءِ، أَيِ: ادْخُلُوا يَا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ. وَالْمَعْنَى: اذْكُرْ لِقَوْمِكَ وَقْتَ تَخَاصُمِهِمْ فِي النَّارِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَذَا التَّخَاصُمَ فَقَالَ: فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُمْ، وَهُمْ رُؤَسَاءُ الْكُفْرِ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً جَمْعٌ لِتَابِعٍ، كَخَدَمٍ وَخَادِمٍ، أَوْ مَصْدَرٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ: تَابِعِينَ أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَوِي تَبَعٍ. قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: التَّبَعُ يَكُونُ وَاحِدًا وَيَكُونُ جَمْعًا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ أَيْ: هَلْ تَدْفَعُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنْهَا، أَوْ تِحْمِلُونَهُ مَعَنَا، وَانْتِصَابُ نَصِيبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مُغْنُونَ: أَيْ: هَلْ تَدْفَعُونَ عَنَّا نَصِيبًا أَوْ تَمْنَعُونَ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى حَامِلِينَ، أَيْ: هَلْ أَنْتُمْ حَامِلُونَ مَعَنَا نَصِيبًا، أَوْ عَلَى المصدرية هَلْ تَدْفَعُونَ عَنَّا نَصِيبًا أَوْ تَمْنَعُونَ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى حَامِلِينَ، أَيْ: هَلْ أَنْتُمْ حَامِلُونَ مَعَنَا نَصِيبًا، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَالْمَعْنَى: إِنَّا نَحْنُ وَأَنْتُمْ جَمِيعًا فِي جَهَنَّمَ، فَكَيْفَ نُغْنِي عَنْكُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «كُلٌّ» ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ «فِيهَا» ، والجملة خبر

إن، قاله الأخفش. وقرأ ابن السميقع وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «كُلًّا» بِالنَّصْبِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ عَلَى التَّأْكِيدِ لِاسْمِ إِنَّ بِمَعْنَى كُلِّنَا، وَتَنْوِينُهُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ مَالِكٍ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أَيْ: قَضَى بَيْنَهُمْ بِأَنَّ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقًا فِي السَّعِيرِ وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ، مُسْتَكْبِرِهِمْ وَضَعِيفِهِمْ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ جَمْعُ خَازِنٍ، وَهُوَ الْقَوَّامُ بِتَعْذِيبِ أَهْلِ النَّارِ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ يوما ظرف ليخفف، وَمَفْعُولُ يُخَفِّفْ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يُخَفِّفْ عَنَّا شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ مِقْدَارَ يَوْمٍ أَوْ فِي يَوْمٍ، وجملة قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ قالُوا بَلى أَيْ: أَتَوْنَا بِهَا فَكَذَّبْنَاهُمْ وَلَمْ نُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَا بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ، فَلَمَّا اعْتَرَفُوا قالُوا أَيْ: قَالَ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ فَادْعُوا أَيْ: إِذَا كَانَ الأمر كذلك فادعوا أنتم، فإنا لا ندعو لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ بَعْدَ مَجِيئِهِمْ بِالْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ. ثُمَّ أَخْبَرُوهُمْ بِأَنَّ دُعَاءَهُمْ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فَقَالُوا: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أَيْ: فِي ضَيَاعٍ وَبُطْلَانٍ وَخَسَارٍ وَتَبَارٍ، وَجُمْلَةُ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ جِهَتِهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: نَجْعَلُهُمُ الْغَالِبِينَ لِأَعْدَائِهِمُ الْقَاهِرِينَ لَهُمْ، وَالْمَوْصُولُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى رُسُلِنَا، أَيْ: لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا، وَنَنْصُرُ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بِمَا عَوَّدَهُمُ اللَّهُ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ، وَالسَّلْبِ، وَالْأَسْرِ، وَالْقَهْرِ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْأَشْهَادُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: الْأَشْهَادُ الْمَلَائِكَةُ تَشْهَدُ لِلْأَنْبِيَاءِ بِالْإِبْلَاغِ، وَعَلَى الْأُمَمِ بِالتَّكْذِيبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَشْهَادُ جَمْعُ شَاهِدٍ مِثْلُ صَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ بَابُ فَاعِلٍ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى أَفْعَالٍ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ مَا جَاءَ مِنْهُ مَسْمُوعًا أُدِّيَ عَلَى مَا يُسْمَعُ، فَهُوَ عَلَى هَذَا جَمْعُ شَهِيدٍ، مِثْلُ شَرِيفٍ وَأَشْرَافٌ، وَمَعْنَى نَصْرِهِمْ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ: أَنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَيُكْرِمُهُمْ بِكَرَامَاتِهِ، وَيُجَازِي الْكُفَّارَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيَلْعَنُهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أَيِ: الْبُعْدُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أَيِ: النَّارُ وَيَوْمَ بَدَلٌ مِنْ يوم يقول الْأَشْهَادُ، وَإِنَّمَا لَمْ تَنْفَعْهُمُ الْمَعْذِرَةُ لِأَنَّهَا مَعْذِرَةٌ بَاطِلَةٌ، وَتَعِلَّةٌ دَاحِضَةٌ وَشُبْهَةٌ زَائِغَةٌ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَنْفَعُ» بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكُوفِيُّونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَالْكُلُّ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ قَالَ: السَّفَّاكِينَ لِلدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ لَهُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» زَادَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ. ثُمَّ قَرَأَ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَحْسَنَ مُحْسِنٌ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ إِلَّا أَثَابَهُ اللَّهُ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا إِثَابَةُ الْكَافِرِ؟ قَالَ: الْمَالُ وَالْوَلَدُ وَالصِّحَّةُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، قُلْنَا: وَمَا إِثَابَتُهُ فِي الآخرة؟

[سورة غافر (40) : الآيات 53 إلى 65]

قَالَ: عَذَابًا دُونَ الْعَذَابِ، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَلَا إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مثله. [سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 65] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَرِيبًا مِنْ نَصْرِهِ لِرُسُلِهِ: أَيْ: آتَيْنَاهُ التَّوْرَاةَ والنبوّة، كما في قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «1» قَالَ مُقَاتِلٌ: الْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ: يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ، وَمَعْنَى أَوْرَثْنَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى بَقِيَتْ بَعْدَهُ فِيهِمْ وَتَوَارَثُوهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ سَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى، وُهُدًى وَذِكْرَى: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ: لِأَجْلِ الْهُدَى وَالذِّكْرِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: هَادِيًا وَمُذَكِّرًا، وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْأَلْبَابِ: أَهْلُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى فَقَالَ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيِ: اصْبِرْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا صَبَرَ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ رُسُلَهُ حَقٌّ لَا خُلْفَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا «2» وقوله:

_ (1) . المائدة: 44. (2) . غافر: 51.

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «1» قَالَ الْكَلْبِيُّ: نُسِخَ هَذَا بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهِ فَقَالَ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ قِيلَ: الْمُرَادُ ذَنْبُ أُمَّتِكَ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الصَّغَائِرُ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ مُجَرَّدُ تَعَبُّدٍ لَهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أَيْ: دُمْ على تنزيه الله متلبسا بِحَمْدِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ صَلِّ فِي الْوَقْتَيْنِ: صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَاةَ الْفَجْرِ. قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقِيلَ: هُمَا صَلَاتَانِ: رَكْعَتَانِ غُدْوَةً، وَرَكْعَتَانِ عَشِيَّةً، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ أَيْ: بِغَيْرِ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ وَاضِحَةٍ جَاءَتْهُمْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ أي: ما في قلوبهم إلا تكبر عَنِ الْحَقِّ يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ، وَجُمْلَةُ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ صفة لكبر قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى مَا فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِي إِرَادَتِهِمْ فِيهِ، فَجَعَلَهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا هُمْ بِبَالِغِي الْكِبْرَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَعْنَى إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ، أَيْ: تَكَبُّرٌ عَلَى محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَطَمَعٌ أَنْ يَغْلِبُوهُ وَمَا هُمْ بِبَالِغِي ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِبْرِ الْأَمْرُ الْكَبِيرُ، أَيْ: يَطْلُبُونَ النُّبُوَّةَ، أَوْ يَطْلُبُونَ أَمْرًا كَبِيرًا يَصِلُونَ بِهِ إِلَيْكَ مِنَ الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَبْلُغُونَ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ فِي صُدُورِهِمْ عَظَمَةٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهَا. وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُشْرِكُونَ، وَقِيلَ: الْيَهُودُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ آخِرَ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِهِمْ فَقَالَ: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَيْ: فَالْتَجِئْ إِلَيْهِ مِنْ شَرِّهِمْ، وَكَيْدِهِمْ، وَبَغْيِهِمْ عَلَيْكَ إِنَّهُ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِهِمُ الْبَصِيرُ بِأَفْعَالِهِمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عَظِيمَ قُدْرَتِهِ فَقَالَ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ أَيْ: أَعْظَمُ فِي النُّفُوسِ وَأَجَلُّ فِي الصُّدُورِ، لِعِظَمِ أَجْرَامِهِمَا، وَاسْتِقْرَارِهِمَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ، وَجَرَيَانِ الْأَفْلَاكِ بِالْكَوَاكِبِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ مَا هُوَ دُونَهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ «2» قال أبو العالية: المعنى لخلق السموات وَالْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الدَّجَّالِ حِينَ عَظَّمَتْهُ الْيَهُودُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: هُوَ احْتِجَاجٌ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، أَيْ: هُمَا أَكْبَرُ مِنْ إِعَادَةِ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْجِدَالَ بِالْبَاطِلِ ذَكَرَ مِثَالًا لِلْبَاطِلِ وَالْحَقِّ وَأَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَيِ: الَّذِي يُجَادِلُ بِالْبَاطِلِ، وَالَّذِي يُجَادِلُ بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ أَيْ: وَلَا يَسْتَوِي الْمُحْسِنُ بِالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْمُسِيءُ بِالْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي، وَزِيَادَةُ «لَا» فِي وَلَا الْمُسِيءُ لِلتَّأْكِيدِ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ قرأ الجمهور «يتذكرون» بالتحية عَلَى الْغَيْبَةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، لِأَنَّ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا عَلَى الْغَيْبَةِ لَا عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ بِطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، أَيْ: تَذَكُّرًا قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها أَيْ: لَا شَكَّ فِي مَجِيئِهَا، وَحُصُولِهَا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وَلَا يُصَدِّقُونَهُ لِقُصُورِ أَفْهَامِهِمْ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ عَنْ إدراك

_ (1) . الصافات: 171- 173. (2) . يس: 81.

الْحُجَّةِ، وَالْمُرَادُ بِأَكْثَرِ النَّاسِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ، أَرْشَدَ عِبَادَهُ إِلَى مَا هُوَ الْوَسِيلَةُ إِلَى السَّعَادَةِ فِي دَارِ الْخُلُودِ، فَأَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكِيَ عَنْهُ مَا أَمَرَهُ بِإِبْلَاغِهِ وَهُوَ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ الْمَعْنَى: وَحِّدُونِي وَاعْبُدُونِي أَتَقَبَّلْ عِبَادَتَكُمْ وَأَغْفِرْ لَكُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ: السُّؤَالُ بِجَلْبِ النَّفْعِ، وَدَفْعِ الضُّرِّ. قِيلَ: الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِي أَكْثَرِ اسْتِعْمَالَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ هُوَ الْعِبَادَةُ. قُلْتُ: بَلِ الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ مَعْنَى الدُّعَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا: هُوَ الطَّلَبُ، فَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مَجَازٌ، عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ فِي نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ هُوَ عِبَادَةٌ، بَلْ مُخُّ الْعِبَادَةِ كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ بِدُعَائِهِ وَوَعَدَهُمْ بِالْإِجَابَةِ وَوَعْدُهُ الْحَقُّ، وَمَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيْهِ، وَلَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الطَّلَبُ هُوَ مِنْ عِبَادَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أَيْ: ذَلِيلِينَ صَاغِرِينَ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْ دُعَاءِ اللَّهِ، وَفِيهِ لُطْفٌ بِعِبَادِهِ عَظِيمٌ وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِمْ جَلِيلٌ حَيْثُ تَوَعَّدَ مَنْ تَرَكَ طَلَبَ الْخَيْرِ مِنْهُ، وَاسْتِدْفَاعَ الشَّرِّ بِهِ بِهَذَا الْوَعِيدِ الْبَالِغِ، وَعَاقَبَهُ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْعَظِيمَةِ. فَيَا عِبَادَ اللَّهِ وَجِّهُوا رَغَبَاتِكُمْ وَعَوِّلُوا فِي كُلِّ طَلَبَاتِكُمْ عَلَى مَنْ أَمَرَكُمْ بِتَوْجِيهِهَا إِلَيْهِ، وَأَرْشَدَكُمْ إِلَى التَّعْوِيلِ عَلَيْهِ، وَكَفَلَ لَكُمُ الْإِجَابَةَ بِهِ بِإِعْطَاءِ الطِّلْبَةِ، فَهُوَ الْكَرِيمُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَاهُ، وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَمُلْكِهِ الْوَاسِعِ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، قِيلَ: وَهَذَا الْوَعْدُ بِالْإِجَابَةِ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ أَيْ: أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنْ شِئْتُ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ «1» اللَّهُ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «سَيَدْخُلُونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَوَرْشٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ مِنَ الْحَرَكَاتِ فِي طَلَبِ الْكَسْبِ لِكَوْنِهِ جَعَلَهُ مُظْلِمًا بَارِدًا تُنَاسِبُهُ الرَّاحَةُ بِالسُّكُونِ وَالنَّوْمِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي: مضيئا لتبصروا في حَوَائِجَكُمْ وَتَتَصَرَّفُوا فِي طَلَبِ مَعَايِشِكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ النِّعَمَ، وَلَا يَعْتَرِفُونَ بِهَا، إِمَّا لِجُحُودِهِمْ لَهَا، وَكُفْرِهِمْ بِهَا كَمَا هُوَ شَأْنُ الْكُفَّارِ، أَوْ لِإِغْفَالِهِمْ لِلنَّظَرِ، وَإِهْمَالِهِمْ لِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَهُمُ الْجَاهِلُونَ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا كَمَالَ قُدْرَتِهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ تَوْحِيدِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ خَالِقُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَصْبِهِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَيْ: فَكَيْفَ تَنْقَلِبُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَتَنْصَرِفُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أَيْ: مِثْلُ الْإِفْكِ يُؤْفَكُ الْجَاحِدُونَ لِآيَاتِ اللَّهِ الْمُنْكِرُونَ لِتَوْحِيدِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً أَيْ: مَوْضِعَ قَرَارٍ فِيهَا تَحْيَوْنَ، وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَالسَّماءَ بِناءً : أَيْ سَقْفًا قَائِمًا ثَابِتًا. ثُمَّ بَيَّنَ بَعْضَ نِعَمِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَنْفُسِ الْعِبَادِ فَقَالَ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أَيْ: خَلَقَكُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: خَلَقَكُمْ أَحْسَنَ الحيوان كله. قرأ الجمهور

_ (1) . الأنعام: 41.

«صَوَّرَكُمْ» بِضَمِّ الصَّادِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو رَزِينٍ بِكَسْرِهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالصِّوَرُ بِكَسْرِ الصَّادِ لُغَةٌ فِي الصُّوَرِ بِضَمِّهَا وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَيِ: الْمُسْتَلَذَّاتِ ذلِكُمُ الْمَبْعُوثُ بِهَذِهِ النُّعُوتِ الْجَلِيلَةِ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أَيْ: كَثْرَةُ خَيْرِهِ وَبَرَكَتِهِ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيِ: الْبَاقِي الَّذِي لَا يَفْنَى الْمُنْفَرِدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أَيِ: الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ الْفَرَّاءُ: هو خبر وفيه إضمار أمره، أَيِ: احْمَدُوهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الدَّجَّالَ يَكُونُ مِنَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَيَكُونُ فِي أَمْرِهِ فَعَظِّمُوا أَمْرَهُ، وَقَالُوا: نَصْنَعُ كَذَا وَنَصْنَعُ كَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ قَالَ: لَا يَبْلُغُ الَّذِي يَقُولُ: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ الدَّجَّالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ نَزَلَتْ فِيهِمْ فِيمَا يَنْتَظِرُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدَّجَّالِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ قَالَ: عَظَمَةُ قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي قَالَ: عَنْ دُعَائِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قَالَ: وَحِّدُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْآيَةِ قَالَ: اعْبُدُونِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّعَاءُ الِاسْتِغْفَارُ» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَفْضَلُ العبادة الدعاء، قرأ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَيُّ الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: دُعَاءُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَلْيَقُلْ عَلَى أَثَرِهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

[سورة غافر (40) : الآيات 66 إلى 85]

[سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 85] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ نَهَاهُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَأَمَرَهُ بِالتَّوْحِيدِ فَقَالَ: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهِيَ: الْأَصْنَامُ. ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ النَّهْيِ فَقَالَ: لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وهي للأدلة العقيلة وَالنَّقْلِيَّةُ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ التَّوْحِيدَ وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ: أَسْتَسْلِمَ لَهُ بِالِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ. ثُمَّ أَرْدَفَ هَذَا بِذِكْرِ دَلِيلٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أَيْ: خَلَقَ أَبَاكُمُ الْأَوَّلَ، وَهُوَ آدَمُ، وَخَلْقُهُ مِنْ تُرَابٍ يَسْتَلْزِمُ خَلْقَ ذُرِّيَّتِهِ مِنْهُ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أَيْ: أَطْفَالًا، وَأَفْرَدَهُ لِكَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ، أَوْ عَلَى مَعْنَى يُخْرِجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيهَا الْقُوَّةُ وَالْعَقْلُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْأَشُدِّ مُسْتَوْفًى فِي الْأَنْعَامِ، وَاللَّامُ التَّعْلِيلِيَّةُ فِي: لِتَبْلُغُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى عِلَّةٍ أُخْرَى،

لِيُخْرِجَكُمْ مُنَاسِبَةٌ لَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: لِتَكْبُرُوا شَيْئًا فَشَيْئًا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا غَايَةَ الْكَمَالِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً مَعْطُوفٌ عَلَى لِتَبْلُغُوا، قَرَأَ نَافِعٌ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَهِشَامٌ «شُيُوخًا» بِضَمِّ الشين، وقرأ الباقون بكسرها، وقريء وشيخا عَلَى الْإِفْرَادِ لِقَوْلِهِ طِفْلًا، وَالشَّيْخُ مَنْ جَاوَزَ أربعين سَنَةً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ الشَّيْخُوخَةِ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أَيْ: وَقْتَ الْمَوْتِ أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّامُ هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ: لِكَيْ تَعْقِلُوا تَوْحِيدَ رَبِّكُمْ وَقُدْرَتَهُ الْبَالِغَةَ فِي خَلْقِكُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَطْوَارِ الْمُخْتَلِفَةِ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أَيْ: يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَإِذا قَضى أَمْراً مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُرِيدُهَا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ فِي الْمَقْدُورَاتِ عِنْدَ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ فِي الْبَقَرَةِ وَفِيمَا بَعْدَهَا. ثُمَّ عَجِبَ سُبْحَانَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَعْنَى الْمُجَادَلَةِ أَنَّى يُصْرَفُونَ أَيْ: كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْهَا مَعَ قِيَامِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّتِهَا، وَأَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا مُوجِبَةٌ لِلتَّوْحِيدِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ نَزَلَتْ فِي الْقَدَرِيَّةِ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْقَدَرِيَّةِ فَلَا أَدْرِي فِيمَنْ نَزَلَتْ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ وَصَفَ هَؤُلَاءِ بِصِفَةٍ تَدُلُّ عَلَى غَيْرِ مَا قَالُوهُ، فَقَالَ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أَيْ: بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا وَصْفٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْ فِرَقِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَوْصُولُ إِمَّا فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الذَّمِّ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: إِمَّا الْقُرْآنُ، أَوْ: جِنْسُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِالْكِتَابِ، وَيُرَادُ بِهِ مَا يُوحَى إِلَى الرُّسُلِ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ إِنْ كَانَتِ اللَّامُ فِي الْكِتَابِ لِلْجِنْسِ، أَوْ سَائِرِ الْكُتُبِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ، وَوَبَالَ كُفْرِهِمْ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ متعلق بيعلمون، أَيْ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَقْتَ كَوْنِ الْأَغْلَالِ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَغْلَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذِ الْأَغْلَالُ وَالسَّلَاسِلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ السَّلَاسِلُ: عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ فِي أَعْنَاقِهِمْ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ: يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ بِحَذْفِ الْعَائِدِ، أَيْ: يُسْحَبُونَ بِهَا فِي الْحَمِيمِ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِرَفْعِ السَّلَاسِلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وعكرمة، وأبو الجوزاء بنصبها، وقرءوا «يَسْحَبُونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَتَكُونُ السَّلَاسِلُ مَفْعُولًا مُقَدَّمًا، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بِجَرِّ السَّلَاسِلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى، إِذِ الْمَعْنَى: أَعْنَاقُهُمْ فِي الْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَفِي السَّلَاسِلِ يُسْحَبُونَ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَمَحَلُّ يُسْحَبُونَ عَلَى تَقْدِيرِ عَطْفِ السَّلَاسِلِ عَلَى الْأَغْلَالِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا: مُبْتَدَأً، وَخَبَرُهَا: فِي أَعْنَاقِهِمُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَوْ لَا مَحَلَّ لَهُ، بَلْ هُوَ مُسْتَأْنَفٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالْحَمِيمُ: هُوَ الْمُتَنَاهِي فِي الْحَرِّ، وَقِيلَ: الصَّدِيدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يُقَالُ سَجَرْتُ التَّنُّورَ: أَيْ أَوْقَدْتُهُ، وَسَجَّرْتُهُ: مَلَأْتُهُ بِالْوَقُودِ، وَمِنْهُ

وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ «1» أَيِ: الْمَمْلُوءِ، فَالْمَعْنَى تُوقَدُ بِهِمُ النَّارُ، أَوْ تُمْلَأُ بِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: توقد بهم النار فصاروا وقودها ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَذَا تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ لَهُمْ، أَيْ: أَيْنَ الشُّرَكَاءُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أَيْ: ذَهَبُوا، وَفَقَدْنَاهُمْ فَلَا نَرَاهُمْ، ثُمَّ أَضْرَبُوا عَنْ ذَلِكَ، وَانْتَقَلُوا إِلَى الْإِخْبَارِ بِعَدَمِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لهم فقالوا: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أَيْ: لَمْ نَكُنْ نَعْبُدُ شَيْئًا، قَالُوا هَذَا لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَا لَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ، وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَيْسَ هَذَا إِنْكَارًا مِنْهُمْ لِوُجُودِ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، بَلِ اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ إِيَّاهَا كَانَتْ بَاطِلَةً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الضَّلَالِ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ حَيْثُ عَبَدُوا هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي أَوْصَلَتْهُمْ إِلَى النَّارِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى الْإِضْلَالِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ: أَيْ ذَلِكَ الْإِضْلَالُ بِسَبَبِ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ أَيْ: بِمَا كُنْتُمْ تُظْهِرُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَرَحِ بِمَعَاصِي اللَّهِ، وَالسُّرُورِ بِمُخَالَفَةِ رُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَقِيلَ: بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ بِهِ مِنَ الْمَالِ وَالْأَتْبَاعِ وَالصِّحَّةِ، وَقِيلَ: بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ بِهِ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَرَحِ هُنَا: الْبَطَرُ وَالتَّكَبُّرُ، وَبِالْمَرَحِ: الزِّيَادَةُ فِي الْبَطَرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: تَمْرَحُونَ: أَيْ تَبْطَرُونَ وَتَأْشَرُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفَرَحُ السُّرُورُ، وَالْمَرَحُ: الْعُدْوَانُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ. الْمَرَحُ: الْبَطَرُ وَالْخُيَلَاءُ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ حَالَ كَوْنِكُمْ خالِدِينَ فِيها أَيْ: مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ جَهَنَّمُ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ، فَقَالَ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ: وَعْدَهُ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، إِمَّا فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَالْقَهْرِ، وما فِي «فَإِمَّا» زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ، والأصل فإن نرك، ولحقت بالفعل دون التَّأْكِيدِ وَقَوْلُهُ: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ مَعْطُوفٌ عَلَى نُرِيَنَّكَ، أَيْ: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ إِنْزَالِ الْعَذَابِ بِهِمْ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنُعَذِّبُهُمْ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أَيْ: أَنْبَأْنَاكَ بِأَخْبَارِهِمْ وَمَا لَقُوهُ مِنْ قَوْمِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ خَبَرَهُ وَلَا أَوْصَلْنَا إِلَيْكَ عِلْمَ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ: الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أَيْ: إِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ لِعَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ قُضِيَ بِالْحَقِّ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَيُنَجِّي اللَّهُ بِقَضَائِهِ الْحَقِّ عِبَادَهُ الْمُحِقِّينَ وَخَسِرَ هُنالِكَ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُبْطِلُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْبَاطِلَ، وَيَعْمَلُونَ بِهِ. ثُمَّ امْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ أَيْ: خَلَقَهَا لِأَجْلِكُمْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَنْعَامُ هَاهُنَا: الْإِبِلُ، وَقِيلَ: الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ لِتَرْكَبُوا مِنْها مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَمَعْنَاهَا ابْتِدَاءُ الرُّكُوبِ، وَابْتِدَاءُ الْأَكْلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: لِتَرْكَبُوا بَعْضَهَا وَتَأْكُلُوا بَعْضَهَا وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ أَخَّرَ غَيْرَ الرُّكُوبِ وَالْأَكْلَ مِنَ الْوَبَرِ، وَالصُّوفِ، وَالشَّعْرِ، وَالزُّبْدِ، وَالسَّمْنِ، وَالْجُبْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَقَتَادَةُ: تَحْمِلُ أثقالكم من بلد إلى بلد،

_ (1) . الطور: 6.

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أَيْ: عَلَى الْإِبِلِ فِي الْبَرِّ، وَعَلَى السُّفُنِ فِي الْبَحْرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْأَنْعَامِ هُنَا حَمْلُ الولدان، والنساء بالهوادج يُرِيكُمْ آياتِهِ أَيْ: دَلَالَاتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ ووحدانيته أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ فَإِنَّهَا كُلَّهَا مِنَ الظُّهُورِ، وَعَدَمِ الْخَفَاءِ بِحَيْثُ لَا يُنْكِرُهَا مُنْكِرٌ، وَلَا يَجْحَدُهَا جَاحِدٌ، وَفِيهِ تَقْرِيعٌ لَهُمْ، وَتَوْبِيخٌ عَظِيمٌ، ونصب أي بتنكرون، وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَى الْعَامِلِ فِيهِ لِأَنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلَامِ. ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ سُبْحَانَهُ إِلَى الِاعْتِبَارِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ فَقَالَ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي عَصَتِ اللَّهَ، وَكَذَّبَتْ رُسُلَهَا، فَإِنَّ الْآثَارَ الْمَوْجُودَةَ فِي دِيَارِهِمْ تَدُلُّ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ تِلْكَ الْأُمَمَ كَانُوا فَوْقَ هَؤُلَاءِ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ فَقَالَ: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً أَيْ: أَكْثَرَ مِنْهُمْ عَدَدًا وَأَقْوَى مِنْهُمْ أَجْسَادًا، وَأَوْسَعَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا، وَأظهر مِنْهُمْ آثَارًا فِي الْأَرْضِ بِالْعَمَائِرِ، وَالْمَصَانِعِ، وَالْحَرْثِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا الْأُولَى اسْتِفْهَامِيَّةً: أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ، أَوْ نَافِيَةً: أَيْ: لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ، وَمَا الثَّانِيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ: بِالْحُجَجِ الْوَاضِحَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَاتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أَيْ: أَظْهَرُوا الْفَرَحَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِمَّا يَدَّعُونَ أَنَّهُ مِنَ الْعِلْمِ من الشبه الداحضة، والدعاوي الزائفة، وَسَمَّاهُ عِلْمًا تَهَكُّمًا بِهِمْ، أَوْ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ لَنْ نُعَذَّبَ، وَلَنْ نُبْعَثَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ عِلْمِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَا الدِّينِ كَمَا فِي قوله: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَقِيلَ: الَّذِينَ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ هُمُ الرُّسُلُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ أعلمهم الله بأنه مهلك الكافرين، ومنجي الْمُؤْمِنِينَ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ جَزَاءُ اسْتِهْزَائِهِمْ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أَيْ: عَايَنُوا عَذَابَنَا النَّازِلَ بِهِمْ قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ وَهِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أَيْ: عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِنَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِالْإِيمَانِ النَّافِعِ لِصَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ الاختياري لا الإيمان الاضطراري سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أَيِ: التي مَضَتْ فِي عِبَادِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ فِي الْأُمَمِ كُلِّهَا أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَسُورَةِ التَّوْبَةِ، وَانْتِصَابُ سُنَّةَ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ بِمَنْزِلَةِ وَعْدِ اللَّهِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْمَصَادِرِ الْمُؤَكِّدَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّحْذِيرِ، أَيِ: احْذَرُوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أَيْ: وَقْتَ رُؤْيَتِهِمْ بَأْسَ اللَّهِ وَمُعَايَنَتِهِمْ لِعَذَابِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَافِرُ خَاسِرٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَكِنَّهُ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ خُسْرَانُهُمْ إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: يُسْجَرُونَ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَصَاصَةً مِثْلَ هَذِهِ- وَأَشَارَ إِلَى جُمْجُمَةٍ- أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ

سَنَةٍ لَبَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ رَأْسِ السِّلْسِلَةِ لَسَارَتْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ أَصْلَهَا، أَوْ قَالَ قَعْرَهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صفة النار عن ابن عباس قال: يسحبون فِي الْحَمِيمِ فَيَنْسَلِخُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ مِنْ جِلْدٍ، وَلَحْمٍ، وَعِرْقٍ حَتَّى يَصِيرَ فِي عَقِبِهِ حَتَّى إِنَّ لَحْمَهُ قُدِّرَ طُولُهُ، وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ يُكْسَى جِلْدًا آخَرَ، ثُمَّ يُسْجَرُ فِي الْحَمِيمِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يقصص على محمد.

سورة فصلت

سورة فصّلت وتسمى سورة فصلت وهي أربع وخمسون آية، وقيل ثلاث وخمسون. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «اجتمعت قُرَيْشٌ يَوْمًا فَقَالُوا: انْظُرُوا أَعْلَمَكُمْ بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ فَلْيَأْتِ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي قَدْ فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَشَتَّتَ أَمْرَنَا وَعَابَ دِينَنَا، فَلْيُكَلِّمْهُ وَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ؟ فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ، أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْكَ فَقَدْ عَبَدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْهُمْ فَتَكَلَّمْ حَتَّى نَسْمَعَ قَوْلَكَ، أَمَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سَخْلَةً قَطُّ أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْكَ، فَرَّقْتَ جَمَاعَتَنَا وَشَتَّتَّ أَمْرَنَا وَعِبْتَ دِينَنَا وَفَضَحَتَنَا فِي الْعَرَبِ، حَتَّى لَقَدْ طَارَ فِيهِمْ أَنَّ فِي قُرَيْشٍ سَاحِرًا وَأَنَّ فِي قُرَيْشٍ كَاهِنًا، وَاللَّهِ ما ننتظر إِلَّا مِثْلَ صَيْحَةِ الْحُبْلَى أَنْ يَقُومَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ، يَا رَجُلُ إِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْحَاجَةُ جَمَعْنَا لَكَ حَتَّى تَكُونَ أَغْنَى قُرَيْشٍ رَجُلًا، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْبَاءَةُ فَاخْتَرْ أَيَّ نِسَاءِ قُرَيْشٍ شِئْتَ فَلَنُزَوِّجَنَّكَ عَشْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرَغْتَ؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ» حَتَّى بَلَغَ «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صاعقة عاد وثمود» فَقَالَ عُتْبَةُ: حَسْبُكَ حَسْبُكَ مَا عِنْدَكَ غَيْرَ هَذَا؟ قَالَ لَا، فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالُوا مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَرَى أَنَّكُمْ تُكَلِّمُونَهُ بِهِ إِلَّا كَلَّمْتُهُ، فَقَالُوا: فَهَلْ أَجَابَكَ قَالَ: وَالَّذِي نَصَبَهَا بِنْيَةً مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ غَيْرَ أَنَّهُ أَنْذَرَكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، قَالُوا: وَيْلَكَ يُكَلِّمُكَ الرَّجُلُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَمَا تَدْرِي مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ غَيْرَ ذِكْرِ الصَّاعِقَةِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لما قرأ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَتَى أَصْحَابَهُ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَطِيعُونِي فِي هَذَا الْيَوْمِ وَاعْصُونِي بَعْدَهُ، فو الله لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ كَلَامًا مَا سَمِعَتْ أُذُنِي قَطُّ كَلَامًا مِثْلَهُ، وَمَا دَرَيْتُ ما أرد عَلَيْهِ» . وَفِي هَذَا الْبَابِ رِوَايَاتٌ تَدُلُّ عَلَى اجْتِمَاعِ قُرَيْشٍ وَإِرْسَالِهِمْ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَتِلَاوَتِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَيْهِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14)

قَوْلُهُ: حم قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِهِ وَمَعْنَاهُ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ فَلَا نُعِيدُهُ، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى تَنْزِيلٌ وَإِعْرَابِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْأَخْفَشُ: تَنْزِيلٌ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: كِتابٌ فُصِّلَتْ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ هَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يقال كتاب بدل من قوله تنزيل، ومِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ متعلق بتنزيل، وَمَعْنَى فُصِّلَتْ آياتُهُ: بُيِّنَتْ أَوْ جُعِلَتْ أَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةً، قَالَ قَتَادَةُ: فُصِّلَتْ بِبَيَانِ حَلَالِهِ مِنْ حَرَامِهِ وَطَاعَتِهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْكُلِّ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةً لِكِتَابٍ. وَقُرِئَ «فُصِلَتْ» بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَانْتِصَابُ قُرْآناً عَرَبِيًّا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فُصِّلَتْ آيَاتُهُ حَالَ كَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ، وقيل: على المصدرية، أي: يقرؤه قُرْآنًا، وَقِيلَ: مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفُصِّلَتْ، وَقِيلَ: عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فُصِّلَتْ، أَيْ: فَصَّلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ يَعْلَمُونَ مَعَانِيَهُ وَيَفْهَمُونَهَا: وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ. قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ صِفَةٌ أُخْرَى لِقُرْآنٍ، أَيْ: كَائِنًا لِقَوْمٍ أَوْ متعلق بفصلت، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ بَشِيراً وَنَذِيراً: صِفَتَانِ أُخْرَيَانِ لَقُرْآنًا، أَوْ حَالَانِ مِنْ كِتَابٍ، وَالْمَعْنَى: بَشِيرًا لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَنَذِيرًا لِأَعْدَائِهِ. وَقُرِئَ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُمَا صِفَةٌ لِكِتَابٍ، أَوْ خَبَرُ مبتدأ محذوف فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ المراد بأكثر هُنَا: الْكُفَّارُ، أَيْ: فَأَعْرَضَ الْكُفَّارُ عَمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ النِّذَارَةِ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعًا يَنْتَفِعُونَ بِهِ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أَيْ: فِي أَغْطِيَةٍ مِثْلَ الْكِنَانَةِ الَّتِي فِيهَا السِّهَامُ، فَهِيَ لَا تَفْقَهُ مَا تَقُولُ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا قَوْلُكَ، وَالْأَكِنَّةُ: جَمْعُ كِنَانٍ، وَهُوَ الْغِطَاءُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْكِنَانُ لِلْقَلْبِ: كَالْجُنَّةِ لِلنُّبْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أَيْ: صَمَمٌ، وَأَصْلُ الْوَقْرِ: الثِّقَلُ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ «وِقْرٌ» بِكَسْرِ الواو. وقرئ بفتح الواو والقاف، ومِنْ فِي وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحِجَابَ ابْتَدَأَ مِنَّا، وَابْتَدَأَ مِنْكَ، فَالْمَسَافَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ جِهَتِنَا وَجِهَتِكَ مُسْتَوْعَبَةٌ بِالْحِجَابِ لَا فَرَاغَ فِيهَا، وَهَذِهِ تَمْثِيلَاتٌ لِنُبُوِّ قُلُوبِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقِّ، وَمَجِّ أَسْمَاعِهِمْ لَهُ، وَامْتِنَاعِ الْمُوَاصَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْمَلْ إِنَّنا

عامِلُونَ أَيِ: اعْمَلْ عَلَى دِينِكَ إِنَّنَا عَامِلُونَ عَلَى دِينِنَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اعْمَلْ فِي هَلَاكِنَا فَإِنَّا عَامِلُونَ فِي هَلَاكِكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اعْمَلْ لإلهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآهلتنا الَّتِي نَعْبُدُهَا، وَقِيلَ: اعْمَلْ لِآخِرَتِكَ فَإِنَّا عَامِلُونَ لِدُنْيَانَا. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا فَقَالَ: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أَيْ: إِنَّمَا أَنَا كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ لَوْلَا الْوَحْيُ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ جِنْسٍ مُغَايِرٍ لَكُمْ حَتَّى تَكُونَ قُلُوبُكُمْ فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَفِي آذَانِكُمْ وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِي وَبَيْنِكُمْ حِجَابٌ، وَلَمْ أَدْعُكُمْ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ، وَإِنَّمَا أَدْعُوكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُوحى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالنَّخَعِيُّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أي: يوحي الله إليّ. قيل وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ قَسْرًا فَإِنِّي بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَا امْتِيَازَ لِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنِّي أُوحِيَ إِلَيَّ التَّوْحِيدُ وَالْأَمْرُ بِهِ، فَعَلَيَّ الْبَلَاغُ وَحْدَهُ فَإِنْ قَبِلْتُمْ رَشَدْتُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ هَلَكْتُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنِّي لَسْتُ بِمَلَكٍ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ دُونَكُمْ، فَصِرْتُ بِالْوَحْيِ نَبِيًّا، وَوَجَبَ عَلَيْكُمُ اتِّبَاعِي. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَّمَ رَسُولَهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَيْفَ يَتَوَاضَعُ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ عَدَّاهُ بِإِلَى لتضمنه معنى توجهوا، والمعنى: وجهوا استقامتكم وَلَا تَمِيلُوا عَنْ سَبِيلِهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ لِمَا فَرَطَ مِنْكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ. ثُمَّ هَدَّدَ الْمُشْرِكِينَ وَتَوَعَّدَهُمْ فَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أَيْ: يَمْنَعُونَهَا وَلَا يُخْرِجُونَهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: لَا يَتَصَدَّقُونَ وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَةِ. وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ، لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّهَا زَكَاةُ الْأَنْفُسِ وَتَطْهِيرُهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْفِقُونَ النَّفَقَاتِ، وَيَسْقُونَ الْحَجِيجَ وَيُطْعِمُونَهُمْ فَحَرَّمُوا ذَلِكَ عَلَى مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَا يُؤْتُونَ دَاخِلٌ مَعَهُ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، أَيْ: مُنْكِرُونَ لِلْآخِرَةِ جَاحِدُونَ لَهَا، وَالْمَجِيءُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِقَصْدِ الْحَصْرِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ عَنْهُمْ، يُقَالُ مَنَّنْتُ الْحَبْلَ: إِذَا قَطَعْتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَصْبَغِ الأودي: إنّي لعمرك ما بابي بذي غلق ... عَلَى الصَّدِيقِ وَلَا خَيْرِي بِمَمْنُونِ وَقِيلَ الْمَمْنُونُ: الْمَنْقُوصُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ زُهَيْرٍ: فَضْلَ الْجِيادِ عَلَى الْخَيْلِ الْبِطَاءِ فَلَا ... يُعْطِي بِذَلِكَ مَمْنُونًا وَلَا نَزِقَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَنُّ: الْقَطْعُ، وَيُقَالُ: النَّقْصُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وَقَالَ لَبِيدٌ: غُبْسٌ كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا «1» وَقَالَ مُجَاهِدٌ غَيْرَ مَمْنُونٍ: غَيْرَ مَحْسُوبٍ، وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا يُمَنُّ عَلَيْهِمْ بِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُمَنُّ بِالتَّفَضُّلِ، فَأَمَّا الْأَجْرُ فَحَقٌّ أَدَاؤُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمَرْضَى، وَالزَّمْنَى، وَالْهَرْمَى إِذَا ضَعُفُوا عَنِ الطَّاعَةِ كُتِبَ لهم

_ (1) . وصدر البيت، كما في القرطبي واللسان: لمعفّر قهد تنازع شلوه

مِنَ الْأَجْرِ كَأَصَحِّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِيهِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن يوبخهم ويقرعهم فقال: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أَيْ: لَتَكْفُرُونَ بِمَنْ شَأْنُهُ هَذَا الشَّأْنُ الْعَظِيمُ، وَقُدْرَتُهُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ الْبَاهِرَةُ. قِيلَ: الْيَوْمَانِ هُمَا يَوْمُ الْأَحَدِ، وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِقْدَارُ يَوْمَيْنِ لِأَنَّ الْيَوْمَ الْحَقِيقِيَّ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ وُجُودِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَإِنَّكُمْ بِهَمْزَتَيْنِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ وَبَعْدَهَا ياء خفيفة وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً أي: أضداد وَشُرَكَاءَ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تَكْفُرُونَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ الْمُتَّصِفِ بِمَا ذُكِرَ وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: رَبُّ الْعالَمِينَ وَمِنْ جُمْلَةِ الْعَالِمَيْنِ مَا تَجْعَلُونَهَا أَنْدَادًا لِلَّهِ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مَعْطُوفٌ عَلَى خَلَقَ، أَيْ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ، أَيْ: جِبَالًا ثَوَابِتَ مِنْ فَوْقِهَا، وَقِيلَ: جُمْلَةُ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ غَيْرُ مَعْطُوفَةٍ عَلَى خَلَقَ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْأَجْنَبِيِّ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْفَاصِلَةَ هِيَ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ، وَمَعْنَى مِنْ فَوْقِها أَنَّهَا مُرْتَفِعَةٌ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا خَالَفَتْهَا بِاعْتِبَارِ الِارْتِفَاعِ، فَكَانَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ كَالْمُغَايِرَةِ لَهَا وَبارَكَ فِيها أَيْ: جَعَلَهَا مُبَارَكَةً كَثِيرَةَ الْخَيْرِ بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِلْعِبَادِ. قَالَ السُّدِّيُّ: أَنْبَتَ فِيهَا شَجَرَهَا وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: خَلَقَ فِيهَا أَنْهَارَهَا وَأَشْجَارَهَا وَدَوَابَّهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: قَدَّرَ فِيهَا أَرْزَاقَ أَهْلِهَا، وَمَا يَصْلُحُ لِمَعَايِشِهِمْ مِنَ التِّجَارَاتِ، وَالْأَشْجَارِ، وَالْمَنَافِعِ، جَعَلَ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي الْأُخْرَى لِيَعِيشَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالتِّجَارَةِ، وَالْأَسْفَارِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَمَعْنَى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَيْ: فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِالْيَوْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَمِثَالُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ خَرَجْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى بَغْدَادَ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ، وَإِلَى الْكُوفَةِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أَيْ: فِي تَتِمَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ حُصُولَ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا بَعْدَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَانْتِصَابُ سَواءً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِلْأَيَّامِ، أَيِ: اسْتَوَتْ سَوَاءً بِمَعْنَى اسْتِوَاءً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الأرض، أو من الضمائر الراجعة إليها. قرأ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ سَواءً وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، والحسن، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى، وَيَعْقُوبُ، وَعَمْرُو بْنُ عبيد بخفضه على أنه صفة الأيام. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى فِي أَرْبَعَةِ أيام مستوية تامة، وقوله: لِلسَّائِلِينَ: متعلق بسواء، أَيْ: مُسْتَوِيَاتٍ لِلسَّائِلِينَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا الْحَصْرُ لِلسَّائِلِينَ فِي كَمْ خُلِقَتِ الْأَرْضُ وما فيها؟ أو متعلق بقدّر، أَيْ: قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا لِأَجْلِ الطَّالِبِينَ الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا سَوَاءً لِلْمُحْتَاجِينَ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا ذكر كيفية خلقه للسموات فَقَالَ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أَيْ: عَمَدَ وَقَصَدَ نَحْوَهَا قَصْدًا سَوِيًّا. قَالَ الرَّازِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمُ: اسْتَوَى إِلَى مَكَانِ كَذَا: إِذَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ تَوَجُّهًا لَا يَلْتَفِتُ مَعَهُ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِوَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الِاعْوِجَاجِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمُ اسْتَقَامَ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ «1» ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ دَعَاهُ داعي الحكمة إلى خلق

_ (1) . فصلت: 6.

السموات بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى الْآيَةِ صَعِدَ أَمْرُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ الدُّخَانُ: مَا ارْتَفَعَ مِنْ لَهَبِ النَّارِ، وَيُسْتَعَارُ لِمَا يُرَى مِنْ بُخَارِ الْأَرْضِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا الدُّخَانُ هُوَ بُخَارُ الْمَاءِ، وَخَصَّ سُبْحَانَهُ الِاسْتِوَاءَ إِلَى السَّمَاءِ مَعَ كَوْنِ الْخِطَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا. وَإِلَى الْأَرْضِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً اسْتِغْنَاءً بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ تَقْدِيرِهَا، وَتَقْدِيرِ مَا فِيهَا، وَمَعْنَى ائْتِيَا: افْعَلَا مَا آمُرُكُمَا بِهِ وَجِيئَا بِهِ، كَمَا يُقَالُ ائْتِ مَا هُوَ الْأَحْسَنُ أَيِ: افْعَلْهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: أَمَّا أَنْتِ يَا سَمَاءُ فَأَطْلِعِي شَمْسَكِ، وقمرك، ونجومك، وأما أنت يا أرض فشقي أنهارك، وأخرجي ثمارك، ونباتك. قَرَأَ الْجُمْهُورُ ائْتِيا أَمْرًا مِنَ الْإِتْيَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ «آتِيَا» قَالَتَا آتَيْنَا بِالْمَدِّ فِيهِمَا، وَهُوَ إِمَّا مِنَ الْمُؤَاتَاةِ، وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ، أَيْ: لِتُوَافِقْ كُلٌّ مِنْكُمَا الْأُخْرَى أَوْ مِنَ الْإِيتَاءِ وَهُوَ الْإِعْطَاءُ فَوَزْنُهُ عَلَى الْأَوَّلِ فَاعِلًا كَقَاتِلًا، وَعَلَى الثَّانِي أَفْعِلَا كَأَكْرِمَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: طَائِعَتَيْنِ أَوْ مُكْرَهَتَيْنِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «كُرْهًا» بِالضَّمِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَطِيعَا طَاعَةً أَوْ تَكْرَهَانِ كَرْهًا. قِيلَ وَمَعْنَى هَذَا الْأَمْرِ لَهُمَا التَّسْخِيرُ: أَيْ كُونَا فَكَانَتَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» فَالْكَلَامُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ لِتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِحَالَةِ امْتِنَاعِهَا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ أَيْ: أَتَيْنَا أَمْرَكَ منقادين ومعهما جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ لِخِطَابِهِمَا بِمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْعُقَلَاءُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فِيهِمَا الْكَلَامَ فَتَكَلَّمَتَا كَمَا أَرَادَ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: هُوَ تَمْثِيلٌ لِظُهُورِ الطَّاعَةِ مِنْهُمَا، وَتَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ فِيهِمَا فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أَيْ: خَلَقَهُنَّ وَأَحْكَمَهُنَّ وَفَرَغَ مِنْهُنَّ. كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ «2» وَالضَّمِيرُ فِي قَضَّاهُنَّ: إِمَّا رَاجِعٌ إِلَى السَّمَاءِ عَلَى الْمَعْنَى لأنها سبع سموات، أو مبهم مفسر بسبع سموات، وانتصاب سبع سموات عَلَى التَّفْسِيرِ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ. وَقِيلَ: إِنَّ انْتِصَابَهُ عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لقضاهنّ لأنه مضمن معنى صيرهنّ، وَقِيلَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: قَضَّاهُنَّ حَالَ كَوْنِهِنَّ مَعْدُودَاتٍ بِسَبْعٍ، وَيَكُونُ قَضَى بِمَعْنَى صَنَعَ، وَقِيلَ: عَلَى التَّمْيِيزِ، وَمَعْنَى: فِي يَوْمَيْنِ كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ فَالْجُمْلَةُ سِتَّةُ أَيَّامٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «3» وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَيَوْمٌ مِنَ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وخلق السموات فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَوْلُهُ: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها عَطْفٌ عَلَى قَضَاهُنَّ. قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، أَيْ: خَلَقَ فِيهَا شَمْسَهَا، وَقَمَرَهَا، وَنُجُومَهَا، وَأَفْلَاكَهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، والبحار، والبرد، والثلوج. وقيل

_ (1) . النحل: 40. (2) . البيت لأبي ذؤيب الهذلي، و «الصّنع» : الحاذق. (3) . الأعراف: 54. [.....]

الْمَعْنَى: أَوْحَى فِيهَا مَا أَرَادَهُ وَمَا أَمَرَ بِهِ، وَالْإِيحَاءُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ كَمَا في قوله: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى «1» وقوله: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ «2» أَيْ: أَمَرْتُهُمْ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «3» فَإِنَّ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ خَلْقَهَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَظَاهِرُهُ يُخَالِفُ قَوْلَهُ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فَقِيلَ إِنَّ ثُمَّ فِي ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ لَيْسَتْ لِلتَّرَاخِي الزَّمَانِيِّ بَلْ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا لِلتَّرَاخِي الزَّمَانِيِّ فَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ بِأَنَّ الْأَرْضَ خَلْقُهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ، وَدَحْوُهَا بِمَعْنَى بَسْطِهَا هُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ خَلْقِهَا فَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ خَلْقًا مُتَأَخِّرَةٌ دَحْوًا وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَلَعَلَّهُ يَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِنَا لِقَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِلْمَقَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ أَيْ: بِكَوَاكِبَ مُضِيئَةٍ مُتَلَأْلِئَةٍ عَلَيْهَا كَتَلَأْلُؤِ المصابيح، وَانتصاب حِفْظاً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ: وَخَلَقْنَا الْمَصَابِيحَ زِينَةً وَحِفْظًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: فِي الْوَجْهِ الثَّانِي هُوَ تَكَلُّفٌ، وَعُدُولٌ عَنِ السَّهْلِ الْبَيِّنِ، وَالْمُرَادُ بِالْحِفْظِ: حِفْظُهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أَيِ: الْبَلِيغِ الْقُدْرَةِ الْكَثِيرِ الْعِلْمِ فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ أَيْ: فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَنْذَرْتُكُمْ خَوَّفْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أَيْ: عَذَابًا مِثْلَ عَذَابِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالصَّاعِقَةِ الْعَذَابُ الْمُهْلِكُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الصَّاعِقَةُ الْمَرَّةُ الْمُهْلِكَةُ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ صاعِقَةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ (صَعْقَةً) فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الصَّاعِقَةِ وَالصَّعْقَةِ فِي الْبَقَرَةِ، وَقَوْلُهُ: إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ ظرف لأنذرتكم، أو لصاعقة، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْعَذَابِ، أَيْ: أَنْذَرْتُكُمُ الْعَذَابَ الْوَاقِعَ وَقْتَ مَجِيءِ الرُّسُلِ، أَوْ حَالٌ مِنْ صَاعِقَةِ عَادٍ. وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ لَمْ يَقَعْ وَقْتَ مَجِيءِ الرُّسُلِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَهُ، وَكَذَلِكَ الصَّاعِقَةُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ ظَرْفًا لَهَا، وَقَوْلُهُ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بجاءتهم، أَيْ: جَاءَتْهُمْ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى تَنْزِيلِ مَجِيءِ كَلَامِهِمْ مَنْزِلَةَ مَجِيئِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، فَكَأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ جَاءُوهُمْ، وَخَاطَبُوهُمْ بِقَوْلِهِمْ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أَيْ: بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا عَلَى أَنَّهَا الْمَصْدَرِيَّةُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ التَّفْسِيرِيَّةَ أَوِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَجَابُوا بِهِ عَلَى الرُّسُلِ فَقَالَ: قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أَيْ: لَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْنَا، وَلَمْ يُرْسِلْ إِلَيْنَا بَشَرًا مِنْ جِنْسِنَا، ثُمَّ صَرَّحُوا بِالْكُفْرِ وَلَمْ يَتَلَعْثَمُوا، فَقَالُوا: فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أَيْ: كَافِرُونَ بِمَا تَزْعُمُونَهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكُمْ إِلَيْنَا، لِأَنَّكُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا لَا فَضْلَ لَكُمْ عَلَيْنَا، فَكَيْفَ اخْتَصَّكُمْ بِرِسَالَتِهِ دُونَنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ دَفْعُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الدَّاحِضَةِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا في غير موضع.

_ (1) . الزلزلة: 5. (2) . المائدة: 111. (3) . النازعات: 30.

[سورة فصلت (41) : الآيات 15 إلى 24]

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ قَالَ: لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِهِ: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قَالَ: غَيْرُ مَنْقُوصٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْهُ «أَنَّ الْيَهُودَ أَتَتِ النبيّ صلّى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات وَالْأَرْضِ، فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَمَا فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الشَّجَرَ، وَالْحَجَرَ، وَالْمَاءَ وَالْمَدَائِنَ، وَالْعُمْرَانَ وَالْخَرَابَ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أيام، فقال تعالى قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ وَخَلَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ وَالْمَلَائِكَةَ إِلَى ثَلَاثِ سَاعَاتٍ بَقِينَ مِنْهُ، فَخَلَقَ مِنْ أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ الْآجَالَ حِينَ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ، وَفِي الثَّانِيَةِ: أَلْقَى فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَفِي الثَّالِثَةِ: خَلَقَ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ، قَالَتِ الْيَهُودُ: ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. قَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ لَوْ أَتْمَمْتَ، قَالُوا ثُمَّ استراح، فغضب النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَنَزَلَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها قَالَ: شَقَّ الْأَنْهَارَ، وَغَرَسَ الْأَشْجَارَ، وَوَضَعَ الْجِبَالَ، وَأَجْرَى الْبِحَارَ، وَجَعَلَ فِي هَذِهِ مَا لَيْسَ فِي هَذِهِ، وَفِي هَذِهِ مَا لَيْسَ فِي هَذِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ يَوْمًا فَسَمَّاهُ الْأَحَدَ، ثُمَّ خَلَقَ ثَانِيًا فَسَمَّاهُ الِاثْنَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ ثَالِثًا فَسَمَّاهُ الثُّلَاثَاءَ، ثُمَّ خَلَقَ رَابِعًا فَسَمَّاهُ الْأَرْبِعَاءَ، ثُمَّ خَلَقَ خَامِسًا فَسَمَّاهُ الْخَمِيسَ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إن لله فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ أَبِي بَكْرٍ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَ قَالَ لِلسَّمَاءِ: أَخْرِجِي شَمْسَكِ، وَقَمَرَكِ، وَنُجُومَكِ، وَلِلْأَرْضِ شَقِّقِي أَنْهَارَكِ، وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ائْتِيا قَالَ أَعْطِيَا وَفِي قَوْلِهِ: قالَتا أَتَيْنا قَالَ: أعطينا. [سورة فصلت (41) : الآيات 15 الى 24] فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

_ (1) . ق: 38 و 39.

لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَادًا وَثَمُودَ إِجْمَالًا ذَكَرَ مَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ تَفْصِيلًا، فَقَالَ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ: تَكَبَّرُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَاسْتَعْلَوْا عَلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَيْ: بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ فَقَالَ: وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً وَكَانُوا ذَوِي أَجْسَامٍ طِوَالٍ وَقُوَّةٍ شَدِيدَةٍ، فَاغْتَرُّوا بِأَجْسَامِهِمْ حِينَ تَهَدَّدَهُمْ هُودٌ بِالْعَذَابِ، وَمُرَادُهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى دَفْعِ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَالِاسْتِفْهَامُ لِلِاسْتِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وللتوبيخ لهم، أي: أو لم يَعْلَمُوا بِأَنَّ اللَّهَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُدْرَةً، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ عِقَابِهِ مَا شَاءَ بِقَوْلِهِ كُنْ فَيَكُونُ وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أَيْ: بِمُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ الَّتِي خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهَا وَجَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، أَوْ بِآيَاتِنَا الَّتِي أَنْزَلْنَاهَا عَلَى رُسُلِنَا، أَوْ بِآيَاتِنَا التَّكْوِينِيَّةِ الَّتِي نَصَبْنَاهَا لَهُمْ، وَجَعَلْنَاهَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ، أَوْ بِجَمِيعِ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِهِ، فَقَالَ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً الصَّرْصَرُ: الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الصَّوْتِ مِنَ الصِّرَّةِ، وَهِيَ الصَّيْحَةُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى صَرْصَرٍ: شَدِيدَةٌ عَاصِفَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ الْبَارِدَةُ تُحْرِقُ كَمَا تُحْرِقُ النَّارُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: هِيَ الْبَارِدَةُ، وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ قَوْلَ الْحُطَيْئَةِ: الْمُطْعِمُونَ إِذَا هَبَّتْ بِصَرْصَرَةٍ ... وَالْحَامِلُونَ إِذَا اسْتَوْدَوْا عَنِ النَّاسِ أَيْ: إِذَا سُئِلُوا الدِّيَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الشَّدِيدَةُ السَّمُومِ، وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُهَا بِالْبَرْدِ، لِأَنَّ الصِّرَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: البرد، ومنه قول الشاعر: لها عذر كقرون النّساء ... رُكِّبْنَ فِي يَوْمِ رِيحٍ وَصَرِّ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: صَرْصَرٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصِّرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَرْصَرَ الْبَابَ، وَمِنَ الصَّرَّةِ: وَهِيَ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَقْتَ نُزُولِ ذَلِكَ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ أَيْ: مَشْؤُومَاتٍ ذَوَاتِ نُحُوسٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: كُنَّ آخِرَ شَوَّالٍ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ إِلَى يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، وَذَلِكَ سَبْعُ لَيَالٍ، وَثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ حُسُومًا، وَقِيلَ: نَحِسَاتٌ: بَارِدَاتٌ، وَقِيلَ: مُتَتَابِعَاتٌ، وَقِيلَ: شِدَادٌ، وَقِيلَ: ذَوَاتُ غُبَارٍ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو نَحِساتٍ بِإِسْكَانِ

الْحَاءِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ نَحْسٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى لِقَوْلِهِ: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ «1» وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: لِكَيْ نُذِيقَهُمْ، وَالْخِزْيُ: هُوَ الذُّلُّ، وَالْهَوَانُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى أَيْ: أَشَدُّ إِهَانَةً وَذُلًّا، وَوَصْفُ الْعَذَابِ بِذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ وَصْفٌ لِلْمُعَذَّبِينَ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ صَارُوا مُتَّصِفِينَ بِالْخِزْيِ وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ أَيْ: لَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ، وَلَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ دَافِعٌ. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أَيْ: بَيَّنَّا لَهُمْ سَبِيلَ النَّجَاةِ وَدَلَلْنَاهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَنَصْبِ الدَّلَالَاتِ لَهُمْ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَيَصَدِّقَ رُسُلَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى الْآيَةِ: دَلَلْنَاهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الْخَيْرِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَمَّا ثَمُودُ بِالرَّفْعِ وَمَنْعِ الصَّرْفِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ بِالرَّفْعِ وَالصَّرْفِ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ بِالنَّصْبِ وَالصَّرْفِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ هُرْمُزَ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ بِالنَّصْبِ وَالْمَنْعِ، فَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْجُمْلَةُ بعد الْخَبَرُ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى الِاشْتِغَالِ وَأَمَّا الصَّرْفُ فَعَلَى تَفْسِيرِ الِاسْمِ بِالْأَبِ أَوِ الْحَيِّ، وَأَمَّا الْمَنْعُ فَعَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْقَبِيلَةِ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أَيِ اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ اخْتَارُوا الْعَمَى عَلَى الْبَيَانِ وَقَالَ السُّدِّيُّ: اخْتَارُوا الْمَعْصِيَةَ عَلَى الطَّاعَةِ فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّاعِقَةَ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُهْلِكِ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَالْهُونُ: الْهَوَانُ وَالْإِهَانَةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَصَابَهُمْ مَهْلِكُ الْعَذَابِ ذِي الْهَوَانِ أَوِ الْإِهَانَةِ، وَيُقَالُ عَذَابٌ هُونٌ: أَيْ مُهِينٌ كَقَوْلِهِ: مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ «2» وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَكْسِبُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ الَّذِي كَانُوا يَكْسِبُونَهُ، أَوْ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ وَهُمْ صَالِحٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ اللَّهَ نَجَّاهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا عَاقَبَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا ذَكَرَ مَا عَاقَبَهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ وَفِي وَصْفِهِمْ بِكَوْنِهِمْ أَعْدَاءَ اللَّهِ مُبَالَغَةٌ فِي ذَمِّهِمْ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ تَقْدِيرُهُ: يساق الناس يوم يحشر، أو باذكر، أَيِ: اذْكُرْ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُحْشَرُ بِتَحْتِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ وَرَفْعِ أَعْداءُ عَلَى النِّيَابَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ «نَحْشُرُ» بِالنُّونِ وَنَصْبِ أَعْدَاءٍ، وَمَعْنَى حَشْرِهِمْ إِلَى النَّارِ سَوْقُهُمْ إِلَيْهَا أَوْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ عِنْدَهُ فَرِيقُ الْجَنَّةِ، وَفَرِيقُ النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ: يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ لِيَتَلَاحَقُوا، وَيَجْتَمِعُوا، كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ النمل مستوفى حَتَّى إِذا ما جاؤُها أَيْ: جَاءُوا النَّارَ الَّتِي حُشِرُوا إِلَيْهَا أَوْ مَوْقِفَ الْحِسَابِ وَمَا مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَعَاصِي. قَالَ مُقَاتِلٌ: تَنْطِقُ جَوَارِحُهُمْ بِمَا كَتَمَتِ الْأَلْسُنُ مِنْ عَمَلِهِمْ بِالشِّرْكِ، وَالْمُرَادُ بالجلود: هي جلودهم المعروفة في فول أكثر المفسرين. وقال السدّي، وعبيد بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، وَالْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِالْجُلُودِ الْفُرُوجَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا وَجْهُ تَخْصِيصِ الثَّلَاثَةِ بِالشَّهَادَةِ دُونَ غَيْرِهَا مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ أَنَّ الْحَوَاسَّ الْخَمْسَ: وَهِيَ السَّمْعُ، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، وآلة المس:

_ (1) . القمر: 19. (2) . سبأ: 14.

هِيَ الْجِلْدُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ هُنَا ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْحَوَاسِّ، وَهِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَاللَّمْسُ، وَأَهْمَلَ ذِكْرَ نَوْعَيْنِ وَهُمَا الذَّوْقُ وَالشَّمُّ، فَالذَّوْقُ دَاخِلٌ فِي اللَّمْسِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ إِدْرَاكَ الذَّوْقِ إِنَّمَا يَتَأَتَّى بِأَنْ تَصِيرَ جِلْدَةُ اللِّسَانِ مُمَاسَّةً لِجُرْمِ الطَّعَامِ، وَكَذَلِكَ الشَّمُّ لَا يَتَأَتَّى حَتَّى تَصِيرَ جِلْدَةُ الْحَنَكِ مُمَاسَّةً لِجُرْمِ الْمَشْمُومِ، فَكَانَا دَاخِلَيْنِ فِي جِنْسِ اللَّمْسِ، وَإِذَا عَرَفْتَ مِنْ كَلَامِهِ هَذَا وَجْهَ تَخْصِيصِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ عَرَفْتَ مِنْهُ وَجْهَ تَخْصِيصِ الْجُلُودِ بِالسُّؤَالِ لِأَنَّهَا قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى ثَلَاثِ حَوَاسٍّ، فَكَانَ تَأْتِي الْمَعْصِيَةُ مِنْ جِهَتِهَا أَكْثَرَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْجُلُودَ بِالْفُرُوجِ فَوَجْهُ تَخْصِيصِهَا بِالسُّؤَالِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ مَا يَشْهَدُ بِهِ الْفَرْجُ مِنَ الزِّنَا أَعْظَمُ قُبْحًا، وَأَجْلَبُ لِلْخِزْيِ، وَالْعُقُوبَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ إِفْرَادِ السَّمْعِ وَجَمْعِ الْأَبْصَارِ قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ: أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْطِقُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَشَهِدْنَا عَلَيْكُمْ بِمَا عَمِلْتُمْ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَا نَطَقْنَا بِاخْتِيَارِنَا، بَلْ أَنْطَقَنَا اللَّهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قِيلَ: هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْجُلُودِ، وَقِيلَ: مُسْتَأْنَفٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِكُمْ وَإِنْشَائِكُمُ ابْتِدَاءً قَدَرَ عَلَى إِعَادَتِكُمْ، وَرَجْعِكُمْ إِلَيْهِ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ هَذَا تَقْرِيعٌ لَهُمْ، وَتَوْبِيخٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ مِنْ كَلَامِ الْجُلُودِ، أَيْ: مَا كُنْتُمْ تَسْتَخْفُونَ عِنْدَ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ حَذَرًا مِنْ شَهَادَةِ الْجَوَارِحِ عَلَيْكُمْ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْتَخْفِيَ مِنْ جَوَارِحِهِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ كَانَ مَعْنَى الِاسْتِخْفَاءِ هُنَا تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ مَعْنَى الِاسْتِتَارِ: الِاتِّقَاءُ، أَيْ: مَا كُنْتُمْ تَتَّقُونَ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْكُمْ جَوَارِحُكُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَتَتْرُكُوا الْمَعَاصِيَ خوفا من هذه الشهادة وأَنْ في قوله: أَنْ يَشْهَدَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: لِأَجْلِ أَنْ تَشْهَدَ، أَوْ: مَخَافَةَ أَنْ تَشْهَدَ. وَقِيلَ: مَنْصُوبَةٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَهُوَ الْبَاءُ، أَوْ عَنْ، أَوْ مِنْ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِتَارَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الظَّنِّ، أَيْ: وَمَا كُنْتُمْ تَظُنُّونَ أَنْ تَشْهَدَ، وَهُوَ بَعِيدٌ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ مِنَ الْمَعَاصِي فَاجْتَرَأْتُمْ عَلَى فِعْلِهَا، قِيلَ: كَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِنَا، وَلَكِنْ يَعْلَمُ مَا نُظْهِرُ دُونَ مَا نُسِرُّ. قَالَ قَتَادَةُ: الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالظَّنِّ مَعْنًى مَجَازِيٌّ يَعُمُّ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، وَمَا هُوَ فَوْقَهُ مِنَ الْعِلْمِ، وَالإشارة بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى مَا ذَكَرَ مِنْ ظَنِّهِمْ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ وَقَوْلُهُ: أَرْداكُمْ خَبَرٌ آخَرُ لِلْمُبْتَدَأِ، وَقِيلَ: إِنَّ أَرْدَاكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ ظنكم بدل من ذلك، والذي ظننتم: خبره، وأرداكم: خَبَرٌ آخَرُ، أَوْ: حَالٌ، وَقِيلَ: إِنَّ ظَنَّكُمْ خَبَرٌ أَوَّلُ، وَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ: خَبَرٌ ثَانٍ، وَأَرْدَاكُمْ: خَبَرٌ ثَالِثٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ظَنَّكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ، أَهْلَكَكُمْ وَطَرَحَكُمْ فِي النَّارِ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ أَيِ: الْكَامِلِينَ في الخسران. ثم أخبر عن حَالِهِمْ فَقَالَ: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أَيْ: فَإِنْ يَصْبِرُوا عَلَى النَّارِ فَالنَّارُ مَثْوَاهُمْ، أَيْ: مَحَلُّ اسْتِقْرَارِهِمْ، وَإِقَامَتِهِمْ لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا. وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَإِنْ يَصْبِرُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ، فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ يُقَالُ أَعْتَبَنِي فُلَانٌ: أَيْ أَرْضَانِي بَعْدَ إِسْخَاطِهِ إِيَّايَ، وَاسْتَعْتَبْتُهُ: طَلَبْتُ مِنْهُ أَنْ يَرْضَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِنْ يَسْأَلُوا أَنْ يُرْجَعَ بِهِمْ إِلَى مَا يُحِبُّونَ لَمْ يُرْجَعْ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ. قَالَ الْخَلِيلُ: تَقُولُ اسْتَعْتَبْتُهُ فَأَعْتَبَنِي: أَيِ اسْتَرْضَيْتُهُ

[سورة فصلت (41) : الآيات 25 إلى 36]

فأرضاني، ومعنى الآية: إن يطلبوا الرّضا لم يقع الرّضا عَنْهُمْ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ النَّارِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَسْتَعْتِبُوا بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ الثَّانِيَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَءُوا مِنَ الْمُعْتَبِينَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ اسْمَ مَفْعُولٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ يَسْتَعْتِبُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ اسْمَ فَاعِلٍ: أَيْ إِنَّهُمْ إِنْ أَقَالَهُمُ اللَّهُ، وَرَدَّهُمْ إِلَى الدُّنْيَا لَمْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1» . وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ يُوزَعُونَ قَالَ: يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُدْفَعُونَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: قُرَشِيٌّ وَثَقَفِيَّانِ، أَوْ ثَقَفِيٌّ وَقُرَشِيَّانِ، كَثِيرٌ لَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَمْ أَسْمَعْهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا هَذَا؟ فَقَالَ الْآخَرَانِ: إِنَّا إِذَا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا سَمِعَهُ وَإِنَّا إِذَا لَمْ نَرْفَعْهُ لَمْ يَسْمَعْهُ، فَقَالَ الْآخَرَانِ: إِنْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا سَمِعَهُ كُلَّهُ قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْخاسِرِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُحْشَرُونَ هَاهُنَا، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ، مُشَاةً وَرُكْبَانًا، وَعَلَى وُجُوهِكُمْ، وَتُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى أَفْوَاهِكُمُ الْفِدَامُ، وَأَوَّلُ مَا يُعْرِبُ عَنْ أَحَدِكُمْ فَخِذُهُ وَكَتِفُهُ» ، وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ قَوْمًا قَدْ أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ» ، فَقَالَ اللَّهُ: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ. [سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 36] وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

_ (1) . الأنعام: 28.

قَوْلُهُ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ أَيْ: هَيَّأْنَا قُرَنَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سَبَّبْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ حَتَّى أَضَلُّوهُمْ، وَقِيلَ: سَلَّطْنَا عَلَيْهِمْ قُرَنَاءَ، وَقِيلَ: قدّرنا، والمعاني متقاربة، وأصل التقييض: التيسير والتهيئة، وَالْقُرَنَاءُ: جَمْعُ قَرِينٍ، وَهُمُ الشَّيَاطِينُ، جَعَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِلَّاءِ لَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَيَّضَ لَهُمْ قُرَنَاءَ فِي النَّارِ، وَالْأَوْلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ: فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ فَإِنَّ الْمَعْنَى: زَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، وَحَمَلُوهُمْ عَلَى الْوُقُوعِ فِي مَعَاصِي اللَّهِ بِانْهِمَاكِهِمْ فِيهَا، وَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا خَلْفَهُمْ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ فَقَالُوا: لَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ، وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا عَمِلُوهُ، وَمَا خَلْفَهُمْ مَا عَزَمُوا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهُ. وَرُوِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَمَا خَلْفَهُمْ: مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أَيْ: وَجَبَ وَثَبَتَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «1» وفِي أُمَمٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: كَائِنِينَ فِي جُمْلَةِ أُمَمٍ، وَقِيلَ فِي: بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ: مَعَ أُمَمٍ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ وَمَضَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ عَلَى الْكُفْرِ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تَعْلِيلٌ لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَا تَسْمَعُوهُ وَلَا تُنْصِتُوا لَهُ، وَقِيلَ مَعْنَى لَا تَسْمَعُوا: لَا تُطِيعُوا، يُقَالُ سَمِعْتُ لَكَ: أَيْ أَطَعْتُكَ وَالْغَوْا فِيهِ أَيْ: عَارِضُوهُ بِاللَّغْوِ وَالْبَاطِلِ، أَوِ ارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ لِيَتَشَوَّشَ الْقَارِئُ لَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْغَوْا فِيهِ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَالتَّصْفِيقِ وَالتَّخْلِيطِ فِي الْكَلَامِ حَتَّى يَصِيرَ لَغْوًا وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَكْثِرُوا الْكَلَامَ لِيَخْتَلِطَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قَعُوا فِيهِ وَعِيبُوهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْغَوْا بِفَتْحِ الْغَيْنِ، مِنْ لَغَا إِذَا تَكَلَّمَ بِاللَّغْوِ، وَهُوَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، أَوْ مِنْ لَغَى بِالْفَتْحِ يَلْغَى بِالْفَتْحِ أَيْضًا كَمَا حَكَاهُ الأخفش، وقرأ عيسى بن عمر الجحدري، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَبَكْرُ بْنُ حبيب السهمي، وقتادة، وأبو السمّال، وَالزَّعْفَرَانِيُّ بِضَمِّ الْغَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اللَّغْوِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أَيْ: لِكَيْ تَغْلِبُوهُمْ فَيَسْكُتُوا. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَهَذَا وَعِيدٌ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَيَدْخُلُ فِيهِمُ الَّذِينَ السِّيَاقُ مَعَهُمْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءَ أَقْبَحِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَهُوَ الشِّرْكُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ بمساوي أَعْمَالِهِمْ لَا بِمَحَاسِنِهَا كَمَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَإِكْرَامِ الضَّيْفِ، لِأَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لَا أَجْرَ لَهُ مَعَ كُفْرِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ، أَوْ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْأَمْرُ ذَلِكَ، وَجُمْلَةُ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى،

_ (1) . ص: 85.

وَتَكُونُ النَّارُ: عَطْفَ بَيَانٍ لِلْجَزَاءِ، أَوْ: بَدَلًا مِنْهُ، أَوْ: خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ: مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ. وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْوُجُوهِ الْأُولَى تَكُونُ جُمْلَةُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ مُسْتَأْنَفَةً مُقَرِّرَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَمَعْنَى دَارِ الْخُلْدِ: دَارِ الْإِقَامَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي لَا انْقِطَاعَ لَهَا جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أَيْ: يُجْزَوْنَ جَزَاءً بِسَبَبِ جَحْدِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْقُرْآنَ يَجْحَدُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الله، وعلى هذا يكون التعبير عن اللغوب الجحود لِكَوْنِهِ سَبَبًا لَهُ، إِقَامَةً لِلسَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَالُوا هَذَا وَهُمْ فِي النَّارِ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُرِيَهُمْ مَنْ أَضَلَّهُمْ مِنْ فَرِيقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ كَانُوا يُسَوِّلُونَ لَهُمْ، وَيَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي، وَمِنَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُزَيِّنُونَ لَهُمُ الْكُفْرَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِبْلِيسُ وَقَابِيلُ لِأَنَّهُمَا سَنَّا الْمَعْصِيَةَ لِبَنِي آدَمَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَرِنَا بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالسُّوسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ عَامِرٍ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَبِهَا قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: إِذَا قُلْتَ أَرِنِي ثَوْبَكَ بِالْكَسْرِ فَمَعْنَاهُ بَصِّرْنِيهِ وَبِالسُّكُونِ أَعْطِنِيهِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا أي ندوسهما بِأَقْدَامِنَا لِنَشْتَفِيَ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: نَجْعَلُهُمْ أَسْفَلَ مِنَّا فِي النَّارِ لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ فِيهَا مَكَانًا أَوْ: لِيَكُونَا مِنَ الْأَذَلِّينَ الْمُهَانِينَ، وَقِيلَ: لِيَكُونُوا أَشَدَّ عَذَابًا مِنَّا. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ عِقَابَ الْكَافِرِينَ وَمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ أَيْ: وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا عَلَى التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: مَعْنَى الِاسْتِقَامَةِ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: ثُمَّ اسْتَقَامُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: اسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ، وَاجْتَنَبُوا مَعْصِيَتَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: اسْتَقَامُوا عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى مَاتُوا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَمِلُوا عَلَى وِفَاقِ مَا قَالُوا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: أَعْرَضُوا عَمَّا سِوَى اللَّهِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: زَهِدُوا فِي الْفَانِيَةِ، وَرَغِبُوا فِي الْبَاقِيَةِ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْبُشْرَى الَّتِي يُرِيدُونَهَا مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ، أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ رَفْعِ حُزْنٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لِلْبَعْثِ. وَقَالَ وَكِيعٌ: الْبُشْرَى فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: عِنْدَ الْمَوْتِ، وفي القبر، وعند البعث أَلَّا أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ أو المفسرة أو الناصبة، ولا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ نَاهِيَةٌ، وَعَلَى الثَّالِثِ نَافِيَةٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَخَافُوا مِمَّا تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَمَالٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَخَافُوا الْمَوْتَ وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلِيفَتُكُمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا تَخَافُوا رَدَّ ثَوَابِكُمْ فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى ذُنُوبِكُمْ فَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكُمْ. وَالظَّاهِرُ عَدَمُ تَخْصِيصِ تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَعَدَمُ تَقْيِيدِ نَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ بِحَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ فِي الْجَمِيعِ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّكُمْ وَاصِلُونَ إِلَيْهَا مُسْتَقِرُّونَ بِهَا خَالِدُونَ فِي نَعِيمِهَا. ثُمَّ بَشَّرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَقَالَ: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ أَيْ: نَحْنُ الْمُتَوَلُّونَ لِحِفْظِكُمْ، وَمَعُونَتِكُمْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ وَلِيَّهُ فَازَ بِكُلِّ مَطْلَبٍ وَنَجَا مِنْ كُلِّ مَخَافَةٍ.

وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُونَ لَهُمْ نَحْنُ قُرَنَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنَّا مَعَكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا: لَا نُفَارِقُكُمْ حَتَّى تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَحْنُ الْحَفَظَةُ لِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَتَلَقَّوْنَهُمْ بِالْكَرَامَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ مِنْ صُنُوفِ اللَّذَّاتِ وَأَنْوَاعِ النِّعَمِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ أَيْ: مَا تَتَمَنَّوْنَ، افْتِعَالٌ مِنَ الدُّعَاءِ بِمَعْنَى الطَّلَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ مُسْتَوْفًى، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى بِاعْتِبَارِ شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ، وَالثَّانِيَةَ بِاعْتِبَارِ مَا يَطْلُبُونَهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ أَوَّلًا. وَقَالَ الرَّازِيُّ: الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ الْآيَةَ، وَانْتِصَابُ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَوْصُولِ، أَوْ مِنْ عَائِدِهِ، أَوْ مِنْ فَاعِلِ تَدْعُونَ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لفعل محذوف، أي: أنزلناه نزلا، والنزل: ما يعدّلهم حَالَ نُزُولِهِمْ مِنَ الرِّزْقِ وَالضِّيَافَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ أَيْ: إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْمُؤْمِنُ أَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مَا أَجَابَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ طَاعَتِهِ وَعَمِلَ صالِحاً فِي إِجَابَتِهِ وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِرَبِّي. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَذَانُ إِنَّمَا شُرِعَ بِالْمَدِينَةِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَيَدْخُلُ فِيهَا مَنْ كَانَ سَبَبًا لِنُزُولِهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَكُلُّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ دُعَاءِ الْعِبَادِ إِلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، وَهُوَ تَأْدِيَةُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعَ اجْتِنَابِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دِينًا لَا مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْهُ، وَلَا أَوْضَحُ مِنْ طَرِيقَتِهِ، وَلَا أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنْ عَمَلِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْفَرْقَ بَيْنَ مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَمُسَاوِيهَا فَقَالَ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ أَيْ: لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ الَّتِي يَرْضَى اللَّهُ بِهَا وَيُثِيبُ عَلَيْهَا، وَلَا السَّيِّئَةُ الَّتِي يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَيُعَاقِبُ عَلَيْهَا، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الْحَسَنَةِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، وَتَخْصِيصِ السَّيِّئَةِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ اللَّفْظَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ التَّوْحِيدُ، وَالسَّيِّئَةُ الشرك. وقيل: الحسنة المداراة، والسيئة الغلظة. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ الْعَفُو، وَالسَّيِّئَةُ: الِانْتِصَارُ. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ الْعِلْمُ، وَالسَّيِّئَةُ: الْفُحْشُ. قَالَ الْفَرَّاءُ لَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا السَّيِّئَةُ زَائِدَةٌ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيِ: ادْفَعِ السَّيِّئَةَ إِذَا جَاءَتْكَ مِنَ الْمُسِيءِ بِأَحْسَنِ مَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا بِهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَمِنْهُ مُقَابَلَةُ الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ، وَالذَّنْبِ بِالْعَفْوِ، وَالْغَضَبِ بِالصَّبْرِ، وَالْإِغْضَاءِ عَنِ الْهَفَوَاتِ، وَالِاحْتِمَالِ لِلْمَكْرُوهَاتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: يَعْنِي بِالسَّلَامِ إِذَا لَقِيَ مَنْ يُعَادِيهِ، وَقِيلَ: بِالْمُصَافَحَةِ عِنْدَ التَّلَاقِي فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ هَذِهِ هِيَ الْفَائِدَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ الدَّفْعَ صَارَ الْعَدُوُّ كَالصَّدِيقِ، وَالْبَعِيدُ عَنْكَ كَالْقَرِيبِ مِنْكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ كَانَ مُعَادِيًا للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَصَارَ لَهُ وَلِيًّا بِالْمُصَاهَرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَصَارَ وَلِيًّا فِي الإسلام حميما بالصهارة، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا

قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا يُلَقَّى هَذِهِ الْفِعْلَةَ وَهَذِهِ الْحَالَةَ، وَهِيَ دَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ، وَاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهِ وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ فِي الثَّوَابِ والخير. وقال قتادة: الحظ العظيم الْجَنَّةِ، أَيْ: مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا مَنْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي يُلَقَّاهَا عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُلَقَّاها مِنَ التَّلْقِيَةِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ «يُلَاقَاهَا» مِنَ الْمُلَاقَاةِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ فَقَالَ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ النَّزْغُ شَبِيهُ النَّخْسِ، شَّبَّهَ بِهِ الْوَسْوَسَةَ لِأَنَّهَا تَبْعَثُ عَلَى الشَّرِّ وَالْمَعْنَى: وَإِنْ صَرَفَكَ الشَّيْطَانُ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ عَنِ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِ، وَجُعِلَ النَّزْغُ نَازِغًا عَلَى الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ كَقَوْلِهِمْ: جَدُّ جَدِّهِ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيِ: السَّمِيعُ لِكُلِّ مَا يُسْمَعُ، وَالْعَلِيمُ بِكُلِّ مَا يُعْلَمُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ يُعِيذُ مَنِ اسْتَعَاذَ بِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطْرُدُونَ النَّاسَ عَنْهُ وَيَقُولُونَ لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ وَكَانَ إِذَا أَخْفَى قِرَاءَتَهُ لَمْ يَسْمَعْ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها «1» وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَالَ: هُوَ ابْنُ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ وَإِبْلِيسُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا قَالَ: قَدْ قَالَهَا نَاسٌ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، فَمَنْ قَالَهَا حِينَ يَمُوتُ فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وِالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمُسَدَّدٌ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عِمْرَانَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا قَالَ: الِاسْتِقَامَةُ أَنْ لَا يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وعبد بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا، والَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالُوا: الَّذِينَ قالوا ربنا الله ثم عملوا بها وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ فَلَمْ يُذْنِبُوا، وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ: لَمْ يُذْنِبُوا. قَالَ: لَقَدْ حَمَلْتُمُوهُمَا عَلَى أَمْرٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ- يقول بشرك، والذين قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: ثُمَّ اسْتَقَامُوا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ اسْتَقامُوا قَالَ: عَلَى شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بن حميد، والحكيم

_ (1) . الإسراء: 110.

[سورة فصلت (41) : الآيات 37 إلى 44]

التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا قَالَ: اسْتَقَامُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِأَمْرٍ فِي الْإِسْلَامِ لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ، قُلْتُ: فما أتقي؟ فأومأ إِلَى لِسَانِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ قَالَتِ: الْمُؤَذِّنُ وَعَمِلَ صالِحاً قَالَتْ: رَكْعَتَانِ فِيمَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهَا قَالَتْ: مَا أَرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إلا في الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَالَ: أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُّوهُمْ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا قَالَ: الرَّجُلُ يَشْتُمُهُ أَخُوهُ فَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَغَفَرَ اللَّهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَاشْتَدَّ غَضَبُ أَحَدِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَقَالَ: الرَّجُلُ: أَمْجَنُونٌ تَرَانِي؟ فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من الشّيطان الرجيم» . [سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 44] وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ بَعْضِ آيَاتِهِ الْبَدِيعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَقُوَّةِ تَصَرُّفِهِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِهِ فَقَالَ: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ نَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الشَّمْسِ

وَالْقَمَرِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لِأَنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ أَيْ: خَلَقَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ، لِأَنَّ جَمْعَ مَا لَا يَعْقِلُ حُكْمُهُ حُكْمُ جَمْعِ الْإِنَاثِ، أَوِ الْآيَاتِ، أَوِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ قِيلَ: كَانَ نَاسٌ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَالصَّابِئِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْكَوَاكِبَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِالسُّجُودِ لَهُمَا السُّجُودَ لِلَّهِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، فَهَذَا وَجْهُ تَخْصِيصِ ذِكْرِ السُّجُودِ بِالنَّهْيِ عنه. وقيل: وجه تخصيصه أنه أَقْصَى مَرَاتِبِ الْعِبَادَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ آيَاتِ السجود بلا خلاف، وإنما اختلفوا في موضع السَّجْدَةِ، فَقِيلَ مَوْضِعُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأَمْرِ، وَقِيلَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ لِأَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ أَيْ: إِنِ اسْتَكْبَرَ هَؤُلَاءِ عَنِ الِامْتِثَالِ فَالْمَلَائِكَةُ يُدِيمُونَ التَّسْبِيحَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَمَلُّونَ وَلَا يَفْتُرُونَ وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً الْخِطَابُ هُنَا لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ أَوْ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْخَاشِعَةُ: الْيَابِسَةُ الْجَدْبَةُ. وَقِيلَ: الْغَبْرَاءُ الَّتِي لَا تَنْبُتُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إِذَا يَبِسَتِ الْأَرْضُ وَلَمْ تُمْطِرْ قِيلَ: قَدْ خَشَعَتْ فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أَيْ: مَاءَ الْمَطَرِ، وَمَعْنَى اهْتَزَّتْ: تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ، يُقَالُ اهْتَزَّ الْإِنْسَانُ: إِذَا تَحَرَّكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَرَاهُ كَنَصْلِ السَّيْفِ يَهْتَزُّ لِلنَّدَى ... إِذَا لَمْ تَجِدْ عِنْدَ امْرِئِ السُّوءِ مَطْعَمَا وَمَعْنَى رَبَتْ: انْتَفَخَتْ وَعَلَتْ قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: رَبَتْ وَاهْتَزَّتْ، وَقِيلَ: الِاهْتِزَازُ وَالرَّبْوُ قَدْ يَكُونَانِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّبَاتِ، وَقَدْ يَكُونَانِ بَعْدَهُ، وَمَعْنَى الرَّبْوِ لُغَةً: الِارْتِفَاعُ، كَمَا يُقَالُ لِلْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ: رَبْوَةٌ وَرَابِيَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَقِيلَ: اهْتَزَّتِ اسْتَبْشَرَتْ بِالْمَطَرِ، وَرَبَتِ: انْتَفَخَتْ بِالنَّبَاتِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَخَالِدٌ «وربأت» إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ كَائِنًا مَا كَانَ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أَيْ: يَمِيلُونَ عَنِ الْحَقِّ، وَالْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ وَالْعُدُولُ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ: لِأَنَّهُ أُمِيلَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ، يُقَالُ أَلْحَدَ فِي دِينِ اللَّهِ: أَيْ مَالَ وَعَدَلَ عَنْهُ، وَيُقَالُ لَحَدَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِلْحَادِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى الْآيَةِ يَمِيلُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَمِيلُونَ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، وَاللَّغْوِ وَالْغِنَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَكْذِبُونَ فِي آيَاتِنَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُعَانِدُونَ وَيُشَاقُّونَ. قال ابْنُ زَيْدٍ يُشْرِكُونَ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ فَنُجَازِيهِمْ بِمَا يَعْمَلُونَ. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ الْجَزَاءِ وَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَقَالَ أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُلْحِدِينَ فِي الْآيَاتِ يُلْقَوْنَ فِي النَّارِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا يَأْتُونَ آمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ: أَبُو جَهْلٍ، وَمَنْ يَأْتِي آمِنًا: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: حَمْزَةُ، وَقِيلَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقِيلَ: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ هَذَا أَمْرُ تَهْدِيدٍ، أَيِ: اعْمَلُوا مِنْ أَعْمَالِكُمُ الَّتِي تُلْقِيكُمْ فِي النَّارِ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ

بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى كُلِّ مَا تَعْمَلُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ الْوَعِيدُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَخَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ لَمَّا جَاءَهُمْ يُجَازَوْنَ بِكُفْرِهِمْ، أَوْ هَالِكُونَ، أَوْ يُعَذَّبُونَ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وَهَذَا بَعِيدٌ وَإِنْ رَجَّحَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّهُ سَدَّ مَسَدَّهُ الْخَبَرُ السَّابِقُ، وَهُوَ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا وَقِيلَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ بَدَلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَهِيَ: الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا، وَخَبَرُ إِنَّ: هُوَ الْخَبَرُ السَّابِقُ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ أَيِ: الْقُرْآنُ الَّذِي كَانُوا يُلْحِدُونَ فِيهِ، أَيْ: عَزِيزٌ عَنْ أن يعارض أن يَطْعَنَ فِيهِ الطَّاعِنُونَ، مَنِيعٌ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ. ثُمَّ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ حَقٌّ لَا سَبِيلَ لِلْبَاطِلِ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَقَالَ: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ مِنْ أَنْ يُنْقَصَ مِنْهُ فَيَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، أَوْ يُزَادَ فِيهِ فَيَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ خَلْفِهِ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَمَعْنَى الْبَاطِلِ عَلَى هَذَا: الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَأْتِيهِ التَّكْذِيبُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَلَا يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِ كِتَابٌ فَيُبْطِلُهُ، وَبِهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: الْبَاطِلُ هُوَ الشَّيْطَانُ، أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ، وَلَا يَنْقُصَ مِنْهُ. وَقِيلَ: لَا يُزَادُ فِيهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، لَا مِنْ جِبْرِيلَ، وَلَا مِنْ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ هُوَ خَبَرٌ مبتدأ مَحْذُوفٍ، أَوْ صِفَةٌ أُخْرَى لِكِتَابٍ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَقْدِيمَ غَيْرِ الصَّرِيحِ مِنَ الصِّفَاتِ عَلَى الصَّرِيحِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الصِّفَةُ لِكِتَابٍ، وَجُمْلَةُ لَا يَأْتِيهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ، ثُمَّ سَلَّى سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلم عن مَا كَانَ يَتَأَثَّرُ لَهُ مِنْ أَذِيَّةِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ أَيْ: مَا يُقَالُ لَكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ وَصْفِكَ بِالسِّحْرِ وَالْكَذِبِ وَالْجُنُونِ إِلَّا مِثْلُ مَا قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ مِثْلَ مَا يَقُولُ لَكَ هَؤُلَاءِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَا يُقَالُ لَكَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ مَغْفِرَتَهُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ بَايَعُوكَ، وَبَايَعُوا مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ لِلْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعَادِينَ لِرُسُلِ اللَّهِ، وَقِيلَ: لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَذُو عِقَابٍ لِأَعْدَائِهِمْ وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا أي: لو جعلنا هذا القرآن الذي تقرؤه عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أَيْ: بُيِّنَتْ بِلُغَتِنَا فَإِنَّنَا عَرَبٌ لَا نَفْهَمُ لُغَةَ الْعَجَمِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ لِلْإِنْكَارِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ: لَقَالُوا أَكَلَامٌ أَعْجَمِيٌّ وَرَسُولٌ عَرَبِيٌّ. وَالْأَعْجَمِيُّ: الَّذِي لَا يُفْصِحُ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنَ الْعَجَمِ. وَالْأَعْجَمُ ضِدُّ الْفَصِيحِ: وَهُوَ الَّذِي لَا يُبَيِّنُ كَلَامَهُ، وَيُقَالُ لِلْحَيَوَانِ غَيْرِ النَّاطِقِ: أَعْجَمٌ. قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «ء أعجميّ» بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ، وَهِشَامٌ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْخَبَرِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ: هَلَّا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ فَجُعِلَ بَعْضُهَا أَعْجَمِيًّا لِإِفْهَامِ الْعَجَمِ، وَبَعْضُهَا عَرَبِيًّا لِإِفْهَامِ الْعَرَبِ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَهُمْ فَقَالَ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ أَيْ: يَهْتَدُونَ بِهِ إِلَى الْحَقِّ، وَيَشْتَفُونَ بِهِ مِنْ كُلِّ شَكٍّ وَشُبْهَةٍ، وَمِنَ الْأَسْقَامِ وَالْآلَامِ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ

[سورة فصلت (41) : الآيات 45 إلى 54]

أَيْ: صَمَمٌ عَنْ سَمَاعِهِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ، وَلِهَذَا تَوَاصَوْا بِاللَّغْوِ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى قَالَ قَتَادَةُ: عَمُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَصَمُّوا عَنْهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَمِيَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْهُ. وَالْمَعْنَى: وَهُوَ عَلَيْهِمْ ذُو عَمًى، أَوْ وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالِغَةِ، وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ أَوِ: الْمَوْصُولُ الثَّانِي عُطِفَ عَلَى الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ، وَوَقْرٌ: عُطِفَ عَلَى هُدًى عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ الْعَطْفَ عَلَى عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ لِلْأَوَّلِينَ هُدًى وَشِفَاءٌ، وَلِلْآخِرِينَ وَقْرٌ فِي آذَانِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ عَمًى بِفَتْحِ الْمِيمِ مُنَوَّنَةً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَابْنُ عُمَرَ: بِكَسْرِ الْمِيمِ مُنَوَّنَةً عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ مَنْقُوصٌ عَلَى أَنَّهُ وُصِفَ بِهِ مَجَازًا. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى لِقَوْلِهِ أَوَّلًا هُدىً وَشِفاءٌ وَلَمْ يَقُلْ: هَادٍ وَشَافٍ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَالْوَقْرُ عَلَيْهِمْ عَمًى، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَمَا فِي حَيِّزِهِ، وَخَبَرُهُ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ مَثَّلَ حَالَهُمْ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ فَهْمِهِمْ لِلْقُرْآنِ بِحَالِ مَنْ يُنَادَى مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ لَا يَسْمَعُ صَوْتَ مَنْ يُنَادِيهِ مِنْهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَا يَفْهَمُ كَلَامَكَ أَنْتَ تُنَادَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُنَادَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ بِآخِرِ الْآيَتَيْنِ مِنْ حم السَّجْدَةِ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَسْجُدُ بِالْأُولَى مِنْهُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ بِالْأُولَى. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قَالَ: هُوَ أَنْ يَضَعَ الْكَلَامَ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَأَخْرَجَ ابن مردويه فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ قَالَ: أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ تَمِيمٍ قال: نزلت هذه الآية في أبي جهل، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قَالَ: هَذَا لِأَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا الْآيَةَ يَقُولُ: لَوْ جَعَلْنَا الْقُرْآنَ أَعْجَمِيًّا وَلِسَانُكَ يَا مُحَمَّدُ عَرَبِيٌّ لَقَالُوا أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ تَأْتِينَا بِهِ مُخْتَلِفًا أَوْ مُخْتَلِطًا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ هَلَّا بُيِّنَتْ آيَاتُهُ فَكَانَ الْقُرْآنُ مِثْلَ اللِّسَانِ. يَقُولُ: فَلَمْ نفعل لئلا يقولوا فكانت حجة عليهم. [سورة فصلت (41) : الآيات 45 الى 54] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ يَتَضَمَّنُ تَسْلِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَمَّا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الِاغْتِمَامِ بِكُفْرِ قَوْمِهِ، وَطَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا عَادَةٌ قَدِيمَةٌ فِي أُمَمِ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ إِلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: التَّوْرَاةُ، وَالضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: فِيهِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: يَرْجِعُ إِلَى مُوسَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ أُمَّتِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى «1» لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِتَعْجِيلِ الْعَذَابِ لِمَنْ كَذَّبَ مِنْهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أَيْ: مِنَ كِتَابِكَ الْمُنَزَّلِ عَلَيْكَ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَمَعْنَى الشَّكِّ الْمُرِيبِ: الْمُوقِعِ فِي الرِّيبَةِ، أَوِ الشَّدِيدِ الرِّيبَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ الْيَهُودُ، وَأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنَ التَّوْرَاةِ مُرِيبٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ أَيْ: مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَآمَنَ بِرَسُولِهِ وَلَمْ يُكَذِّبْهُمْ فَثَوَابُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ وَنَفْعُهُ خَاصٌّ بِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أَيْ: عِقَابُ إِسَاءَتِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فَلَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبِهِ، وَلَا يَقَعُ مِنْهُ الظُّلْمُ لِأَحَدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً «2» وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «3» وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَيْضًا. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عِلْمَ الْقِيَامَةِ، وَوَقْتَ قِيَامِهَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَقَالَ: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ فَإِذَا وقع السؤال عنها وجب على المسؤول أَنْ يَرُدَّ عِلْمَهَا إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَخَبِّرْنَا مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ فنزلت، وما فِي قَوْلِهِ: وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها نافية، ومن الأولى للاستغراق، ومن الثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَقِيلَ: هِيَ مَوْصُولَةٌ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى السَّاعَةِ، أَيْ: عِلْمُ السَّاعَةِ وَعِلْمُ الَّتِي تَخْرُجُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْأَكْمَامُ جَمْعُ كِمٍّ بِكَسْرِ الْكَافِ، وَهُوَ وِعَاءُ الثَّمَرَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ظَرْفٍ لِمَالٍ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَكْمَامُهَا أَوْعِيَتُهَا، وَهِيَ مَا كَانَتْ فِيهِ الثَّمَرَةُ وَاحِدُهَا كِمٌّ وَكِمَّةٌ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْكُمُّ مَا يُغَطِّي الْيَدَ مِنَ الْقَمِيصِ، وَمَا يُغَطِّي الثَّمَرَةَ، وَجَمْعُهُ أَكْمَامٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُمَّ بِضَمِّ الْكَافِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ كُمِّ الْقَمِيصِ، وَكُمِّ الثَّمَرَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي كُمِّ الْقَمِيصِ أَنَّهُ بِالضَّمِّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فِي الْكِمِّ الَّذِي هُوَ وِعَاءُ الثَّمَرِ لُغَتَيْنِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «مِنْ ثَمَرَةٍ» بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ بِالْجَمْعِ وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أي: ما تحمل أنثى حملا

_ (1) . النحل: 61. (2) . يونس: 44. (3) . آل عمران: 182.

فِي بَطْنِهَا وَلَا تَضَعُ ذَلِكَ الْحَمْلَ إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: مَا يَحْدُثُ شَيْءٌ مِنْ خُرُوجِ ثَمَرَةٍ، وَلَا حَمْلِ حَامِلٍ، وَلَا وَضْعِ وَاضِعٍ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَائِنًا بِعِلْمِ اللَّهِ، فَإِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ كَمَا إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْ: يُنَادِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ شُرَكَائِي فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا فَادْعُوهُمُ الْآنَ فَلْيَشْفَعُوا لَكُمْ، أَوْ يَدْفَعُوا عَنْكُمُ الْعَذَابَ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ شُرَكائِي بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِهَا، وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَ مَحْذُوفٌ، أَيِ: اذْكُرْ. قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ يُقَالُ آذَنَ يَأْذَنُ: إِذَا أَعْلَمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ وَالْمَعْنَى: أَعْلَمْنَاكَ مَا مَنَّا أَحَدٌ يَشْهَدُ بِأَنَّ لَكَ شَرِيكًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا القيامة تبرؤوا مِنَ الشُّرَكَاءِ وَتَبَرَّأَتْ مِنْهُمْ تِلْكَ الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا هِيَ الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، أَيْ: مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ يَشْهَدُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُحِقِّينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أَيْ: زَالَ وَبَطَلَ فِي الْآخِرَةِ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أَيْ: أَيْقَنُوا وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ، يُقَالُ حَاصَ يَحِيصُ حَيْصًا: إِذَا هَرَبَ. وَقِيلَ: الظَّنُّ على معناه الحقيقي لأنه لهم في تلك الحال ظَنٌّ وَرَجَاءٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ أَيْ: لَا يَمَلُّ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ لِنَفْسِهِ وَجَلْبِهِ إِلَيْهِ، وَالْخَيْرُ هُنَا: الْمَالُ وَالصِّحَّةُ وَالسُّلْطَانُ وَالرِّفْعَةُ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَالْإِنْسَانُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ، وَقِيلَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقِيلَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةُ ابن خَلَفٍ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ فَلَا يُنَافِيهِ خُرُوجُ خُلَّصِ الْعِبَادِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ من دعاء المال» وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ أَيْ: وَإِنْ مَسَّهُ الْبَلَاءُ، وَالشِّدَّةُ، وَالْفَقْرُ، والمرض فيؤوس مِنْ رَوْحِ اللَّهِ قَنُوطٌ مِنْ رَحْمَتِهِ. وَقِيلَ: يؤوس مِنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِ قَنُوطٌ بِسُوءِ الظَّنِّ بِرَبِّهِ. وقيل: يؤوس مِنْ زَوَالِ مَا بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، قَنُوطٌ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ ظَنِّ دَوَامِهِ، وَهُمَا صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ شَدِيدُ الْيَأْسِ عَظِيمُ الْقُنُوطِ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أَيْ: وَلَئِنْ آتَيْنَاهُ خَيْرًا وَعَافِيَةً وَغِنًى، مِنْ بَعْدِ شِدَّةٍ وَمَرَضٍ وَفَقْرٍ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي أَيْ: هَذَا شَيْءٌ أَسْتَحِقُّهُ عَلَى اللَّهِ لِرِضَاهُ بِعَمَلِي، فَظَنَّ أَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ الَّتِي صَارَ فِيهَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقِهِ لَهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الشَّاكِرُ مِنَ الْجَاحِدِ، وَالصَّابِرُ مِنَ الْجَزِعِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ هَذَا بِعَمَلِي، وَأَنَا مَحْقُوقٌ بِهِ وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أَيْ: مَا أَظُنُّهَا تَقُومُ كَمَا يُخْبِرُنَا بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ لَسْتُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْبَعْثِ، وَهَذَا خَاصٌّ بِالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ الْجِنْسَ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ أَفْرَادِهِ، لِأَنَّ الْيَأْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطَ مِنْ خَيْرِهِ، وَالشَّكَّ فِي الْبَعْثِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِينَ، أَوِ الْمُتَزَلْزِلِينَ فِي الدِّينِ الْمُتَظَهِّرِينَ بِالْإِسْلَامِ الْمُبْطِنِينَ لِلْكُفْرِ وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي عَلَى تَقْدِيرِ صِدْقِ مَا يُخْبِرُنَا بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ وَحُصُولِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أَيْ: لَلْحَالَةُ الْحُسْنَى مِنَ الْكَرَامَةِ، فَظَنَّ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ

خَيْرَ الدُّنْيَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَاسْتَحَقَّ خَيْرَ الْآخِرَةِ بِذَلِكَ الَّذِي اعْتَقَدَهُ فِي نَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهَا، وَهُوَ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، وَظَنٌّ فَاسِدٌ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا أَيْ: لَنُخْبِرَنَّهُمْ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ شَدِيدٍ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، وَاللَّامُ هَذِهِ وَالَّتِي قَبْلَهَا هِيَ الْمُوطِئَةُ لِلْقَسَمِ وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَيْ: عَلَى هَذَا الْجِنْسِ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ أَفْرَادِهِ أَعْرَضَ عَنِ الشُّكْرِ وَنَأى بِجانِبِهِ أَيْ تَرَفَّعَ عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ، وَتَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ، وَالْجَانِبُ هُنَا مَجَازٌ عَنِ النَّفْسِ، وَيُقَالُ نَأَيْتُ وَتَنَاءَيْتُ: أَيْ: بَعُدْتُ وَتَبَاعَدْتُ، وَالْمُنْتَأَى: الْمَوْضِعُ الْبَعِيدُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ «وَنَاءَ بِجَانِبِهِ» بِالْأَلِفِ قَبْلَ الْهَمْزَةِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أَيِ: الْبَلَاءُ وَالْجَهْدُ، وَالْفَقْرُ، وَالْمَرَضُ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أَيْ: كَثِيرٍ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الطُّولَ وَالْعَرْضَ فِي الْكَثْرَةِ مَجَازًا، يُقَالُ: أَطَالَ فُلَانٌ فِي الْكَلَامِ وَأَعْرَضَ فِي الدُّعَاءِ: إِذَا أَكْثَرَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ تَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ، وَاسْتَغَاثَ بِهِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ مَا نَزَلَ بِهِ، وَاسْتَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ فِي الشِّدَّةِ وَنَسِيَهُ فِي الرَّخَاءِ وَاسْتَغَاثَ بِهِ عِنْدَ نُزُولِ النِّقْمَةِ، وَتَرَكَهُ عِنْدَ حُصُولِ النِّعْمَةِ، وَهَذَا صَنِيعُ الْكَافِرِينَ وَمَنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتِ الْقَدَمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْكُفَّارِ، وَمُحَاجَّتِهِمْ فَقَالَ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَيِ: الْقُرْآنُ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ أَيْ: كَذَّبْتُمْ بِهِ، وَلَمْ تَقْبَلُوهُ، وَلَا عَمِلْتُمْ بِمَا فِيهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أَيْ: لَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْكُمْ لِفَرْطِ شَقَاوَتِكُمْ، وَشِدَّةِ عَدَاوَتِكُمْ، وَالْأَصْلُ: أَيُّ شَيْءٍ أَضَلُّ مِنْكُمْ، فَوُضِعَ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِبَيَانِ حَالِهِمْ فِي الْمُشَاقَّةِ، وَأَنَّهَا السَّبَبُ الْأَعْظَمُ فِي ضَلَالِهِمْ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ أَيْ: سَنُرِيهِمْ دَلَالَاتِ صِدْقِ الْقُرْآنِ، وَعَلَامَاتِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ الْآفَاقُ: جَمْعُ أُفُقٍ: وَهُوَ النَّاحِيَةُ. وَالْأُفُقُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ والفاء، كذا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَنَقَلَ الرَّاغِبُ أَنَّهُ يُقَالُ أَفَقٌ بِفَتْحِهِمَا، وَالْمَعْنَى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي النَّوَاحِي وفي أنفسهم. قال ابن زيد: في الآفاق آيات السماء، وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَوَادِثَ الْأَرْضِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي الْآفَاقِ فَتْحُ الْقُرَى الَّتِي يَسَّرَ اللَّهُ فَتْحَهَا لرسوله وللخلفاء من بعده ونصّار دِينِهِ فِي آفَاقِ الدُّنْيَا شَرْقًا وَغَرْبًا، وَمِنَ الظُّهُورِ عَلَى الْجَبَابِرَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ: فَتْحِ مَكَّةَ، وَرَجَّحَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: فِي الْآفَاقِ: وَقَائِعِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: في الآفاق: يعني أقطار السموات وَالْأَرْضِ، مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ وَاللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَالرِّيَاحِ، وَالْأَمْطَارِ، وَالرَّعْدِ، وَالْبَرْقِ، وَالصَّوَاعِقِ، وَالنَّبَاتِ، وَالْأَشْجَارِ، وَالْجِبَالِ، وَالْبِحَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ لَطِيفِ الصَّنْعَةِ، وَبَدِيعِ الْحِكْمَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ «1» . حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: إِلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: إِلَى مَا يُرِيهِمُ اللَّهُ، وَيَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الرَّسُولُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ الْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَوْبِيخِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ

_ (1) . الذاريات: 21.

وبِرَبِّكَ في موضع رفع على أنه الفاعل لكيف، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ رَبِّكَ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ. وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يُغْنِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ الْمَوْعُودَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِيدٌ عَلَى جميع الأشياء. وقيل المعنى: أو لم يَكْفِ بِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى أعمال الكفار. وقيل: أو لم يَكْفِ بِرَبِّكَ شَاهِدًا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِهِ، وَالشَّهِيدُ: بِمَعْنَى الْعَالِمِ، أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ الْحُضُورُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى الْكِنَايَةِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي الدلالة، والمعنى: أو لم يَكْفِ رَبَّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ شَاهِدٌ لِلْأَشْيَاءِ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَيْ: فِي شَكٍّ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَحَاطَتْ قُدْرَتُهُ بِجَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، يُقَالُ أَحَاطَ يُحِيطُ إِحَاطَةً وَحِيطَةً، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَنَّ مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ جَازَى الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ سَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ حِينٌ وَأَجَلٌ هُمْ بَالِغُوهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها قَالَ: حِينَ تَطْلُعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: آذَنَّاكَ قَالَ: أَعْلَمْنَاكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ قَالَ: لَا يَمَلُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ قَالَ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَا يَفْتَحُ اللَّهُ مِنَ الْقُرَى وَفِي أَنْفُسِهِمْ قَالَ: فَتْحُ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمْسَكَ الْمَطَرَ عَنِ الْأَرْضِ كُلِّهَا وَفِي أَنْفُسِهِمْ قَالَ: الْبَلَايَا الَّتِي تَكُونُ فِي أَجْسَامِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانُوا يُسَافِرُونَ فَيَرَوْنَ آثَارَ عَادٍ وَثَمُودَ، فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَ مُحَمَّدٌ. وما أراهم في أنفسهم: قال الأمراض.

سورة الشورى

سورة الشّورى أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ «حم عسق» بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَجَابِرٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْهَا أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى إِلَى آخِرِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، وَالْخَطِيبُ عَنْ أَرْطَاةَ بْنِ الْمُنْذِرِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابن عباس وعنده حذيفة ابن الْيَمَانِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ تَفْسِيرِ حم عسق، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ كَرَّرَ مَقَالَتَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَكَرَّرَ مَقَالَتَهُ، ثُمَّ كَرَّرَهَا الثَّالِثَةَ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَنَا أُنْبِئُكَ بِهَا لِمَ كررتها؟ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ إِلَهٍ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ يَنْزِلُ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْمَشْرِقِ، يَبْنِي عَلَيْهِ مَدِينَتَيْنِ، يُشَقُّ النَّهْرُ بَيْنَهُمَا شَقًّا، يَجْتَمِعُ فِيهِمَا كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ فِي زَوَالِ مُلْكِهِمْ وَانْقِطَاعِ دَوْلَتِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَى إِحْدَاهُمَا نَارًا لَيْلًا فَتُصْبِحُ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً، قَدِ احْتَرَقَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَكَانَهَا، وَتُصْبِحُ صاحبتها متعجبة كيف أفلتت؟ فَمَا هُوَ إِلَّا بَيَاضُ يَوْمِهَا ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهَا وَبِهِمْ جَمِيعًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: حم عسق يَعْنِي عَزِيمَةً مِنَ اللَّهِ وَفِتْنَةً وقضاء حم. عين، يَعْنِي عَدْلًا مِنْهُ، سِينٌ: يَعْنِي سَيَكُونُ، ق: واقع لِهَاتَيْنِ الْمَدِينَتَيْنِ. أَقُولُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ وَلَا يَثْبُتُ وَمَا أَظُنُّهُ إِلَّا مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ الْمَكْذُوبَاتِ، وَالْحَامِلُ لِوَاضِعِهِ عَلَيْهِ مَا يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ عَدَاوَةِ الدُّوَلِ وَالْحَطِّ مِنْ شَأْنِهِمْ وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَسَاكِرَ قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: قُلْتُ بَلْ بِسَنَدٍ مَوْضُوعٍ وَمَتْنٍ مَكْذُوبٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: صَعِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ هَلْ سَمِعَ مِنْكُمْ أَحَدٌ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُفَسِّرُ حم عسق فَوَثَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّ حم اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، قَالَ: فَعَيْنٌ قَالَ: عَايَنَ الْمَذْكُورُ عَذَابَ يَوْمِ بدر، قال: فسين، قال: فسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. قَالَ: فَقَافٌ فَسَكَتَ، فَقَامَ أَبُو ذَرٍّ فَفَسَّرَ كما قال ابن عباس وَقَالَ: قَافٌ قَارِعَةٌ مِنَ السَّمَاءِ تُصِيبُ النَّاسَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: إِنَّهُ غَرِيبٌ عَجِيبٌ مُنْكَرٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: إِنَّهُ أَغْرَبُ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. وَعِنْدِي أَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ مكذوبان. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

قَوْلُهُ: حم عسق قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ، وَسُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ لِمَ قَطَعَ حم عسق، وَلَمْ يَقْطَعْ كهيعص فَقَالَ: لِأَنَّهَا سُوَرٌ أَوَّلُهَا حم فَجَرَتْ مَجْرَى نَظَائِرِهَا، فَكَأَنَّ حم مُبْتَدَأٌ وَعسق خَبَرُهُ، وَلِأَنَّهُمَا عَدَا آيَتَيْنِ، وَأَخَوَاتُهُمَا مِثْلُ: كهيعص وَالمر وَالمص آيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقِيلَ لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي كهيعص وَأَخَوَاتِهَا أَنَّهَا حُرُوفُ التَّهَجِّي لَا غَيْرَ، وَاخْتَلَفُوا فِي حم فَقِيلَ مَعْنَاهَا حُمَّ: أَيْ قَضَى كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ ح حِلْمُهُ وَم مَجْدُهُ، وَع عِلْمُهُ، وَس سَنَاهُ، وَق قُدْرَتُهُ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُتَكَلَّفٌ مُتَعَسَّفٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَلَا جَاءَتْ بِهِ حُجَّةٌ وَلَا شُبْهَةُ حُجَّةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ، وَالْحَقُّ مَا قَدَّمْنَاهُ لَكَ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقِيلَ: هُمَا اسْمَانِ لِلسُّورَةِ، وَقِيلَ: اسْمٌ وَاحِدٌ لَهَا، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونَانِ خَبَرَيْنِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ خَبَرًا لِذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْإِيحَاءِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمُ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ يُوحَى إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ حم عسق أو حيت إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ إِلَيْهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُوحِي بِكَسْرِ الْحَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَهُوَ اللَّهُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِفَتْحِهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ يَعُودُ عَلَى كذلك، والتقدير: مثل ذلك الإيحاء هُوَ إِلَيْكَ، أَوِ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ: إِلَيْكَ، أَوِ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ، أَيْ: يُوحَى إِلَيْكَ هَذَا اللَّفْظُ أَوِ الْقُرْآنُ أَوْ مَصْدَرُ يُوحِي، وَارْتِفَاعُ الِاسْمِ الشَّرِيفِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ يُوحِي؟ فَقِيلَ: اللَّهُ الْعَزِيزُ الحكيم. وأما قراءة الجمهور فهي واضحة اللفظة وَالْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ «1» وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَالْأَعْمَشُ وَأَبَانُ «نُوحِي» بِالنُّونِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَالْمَعْنَى: نُوحِي إِلَيْكَ هَذَا اللَّفْظَ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ هَذَا الْوَصْفَ وهو ملك جميع ما في السموات وَالْأَرْضِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَكادُ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَكَذَلِكَ «تَتَفَطَّرْنَ» قرءوه بالفوقية

_ (1) . النور: 36 و 37. [.....]

مَعَ تَشْدِيدِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ وثاب: «يكاد» يَتَفَطَّرْنَ بِالتَّحْتِيَّةِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْمُفَضَّلُ، وأبو بكر، وأبو عبيد، «ينفطرن» بِالتَّحْتِيَّةِ وَالنُّونِ مِنَ الِانْفِطَارِ كَقَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ «1» وَالتَّفَطُّرُ: التَّشَقُّقُ. قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: يَتَفَطَّرْنَ يَتَشَقَّقْنَ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ مِنْ فَوْقِهِنَّ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: تَكَادُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَتَفَطَّرُ فَوْقَ الَّتِي تَلِيهَا مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَقِيلَ مِنْ فَوْقِهِنَّ: مِنْ فَوْقِ الْأَرَضِينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمِنْ فِي «مِنْ فَوْقِهِنَّ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ: أَيْ: يَبْتَدِئُ التَّفَطُّرُ مِنْ جِهَةِ الْفَوْقِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى جَمَاعَاتِ الْكُفَّارِ، أَيْ: مِنْ فَوْقِ جَمَاعَاتِ الْكُفَّارِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَوَجْهُ تَخْصِيصِ جِهَةِ الْفَوْقِ أَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمَصْنُوعَاتِ الْبَاهِرَةِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفَّارِ مَعَ كَوْنِهَا جَاءَتْ مِنْ جِهَةِ التَّحْتِ أَثَّرَتْ فِي جِهَةِ الْفَوْقِ، فَتَأْثِيرُهَا فِي جِهَةِ التَّحْتِ بِالْأَوْلَى وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أَيْ: يُنَزِّهُونَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مُتَلَبِّسِينَ بِحَمْدِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ التَّسْبِيحَ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ، أَيْ: يَتَعَجَّبُونَ مِنْ جَرَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اللَّهِ. وَقِيلَ مَعْنَى: بِحَمْدِ رَبِّهِمْ بِأَمْرِ رَبِّهِمْ قَالَهُ السُّدِّيُّ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا «2» وَقِيلَ: الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُمْ بِمَعْنَى السَّعْيِ فِيمَا يَسْتَدْعِي الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ، وَتَأْخِيرَ عُقُوبَتِهِمْ طَمَعًا فِي إِيمَانِ الْكَافِرِ، وَتَوْبَةِ الْفَاسِقِ فَتَكُونُ الْآيَةُ عَامَّةً كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ غَيْرَ خَاصَّةٍ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانُوا دَاخِلِينَ فِيهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، أَوْ لِجَمِيعِ عِبَادِهِ فَإِنَّ تَأْخِيرَ عُقُوبَةِ الْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أَيْ: أَصْنَامًا يَعْبُدُونَهَا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أَيْ: يَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ لِيُجَازِيَهُمْ بِهَا وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أَيْ: لَمْ يُوَكِّلْكَ بِهِمْ حَتَّى تُؤَاخَذَ بِذُنُوبِهِمْ، وَلَا وُكِّلَ إِلَيْكَ هِدَايَتُهُمْ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا أَيْ: مثل ذلك الإيحاء أو حينا إِلَيْكَ، وَقُرْآنًا مَفْعُولُ أَوْحَيْنَا وَالْمَعْنَى: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا بِلِسَانِ قَوْمِكَ كَمَا أَرْسَلْنَا كُلَّ رَسُولٍ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَهِيَ: مَكَّةُ، وَالْمُرَادُ: أَهْلُهَا وَمَنْ حَوْلَها مِنَ النَّاسِ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ: لِتُنْذِرَهُمُ الْعَذَابَ وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أَيْ: وَلِتُنْذِرَ بِيَوْمِ الْجَمْعِ: وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْخَلَائِقِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ جَمْعُ الْأَرْوَاحِ بِالْأَجْسَادِ، وَقِيلَ: جَمْعُ الظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، وَقِيلَ: جَمْعُ الْعَامِلِ وَالْعَمَلِ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ: لَا شَكَّ فِيهِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَوْ صِفَةٌ لِيَوْمِ الْجَمْعِ، أَوْ حَالٌ مِنْهُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ فَرِيقٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، إِمَّا: عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وشاع الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَفْصِيلٍ، أَوْ: عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ، أَيْ: مِنْهُمْ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمِنْهُمْ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، أَوْ أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الْمَجْمُوعَيْنِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ الْجَمْعِ، أَيْ: هُمْ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «فَرِيقًا» بِالنَّصْبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْحَالِ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيِ: افْتَرَقُوا حَالَ كَوْنِهِمْ كَذَلِكَ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ النَّصْبَ عَلَى تَقْدِيرِ لِتُنْذِرَ فَرِيقًا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً

_ (1) . الانفطار: 1. (2) . غافر: 7.

قَالَ الضَّحَّاكُ: أَهْلَ دِينٍ وَاحِدٍ، إِمَّا عَلَى هُدًى وَإِمَّا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَكِنَّهُمُ افْتَرَقُوا عَلَى أَدْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالْمَشِيئَةِ الْأَزَلِيَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ: وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أَيِ: الْمُشْرِكُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَلَا نَصِيرٍ يَنْصُرُهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «1» وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها «2» وَهَاهُنَا مُخَاصَمَاتٌ بَيْنَ الْمُتَمَذْهِبِينَ الْمُحَامِينَ عَلَى مَا دَرَجَ عَلَيْهِ أَسْلَافُهُمْ فَدَبُّوا عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَلَيْسَ بِنَا إِلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَائِدَةٌ كَمَا هُوَ عَادَتُنَا فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا فَهُوَ تَفْسِيرٌ سَلَفِيٌّ يَمْشِي مَعَ الْحَقِّ وَيَدُورُ مَعَ مَدْلُولَاتِ النَّظْمِ الشَّرِيفِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ رَسَخَ قَدَمُهُ، وَتَبَرَّأَ مِنَ التَّعَصُّبِ قَلْبُهُ وَلَحْمُهُ وَدَمُهُ، وَجُمْلَةُ: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنِ انْتِفَاءِ كون للظالمين وليا ونصيرا، وأم: هَذِهِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلِ الْمُفِيدَةِ لِلِانْتِقَالِ وبالهمزة المفيدة للإنكار، أي: بل أتخذ الْكَافِرُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ مِنَ الْأَصْنَامِ يَعْبُدُونَهَا؟ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ أَيْ: هُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يَتَّخِذُوهُ وَلِيًّا، فَإِنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الضَّارُّ النَّافِعُ. وَقِيلَ الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْ أَرَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا وَلِيًّا فِي الْحَقِيقَةِ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ أَيْ: وَمِنْ شَأْنِهِ أنه يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ: يَقْدِرُ عَلَى كُلِّ مَقْدُورٍ، فَهُوَ الْحَقِيقُ بِتَخْصِيصِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعِبَادُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، فَإِنَّ حُكْمَهُ وَمَرْجِعَهُ إِلَى اللَّهِ يَحْكُمُ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحُكْمِهِ وَيَفْصِلُ خُصُومَةَ الْمُخْتَصِمِينَ فِيهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَيَتَمَيَّزُ فَرِيقُ الْجَنَّةِ وَفَرِيقُ النَّارِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ. وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ: أَيْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ يَقْضِي فِيهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَفَرَ بَعْضُهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَآمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ فَنَزَلَتْ، وَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى حُكْمِهِ إِلَى اللَّهِ: أَنَّهُ مَرْدُودٌ إِلَى كِتَابِهِ، فَإِنَّهُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى الْحُكْمِ بَيْنَ عِبَادِهِ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَتَكُونُ الْآيَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ اخْتِلَافٍ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدِّينِ أَنَّهُ يُرَدُّ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ «3» وَقَدْ حَكَمَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الدِّينَ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَالْكَافِرِينَ فِي النَّارِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ لَا يُذْعِنُونَ لِكَوْنِ ذَلِكَ حَقًّا إِلَّا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذلِكُمُ الْحَاكِمُ بِهَذَا الْحُكْمِ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ اعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِي، لَا على غيره وفوّضته في كلّ شؤوني وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أَيْ: أَرْجِعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَعْرِضُ لِي لَا إِلَى غَيْرِهِ فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ آخر لذلكم، أَوْ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَوْ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ: أَوْ: نَعْتٌ لِرَبِّي لِأَنَّ الْإِضَافَةَ مَحْضَةٌ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ فاطِرُ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلِاسْمِ الشَّرِيفِ فِي قَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ فِي عَلَيْهِ، أَوْ إليه، وأجاز الكسائي النصب على النداء، وأجازه غَيْرُهُ عَلَى الْمَدْحِ. وَالْفَاطِرُ: الْخَالِقُ الْمُبْدِعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أي: خلق لكم من جنسكم نساء،

_ (1) . الأنعام: 35. (2) . السجدة: 13. (3) . النساء: 59.

أَوِ الْمُرَادُ: حَوَّاءُ لِكَوْنِهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أَيْ: وَخَلَقَ لِلْأَنْعَامِ مِنْ جِنْسِهَا إناثا، أو: وخلق لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ أَصْنَافًا مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَهِيَ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْأَنْعَامِ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي: يبثكم، مِنَ الذَّرْءِ: وَهُوَ الْبَثُّ، أَوْ يَخْلُقُكُمْ وَيُنْشِئُكُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي يَذْرَؤُكُمْ لِلْمُخَاطَبِينَ، وَالْأَنْعَامِ إِلَّا أَنَّهُ غَلَبَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ، وَضَمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْجَعْلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ التَّدْبِيرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَابْنُ كَيْسَانَ: مَعْنَى يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يُكَثِّرُكُمْ بِهِ: أَيْ يُكَثِّرُكُمْ بِجَعْلِكُمْ أَزْوَاجًا لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ النَّسْلِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ، أَيْ: فِي الزَّوْجِ، وَقِيلَ: فِي الْبَطْنِ، وَقِيلَ: فِي الرَّحِمِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الْمُرَادُ بِذِكْرِ الْمِثْلِ هُنَا: الْمُبَالَغَةُ فِي النَّفْيِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، فَإِنَّهُ إذا نفي عمن يماثله كَانَ نَفْيُهُ عَنْهُ أَوْلَى. كَقَوْلِهِمْ: مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ، وَغَيْرُكَ لَا يَجُودُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، أَيْ: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ: إِنَّ مِثْلَ زَائِدَةٌ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَغَيْرُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ «1» أَيْ: بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بن حجر: وقتلى كمثل جذوع النّخيل ... يَغْشَاهُمْ مَطَرٌ مُنْهَمِرْ أَيْ: كَجُذُوعٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّ الْكِنَايَةَ بَابٌ مَسْلُوكٌ لِلْعَرَبِ، وَمَهْيَعٌ مَأْلُوفٌ لَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٍ ... خُلُقٌ يُوَازِيهِ فِي الْفَضَائِلِ وَقَالَ آخَرُ: عَلَى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... وَإِنْ بَاتَ مِنْ لَيْلَى عَلَى الْيَأْسِ طَاوِيَا وَقَالَ آخَرُ: سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إِذَا أَبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ ... فَمَا كَمِثْلِهِمِ فِي النَّاسِ مِنْ أَحَدِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْعَرَبُ تُقِيمُ الْمَثَلَ مَقَامَ النَّفْسِ، فَتَقُولُ: مِثْلِي لَا يُقَالُ لَهُ هَذَا، أَيْ: أَنَا لَا يُقَالُ لِي. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ مُرَجِّحًا لِزِيَادَةِ الْكَافِ: إِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْمُحَالِ، إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ لَهُ مِثْلًا وَلَيْسَ لِمِثْلِهِ مِثْلٌ، وَفِي ذَلِكَ تَنَاقُضٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ فَلِمِثْلِهِ مِثْلٌ، وَهُوَ هُوَ مَعَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْمِثْلِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مُحَالٌ، وَهَذَا تَقْرِيرٌ حَسَنٌ، وَلَكِنَّهُ يَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْكَلَامِ خَارِجًا مَخْرَجَ الْكِنَايَةِ، وَمَنْ فَهِمَ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ حَقَّ فَهْمِهَا، وَتَدَبَّرَهَا حَقَّ تَدَبُّرِهَا مَشَى بِهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الصِّفَاتِ عَلَى طَرِيقَةٍ بَيْضَاءَ وَاضِحَةٍ، وَيَزْدَادُ بَصِيرَةً إِذَا تَأَمَّلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فَإِنَّ هَذَا الْإِثْبَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ النَّفْيِ للماثل قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى بَرْدِ الْيَقِينِ، وَشِفَاءِ الصُّدُورِ، وَانْثِلَاجِ الْقُلُوبِ، فَاقْدُرْ يَا طَالِبَ الْحَقِّ قَدْرَ هَذِهِ الْحُجَّةِ النَّيِّرَةِ، وَالْبُرْهَانِ الْقَوِيِّ، فَإِنَّكَ تُحَطِّمُ بها كثيرا من البدع، وتهشم بها رؤوسا مِنَ الضَّلَالَةِ، وَتُرْغِمُ بِهَا آنَافَ طَوَائِفَ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا ضَمَمْتَ إِلَيْهِ قَوْلَ الله سبحانه: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً «2»

_ (1) . البقرة: 137. (2) . طه: 110.

[سورة الشورى (42) : الآيات 13 إلى 18]

فَإِنَّكَ حِينَئِذٍ قَدْ أَخَذْتَ بِطَرَفَيْ حَبْلِ مَا يُسَمُّونَهُ عِلْمَ الْكَلَامِ، وَعِلْمَ أُصُولِ الدِّينِ: وَدَعْ عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديث مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: خَزَائِنُهُمَا أَوْ مَفَاتِيحُهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، وَهِيَ جَمْعُ إِقْلِيدٍ، وَهُوَ الْمِفْتَاحُ جُمِعَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالَّذِي يَمْلِكُ الْمَفَاتِيحَ يَمْلِكُ الْخَزَائِنَ. ثُمَّ لَمَّا ذكر سبحانه أن بيده مقاليد السموات والأرض ذَكَرَ بَعْدَهُ الْبَسْطَ وَالْقَبْضَ فَقَالَ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أَيْ: يُوَسِّعُهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَيُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلِيمٌ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَإِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا عِلْمُهُ بِطَاعَةِ الْمُطِيعِ وَمَعْصِيَةِ الْعَاصِي، فَهُوَ يُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الله ابن عَمْرٍو. قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ. فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟ قُلْنَا لَا، إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَاءِ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ لَهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الْعِبَادِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ طَرَفًا مِنْهُ عن ابن عمر مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا الْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. قُلْتُ: بَلِ الْمَرْفُوعُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، فَقَدْ رَفَعَهُ الثِّقَةُ وَرَفْعُهُ زِيَادَةٌ ثَابِتَةٌ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَيُقَوِّي الرَّفْعَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ. قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ كِتَابٌ يَنْظُرُ فِيهِ قَالُوا: انْظُرُوا إِلَيْهِ كَيْفَ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ، قَالَ: فَعَلِمَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءِ قَبَائِلِهِمْ لَا يُزَادُ مِنْهُمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ، وَقَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنْ أعمال العباد» . [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 18] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)

الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ لأمة محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَيْ: بَيَّنَ وَأَوْضَحَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً مِنَ التَّوْحِيدِ وَدِينِ الْإِسْلَامِ وَأُصُولِ الشَّرَائِعِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا الرُّسُلُ وَتَوَافَقَتْ عَلَيْهَا الْكُتُبُ وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، وَخَصَّ مَا شرعه لنبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْإِيحَاءِ مَعَ كَوْنِ مَا بَعْدَهُ، وَمَا قَبْلَهُ مَذْكُورًا بِالتَّوْصِيَةِ لِلتَّصْرِيحِ بِرِسَالَتِهِ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى مِمَّا تَطَابَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا وَصَّى بِهِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أَيْ: تَوْحِيدَ اللَّهِ، وَالْإِيمَانَ بِهِ، وَطَاعَةَ رُسُلِهِ، وَقَبُولَ شَرَائِعِهِ، وَأَنْ: هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ: وَهِيَ وَمَا بَعْدَهَا: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا ذَلِكَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ؟ فَقِيلَ: هُوَ إِقَامَةُ الدِّينِ، أَوْ: هِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ الْمَوْصُولِ، أَوْ: فِي مَحَلِّ جَرٍّ بَدَلًا مِنَ الدِّينِ، أَوْ: هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّهُ قد تقدمها ما فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَنَّهُ شَرَعَ لَكُمْ، وَلِمَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ دِينًا وَاحِدًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي التَّوْحِيدَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَصَّاهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ، فَذَلِكَ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَ لَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي تَحْلِيلَ الْحَلَالِ، وَتَحْرِيمَ الْحَرَامِ، وَخُصَّ إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى بِالذِّكْرِ مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ أَرْبَابُ الشَّرَائِعِ. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِإِقَامَةِ الدِّينِ، نَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ فَقَالَ: وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أَيْ: لَا تَخْتَلِفُوا فِي التَّوْحِيدِ، وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَقَبُولِ شَرَائِعِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَدْ تَطَابَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ، وَتَوَافَقَتْ فِيهَا الْأَدْيَانُ، فَلَا يَنْبَغِي الْخِلَافُ فِي مِثْلِهَا، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا فُرُوعُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا الْأَدِلَّةُ، وَتَتَعَارَضُ فِيهَا الْأَمَارَاتُ، وَتَتَبَايَنُ فِيهَا الْأَفْهَامُ، فَإِنَّهَا مِنْ مَطَارِحِ الِاجْتِهَادِ، وَمَوَاطِنِ الْخِلَافِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ شَقَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَيْ: عَظُمَ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَرَفْضِ الْأَوْثَانِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَضَاقَ بِهَا إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَنْصُرَهَا، وَيُعْلِيَهَا، وَيُظْهِرَهَا، وَيُظْفِرَهَا عَلَى مَنْ نَاوَأَهَا. ثُمَّ خَصَّ أَوْلِيَاءَهُ فَقَالَ: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يَخْتَارُ، وَالِاجْتِبَاءُ: الِاخْتِيَارُ، وَالْمَعْنَى: يَخْتَارُ لِتَوْحِيدِهِ وَالدُّخُولِ فِي دِينِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أَيْ: يُوَفِّقُ لِدِينِهِ وَيَسْتَخْلِصُ لِعِبَادَتِهِ مَنْ يَرْجِعُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيُقْبِلُ إِلَى عِبَادَتِهِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ، وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ فِيهِ ذكر ما وقع من التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فَقَالَ: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ أَيْ: مَا تَفَرَّقُوا إِلَّا عَنْ عِلْمٍ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ ضَلَالَةٌ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ التَّفَرُّقَ لِلْبَغْيِ بَيْنَهُمْ بِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَشِدَّةِ الْحَمِيَّةِ، قِيلَ: الْمُرَادُ قُرَيْشٌ هُمُ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا بَعْدَ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ،

وهو محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَغْياً مِنْهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ «1» الآية، وَبِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «2» وَقِيلَ: الْمُرَادُ أُمَمُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ اخْتَلَفُوا لَمَّا طَالَ بِهِمُ الْمَدَى فَآمَنَ قَوْمٌ، وَكَفَرَ قَوْمٌ، وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى خَاصَّةً كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ «3» وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَهِيَ تَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كما في قوله: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ «4» وَقِيلَ: إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ لِعَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَالذُّلِّ وَالْقَهْرِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أَيْ: لَوَقَعَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمْ بِإِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ بِهِمْ مُعَجَّلَةً، وَقِيلَ: لَقُضِيَ بَيْنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَمَنْ كَفَرَ بِنُزُولِ الْعَذَابِ بِالْكَافِرِينَ، وَنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ مُرِيبٍ مُوقِعٍ في الريب ولذلك لَمْ يُؤْمِنُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى مِنْ بَعْدِهِمْ: مِنْ قَبْلِهِمْ: يَعْنِي مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ الْمُرَادُ كُفَّارُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ أُورِثُوا الْقُرْآنَ مِنْ بَعْدِ مَا أُورِثَ أَهْلُ الْكِتَابِ كِتَابَهُمْ، وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْقُرْآنِ مُرِيبٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أُورِثُوا وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «وُرِّثُوا» بِالتَّشْدِيدِ فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ أَيْ: فَلِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالشَّكِّ، أَوْ فَلِأَجْلِ أَنَّهُ شُرِعَ مِنَ الدِّينِ مَا شُرِعَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ أَيْ: فَادْعُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ وَاسْتَقِمْ عَلَى مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فَإِلَى ذَلِكَ فَادْعُ كَمَا تَقُولُ: دَعَوْتُ إِلَى فُلَانٍ وَلِفُلَانٍ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَصَّى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ التَّوْحِيدِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تدعوهم إِلَيْهِ فَلِذَلِكَ فَادْعُ. قَالَ قَتَادَةُ: اسْتَقِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: اسْتَقِمْ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَقِمْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ كَما أُمِرْتَ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الْبَاطِلَةَ وَتَعَصُّبَاتِهِمُ الزَّائِغَةَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى خِلَافِ مَنْ خَالَفَكَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أَيْ: بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ، لَا كَالَّذِينِ آمَنُوا بِبَعْضٍ مِنْهَا وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ إِذَا تَرَافَعْتُمْ إِلَيَّ، وَلَا أَحْيَفُ عَلَيْكُمْ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، أَوْ بِنُقْصَانٍ مِنْهُ، وَأُبَلِّغُ إِلَيْكُمْ مَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ كَمَا هُوَ، وَاللَّامُ لَامُ كَيْ، أَيْ: أُمِرْتُ بِذَلِكَ الَّذِي أَمَرْتُ بِهِ لِكَيْ أَعْدِلَ بَيْنَكُمْ، وَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: أُمِرْتُ أَنْ أَعْدِلَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أُمِرْتُ لِأُسَوِّيَ بَيْنَكُمْ فِي الدِّينِ فَأُومِنُ بِكُلِّ كِتَابٍ وَبِكُلِّ رَسُولٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمَعْنَى: أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أَيْ: إِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ، وَخَالِقُنَا وَخَالِقُكُمْ لَنا أَعْمالُنا أَيْ: ثَوَابُهَا وَعِقَابُهَا خَاصٌّ بِنَا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أَيْ: ثَوَابُهَا وَعِقَابُهَا خَاصٌّ بِكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أَيْ: لَا خُصُومَةَ بَيْنِنَا وَبَيْنَكُمْ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ ظَهَرَ وَوَضَحَ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا فِي الْمَحْشَرِ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَيِ: الْمَرْجِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ: وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. قِيلَ: الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ، وقيل: للكفار عَلَى الْعُمُومِ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي:

_ (1) . فاطر: 42. (2) . البقرة: 89. (3) . التين: 4. (4) . القمر: 46.

يُخَاصِمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتَجَابَ النَّاسُ لَهُ، وَدَخَلُوا فِيهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ بَعْدِ مَا أَسْلَمَ النَّاسُ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ تَوَهَّمُوا أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ تَعُودُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمُحَاجَّتُهُمْ قَوْلُهُمْ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمُ الْفَضِيلَةَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَأَنَّهُمْ أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وأحسن نديا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْمَوْصُولُ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ وَهِيَ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ: لَا ثَبَاتَ لَهَا كَالشَّيْءِ الَّذِي يَزُولُ عَنْ مَوْضِعِهِ، يُقَالُ: دَحَضَتْ حُجَّتُهُ دُحُوضًا: بَطَلَتْ، وَالْإِدْحَاضُ: الْإِزْلَاقُ، وَمَكَانٌ دَحْضٌ: أَيْ زَلِقٌ، وَدَحَضَتْ رِجْلُهُ: زَلِقَتْ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ أَيْ: غَضَبٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِمُجَادَلَتِهِمْ بِالْبَاطِلِ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ فِي الْآخِرَةِ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْجِنْسُ فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ خَاصَّةً، وَبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، وهو الصدق وَالمراد ب الْمِيزانَ الْعَدْلُ، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا وَسُمِّيَ الْعَدْلُ مِيزَانًا لِأَنَّ الْمِيزَانَ آلَةُ الْإِنْصَافِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: الْمِيزَانُ مَا بُيِّنَ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الطاعة بالثواب، وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ بِالْعِقَابِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمِيزَانُ نَفْسُهُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَعَلَّمَ الْعِبَادَ الْوَزْنَ بِهِ لِئَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُمْ تَظَالُمٌ وَتَبَاخُسٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ «1» وقيل: هو محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ دَارِيًا بِهَا، عَالِمًا بِوَقْتِهَا لَعَلَّهَا شَيْءٌ قَرِيبٌ، أَوْ قَرِيبٌ مَجِيئُهَا، أَوْ ذَاتُ قُرْبٍ. وَقَالَ قَرِيبٌ وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَعَلَّ الْبَعْثَ أَوْ لَعَلَّ مَجِيءَ السَّاعَةِ قَرِيبٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: قَرِيبٌ نَعْتٌ يُنْعَتُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ والمذكر كما في قوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «2» وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَكُنَّا قَرِيبًا وَالدِّيَارُ بَعِيدَةٌ ... فَلَمَّا وَصَلْنَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ غِبْنَا قِيلَ: إِنَّ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ذَكَرَ السَّاعَةَ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالُوا مَتَى تَكُونُ السَّاعَةُ؟ تَكْذِيبًا لَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها اسْتِعْجَالَ اسْتِهْزَاءٍ مِنْهُمْ بِهَا، وَتَكْذِيبًا بِمَجِيئِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها أَيْ: خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ مَجِيئِهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ عَلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَيْ: أَنَّهَا آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ «3» . ثُمَّ بَيَّنَ ضَلَالَ الْمُمَارِينَ فِيهَا فَقَالَ: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ أَيْ: يُخَاصِمُونَ فيها مخاصمة شك وريبة، من المماراة وَهِيَ: الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُجَادَلَةُ، أَوْ مِنَ الْمِرْيَةِ: وَهِيَ الشَّكُّ وَالرِّيبَةُ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عَنِ الْحَقِّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي الْمُوجِبَاتِ لِلْإِيمَانِ بِهَا مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي هِيَ مُشَاهَدَةٌ لَهُمْ مَنْصُوبَةٌ لِأَعْيُنِهِمْ مَفْهُومَةٌ لِعُقُولِهِمْ، وَلَوْ تَفَكَّرُوا لَعَلِمُوا أَنَّ الذي خلقهم ابتداء قادر على الإعادة.

_ (1) . الحديد: 25. (2) . الأعراف: 56. (3) . المؤمنون: 60. [.....]

[سورة الشورى (42) : الآيات 19 إلى 28]

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ قَالَ: اعْمَلُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ قَالَ: أَلَا تَعْلَمُوا أَنَّ الْفُرْقَةَ هَلَكَةٌ، وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ ثِقَةٌ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. قَالَ: اسْتَكْبَرَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ قِيلَ لَهُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ قَالَ: يُخْلِصُ لِنَفْسِهِ مَنْ يَشَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا يُجَادِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا اسْتَجَابُوا لِلَّهِ. وَقَالَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَكَانُوا يَتَرَبَّصُونَ بِأَنْ تَأْتِيَهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ الْآيَةَ. قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِمَنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: قَدْ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَاخْرُجُوا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ الآية. [سورة الشورى (42) : الآيات 19 الى 28] اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) قَوْلُهُ: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أَيْ: كَثِيرُ اللُّطْفِ بِهِمْ بَالِغُ الرَّأْفَةِ لَهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَطِيفٌ بِالْبَارِّ وَالْفَاجِرِ حَيْثُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ جُوعًا بِمَعَاصِيهِمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: بَارٌّ بِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: رَفِيقٌ بِهِمْ، وَقِيلَ: حفيّ بهم. وقال

_ (1) . أي: سورة النصر.

الْقُرْطُبِيُّ: لَطِيفٌ بِهِمْ فِي الْعَرْضِ وَالْمُحَاسَبَةِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُجْرِي لُطْفَهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الرِّزْقُ الَّذِي يَعِيشُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَشَاءُ، فَيُوَسِّعُ عَلَى هَذَا، وَيُضَيِّقُ عَلَى هَذَا وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَظِيمُ الْقُوَّةِ الْبَاهِرَةِ الْقَادِرَةِ الْعَزِيزُ الَّذِي يَغْلِبُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ الْحَرْثُ فِي اللُّغَةِ: الْكَسْبُ، يُقَالُ هُوَ يَحْرُثُ لِعِيَالِهِ وَيَحْتَرِثُ: أَيْ يَكْتَسِبُ. وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّجُلُ حَارِثًا، وَأَصْلُ مَعْنَى الْحَرْثِ: إِلْقَاءُ البذر في الأرض، فأطلق على ثمرات أعمال وَفَوَائِدِهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ: وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِأَعْمَالِهِ وَكَسْبِهِ ثَوَابَ الْآخِرَةِ يُضَاعِفِ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَزِيدُ فِي تَوْفِيقِهِ وَإِعَانَتِهِ وَتَسْهِيلِ سُبُلِ الْخَيْرِ لَهُ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها أَيْ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِأَعْمَالِهِ وَكَسْبِهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَهُوَ مَتَاعُهَا، وَمَا يَرْزُقُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْهَا نُعْطِهِ مِنْهَا مَا قَضَتْ بِهِ مَشِيئَتُنَا وَقُسِمَ لَهُ فِي قَضَائِنَا. قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى نُؤْتِهِ مِنْها نُقَدِّرْ لَهُ مَا قُسِمَ لَهُ كَمَا قَالَ: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ «1» . وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي عَلَى نِيَّةِ الْآخِرَةِ مَا شَاءَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا يُعْطِي عَلَى نِيَّةِ الدُّنْيَا إِلَّا الدُّنْيَا قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي الْكَافِرِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا الَّذِي يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ لِلْآخِرَةِ فَلَا نَصِيبَ لَهُ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْقَانُونَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ مَا هُوَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ الْمُوجِبُ لِلنَّارِ، وَالْهَمْزَةُ: لِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ وَالتَّقْرِيعِ، وَضَمِيرُ شَرَعُوا عَائِدٌ إِلَى الشُّرَكَاءِ، وَضَمِيرُ لَهُمْ إِلَى الْكُفَّارِ، وَقِيلَ الْعَكْسُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَعْنَى مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ وَهِيَ تَأْخِيرُ عَذَابِهِمْ حيث قال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ «2» لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي بَيْنَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، أَوْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَشُرَكَائِهِمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيِ: الْمُشْرِكِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ مُسْلِمٌ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ هُرْمُزَ بِفَتْحِهَا عَطْفًا عَلَى كَلِمَةِ الْفَصْلِ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا أَيْ خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِمَّا كَسَبُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَذَلِكَ الْخَوْفُ وَالْوَجَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا كَسَبُوا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَيْ: وَجَزَاءُ مَا كَسَبُوا وَاقِعٌ مِنْهُمْ نَازِلٌ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ أَشْفَقُوا أَوْ لَمْ يُشْفِقُوا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الظَّالِمِينَ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ رَوْضَاتٌ جَمْعُ رَوْضَةٍ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: اللُّغَةُ الْكَثِيرَةُ تَسْكِينُ الْوَاوِ، وَلُغَةُ هُذَيْلٍ فَتْحُهَا، وَالرَّوْضَةُ: الْمَوْضِعُ النَّزِهُ الْكَثِيرُ الْخُضْرَةِ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ الرُّومِ، وَرَوْضَةُ الْجَنَّةِ: أَطْيَبُ مَسَاكِنِهَا كَمَا أَنَّهَا فِي الدُّنْيَا لَأَحْسَنُ أمكنتها لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ مِنْ صُنُوفِ النِّعَمِ وَأَنْوَاعِ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَالْعَامِلُ فِي عِنْدَ رَبِّهِمْ يَشَاءُونَ، أَوِ الْعَامِلُ في روضات الجنات وهو الاستقرار،

_ (1) . الإسراء: 18. (2) . القمر: 46.

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذَكَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ قَبْلَهُ، وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهُ وَهِيَ: هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أَيِ: الَّذِي لَا يُوَصَفُ وَلَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إِلَى الْفَضْلِ الْكَبِيرِ، أَيْ: يُبَشِّرُهُمْ بِهِ. ثُمَّ وَصَفَ الْعِبَادَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهَؤُلَاءِ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ هُمُ الْمُبَشَّرُونَ بِتِلْكَ الْبِشَارَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُبَشِّرُ مُشَدَّدًا مِنْ بَشَّرَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ مِنْ أَبْشَرَ. وَقَرَأَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الشِّينِ بَعْضُ السَّبْعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْقِرَاءَاتِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَخْبَرَ بِهِ نَبِيَّهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا كِتَابُهُ أَمَرَهُ بِأَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ بِسَبَبِ هَذَا التَّبْلِيغِ ثَوَابًا مِنْهُمْ فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ جُعْلًا وَلَا نَفْعًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي بَيْنَكُمْ أَوْ تَوَدُّوا أَهْلَ قَرَابَتِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِلَّا الْمَوَدَّةَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ: أَيْ: إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي فَتَحْفَظُونِي، وَالْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَالشَّعْبِيِّ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى الِانْقِطَاعِ: لَا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا قَطُّ، وَلَكِنْ أَسْأَلُكُمُ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، ارْقُبُونِي فِيهَا وَلَا تُعَجِّلُوا إِلَيَّ وَدَعَوْنِي وَالنَّاسَ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الثَّابِتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ: هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ، وَسَيَأْتِي مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِهَذَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: مَعْنَى الْآيَةِ: إِلَّا التَّوَدُّدَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّقَرُّبَ بِطَاعَتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِمَوَدَّتِهِ، فَلَمَّا هَاجَرَ أَوَتْهُ الأنصار ونصروه، فأنزل الله عليه وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ «1» وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ «2» وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا يَتَّضِحُ بِهِ الثَّوَابُ وَيَظْهَرُ بِهِ مَعْنَى الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أَصْلُ الْقَرْفِ: الْكَسْبُ، يُقَالُ فُلَانٌ يَقْرِفُ لِعِيَالِهِ: أَيْ يَكْتَسِبُ وَالِاقْتِرَافُ: الِاكْتِسَابُ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ قِرْفَةٌ: إِذَا كَانَ مُحْتَالًا. وَالْمَعْنَى: مَنْ يَكْتَسِبْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ هَذِهِ الْحَسَنَةَ حُسْنًا بِمُضَاعَفَةِ ثَوَابِهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى مَنْ يَكْتَسِبْ حَسَنَةً وَاحِدَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا نُضَاعِفْهَا بِالْوَاحِدَةِ عَشْرًا فَصَاعِدًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ هِيَ الْمَوَدَّةُ فِي الْقُرْبَى، وَالْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى، وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْمَوَدَّةُ فِي الْقُرْبَى دُخُولًا أَوَّلِيًّا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ لِلْمُذْنِبِينَ كَثِيرُ الشُّكْرِ لِلْمُطِيعِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: غَفُورٌ لِلذُّنُوبِ شَكُورٌ لِلْحَسَنَاتِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: غَفُورٌ لِذُنُوبِ آلِ مُحَمَّدٍ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، أَيْ: بَلْ أَيَقُولُونَ افْتَرَى مُحَمَّدٌ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَالْإِنْكَارُ لِلتَّوْبِيخِ. وَمَعْنَى افْتِرَاءِ الْكَذِبِ: اخْتِلَاقُهُ. ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا فَقَالَ: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ أَيْ: لَوِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَشَاءَ عَدَمَ صُدُورِهِ مِنْهُ وَخَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ بِحَيْثُ لا يخطر

_ (1) . الشعراء: 109. (2) . سبأ: 47.

بباله شيئا مِمَّا كَذَبَ فِيهِ كَمَا تَزْعُمُونَ. قَالَ قَتَادَةُ: يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ فَيُنْسِيكَ الْقُرْآنَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَوِ افْتَرَى عَلَيْهِ لَفَعَلَ بِهِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: إِنْ يَشَأْ يَرْبِطْ عَلَى قَلْبِكَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ حَتَّى لَا يَدْخُلَ قَلْبَكَ مَشَقَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ. وَقِيلَ الْخِطِابُ لَهُ، وَالْمُرَادُ الْكُفَّارُ، أَيْ: إِنْ يَشَأْ يَخْتِمْ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ، وَيُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ حَدَّثَتْكَ نَفْسُكَ أَنْ تَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لَطَبَعَ عَلَى قَلْبِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى الْكَذِبِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَطْبُوعًا عَلَى قَلْبِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ اسْتِئْنَافٌ مُقَرِّرٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ نَفْيِ الِافْتِرَاءِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ تَامٌّ، يَعْنِي وَمَا بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: وَاللَّهُ يَمْحُو الْبَاطِلَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا تَامٌّ. وَقَوْلُهُ: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ احْتِجَاجٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: لَوْ كَانَ مَا أَتَى بِهِ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَاطِلًا لَمَحَاهُ. كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ فِي الْمُفْتَرِينَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ أَيِ الْإِسْلَامَ فَيُبَيِّنُهُ بِكَلِماتِهِ أَيْ: بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ عَالِمٌ بِمَا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الْوَاوُ مِنْ وَيَمْحُو فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ كَمَا حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ أَيْ: يَقْبَلُ مِنَ الْمُذْنِبِينَ مِنْ عِبَادِهِ تَوْبَتَهُمْ إِلَيْهِ مِمَّا عَمِلُوا مِنَ الْمَعَاصِي وَاقْتَرَفُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَالتَّوْبَةُ النَّدَمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْمُعَاوَدَةِ لَهَا. وَقِيلَ: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادِ مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ إِذَا كَانَتْ صَحِيحَةً صَادِرَةً عن خلوص نية، وعزيمة صحيحة وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ عَلَى الْعُمُومِ لِمَنْ تَابَ عَنْ سَيِّئَتِهِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ تَفْعَلُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ أبو عبيدة، وَأَبُو حَاتِمٍ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ وَقَعَ بَيْنَ خَبَرَيْنِ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْمَوْصُولُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: يَسْتَجِيبُ اللَّهُ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَيُعْطِيهِمْ مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ، يُقَالُ أَجَابَ وَاسْتَجَابَ بِمَعْنًى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَقْبَلُ عِبَادَةَ الْمُخْلِصِينَ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ، فَحُذِفَ اللَّامُ كَمَا حذف في قوله: وَإِذا كالُوهُمْ أَيْ: كَالُوا لَهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوْصُولَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ: أَيْ يُجِيبُونَ رَبَّهُمْ إِذَا دَعَاهُمْ كقوله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ «1» قَالَ الْمُبَرِّدُ: مَعْنَى وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَسْتَدْعِي الَّذِينَ آمَنُوا الْإِجَابَةَ، هَكَذَا حَقِيقَةُ مَعْنَى اسْتَفْعَلَ، فَالَّذِينَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ: يَزِيدُهُمْ عَلَى مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ، أَوْ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الثَّوَابِ تَفَضُّلًا مِنْهُ، وَقِيلَ: يُشَفِّعُهُمْ فِي إِخْوَانِهِمْ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ هَذَا لِلْكَافِرِينَ مُقَابِلًا مَا ذَكَرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيمَا قَبْلَهُ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أَيْ: لَوْ وَسَّعَ اللَّهُ لَهُمْ رِزْقَهُمْ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ: لَعَصَوْا فِيهَا، وَبَطَرُوا النِّعْمَةَ، وَتَكَبَّرُوا، وَطَلَبُوا مَا لَيْسَ لَهُمْ طَلَبُهُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ جَعَلَهُمْ سَوَاءً فِي الرِّزْقِ لَمَا انْقَادَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَلَتَعَطَّلَتِ الصَّنَائِعُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَطَرُ خَاصَّةً وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ الرِّزْقِ لِعِبَادِهِ بِتَقْدِيرٍ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ حكمته

_ (1) . الأنفال 24.

الْبَالِغَةُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ بَصِيرٌ بِمَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ تَوْسِيعِ الرِّزْقِ، وَتَضْيِيقِهِ، فَيُقَدِّرُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَا يُصْلِحُهُ، وَيَكُفُّهُ عَنِ الْفَسَادِ بِالْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ أَيِ: الْمَطَرَ الَّذِي هُوَ أَنْفَعُ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ وَأَعَمُّهَا فَائِدَةً وَأَكْثَرُهَا مَصْلَحَةً مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا أَيِسُوا عَنْ ذَلِكَ فَيَعْرِفُونَ بِهَذَا الْإِنْزَالِ لِلْمَطَرِ بَعْدَ الْقُنُوطِ مِقْدَارَ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَيَشْكُرُونَ لَهُ مَا يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَلِيُّ لِلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ لَهُمْ، وَدَفْعِ الشُّرُورِ عَنْهُمُ الْحَمِيدُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ مِنْهُمْ عَلَى إِنْعَامِهِ خُصُوصًا وَعُمُومًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ قَالَ: عَيْشَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها الْآيَةَ. قَالَ: مَنْ يُؤْثِرُ دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نَصِيبًا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارَ، وَلَمْ يَزْدَدْ بِذَلِكَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا رِزْقًا فُرِغَ مِنْهُ وَقُسِمَ لَهُ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ، وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ يَطْلُبُوا الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لَا تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْحَرْثُ حَرْثِانِ، فَحَرْثُ الدُّنْيَا الْمَالُ وَالْبَنُونَ، وَحَرْثُ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِلْتُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طريق سعيد ابن جُبَيْرٍ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي نَفْسِي لِقَرَابَتِي وَتَحْفَظُوا الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَكْثَرَ النَّاسُ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فَكَتَبْنَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ نَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَاسِطَ النَّسَبِ فِي قُرَيْشٍ لَيْسَ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِهِمْ إِلَّا وَلَهُ فِيهِ قَرَابَةٌ، فقال الله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أَنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي مِنْكُمْ، وَتَحْفَظُونِي بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَابَةٌ مِنْ جَمِيعِ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَذَّبُوهُ وَأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوهُ قَالَ: «يَا قَوْمِ إِذَا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم، وَلَا يَكُونُ غَيْرُكُمْ مِنَ الْعَرَبِ أَوْلَى بِحِفْظِي وَنُصْرَتِي مِنْكُمْ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ

عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا وَكَأَنَّهُمْ فَخَرُوا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: لَنَا الْفَضْلُ عَلَيْكُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللَّهُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَفَلَا تُجِيبُونَ؟ قَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَلَا تَقُولُونَ أَلَمْ يُخْرِجْكَ قَوْمُكَ فَآوَيْنَاكَ؟ أَلَمْ يُكَذِّبُوكَ فَصَدَّقْنَاكَ؟ أَلَمْ يَخْذُلُوكَ فَنَصَرْنَاكَ؟ فَمَا زَالَ يَقُولُ حَتَّى جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ وَقَالُوا: أَمْوَالُنَا وَمَا فِي أَيْدِينَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَنَزَلَتْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَفِي إِسْنَادِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْأَوْلَى أَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ لَا مَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ أَشَرْنَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهَذَا مُتَمَسَّكُهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَالدَّيْلَمِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أَيْ: تَحْفَظُونِي فِي أَهْلِ بَيْتِي وَتَوَدُّونَهُمْ بِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قَرَابَتُكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وجبت علينا مودّتهم؟ قال: عليّ وفاطمة وولدهما» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِمَكَّةَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ يَعْنِي: عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَجْراً عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى إِلَّا الْحِفْظَ لِي فِي قَرَابَتِي فِيكُمْ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَحَبَّ أَنْ يُلْحِقَهُ بِإِخْوَتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ «1» يَعْنِي ثَوَابَهُ وَكَرَامَتَهُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ نوح وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وَكَمَا قَالَ هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ لَمْ يَسْتَثْنُوا أَجْرًا كَمَا اسْتَثْنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا أَتَيْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا اللَّهَ وَأَنْ تَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ. هَذَا حَاصِلُ مَا رُوِيَ عَنْ حَبْرِ الْأُمَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي صَحَّ عَنْهُ، وَرَوَاهُ عَنْهُ الْجَمْعُ الْجَمُّ مِنْ تَلَامِذَتِهِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ النَّسْخِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي مَكَّةَ بِأَنْ يَوَدَّهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْقُرْبَى وَيَحْفَظُوهُ بِهَا، ثُمَّ يُنْسَخُ ذَلِكَ وَيَذْهَبُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَصْلِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ عَلَى التَّبْلِيغِ أَجْرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا يَقْوَى مَا رُوِيَ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى آلِ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى مُعَارَضَةِ مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ تِلْكَ الطُّرُقِ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ آلَ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذَا بِمَا لَهُمْ مِنَ الْفَضَائِلِ الْجَلِيلَةِ، وَالْمَزَايَا الْجَمِيلَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِنَا لِقَوْلِهِ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ «2» وَكَمَا لَا يَقْوَى هَذَا عَلَى الْمُعَارَضَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْوَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بالمودّة في القربى أن

_ (1) . سبأ: 47. (2) . الأحزاب: 33.

[سورة الشورى (42) : الآيات 29 إلى 43]

يَوَدُّوا اللَّهَ وَأَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَشُدُّ مِنْ عَضُدِ هَذَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ مَرْفُوعٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِسْنَادُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ هَكَذَا: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا قَزَعَةُ بْنُ سُوَيْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ قَزَعَةَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هَانِئٍ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ حُرَيْثٍ وَغَيْرَهُ يَقُولُونَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ الصُّفَّةِ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ أَنَّ لَنَا، فَتَمَنَّوُا الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ عليّ مثله. [سورة الشورى (42) : الآيات 29 الى 43] وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) ذكر سبحانه بعض آياته عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ الْمُوجِبَةِ لِتَوْحِيدِهِ، وَصِدْقِ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ، فَقَالَ: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: خَلْقُهُمَا عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْعَجِيبَةِ، وَالصَّنْعَةِ الْغَرِيبَةِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ يَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى خَلْقِ، وَيَجُوزُ عطفه على السموات، وَالدَّابَّةُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا دَبَّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ مَا بَثَّ فِي الْأَرْضِ دُونَ السَّمَاءِ كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «1» وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْحِ دُونَ الْعَذْبِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: تَقْدِيرُهُ وَمَا بَثَّ فِي أَحَدِهِمَا، فَحُذِفَ الْمُضَافُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ «2» وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ أَيْ: حَشْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمْعِهِمْ لَا بِقَدِيرٍ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ قَدِيرٌ إِذَا يَشَاءُ، فَتَتَعَلَّقُ الْقُدْرَةُ بِالْمَشِيئَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ. قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: وَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُ كَوْنِهِ مُحَالًا عَلَى

_ (1) . الرحمن: 22. (2) . النحل: 8.

مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَ يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ بِمَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ مَشَى كَلَامُهُ، وَلَكِنَّهُ مَذْهَبٌ رَدِيءٌ لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي: وما أَصَابَكُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ فَبِسَبَبِ مَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ «بِمَا كَسَبَتْ» بِغَيْرِ فَاءٍ، وَقَرَأَ الباقون بالفاء، وَما في أَصابَكُمْ هِيَ الشَّرْطِيَّةُ، وَلِهَذَا دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي جَوَابِهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ، وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ الْحَذْفَ كَمَا في قوله: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ «1» وَقَوْلِ الشَّاعِرُ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ وَقِيلَ: هِيَ الْمَوْصُولَةُ، فَيَكُونُ الْحَذْفُ وَالْإِثْبَاتُ جَائِزَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِثْبَاتُ الْفَاءِ أَجْوَدُ لِأَنَّ الْفَاءَ مُجَازَاةُ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَمَنْ حَذَفَ الْفَاءَ فَعَلَى أَنَّ: مَا، فِي مَعْنَى: الَّذِي، وَالْمَعْنَى: الَّذِي أَصَابَكُمْ وَقَعَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: الْمُصِيبَةُ هُنَا الْحُدُودُ عَلَى الْمَعَاصِي، وَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا يُفِيدُهُ وُقُوعُ النَّكِرَةِ فِي سياق النفي، ودخول من الاستغراقية عليها وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي يَفْعَلُهَا الْعِبَادُ فَلَا يُعَاقِبُ عَلَيْهَا، فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنِ الْعَبْدِ بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْمَصَائِبِ، وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقَدْ ثَبَتَتِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يُصَابُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، أَوْ يُكَفَّرُ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْكَافِرِينَ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ مَا يُصَابُونَ بِهِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُكَفِّرًا عنهم لذنب ولا محصلا لثواب، ويترك عُقُوبَتِهِمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَلَا يُعَاجِلُهُمْ فِي الدُّنْيَا بَلْ يُمْهِلُهُمْ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْعَفْوُ يَصْدُقُ عَلَى تَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ كَمَا يَصْدُقُ عَلَى مَحْوِ الذَّنْبِ وَرَفْعِ الْخِطَابِ بِهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذُنُوبَ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ كَفَّرَهُ عَنْهُمْ بِالْمَصَائِبِ، وَصِنْفٌ عَفَا عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ كَرِيمٌ لَا يَرْجِعُ فِي عَفْوِهِ، فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ لَا يُعَجَّلُ لَهُ عُقُوبَةُ ذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أَيْ: بِفَائِتِينَ عَلَيْهِ هَرَبًا فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ لَوْ كَانُوا فِيهَا بَلْ مَا قَضَاهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ نَازِلٌ بِهِمْ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يُوَالِيكُمْ فَيَمْنَعُ عَنْكُمْ مَا قَضَاهُ اللَّهُ وَلا نَصِيرٍ يَنْصُرُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ آيَةً أُخْرَى مِنْ آيَاتِهِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ مَا وَعَدَ بِهِ فَقَالَ: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ قَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو «الْجَوَارِي» بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ، وَأَمَّا فِي الْوَقْفِ فَإِثْبَاتُهَا عَلَى الْأَصْلِ وَحَذْفُهَا لِلتَّخْفِيفِ، وَهِيَ السُّفُنُ وَاحِدَتُهَا جَارِيَةٌ، أَيْ: سَائِرَةٌ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أَيِ: الْجِبَالِ جَمْعُ عَلَمٍ وَهُوَ الْجَبَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رأسه نار قال الْخَلِيلُ: كُلُّ شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ عَلَمٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَعْلَامُ الْقُصُورُ وَاحِدُهَا عَلَمٌ

_ (1) . الأنعام: 121.

إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِهَمْزِ يَشَأْ وَقَرَأَ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِلَا هَمْزٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرِّيحَ بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ «الرِّيَاحَ» على الجمع: أي يسكن الريح التي تجري بِهَا السُّفُنُ فَيَظْلَلْنَ أَيِ: السُّفُنُ رَواكِدَ أَيْ: سَوَاكِنَ ثَوَابِتَ عَلى ظَهْرِهِ الْبَحْرِ، يُقَالُ رَكَدَ الْمَاءُ رُكُودًا: سَكَنَ، وَكَذَلِكَ رَكَدَتِ الرِّيحُ وَرَكَدَتِ السَّفِينَةُ وَكُلُّ ثَابِتٍ فِي مَكَانٍ فَهُوَ رَاكِدٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَظْلَلْنَ بِفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى، وَقَرَأَ قَتَادَةُ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ إِنَّ فِي ذلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ السُّفُنِ لَآياتٍ دَلَالَاتٍ عَظِيمَةٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَيْ: لِكُلِّ مَنْ كَانَ كَثِيرَ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلْوَى كَثِيرَ الشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ. قَالَ قُطْرُبٌ: الصَّبَّارُ الشَّكُورُ الَّذِي إِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ. قَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَكَمْ مِنْ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ غَيْرِ شَاكِرٍ ... وَكَمْ مِنْ مُبْتَلًى غَيْرِ صَابِرٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا مَعْطُوفٌ عَلَى يُسْكِنِ: أَيْ يُهْلِكُهُنَّ بِالْغَرَقِ، وَالْمُرَادُ أَهْلَكَهُنَّ بِمَا كَسَبُوا مِنَ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: بِمَا أَشْرَكُوا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّهُ يُهْلِكُ فِي الْبَحْرِ الْمُشْرِكَ وَغَيْرَ الْمُشْرِكِ، يُقَالُ أَوْبَقَهُ: أَيْ أَهْلَكَهُ وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِهَا بِالتَّجَاوُزِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ فَيُنْجِيهِمْ مِنَ الْغَرَقِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَعْفُ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَتَبْقَى تِلْكَ السُّفُنُ رَوَاكِدَ أَوْ يُهْلِكُهَا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا فَلَا يَحْسُنُ عَطْفُ يَعْفُ عَلَى هَذَا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يَعْفُ وَلَيْسَ الْمَعْنَى ذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى الْإِخْبَارُ عَنِ الْعَفْوِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْمَشِيئَةِ فَهُوَ إِذَنْ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْزُومِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَقَدْ قَرَأَ قَوْمٌ «ويعفوا» بِالرَّفْعِ وَهِيَ جَيِّدَةٌ فِي الْمَعْنَى. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ إِذْ لَمْ يُفْهَمْ مَدْلُولُ التَّرْكِيبِ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ نَاسًا وَأَنْجَى نَاسًا عَلَى طَرِيقِ الْعَفْوِ عنهم، وقرأ الأعمش «ويعفوا» بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ: فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ وَنَأْخُذَ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجِبِّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ بِنَصْبِ وَنَأْخُذَ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ يَعْلَمَ قَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى الصَّرْفِ، قَالَ: وَمَعْنَى الصَّرْفِ صَرْفُ الْعَطْفِ عَلَى اللَّفْظِ إِلَى الْعَطْفِ عَلَى الْمَعْنَى، قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْسُنْ عَطْفُ، وَيَعْلَمَ، مَجْزُومًا عَلَى مَا قَبْلَهُ إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى: إن يشأ يعلم عَدَلَ إِلَى الْعَطْفِ عَلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا بِإِضْمَارِ أَنْ لِتَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ فِي تَأْوِيلِ اسْمٍ، وَمِنْ هَذَا بَيْتَا النَّابِغَةِ الْمَذْكُورَانِ قَرِيبًا، وَكَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَقِيلَ: النَّصْبُ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى تَعْلِيلِ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لِيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ وَيَعْلَمَ. وَاعْتَرَضَهُ أَبُو حَيَّانَ بِأَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى الشَّرْطِ إِهْلَاكُ قَوْمٍ وَنَجَاةُ قَوْمٍ فَلَا يَحْسُنُ تَقْدِيرُ لِيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ بِرَفْعِ «يَعْلَمَ» عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ ظَاهِرَةُ الْمَعْنَى وَاضِحَةُ اللَّفْظِ. وَقُرِئَ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى الْمَجْزُومِ قَبْلَهُ عَلَى مَعْنَى: وإن

يَشَأْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْإِهْلَاكِ، وَالنَّجَاةِ، وَالتَّحْذِيرِ، وَمَعْنَى مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مَا لَهُمْ مِنْ فِرَارٍ وَلَا مَهْرَبٍ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا لَهُمْ مِنْ مَلْجَأٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ حَاصَ بِهِ الْبَعِيرُ حَيْصَةً: إِذَا رَمَى بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ يَحِيصُ عَنِ الْحَقِّ، أَيْ: يَمِيلُ عَنْهُ فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ ذَكَرَ التَّنْفِيرَ عَنِ الدُّنْيَا، أَيْ: مَا أعطيتهم مِنَ الْغِنَى وَالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ فَإِنَّمَا هُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ يَنْقَضِي وَيَذْهَبُ. ثُمَّ رَغَّبَهُمْ فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فَقَالَ: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَيْ: مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ثَوَابِ الطَّاعَاتِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا بِالْجَنَّاتِ خَيْرٌ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَأَبْقَى لِأَنَّهُ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ، وَمَتَاعُ الدُّنْيَا يَنْقَطِعُ بِسُرْعَةٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ لِمَنْ هَذَا فَقَالَ: لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: صَدَقُوا وَعَمِلُوا عَلَى مَا يُوجِبُهُ الْإِيمَانُ وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أَيْ: يُفَوِّضُونَ إِلَيْهِ أُمُورَهُمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شُؤُونِهِمْ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ: أَعْنِي وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينِ آمَنُوا وَلِلَّذِينِ يَجْتَنِبُونَ. والمراد بكبائر الْإِثْمِ: الْكَبَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ كَبائِرَ بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «كَبِيرَ» بِالْإِفْرَادِ وَهُوَ يُفِيدُ مُفَادَ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلْجِنْسِ كَاللَّامِ. وَالْفَوَاحِشُ هِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّهَا مَعَ وَصْفِ كَوْنِهَا فَاحِشَةً كَأَنَّهَا فَوْقَهَا، وَذَلِكَ كَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْفَوَاحِشُ مُوجِبَاتُ الْحُدُودِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الزِّنَا وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أَيْ: يَتَجَاوَزُونَ عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي أَغْضَبَهُمْ، وَيَكْظِمُونَ الْغَيْظَ، وَيَحْمِلُونَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ، وَخُصَّ الْغَضَبُ بِالْغُفْرَانِ لِأَنَّ اسْتِيلَاءَهُ عَلَى طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَغَلَبَتَهُ عَلَيْهِ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَغْفِرُ عِنْدَ سَوْرَةِ الغصب إِلَّا مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ وَخَصَّهُ بِمَزِيَّةِ الْحِلْمِ، وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: في آل عمران وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «1» قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ: صِنْفًا يَعْفُونَ عَنْ ظَالِمِهِمْ فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ، وَصِنْفًا يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ سَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ أَيْ: أَجَابُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَأَقَامُوا مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرِيضَةِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الْأَنْصَارُ بِالْمَدِينَةِ اسْتَجَابُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ حِينَ أَنْفَذَ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْهُمْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ لِمَوَاقِيتِهَا بِشُرُوطِهَا وَهَيْئَاتِهَا وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أَيْ: يَتَشَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَا يَعْجَلُونَ، وَلَا يَنْفَرِدُونَ بِالرَّأْيِ، وَالشُّورَى مَصْدَرُ شَاوَرْتُهُ مِثْلَ الْبُشْرَى وَالذِّكْرَى. قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ تَشَاوُرُهُمْ حِينَ سَمِعُوا بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَوُرُودِ النُّقَبَاءِ إِلَيْهِمْ حِينَ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالنُّصْرَةِ لَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَشَاوُرُهُمْ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَعْرِضُ لَهُمْ فَلَا يَسْتَأْثِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِرَأْيٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ: إِذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فِاسْتَعِنْ ... برأي لبيب أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ وَلَا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غضاضة ... فريش الخوافي قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي أُمُورِهِ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ سبحانه بذلك فقال:

_ (1) . آل عمران: 134.

وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ «1» وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي آلِ عِمْرَانَ كَلَامًا فِي الشُّورَى وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أَيْ: يُنْفِقُونَهُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ وَيَتَصَدَّقُونَ بِهِ عَلَى الْمَحَاوِيجِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الطَّائِفَةَ الَّتِي تَنْتَصِرُ مِمَّنْ ظَلَمَهَا فَقَالَ: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أَيْ: أَصَابَهُمْ بَغْيُ مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الحق، ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الْمُنْتَصِرِينَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ كَمَا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ عِنْدَ الْغَضَبِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ لِأَنَّ التَّذَلُّلَ لِمَنْ بَغَى لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْعِزَّةَ حَيْثُ قال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «2» فَالِانْتِصَارُ عِنْدَ الْبَغْيِ فَضِيلَةٌ، كَمَا أَنَّ الْعَفْوَ عِنْدَ الْغَضَبِ فَضِيلَةٌ. قَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ فَيَجْتَرِئَ عَلَيْهِمُ السُّفَهَاءُ، وَلَكِنَّ هَذَا الِانْتِصَارَ مَشْرُوطٌ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ وَعَدَمِ مُجَاوَزَتِهِ كَمَا بَيَّنَهُ سُبْحَانَهُ عَقِبَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَدْلَ فِي الِانْتِصَارِ هُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ: إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالْمَجْرُوحِ يَنْتَقِمُ مِنَ الْجَارِحِ بِالْقِصَاصِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ جَوَابُ الْقَبِيحِ إِذَا قَالَ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَقُولُ أَخْزَاكَ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدِيَ، وَتَسْمِيَةُ الْجَزَاءِ سَيِّئَةً إِمَّا لِكَوْنِهَا تَسُوءُ مَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ لِتَشَابُهِهِمَا فِي الصُّورَةِ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا حَقٌّ جَائِزٌ بَيَّنَ فَضِيلَةَ الْعَفْوِ فَقَالَ: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أَيْ: مَنْ عَفَا عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَأَصْلَحَ بِالْعَفْوِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ظَالِمِهِ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَأْجُرُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأُبْهِمَ الْأَجْرُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى جَلَالَتِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَكَانَ الْعَفْوُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خُرُوجَ الظَّلَمَةِ عَنْ مَحَبَّتِهِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أَيِ: الْمُبْتَدِئِينَ بِالظُّلْمِ قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي مَنْ يَبْدَأُ بِالظُّلْمِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: لَا يُحِبُّ مَنْ يَتَعَدَّى فِي الِاقْتِصَاصِ وَيُجَاوِزُ الْحَدَّ فِيهِ لِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ ظُلْمٌ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ: بَعْدَ أَنْ ظَلَمَهُ الظَّالِمُ لَهُ، وَاللَّامُ هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لَامُ الْقَسَمِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَنْ: هِيَ الشَّرْطِيَّةُ، وَجَوَابُهُ: فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ بِمُؤَاخَذَةٍ وَعُقُوبَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ: هِيَ الْمَوْصُولَةُ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي جَوَابِهَا تَشْبِيهًا لِلْمَوْصُولَةِ بِالشَّرْطِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَلَمَّا نَفَى سُبْحَانَهُ السَّبِيلَ عَلَى مَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ بَيَّنَ مَنْ عَلَيْهِ السَّبِيلُ فَقَالَ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أَيْ: يَتَعَدَّوْنَ عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً كَذَا قَالَ الْأَكْثَرُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَيْ يَظْلِمُونَهُمْ بِالشِّرْكِ الْمُخَالِفِ لِدِينِهِمْ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ: يَعْمَلُونَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَذَا قَالَ الْأَكْثَرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَغْيُهُمْ: عَمَلُهُمْ بِالْمَعَاصِي، وَقِيلَ: يَتَكَبَّرُونَ وَيَتَجَبَّرُونَ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: هُوَ مَا يَرْجُوهُ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ غَيْرُ الْإِسْلَامِ دِينًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: لَهُمْ بِهَذَا السَّبَبِ عَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ. ثُمَّ رَغَّبَ سُبْحَانَهُ فِي الصَّبْرِ وَالْعَفْوِ فَقَالَ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ أَيْ: صَبَرَ عَلَى الْأَذَى وَغَفَرَ لِمَنْ ظَلَمَهُ وَلَمْ يَنْتَصِرْ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ اللَّامِ وَمَنْ كَالْكَلَامِ فِي وَلَمَنِ انْتَصَرَ (إِنَّ ذَلِكَ) الصَّبْرَ وَالْمَغْفِرَةَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ

_ (1) . آل عمران: 159. (2) . المنافقون: 8. [.....]

أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ فَحُذِفَ لِظُهُورِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ قَالَ مُقَاتِلٌ: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَقَالُ الزَّجَّاجُ: الصَّابِرُ يُؤْتَى بِصَبْرِهِ ثَوَابًا، فَالرَّغْبَةُ فِي الثَّوَابِ أَتَمُّ عَزْمًا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَنْسُوخٌ بِالْجِهَادِ، وَأَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ عَامٌّ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: فَمَا لَهُ مِنْ أَحَدٍ يَلِي هِدَايَتَهُ وَيَنْصُرُهُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ، وَقِيلَ: هِيَ خَاصَّةٌ بِمَنْ أَعْرَضَ عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم ولم يعمل بما دعاه مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْعَمَلِ بِمَا شَرَعَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ منيع، وعبد بن حميد، والحكيم، والترمذي، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَدَّثَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وَسَأُفَسِّرُهَا لَكَ يَا عَلِيُّ: مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْكُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، وَقَرَأَ وَما أَصابَكُمْ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْكَفَّارَاتِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ قَدِ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ: إِنَّا لَنَبْتَئِسُ لَكَ لِمَا نَرَى فِيكَ، قَالَ: فَلَا تَبْتَئِسْ لِمَا تَرَى، فَإِنَّ مَا تَرَى بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَى آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي جَسَدِهِ يؤذيه إلا كفّر الله عنه به من سَيِّئَاتِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلَا اخْتِلَاجُ عِرْقٍ وَلَا خَدْشُ عُودٍ إِلَّا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ قَالَ: يَتَحَرَّكْنَ وَلَا يَجْرِينَ فِي الْبَحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: رَوَاكِدَ قَالَ: وُقُوفًا أَوْ يُوبِقْهُنَّ قَالَ: يُهْلِكْهُنَّ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: «دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ وَعِنْدِي رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَتْ عَلَيَّ فَسَبَّتْنِي، فَرَدَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَلَمْ تَنْتَهِ، فَقَالَ لِي: سُبِّيهَا، فَسَبَبْتُهَا حَتَّى جَفَّ رِيقُهَا فِي فَمِهَا، وَوَجْهُ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ سُرُورًا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا مِنْ شَيْءٍ فَعَلَى الْبَادِئِ حَتَّى يَعْتَدِيَ الْمَظْلُومُ» ثُمَّ قَرَأَ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهِ مُنَادِيًا يُنَادِي أَلَا لِيَقُمْ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ، فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا فِي الدُّنْيَا» وَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُنَادِي

[سورة الشورى (42) : الآيات 44 إلى 53]

مُنَادٍ مَنْ كَانَ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اللَّهِ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ مَرَّتَيْنِ، فَيَقُومُ مَنْ عَفَا عَنْ أَخِيهِ، قَالَ اللَّهُ فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» . [سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 53] وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) قَوْلُهُ: وَتَرَى الظَّالِمِينَ أَيِ: الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أَيْ: حِينَ نَظَرُوا النَّارَ، وَقِيلَ: نَظَرُوا مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ أَيْ: هَلْ إِلَى الرَّجْعَةِ إِلَى الدُّنْيَا مِنْ طَرِيقٍ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أَيْ: سَاكِنِينَ مُتَوَاضِعِينَ عِنْدَ أَنْ يُعْرَضُوا عَلَى النَّارِ لِمَا لَحِقَهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهَا رَاجِعٌ إِلَى الْعَذَابِ وَأَنَّثَهُ لِأَنَّ الْعَذَابَ هُوَ النَّارُ وَقَوْلُهُ: يُعْرَضُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ خَاشِعِينَ، وَمِنَ الذُّلِّ: يَتَعَلَّقُ بِخَاشِعِينَ، أَيْ: مِنْ أَجْلِهِ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ مِنْ: هِيَ الَّتِي لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ: يَبْتَدِئُ نَظَرُهُمْ إِلَى النَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةً، وَالطَّرْفُ الْخَفِيُّ: الَّذِي يُخْفَى نَظَرُهُ كَالْمَصْبُورِ يَنْظُرُ إِلَى السَّيْفِ لِمَا لَحِقَهُمْ مِنَ الذُّلِّ، وَالْخَوْفِ، وَالْوَجَلِ. قَالَ مُجَاهِدٌ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أَيْ: ذَلِيلٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا، وَعَيْنُ الْقَلْبِ طَرْفٌ خِفِّيٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْقُرَظِيُّ: يُسَارِقُونَ النَّظَرَ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ. وَقَالَ يُونُسُ: إِنَّ مِنَ فِي مِنْ طَرْفٍ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ: يَنْظُرُونَ بِطَرْفٍ ضَعِيفٍ مِنَ الذُّلِّ وَالْخَوْفِ وَبِهِ قَالَ الْأَخْفَشُ: وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: إن الكاملين في الخسران: هم هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ خُسْرَانِ الْأَنْفُسِ وَالْأَهْلِينَ في يوم القيامة. أما خُسْرَانُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ فَلِكَوْنِهِمْ صَارُوا فِي النَّارِ مُعَذَّبِينَ بِهَا، وَأَمَّا خُسْرَانُهُمْ لِأَهْلِيهِمْ فَلِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مَعَهُمْ فِي النَّارِ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْجَنَّةِ فَقَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَقِيلَ خُسْرَانُ الْأَهْلِ: أَنَّهُمْ لَوْ

آمَنُوا لَكَانَ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَهْلٌ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: هُمْ فِي عَذَابٍ دَائِمٍ لَا يَنْقَطِعُ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَعْوَانٌ يَدْفَعُونَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَأَنْصَارٌ يَنْصُرُونَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، بَلْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ أَيْ: مِنْ طَرِيقٍ يَسْلُكُهَا إِلَى النَّجَاةِ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ وَحَذَّرَهُمْ فَقَالَ: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أَيِ: اسْتَجِيبُوا دَعْوَتَهُ لَكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَبِكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ وَدَفْعِهِ، عَلَى مَعْنَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ اللَّهِ يَوْمٌ لَا يَرُدُّهُ أَحَدٌ، أَوْ لَا يَرُدُّهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَوَعَدَهُمْ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَوْ: يَوْمُ الْمَوْتِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ تلجؤون إِلَيْهِ، وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أَيْ: إِنْكَارٍ، وَالْمَعْنَى: مَا لَكُمْ مِنْ إِنْكَارٍ يَوْمَئِذٍ، بَلْ تَعْتَرِفُونَ بِذُنُوبِكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أَيْ: نَاصِرٍ يَنْصُرُكُمْ، وَقِيلَ: النَّكِيرُ بِمَعْنَى الْمُنْكِرِ، كَالْأَلِيمِ بِمَعْنَى الْمُؤْلِمِ، أَيْ: لَا تَجِدُونَ يَوْمَئِذٍ مُنْكِرًا لِمَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُنْكِرُوا الذُّنُوبَ الَّتِي يُوقَفُونَ عَلَيْهَا فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أَيْ: حَافِظًا تَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ حَتَّى تُحَاسِبَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا مُوَكَّلًا بِهِمْ رَقِيبًا عَلَيْهِمْ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أَيْ: مَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ لِمَا أُمِرْتَ بِإِبْلَاغِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها أَيْ: إِذَا أَعْطَيْنَاهُ رَخَاءً وَصِحَّةً وَغِنًى فَرِحَ بِهَا بَطَرًا، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ، وَلِهَذَا قَالَ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أَيْ: بَلَاءٌ وَشِدَّةٌ وَمَرَضٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أَيْ: كَثِيرُ الْكُفْرِ لِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ، غَيْرُ شَكُورٍ لَهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ غَالِبِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ سَعَةَ مُلْكِهِ وَنَفَاذَ تَصَرُّفِهِ فَقَالَ: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِمَا بِمَا يُرِيدُ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ مِنَ الْخَلْقِ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا لَا ذُكُورَ مَعَهُنَّ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ ذُكُورًا لَا إِنَاثَ مَعَهُمْ. قِيلَ: وَتَعْرِيفُ الذُّكُورِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شَرَفِهِمْ عَلَى الْإِنَاثِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ التَّقْدِيمَ لِلْإِنَاثِ قَدْ عَارَضَ ذَلِكَ، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْمُفَاضَلَةِ بَلْ هِيَ مَسُوقَةٌ لِمَعْنًى آخَرَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى شَرَفِ الذُّكُورِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ «1» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى شَرَفِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَقِيلَ: تَقْدِيمُ الْإِنَاثِ لِكَثْرَتِهِنَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذُّكُورِ، وَقِيلَ: لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ آبَائِهِنَّ، وَقِيلَ: لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً أَيْ: يَقْرِنُ بَيْنَ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ وَيَجْعَلُهُمْ أَزْوَاجًا فَيَهَبُهُمَا جَمِيعًا لِبَعْضِ خَلْقِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَنْ تَلِدَ الْمَرْأَةُ غُلَامًا، ثُمَّ تَلِدُ جَارِيَةً، ثُمَّ تَلِدُ غُلَامًا، ثُمَّ تَلِدُ جَارِيَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بن الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ أَنْ تَلِدَ تَوْأَمًا غُلَامًا وَجَارِيَةً. وقال القتبي: التزويج هنا: هو الجمع بين البنين

_ (1) . النساء: 34.

وَالْبَنَاتِ تَقُولُ الْعَرَبُ: زَوَّجْتُ إِبِلِي: إِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُخْتَلَفَ فِي مِثْلِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَهَبُ لِبَعْضِ خَلْقِهِ إِنَاثًا، وَيَهَبُ لِبَعْضٍ ذُكُورًا، وَيَجْمَعُ لِبَعْضٍ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً لَا يُولَدُ لَهُ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى، وَالْعَقِيمُ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ، يُقَالُ رَجُلٌ عَقِيمٌ وَامْرَأَةٌ عَقِيمٌ، وَعَقَمَتِ الْمَرْأَةُ تَعْقُمُ عُقْمًا، وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ، وَيُقَالُ نِسَاءٌ عُقْمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عُقِمَ النِّسَاءُ فَمَا يَلِدْنَ شَبِيهَهُ ... إِنَّ النِّسَاءَ بِمِثْلِهِ عُقْمُ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أَيْ: بَلِيغُ الْعِلْمِ عَظِيمُ الْقُدْرَةِ وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَيْ: مَا صَحَّ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِأَنْ يُوحِيَ إِلَيْهِ فَيُلْهِمَهُ وَيَقْذِفَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ: نَفَثَ يَنْفُثُ فِي قَلْبِهِ، فَيَكُونُ إِلْهَامًا مِنْهُ كَمَا أَوْحَى إِلَى أَمِّ مُوسَى، وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى، يُرِيدُ أَنَّ كَلَامَهُ يُسْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَا يُرَى، وَهُوَ تَمْثِيلٌ بِحَالِ الْمَلِكِ الْمُحْتَجِبِ الَّذِي يُكَلِّمُ خَوَاصَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ أَيْ: يُرْسِلَ مَلَكًا، فَيُوحِيَ ذَلِكَ الْمَلَكُ إِلَى الرَّسُولِ مِنَ الْبَشَرِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ مَا يَشَاءُ أَنْ يُوحِيَ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لِلْبَشَرِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِلْهَامٍ يُلْهِمُهُمْ، أَوْ يُكَلِّمُهُمْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى، أَوْ بِرِسَالَةِ مَلَكٍ إِلَيْهِمْ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُوحِيَ وَحْيًا، أَوْ يُكَلِّمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. وَمَنْ قَرَأَ «يُرْسِلُ» رَفْعًا أَرَادَ وَهُوَ يُرْسِلُ، فَهُوَ ابْتِدَاءٌ وَاسْتِئْنَافٌ اه. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ أَوْ يُرْسِلَ وَبِنَصْبِ فَيُوحِيَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ، وَتَكُونُ أَنْ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَعْطُوفَيْنِ عَلَى وَحْيًا، وَوَحْيًا فِي مَحَلِّ الحال، والتقدير: أو مُوحِيًا أَوْ مُرْسِلًا، وَلَا يَصِحُّ عَطْفُ أَوْ يُرْسِلَ عَلَى أَنْ يُكَلِّمَهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ رَسُولًا، وَهُوَ فَاسِدٌ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ غَيْرُ هَذَا مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ «أَوْ يُرْسِلُ» بِالرَّفْعِ، وَكَذَلِكَ «فَيُوحِي» بِإِسْكَانِ الْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ هُوَ يُرْسِلُ، كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: مُتَعَالٍ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ، حَكِيمٌ فِي كُلِّ أَحْكَامِهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تُكَلِّمُ اللَّهَ وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى، فَنَزَلَتْ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا أَيْ: وَكَالْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، الْمُرَادُ بِهِ: الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْوَحْيَ بِأَمْرِنَا وَمَعْنَاهُ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ، فَفِيهِ حَيَاةٌ مِنْ مَوْتِ الْكُفْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ صِفَةَ رَسُولِهِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ، لأنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ، وَلَا يَكْتُبُ وَذَلِكَ أُدْخِلَ فِي الْإِعْجَازِ، وَأَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ نَبُّوتِهِ، وَمَعْنَى وَلَا الْإِيمانُ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ الشَّرَائِعِ وَلَا يَهْتَدِي إِلَى مَعَالِمِهَا، وَخُصُّ الْإِيمَانُ لِأَنَّهُ رَأْسُهَا وَأَسَاسُهَا، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْإِيمَانِ هُنَا الصَّلَاةَ. قَالَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْهُمْ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تعالى:

وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «1» يَعْنِي الصَّلَاةَ، فَسَمَّاهَا إِيمَانًا. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا وَقَدْ كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ، وَقَالُوا مَعْنَى الْآيَةِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي قَبْلَ الْوَحْيِ كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَلَا كَيْفَ تَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ الْبُلُوغِ حِينَ كَانَ طِفْلًا وَفِي الْمَهْدِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: إِنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَلَا أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: الْإِيمَانُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقْرَارِ بِكُلِّ مَا كَلَّفَ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ أَيْ وَلَكِنْ جَعَلْنَا الرُّوحَ الَّذِي أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ ضِيَاءً وَدَلِيلًا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ عِبادِنا وَنُرْشِدُهُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَتَهْدِي عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ حَوْشِبٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ ابن السميقع بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ مِنْ أَهْدَى، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ «وَإِنَّكَ لَتَدْعُو» ثُمَّ بَيَّنَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بِقَوْلِهِ: صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَفِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ لِلصِّرَاطِ إِلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ مِنَ التَّعْظِيمِ لَهُ، وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهِ مَا لَا يَخْفَى، وَمَعْنَى لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِذَلِكَ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أَيْ: تَصِيرُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا إِلَى غَيْرِهِ جَمِيعُ أُمُورِ الْخَلَائِقِ، وَفِيهِ وَعِيدٌ بِالْبَعْثِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمُجَازَاةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ قَالَ: ذَلِيلٍ. وَأَخْرَجَ عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ المنذر عن محمد ابن كَعْبٍ قَالَ: يُسَارِقُونَ النَّظَرَ إِلَى النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِنْ بَرَكَةِ الْمَرْأَةِ ابْتِكَارُهَا بِالْأُنْثَى، لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً قَالَ: الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً قَالَ: إِلَّا أَنْ يَبْعَثَ مَلَكًا يُوحِي إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِهِ، أَوْ يُلْهِمَهُ فَيَقْذِفُ فِي قَلْبِهِ، أَوْ يُكَلِّمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا قَالَ: الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قِيلَ لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ هَلْ عَبَدْتَ وَثَنًا قَطُّ؟ قَالَ لَا: قَالُوا: فَهَلْ شَرِبْتَ خَمْرًا قَطُّ؟ قَالَ لَا، وَمَا زِلْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ كُفْرٌ، وَمَا كُنْتُ أَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، وَبِذَلِكَ نَزَلَ الْقُرْآنُ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ.

_ (1) . البقرة: 143.

سورة الزخرف

سورة الزّخرف قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ حم الزُّخْرُفِ بِمَكَّةَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا قَوْلَهُ: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا يَعْنِي فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) قَوْلُهُ: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ الْكَلَامُ هَاهُنَا فِي الْإِعْرَابِ كَالْكَلَامِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ فَإِنْ جُعِلَتْ حم قَسَمًا كَانَتِ الْوَاوُ عَاطِفَةً، وَإِنْ لَمْ تُجْعَلْ قَسَمًا فَالْوَاوُ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ إِنَّا جَعَلْناهُ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَنْ جَعَلَ جَوَابَ وَالْكِتَابِ حم كَمَا تَقُولُ: نَزَلَ وَاللَّهِ، وَجَبَ وَاللَّهِ وَقَفَ عَلَى الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَمَعْنَى جَعَلْنَاهُ: أَيْ سَمَّيْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَعْنَى أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْنَاهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَيَّنَّاهُ عَرَبِيًّا وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ، أَيْ: أُنْزِلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُنْزِلَ كِتَابُهُ بِلِسَانِ قَوْمِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِأَنَّ لِسَانَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ: جَعَلْنَا ذَلِكَ الْكِتَابَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِكَيْ تَفْهَمُوهُ وَتَتَعَقَّلُوا مَعَانِيَهُ وَتُحِيطُوا بِمَا فِيهِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ أَيْ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَدَيْنا أَيْ: عِنْدَنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ

رَفِيعُ الْقَدْرِ مُحْكَمُ النَّظْمِ لَا يُوجَدُ فِيهِ اختلاف، ولا تناقض، وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُقْسَمِ بِهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ مَعْنَى الْقَسَمِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أُمُّ الْكِتَابِ أَصْلُ الْكِتَابِ، وَأَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ: أُمُّهُ، وَالْقُرْآنُ مُثْبَتٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَمَا قَالَ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «1» وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ أَعْمَالُ الْخَلْقِ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ. قَالَ قَتَادَةُ: أَخْبَرَ عَنْ مَنْزِلَتِهِ وَشَرَفِهِ وَفَضْلِهِ، أَيْ: إِنْ كَذَّبْتُمْ بِهِ يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّهُ عِنْدَنَا شَرِيفٌ رَفِيعٌ مُحْكَمٌ مِنَ الْبَاطِلِ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً يُقَالُ ضَرَبْتُ عَنْهُ وَأَضْرَبْتُ عَنْهُ: إِذَا تَرَكْتُهُ وَأَمْسَكْتُ عَنْهُ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا، وَانْتِصَابُ صَفْحًا: عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ عَلَى مَعْنَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَافِحِينَ، وَالصَّفْحُ مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: صَفَحْتُ عَنْهُ إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّكَ تُوَلِّيهِ صَفْحَةَ وجهك وعنقك، والمراد بِالذِّكْرِ هُنَا الْقُرْآنُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْمَعْنَى أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ طَيًّا، فَلَا تُوعَظُونَ وَلَا تُؤْمَرُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالسُّدِّيُّ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ وَلَا نُعَاقِبُكُمْ عَلَى إسرافكم وكفركم. وقال قتادة: المعنى أفنهلككم وَلَا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَنْهَاكُمْ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى أَفَنُمْسِكُ عَنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِهِ. وَقِيلَ الذِّكْرُ: التَّذْكِيرُ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنَتْرُكُ تَذْكِيرَكُمْ أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ، قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ إِنْ كُنْتُمْ بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى أَنَّهَا الشَّرْطِيَّةُ، وَالْجَزَاءُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى التَّعْلِيلِ، أَيْ: لِأَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُنْهَمِكِينَ فِي الْإِسْرَافِ مُصِرِّينَ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ الْفَتْحِ. ثُمَّ سَلَّى سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ كَمْ هِيَ الْخَبَرِيَّةُ الَّتِي مَعْنَاهَا التَّكْثِيرُ، وَالْمَعْنَى: مَا أَكْثَرَ مَا أَرْسَلْنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كَاسْتِهْزَاءِ قَوْمِكَ بِكَ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أَيْ: أَهْلَكْنَا قَوْمًا أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَانْتِصَابُ بَطْشًا: عَلَى التَّمْيِيزِ، أَوِ الْحَالِ، أَيْ: بَاطِشِينَ وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: سَلَفَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عُقُوبَتُهُمْ، وَقِيلَ: صِفَتُهُمْ، وَالْمَثَلُ الْوَصْفُ وَالْخَبَرُ، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْأَوَّلِينَ أُهْلِكُوا بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَهَؤُلَاءِ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِكَ وَالْكُفْرِ بِمَا جِئْتَ بِهِ هَلَكُوا مِثْلَهُمْ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أَيْ: لَئِنْ سَأَلْتَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مِنْ قَوْمِكَ مَنْ خَلَقَ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْعُلْوِيَّةَ وَالسُّفْلِيَّةَ أَقَرُّوا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُنَّ وَلَمْ يُنْكِرُوا، وَذَلِكَ أَسْوَأُ لِحَالِهِمْ وَأَشَدُّ لِعُقُوبَتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا بَعْضَ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، وَجَعَلُوهُ شَرِيكًا لَهُ، بَلْ عَمَدُوا إِلَى مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وهي: الأصنام فجعلوها شركاء لله. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ نِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ فِي مخلوقاته فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِمَا قَبْلَهُ، وَلَوْ كَانَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَقُولِ الْكُفَّارِ لَقَالُوا الَّذِي جَعَلَ لَنَا الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ وَالْبِسَاطُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «مِهَادًا» وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أَيْ: طُرُقًا تَسْلُكُونَهَا إِلَى حَيْثُ تُرِيدُونَ، وَقِيلَ: مَعَايِشَ تَعِيشُونَ بِهَا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

_ (1) . البروج: 21- 22.

بِسُلُوكِهَا إِلَى مَقَاصِدِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ أَيْ: بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَحَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ وَلَمْ يُنْزِلْ عَلَيْكُمْ مِنْهُ فَوْقَ حَاجَتِكُمْ حَتَّى يُهْلِكَ زَرَائِعَكُمْ وَيَهْدِمَ مَنَازِلَكُمْ وَيُهْلِكَكُمْ بِالْغَرَقِ، وَلَا دُونَهَا حَتَّى تَحْتَاجُوا إِلَى الزِّيَادَةِ، وَعَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ فِي أَرْزَاقِ عِبَادِهِ بِالتَّوْسِيعِ تَارَةً وَالتَّقْتِيرِ أُخْرَى فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أَيْ: أَحْيَيْنَا بِذَلِكَ الْمَاءِ بَلْدَةً مُقْفِرَةً مِنَ النَّبَاتِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَيْتاً بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ عِيسَى، وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالتَّشْدِيدِ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ، أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْإِحْيَاءِ لِلْأَرْضِ بِإِخْرَاجِ نَبَاتِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لَا نَبَاتَ بِهَا تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً، فَإِنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ، وَالْأَعْرَافِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تُخْرَجُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، ويحيى ابن وَثَّابٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها الْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ هُنَا: الْأَصْنَافُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْأَصْنَافُ كُلُّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ، والليل والنهار، والسموات وَالْأَرْضُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَقِيلَ: أَزْوَاجُ الْحَيَوَانِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَقِيلَ: أَزْوَاجُ النَّبَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ «1» ومِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ «2» وَقِيلَ: مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ، أَيْ: مَا تَرْكَبُونَهُ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَضَافَ الظُّهُورَ إِلَى وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، فَصَارَ الْوَاحِدُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ فَلِذَلِكَ ذُكِرَ، وَجُمِعَ الظَّهْرُ لِأَنَّ الْمُرَادَ: ظُهُورُ هَذَا الْجِنْسِ، وَالِاسْتِوَاءُ: الِاسْتِعْلَاءُ، أَيْ: لِتَسْتَعْلُوا عَلَى ظُهُورِ مَا تَرْكَبُونَ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ: هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ مِنْ تَسْخِيرِ ذَلِكَ الْمَرْكَبِ فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ أَنْ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي هَذَا، وَحَمَلَنِي عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا أي: ذلل هَذَا الْمَرْكَبَ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ «سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَ لَنَا هَذَا» قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ كَيْفَ تَقُولُونَ إِذَا رَكِبْتُمْ، وَمَعْنَى وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ مَا كُنَّا لَهُ مُطِيقِينَ، يُقَالُ أَقْرَنَ هَذَا الْبَعِيرَ: إِذَا أَطَاقَهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: مُقْرِنِينَ ضَابِطِينَ، وَقِيلَ: مُمَاثِلِينَ لَهُ فِي الْقُوَّةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ قِرْنُ فُلَانٍ إِذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الْقُوَّةِ، وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ ... لَنَا فِي النّائبات بمقرنينا وقال آخر: ركبتم صعبتي أشرا وحيفا ... وَلَسْتُمْ لِلصِّعَابِ بِمُقْرِنِينَا وَالْمُرَادُ بِالْأَنْعَامِ هُنَا: الْإِبِلُ خَاصَّةً، وَقِيلَ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أَيْ: رَاجِعُونَ إِلَيْهِ، وَهَذَا تَمَامُ مَا يُقَالُ عِنْدَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ أَوِ السَّفِينَةِ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى ذِكْرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، فَقَالَ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ عِدْلًا، يَعْنِي ما عبد من دون الله. وقال

_ (1) . ق: 7. (2) . الشعراء: 7.

الزَّجَّاجُ وَالْمُبَرِّدُ: الْجُزْءُ هُنَا الْبَنَاتُ، وَالْجُزْءُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ الْبَنَاتُ، يُقَالُ قَدْ أَجَزَأَتِ الْمَرْأَةُ: إِذَا وَلَدَتِ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبٌ ... قَدْ تُجْزِئُ الْمِذْكَارَ أَحْيَانًا وَقَدْ جَعَلَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ تَفْسِيرَ الْجُزْءِ بِالْبَنَاتِ مِنْ بِدَعِ التَّفْسِيرِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ مَكْذُوبٌ عَلَى الْعَرَبِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ الزَّجَّاجُ وَالْمُبَرِّدُ، وَهُمَا إِمَامَا اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَحَافِظَاهَا وَمَنْ إِلَيْهِمَا الْمُنْتَهَى فِي مَعْرِفَتِهَا، وَيُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ الْجُزْءِ بِالْبَنَاتِ مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَقَوْلِهِ: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ وَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً وَقِيلَ: المراد بالجزء هنا الملائكة فإنهم جعلوهم أولادا لله سُبْحَانَهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْ عِبَادِهِ نَصِيبًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا نَصِيبَ اللَّهِ مِنَ الْوِلْدَانِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أَيْ: ظَاهِرُ الْكُفْرَانِ مُبَالِغٌ فِيهِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْكَافِرُ، فَإِنَّهُ الَّذِي يَجْحَدُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ جُحُودًا بَيِّنًا. ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَذَا فَقَالَ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ. وَأَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْمَعْنَى: أَتَّخَذَ رَبُّكُمْ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتِ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ فَجَعَلَ لِنَفْسِهِ الْمَفْضُولَ مِنَ الصِّنْفَيْنِ وَلَكُمُ الْفَاضِلُ مِنْهُمَا، يُقَالُ: أَصْفَيْتُهُ بِكَذَا، أَيْ: آثَرْتُهُ بِهِ، وَأَصْفَيْتُهُ الْوُدَّ: أَخْلَصْتُهُ لَهُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «1» وقوله: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَجُمْلَةُ وَأَصْفَاكُمْ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى اتَّخَذَ دَاخِلَةٌ مَعَهَا تَحْتَ الْإِنْكَارِ. ثُمَّ زَادَ فِي تَقْرِيعِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ فَقَالَ: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أَيْ: بِمَا جَعَلَهُ لِلرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ مِنْ كَوْنِهِ جَعَلَ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِأَنَّهَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ اغْتَمَّ لِذَلِكَ وَظَهَرَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أَيْ: صَارَ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا بِسَبَبِ حُدُوثِ الْأُنْثَى لَهُ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْحَادِثُ لَهُ ذَكَرًا مَكَانَهَا وَهُوَ كَظِيمٌ أَيْ شَدِيدُ الْحُزْنِ كَثِيرُ الْكَرْبِ مَمْلُوءٌ مِنْهُ. قَالَ قَتَادَةُ: حَزِينٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَكْرُوبٌ، وَقِيلَ: سَاكِتٌ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ كَظِيمٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ زَادَ فِي تَوْبِيخِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ فَقَالَ: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ معنى ينشأ: يُرَبَّى، وَالنُّشُوءُ: التَّرْبِيَةُ، وَالْحِلْيَةُ: الزِّينَةُ، وَمَنْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى جَعَلُوا والمعنى: أو جعلوا لَهُ سُبْحَانَهُ مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يُرَبَّى فِي الزِّينَةِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يَقُومَ بِأُمُورِ نَفْسِهِ، وَإِذَا خُوصِمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ حُجَّتِهِ، وَدَفْعِ مَا يُجَادِلُهُ بِهِ خَصْمُهُ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ وَضَعْفِ رَأْيِهِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أو يجعلون لَهُ مَنْ يَنْشَأُ فِي الْحِلْيَةِ. أَيْ يَنْبُتُ في الزينة. قرأ الجمهور يُنَشَّؤُا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَحَفْصٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَفَتْحِ النُّونِ، وَتَشْدِيدِ الشِّينِ. وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى: أَبُو حَاتِمٍ، وَاخْتَارَ الثَّانِيَةَ: أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: الْفِعْلُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى لَازِمٌ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ مُتَعَدٍّ. وَالْمَعْنَى: يُرَبَّى وَيَكْبُرُ فِي الْحِلْيَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: قَلَّمَا تَتَكَلَّمُ امْرَأَةٌ بِحُجَّتِهَا إِلَّا تَكَلَّمَتْ بِالْحُجَّةِ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ زيد والضحاك: الذي ينشأ فِي الْحِلْيَةِ أَصْنَامُهُمُ الَّتِي صَاغُوهَا مِنْ ذَهَبٍ وفضة

_ (1) . النجم: 21 و 22.

وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً الجعل هنا لمعنى الْقَوْلِ وَالْحُكْمِ عَلَى الشَّيْءِ كَمَا تَقُولُ: جَعَلْتُ زَيْدًا أَفْضَلَ النَّاسِ، أَيْ: قُلْتَ بِذَلِكَ وَحَكَمْتَ لَهُ بِهِ. قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ عِبادُ بِالْجَمْعِ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «عِنْدَ الرَّحْمَنِ» بِنُونٍ سَاكِنَةٍ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ، لِأَنَّ الْإِسْنَادَ فِيهَا أَعْلَى، وَلِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا كَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ عِبَادُهُ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُهُ: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «1» وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ، قَالَ: وَتَصْدِيقُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «2» . ثُمَّ وَبَّخَهُمْ وَقَرَّعَهُمْ فَقَالَ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أَيْ: أَحَضَرُوا خَلْقَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَهُوَ مِنَ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ الْحُضُورُ، وَفِي هَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وتجهيل لهم. وقرأ الْجُمْهُورُ أَشَهِدُوا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ بِدُونِ وَاوٍ. وَقَرَأَ نافع «أو شهدوا» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بِضَمِّ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ شَهَادَتِهِمْ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وابن السميقع وَهُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ بِالنُّونِ، وَبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ شَهَادَتِهِمْ، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ «شَهَادَاتُهُمْ» بِالْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى: سَنَكْتُبُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ الَّتِي شَهِدُوا بِهَا في ديوان أعمالهم لنجازيهم على ذلك وَيُسْئَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ هَذَا فَنٌّ آخَرُ مِنْ فُنُونِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ جَاءُوا بِهِ لِلِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ، وَمَعْنَاهُ: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ فِي زَعْمِكُمْ مَا عَبَدْنَا هَذِهِ الْمَلَائِكَةَ، وَهَذَا كَلَامٌ حَقٌّ يُرَادُ بِهِ بَاطِلٌ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي الْأَنْعَامِ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ جَهْلَهُمْ بِقَوْلِهِ: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أَيْ: مَا لَهُمْ بِمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ عَدَمَ عِبَادَتِهِمْ لِلْمَلَائِكَةِ مَا عَبَدُوهُمْ مِنْ عِلْمٍ، بَلْ تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ جَهْلًا، وَأَرَادُوا بِمَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْحَقِّ بَاطِلًا، وَزَعَمُوا أَنَّهُ إِذَا شَاءَ فَقَدْ رَضِيَ. ثُمَّ بَيَّنَ انْتِفَاءَ عِلْمِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَيْ: مَا هُمْ إِلَّا يَكْذِبُونَ فِيمَا قَالُوا، وَيَتَمَحَّلُونَ تَمَحُّلًا بَاطِلًا. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: بِذلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً. قَالَهُ قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: أَيْ مَا لَهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِلْمٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ الْقَلَمُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْكِتَابُ عِنْدَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ نَحْوَهُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً قَالَ: أَحْبَبْتُمْ أَنْ يُصْفَحَ عَنْكُمْ وَلَمْ تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَافَرَ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ ثُمَّ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ قَالَ: مطيقين. وأخرج عبد ابن حميد عنه أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ قَالَ: هُوَ النِّسَاءُ فَرَّقَ بَيْنَ زِيِّهِنَّ وَزِيِّ الرِّجَالِ وَنَقَصَهُنَّ مِنَ الْمِيرَاثِ وَبِالشَّهَادَةِ وَأَمَرَهُنَّ بِالْقَعْدَةِ وَسَمَّاهُنَّ الْخَوَالِفَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ أَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ «الَّذِينَ هم عند الرّحمن إناثا»

_ (1) . الأنبياء: 26. (2) . الأعراف: 206.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 21 إلى 35]

فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: عِبَادُ الرَّحْمَنِ؟ قُلْتُ: فَإِنَّهَا فِي مُصْحَفِي «عِنْدَ الرَّحْمَنِ» قَالَ: فَامْحُهَا واكتبها عِبادُ الرَّحْمنِ. [سورة الزخرف (43) : الآيات 21 الى 35] أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) قَوْلُهُ: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أَمْ: هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، أَيْ: بَلْ أَأَعْطَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ بِأَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يأخذون بما فيه، ويحتجون به وسيجعلونه لهم دليلا، ويحتمل أن تكون أم معادلة لِقَوْلِهِ: أَشَهِدُوا، فَتَكُونُ مُتَّصِلَةً، وَالْمَعْنَى أَحَضَرُوا خَلْقَهُمْ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا إِلَخْ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْ قَبْلِهِ يَعُودُ إِلَى ادِّعَائِهِمْ، أَيْ: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِ ادِّعَائِهِمْ يَنْطِقُ بِصِحَّةِ مَا يَدَّعُونَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ بِأَيْدِيهِمْ وَلَا شُبْهَةَ وَلَكِنَّهُمُ اتَّبَعُوا آبَاءَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ فَقَالَ: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ سِوَى تَقْلِيدِ آبَائِهِمْ، وَمَعْنَى عَلَى أُمَّةٍ: عَلَى طَرِيقَةٍ وَمَذْهَبٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ الطَّرِيقَةُ وَالدِّينُ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْأُمَّةُ الطَّرِيقَةُ وَالدِّينُ، يُقَالُ فُلَانٌ لَا أُمَّةَ لَهُ: أَيْ لَا دِينَ لَهُ، وَلَا نِحْلَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: كُنَّا على أمّة آبائنا ... ويقتدي الآخر بالأوّل وقول الآخر: وهل يستوي ذو أُمَّةٍ وَكَفُورُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ: عَلَى قِبْلَةٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَأَنْشَدَ قَوْلُ النَّابِغَةِ: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ

قَرَأَ الْجُمْهُورُ أُمَّةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِكَسْرِهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْإِمَّةُ بِالْكَسْرِ: النِّعْمَةُ، وَالْإِمَّةُ: أَيْضًا لُغَةٌ فِي الْأُمَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: ثمّ بعد الفلاح والملك والإمة ... وَارَتْهُمْ هُنَاكَ قُبُورُ ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ غَيْرَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَقَالَ بِهَا فَقَالَ: وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ مُتْرَفُوهَا: أَغْنِيَاؤُهَا وَرُؤَسَاؤُهَا، قَالَ قَتَادَةُ: مُقْتَدُونَ مُتَّبِعُونَ، وَمَعْنَى الِاهْتِدَاءِ وَالِاقْتِدَاءِ مُتَقَارِبٌ، وَخَصَّصَ الْمُتْرَفِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ التَّنَعُّمَ هُوَ سَبَبُ إِهْمَالِ النَّظَرِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ أَيْ: أَتَتَّبِعُونَ آبَاءَكُمْ وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِدِينٍ أَهْدَى مِنْ دِينِ آبَائِكُمْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى قُلْ لَهُمْ أَتَتَّبِعُونَ مَا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ وَإِنْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِنْهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ» وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ وَهُوَ حِكَايَةٌ لِمَا جَرَى بَيْنَ الْمُنْذِرِينَ وَقَوْمِهِمْ، أَيْ: قَالَ كُلُّ مُنْذِرٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُنْذِرِينَ لِأُمَّتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ حِكَايَةٌ لِمَا جَرَى بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَوْمِهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ قُلْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَقُبْحِهِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةِ فِي الْإِسْلَامِ إِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِقَوْلِ أَسْلَافِهِمْ، وَيَتَّبِعُونَ آثَارَهُمْ، وَيَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَإِذَا رَامَ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ ضَلَالَةٍ أَوْ يَدْفَعَهُمْ عَنْ بِدْعَةٍ قَدْ تَمَسَّكُوا بِهَا وَوَرِثُوهَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ نَيِّرٍ وَلَا حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ قَالَ، وَقِيلَ: لِشُبْهَةٍ دَاحِضَةٍ، وَحُجَّةٍ زَائِفَةٍ، وَمُقَالَةٍ بَاطِلَةٍ، قَالُوا بِمَا قَالَهُ الْمُتْرَفُونَ مِنْ هَذِهِ الْمِلَلِ: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، أَوْ بِمَا يُلَاقِي مَعْنَاهُ مَعْنَى ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ لَهُمُ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ: قَدْ جَمَعَتْنَا الْمِلَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَشَمِلَنَا هَذَا الدِّينُ الْمُحَمَّدِيُّ، وَلَمْ يَتَعَبَّدْنَا الله ولا تعبدكم ولا تعبد آبَاءَكُمْ مِنْ قَبْلِكُمْ إِلَّا بِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَبِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِهِ، فَإِنَّهُ الْمُبَيِّنُ لِكِتَابِ اللَّهِ الْمُوَضِّحُ لِمَعَانِيهِ، الْفَارِقُ بَيْنَ مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، فَتَعَالَوْا نَرُدُّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ «1» فَإِنَّ الرَّدَّ إِلَيْهِمَا أَهْدَى لَنَا وَلَكُمْ مِنَ الرَّدِّ إِلَى مَا قَالَهُ أَسْلَافُكُمْ وَدَرَجَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ، نَفَرُوا نُفُورَ الْوُحُوشِ، وَرَمَوُا الدَّاعِيَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ بِكُلِّ حَجَرٍ وَمَدَرٍ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا «2» وَلَا قَوْلَهُ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «3» فَإِنْ قَالَ لَهُمُ الْقَائِلُ: هَذَا الْعَالِمُ الَّذِي تَقْتَدُونَ بِهِ وَتَتَّبِعُونَ أَقْوَالَهُ هُوَ مِثْلُكُمْ فِي كَوْنِهِ مُتَعَبِّدًا بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، مَطْلُوبًا مِنْهُ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْكُمْ، وَإِذَا عَمِلَ بِرَأْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ وِجْدَانِهِ لِلدَّلِيلِ، فَذَلِكَ رُخْصَةٌ لَهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَتْبَعَهُ غَيْرُهُ عَلَيْهَا، ولا يجوز لهم الْعَمَلُ بِهَا، وَقَدْ وَجَدُوا الدَّلِيلَ الَّذِي لَمْ يَجِدْهُ، وَهَا أَنَا أُوجِدْكُمُوهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ فِيمَا صَحَّ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَذَلِكَ أَهْدَى لَكُمْ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، قَالُوا: لَا نَعْمَلُ بِهَذَا وَلَا سَمْعَ لَكَ وَلَا طاعة، ووجدوا في صدورهم أعظم

_ (1) . النساء: 59. (2) . النور: 51. (3) . النساء: 65.

الْحَرَجِ مِنْ حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يُسَلِّمُوا بذلك وَلَا أَذْعَنُوا لَهُ، وَقَدْ وَهَبَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ عصا يتوكؤون عَلَيْهَا عِنْدَ أَنْ يَسْمَعُوا مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ إِمَامَنَا الَّذِي قَلَّدْنَاهُ وَاقْتَدَيْنَا بِهِ أَعْلَمُ مِنْكَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَذْهَانَهُمْ قَدْ تَصَوَّرَتْ مَنْ يَقْتَدُونَ بِهِ تَصَوُّرًا عَظِيمًا بِسَبَبِ تَقَدُّمِ الْعَصْرِ وَكَثْرَةِ الْأَتْبَاعِ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ هَذَا مَنْقُوضٌ عَلَيْهِمْ مَدْفُوعٌ بِهِ فِي وُجُوهِهِمْ، فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ فِي التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ قَدْرًا، وَأَقْدَمُ عَصْرًا مِنْ صَاحِبِكُمْ، فَإِنْ كَانَ لِتَقَدُّمِ الْعَصْرِ وَجَلَالَةِ الْقَدْرِ مَزِيَّةٌ حَتَّى تُوجِبَ الِاقْتِدَاءَ، فَتَعَالَوْا حَتَّى أُرِيَكُمْ مَنْ هُوَ أَقْدَمُ عَصْرًا وَأَجَلُّ قَدْرًا، فَإِنْ أبيتم ذلك، ففي الصحابة رضي الله عنهم من هو أعظم قدرا من صاحبكم علما وفضلا وجلالة قدر، فَإِنْ أَبَيْتُمْ ذَلِكَ، فَهَا أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَعْظَمُ قَدْرًا وَأَجَلُّ خَطَرًا وَأَكْثَرُ أَتْبَاعًا وَأَقْدَمُ عَصْرًا، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله نبينا ونبيكم ورسول اللَّهِ إِلَيْنَا وَإِلَيْكُمْ فَتَعَالَوْا فَهَذِهِ سُنَّتُهُ مَوْجُودَةٌ فِي دَفَاتِرِ الْإِسْلَامِ وَدَوَاوِينِهِ الَّتِي تَلَقَّتْهَا جَمِيعُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَعَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، وَهَذَا كِتَابُ رَبِّنَا خَالِقِ الْكُلِّ وَرَازِقِ الْكُلِّ وَمُوجِدِ الْكُلِّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ بَيْتٍ، وَبِيَدِ كُلِّ مُسْلِمٍ لَمْ يَلْحَقْهُ تَغْيِيرٌ وَلَا تَبْدِيلٌ، وَلَا زِيَادَةٌ وَلَا نَقْصٌ، وَلَا تَحْرِيفٌ وَلَا تَصْحِيفٌ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ مِمَّنْ يَفْهَمُ أَلْفَاظَهُ وَيَتَعَقَّلُ مَعَانِيَهُ، فَتَعَالَوْا لِنَأْخُذِ الْحَقَّ مِنْ مَعْدِنِهِ وَنَشْرَبَ صَفْوَ الْمَاءِ مِنْ مَنْبَعِهِ، فَهُوَ أَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، قَالُوا: لَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ، إِمَّا بِلِسَانِ الْمَقَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا وَتَأَمَّلْهُ إِنْ بَقِيَ فِيكَ بَقِيَّةٌ مِنْ إِنْصَافٍ وَشُعْبَةٌ مِنْ خَيْرٍ وَمِزْعَةٌ مِنْ حَيَاءٍ وَحِصَّةٌ مِنْ دِينٍ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي كِتَابِي الَّذِي سَمَّيْتُهُ «أَدَبَ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ» فارجع إليه إن رمت أن تجلي عنك ظلمات التعصب وتتقشع لَكَ سَحَائِبُ التَّقْلِيدِ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَذَلِكَ الِانْتِقَامُ: مَا أَوْقَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِ نُوحٍ، وَعَادٍ، وَثَمُودَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ، فَإِنَّ آثَارَهُمْ مَوْجُودَةٌ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ أَيْ: وَاذْكُرْ لَهُمْ وَقْتَ قَوْلِهِ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ قَلَّدُوا آبَاءَهُمْ وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ الْبَرَاءُ: مَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ، وَالْمُثَنَّى، وَالْمَجْمُوعِ، وَالْمُذَكَّرِ، وَالْمُؤَنَّثِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَتَبَرَّأْتُ مِنْ كَذَا وَأَنَا مِنْهُ بَرَاءٌ وَخَلَاءٌ، لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى خَالِقَهُ مِنَ الْبَرَاءَةِ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي أَيْ: خَلَقَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ سَيُرْشِدُنِي لِدِينِهِ وَيُثَبِّتُنِي عَلَى الْحَقِّ، وَالِاسْتِثْنَاءُ: إِمَّا مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ الَّذِي فَطَرَنِي، أَوْ: مُتَّصِلٌ مِنْ عُمُومِ مَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَالْأَصْنَامَ، وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ سَيَهْدِيهِ جَزْمًا لِثِقَتِهِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقُوَّةِ يَقِينِهِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ الضَّمِيرُ فِي جَعَلَهَا عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي وَهِيَ بِمَعْنَى التَّوْحِيدِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَجَعَلَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ بَاقِيَةً فِي عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ وَهُمْ ذُرِّيَّتُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهِمْ مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَفَاعِلُ جَعَلَهَا إِبْرَاهِيمُ، وَذَلِكَ حَيْثُ وَصَّاهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَدِينُوا بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ «1» الْآيَةَ، وَقِيلَ: الْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ: وَجَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ بَاقِيَةً فِي عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْعَقِبُ مَنْ بَعْدُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْكَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَزَالُ مِنْ عَقِبِهِ مَنْ يَعْبُدُ الله إلى يوم القيامة. وقال عكرمة:

_ (1) . البقرة: 132.

هِيَ الْإِسْلَامُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَلِمَةُ هِيَ قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ تَعْلِيلٌ لِلْجَعْلِ، أَيْ: جَعَلَهَا بَاقِيَةً رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا مَنْ يُشْرِكُ مِنْهُمْ بِدُعَاءِ مَنْ يُوَحِّدُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُمْ رَاجَعٌ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، أَيْ: لَعَلَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَرْجِعُونَ إِلَى دِينِكَ الَّذِي هُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَجَعَلَهَا ... إِلَخْ. قَالَ السُّدِّيُّ: لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ، فَيَرْجِعُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نِعْمَتَهُ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمْ فَقَالَ: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ أَضْرَبَ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إِلَى ذِكْرِ مَا مَتَّعَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَنْفُسِ وَالْأَهْلِ وَالْأَمْوَالِ وَأَنْوَاعِ النِّعَمِ وَمَا مَتَّعَ بِهِ آبَاءَهُمْ وَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، فَاغْتَرُّوا بِالْمُهْلَةِ وَأَكَبُّوا عَلَى الشَّهَوَاتِ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ يَعْنِي الْقُرْآنَ وَرَسُولٌ مُبِينٌ يَعْنِي محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَمَعْنَى مُبِينٌ ظَاهِرُ الرِّسَالَةِ وَاضِحُهَا، أَوْ مُبَيِّنٌ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا صَنَعُوهُ عِنْدَ مَجِيءِ الْحَقِّ فَقَالَ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ أَيْ: جَاحِدُونَ، فَسَمَّوُا الْقُرْآنَ سِحْرًا وَجَحَدُوهُ. وَاسْتَحْقَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ الْمُرَادُ بِالْقَرْيَتَيْنِ: مَكَّةُ، وَالطَّائِفُ، وَبِالرَّجُلَيْنِ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَعُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ مِنَ الطَّائِفِ كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ مِنْ مَكَّةَ، وَعُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ الثَّقَفِيُّ مِنَ الطَّائِفِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ الْمُرَادَ رَجُلٌ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمُ الْجَاهِ وَاسِعُ الْمَالِ مُسَوَّدٌ فِي قَوْمِهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قُرْآنًا لَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْقَرْيَتَيْنِ، فَأَجَابَ الله سبحانه عنهم بقوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يَعْنِي: النُّبُوَّةَ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي قَسَمَ بَيْنَهُمْ مَا يَعِيشُونَ بِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَقَالَ: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَمْ نُفَوِّضْ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ يَتَحَكَّمَ فِي شَيْءٍ بَلِ الْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي قَسَمَ بَيْنَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ وَرَفَعَ دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَكَيْفَ لَا يَقْنَعُونَ بِقِسْمَتِهِ فِي أَمْرِ النُّبُوَّةِ، وَتَفْوِيضِهَا إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يقول أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَعِيشَتَهُمْ بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، ومجاهد، وابن محيصن «معايشهم» بالجمع «و» معنى رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أَنَّهُ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فَجَعَلَ بَعْضَهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا بِالرِّزْقِ، وَالرِّيَاسَةِ، وَالْقُوَّةِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَالْعَقْلِ، وَالْعِلْمِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ لِرَفْعِ دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أَيْ: لِيَسْتَخْدِمَ بعضهم بعضا فيستخدم الغنيّ الفقير، والرئيس المرؤوس، وَالْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، وَالْحُرُّ الْعَبْدَ، وَالْعَاقِلُ مَنْ هُوَ دونه في الْعَقْلِ، وَالْعَالِمُ الْجَاهِلَ، وَهَذَا فِي غَالِبِ أَحْوَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَبِهِ تَتِمُّ مَصَالِحُهُمْ وَيَنْتَظِمُ مَعَاشُهُمْ وَيَصِلُ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى مَطْلُوبِهِ، فَإِنَّ كُلَّ صِنَاعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ يُحْسِنُهَا قَوْمٌ دُونَ آخَرِينَ، فَجُعِلَ الْبَعْضُ مُحْتَاجًا إِلَى الْبَعْضِ لِتَحْصُلَ الْمُوَاسَاةُ بَيْنَهُمْ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى هذا، ويصنع هذا لهذا، ويعطي هذا هذا. قال السدّي وابن زيد: سخريا: خولا وخداما، يسخر الأغنياء الفقراء

_ (1) . البقرة: 131.

فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ سَبَبًا لِمَعَاشِ بَعْضٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ والضحاك: ليملك بعضهم بعضا، وقيل: هو من السُّخْرِيَةُ الَّتِي بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ مَعْنَى القرآن، ومناف لما هو مقصود السياق وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ يَعْنِي بِالرَّحْمَةِ: مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: هِيَ النُّبُوَّةُ لِأَنَّهَا الْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ في قوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُرَادَ كُلُّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّحْمَةِ إِمَّا شُمُولًا، أَوْ بَدَلًا، وَمَعْنَى مِمَّا يَجْمَعُونَ مَا يَجْمَعُونَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَسَائِرِ مَتَاعِ الدُّنْيَا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَقَارَةَ الدُّنْيَا عِنْدَهُ فَقَالَ: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الْكُفْرِ مَيْلًا إِلَى الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ جَمَعَ الضَّمِيرَ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَفْرَدَهُ فِي يَكْفُرُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ وَلَفْظِهَا، وَلِبُيُوتِهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْمَوْصُولِ وَالسُّقُفُ جَمْعُ سَقْفٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَافِ كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ جَمْعُ سَقِيفٍ نَحْوُ كَثِيبٍ وَكُثُبٍ، وَرَغِيفٍ وَرُغُفٍ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ سُقُوفٍ، فَيَكُونُ جَمْعًا لِلْجَمْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى الْإِفْرَادِ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ لِكَوْنِهِ لِلْجِنْسِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى الْآيَةِ: لَوْلَا أَنْ يَكْفُرَ النَّاسُ جَمِيعًا بِسَبَبِ مَيْلِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا وَتَرْكِهِمُ الْآخِرَةَ لَأَعْطَيْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا وَصَفْنَاهُ لِهَوَانِ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَالَ بِهَذَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَاخْتِيَارِهِمْ لَهَا عَلَى الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْمَعْنَى لَوْلَا أَنْ يَكُونَ فِي الْكُفَّارِ غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ ذَلِكَ لَأَعْطَيْنَا الْكُفَّارَ مِنَ الدُّنْيَا هَذَا لِهَوَانِهَا وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ الْمَعَارِجُ: الدَّرَجُ جَمْعُ مِعْرَاجٍ، وَالْمِعْرَاجُ السُّلَّمُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إن شئت جعلت الواحدة معرج ومعرج، مِثْلَ: مِرْقَاةٍ وَمَرْقَاةٍ، وَالْمَعْنَى: فَجَعَلْنَا لَهُمْ مَعَارِجَ مِنْ فِضَّةٍ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ: أَيْ: عَلَى الْمَعَارِجِ يَرْتَقُونَ وَيَصْعَدُونَ، يُقَالُ ظَهَرْتُ عَلَى الْبَيْتِ: أَيْ عَلَوْتُ سَطْحَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: بَلَغْنَا السَّمَاءَ مجدا وفخرا وسؤددا ... وإنّا لنرجو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا أَيْ مَصْعَدًا وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً أَيْ: وَجَعَلْنَا لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا مِنْ فِضَّةٍ وسررا من فضة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ أَيْ: عَلَى السُّرُرِ وَهُوَ جَمْعُ سَرِيرٍ، وَقِيلَ: جَمْعُ أَسِرَّةٍ فَيَكُونُ جَمْعًا لِلْجَمْعِ، وَالِاتِّكَاءُ وَالتَّوَكُّؤُ: التحامل على الشيء، ومنه أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها «1» وَاتَّكَأَ عَلَى الشَّيْءِ فَهُوَ مُتَّكِئٌ، وَالْمَوْضِعُ مُتَّكَأٌ، وَالزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ. وَقِيلَ: الزِّينَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ ذَهَبًا أَوْ غَيْرَهُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مَا يَتَّخِذُهُ النَّاسُ فِي مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَثَاثِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النُّقُوشُ وَأَصْلُهُ الزِّينَةُ، يُقَالُ: زَخْرَفْتُ الدَّارَ، أَيْ: زَيَّنْتُهَا، وَانتصاب زُخْرُفاً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَجَعَلْنَا لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ زُخْرُفًا، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: أَبْوَابًا وَسُرُرًا مِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا حُذِفَ الْخَافِضُ انْتَصَبَ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ إِنَّمَا يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا قَرَأَ الجمهور لَمَّا بالتخفيف وقرأ عاصم وحمزة وهاشم عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى تَكُونُ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَعَلَى القراءة الثانية هي النافية. ولما

_ (1) . طه: 18. [.....]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 إلى 45]

بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ: مَا كَلُّ ذَلِكَ إِلَّا شَيْءٌ يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ «لَمَّا» عَلَى أَنَّ اللام للعلة وما موصولة والعائدة مَحْذُوفٌ، أَيْ: لِلَّذِي هُوَ مَتَاعٌ وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أَيْ: لِمَنِ اتَّقَى الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ وَآمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّهَا الْبَاقِيَةُ الَّتِي لَا تَفْنَى، وَنَعِيمُهَا الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَزُولُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ قَالَ: عَلَى دِينٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي عَقِبِهِ قَالَ: عَقِبُ إِبْرَاهِيمَ وَلَدُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ مَا الْقَرْيَتَانِ؟ قَالَ: الطَّائِفُ وَمَكَّةُ، قِيلَ: فَمَنِ الرَّجُلَانِ؟ قَالَ: عُمَيْرُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَخِيَارُ قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يَعْنِي بِالْقَرْيَتَيْنِ مَكَّةَ وَالطَّائِفَ، وَالْعَظِيمُ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْقُرَشِيُّ وَحَبِيبُ بْنُ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قال: يعنون أشرف من محمد الوليد بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَمَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أيضا في قوله: لَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الْآيَةَ يَقُولُ: لولا أن أجعل النَّاسَ كُلَّهُمْ كُفَّارًا لَجَعَلْتُ لِبُيُوتِ الْكُفَّارِ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ مِنْ فِضَّةٍ، وَهِيَ دَرَجٌ عليها يصعدون إلى الغرف وسرر فضة، زُخْرُفًا: وَهُوَ الذَّهَبُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ ماجة عن سهل ابن سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى مِنْهَا كَافِرًا شَرْبَةَ ماء» . [سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) قَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ يُقَالُ عَشَوْتُ إِلَى النَّارِ: قَصَدْتُهَا، وَعَشَوْتُ عَنْهَا: أَعْرَضْتُ عَنْهَا، كَمَا تَقُولُ: عَدَلْتُ إِلَى فُلَانٍ، وَعَدَلْتُ عَنْهُ، وَمِلْتُ إِلَيْهِ، وَمِلْتُ عَنْهُ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو الْهَيْثَمِ وَالْأَزْهَرِيُّ. فَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ الْرَّحْمَنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ إِلَى أَبَاطِيلِ الْمُضِلِّينَ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ بِشَيْطَانٍ يُقَيِّضُهُ لَهُ حَتَّى يُضِلَّهُ وَيُلَازِمَهُ قَرِينًا لَهُ، فَلَا يَهْتَدِي مُجَازَاةً لَهُ حِينَ آثَرَ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ الْبَيِّنِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعَشْوُ النَّظَرُ الضعيف، ومنه: لنعم الفتى يعشو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... إِذَا الرِّيحُ هَبَّتْ وَالْمَكَانُ جديب

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْتِ الْقَصْدُ إِلَى النَّارِ لَا النَّظَرُ إِلَيْهَا بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ، فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ أنه بِمَعْنَى الْقَصْدِ، وَبِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ وَهَكَذَا مَا أَنْشَدَهُ الْخَلِيلُ مُسْتَشْهِدًا بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ قَوْلِ الْحُطَيْئَةِ: مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مَوْقِدِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَعْنَاهُ: تَقْصِدُ إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ، لَا تَنْظُرُ إِلَيْهَا بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى فِي الْبَيْتَيْنِ الْمُبَالَغَةُ فِي ضَوْءِ النَّارِ وَسُطُوعِهَا، بِحَيْثُ لَا يَنْظُرُهَا النَّاظِرُ إِلَّا كَمَا يَنْظُرُ مَنْ هُوَ مُعَشَّى البصر لما يلحق بصره من الضعف عند ما يُشَاهِدُهُ مِنْ عِظَمِ وَقُودِهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: إِنَّ مَعْنَى وَمَنْ يَعْشُ وَمَنْ تُظْلِمُ عَيْنُهُ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِ الْخَلِيلِ، وَهَذَا عَلَى قراءة الجمهور وَمَنْ يَعْشُ بِضَمِّ الشِّينِ مِنْ عَشَا يَعْشُو. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمَنْ يَعْشُ بِفَتْحِ الشِّينِ، يُقَالُ عَشَى الرَّجُلُ يَعْشَى عَشْيًا إِذَا عَمِيَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: رَأَتْ رَجُلًا غَائِبَ الْوَافِدَيْنِ ... مُخْتَلِفَ الْخَلْقِ أَعْشَى ضَرِيرَا وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْعَشَا مَقْصُورٌ مَصْدَرُ الْأَعْشَى: وَهُوَ الَّذِي لَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَيُبْصِرُ بِالنَّهَارِ، وَالْمَرْأَةُ عَشْوَاءُ. وَقُرِئَ «يَعْشُو» بِالْوَاوِ عَلَى أَنَّ «مَنْ» مَوْصُولَةٌ غَيْرُ مُتَضَمِّنَةٍ مَعْنَى الشَّرْطِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً بِالنُّونِ وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبُ، وَعِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَالْأَعْمَشِ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ شَيْطَانٍ عَلَى النِّيَابَةِ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أَيْ: مُلَازِمٌ لَهُ لَا يُفَارِقُهُ، أَوْ هُوَ مُلَازِمٌ لِلشَّيْطَانِ لَا يُفَارِقُهُ، بَلْ يَتْبَعُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَيُطِيعُهُ فِي كُلِّ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ إِلَيْهِ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أَيْ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ يُقَيِّضُهُمُ اللَّهُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ يَعْشُو عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ كَمَا هُوَ مَعْنِيٌّ مِنْ لَيَصُدُّونَهُمْ: أَيْ يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَبِيلِ الْحَقِّ وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْهُ، وَيُوَسْوِسُونَ لَهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى الهدى حتى يظنون صِدْقَ مَا يُوَسْوِسُونَ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أَيْ: يَحْسَبُ الْكُفَّارُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ مُهْتَدُونَ فَيُطِيعُونَهُمْ، أَوْ يَحْسَبُ الْكُفَّارُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ أَنَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذا جاءَنا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّثْنِيَةِ، أَيِ: الْكَافِرُ، وَالشَّيْطَانُ الْمُقَارِنُ لَهُ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ بِالْإِفْرَادِ، أَيِ: الْكَافِرُ أَوْ جَاءَ كلّ واحد منهم قالَ الكافر مخاطبا للشيطان يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أَيْ: بُعْدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَغَلَبَ الْمَشْرِقُ عَلَى الْمَغْرِبِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَتَمَنَّى الْكَافِرُ أَنَّ بَيْنَهُمَا بُعْدَ مَشْرِقِ أَطْوَلِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ مِنْ مَشْرِقِ أَقْصَرِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ فَبِئْسَ الْقَرِينُ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَنْتَ أَيُّهَا الشَّيْطَانُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ هَذَا حِكَايَةٌ لِمَا سَيُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَيْ: لِأَجْلِ ظُلْمِكُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ إِنَّ: إِذْ بَدَلٌ مِنَ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ بِفَتْحِ أَنَّ عَلَى أَنَّهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيْ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ اشْتِرَاكُكُمْ فِي الْعَذَابِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ شَيْءٌ مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ

والشياطين الحظ الأوفر منه. وقيل: إنها لِنَفْيِ النَّفْعِ، أَيْ: لِأَنَّ حَقَّكُمْ أَنْ تَشْتَرِكُوا أَنْتُمْ وَقُرَنَاؤُكُمْ فِي الْعَذَابِ كَمَا كُنْتُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي سَبَبِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ عَلَى اخْتِلَافٍ عَلَيْهِ فِيهَا بِكَسْرِ إِنَّ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ الدَّعْوَةُ وَالْوَعْظُ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الشَّقَاوَةُ فَقَالَ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ الْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ التَّعَجُّبِ، أَيْ: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ فَلَا يَضِيقُ صَدْرُكَ إِنْ كَفَرُوا، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِخْبَارٌ لَهُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عَطْفٌ عَلَى الْعُمْيِ، أَيْ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مَا جِئْتَ بِهِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْعُمْيِ الَّذِينَ لَا يُبْصِرُونَهُ لِإِفْرَاطِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْجَهَالَةِ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ بِالْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْعَذَابُ بِهِمْ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ إِمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: نُخْرِجَنَّكَ مِنْ مَكَّةَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ مِنَ الْعَذَابِ قَبْلَ مَوْتِكَ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ مَتَى شِئْنَا عَذَّبْنَاهُمْ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: قَدْ أَرَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ يُرِيدُ مَا كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْفِتَنِ، وَقَدْ كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِتْنَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَكْرَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى الله عليه وسلم وذهب به فَلَمْ يُرِهِ فِي أُمَّتِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ أَيْ: مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَذَّبَ بِهِ مَنْ كَذَّبَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: طَرِيقٍ وَاضِحٍ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: فَاسْتَمْسِكْ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أَيْ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَشَرَفٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ إِذْ نَزَلَ عَلَيْكَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ بِلُغَتِكَ وَلُغَتِهِمْ وَمِثْلُهُ قَوْلِهِ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ «1» وَقِيلَ: بَيَانٌ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ فِيمَا لَكُمْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ. وَقِيلَ: تَذْكِرَةٌ تَذْكُرُونَ بِهَا أَمْرَ الدِّينِ وتعملون به وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ عَمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الشَّرَفِ، كَذَا قال الزجاج والكلبي وغيرهما. وقيل: يسئلون عما يلزمهم من القيام بما فيه والعمل به وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وسعيد ابن جُبَيْرٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ. فَالْمُرَادُ سُؤَالُ الْأَنْبِيَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِ لَهُمْ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ، وَالزَّجَّاجُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمَعْنَى وَاسْأَلْ أُمَمَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ: سُؤَالُهُمْ هَلْ أَذِنَ اللَّهُ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ وَهَلْ سَوَّغَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ؟ وَالْمَقْصُودُ تَقْرِيعُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَمْ يَأْتِ فِي شَرِيعَةٍ مِنَ الشَّرَائِعِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: قَيِّضُوا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ رَجُلًا يَأْخُذُهُ، فَقَيَّضُوا لِأَبِي بَكْرٍ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَأَتَاهُ وَهُوَ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِلَامَ تَدْعُونِي؟ قَالَ: أَدْعُوكَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا اللَّاتُ؟ قَالَ: أَوْلَادُ اللَّهِ. قَالَ: وَمَا الْعُزَّى. قَالَ: بَنَاتُ اللَّهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَنْ أُمُّهُمْ؟ فَسَكَتَ طَلْحَةُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أجيبوا الرجل، فسكت

_ (1) . الأنبياء: 10.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 إلى 56]

الْقَوْمُ، فَقَالَ طَلْحَةُ: قُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ الْآيَةَ. وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَرِينًا مِنَ الْجِنِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ قَالَ: ذَهَبَ نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَبَقِيَتْ نِقْمَتُهُ فِي عَدُوِّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طُرُقِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ قَالَ: شَرَفٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ بِمَكَّةَ وَيَعِدُهُمُ الظُّهُورَ، فَإِذَا قَالُوا لِمَنِ الْمُلْكُ بَعْدَكَ؟ أَمْسَكَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ فكان إِذَا سُئِلَ قَالَ لِقُرَيْشٍ فَلَا يُجِيبُونَهُ حَتَّى قَبِلَتْهُ الْأَنْصَارُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا قَالَ: اسْأَلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا. [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) لَمَّا أَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ بِأَنَّهُ مُنْتَقِمٌ لَهُ مِنْ عَدُوِّهِ وَذَكَرَ اتِّفَاقَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى التَّوْحِيدِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى، وَفِرْعَوْنَ وَبَيَانِ مَا نَزَلَ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ النِّقْمَةِ فَقَالَ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وهي التسع التي تقدّم بيانها إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ الْمَلَأُ: الْأَشْرَافُ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً، وَجَوَابُ لَمَّا هُوَ إذا الفجائية، لأن التقدر: فَاجَئُوا وَقْتَ ضَحِكِهِمْ وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ آيَاتِ مُوسَى أَكْبَرُ مِمَّا قَبْلَهَا، وَأَعْظَمُ قَدْرًا مَعَ كَوْنِ الَّتِي قَبْلَهَا عَظِيمَةً فِي نَفْسِهَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ الْأُولَى تَقْتَضِي عِلْمًا، وَالثَّانِيَةَ تَقْتَضِي عِلْمًا، فَإِذَا ضُمَّتِ الثَّانِيَةُ إِلَى الْأُولَى ازْدَادَ الْوُضُوحُ، وَمَعْنَى الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْآيَاتِ: أَنَّهَا مُتَشَاكِلَةٌ مُتَنَاسِبَةٌ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى كَمَا يُقَالُ هَذِهِ صَاحِبَةُ هَذِهِ، أَيْ: هُمَا قَرِينَتَانِ فِي الْمَعْنَى، وَجُمْلَةُ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها فِي مَحَلِّ جَرٍّ صِفَةً لِآيَةٍ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَاتِ إِذَا انْفَرَدَتْ ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَمِثْلُ هَذَا قول القائل:

مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لَاقَيْتُ سَيِّدَهُمْ ... مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِتِلْكَ الْآيَاتِ، وَالْعَذَابُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ «1» الْآيَةَ، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي أَخْذِهِ لَهُمْ بِالْعَذَابِ هُوَ رَجَاءُ رُجُوعِهِمْ، وَلَمَّا عَايَنُوا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْعُلَمَاءَ سَحَرَةً، وَيُوَقِّرُونَ السَّحَرَةَ وَيُعَظِّمُونَهُمْ، وَلَمْ يَكُنِ السِّحْرُ صِفَةَ ذَمٍّ عِنْدَهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: خَاطَبُوهُ بِمَا تَقَدَّمَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِالسَّاحِرِ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أَيْ: بِمَا أَخْبَرْتَنَا مِنْ عَهْدِهِ إِلَيْكَ إِنَّا إِذَا آمَنَّا كُشِفَ عَنَّا الْعَذَابُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: اسْتِجَابَةُ الدَّعْوَةِ عَلَى الْعُمُومِ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أَيْ إِذَا كُشِفَ عَنَّا الْعَذَابُ الَّذِي نَزَلَ بِنَا فَنَحْنُ مُهْتَدُونَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، وَمُؤْمِنُونَ بِمَا جِئْتَ بِهِ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ فَلَمَّا كَشَفَ عَنْهُمُ العذاب فاجؤوا وَقْتَ نِكْثِهِمْ لِلْعَهْدِ الَّذِي جَعَلُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الِاهْتِدَاءِ، وَالنَّكْثُ: النَّقْضُ وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قِيلَ: لَمَّا رَأَى تِلْكَ الْآيَاتِ خَافَ مَيْلَ الْقَوْمِ إِلَى مُوسَى، فَجَمَعَهُمْ وَنَادَى بِصَوْتِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَوْ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي بِقَوْلِهِ: يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ لَا يُنَازِعُنِي فِيهِ أَحَدٌ وَلَا يُخَالِفُنِي مُخَالِفٌ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَيْ: مِنْ تَحْتِ قَصْرِي، وَالْمُرَادُ أنهار النِّيلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى تَجْرِي بَيْنَ يَدَيَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَجْرِي بِأَمْرِي: أَيْ تَجْرِي تَحْتَ أَمْرِي. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرَادَ بِالْأَنْهَارِ: الْقُوَّادَ وَالرُّؤَسَاءَ وَالْجَبَابِرَةَ وَأَنَّهُمْ يَسِيرُونَ تَحْتَ لِوَائِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَنْهَارِ الْأَمْوَالَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْوَاوُ فِي وَهذِهِ عاطفة على ملك مصر، وتَجْرِي فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ هِيَ وَاوُ الْحَالِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ: مُبْتَدَأٌ، وَالْأَنْهَارُ: صِفَةٌ لَهُ، وَتَجْرِي: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ أَفَلا تُبْصِرُونَ ذَلِكَ وَتَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى قُوَّةِ مُلْكِي، وَعَظِيمِ قَدْرِي، وَضَعْفِ مُوسَى عَنْ مُقَاوَمَتِي أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلِ الَّتِي للإضراب دُونَ الْهَمْزَةِ الَّتِي لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: بَلْ أَنَا خَيْرٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمْ بِمَعْنَى بَلْ، وَالْمَعْنَى: قَالَ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ: بَلْ أَنَا خَيْرٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي جُعِلَ بِأَمْ لِاتِّصَالِهِ بِكَلَامٍ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ، وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَمْ زَائِدَةً، وَالْمَعْنَى: أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ؟ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ وَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ نَحْوُ قَوْلِ الْأَخْفَشِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ عِيسَى الثَّقَفِيَّ وَيَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ وَقَفَا عَلَى أَمْ عَلَى تَقْدِيرِ أَمْ تُبْصِرُونَ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ أَمْ مُتَّصِلَةً لَا مُنْقَطِعَةً وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ الَّذِي أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ: بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... وَصُورَتُهَا أَمْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ

_ (1) . الأعراف: 130.

أَيْ: بَلْ أَنْتِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ قَرَأَ «أَمَا أَنَا خَيْرٌ» أَيْ: أَلَسْتُ خَيْرًا مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ: أَيْ ضَعِيفٌ حَقِيرٌ مُمْتَهَنٌ فِي نَفْسِهِ لَا عِزَّ لَهُ وَلا يَكادُ يُبِينُ الْكَلَامَ لِمَا فِي لِسَانِهِ مِنَ الْعُقْدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ طه فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَيْ: فَهَلَّا حُلِّيَ بِأَسَاوِرَةِ الذَّهَبِ إِنْ كَانَ عَظِيمًا، وَكَانَ الرَّجُلُ فِيهِمْ إِذَا سَوَّدُوهُ سَوَّرُوهُ بِسِوَارٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَطَوَّقُوهُ بِطَوْقٍ مِنْ ذهب. قرأ الجمهور أَسْوِرَةٌ جَمْعُ أَسْوِرَةٍ جَمْعُ سِوَارٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: وَاحِدُ الْأَسَاوِرَةِ وَالْأَسَاوِرِ وَالْأَسَاوِيرِ أَسْوَارٌ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي سِوَارٍ. وَقَرَأَ حَفْصٌ أَسْوِرَةٌ جَمْعُ سِوَارٍ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أَسَاوِرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَسَاوِيرُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا إِذَا سَوَّدُوا رَجُلًا سَوَّرُوهُ بِسِوَارَيْنِ وَطَوَّقُوهُ بِطَوْقِ ذَهَبٍ عَلَامَةً لِسِيَادَتِهِ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى أُلْقِيَ، وَالْمَعْنَى: هَلَّا جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُتَتَابِعِينَ مُتَقَارِنِينَ إِنْ كَانَ صَادِقًا يُعِينُونَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَيَشْهَدُونَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، فَأَوْهَمَ اللَّعِينُ قَوْمَهُ أَنَّ الرُّسُلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عَلَى هَيْئَةِ الْجَبَابِرَةِ، وَمَحْفُوفِينَ بِالْمَلَائِكَةِ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ أَيْ: حَمَلَهُمْ عَلَى خِفَّةِ الْجَهْلِ وَالسَّفَهِ بِقَوْلِهِ، وَكَيْدِهِ، وغروره. فأطاعوه فيما أمرهم به، وقبلوا قوله وَكَذَّبُوا مُوسَى إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أَيْ: خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمَعْنَى فَاسْتَجْهَلَ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ بِخِفَّةِ أَحْلَامِهِمْ، وَقِلَّةِ عُقُولِهِمْ، يُقَالُ اسْتَخَفَّهُ الْفَرَحُ: أَيْ أَزْعَجَهُ، وَاسْتَخَفَّهُ: أَيْ حَمَلَهُ، وَمِنْهُ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ «1» وَقِيلَ اسْتَخَفَّ قَوْمَهُ: أَيْ وَجَدَهُمْ خِفَافَ الْعُقُولِ، وَقَدِ اسْتَخَفَّ بِقَوْمِهِ وَقَهَرَهُمْ حَتَّى اتَّبَعُوهُ فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَغْضَبُونَا، وَالْأَسَفُ: الْغَضَبُ، وَقِيلَ: أَشَدُّ الْغَضَبِ، وَقِيلَ: السُّخْطُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَغْضَبُوا رُسُلَنَا. ثُمَّ بَيَّنَ الْعَذَابَ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الِانْتِقَامُ فَقَالَ: فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فِي الْبَحْرِ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أَيْ: قُدْوَةً لِمَنْ عَمِلَ بِعَمَلِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَلَفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ جَمْعُ سَالِفٍ كَخَدَمٍ وَخَادِمٍ، وَرَصَدٍ وَرَاصِدٍ، وَحَرَسٍ وَحَارِسٍ، يُقَالُ سَلَفَ يَسْلُفُ: إِذَا تَقَدَّمَ وَمَضَى. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: جَعَلْنَاهُمْ مُتَقَدِّمِينَ لِيَتَّعِظَ بِهِمُ الْآخَرُونَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: سُلُفًا بِضَمِّ السِّينِ وَاللَّامِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ جَمْعُ سَلِيفٍ، نَحْوُ سُرُرٍ وَسَرِيرٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ جَمْعُ سَلَفٍ نَحْوُ خَشَبٍ وَخُشُبٍ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَأَبُو وَائِلٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ بِضَمِّ السِّينِ، وَفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ سُلْفَةٍ، وَهِيَ: الْفِرْقَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ نَحْوُ غُرَفٍ وَغُرْفَةٍ، كَذَا قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ أَيْ: عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، أَوْ قِصَّةً عَجِيبَةً تَجْرِي مَجْرَى الْأَمْثَالِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَكادُ يُبِينُ قَالَ: كَانَتْ بِمُوسَى لُثْغَةٌ فِي لِسَانِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فَلَمَّا آسَفُونا قَالَ: أَسْخَطُونَا. وَأَخْرَجَا عَنْهُ أَيْضًا آسَفُونَا قَالَ: أَغْضَبُونَا، وَفِي قَوْلِهِ: سَلَفاً قَالَ: أَهْوَاءً مُخْتَلِفَةً. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ ما شاء وهو مقيم على معصية فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُ، وَقَرَأَ فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ المنذر،

_ (1) . الروم: 60.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 إلى 73]

وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَذُكِرَ عِنْدَهُ مَوْتُ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: تَخْفِيفٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَحَسْرَةٌ على الكافر، فلما آسفونا انتقمنا منهم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 73] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) لَمَّا قَالَ سبحانه وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ تَعَلَّقَ الْمُشْرِكُونَ بِأَمْرِ عِيسَى وَقَالُوا: مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ إِلَّا أَنْ نَتَّخِذَهُ إِلَهًا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِي مُجَادَلَةِ ابْنِ الزَّبَعْرَى مع النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» فَقَالَ ابْنُ الزَّبَعْرَى: خَصَمْتُكَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أَلَيْسَتِ النَّصَارَى يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ وَالْيَهُودُ عُزَيْرًا وَبَنُو مَلِيحٍ الْمَلَائِكَةَ؟ فَفَرِحَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «2» وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ الزَّبَعْرَى مُنْدَفِعٌ مِنْ أَصْلِهِ وَبَاطِلٌ بِرُمَّتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ تَعْبُدُونَ حَتَّى يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ الْعُقَلَاءُ كَالْمَسِيحِ، وَعُزَيْرٍ، وَالْمَلَائِكَةِ إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ أَيْ: إِذَا قَوْمُكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ ذَلِكَ الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ يَصِدُّونَ، أَيْ: يَضِجُّونَ ويصيحون فرحا بذلك المثل المضروب، والمراد بقوله هُنَا: كُفَّارُ قُرَيْشٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَصِدُّونَ» بِكَسْرِ الصَّادِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ، وَالْأَخْفَشُ: هُمَا لُغَتَانِ وَمَعْنَاهُمَا: يَضِجُّونَ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: صَدَّ يَصِدُّ صَدِيدًا: أي ضجّ. وقيل: إنه بِالضَّمِّ، الْإِعْرَاضُ، وَبِالْكَسْرِ مِنَ الضَّجِيجِ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَوْ كَانَتْ مِنَ الصُّدُودِ

_ (1) . الأنبياء: 98. (2) . الأنبياء: 101.

عَنِ الْحَقِّ لَقَالَ: إِذَا قَوْمُكَ عَنْهُ يَصُدُّونَ. قال الْفَرَّاءُ: هُمَا سَوَاءٌ مِنْهُ وَعَنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ ضَمَّ فَمَعْنَاهُ يَعْدِلُونَ، وَمَنْ كَسَرَ فَمَعْنَاهُ يَضِجُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي: أآلهتنا خَيْرٌ أَمِ الْمَسِيحُ؟ قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: خَاصَمُوهُ وَقَالُوا: إِنْ كَانَ كُلُّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فِي النَّارِ فَنَحْنُ نَرْضَى أَنْ تَكُونَ آلِهَتُنَا مَعَ عِيسَى وَعُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ قتادة: يعنون محمدا، أي: أآلهتنا خَيْرٌ أَمْ مُحَمَّدٌ؟ وَيُقَوِّي هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ مسعود: أآلهتنا خَيْرٌ أَمْ هَذَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَيَعْقُوبُ بِتَحْقِيقِهَا. مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أَيْ: مَا ضَرَبُوا لَكَ هَذَا الْمَثَلَ فِي عِيسَى إِلَّا لِيُجَادِلُوكَ عَلَى أَنَّ جَدَلًا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْعِلَّةِ، أَوْ مُجَادِلِينَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَرَأَ ابْنُ مِقْسَمٍ «جِدَالًا» بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي: شديد والخصومة كثير واللدد عَظِيمُو الْجَدَلِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عِيسَى لَيْسَ بِرَبٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِهِ اخْتَصَّهُ بِنُبُوَّتِهِ فَقَالَ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بِمَا أَكْرَمْنَاهُ بِهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ: آيَةً وَعِبْرَةً لَهُمْ يَعْرِفُونَ بِهِ قُدْرَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَكُلَّ مَرِيضٍ وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أَيْ: لَوْ نَشَاءُ أَهْلَكْنَاكُمْ وَجَعَلْنَا بَدَلًا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ، أَيْ: يَخْلُفُونَكُمْ فِيهَا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَمِنْ قَدْ تَكُونُ لِلْبَدَلِ كَقَوْلِهِ: لَجَعَلْنا مِنْكُمْ يُرِيدُ بَدَلًا مِنْكُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَلَائِكَةً. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَقْصُودُ الْآيَةِ: أَنَّا لَوْ نَشَاءُ لَأَسْكَنَّا الْمَلَائِكَةَ الْأَرْضَ وَلَيْسَ فِي إِسْكَانِنَا إِيَّاهُمُ السَّمَاءَ شَرَفٌ حَتَّى يُعْبَدُوا. وَقِيلَ مَعْنَى «يَخْلُفُونَ» يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ: إِنَّ الْمُرَادَ الْمَسِيحُ، وَإِنَّ خُرُوجَهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ قِيَامُ السَّاعَةِ لِكَوْنِهِ شَرْطًا مِنْ أَشْرَاطِهَا، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُنْزِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ قبيل قيام السَّاعَةِ، كَمَا أَنَّ خُرُوجَ الدَّجَّالِ مِنْ أَعْلَامِ السَّاعَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرَادُ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ مَجِيءِ السَّاعَةِ، وَبِهِ يُعْلَمُ وَقْتُهَا وَأَهْوَالُهَا وَأَحْوَالُهَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ حُدُوثَ الْمَسِيحِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَإِحْيَاءَهُ لِلْمَوْتَى دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَعِلْمٌ» بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ جَعَلَ الْمَسِيحَ عِلْمًا مُبَالَغَةً لِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْعِلْمِ بِحُصُولِهَا عِنْدَ نُزُولِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ، أَيْ: خُرُوجُهُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِهَا، وَشَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهَا، وَقَرَأَ أَبُو نَضْرَةَ وَعِكْرِمَةُ: «وَإِنَّهُ لَلْعَلَمُ» بِلَامَيْنِ مَعَ فَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ، أَيْ: لَلْعَلَامَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا قِيَامُ السَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أَيْ: فَلَا تَشُكُّنَّ فِي وُقُوعِهَا وَلَا تُكَذِّبُنَ بِهَا، فَإِنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيِ: اتَّبَعُونِي فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَفَرَائِضِ اللَّهِ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْكُمْ، هَذَا الَّذِي آمُرُكُمْ بِهِ وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ طَرِيقٌ قَيِّمٌ مُوَصِّلٌ إِلَى الْحَقِّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِحَذْفِ الْيَاءِ مِنِ «اتَّبِعُونِ» وَصْلًا وَوَقْفًا، وَكَذَلِكَ قَرَءُوا بِحَذْفِهَا فِي الْحَالَيْنِ فِي «أَطِيعُونِ» وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا فِيهِمَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ نَافِعٍ بِحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ دُونَ الْوَقْفِ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ أَيْ: لَا تَغْتَرُّوا بِوَسَاوِسِهِ وَشُبَهِهِ الَّتِي يُوقِعُهَا فِي قُلُوبِكُمْ فَيَمْنَعُكُمْ ذَلِكَ مِنَ اتِّبَاعِي، فَإِنَّ الَّذِي دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ. ثُمَّ عَلَّلَ نَهْيَهُمْ عَنْ أَنْ يَصُدَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَيَانِ عَدَاوَتِهِ

لَهُمْ فَقَالَ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أَيْ: مظهر لِعَدَاوَتِهِ لَكُمْ غَيْرُ مُتَحَاشٍ عَنْ ذَلِكَ وَلَا مُتَكَتِّمٍ بِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ وَمَا أَلْزَمَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ إِغْوَاءِ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ أَيْ: جَاءَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةِ وَالشَّرَائِعِ. قَالَ قَتَادَةُ: الْبَيِّنَاتُ هُنَا: الْإِنْجِيلُ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أَيِ: النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ: الْإِنْجِيلُ، وَقِيلَ: مَا يُرَغِّبُ فِي الْجَمِيلِ وَيَكُفُّ عَنِ الْقَبِيحِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي اخْتِلَافَ الفرق الذين تَحَزَّبُوا فِي أَمْرِ عِيسَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ فِي غَيْرِ الْإِنْجِيلِ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اخْتَلَفُوا بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى فِي أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ الْبَعْضَ هُنَا بِمَعْنَى الْكُلِّ كَمَا فِي قوله: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ كَقَوْلِهِ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ: يَعْنِي مَا أُحِلَّ فِي الْإِنْجِيلِ مِمَّا كَانَ مُحَرَّمًا فِي التَّوْرَاةِ كَلَحْمِ الْإِبِلِ، وَالشَّحْمِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، وَصَيْدِ السَّمَكِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَاللَّامُ فِي: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ لِأُعَلِّمَكُمْ إِيَّاهَا وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فَقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيِ: اتَّقُوا مَعَاصِيَهُ وَأَطِيعُونِ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشَّرَائِعِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا بَيَانٌ لِمَا أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُطِيعُوهُ فِيهِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيْ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْعَمَلُ بِشَرَائِعِهِ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: الْأَحْزَابُ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُمْ فِرَقُ النَّصَارَى اخْتَلَفُوا فِي أَمْرِ عِيسَى. قَالَ قَتَادَةُ: وَمَعْنَى «مِنْ بَيْنِهِمْ» : أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقِيلَ: اخْتَلَفُوا مِنْ بَيْنِ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالْأَحْزَابُ هي الفرق المحزبة فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من هؤلاء المختلفين، وَهُمُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِشَرَائِعِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ أَيْ: أَلِيمٌ عَذَابُهُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَيْ: هَلْ يَرْتَقِبُ هَؤُلَاءِ الْأَحْزَابُ وَيَنْتَظِرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أَيْ: فَجْأَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ: لَا يَفْطَنُونَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَحْزَابِ: الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَكَذَّبُوهُ، وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أَيِ: الْأَخِلَّاءُ فِي الدُّنْيَا الْمُتَحَابُّونَ فِيهَا يَوْمَ تَأْتِيهِمُ السَّاعَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، أَيْ: يُعَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لِأَنَّهَا قَدِ انْقَطَعَتْ بَيْنَهُمُ الْعَلَائِقُ، وَاشْتَغَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ، وَوَجَدُوا تِلْكَ الْأُمُورَ الَّتِي كَانُوا فِيهَا أَخِلَّاءَ أَسْبَابًا لِلْعَذَابِ فَصَارُوا أَعْدَاءً. ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُتَّقِينَ فَقَالَ: إِلَّا الْمُتَّقِينَ فَإِنَّهُمْ أَخِلَّاءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا تِلْكَ الْخُلَّةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ، فَبَقِيَتْ خُلَّتُهُمْ عَلَى حَالِهَا يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ أَيْ: يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ فَيَذْهَبُ عِنْدَ ذَلِكَ خَوْفُهُمْ، وَيَرْتَفِعُ حُزْنُهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ الْمَوْصُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِعِبَادِي، أَوْ: بَدَلًا مِنْهُ، أَوْ: عَطْفَ بَيَانٍ لَهُ، أَوْ: مَقْطُوعًا عَنْهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ عَلَى تَقْدِيرِ: يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا وَقَعَ الْخَوْفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ

يَا عِبَادِي لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ، فَإِذَا سَمِعُوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم، فَيُقَالُ: الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ فَيُنَكِّسُ أهل الأوثان رؤوسهم غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو يَا عِبَادِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ سَاكِنَةً وَصْلًا وَوَقْفًا، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ بِإِثْبَاتِهَا وَفَتْحِهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا فِي الْحَالَيْنِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ الْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ نِسَاؤُهُمُ الْمُؤْمِنَاتُ، وَقِيلَ: قُرَنَاؤُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: زَوْجَاتُهُمْ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ تُحْبَرُونَ تُكْرَمُونَ، وَقِيلَ: تُنَعَّمُونَ، وَقِيلَ: تَفْرَحُونَ، وَقِيلَ: تُسَرُّونَ، وَقِيلَ: تَعْجَبُونَ، وَقِيلَ: تَلَذَّذُونَ بِالسَّمَاعِ، وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ النَّاشِئَيْنِ عَنِ الْكَرَامَةِ وَالنِّعْمَةِ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ الصحاف جمع صفحة: وَهِيَ الْقَصْعَةُ الْوَاسِعَةُ الْعَرِيضَةُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَعْظَمُ الْقِصَاعِ الْجَفْنَةُ ثُمَّ الْقَصْعَةُ، وَهِيَ تُشْبِعُ عَشَرَةً، ثُمَّ الصَّحْفَةُ، وَهِيَ تُشْبِعُ خَمْسَةً، ثُمَّ الْمَكِيلَةُ وَهِيَ تُشْبِعُ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَطْعِمَةً يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِهَا فِي صحاف الذهب وَلهم فِيهَا أَشْرِبَةٌ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِهَا فِي الْ أَكْوابٍ وَهِيَ جَمْعُ كُوبٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ. الْكُوبُ كُوزٌ لَا عُرْوَةَ لَهُ، وَالْجَمْعُ أَكْوَابٍ. قَالَ الْأَعْشَى: صَرِيفِيَّةٌ طَيِّبٌ طَعْمُهَا ... لَهَا زَبَدٌ بَيْنَ كُوبٍ وَدَنِّ وَقَالَ آخَرُ: مُتَّكَئًا تَصْفِقُ أَبْوَابُهُ ... يَسْعَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ بِالْكُوبِ قَالَ قَتَادَةُ: الْكُوبُ الْمُدَوَّرُ الْقَصِيرُ الْعُنُقِ الْقَصِيرُ الْعُرْوَةِ، وَالْإِبْرِيقُ الْمُسْتَطِيلُ الْعُنُقِ الطَّوِيلُ الْعُرْوَةِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْأَكْوَابُ الْأَبَارِيقُ الَّتِي لَا خَرَاطِيمَ لَهَا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هِيَ الأباريق التي ليست لها عرا وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَشْتَهِي» وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ «تَشْتَهِيهِ» بِإِثْبَاتِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَالْمَعْنَى: مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ فُنُونِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا تَطْلُبُهُ النَّفْسُ وَتَهْوَاهُ كَائِنًا مَا كَانَ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ مِنْ كُلِّ الْمُسْتَلَذَّاتِ الَّتِي تَسْتَلِذُّ بِهَا وَتَطْلُبُ مُشَاهَدَتَهَا، تَقُولُ لَذَّ الشَّيْءُ يَلَذُّ لَذَاذًا وَلَذَاذَةً: إِذَا وَجَدَهُ لَذِيذًا وَالْتَذَّ بِهِ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّهُ الْأَعْيُنُ» وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ لَا تَمُوتُونَ وَلَا تُخْرَجُونَ مِنْهَا وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذِهِ الْمَقَالَةُ: أَيْ: صَارَتْ إِلَيْكُمْ كَمَا يَصِيرُ الْمِيرَاثُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ: مُبْتَدَأٌ، وَالْجَنَّةُ: صِفَتُهُ، وَالَّتِي أُورِثْتُمُوهَا: صِفَةٌ لِلْجَنَّةِ، وَالْخَبَرُ: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَقِيلَ الْخَبَرُ: الْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ الْفَاكِهَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ: الثِّمَارُ كُلُّهَا رَطْبُهَا وَيَابِسُهَا، أَيْ: لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ سِوَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَاكِهَةٌ كَثِيرَةُ الْأَنْوَاعِ وَالْأَصْنَافِ مِنْها تَأْكُلُونَ مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَقُدِّمَ الْجَارُّ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقُرَيْشٍ: «إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ، قَالُوا: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى كَانَ نَبِيًّا وَعَبْدًا مِنْ عباد الله

صَالِحًا وَقَدْ عَبَدَتْهُ النَّصَارَى؟ فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَإِنَّهُ كَآلِهَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ قُلْتُ: وما يصدّون؟ قال: يضجون وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ قال: خروج عيسى بن مَرْيَمَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجِدَالَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآية ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا» . وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّ الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ مَا نَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: فِي النَّارِ، قَالُوا: وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ؟ قَالَ: وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ قَالُوا: فَعِيسَى بن مَرْيَمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمُسَدَّدٌ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ قال: خروج عيسى قبل يوم القيامة. وأخرجه الْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ انْقَطَعْتِ الْأَرْحَامُ، وَقَلَّتِ الْأَنْسَابُ، وَذَهَبْتِ الْأُخُوَّةُ إِلَّا الْأُخُوَّةَ فِي اللَّهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي تَرْغِيبِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ قَالَ: خَلِيلَانِ مُؤْمِنَانِ، وَخَلِيلَانِ كَافِرَانِ تُوُفِّيَ أَحَدُ الْمُؤْمِنَيْنِ فَبُشِّرَ بِالْجَنَّةِ، فَذَكَرَ خَلِيلَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ خَلِيلِي فُلَانًا كَانَ يَأْمُرُنِي بِطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ، وَيَأْمُرُنِي بِالْخَيْرِ، وَيَنْهَانِي عَنِ الشَّرِّ، وَيُنْبِئُنِي أَنِّي مُلَاقِيكَ، اللَّهُمَّ لَا تُضِلَّهُ بَعْدِي حَتَّى تُرِيَهُ مِثْلَ مَا أَرَيْتَنِي، وَتَرْضَى عَنْهُ كَمَا رَضِيتَ عَنِّي، فَيُقَالُ لَهُ: اذْهَبْ فَلَوْ تَعْلَمُ مَا لَهُ عِنْدِي لَضَحِكْتَ كَثِيرًا، وَلَبَكَيْتَ قَلِيلًا، ثُمَّ يَمُوتُ الْآخَرُ فَيُجْمَعُ بين رواحهما فَيُقَالُ: لِيُثْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: نِعْمَ الْأَخُ، وَنِعْمَ الصَّاحِبُ، وَنِعْمَ الْخَلِيلُ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْكَافِرَيْنِ بُشِّرَ بِالنَّارِ، فَيَذْكُرُ خَلِيلَهُ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ خَلِيلِي فُلَانًا كَانَ يَأْمُرُنِي بِمَعْصِيَتِكَ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِكَ، وَيَأْمُرُنِي بِالشَّرِّ، وَيَنْهَانِي عَنِ الْخَيْرِ، وَيُنْبِئُنِي أَنِّي غَيْرُ مُلَاقِيكَ، اللَّهُمَّ فَلَا تَهْدِهِ بَعْدِي حَتَّى تُرِيَهُ مِثْلَ مَا أَرَيْتَنِي وَتَسْخَطَ عَلَيْهِ كَمَا سَخِطْتَ عَلَيَّ، فَيَمُوتُ الْآخَرُ فَيُجْمَعُ بَيْنَ أَرْوَاحِهِمَا فَيُقَالُ: لِيُثْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: بِئْسَ الْأَخُ وَبِئْسَ الصَّاحِبُ وَبِئْسَ الْخَلِيلُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَكْوَابُ الْجِرَارُ مِنَ الْفِضَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَالْكَافِرُ يَرِثُ الْمُؤْمِنَ مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ، وَالْمُؤْمِنُ يَرِثُ الْكَافِرَ مَنْزِلَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 إلى 89]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 89] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ أَيْ: أَهْلَ الْإِجْرَامِ الْكُفْرِيَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِيرَادُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمْ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَبْلَ هَذَا فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ أَبَدًا لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أَيْ: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أَيْ: آيِسُونَ مِنَ النَّجَاةِ، وَقِيلَ: سَاكِتُونَ سُكُوتَ يَأْسٍ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ فِي الْأَنْعَامِ وَما ظَلَمْناهُمْ أَيْ: مَا عَذَّبْنَاهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَلَا بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَهُ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا فَعَلُوا مِنَ الذُّنُوبِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «الظَّالِمِينَ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ فَصْلٍ. وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ النَّحْوِيُّ «الظَّالِمُونَ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ: مُبْتَدَأٌ، وَمَا بَعْدَهُ: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةَ خَبَرُ كَانَ وَنادَوْا يَا مالِكُ أَيْ: نَادَى الْمُجْرِمُونَ هَذَا النِّدَاءَ، وَمَالِكٌ هُوَ خَازِنُ النَّارِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَا مَالِكُ» بِدُونِ تَرْخِيمٍ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ «يَا مَالُ» بِالتَّرْخِيمِ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ بِالْمَوْتِ تَوَسَّلُوا بِمَالِكٍ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِيَسْأَلَهُ لَهُمْ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ لِيَسْتَرِيحُوا مِنَ الْعَذَابِ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أَيْ: مُقِيمُونَ فِي الْعَذَابِ، قِيلَ: سَكَتَ عَنْ إِجَابَتِهِمْ ثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَجَابَهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَقِيلَ: سَكَتَ عَنْهُمْ أَلْفَ عَامٍ، وَقِيلَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَقِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَالْمَعْنَى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمُ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ، فَدَعَوْكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا، وَلَمْ تُصَدِّقُوا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لَا يَقْبَلُونَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ: كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ وَأَنْزَلَهُ في كتبه. وقيل: هو خاص بالقرآن. وقيل وَمَعْنَى أَكْثَرَكُمْ: كُلَّكُمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ الرُّؤَسَاءَ وَالْقَادَةَ، وَمَنْ عَدَاهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ: هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةُ، أَيْ: بل أأبرموا أَمْرًا. وَفِي ذَلِكَ انْتِقَالٌ مِنْ تَوَجُّعِ أَهْلِ النَّارِ إِلَى حِكَايَةِ مَا يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ، وإبرام: الْإِتْقَانُ وَالْإِحْكَامُ، يُقَالُ أَبْرَمْتُ الشَّيْءَ: أَحْكَمْتُهُ وَأَتْقَنْتُهُ، وَأَبْرَمَ الْحَبْلَ: إِذَا أَحْكَمَ فَتْلَهُ، وَالْمَعْنَى: بَلْ أحكموا كيدا للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَإِنَّا مُحْكِمُونَ لَهُمْ كَيْدًا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ «1» وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَمْ قَضَوْا أَمْرًا فَإِنَّا قَاضُونَ عَلَيْهِمْ أَمْرَنَا بِالْعَذَابِ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أَيْ: بَلْ أَيَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ مَا يُسِرُّونَ بِهِ في أنفسهم، أو ما يتحدثون بِهِ سِرًّا فِي مَكَانٍ خَالٍ، وَمَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بَلى نَسْمَعُ ذَلِكَ وَنَعْمَلُ بِهِ وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ أَيِ: الْحَفَظَةُ عِنْدَهُمْ يَكْتُبُونَ جَمِيعَ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا بَلَى. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ قَوْلًا يُلْزِمُهُمْ بِهِ الْحُجَّةَ وَيَقْطَعُ مَا يُورِدُونَهُ مِنَ الشُّبْهَةِ فَقَالَ: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أَيْ: إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فِي قَوْلِكُمْ وَعَلَى زَعْمِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ فَقَدْ دَفَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، كَذَا قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّ الْمَعْنَى مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ ثَبَتَ لِلَّهِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَعْبُدُ هَذَا الْوَلَدَ الَّذِي تَزْعُمُونَ ثُبُوتَهُ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ. وَفِيهِ نَفْيٌ لِلْوَلَدِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَأَتَمِّ عِبَارَةٍ، وَأَحْسَنِ أُسْلُوبٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تعالى: إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «2» وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الرَّجُلِ لِمَنْ يُنَاظِرُهُ: إِنْ ثبت ما تقوله بالدليل فأنا أوّل من يعتقد وَيَقُولُ بِهِ، فَتَكُونُ «إِنْ» فِي «إِنْ كَانَ» شَرْطِيَّةً، وَرَجَّحَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ مَعْنَى الْعَابِدِينَ: الْآنِفِينَ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لا ملجئ إليه، ولكنه قَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْيَمَانِيُّ «الْعَبِدِينَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ، يُقَالُ عَبِدَ يَعْبَدُ عَبَدًا بِالتَّحْرِيكِ: إِذَا أَنِفَ وَغَضِبَ فَهُوَ عَبِدٌ، وَالِاسْمُ الْعَبَدَةُ مِثْلُ الْأَنَفَةِ، وَلَعَلَّ الْحَامِلَ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ الْبَعِيدَةَ هُوَ اسْتِبْعَادُ مَعْنَى فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ وَلَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ وَلَا مُسْتَنْكَرٍ. وَقَدْ حَكَى الْجَوْهَرِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو فِي قَوْلِهِ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أَنَّهُ مِنَ الْأَنَفِ وَالْغَضَبِ. وَحَكَاهُ المارودي عن الكسائي والقتبي، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: إِنَّ مَعْنَى الْعَابِدِينَ الْغِضَابَ الْآنِفِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ الْجَاحِدِينَ، وَحَكَى عَبِدَنِي حَقِّي: أَيْ جَحَدَنِي، وَقَدْ أَنْشَدُوا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَالُوهُ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ: أُولَئِكَ أَحْلَاسِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ ... وأعبد أن يهجى كُلَيْبًا بِدَارِمِ وَقَوْلَهُ أَيْضًا: أُولَئِكَ نَاسٌ لَوْ هَجَوْنِي هَجَوْتُهُمْ ... وَأَعْبَدُ أَنْ يُهْجَى كُلَيْبٌ بِدَارِمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَبِدَ وَأَعْبَدَ بِمَعْنَى أَنِفَ أَوْ غَضِبَ ثَابِتٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَكَفَى بِنَقْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ حُجَّةً، وَلَكِنْ جَعْلُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا مِنَ التَّكَلُّفِ الَّذِي لَا مُلْجِئَ إِلَيْهِ وَمِنَ التَّعَسُّفِ الْوَاضِحِ. وَقَدْ رَدَّ ابْنُ عَرَفَةَ مَا قَالُوهُ فَقَالَ: إِنَّمَا يُقَالُ عَبَدَ يَعْبُدُ فَهُوَ عَبْدٌ، وَقَلَّ مَا يُقَالُ عَابِدٌ وَالْقُرْآنُ لَا يَأْتِي بِالْقَلِيلِ مِنَ اللُّغَةِ وَلَا الشَّاذِّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَلَدٌ» بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمًا «وُلْدٌ» بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ وتقديسا عما يقولون من الكذب بأن له ولدا ويفترون

_ (1) . الطور: 42. (2) . سبأ: 24.

عليه سبحانه ما لا يليق بجنابه، وَهَذَا إِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فقد نزه عَمَّا قَالُوهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ رَسُولِهِ الَّذِي أَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَهُ فَقَدْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَضُمَّ إِلَى مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ بِزَعْمِهِمُ الْبَاطِلَ تَنْزِيهَ رَبِّهِ وَتَقْدِيسَهُ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا أَيِ: اتْرُكِ الْكُفَّارَ حَيْثُ لَمْ يَهْتَدُوا بِمَا هَدَيْتَهُمْ بِهِ وَلَا أَجَابُوكَ فِيمَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ يَخُوضُوا فِي أَبَاطِيلِهِمْ، وَيَلْهُوا فِي دُنْيَاهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، قِيلَ: وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: هُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَإِنَّمَا أُخْرِجَ مَخْرَجَ التَّهْدِيدِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُلَاقُوا» وَقَرَأَ مجاهد، وابن محيصن، وابن السميقع «حَتَّى يَلْقَوْا» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِإِلَهٍ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مَعْبُودٍ أَوْ مُسْتَحِقٍّ لِلْعِبَادَةِ، وَالْمَعْنَى: وَهُوَ الَّذِي مَعْبُودٌ فِي السَّمَاءِ وَمَعْبُودٌ فِي الْأَرْضِ، أَوْ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ فِي السَّمَاءِ، وَالْعِبَادَةِ فِي الْأَرْضِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَإِلَهٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ هُوَ إِلَهٌ، وَفِي الْأَرْضِ هُوَ إِلَهٌ، وَحَسُنَ حَذْفُهُ لِطُولِ الْكَلَامِ، قَالَ: وَالْمَعْنَى عَلَى الْإِخْبَارِ بِإِلَاهِيَّتِهِ، لَا عَلَى الْكَوْنِ فِيهِمَا. قَالَ قَتَادَةُ: يُعْبَدُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقِيلَ فِي: بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: هُوَ الْقَادِرُ عَلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «1» وقرأ عمر ابن الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ اللَّهُ وَفِي الْأَرْضِ اللَّهُ» عَلَى تَضْمِينِ الْعَلَمِ مَعْنَى الْمُشْتَقِّ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ أَيِ: الْبَلِيغُ الْحِكْمَةِ الْكَثِيرُ الْعِلْمِ وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما تَبَارَكَ تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ وَهِيَ كَثْرَةُ الْخَيْرَاتِ، وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَهُمَا: الْهَوَاءُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أَيْ: عِلْمُ الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ قِيَامُهَا فِيهِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فَيُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُرْجَعُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ أَيْ: لَا يَمْلِكُ مَنْ يَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَدْعُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ بِالْفَوْقِيَّةِ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ أَيِ: التَّوْحِيدِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَيْ: هُمْ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ بِمَا شَهِدُوا بِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَهُمُ الْمَسِيحُ وعزير وَبَصِيرَةٍ بِمَا شَهِدُوا بِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَهُمُ الْمَسِيحُ وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ، فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا. وَقِيلَ: هُوَ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ يَشْفَعُ فِيهِ هَؤُلَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفًا، أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ إِلَّا فِيمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا لِمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَآمَنَ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَشْفَعُونَ لِعَابِدِيهَا، بَلْ يَشْفَعُونَ لِمَنْ شَهِدَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَقِيلَ: مَدَارُ الِاتِّصَالِ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى جَعْلِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ عَامًّا لِكُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمَدَارُ الِانْقِطَاعِ عَلَى جَعْلِهِ خَاصًّا بِالْأَصْنَامِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ اللَّامُ هِيَ الْمُوطِئَةُ لِلْقَسَمِ، وَالْمَعْنَى: لَئِنْ سَأَلْتَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَابِدِينَ لِلْأَصْنَامِ مَنْ خَلَقَهُمْ أَقَرُّوا وَاعْتَرَفُوا بِأَنَّ خَالِقَهُمُ الله،

_ (1) . طه: 71.

وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الْجُحُودَ لِظُهُورِ الْأَمْرِ وَجَلَائِهِ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أَيْ: فَكَيْفَ يَنْقَلِبُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَيَنْصَرِفُونَ عَنْهَا مَعَ هَذَا الِاعْتِرَافِ، فَإِنَّ الْمُعْتَرِفَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ إِذَا عَمَدَ إِلَى صَنَمٍ، أَوْ حَيَوَانٍ وَعَبَدَهُ مَعَ اللَّهِ، أَوْ عَبَدَهُ وَحْدَهُ فَقَدْ عَبَدَ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، وَفِي هَذَا مِنَ الْجَهْلِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ. يُقَالُ أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ إِفْكًا: إِذَا قَلَبَهُ وَصَرَفَهُ عَنِ الشَّيْءِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَ الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ، فَأَنَّى يُؤْفَكُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ فِي اتِّخَاذِهِمْ لَهَا آلِهَةً. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَ الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ جَمِيعًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقِيلِهِ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ السَّاعَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ يَعْلَمُ السَّاعَةَ وَيَعْلَمُ قِيلَهُ أَوْ عَطْفًا عَلَى سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ، أَيْ: يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَيَعْلَمُ قِيلَهُ، أَوْ عَطْفًا عَلَى مَفْعُولِ يَكْتُبُونَ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: يَكْتُبُونَ ذَلِكَ، وَيَكْتُبُونَ قِيلَهُ، أَوْ عَطْفًا عَلَى مَفْعُولِ يَعْلَمُونَ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُونَ قِيلَهُ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ: قَالَ قِيلَهُ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيِ: اللَّهُ يَعْلَمُ قِيلَ رَسُولِهِ، أَوْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ بِالْحَقِّ، أَيْ: شَهِدَ بِالْحَقِّ وَبِقِيلِهِ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ. وَمِنَ الْمُجَوِّزِينَ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَمِنَ الْمُجَوِّزِينَ لِلثَّانِي الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ، وَمِنَ الْمُجَوِّزِينَ لِلنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ أَيْضًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ «وَقِيلِهِ» بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ السَّاعَةِ، أَيْ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَعِلْمُ قِيلِهِ، وَالْقَوْلُ وَالْقَالُ وَالْقِيلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَوْ: عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْقَسَمِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ هُرْمُزٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ «وَقِيلُهُ» بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى عِلْمُ السَّاعَةِ، أَيْ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَعِنْدَهُ قِيلُهُ، أَوْ: عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهُ، أَوْ: خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَقِيلُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ: وَقِيلُهُ مَسْمُوعٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ قُلْتُ قَوْلًا وَقِيلًا وَقَالًا، وَالضَّمِيرُ فِي وَقِيلِهِ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا نَبِيُّكُمْ يَشْكُو قَوْمَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمَسِيحِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَالَ مُنَادِيًا لِرَبِّهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَرْسَلْتَنِي إِلَيْهِمْ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ. ثُمَّ لَمَّا نَادَى رَبَّهُ بِهَذَا أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أَيْ أَعْرِضْ عَنْ دَعْوَتِهِمْ وَقُلْ سَلامٌ أَيْ: أَمْرِي تَسْلِيمٌ مِنْكُمْ، وَمُتَارَكَةٌ لَكُمْ. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ مُدَارَاةً حَتَّى يَنْزِلَ حُكْمِي، وَمَعْنَاهُ: الْمُتَارَكَةُ. كَقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَهُ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ فَصَارَ الصَّفْحُ مَنْسُوخًا بِالسَّيْفِ، وَقِيلَ: هِيَ محكمة لم تنسخ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَعْلَمُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالْفَوْقِيَّةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ سَلَامٌ مَرْفُوعٌ بِإِضْمَارِ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: وَنادَوْا يا مالِكُ قَالَ: يَمْكُثُ عَنْهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ يُجِيبُهُمْ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: بَيْنَا ثَلَاثَةٌ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا، قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ، أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ، فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا؟ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: إِذَا جَهَرْتُمْ سَمِعَ، وَإِذَا أَسْرَرْتُمْ لَمْ يَسْمَعْ، فَنَزَلَتْ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ يَقُولُ: إِنْ يَكُنْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَالَ: الشَّاهِدِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ قَالَ: هَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ إِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ قَطُّ: أَيْ مَا كَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عن قتادة نحوه.

سورة الدخان

سورة الدّخان هي تسع وخمسون، وقيل سبع وخمسون آية، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ سُورَةَ الدُّخَانِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قرأ حم الدخان في ليلة أَصْبَحَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي خَثْعَمٍ ضَعِيفٌ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قرأ حم الدخان في ليلة جُمُعَةٍ أَصْبَحَ مَغْفُورًا لَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهِشَامُ بْنُ الْمِقْدَامِ يُضَعَّفُ، وَالْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَذَا قَالَ أَيُّوبُ، وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ، وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الضُّرَيْسِ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَمَا أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الدُّخَانَ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ أَصْبَحَ مَغْفُورًا لَهُ وَزُوِّجَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ حم الدُّخَانِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَنَى اللَّهُ له بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) قَوْلُهُ: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي السُّورَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَعْنًى وَإِعْرَابًا، وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَإِنْ جَعَلْتَ الْجَوَابَ حم كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابًا لِلْقَسَمِ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِلْمُقْسَمِ بِهِ وَلَا تَكُونُ صِفَةُ الْمُقْسَمِ بِهِ جَوَابًا لِلْقَسَمِ، وَقَالَ الْجَوَابُ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ:

إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ جَوَابٌ ثَانٍ، أَوْ: جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِلْإِنْزَالِ، وَفِي حُكْمِ الْعِلَّةِ لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِنَا الْإِنْذَارَ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنْزَلْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ الْمُبِينِ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ سَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنْزَلْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْسَمَ بِسَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَاللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ: اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ، وَلَيْلَةُ الْبَرَاءَةِ، وَلَيْلَةُ الصَّكِّ، وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ هُنَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أَنْزَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا فِي الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2» وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ يَنْزِلُ مِنَ اللَّوْحِ كُلَّ لَيْلَةِ قَدْرٌ مِنَ الْوَحْيِ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيلُ فِي السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْعَامِ، وَوَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِأَنَّهَا مُبَارَكَةٌ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلِكَوْنِهَا تَتَنَزَّلُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْقَدْرِ، وَمِنْ جُمْلَةِ بَرَكَتِهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَمَعْنَى يُفْرَقُ: يُفْصَلُ وَيُبَيَّنُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَقْتُ الشَّيْءَ أَفْرُقُهُ فَرْقًا، وَالْأَمْرُ الْحَكِيمُ: الْمُحْكَمُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَكْتُبُ فِيهَا مَا يَكُونُ في السنة من حياة وموت وبسط وَخَيْرٍ وَشَرٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ: وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ: إِمَّا صِفَةٌ أُخْرَى لِلَيْلَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، أَوْ: مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُفْرَقُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مُخَفَّفًا، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَالْأَعْرَجُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَنَصْبِ كُلُّ أَمْرٍ وَرَفْعِ حَكِيمٍ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ. وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَجْمَلَهَا هنا وبينها في سورة البقرة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَبِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَدْرِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الْوَاضِحِ مَا يُوجِبُ الْخِلَافَ وَلَا مَا يَقْتَضِي الِاشْتِبَاهَ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: انْتِصَابُ أمرا بيفرق، أَيْ: يُفْرَقُ فَرْقًا، لِأَنَّ أَمْرًا بِمَعْنَى فَرْقًا. وَالْمَعْنَى: إِنَّا نَأْمُرُ بِبَيَانِ ذَلِكَ وَنَسْخِهِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ مِثْلُ قَوْلِكَ يَضْرِبُ ضَرْبًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَمْرًا فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنْزَلْنَاهُ إِنْزَالًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: آمِرِينَ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيْ: أَعْنِي بِهَذَا الْأَمْرِ أَمْرًا حَاصِلًا مِنْ عِنْدِنَا، وَفِيهِ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِ الْقُرْآنِ، وَتَعْظِيمٌ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي انْتِصَابِ أَمْرًا اثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا أَظْهَرُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «أَمْرٌ» بِالرَّفْعِ، أَيْ: هُوَ أَمْرٌ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ: إِمَّا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أَوْ: جَوَابٌ ثَالِثٌ لِلْقَسَمِ، أَوْ: مُسْتَأْنَفَةٌ، قَالَ الرَّازِيُّ: الْمَعْنَى إِنَّا فَعَلْنَا ذَلِكَ الْإِنْذَارَ لِأَجْلِ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ انْتِصَابُ رَحْمَةٍ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ لِلرَّحْمَةِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّهَا مُنْتَصِبَةٌ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ لِمُرْسِلِينَ، أَيْ: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً. وَقِيلَ: هِيَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: رَاحِمِينَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «رَحْمَةٌ» بِالرَّفْعِ عَلَى تقدير: هي رحمة

_ (1) . القدر: 1. (2) . البقرة: 185.

إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَنْ دَعَاهُ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ فَقَالَ: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما قَرَأَ الْجُمْهُورُ «رَبُّ» بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أَوْ: عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرَهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَوْ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ رَبٌّ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ رَبِّ بِالْجَرِّ: عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ رَبِّكَ، أَوْ: بَيَانٌ لَهُ، أَوْ نعت إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنه ربّ السموات والأرض وما بينهما، وقد أقرّوا بِذَلِكَ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَجُمْلَةُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُسْتَأْنَفَةٌ مقرّرة لما قبلها، أو خبر ربّ السموات كَمَا مَرَّ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ: يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هُوَ رَبُّكُمْ، أَوْ: عَلَى أَنَّهُ بدل من ربّ السموات، أَوْ: بَيَانٌ، أَوْ نَعْتٌ لَهُ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةِ الشِّيرَازِيِّ عَنْهُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْحَسَنُ بِالْجَرِّ، وَوَجْهُ الْجَرِّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بالجرّ في ربّ السموات بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أَضْرَبَ عَنْ كَوْنِهِمْ مُوقِنِينَ إِلَى كَوْنِهِمْ فِي شَكٍّ مِنَ التوحيد والبعث، وفي إقرارهم بأن الله خلقهم، وَخَالِقُ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّعِبِ وَالْهَزْوِ، وَمَحَلُّ يَلْعَبُونَ: الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ، أَوِ: النُّصْبُ عَلَى الْحَالِ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ كَوْنَهُمْ فِي شَكٍّ وَلَعِبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَالْمَعْنَى: فَانْتَظِرْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: احْفَظْ قَوْلَهُمْ هَذَا لِتَشْهَدَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الدُّخَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ مَتَى يَأْتِي؟ فَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَأَنَّهُ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَشْرِ الْآيَاتِ الَّتِي تَكُونُ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمْرٌ قَدْ مَضَى، وَهُوَ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَرَى بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ دُخَانًا، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: وَذَلِكَ حِينَ دَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجَهْدِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ بَيَانُ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ. وَقَوْلُهُ: يَغْشَى النَّاسَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِدُخَانٍ، أَيْ: يَشْمَلُهُمْ، وَيُحِيطُ بِهِمْ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: يَقُولُونَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَوْ: قَائِلِينَ ذَلِكَ، أَوْ: يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ أَتَوُا النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقَالُوا: إِنْ كَشَفَ اللَّهُ عَنَّا هَذَا الْعَذَابَ أَسْلَمْنَا، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الْجُوعُ الَّذِي كَانَ بِسَبَبِهِ مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الدُّخَانِ، أَوْ يَقُولُونَهُ إِذَا رَأَوُا الدُّخَانَ الَّذِي هُوَ مِنْ آيَاتِ السَّاعَةِ، أَوْ إِذَا رَأَوْهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ. وَالرَّاجِحُ مِنْهَا أَنَّهُ الدُّخَانُ الَّذِي كَانُوا يَتَخَيَّلُونَهُ مِمَّا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْجَهْدِ، وَشِدَّةِ الْجُوعِ، وَلَا يُنَافِي تَرْجِيحُ هَذَا مَا وَرَدَ أَنَّ الدُّخَانَ مِنْ آيَاتِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دُخَانٌ آخَرُ وَلَا يُنَافِيهِ أَيْضًا مَا قِيلَ إِنَّهُ الَّذِي كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ دُخَانٌ آخَرُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ وُقُوعِهِ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أَيْ: كَيْفَ يَتَذَكَّرُونَ ويتعظون بما نزل بهم وَالحال أَنْ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ يُبَيِّنُ لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ والدنيا

ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَهُمْ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، بَلْ جَاوَزُوهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أَيْ: قَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ بَشَرٌ وَقَالُوا إِنَّهُ مَجْنُونٌ، فَكَيْفَ يَتَذَكَّرُ هَؤُلَاءِ وَأَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى. ثُمَّ لَمَّا دَعَوُا اللَّهَ بِأَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَأَنَّهُ إِذَا كَشَفَهُ عَنْهُمْ آمَنُوا أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أَيْ: إِنَّا نَكْشِفُهُ عَنْهُمْ كَشْفًا قَلِيلًا، أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَنْزَجِرُونَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشرك، ولا يفون بما وعدوا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ عائِدُونَ أَيْ: إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَشَفَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابَ رَجَعُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّكُمْ عَائِدُونَ إِلَيْنَا بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ تَأْتِي السماء، وقيل: هو متعلق بمنتقمون، وَقِيلَ: بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مُنْتَقِمُونَ وَهُوَ نَنْتَقِمُ. وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى: هِيَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَالَهُ الْأَكْثَرُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا عَادُوا إِلَى التَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ بَعْدَ رَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمُ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: الْمُرَادُ بِهَا عَذَابُ النَّارِ، وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ نَبْطِشُ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الطَّاءِ: أَيْ: نَبْطِشُ بِهِمْ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الطَّاءِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَطَلْحَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الطَّاءِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَنَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُجُومًا لِجَوَابِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ قَالَ: يُكْتَبُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ رِزْقٍ وَمَوْتٍ، وَحَيَاةٍ وَمَطَرٍ، حَتَّى يُكْتَبَ الْحَاجُّ: يَحُجُّ فُلَانٌ، وَيَحُجُّ فُلَانٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ قَالَ: أَمْرُ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ إِلَّا الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، فَإِنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ [عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ] «1» قَالَ: إِنَّكَ لَتَرَى الرَّجُلَ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ وَقَدْ وَقَعَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى ثُمَّ قَرَأَ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الْآيَةَ، يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، قَالَ: فَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ يُفْرَقُ أَمْرُ الدُّنْيَا إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ مِنْ مَوْتٍ أَوْ حَيَاةٍ أَوْ رِزْقٍ، كُلُّ أَمْرِ الدُّنْيَا يُفْرَقُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ إِلَى مِثْلِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ زَنْجَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «تُقْطَعُ الْآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى شَعْبَانَ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ وَقَدْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ، وَهَذَا مُرْسَلٌ وَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَلَا تُعَارَضُ بِمِثْلِهِ صَرَائِحُ الْقُرْآنِ. وَمَا رُوِيَ فِي هَذَا فَهُوَ إِمَّا مُرْسَلٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَقَدْ أَوْرَدَ ذَلِكَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَأَوْرَدَ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبْطَئُوا عَنِ الْإِسْلَامِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ

_ (1) . ما بين حاصرتين مستدرك من: الدر المنثور (7/ 400) .

[سورة الدخان (44) : الآيات 17 إلى 37]

مُبِينٌ الْآيَةَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، فَاسْتَسْقَى لَهُمْ فَسُقُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَدْ مَضَى الْبَطْشَةُ وَالدُّخَانُ وَاللِّزَامُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَمْ أَنَمْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَقُلْتُ لِمَ؟ قَالَ: طَلَعَ الْكَوْكَبُ فَخَشِيتُ أَنْ يَطْرُقَ الدُّخَانُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَكَذَا صَحَّحَهُ السُّيُوطِيُّ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقَدْ عَرَّفْنَاكَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ نَازِلَةً فِي الدُّخَانِ الَّذِي كَانَ يَتَرَاءَى لِقُرَيْشٍ مِنَ الْجُوعِ، وَبَيْنَ كَوْنِ الدُّخَانِ مِنْ آيَاتِ السَّاعَةِ وَعَلَامَاتِهَا وَأَشْرَاطِهَا. فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ وَحِسَانٌ وَضِعَافٌ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهَا، وَالْوَاجِبُ التَّمَسُّكُ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ دُخَانَ قُرَيْشٍ عِنْدَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ هُوَ سَبَبُ النُّزُولِ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ انْدِفَاعَ تَرْجِيحِ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهُ الدُّخَانُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَابْنِ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرِهِ، وَهَكَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الدُّخَانُ الْكَائِنُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مُتَمَسِّكًا بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ دُخَانٌ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ فَإِنَّ هَذَا لَا يُعَارِضُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ظَنَّ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ الدُّخَانِ يَوْمَ الْفَتْحِ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَا أَقُولُ هِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ قَبْلَ هَذَا: فَسَّرَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ وَافَقَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَلَى تَفْسِيرِهِ الدُّخَانَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رواية العوفي عنه وعن أبيّ ابن كَعْبٍ وَجَمَاعَةٍ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ يَوْمَ بَطْشَةٍ كُبْرَى أَيْضًا انْتَهَى. قُلْتُ: بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَوْمُ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمَ بَطْشَةٍ أَكْبَرَ مِنْ كُلِّ بَطْشَةٍ، فَإِنَّ السِّيَاقَ مَعَ قُرَيْشٍ، فَتَفْسِيرُهُ بِالْبَطْشَةِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْبَطْشَةِ الَّتِي تَكُونُ يَوْمَ القيامة لكل عاص من الإنس والجنّ. [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 37] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)

قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَيِ: ابْتَلَيْنَاهُمْ، وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ هُنَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَمَرُوهُمْ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ فَكَذَّبُوهُمْ، أَوْ وَسَّعَ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ فَطَغَوْا وَبَغَوْا. قَالَ الزَّجَّاجُ: بَلَوْنَاهُمْ، وَالْمَعْنَى: عَامَلْنَاهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبَرِ بِبَعْثِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَقُرِئَ فَتَنَّا بِالتَّشْدِيدِ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَيْ: كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ كَرِيمٌ فِي قَوْمِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: حَسَنُ الْخُلُقِ بِالتَّجَاوُزِ وَالصَّفْحِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَرِيمٌ عَلَى رَبِّهِ إِذِ اخْتَصَّهُ بِالنُّبُوَّةِ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أَنْ هَذِهِ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِتَقَدُّمِ مَا هُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: بِأَنْ أَدُّوا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى أَرْسِلُوا مَعِي عِبَادَ اللَّهِ وَأَطْلِقُوهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَعِبَادُ اللَّهِ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ بِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ مَا وَجَبَ عَلَيْكُمْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى مُضَافٌ. وَقِيلَ: أَدُّوا إِلَيَّ سَمْعَكُمْ حَتَّى أُبَلِّغَكُمْ رِسَالَةَ رَبِّكُمْ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ هُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ، أَيْ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَيْكُمْ أَمِينٌ عَلَى الرِّسَالَةِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أَيْ: لَا تَتَجَبَّرُوا وَتَتَكَبَّرُوا عَلَيْهِ بِتَرَفُّعِكُمْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَمُتَابَعَةِ رُسُلِهِ، وَقِيلَ: لَا تَبْغُوا عَلَى اللَّهِ، وَقِيلَ: لَا تَفْتَرُوا عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَلَامٍ، وَجُمْلَةُ: إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ، أَيْ: بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِعُذْرٍ بَيِّنٍ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنِّي وَقُرِئَ بِالْفَتْحِ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ لَمَّا تَوَعَّدُوهُ بِالْقَتْلِ، وَالْمَعْنَى: مِنْ أَنْ تَرْجُمُونِ. قَالَ قَتَادَةُ: تَرْجُمُونِي بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: تَشْتُمُونِ، وَقِيلَ: تَقْتُلُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أَيْ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي وَتُقِرُّوا بِنُبُوَّتِي فَاتْرُكُونِي وَلَا تَتَعَرَّضُوا لِي بِأَذًى. قَالَ مُقَاتِلٌ: دَعُونِي كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي، وَقِيلَ: كُونُوا بِمَعْزِلٍ عَنِّي، وَأَنَا بِمَعْزِلٍ مِنْكُمْ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا، وَقِيلَ: فَخَلُّوا سَبِيلِي، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. ثُمَّ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقُوهُ وَلَمْ يُجِيبُوا دَعْوَتَهُ، رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ بِالدُّعَاءِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ: أَيْ: دَعَاهُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِكَسْرِهَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: فَكَفَرُوا فَدَعَا رَبَّهُ، وَالْمُجْرِمُونَ: الْكَافِرُونَ، وَسَمَّاهُ دُعَاءً مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا مُجَرَّدَ كَوْنِهِمْ مُجْرِمِينَ، لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أجاب الله سبحانه دعاءه، فأمره أَنْ يَسْرِيَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا، يُقَالُ سَرَى وَأَسْرَى لُغَتَانِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأَسْرِ بِالْقَطْعِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ بِالْوَصْلِ، وَوَافَقَهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مِنْ أَسْرَى، وَالثَّانِيَةُ مِنْ سَرَى، وَالْجُمْلَةُ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ فَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ

أَيْ: يَتْبَعُكُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ خُرُوجُ فِرْعَوْنَ بَعْدَهُمْ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أَيْ: سَاكِنًا، يُقَالُ رَهَا يَرْهُو رَهْوًا: إِذَا سَكَنَ لَا يَتَحَرَّكُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ افْعَلْ ذَلِكَ رَهْوًا، أَيْ: سَاكِنًا عَلَى هَيْئَتِكَ، وَعَيْشٌ رَاهٍ: أَيْ سَاكِنٌ، وَرَهَا الْبَحْرُ سَكَنَ، وَكَذَا قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَالْخَيْلَ تَمْرَحُ رَهْوًا في أعنّتها ... كالطير تنجو مِنَ الشُّرْنُوبِ ذِي الْوَبَرِ أَيْ: وَالْخَيْلُ تَمْرَحُ فِي أَعِنَّتِهَا سَاكِنَةً، وَالْمَعْنَى: اتْرُكِ الْبَحْرَ سَاكِنًا عَلَى صِفَتِهِ بَعْدَ أَنْ ضَرَبْتَهُ بِعَصَاكَ، وَلَا تَأْمُرْهُ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا كَانَ لِيَدْخُلَهُ آلُ فِرْعَوْنَ بَعْدَكَ وَبَعْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَنْطَبِقَ عَلَيْهِمْ فَيَغْرَقُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: رَهَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ يرهو رَهْوًا: أَيْ فَتَحَ.. قَالَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً وَالْمَعْنَى: اتْرُكْهُ مُنْفَرِجًا كَمَا كَانَ بَعْدَ دُخُولِكُمْ فِيهِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَ لَفْظَاهُمَا، لِأَنَّ الْبَحْرَ إِذَا سَكَنَ جَرْيُهُ انْفَرَجَ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَهْوًا نَعْتًا لِمُوسَى، أَيْ: سِرْ سَاكِنًا عَلَى هَيْئَتِكَ. وَقَالَ كَعْبٌ وَالْحَسَنُ رَهْوًا: طَرِيقًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَالرَّبِيعُ سَهْلًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَبَسًا كَقَوْلِهِ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَالْمَعْنَى اتْرُكْهُ ذَا رَهْوٍ أَوِ اتْرُكْهُ رَهْوًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أَيْ: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مُغْرَقُونَ. أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ مُوسَى بِذَلِكَ لِيَسْكُنَ قَلْبُهُ وَيَطْمَئِنَّ جَأْشُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ لِقَصْدِ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ، وَقُرِئَ بِالْفَتْحِ عَلَى تَقْدِيرِ لِأَنَّهُمْ كَمْ هِيَ الْخَبَرِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلتَّكْثِيرِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَمَقامٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ لِلْقِيَامِ، وَقَرَأَ ابن هرمز، وقتادة، وابن السميقع، وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ بِضَمِّهَا اسْمُ مَكَانِ الْإِقَامَةِ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ النَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ التَّنَعُّمُ: يُقَالُ نَعَّمَهُ اللَّهُ وَنَاعَمَهُ فَتَنَعَّمَ، وَبِالْكَسْرِ الْمِنَّةُ، وَمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ، وَفُلَانٌ وَاسِعُ النِّعْمَةِ: أَيْ وَاسِعُ الْمَالِ ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الْجَوْهَرِيُّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ فاكِهِينَ بِالْأَلْفِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو الْأَشْهَبِ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ «فَكِهِينَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: مُتَنَعِّمِينَ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: أَشِرِينَ بَطِرِينَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فَكِهَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ فَكِهٌ إِذَا كَانَ طَيِّبَ النَّفْسِ مَزَّاحًا، وَالْفَكِهُ أَيْضًا: الْأَشِرُ الْبَطِرُ. قَالَ: وَفَاكِهِينَ: أَيْ نَاعِمِينَ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ كَالْحَاذِرِ وَالْحَذِرِ، وَالْفَارِهِ وَالْفَرِهِ. وَقِيلَ إِنَّ الْفَاكِهَ: هُوَ الْمُسْتَمْتِعُ بِأَنْوَاعِ اللَّذَّةِ كَمَا يَتَمَتَّعُ الرَّجُلُ بِأَنْوَاعِ الْفَاكِهَةِ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ الْكَافُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَصْدَرِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرَكُوا، أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ السَّلْبِ سَلَبْنَاهُمْ إِيَّاهَا، وَقِيلَ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ أَخْرَجْنَاهُمْ مِنْهَا، وَقِيلَ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِهْلَاكِ أَهْلَكْنَاهُمْ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَأَوْرَثْناها مَعْطُوفًا عَلَى تَرَكُوا وَعَلَى الْوُجُوهِ الْآخِرَةِ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْآخَرِينَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَلَّكَهُمْ أَرْضَ مِصْرَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِيهَا مُسْتَعْبَدِينَ، فَصَارُوا لَهَا وَارِثِينَ: أَيْ أَنَّهَا وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ كَمَا يَصِلُ الْمِيرَاثُ إِلَى الْوَارِثِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ:

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا «1» فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ هَذَا بَيَانٌ لِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهَلَاكِهِمْ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ عَلَى الْأَرْضِ عَمَلًا صَالِحًا تَبْكِي عَلَيْهِمْ بِهِ وَلَمْ يَصْعَدْ لَهُمْ إِلَى السماء عمل طيب تبكي عَلَيْهِمْ بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يُصَبْ بِفَقْدِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ مِنْهُمْ: بَكَتْ لَهُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَيْ: عَمَّتْ مُصِيبَتُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرٍ: لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: بَكَى حَارِثُ الْجَوْلَانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ ... وَحَوْرَانُ مِنْهُ خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ: أَيْ مَا بَكَى عَلَيْهِمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ تَبْكِيَانِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَقِيلَ إِنَّهُ يَبْكِي عَلَى الْمُؤْمِنِ مَوَاضِعُ صَلَاتِهِ وَمَصَاعِدُ عَمَلِهِ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أَيْ: مُمْهَلِينَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ بَلْ عُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ لِفَرْطِ كُفْرِهِمْ وَشِدَّةِ عِنَادِهِمْ وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ أَيْ خَلَّصْنَاهُمْ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ مِمَّا كَانُوا فيه من الاستبعاد، وَقَتْلِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ وَتَكْلِيفِهِمْ لِلْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ فِرْعَوْنَ بَدَلٌ مِنَ الْعَذَابِ إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وَإِمَّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْعَذَابِ فَأُبْدِلَ مِنْهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْعَذَابِ تَقْدِيرُهُ صَادِرًا مِنْ فِرْعَوْنَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «مَنْ فِرْعَوْنُ» بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ التَّحْقِيرِيِّ كَمَا يُقَالُ لِمَنِ افْتَخَرَ بِحَسَبِهِ أَوْ نَسَبِهِ: مَنْ أَنْتَ؟ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ أَيْ: عَالِيًا فِي التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ مِنَ الْمُسْرِفِينَ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَارْتِكَابِ مَعَاصِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «2» وَلَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ دَفْعِهِ لِلضُّرِّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَيَّنَ مَا أَكْرَمَهُمْ بِهِ فَقَالَ: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ أَيِ: اخْتَارَهُمُ اللَّهُ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ اخْتَارَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الأمة كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «3» وَقِيلَ: عَلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ لِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، ومحل على علم: النصب على الحال من فَاعِلِ اخْتَرْنَاهُمْ، أَيْ: حَالُ كَوْنِ اخْتِيَارِنَا لَهُمْ على علم منا، وعلى العالمين متعلق باخترناهم وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ أَيْ: مُعْجِزَاتِ مُوسَى مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أَيِ: اخْتِبَارٌ ظَاهِرٌ، وَامْتِحَانٌ وَاضِحٌ لِنَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْآيَاتُ إِنْجَاؤُهُمْ مِنَ الْغَرَقِ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ لَهُمْ، وَتَظْلِيلُ الْغَمَامِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْزَالُ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْآيَاتُ هِيَ الشَّرُّ الَّذِي كَفَّهُمْ عَنْهُ، وَالْخَيْرُ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْبَلَاءُ الْمُبِينُ: النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً «4» وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

_ (1) . الأعراف: 137. (2) . القصص: 4. (3) . آل عمران: 110. [.....] (4) . الأنفال: 17.

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ، وَقِصَّةُ فِرْعَوْنَ مَسُوقَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِوَائِهِمْ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أَيْ: مَا هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى الَّتِي نَمُوتُهَا فِي الدُّنْيَا وَلَا حَيَاةَ بَعْدَهَا وَلَا بَعْثَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أَيْ: بِمَبْعُوثِينَ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ قَصْدٌ إِلَى إِثْبَاتِ مَوْتَةٍ أُخْرَى، بَلِ الْمُرَادُ مَا الْعَاقِبَةُ وَنِهَايَةُ الْأَمْرِ إِلَّا الْمَوْتَةُ الْأُولَى الْمُزِيلَةُ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، قَالَ الرَّازِيُّ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَأْتِينَا مِنَ الْأَحْوَالِ الشَّدِيدَةِ إِلَّا الْمَوْتَةُ الْأُولَى، ثُمَّ أَوْرَدُوا عَلَى مَنْ وَعَدَهُمْ بِالْبَعْثِ مَا ظَنُّوهُ دَلِيلًا، وَهُوَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ، فَقَالُوا فَأْتُوا بِآبائِنا أَيْ: أَرْجِعُوهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِيمَا تَقُولُونَهُ وَتُخْبِرُونَا بِهِ مِنَ الْبَعْثِ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ أَيْ: أَهُمْ خَيْرٌ فِي الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ: أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ الْحِمْيَرِيِّ الَّذِي دَارَ فِي الدُّنْيَا بِجُيُوشِهِ، وَغَلَبَ أَهْلَهَا وَقَهَرَهُمْ، وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْمِ تُبَّعٍ جَمِيعُ أَتْبَاعِهِ لَا وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا بِآبائِنا لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم وحده كقوله: رَبِّ ارْجِعُونِ «1» وَالْأَوْلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالمراد ب الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عَادٌ، وَثَمُودُ، وَنَحْوُهُمْ، وَقَوْلُهُ: أَهْلَكْناهُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِهِمْ وَعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ تَعْلِيلٌ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَهْلَكَ هَؤُلَاءِ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مُجْرِمِينَ، فَإِهْلَاكُهُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُمْ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُجْرِمًا مَعَ ضَعْفِهِ وَقُصُورِ قُدْرَتِهِ بِالْأَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَالَ: ابْتَلَيْنَا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ قَالَ: هُوَ مُوسَى أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أَرْسِلُوا مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ قَالَ: لَا تَعْثَوْا إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قَالَ: بِعُذْرٍ مُبِينٍ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ قَالَ: بِالْحِجَارَةِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أَيْ خَلُّوا سَبِيلِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ قَالَ: يَقُولُ اتَّبِعُونِي إِلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ قَالَ: لَا تَفْتَرُوا وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ تَرْجُمُونِ قَالَ: تَشْتُمُونِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: رَهْواً قَالَ: سَمْتًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا رَهْواً قَالَ: كهيئته وامض. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ قَوْلِهِ: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً قَالَ: طَرِيقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: الرَّهْوُ أَنْ يُتْرَكَ كَمَا كَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَمَقامٍ كَرِيمٍ قَالَ: الْمَنَابِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ بَابَانِ: بَابٌ يَصْعَدُ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَبَابٌ يَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدَاهُ وَبَكَيَا عَلَيْهِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ عَلَى الْأَرْضِ عَمَلًا صَالِحًا تَبْكِي عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَصْعَدْ لَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَا مِنْ عَمَلِهِمْ كَلَامٌ صَالِحٌ فَتَفْقِدَهُمْ فَتَبْكِيَ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ

_ (1) . المؤمنون: 99.

[سورة الدخان (44) : الآيات 38 إلى 59]

فِي الشُّعَبِ نَحْوَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: يُقَالُ الْأَرْضُ تَبْكِي عَلَى الْمُؤْمِنِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَضْرَمِيِّ مُرْسَلًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، أَلَا لَا غُرْبَةَ عَلَى مُؤْمِنٍ مَا مَاتَ مُؤْمِنٌ فِي غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ، إِلَّا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ» . ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمَا لَا يَبْكِيَانِ عَلَى كَافِرٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ المنذر مِنْ طَرِيقِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَاتَ بَكَى عَلَيْهِ مُصَلَّاهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَمِصْعَدُ عَمَلِهِ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ لَتَبْكِي عَلَى ابْنِ آدَمَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإِنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ» . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ غيرهما من الصحابة والتابعين. [سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 59] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) قَوْلُهُ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما أَيْ: بَيْنَ جِنْسَيِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لاعِبِينَ أَيْ: لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمْ نَخْلُقْهُمَا عَابِثِينَ لِغَيْرِ شَيْءٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَاهِينَ، وَقِيلَ: غَافِلِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَما بَيْنَهُما وَقَرَأَ عَمْرُو بن عبيد «وما بينهنّ» لأن السموات وَالْأَرْضَ جَمْعٌ، وَانْتِصَابُ لَاعِبِينَ عَلَى الْحَالِ مَا خَلَقْناهُما أَيْ: وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ: إِلَّا بِالْأَمْرِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَّا لِلْحَقِّ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَقِيلَ: إِلَّا لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ: إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي يُفْصَلُ فِيهِ الْحَقُّ عَنِ الْبَاطِلِ مِيقَاتُهُمْ، أَيِ: الْوَقْتُ الْمَجْعُولُ لِتَمْيِيزِ المحسن من المسيء وَالْمُحِقِّ مِنَ الْمُبْطِلِ، أَجْمَعِينَ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى رَفْعِ مِيقَاتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ، وَاسْمَهَا: يوم الفصل.

وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ نَصْبَهُ عَلَى أَنَّهُ اسْمُهَا، ويوم الْفَصْلِ: خَبَرُهَا. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقَالَ: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً يَوْمَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمِ الْفَصْلِ، أَوْ مُنْتَصِبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَصْلُ، أَيْ: يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ لَا يُغْنِي، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِلْفَصْلِ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيٍّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ قَرِيبًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ شَيْئًا، وَيُطْلَقُ الْمَوْلَى عَلَى الْوَلِيِّ، وَهُوَ الْقَرِيبُ وَالنَّاصِرُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى. لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، أَيْ: وَلَا هُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ قَالَ الْكِسَائِيُّ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى: لَا يُغْنِي قَرِيبٌ عَنْ قَرِيبٍ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمْ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَيَشْفَعُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْلًى الْأَوَّلِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُنْصَرُونَ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أَيِ: الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُنْصَرُ مَنْ أَرَادَ عَذَابَهُ الرَّحِيمُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ لَمَّا وَصَفَ الْيَوْمَ ذَكَرَ بَعْدَهُ وَعِيدَ الْكُفَّارِ، فَقَالَ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ هِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ فِي جَهَنَّمَ وسماها الملعونة، فإذا جاع أهل النار التجؤوا إِلَيْهَا فَأَكَلُوا مِنْهَا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، وَالْأَثِيمُ: الْكَثِيرُ الْإِثْمِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: أَثِمَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ إِثْمًا وَمَأْثَمًا: إِذَا وَقَعَ فِي الْإِثْمِ فَهُوَ آثِمٌ وَأَثِيمٌ وَأَثُومٌ، فَمَعْنَى طَعَامِ الْأَثِيمِ: ذِي الْإِثْمِ كَالْمُهْلِ وَهُوَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ وَعَكِرُ الْقَطِرَانِ. وَقِيلَ: هُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ. وَقِيلَ: كُلُّ مَا يَذُوبُ فِي النَّارِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَغْلِي بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الشَّجَرَةِ، وَالْجُمْلَةُ: خَبَرٌ ثان، أو: حال، أو: خبر مبتدأ مَحْذُوفٍ، أَيْ: تَغْلِي غَلْيًا مِثْلَ غَلْيِ الْحَمِيمِ، وَهُوَ الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَوَرْشٌ عَنْ يَعْقُوبَ يَغْلِي بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الطَّعَامِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الشَّجَرَةِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْمُهْلِ لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِهِ، وَإِنَّمَا يَغْلِي مَا يُشَبَّهُ بِالْمُهْلِ، وَقَوْلُهُ: كَغَلْيِ الْحَمِيمِ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: غَلْيًا كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أَيْ: يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةُ النَّارِ خُذُوهُ: أَيِ الْأَثِيمَ فَاعْتِلُوهُ، الْعَتْلُ: الْقَوْدُ بِالْعُنْفِ، يُقَالُ عَتَلَهُ يَعْتِلُهُ، إِذَا جَرَّهُ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى مَكْرُوهٍ، وَقِيلَ الْعَتْلُ: أَنْ يَأْخُذَ بِتَلَابِيبِ الرَّجُلِ وَمَجَامِعِهِ فَيَجُرَّهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يصف فرسا: نفرعه فرعا وَلَسْنَا نَعْتِلُهْ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ يَهْجُو جَرِيرًا: حَتَّى تَرُدَّ إِلَى عَطِيَّةَ تُعْتَلُ «1» قَرَأَ الْجُمْهُورُ فَاعْتِلُوهُ بِكَسْرِ التَّاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أَيْ: إِلَى وَسَطِهِ، كَقَوْلِهِ: فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «2» ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ

_ (1) . وصدر البيت كما في الديوان (2/ 160) : ليس الكرام بناحليك أباهم. ومعنى «تعتل» : تقاد قسرا. (2) . الصافات: 55.

مِنْ هِيَ التَّبْعِيضِيَّةُ، أَيْ: صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ بَعْضَ هَذَا النَّوْعِ، وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى الْحَمِيمِ لِلْبَيَانِ، أَيْ: عَذَابٌ هُوَ الْحَمِيمُ، وَهُوَ الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أَيْ: وَقُولُوا لَهُ تَهَكُّمًا وَتَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا: ذُقِ الْعَذَابَ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. وَقِيلَ إِنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَعَزُّ أَهْلِ الْوَادِي وَأَكْرَمُهُمْ، فَيَقُولُونَ لَهُ: ذُقِ الْعَذَابَ أَيُّهَا الْمُتَعَزِّزُ الْمُتَكَرِّمُ فِي زَعْمِكَ، وَفِيمَا كُنْتَ تَقُولُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّكَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ بِفَتْحِهَا، أَيْ: لِأَنَّكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي قُلْتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا إِلَى الْعَذَابِ مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أَيْ: تَشُكُّونَ فِيهِ حِينَ كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْأَثِيمِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مُسْتَقَرَّ الْمُتَّقِينَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ أَيِ: الَّذِينَ اتَّقَوُا الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَقامٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّهَا. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى هُوَ مَوْضِعُ الْقِيَامِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَدْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى مَوْضِعِ الْقِيَامِ. ثُمَّ وَصَفَ الْمَقَامَ بِأَنَّهُ أمين يأمن صاحبه من جميع المخاوف ي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ بَدَلٌ مِنْ مَقَامٍ أَمِينٍ، أَوْ: بَيَانٌ لَهُ، أَوْ: خَبَرٌ ثَانٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ ثَالِثٌ أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَالسُّنْدُسُ مَا رَقَّ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَالْإِسْتَبْرَقُ مَا غَلُظَ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَانْتِصَابُ مُتَقابِلِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَلْبَسُونَ، أَيْ: مُتَقَابِلِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ إِمَّا نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: نَفْعَلُ بِالْمُتَّقِينَ فِعْلًا كَذَلِكَ. أَوْ: مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أَيْ: أَكْرَمْنَاهُمْ بِأَنْ زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ، وَالْحُورُ جَمْعُ حَوْرَاءَ: وَهِيَ الْبَيْضَاءُ، وَالْعِينُ جَمْعُ عَيْنَاءَ: وَهِيَ الْوَاسِعَةُ الْعَيْنَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْحَوْرَاءُ حَوْرَاءَ، لِأَنَّهُ يَحَارُ الطَّرْفُ فِي حُسْنِهَا، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ حَوَرِ الْعَيْنِ: وَهُوَ شِدَّةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ فِي شِدَّةِ سَوَادِهَا كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَا أَدْرِي مَا الحور في الْعِينُ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الْحُورُ أَنْ تَسْوَدَّ الْعَيْنُ كُلُّهَا مِثْلَ أَعْيُنِ الظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ حُورٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلنِّسَاءِ حُورٌ، لِأَنَّهُنَّ شُبِّهْنَ بِالظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ. وَقِيلَ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: زَوَّجْناهُمْ قَرَنَّاهُمْ وَلَيْسَ مِنْ عَقْدِ التَّزْوِيجِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ زَوَّجْتُهُ بِامْرَأَةٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَجَعَلْنَاهُمْ أَزْوَاجًا لَهُنَّ كَمَا يُزَوَّجُ الْبَعْلُ بِالْبَعْلِ، أَيْ: جَعَلْنَاهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَكَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ أَيْ يَأْمُرُونَ بِإِحْضَارِ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الْفَوَاكِهِ حال كونهم آمنين من التخم وَالْأَسْقَامِ وَالْآلَامِ. قَالَ قَتَادَةُ: آمَنِينَ مِنَ الْمَوْتِ وَالْوَصَبِ وَالشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: مِنِ انْقِطَاعِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى أَيْ: لَا يَمُوتُونَ فِيهَا أَبَدًا إِلَّا الْمَوْتَةَ الَّتِي ذَاقُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ: أَيْ لَكِنَّ الْمَوْتَةَ الَّتِي قَدْ ذَاقُوهَا فِي الدُّنْيَا كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ «1» وَقِيلَ: إِنَّ إِلَّا بِمَعْنَى بَعْدَ، كَقَوْلِكَ: مَا كَلَّمْتُ رَجُلًا الْيَوْمَ إِلَّا رَجُلًا عِنْدَكَ، أَيْ: بَعْدَ رَجُلٍ عِنْدَكَ، وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى سِوَى، أي: سوى الموتة

_ (1) . النساء: 22.

الْأُولَى. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّمَا اسْتَثْنَى الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَهِيَ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ السُّعَدَاءَ حِينَ يَمُوتُونَ يَصِيرُونَ بِلُطْفِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ إِلَى أَسْبَابٍ مِنَ الْجَنَّةِ يَلْقَوْنَ الرَّوْحَ وَالرَّيْحَانَ، وَيَرَوْنَ مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَتُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، فَإِذَا مَاتُوا فِي الدُّنْيَا فَكَأَنَّهُمْ مَاتُوا فِي الْجَنَّةِ لِاتِّصَالِهِمْ بِأَسْبَابِهَا وَمُشَاهَدَتِهِمْ إِيَّاهَا، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُتَّصِلًا. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى بَعْدَ، وَاخْتَارَ كَوْنَهَا بِمَعْنَى سِوَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقاهُمْ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أَيْ لِأَجْلِ الْفَضْلِ مِنْهُ، أَوْ أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ عَطَاءً فَضْلًا مِنْهُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ الْفَوْزُ الَّذِي لَا فَوْزَ بَعْدَهُ الْمُتَنَاهِي فِي الْعِظَمِ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الدَّلَائِلَ وَذَكَرَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، قَالَ: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَيْ: إِنَّمَا أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ بِلُغَتِكَ كَيْ يَفْهَمَهُ قَوْمُكَ، فَيَتَذَكَّرُوا وَيَعْتَبِرُوا وَيَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ، أَوْ سَهَّلْنَاهُ بِلُغَتِكَ عَلَيْكَ وَعَلَى مَنْ يَقْرَؤُهُ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أَيْ: فَانْتَظِرْ مَا وَعَدْنَاكَ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَإِهْلَاكِهِمْ عَلَى يَدِكَ فَإِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ مَا يَنْزِلُ بِكَ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: انْتَظِرْ أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ بِكَ نَوَائِبَ الدَّهْرِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ يَقُولُ: لَسْتَ بِعَزِيزٍ وَلَا كَرِيمٍ. وَأَخْرَجَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ لَكَ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «1» قَالَ: فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ: مَا تَسْتَطِيعُ لِي أَنْتَ وَلَا صَاحِبُكَ مِنْ شَيْءٍ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي أَمْنَعُ أَهْلِ بَطْحَاءَ، وَأَنَا الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَذَلَّهُ وَعَيَّرَهُ بِكَلِمَتِهِ وَأَنْزَلَ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ قَالَ: الْمُهْلُ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ قَالَ: هو أبو جهل بن هشام.

_ (1) . القيامة: 34 و 35.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات الآيات الصفحة الآيات الصفحة سورة النور تفسير الآيات (1- 3) 5 تفسير الآيات (4- 10) 9 تفسير الآيات (11- 21) 14 تفسير الآيات (22- 26) 19 تفسير الآيات (27- 29) 23 تفسير الآيات (30- 31) 26 تفسير الآيات (32- 34) 32 تفسير الآيات (35- 38) 37 تفسير الآيات (39- 46) 45 تفسير الآيات (47- 57) 51 تفسير الآيات (58- 61) 58 تفسير الآيات (62- 64) 66. سورة الفرقان (25) تفسير الآيات (1- 6) 70 تفسير الآيات (7- 16) 73 تفسير الآيات (17- 24) 77 تفسير الآيات (25- 34) 83 تفسير الآيات (35- 44) 87 تفسير الآيات (45- 54) 92 تفسير الآيات (55- 67) 96 تفسير الآيات (68- 77) 102. سورة الشعراء (26) تفسير الآيات (1- 22) 108 تفسير الآيات (23- 51) 113 تفسير الآيات (52- 68) 117 تفسير الآيات (69- 104) 120 تفسير الآيات (105- 135) 125 تفسير الآيات (136- 159) 128 تفسير الآيات (160- 191) 131 تفسير الآيات (192- 227) 135. سورة النمل (27) تفسير الآيات (1- 14) 144 تفسير الآيات (15- 26) 149 تفسير الآيات (27- 40) 157 تفسير الآيات (41- 44) 162 تفسير الآيات (45- 53) 164 تفسير الآيات (54- 66) 167 تفسير الآيات (67- 82) 171 تفسير الآيات (83- 93) 176. سورة القصص (28) تفسير الآيات (1- 13) 182 تفسير الآيات (14- 24) 187 تفسير الآيات (25- 32) 194 تفسير الآيات (33- 43) 199 تفسير الآيات (44- 57) 202 تفسير الآيات (58- 70) 208 تفسير الآيات (71- 88) 212 سورة العنكبوت (29) تفسير الآيات (1- 13) 221

سورة الروم (30)

الآيات الصفحة الآيات الصفحة تفسير الآيات (14- 27) 226 تفسير الآيات (28- 40) 231 تفسير الآيات (41- 46) 235 تفسير الآيات (47- 55) 238 تفسير الآيات (56- 69) 242 سورة الروم (30) تفسير الآيات (1- 10) 246 تفسير الآيات (11- 27) 250 تفسير الآيات (28- 37) 257 تفسير الآيات (38- 46) 261 تفسير الآيات (47- 60) 265 سورة لقمان (31) تفسير الآيات (1- 11) 261 تفسير الآيات (12- 19) 272 تفسير الآيات (20- 28) 277 تفسير الآيات (29- 34) 280 سورة السجدة (32) تفسير الآيات (1- 11) 284 تفسير الآيات (12- 22) 290 تفسير الآيات (23- 30) 296 سورة الأحزاب (33) تفسير الآيات (1- 6) 299 تفسير الآيات (7- 17) 303 تفسير الآيات (18- 25) 310 تفسير الآيات (26- 27) 315 تفسير الآيات (28- 34) 317 تفسير الآيات (35- 36) 325 تفسير الآيات (37- 40) 327 تفسير الآيات (41- 48) 330 تفسير الآيات (49- 52) 333 تفسير الآيات (53- 55) 341 تفسير الآيات (56- 58) 345 تفسير الآيات (59- 68) 349 تفسير الآيات (69- 73) 353 سورة سبأ (34) تفسير الآيات (1- 9) 357 تفسير الآيات (10- 14) 361 تفسير الآيات (15- 21) 366 تفسير الآيات (22- 27) 372 تفسير الآيات (28- 33) 375 تفسير الآيات (34- 42) 378 تفسير الآيات (43- 50) 381 تفسير الآيات (51- 54) 384 سورة فاطر (35) تفسير الآيات (1- 8) 387 تفسير الآيات (9- 14) 390 تفسير الآيات (15- 26) 395 تفسير الآيات (27- 35) 398 تفسير الآيات (36- 45) 405 سورة يس (36) تفسير الآيات (1- 12) 412 تفسير الآيات (13- 27) 416 تفسير الآيات (28- 40) 420 تفسير الآيات (41- 54) 426 تفسير الآيات (55- 70) 431 تفسير الآيات (71- 83) 438 سورة الصافات (37) تفسير الآيات (1- 19) 442 تفسير الآيات (20- 49) 447 تفسير الآيات (50- 74) 454 تفسير الآيات (75- 113) 458 تفسير الآيات (114- 148) 468 تفسير الآيات (149- 182) 474

سورة ص (38)

سورة ص (38) تفسير الآيات (1- 11) 480 تفسير الآيات (12- 25) 485 تفسير الآيات (26- 33) 492 تفسير الآيات (34- 40) 496 تفسير الآيات (41- 54) 499 تفسير الآيات (55- 70) 505 تفسير الآيات (71- 88) 510 سورة الزمر (39) تفسير الآيات (1- 6) 514 تفسير الآيات (7- 12) 518 تفسير الآيات (13- 20) 522 تفسير الآيات (21- 26) 252 تفسير الآيات (27- 35) 529 تفسير الآيات (36- 42) 532 تفسير الآيات (43- 48) 535 تفسير الآيات (49- 61) 537 تفسير الآيات (62- 72) 543 تفسير الآيات (73- 75) 548 سورة غافر (40) تفسير الآيات (1- 9) 550 تفسير الآيات (10- 20) 554 تفسير الآيات (21- 29) 559 تفسير الآيات (30- 40) 562 تفسير الآيات (41- 52) 566 تفسير الآيات (53- 65) 569 تفسير الآيات (66- 85) 583 سورة فصلت (41) تفسير الآيات (1- 14) 578 تفسير الآيات (15- 24) 584 تفسير الآيات (25- 36) 588 تفسير الآيات (37- 44) 593 تفسير الآيات (45- 54) 596 سورة الشورى (42) تفسير الآيات (1- 12) 601 تفسير الآيات (13- 18) 606 تفسير الآيات (19- 28) 610 تفسير الآيات (29- 43) 616 تفسير الآيات (44- 53) 622 سورة الزخرف (43) تفسير الآيات (1- 20) 626 تفسير الآيات (21- 35) 631 تفسير الآيات (36- 45) 636 تفسير الآيات (46- 56) 639 تفسير الآيات (57- 73) 642 تفسير الآيات (74- 89) 647 سورة الدخان (44) تفسير الآيات (1- 16) 652 تفسير الآيات (17- 37) 656 تفسير الآيات (38- 59) 661.

الجزء الخامس

الجزء الخامس سورة الجاثية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَجَابِرٍ وَعِكْرِمَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: إِلَّا آيَةً مِنْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ آمَنُوا إِلَى أَيَّامَ اللَّهِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كما سيأتي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) قَوْلُهُ: حم قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْفَاتِحَةِ وَفِي إِعْرَابِهَا فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ غَافِرٍ وَمَا بَعْدَهَا، فَإِنْ جُعِلَ اسْمًا لِلسُّورَةِ فَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ مُبْتَدَأٌ، وَإِنْ جُعِلَ حُرُوفًا مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ فَلَا مَحَلَّ لَهُ، وَقَوْلُهُ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ خَبَرٌ ثَانٍ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ فَقَالَ: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: فِيهَا نَفْسِهَا فَإِنَّهَا مِنْ فُنُونِ الْآيَاتِ، أَوْ فِي خَلْقِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَوْلُهُ: وَفِي خَلْقِكُمْ أَيْ: فِي خَلْقِكُمْ أَنْفُسِكُمْ عَلَى أَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ إِلَى أَنْ يَصِيرَ إِنْسَانًا وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ أَيْ: وَفِي خَلْقٍ مَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ، وَارْتِفَاعُ آيَاتٍ عَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ قَبْلَهُ، وَبِالرَّفْعِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «آيَاتٍ» بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: وَفِي

خَلْقِكُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنَّ فِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا تَأْكِيدٌ لِآيَاتٍ الْأُولَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِنَصْبِهَا مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْجَرِّ فِي «اخْتِلَافِ» ، أَمَّا جَرُّ «اخْتِلَافِ» فهو على تقرير حرف الجرّ، أي: وفي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ آيَاتٌ، فَمَنْ رَفَعَ «آيَاتٌ» فَعَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا: «فِي اخْتِلَافِ» ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ بَعْدَ إِنَّ، تَقُولُ الْعَرَبُ: إِنَّ لِي عَلَيْكَ مَالًا وَعَلَى أَخِيكَ مَالٌ، يَنْصِبُونَ الثَّانِي وَيَرْفَعُونَهُ وَلِلنُّحَاةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَلَامٌ طَوِيلٌ. وَالْبَحْثُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَحُجَجُ الْمُجَوِّزِينَ لَهُ وَجَوَابَاتُ الْمَانِعِينَ لَهُ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، مَبْسُوطٌ فِي مُطَوَّلَاتِهِ. وَمَعْنَى ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ مَا يُفَرِّقُهُ وَيَنْشُرُهُ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تعاقبهما أو تفارقهما فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَقَوْلُهُ: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ مَعْطُوفٌ عَلَى اخْتِلَافِ، وَالرِّزْقُ: الْمَطَرُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِكُلِّ مَا يَرْزُقُ اللَّهُ الْعِبَادَ بِهِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ: إِخْرَاجُ نَبَاتِهَا، ومَوْتِها خلوّها عن النبات ومعنى تَصْرِيفِ الرِّياحِ أَنَّهَا تَهُبُّ تَارَةً مِنْ جِهَةٍ، وَتَارَةً مِنْ أُخْرَى، وَتَارَةً تَكُونُ حَارَّةً، وَتَارَةً تَكُونُ بَارِدَةً، وَتَارَةً نَافِعَةً، وَتَارَةً ضَارَّةً تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ أَيْ: هَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَرَاهِينُهُ، وَمَحَلُّ: نَتْلُوهَا عليك بالنصب عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَآيَاتُ اللَّهِ بَيَانٌ لَهُ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ نَتْلُو، أَوْ مِنْ مفعوله، أي: محقّين، أو متلبسة بِالْحَقِّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَتَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْفِعْلِ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ أي: بعد حديث الله وبعد الْآيَاتِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بَعْدَ حَدِيثِ اللَّهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ، وَالْعَطْفُ لِمُجَرَّدِ التَّغَايُرِ الْعُنْوَانِيِّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُؤْمِنُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: يُؤْمِنُونَ بِأَيِّ حَدِيثٍ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أَيْ: لِكُلِّ كَذَّابٍ كَثِيرِ الْإِثْمِ مُرْتَكِبٍ لِمَا يُوجِبُهُ، وَالْوَيْلُ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الْأَفَّاكَ بِصِفَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ وَقِيلَ: إِنَّ يَسْمَعُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: اسْتِئْنَافٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ: تُتْلى عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ ثُمَّ يُصِرُّ عَلَى كُفْرِهِ وَيُقِيمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ مُسْتَكْبِراً أَيْ: يَتَمَادَى عَلَى كُفْرِهِ مُتَعَظِّمًا فِي نَفْسِهِ عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ، وَالْإِصْرَارُ مَأْخُوذٌ مِنْ إِصْرَارِ الْحِمَارِ عَلَى الْعَانَةِ «1» ، وَهُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ عَلَيْهَا صَارًّا أُذُنَيْهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا سَمِعَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا، وَجُمْلَةُ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ هَذَا مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ أَيْ: فَبَشِّرْهُ عَلَى إِصْرَارِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ وَعَدَمِ اسْتِمَاعِهِ إِلَى الْآيَاتِ بِعَذَابٍ شَدِيدِ الْأَلَمِ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «عَلِمَ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ مُخَفَّفَةً عَلَى الْبِنَاءِ للفاعل. وقرأ قتادة

_ (1) . «العانة» : الأتان (الحمارة) .

وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ شَيْءٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ اتَّخَذَها أَيِ: الْآيَاتِ هُزُواً وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي «اتَّخَذَهَا» عَائِدٌ إِلَى «شَيْئًا» لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْآيَاتِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى كُلِّ أَفَّاكٍ مُتَّصِفٍ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ بِسَبَبِ مَا فَعَلُوا مِنَ الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَنْ سَمَاعِ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّخَاذِهَا هُزُوًا، وَالْعَذَابُ الْمُهِينُ هُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْإِذْلَالِ وَالْفَضِيحَةِ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أَيْ: مِنْ وَرَاءِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّعَزُّزِ بِالدُّنْيَا وَالتَّكَبُّرِ عَنِ الْحَقِّ جَهَنَّمُ، فَإِنَّهَا مِنْ قُدَّامِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُتَوَجِّهُونَ إِلَيْهَا، وَعَبَّرَ بِالْوَرَاءِ عَنِ الْقُدَّامِ، كَقَوْلِهِ: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ «1» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي «2» ............... ....... وَقِيلَ: جَعَلَهَا بِاعْتِبَارِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا كَأَنَّهَا خَلْفَهُمْ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً أَيْ: لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ مَعْطُوفٌ عَلَى «مَا كَسَبُوا» ، أَيْ: وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَ «مَا» فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَزِيَادَةُ لَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلتَّأْكِيدِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فِي جَهَنَّمَ الَّتِي هِيَ مِنْ وَرَائِهِمْ هَذَا هُدىً جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، يَعْنِي هَذَا الْقُرْآنُ هُدًى لِلْمُهْتَدِينَ بِهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ الْقُرْآنِيَّةِ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ الرِّجْزُ: أَشَدُّ الْعَذَابِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَلِيمٍ» بِالْجَرِّ صِفَةً لِلرِّجْزِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالرَّفْعِ صِفَةً لِعَذَابٍ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ أَيْ: جَعَلَهُ عَلَى صِفَةٍ تَتَمَكَّنُونَ بِهَا مِنَ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ أَيْ: بِإِذْنِهِ وَإِقْدَارِهِ لَكُمْ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بِالتِّجَارَةِ تَارَةً، وَالْغَوْصِ لِلدُّرِّ، وَالْمُعَالَجَةِ لِلصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ: لِكَيْ تَشْكُرُوا النِّعَمَ الَّتِي تَحْصُلُ لَكُمْ بِسَبَبِ هَذَا التَّسْخِيرِ لِلْبَحْرِ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ أي: سخّر لعباده جميع مَا خَلَقَهُ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُهُمْ وَتَقُومُ بِهِ مَعَايِشُهُمْ، وَمِمَّا سَخَّرَهُ لهم من مخلوقات السموات الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ النَّيِّرَاتُ وَالْمَطَرُ وَالسَّحَابُ وَالرِّيَاحُ، وَانْتِصَابُ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَوْ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَقَوْلُهُ «مِنْهُ» يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صفة لجميعا، أي: كائنة منه، ويجوز أن يتعلّق بسخر، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ مَا فِي السماوات، أو خبر المبتدأ مَحْذُوفٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ التَّسْخِيرِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَخَصَّ الْمُتَفَكِّرِينَ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا مَنْ تَفَكَّرَ فِيهَا، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنَ التَّفَكُّرِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى التَّوْحِيدِ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا أَيْ: قُلْ لَهُمُ: اغْفِرُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ اللَّامِ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ لِيَغْفِرُوا. وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ: يَتَجَاوَزُوا عَنِ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ وَقَائِعَ اللَّهِ بِأَعْدَائِهِ، أَيْ: لَا يَتَوَقَّعُونَهَا، وَمَعْنَى الرَّجَاءِ هُنَا الْخَوْفُ، أي: هُوَ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ. وَالْمَعْنَى: لَا يَرْجُونَ ثَوَابَهُ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي وَقَّتَهَا اللَّهُ لِثَوَابِ المؤمنين، والأوّل أولى. والأيام

_ (1) . إبراهيم: 16. (2) . وعجزه: أدبّ مع الولدان أزحف كالنّسر.

يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْوَقَائِعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تفسير قوله: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ «1» قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَخْشَوْنَ مِثْلَ عَذَابِ اللَّهِ لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فَلَا يَخَافُونَ عِقَابَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا يَأْمُلُونَ نَصْرَ اللَّهِ لِأَوْلِيَائِهِ وَإِيقَاعَهُ بِأَعْدَائِهِ، وَقِيلَ: لَا يَخَافُونَ الْبَعْثَ. قِيلَ: وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «لِنَجْزِيَ» بِالنُّونِ أَيْ: لِنَجْزِيَ نَحْنُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَعَاصِمٌ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مَعَ نَصْبِ قَوْمًا، فَقِيلَ: النَّائِبُ عَنِ الْفَاعِلِ مَصْدَرُ الْفِعْلِ، أَيْ: لِيُجْزَى الْجَزَاءُ قَوْمًا، وَقِيلَ: إِنَّ النَّائِبَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ «2» : وَلَوْ وَلَدَتْ قفيرة «3» جَرْوَ كَلْبٍ ... لَسُبَّ بِذَلِكَ الْجَرْوِ الْكِلَابَا وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَالْكُوفِيُّونَ، وَمَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَالْجُمْلَةُ لِتَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْمُؤْمِنُونَ، أُمِرُوا بِالْمَغْفِرَةِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا كَسَبُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الصَّبْرُ عَلَى أَذِيَّةِ الْكُفَّارِ وَالْإِغْضَاءُ عَنْهُمْ بِكَظْمِ الْغَيْظِ وَاحْتِمَالُ الْمَكْرُوهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لِيَجْزِيَ الْكُفَّارَ بِمَا عَمِلُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُكَافِئُوهُمْ أَنْتُمْ لِنُكَافِئَهُمْ نَحْنُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْمَالَهُمْ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَعْمَالَهُمْ فَقَالَ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَمَلَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ إِحْسَانٍ أَوْ إِسَاءَةٍ لِعَامِلِهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ وَفِيهِ تَرْغِيبٌ وَتَهْدِيدٌ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ إِنْ كَانَ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَشَرٌّ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جَمِيعاً مِنْهُ قَالَ: مِنْهُ النُّورُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ هُوَ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ طَاوُسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَسَأَلَهُ: مِمَّ خُلِقَ الْخَلْقُ؟ قَالَ: مِنَ الْمَاءِ وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ، قَالَ: فَمِمَّ خُلِقَ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. ثُمَّ أَتَى الرجل عبد الله ابن الزُّبَيْرِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ: مِمَّ خُلِقَ الْخَلْقُ؟ فَقَالَ: مِنَ الْمَاءِ وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالرِّيحِ وَالتُّرَابِ، قَالَ: فَمِمَّ خُلِقَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا كَانَ لِيَأْتِيَ بِهَذَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أهل بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا الْآيَةَ قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِضُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا آذَوْهُ، وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُقَاتِلَ المشركين كافة، فكان هذا من المنسوخ.

_ (1) . إبراهيم: 5. (2) . هو جرير. (3) . «قفيرة» : أم الفرزدق.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 إلى 26]

[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 26] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَبِالْحُكْمِ الْفَهْمُ وَالْفِقْهُ الَّذِي يَكُونُ بِهِمَا الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ وَفَصْلُ خُصُومَاتِهِمْ، وَبِالنُّبُوَّةِ مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَيِ: الْمُسْتَلَذَّاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ حَيْثُ آتَيْنَاهُمْ مَا لَمْ نُؤْتِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ فَلْقِ الْبَحْرِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ الدُّخَانِ وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أَيْ: شَرَائِعَ وَاضِحَاتٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَوْ مُعْجِزَاتٍ ظَاهِرَاتٍ، وَقِيلَ: الْعِلْمَ بِمَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَشَوَاهِدَ نُبُوَّتِهِ، وَتَعْيِينَ مُهَاجَرِهِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ أَيْ: فَمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ إِلَّا بَعْدَ مَجِيءِ الْعِلْمِ إِلَيْهِمْ بِبَيَانِهِ وَإِيضَاحِ مَعْنَاهُ، فَجَعَلُوا مَا يُوجِبُ زَوَالَ الْخِلَافِ مُوجِبًا لِثُبُوتِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَإِنَّهُ آمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَكَفَرَ بَعْضُهُمْ، وَقِيلَ: نبوّة محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهَا حَسَدًا وَبَغْيًا، وَقِيلَ: بَغْياً مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِطَلَبِ الرِّئَاسَةِ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ الشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَذْهَبُ، وَالْمِلَّةُ، وَالْمِنْهَاجُ، وَيُقَالُ: لِمَشْرَعَةِ الْمَاءِ، وَهِيَ مَوْرِدُ شَارِبِيهِ، شَرِيعَةٌ، وَمِنْهُ الشَّارِعُ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى الْمَقْصِدِ، فَالْمُرَادُ بِالشَّرِيعَةِ هُنَا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ من الدين، والجمع شرائع، وقيل: جَعَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاضِحٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ يُوصِلُكَ إِلَى الْحَقِّ فَاتَّبِعْها فَاعْمَلْ بِأَحْكَامِهَا فِي أُمَّتِكَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَشَرَائِعَهُ لِعِبَادِهِ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: لَا يَدْفَعُونَ عَنْكَ شَيْئًا مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ بِكَ إِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أَيْ: أَنْصَارٌ يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ

ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ أَوْلِيَاءُ الْيَهُودِ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أَيْ: نَاصِرُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ إِلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ بَصائِرُ لِلنَّاسِ أَيْ: بَرَاهِينُ وَدَلَائِلُ لَهُمْ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ، جَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَصَائِرِ فِي الْقُلُوبِ، وَقُرِئَ هَذِهِ بَصَائِرُ أَيْ: هَذِهِ الْآيَاتُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بِمَعْنَاهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: ........ سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ «1» لِأَنَّ الصَّوْتَ بِمَعْنَى الصَّيْحَةِ. وَهُدىً أَيْ: رُشْدٌ، وَطَرِيقٌ يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ وَرَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَيْ: مِنْ شَأْنِهِمُ الْإِيقَانُ وَعَدَمُ الشَّكِّ وَالتَّزَلْزُلِ بِالشُّبَهِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ «أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى بَلْ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الْبَيَانِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، وَالْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ الْحُسْبَانِ، وَالِاجْتِرَاحُ: الِاكْتِسَابِ، وَمِنْهُ الْجَوَارِحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَبَايُنِ حَالَيِ الْمُسِيئِينَ وَالْمُحْسِنِينَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ: نُسَوِّي بَيْنَهُمْ، مَعَ اجْتِرَاحِهُمُ السَّيِّئَاتِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَسَنَاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، كَلَّا لَا يَسْتَوُونَ، فَإِنَّ حَالَ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِيهِمَا غَيْرُ حَالِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِنْكَارُ أو يَسْتَوُوا فِي الْمَمَاتِ كَمَا اسْتَوَوْا فِي الْحَيَاةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «سَوَاءٌ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالْمُبْتَدَأُ: مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ، وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ حُسْبَانِهِمْ أَنَّ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ سَوَاءٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ «سَوَاءً» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: كَالَّذِينَ آمَنُوا أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لحسب، وَاخْتَارَ قِرَاءَةَ النَّصْبِ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ مَعْنَاهُ: نَجْعَلُهُمْ سَوَاءً، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «مَمَاتَهُمْ» بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى: سَوَاءً فِي مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ، فَلَمَّا سَقَطَ الْخَافِضُ انْتَصَبَ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَفْعُولِ نَجْعَلُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ أَيْ: سَاءَ حُكْمُهُمْ هَذَا الَّذِي حَكَمُوا بِهِ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْحَقِّ الْمُقْتَضِي لِلْعَدْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَمَحَلُّ بِالْحَقِّ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَوِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبٌ، فَعَطَفَ السَّبَبَ عَلَى السَّبَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ليدلّ بهما على قدرته: «ولتجزى» يجوز أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيِ: النُّفُوسُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِكُلِّ نَفْسٍ لَا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ ثَوَابٍ أَوْ زِيَادَةِ عِقَابٍ. ثُمَّ عَجِبَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَالِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: ذَلِكَ الْكَافِرُ اتَّخَذَ دِينَهُ مَا يَهْوَاهُ فَلَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْبُدُ مَا يَهْوَاهُ أَوْ يَسْتَحْسِنُهُ، فَإِذَا اسْتَحْسَنَ شَيْئًا وهويه اتخذه إلها. قال

_ (1) . وصدره: يا أيّها الراكب المزجي مطيّته. والبيت لرويشد بن كثير الطائي. (شرح المعلقات السبع للزوزني ص 250) طبع دار ابن كثير.

سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا رَأَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ رَمَى بِهِ وَعَبَدَ الْآخَرَ. وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أَيْ: عَلَى عِلْمٍ قَدْ عَلِمَهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَضَلَّهُ عَنِ الثَّوَابِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ أَنَّهُ ضَالٌّ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّنَمَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى سُوءٍ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ ضَالٌّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، ومحل «على علم» النصب على الحال من الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ أَيْ: طَبَعَ عَلَى سَمْعِهِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ الْوَعْظَ، وَطَبَعَ عَلَى قَلْبِهِ حَتَّى لَا يَفْقَهَ الْهُدَى وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أَيْ: غِطَاءً حَتَّى لَا يُبْصِرَ الرُّشْدَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «غِشَاوَةً» بِالْأَلْفِ مَعَ كَسْرِ الْغَيْنِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «غَشْوَةً» بِغَيْرِ أَلْفٍ مَعَ فَتْحِ الْغَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَئِنْ كُنْتِ أَلْبَسْتِنِي غَشْوَةً ... لَقَدْ كنت أصفيتك الْوُدَّ حِينًا وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مَعَ فَتْحِ الْغَيْنِ، وَهِيَ لُغَةُ رَبِيعَةَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ بِضَمِّهَا، وَهِيَ لُغَةُ عُكْلٍ فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ لَهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ تَذَكُّرَ اعْتِبَارٍ حَتَّى تَعْلَمُوا حَقِيقَةَ الْحَالِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ جَهَالَاتِهِمْ وَضَلَالَاتِهِمْ فَقَالَ: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أَيْ: مَا الْحَيَاةُ إلا الحياة الدنيا الَّتِي نَحْنُ فِيهَا نَمُوتُ وَنَحْيا أَيْ: يُصِيبُنَا الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ فِيهَا، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ حَيَاةٌ، وَقِيلَ: نَمُوتُ نَحْنُ وَيَحْيَا فِيهَا أَوْلَادُنَا، وَقِيلَ: نَكُونُ نُطَفًا مَيِّتَةً ثُمَّ نَصِيرُ أَحْيَاءً، وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: نَحْيَا وَنَمُوتُ، وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَمُرَادُهُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ إِنْكَارُ الْبَعْثِ وَتَكْذِيبُ الْآخِرَةِ وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أَيْ: إِلَّا مُرُورُ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي السِّنِينَ وَالْأَيَّامَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا الْعُمْرُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْمَعْنَى وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الْمَوْتُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا اللَّهُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أَيْ: مَا قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِلَّا شَاكِّينَ غَيْرَ عَالِمِينَ بِالْحَقِيقَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ كَوْنَ ذَلِكَ صَادِرًا مِنْهُمْ لَا عَنْ عِلْمٍ، فَقَالَ: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أَيْ: مَا هُمْ إِلَّا قَوْمٌ غَايَةُ مَا عِنْدَهُمُ الظَّنُّ، فَمَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِهِ، وَلَا يَسْتَنِدُونَ إِلَّا إِلَيْهِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أَيْ: إِذَا تُلِيَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَالَ كَوْنِهَا بَيِّنَاتٍ وَاضِحَاتٍ ظَاهِرَةَ الْمَعْنَى وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْبَعْثِ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَنَّا نُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَيْ: مَا كَانَ لَهُمْ حُجَّةٌ وَلَا مُتَمَسَّكٌ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ الْبَاطِلَ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الْحُجَّةِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ حُجَّةً تَهَكُّمًا بِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ حُجَّتَهُمْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهَا إِلَّا أَنْ قالُوا وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وعمرو بن عبيد وعبيد بن عمرو بِرَفْعِ حُجَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ: فِي جَمْعِكُمْ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ قَدَرَ عَلَى إِعَادَتِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ، فَلِهَذَا حَصَلَ مَعَهُمُ الشَّكُّ فِي الْبَعْثِ، وَجَاءُوا فِي دَفْعِهِ بِمَا هُوَ أَوْهَنُ مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَلَوْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ لَحَصَلُوا عَلَى الْعِلْمِ الْيَقِينِ، وَانْدَفَعَ عَنْهُمُ الرَّيْبُ، وَأَرَاحُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ وَرْطَةِ الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 27 إلى 37]

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ يَقُولُ: عَلَى هُدًى مِنْ أَمْرِ دِينِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ قَالَ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُؤْمِنٌ، وَالْكَافِرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَافِرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قَالَ: ذَاكَ الْكَافِرُ اتَّخَذَ دِينَهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ وَلَا بُرْهَانٍ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ يَقُولُ: أَضَلَّهُ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَرَبِ يَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدَ أَحْسَنَ مِنْهُ أَخَذَهُ وَأَلْقَى الْآخَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مردويه عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّمَا يُهْلِكُنَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَقَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ قَالَ اللَّهُ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ ومسلم وغير هما مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأمر أقلّب اللّيل والنّهار» . [سورة الجاثية (45) : الآيات 27 الى 37] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَمَا أَجَابَ بِهِ عَلَيْهِمْ ذَكَرَ اخْتِصَاصَهُ بِالْمُلْكِ، فَقَالَ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا وَحْدَهُ، لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِهِ. ثُمَّ تَوَعَّدَ أَهْلَ الْبَاطِلِ فَقَالَ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ أَيِ: الْمُكَذِّبُونَ الْكَافِرُونَ الْمُتَعَلِّقُونَ بِالْأَبَاطِيلِ، يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خُسْرَانُهُمْ لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ، وَالْعَامِلُ فِي «يَوْمَ» هُوَ «يَخْسَرُ» ، وَ «يَوْمَئِذٍ» بَدَلٌ مِنْهُ، وَالتَّنْوِينُ لِلْعِوَضِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ الْمُبْدَلُ مِنْهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَيَكُونُ بَدَلًا تَوْكِيدِيًّا، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي يَوْمٍ هُوَ مُلْكُ، أَيْ: وَلِلَّهِ مُلْكُ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَيَكُونُ «يومئذ» معمولا ليخسر: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ،

أو للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأُمَّةُ: الْمِلَّةُ، وَمَعْنَى جَاثِيَةً: مُسْتَوْفِزَةً، وَالْمُسْتَوْفِزُ: الَّذِي لَا يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْهُ إِلَّا رُكْبَتَاهُ وَأَطْرَافُ أَنَامِلِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحِسَابِ. وَقِيلَ: مَعْنَى جَاثِيَةً: مُجْتَمِعَةً، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى وَتَرَى أَهْلَ كُلِّ ذِي دِينٍ مُجْتَمِعِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُتَمَيِّزَةً عَنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ: مَعْنَاهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ: خَاضِعَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَارِكَةً عَلَى الرُّكَبِ. وَالْجَثْوُ: الْجُلُوسُ عَلَى الرُّكَبِ، تَقُولُ. جَثَا يَجْثُو وَيُجْثِي جَثْوًا وَجِثِيًّا إِذَا جَلَسَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَلَا يُنَافِيهِ وُرُودُ هَذَا اللَّفْظِ لِمَعْنًى آخَرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقَدْ وَرَدَ إِطْلَاقُ الْجَثْوَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ يَصِفُ قَبْرَيْنِ: تَرَى جَثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ... صَفَائِحُ صُمٍّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ «1» وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَكُونُ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: هُوَ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا وَلِقَوْلِهِ فِيمَا سَيَأْتِي: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَمَعْنَى «إِلى كِتابِهَا» : إِلَى الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: إِلَى صَحِيفَةِ أَعْمَالِهَا، وَقِيلَ: إِلَى حِسَابِهَا، وَقِيلَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «كُلُّ أُمَّةٍ» بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: تُدْعَى. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ: يُقَالُ لَهُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ هَذَا مِنْ تَمَامِ مَا يُقَالُ لَهُمْ، وَالْقَائِلُ بِهَذَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ، يُقَالُ: نَطَقَ الْكِتَابُ بِكَذَا، أَيْ: بَيَّنَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَقْرَءُونَهُ فَيَذْكُرُونَ مَا عَمِلُوا، فَكَأَنَّهُ يَنْطِقُ عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ الَّذِي لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نقصان، ومحل «ينطق» بالنصب عَلَى الْحَالِ، أَوِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ آخَرُ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْلِيلٌ لِلنُّطْقِ بِالْحَقِّ، أَيْ: نَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِنَسْخِ أَعْمَالِكُمْ، أَيْ: بِكَتْبِهَا وَتَثْبِيتِهَا عَلَيْكُمْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِنْسَاخَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ مِنْهُ كُلَّ عَامٍ مَا يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ، فَيَجِدُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمَا يَعْمَلُونَهُ. قَالُوا: لِأَنَّ الِاسْتِنْسَاخَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَصْلٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: نَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِنَسْخِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ كُلَّ يَوْمٍ مَا يَعْمَلُهُ الْعَبْدُ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى مَكَانِهِمْ نَسَخُوا مِنْهُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَرَكُوا الْمُبَاحَاتِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا رَفَعَتْ أَعْمَالَ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُثْبَتَ عِنْدَهُ مِنْهَا مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ، وَيُسْقَطَ مِنْهَا مَا لَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي: الجنة، وهذا تفصيل لحال الفريقين، فالمؤمنون يدخلهم الله برحمته الجنة ذلِكَ أي: الإدخال في رحمته هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أَيِ: الظَّاهِرُ الْوَاضِحُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أَيْ: فَيُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ، لِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَتَتْهُمْ وَتَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ، فَكَذَّبُوهَا وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهَا فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أَيْ: تَكَبَّرْتُمْ عَنْ قَبُولِهَا وَعَنِ الإيمان بها،

_ (1) . «الصم» : الصلب. «المنضد» : الذي جعل بعضه على بعض. [.....]

وَكُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِجْرَامِ، وَهِيَ الْآثَامُ، وَالِاجْتِرَامُ: الِاكْتِسَابُ، يُقَالُ: فُلَانٌ جَرِيمَةُ أَهْلِهِ إِذَا كَانَ كَاسِبَهُمْ، فَالْمُجْرِمُ: مَنْ كَسَبَ الْآثَامَ بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ: وَعْدَهُ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، أَوْ بِجَمِيعِ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَالسَّاعَةُ أَيِ: الْقِيَامَةُ لَا رَيْبَ فِيها أَيْ: في وقوعها. وقرأ الْجُمْهُورُ «وَالسَّاعَةُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَوِ الْعَطْفِ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ إِنَّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ هِيَ؟ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أي: نحدس حدسا، نتوهم تَوَهُّمًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: تَقْدِيرُهُ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا نَظُنُّ ظَنًّا، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا أَنَّكُمْ تَظُنُّونَ ظَنًّا، وَقِيلَ: إِنْ نَظُنُّ مُضَمَّنٌ مَعْنَى نَعْتَقِدُ، أَيْ: مَا نَعْتَقِدُ إِلَّا ظَنًّا لَا عِلْمًا، وَقِيلَ: إِنَّ «ظَنًّا» لَهُ صِفَةٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ: إِلَّا ظَنًّا بَيِّنًا، وَقِيلَ: إِنَّ الظَّنَّ يَكُونُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالشَّكِّ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا لَنَا اعْتِقَادٌ إِلَّا الشَّكُّ وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا يَقِينٌ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَنَا إِلَّا مُجَرَّدُ الظَّنِّ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا أَيْ: ظَهَرَ لَهُمْ سَيِّئَاتُ أَعْمَالِهِمْ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ، وَنَزَلَ عَلَيْهِمْ جَزَاءُ أَعْمَالِهِمْ بِدُخُولِهِمُ النَّارَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أَيْ: نَتْرُكُكُمْ فِي النَّارِ كَمَا تَرَكْتُمُ الْعَمَلَ لِهَذَا الْيَوْمِ، وَأَضَافَ اللِّقَاءَ إِلَى الْيَوْمِ تَوَسُّعًا، لِأَنَّهُ أَضَافَ إِلَى الشَّيْءِ مَا هُوَ وَاقِعٌ فِيهِ وَمَأْواكُمُ النَّارُ أَيْ: مسكنكم ومستقرّكم الَّذِي تَأْوُونَ إِلَيْهِ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يَنْصُرُونَكُمْ فَيَمْنَعُونَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً أَيْ: ذَلِكُمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ أَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمُ الْقُرْآنَ هَزُوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أَيْ: خَدَعَتْكُمْ بِزَخَارِفِهَا وَأَبَاطِيلِهَا، فَظَنَنْتُمْ أَنَّهُ لَا دَارَ غَيْرُهَا وَلَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها أَيْ: مِنَ النَّارِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُخْرَجُونَ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا للمفعول، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضمّ الرّاء مبنيا للفاعل، والالتفات من الخطاب إِلَى الْغَيْبَةِ لِتَحْقِيرِهِمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أَيْ: لَا يُسْتَرْضَوْنَ وَيُطْلَبُ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ إِلَى طَاعَةِ الله لأنه يَوْمَ لَا تُقْبَلُ فِيهِ تَوْبَةٌ وَلَا تَنْفَعُ فِيهِ مَعْذِرَةٌ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ سِوَاهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «رَبِّ» فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ لِلِاسْمِ الشَّرِيفِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالرَّفْعِ فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ إِلَخْ وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيِ: الْجَلَالُ وَالْعَظَمَةُ وَالسُّلْطَانُ، وَخَصَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِظُهُورِ ذَلِكَ فِيهِمَا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: الْعَزِيزُ فِي سُلْطَانِهِ. فَلَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ، الْحَكِيمُ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَجَمِيعِ أَقْضِيَتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنِّي أَرَاكُمْ بِالْكَوْمِ دُونَ جَهَنَّمَ جَاثِينَ، ثُمَّ قَرَأَ سُفْيَانُ وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً قَالَ: كُلُّ أُمَّةٍ مَعَ نَبِيِّهَا حَتَّى يَجِيءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَوْمٍ، قَدْ عَلَا الْخَلَائِقَ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ قَالَ: هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ، فِيهِ أَعْمَالُ بني

آدَمَ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قَالَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَنْسِخُونَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ بمعناه مطوّلا، فقام الرجل فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا كُنَّا نَرَى هَذَا تَكْتُبُهُ الْمَلَائِكَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّكُمْ لَسْتُمْ قَوْمًا عَرَبًا إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَلْ يُسْتَنْسَخُ الشَّيْءُ إِلَّا مِنْ كِتَابٍ؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عن عليّ أبي طالب: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَنْزِلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِشَيْءٍ يَكْتُبُونَ فِيهِ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسْتَنْسِخُ الْحَفَظَةُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ مَا يَعْمَلُ بَنُو آدَمَ، فَإِنَّمَا يَعْمَلُ الْإِنْسَانُ مَا اسْتَنْسَخَ الْمَلِكُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ وَصَحَّحَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ مَلَائِكَتَهُ يَنْسَخُونَ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ فِي رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ حَدَثٍ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ، فَيَتَعَارَضُونَ بِهِ حَفَظَةَ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ عَشِيَّةَ كُلِّ خَمِيسٍ، فَيَجِدُونَ مَا رَفَعَ الْحَفَظَةُ مُوَافِقًا لِمَا فِي كِتَابِهِمْ ذَلِكَ، لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالَ: نَتْرُكُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظْمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ في النار» .

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ جَمِيعِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ قالا: نزلت سورة حم الأحقاف مكة. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الْأَحْقَافِ وَأَقْرَأَهَا آخَرَ، فَخَالَفَ قِرَاءَتَهُ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَهَا؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ غَيْرَ ذَا، فَأَتَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تُقْرِئْنِي كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: بَلَى، وَقَالَ الْآخَرُ: أَلَمْ تُقْرِئْنِي كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ بَلَى، فَتَمَعَّرَ «1» وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لِيَقْرَأْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا مَا سَمِعَ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالِاخْتِلَافِ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قَوْلُهُ: حم- تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ غَافِرٍ وَمَا بَعْدَهَا مُسْتَوْفًى، وَذَكَرْنَا وَجْهَ الْإِعْرَابِ، وَبَيَانَ مَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُوكَلَ عِلْمُهُ إِلَى مَنْ أَنْزَلَهُ مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَسْرِهَا إِلَّا بِالْحَقِّ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: إِلَّا خَلْقًا مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَقَوْلُهُ: وَأَجَلٍ مُسَمًّى مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَقِّ، أَيْ: إِلَّا بِالْحَقِّ، وَبِأَجَلٍ مُسَمًّى عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وتقدير أَجَلٍ مُسَمًّى، وَهَذَا الْأَجَلُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهَا تَنْتَهِي فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا، وتبدّل الأرض

_ (1) . «تمعّر الوجه» : تغيّر.

غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الْمُسَمَّى هُوَ انْتِهَاءُ أَجَلِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ بَاطِلًا وَعَبَثًا لِغَيْرِ شَيْءٍ، بَلْ خَلَقَهُ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ أَيْ: عَمَّا أُنْذِرُوا وَخُوِّفُوا بِهِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ مُعْرِضُونَ مُوَلُّونَ، غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لَهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِهِ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا أُنْذِرُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْصُولَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَصْدَرِيَّةَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: أَخْبِرُونِي مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ خَلَقُوا مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: «أَرُونِي» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ أَرَأَيْتُمْ، أَيْ: أَخْبِرُونِي أَرُونِي، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لأرأيتم: «مَاذَا خَلَقُوا» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ تَأْكِيدًا، بَلْ يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ، لِأَنَّ أرأيتم يطلب مفعولا ثانيا، وأروني كَذَلِكَ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ «أَمْ» هَذِهِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، وَالْمَعْنَى: بَلْ أَلَهُمْ شَرِكَةٌ مَعَ اللَّهِ فِيهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا هَذَا تَبْكِيتٌ لَهُمْ وَإِظْهَارٌ لِعَجْزِهِمْ وَقُصُورِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِبُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهَا، فَهَلْ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ كِتَابٍ يُخَالِفُ هَذَا الْكِتَابَ؟ أَوْ حُجَّةٌ تُنَافِي هَذِهِ الْحُجَّةَ؟ أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ؟ قَالَ فِي الصِّحَاحِ: أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمِ: بَقِيَّةٍ مِنْهُ، وَكَذَا الْأَثَرَةُ بِالتَّحْرِيكِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ: بَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمِ الْأَوَّلِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ: يَعْنِي مَا يُؤْثَرُ عَنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ عَطَاءٌ: أَوْ شَيْءٌ تَأْثُرُونَهُ عَنْ نَبِيٍّ كَانَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَوْ رِوَايَةٍ مِنْ عِلْمٍ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَوْ أَثَارَةٍ، أَيْ: عَلَامَةٍ، وَالْأَثَارَةُ: مَصْدَرٌ كَالسَّمَاحَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْأَثَرِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ، يُقَالُ: أَثَرْتُ الْحَدِيثَ آثُرُهُ أَثْرَةً وَأَثَارَةً وَأَثْرًا إِذَا ذَكَرْتَهُ عَنْ غَيْرِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَثَارَةٍ» عَلَى الْمَصْدَرِ كَالسَّمَاحَةِ وَالْغَوَايَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ «أُثْرَةٍ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمُ الَّتِي تَدْعُونَهَا، وَهِيَ قَوْلُكُمْ: إِنَّ الله شَرِيكًا، وَلَمْ تَأْتُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ لِقِيَامِ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ وَالنَّقْلِيِّ عَلَى خلافه. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ أَيْ: لَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْهُ وَلَا أَجْهَلُ، فَإِنَّهُ دَعَا مَنْ لَا يَسْمَعُ، فَكَيْفَ يَطْمَعُ فِي الْإِجَابَةِ، فَضْلًا عَنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ؟ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ أَجْهَلُ الْجَاهِلِينَ وَأَضَلُّ الضَّالِّينَ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ. وَقَوْلُهُ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ غاية لعدم الاستحابة وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ لِلْأَصْنَامِ، وَالثَّانِي لِعَابِدِيهَا، وَالْمَعْنَى: وَالْأَصْنَامُ الَّتِي يَدْعُونَهَا عَنْ دُعَائِهِمْ إِيَّاهَا غَافِلُونَ عَنْ ذَلِكَ، لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ لِكَوْنِهِمْ جَمَادَاتٍ، وَالْجَمْعُ فِي الضَّمِيرَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ، وَأَجْرَى عَلَى الْأَصْنَامِ مَا هُوَ لِلْعُقَلَاءِ لِاعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا أَنَّهَا تَعْقِلُ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً أَيْ: إِذَا حَشَرَ النَّاسَ الْعَابِدِينَ لِلْأَصْنَامِ كَانَ الْأَصْنَامُ لَهُمْ أَعْدَاءً، يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْحَيَاةَ فِي الْأَصْنَامِ فَتُكَذِّبُهُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ

أَنَّهَا تُكَذِّبُهُمْ وَتُعَادِيهِمْ بِلِسَانِ الْحَالِ لَا بِلِسَانِ المقال. وأما الملائكة والمسيح وعزيز والشياطين فإنهم يتبرّؤون مِمَّنْ عَبَدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ «1» . وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ أَيْ: كَانَ الْمَعْبُودُونَ بِعِبَادَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ كَافِرِينَ، أَيْ: جَاحِدِينَ مُكَذِّبِينَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي «كَانُوا» لِلْعَابِدِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أَيْ: آيات القرآن حال كونهم بَيِّناتٍ وَاضِحَاتِ الْمَعَانِي ظَاهِرَاتِ الدَّلَالَاتِ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أَيْ: لِأَجْلِهِ وَفِي شَأْنِهِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْآيَاتِ لَمَّا جاءَهُمْ أَيْ: وَقْتَ أَنْ جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ: ظَاهِرُ السِّحْرِيَّةِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ «أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ أَيْ: بَلْ أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَبَلْ لِلِانْتِقَالِ عَنْ تَسْمِيَتِهِمُ الْآيَاتِ سِحْرًا إِلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ افْتَرَى مَا جَاءَ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ مَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ، فَقَالَ: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ: كَمَا تَدَّعُونَ، فَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَرُدُّوا عَنِّي عِقَابَ اللَّهِ، فَكَيْفَ أَفْتَرِي عَلَى اللَّهِ لِأَجْلِكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ عِقَابِهِ عَنِّي هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أَيْ: تَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْإِفَاضَةُ فِي الشَّيْءِ: الْخَوْضُ فِيهِ وَالِانْدِفَاعُ فِيهِ، يُقَالُ: أَفَاضُوا فِي الْحَدِيثِ، أَيِ: انْدَفَعُوا فِيهِ، وَأَفَاضَ الْبَعِيرُ: إِذَا دَفَعَ جَرَّتَهُ مِنْ كَرِشِهِ، وَالْمَعْنَى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ وَتَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ لَهُ وَالْقَوْلِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ وَكِهَانَةٌ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ لِي بِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِهِ وَأَنِّي قَدْ بَلَّغْتُكُمْ، وَيَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالْجُحُودِ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَصَدَّقَ بِالْقُرْآنِ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ بَلِيغُهُمَا قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ الْبِدْعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ الْمَبْدَأُ، أَيْ: مَا أَنَا بِأَوَّلِ رَسُولٍ، قَدْ بَعَثَ اللَّهُ قَبْلِي كَثِيرًا مِنَ الرُّسُلِ. قِيلَ: الْبِدْعُ بِمَعْنَى الْبَدِيعِ كَالْخُفِّ وَالْخَفِيفِ، وَالْبَدِيعُ: مَا لَمْ يُرَ لَهُ مِثْلٌ، مِنَ الِابْتِدَاعِ وَهُوَ الِاخْتِرَاعُ، وَشَيْءٌ بِدْعٌ بِالْكَسْرِ، أَيْ: مُبْتَدَعٌ، وَفُلَانٌ بِدْعٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ، أَيْ: بَدِيعٌ، كَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ، وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ: فَمَا أَنَا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِثَ تَعْتَرِي ... رِجَالًا غَدَتْ مِنْ بَعْدِ بؤس بأسعد «3» وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «بِدَعًا» بِفَتْحِ الدَّالِّ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: مَا كُنْتُ ذَا بِدَعٍ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ عَلَى الْوَصْفِ. وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أَيْ: مَا يُفْعَلُ بِي فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ هَلْ أَبْقَى فِي مَكَّةَ أَوْ أُخْرَجُ مِنْهَا؟ وَهَلْ أَمُوتُ أَوْ أُقْتَلُ؟ وَهَلْ تُعَجَّلُ لَكُمُ الْعُقُوبَةُ أَمْ تُمْهَلُونَ؟ وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ وَأُمَّتَهُ فِي الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُ نَبِيًّا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ وَلَا بِنَا، وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْنَا؟ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تعالى:

_ (1) . القصص: 63. (2) . الأنعام: 23. (3) . البيت لعديّ بن زيد.

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُوحى» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: مَا أَتَّبِعُ إِلَّا الْقُرْآنَ وَلَا أَبْتَدِعُ مِنْ عِنْدِي شَيْئًا، وَالْمَعْنَى: قَصْرُ أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَلَى الْوَحْيِ لَا قَصْرُ اتِّبَاعِهِ عَلَى الْوَحْيِ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَيْ أُنْذِرُكُمْ عِقَابَ اللَّهِ وَأُخَوِّفُكُمْ عَذَابَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِيضَاحِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قَالَ: الْخَطُّ. قَالَ سُفْيَانُ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَ مَرْفُوعٌ لَا مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ صَادَفَ مِثْلَ خَطِّهِ عَلِمَ» وَمَعْنَى هَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ تَفَاسِيرُ مُخْتَلِفَةٌ. وَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْخُطُوطَ الرَّمْلِيَّةَ مُوَافِقَةٌ لِذَلِكَ الْخَطِّ؟ وَأَيْنَ السَّنَدُ الصَّحِيحُ إِلَى ذَلِكَ النَّبِيِّ؟ أَوْ إِلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا الْخَطَّ هُوَ عَلَى صُورَةِ كَذَا؟ فَلَيْسَ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الرَّمْلِ إِلَّا جَهَالَاتٌ وَضَلَالَاتٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قَالَ: «حُسْنُ الْخَطِّ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قَالَ: خَطٌّ كَانَ يَخُطُّهُ الْعَرَبُ فِي الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ يَقُولُ: بَيِّنَةٌ مِنَ الْأَمْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ يَقُولُ: لَسْتُ بِأَوَّلِ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «2» وقوله: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ «3» الْآيَةَ، فَأَعْلَمَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ مَا يُفْعَلُ بِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْعَلَاءِ قَالَتْ: «لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ أَبَا السَّائِبِ شَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، قالت أمّ العلاء: فو الله لا أزكّي بعده أحدا» .

_ (1) . الفتح: 2. (2) . الفتح: 2. (3) . الفتح: 5.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 10 إلى 16]

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 10 الى 16] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) قَوْلُهُ قُلْ أَرَأَيْتُمْ أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَعْنِي مَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ كَانَ مُرْسَلًا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَكَفَرْتُمْ بِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ قَدْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ وَالْمَعْنَى: أَخْبِرُونِي إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ قَدْ كَفَرْتُمْ بِهِ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعَالِمِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مِثْلِهِ، أَيِ: الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَوْجُودَةِ فِي التَّوْرَاةِ الْمُطَابِقَةِ لَهُ مِنْ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمِثْلِيَّةُ هِيَ بِاعْتِبَارِ تَطَابُقِ الْمَعَانِي وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَلْفَاظُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: مِثْلِ صِلَةٌ: وَالْمَعْنَى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ. فَآمَنَ الشَّاهِدُ بِالْقُرْآنِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَمِنْ جِنْسِ مَا يُنَزِّلُهُ عَلَى رُسُلِهِ، وَهَذَا الشَّاهِدُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ فَإِنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ كَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالشَّاهِدِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ فِي مَكَّةَ وَصَدَّقَهُ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا يَتَرَجَّحُ بِهِ أن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ لَا مَكِّيَّةٌ. وَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّجُلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ: وَاسْتَكْبَرْتُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى شَهِدَ، أَيْ: آمَنَ الشَّاهِدُ وَاسْتَكْبَرْتُمْ أَنْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَحَرَمَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْهِدَايَةَ لِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ فَقَدَ هِدَايَةَ اللَّهِ لَهُ ضَلَّ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ مَاذَا هُوَ؟ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَتُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: قوله: فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ وقيل: محذوف بتقديره: فَقَدْ ظَلَمْتُمْ لِدَلَالَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ عليه، أي: تَقْدِيرُهُ: فَمَنْ أَضَلُّ مِنْكُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ «1» الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: تَقْدِيرُهُ: أَتَأْمَنُونَ عُقُوبَةَ اللَّهِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ أَقَاوِيلِهِمُ الْبَاطِلَةِ فَقَالَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: لِأَجْلِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ هِيَ لَامُ التَّبْلِيغِ لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ أَيْ: لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةِ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلسَّبْقِ إِلَى كُلِّ مَكْرُمَةٍ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْطَفِي لِدِينِهِ مَنْ يَشَاءُ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ

_ (1) . فصلت: 52.

أَيْ: بِالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: بِالْإِيمَانِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ فَجَاوَزُوا نَفْيَ خَيْرِيَّةِ الْقُرْآنِ إِلَى دَعْوَى أَنَّهُ كَذِبٌ قَدِيمٌ، كَمَا قَالُوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَالْعَامِلُ فِي «إِذْ» مُقَدَّرٌ، أَيْ: ظَهَرَ عِنَادُهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ «فَسَيَقُولُونَ» لِتَضَادِّ الزَّمَانَيْنِ، أَعْنِي الْمُضِيَّ وَالِاسْتِقْبَالَ وَلِأَجْلِ الْفَاءِ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَامِلَ فِيهِ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ مِنْ جِنْسِ المذكور، أي: لم يهتدوا به، وإذ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ. وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ «مِنْ» عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ جَرٍّ، وَهِيَ مَعَ مَجْرُورِهَا خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَكِتَابُ مُوسَى مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِرَدِّ قَوْلِهِمْ: هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ فَإِنَّ كَوْنَهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْقُرْآنَ كِتَابُ مُوسَى، وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَتَوَافَقَا فِي أُصُولِ الشَّرَائِعِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَقْتَضِي بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ. وَقُرِئَ بِفَتْحِ مِيمِ «مَنْ» عَلَى أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ وَنَصْبِ كِتَابَ، أَيْ: وَآتَيْنَا مَنْ قَبْلَهُ كِتَابَ مُوسَى، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ الْكَلْبِيِّ إِماماً وَرَحْمَةً أَيْ: يُقْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ وَرَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَهُمَا مُنْتَصِبَانِ عَلَى الْحَالِ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ عَلَى الْقَطْعِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ: جَعَلْنَاهُ إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ يَعْنِي الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ مُصَدِّقٌ لِكِتَابِ مُوسَى الَّذِي هُوَ إِمَامٌ وَرَحْمَةٌ وَلِغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، وَقِيلَ: مُصَدِّقٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَانْتِصَابُ لِساناً عَرَبِيًّا عَلَى الْحَالِ الْمُوَطِّئَةِ وَصَاحِبُهَا الضَّمِيرُ فِي «مُصَدِّقٌ» الْعَائِدُ إِلَى «كِتَابٌ» ، وجوّز أبو البقاء أن يكون مفعولا لمصدّق، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَا لِسَانٍ عَرَبِيٍّ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «لِيُنْذِرَ» بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ، أَيْ: لِيُنْذِرَ الْكِتَابُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ، وَقِيلَ: إِلَى الرَّسُولِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْبَزِّيُّ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَوْلُهُ: وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ «لِيُنْذِرَ» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، أَيْ: وَهُوَ بُشْرَى، وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وتبشر بشرى، وقوله: «للمحسنين» متعلّق ببشرى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ الفاء زائدة في الخبر الْمَوْصُولِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ مِنْ وُقُوعِ مَكْرُوهٍ بِهِمْ، وَلَا يَحْزَنُونَ مِنْ فَوَاتِ مَحْبُوبٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ دَائِمٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَيْ: أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذَكَرَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْمُؤْمِنِينَ حَالَ كَوْنِهِمْ خالِدِينَ فِيها وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّرْغِيبِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ نَفْيَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْجَنَّةِ عَلَى الْأَبَدِ مِمَّا لَا تَطْلُبُ الْأَنْفُسُ سِوَاهُ، وَلَا تَتَشَوَّفُ إِلَى مَا عَدَاهُ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: يُجْزَوْنَ جَزَاءً بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا مِنَ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ وَتَرْكِ مَعَاصِيهِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا قَرَأَ الْجُمْهُورُ حُسْنًا بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالسُّلَمِيُّ بِفَتْحِهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكُوفِيُّونَ «إِحْساناً» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْقُرَّاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وسورة بني إسرائيل وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ

وَجْهُ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: وَصَّيْنَاهُ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمَا حُسْنًا، أَوْ إِحْسَانًا، وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ بِتَضْمِينِ وَصَّيْنَا مَعْنَى أَلْزَمْنَا، وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً قَرَأَ الْجُمْهُورُ «كُرْهًا» فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِضَمِّ الْكَافِ. وَقَرَأَ أَبُو عمرو وَأَهْلُ الْحِجَازِ بِفَتْحِهِمَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْكَرْهُ بِالْفَتْحِ لَا يَحْسُنُ لِأَنَّهُ الْغَضَبُ وَالْغَلَبَةُ، وَاخْتَارَ أَبُو عبيدة قِرَاءَةَ الْفَتْحِ قَالَ: لِأَنَّ لَفْظَ الْكَرْهِ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ بِالْفَتْحِ إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ «1» وَقِيلَ: إِنَّ الْكُرْهَ بِالضَّمِّ مَا حَمَلَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِالْفَتْحِ مَا حَمَلَ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَمْلَ الْأُمِّ وَوَضْعَهَا تَأْكِيدًا لِوُجُوبِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهَا الَّذِي وَصَّى اللَّهُ بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا حَمَلَتْهُ ذَاتَ كُرْهٍ وَوَضَعَتْهُ ذَاتَ كُرْهٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مُدَّةَ حَمْلِهِ وَفِصَالِهِ فَقَالَ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً أَيْ: مُدَّتُهُمَا هَذِهِ الْمُدَّةُ مِنْ عِنْدِ ابْتِدَاءِ حَمْلِهِ إِلَى أَنْ يُفْصَلَ مِنَ الرَّضَاعِ، أَيْ: يُفْطَمَ عَنْهُ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِأَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ سَنَتَانِ، أَيْ: مُدَّةَ الرَّضَاعِ الْكَامِلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ «2» فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَأَكْثَرَ مُدَّةِ الرَّضَاعِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْأُمِّ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْأَبِ لِأَنَّهَا حَمَلَتْهُ بِمَشَقَّةٍ وَوَضَعَتْهُ بِمَشَقَّةٍ، وَأَرْضَعَتْهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ بِتَعَبٍ وَنَصَبٍ وَلَمْ يُشَارِكْهَا الْأَبُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَفِصَالُهُ» بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ وَقَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ «وَفَصْلُهُ» بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْفَصْلُ وَالْفِصَالُ بِمَعْنًى كَالْفَطْمِ وَالْفِطَامِ وَالْقَطْفِ وَالْقِطَافِ حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ أَيْ: بَلَغَ اسْتِحْكَامَ قُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ الْأَشُدِّ مُسْتَوْفًى. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ تَكُونُ حَتَّى غَايَةً لَهَا أَيْ: عَاشَ وَاسْتَمَرَّتْ حَيَاتُهُ حَتَّى بَلَغَ أَشُدَّهُ، قِيلَ: بَلَغَ عُمْرُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَقِيلَ: الْأَشُدُّ: الْحُلُمُ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ بُلُوغُ الْأَرْبَعِينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَإِنَّ هَذَا يُفِيدُ أَنَّ بُلُوغَ الْأَرْبَعِينَ هُوَ شَيْءٌ وَرَاءَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَيْ: أَلْهِمْنِي. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اسْتَوْزَعْتُ اللَّهَ فَأَوْزَعَنِي أَيِ: اسْتَلْهَمْتُهُ فَأَلْهَمَنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أَيْ: أَلْهِمْنِي شُكْرَ مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَعَلَى وَالِدَيَّ مِنَ التَّحَنُّنِ عَلَيَّ مِنْهُمَا حِينَ رَبَّيَانِي صَغِيرًا. وَقِيلَ: أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، وَعَلَى وَالِدَيَّ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ، وَالْأَوْلَى عَدَمُ تَقْيِيدِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبَوَيْهِ بِنِعْمَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ أَيْ: وَأَلْهِمْنِي أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا تَرْضَاهُ مِنِّي وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أَيِ: اجْعَلْ ذَرِّيَّتِي صَالِحِينَ رَاسِخِينَ فِي الصَّلَاحِ مُتَمَكِّنِينَ مِنْهُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ بَلَغَ عُمْرُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْ ذُنُوبِي وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيِ: الْمُسْتَسْلِمِينَ لَكَ الْمُنْقَادِينَ لِطَاعَتِكَ الْمُخْلِصِينَ لِتَوْحِيدِكَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ، وَالْجَمْعِ لِأَنَّهُ

_ (1) . البقرة: 216. (2) . البقرة: 233.

يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا، وَالْمُرَادُ بِالْأَحْسَنِ الْحَسَنُ، كَقَوْلِهِ: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ «1» وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ عَلَى مَعْنَاهُ، وَيُرَادُ بِهِ مَا يُثَابُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، لَا مَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ كَالْمُبَاحِ فَإِنَّهُ حَسَنٌ وَلَيْسَ بِأَحْسَنَ وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فَلَا نعاقبهم عليها. قرأ الجمهور: «يتقبل ويتجاوز» عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلَيْنِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالنُّونِ فِيهِمَا عَلَى إِسْنَادِهِمَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالتَّجَاوُزُ: الْغُفْرَانُ، وَأَصْلُهُ مِنْ جُزْتَ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ تَقِفْ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ كَائِنُونَ فِي عِدَادِهِمْ مُنْتَظِمُونَ فِي سِلْكِهِمْ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، كَقَوْلِكَ: أَكْرَمَنِي الْأَمِيرُ فِي أَصْحَابِهِ، أَيْ: كَائِنًا فِي جُمْلَتِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ فِي بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ: مَعَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ وَعْدَ الصِّدْقِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ إِلَخْ فِي مَعْنَى الْوَعْدِ بِالتَّقَبُّلِ وَالتَّجَاوُزِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَعَدَهُمُ اللَّهُ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا كَنِيسَةَ الْيَهُودِ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَكَرِهُوا دُخُولَنَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَرُونِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْكُمْ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَحُطُّ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كُلِّ يَهُودِيٍّ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ الْغَضَبَ الَّذِي عَلَيْهِ، فَسَكَتُوا فَمَا أَجَابَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثلاثا، فقال: أبيتم فو الله لَأَنَا الْحَاشِرُ، وَأَنَا الْعَاقِبُ، وَأَنَا الْمُقَفِّي آمَنْتُمْ أَوْ كَذَّبْتُمْ» ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى كِدْنَا أَنْ نَخْرُجَ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ فَقَالَ: كَمَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ فَأَقْبَلَ، فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: أَيُّ رَجُلٍ تَعْلَمُونِي فِيكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ فِينَا رَجُلًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا أَفْقَهَ مِنْكَ وَلَا مِنْ أَبِيكَ وَلَا مِنْ جَدِّكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، قَالُوا: كَذَبْتَ، ثُمَّ رَدُّوا عَلَيْهِ وَقَالُوا شَرًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَبْتُمْ لَنْ يُقْبَلَ مِنْكُمْ قَوْلُكُمْ» ، فَخَرَجْنَا وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا وَابْنُ سَلَامٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وَصَحَّحَهُ السُّيُوطِيُّ. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: مَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَفِيهِ نَزَلَتْ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: نَزَلَ فِيَّ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ نَزَلَتْ فِيَّ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَنَزَلَ فِيَّ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مردويه عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَقَدْ رُوِيَ نحو هذا عن جماعة

_ (1) . الزمر: 55. (2) . الرعد: 43.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 إلى 20]

مِنَ التَّابِعِينَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ فَيُخَصَّصُ بِهَا عُمُومُ قَوْلِهِمْ إِنَّ سُورَةَ الْأَحْقَافِ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَحْنُ أَعَزُّ وَنَحْنُ وَنَحْنُ، فَلَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَنَزَلَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ قَالَ: كَانَتْ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمَةٌ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ: يُقَالُ لَهَا زُنَيْرَةُ، وَكَانَ عُمَرُ يَضْرِبُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ: لَوْ كان خيرا ما سبقنا إِلَيْهِ زُنَيْرَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِهَا وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَنُو غِفَارٍ وَأَسْلَمُ كَانُوا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِتْنَةً، يَقُولُونَ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَوَّلَ النَّاسِ فِيهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ قَوْلُهُ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: إِنِّي لَصَاحِبُ الْمَرْأَةِ الَّتِي أُتِيَ بِهَا عمر التي وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لِعُمَرَ: لِمَ تَظْلِمُ؟ قَالَ: كَيْفَ؟ قُلْتُ: اقْرَأْ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ «1» كَمِ الْحَوْلُ؟ قَالَ: سَنَةٌ، قُلْتُ: كَمِ السَّنَةُ؟ قَالَ: اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، قُلْتُ: فَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا حَوْلَانِ كَامِلَانِ، وَيُؤَخِّرُ اللَّهُ مِنَ الْحَمْلِ مَا شَاءَ وَيُقَدِّمُ مَا شَاءَ، فَاسْتَرَاحَ عُمَرُ إِلَى قَوْلِي. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ كَفَاهَا مِنَ الرَّضَاعِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَإِذَا وَلَدَتْ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ كَفَاهَا مِنَ الرَّضَاعِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَإِذَا وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَحَوْلَانِ كَامِلَانِ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي الْآيَةَ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فأسلم والده جَمِيعًا وَإِخْوَتُهُ وَوَلَدُهُ كُلُّهُمْ، وَنَزَلَتْ فِيهِ أَيْضًا: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى «2» إلى آخر السورة. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 20] وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَنْ شَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ ذَكَرَ مَنْ قَالَ لَهُمَا قَوْلًا يَدُلُّ على التضجر

_ (1) . البقرة: 233. (2) . الليل: 5. [.....]

مِنْهُمَا عِنْدَ دَعْوَتِهِمَا لَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَقَالَ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما الْمَوْصُولُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجِنْسِ الْقَائِلِ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِالْجَمْعِ، وَ «أُفٍّ» كَلِمَةٌ تَصْدُرُ عَنْ قَائِلِهَا عِنْدَ تَضَجُّرِهِ مِنْ شَيْءٍ يَرِدُ عَلَيْهِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفَصٌ أُفٍّ بِكَسْرِ الْفَاءِ مَعَ التَّنْوِينِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِفَتْحِهَا مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرٍ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَهِيَ لُغَاتٌ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ الْكَلَامِ فِي هَذَا فِي سُورَةِ بني إسرائيل، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَكُما لِبَيَانِ التَّأْفِيفِ، أَيِ: التَّأْفِيفُ لَكُمَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَيْتَ لَكَ «1» قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَتَعِدانِنِي بِنُونَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ، وَفَتَحَ يَاءَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَأَسْكَنَهَا الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَالْمُغِيرَةُ وَهِشَامٌ بِإِدْغَامِ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ نَافِعٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى، كَأَنَّهُمْ فَرُّوا مَنْ تَوَالِي مِثْلَيْنِ مَكْسُورَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ أُخْرَجَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَنَصْرٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو مَعْمَرٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. والمعنى: أتعدانني أَنْ أُبْعَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَجُمْلَةُ: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنْ قَدْ مَضَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فَمَاتُوا وَلَمْ يُبْعَثْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَهَكَذَا جُمْلَةُ: وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ لَهُ، وَيَطْلُبَانِ مِنْهُ التَّوْفِيقَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَاسْتَغَاثَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ، يُقَالُ: اسْتَغَاثَ اللَّهَ وَاسْتَغَاثَ بِهِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: مَعْنَاهُ يَسْتَغِيثَانِ بِاللَّهِ مِنْ كُفْرِهِ، فَلَمَّا حَذَفَ الْجَارَّ وَصَلَ الْفِعْلَ، وَقِيلَ: الِاسْتِغَاثَةُ الدُّعَاءُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَغِوَاثَهُ، وَقَوْلُهُ: وَيْلَكَ هُوَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يَقُولَانِ له ويلك، وليس المراد به الدعاء فيه، بَلِ الْحَثُّ لَهُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا قَالَا لَهُ: آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ: آمِنْ بِالْبَعْثِ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ لَا خُلْفَ فِيهِ فَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ مُكَذِّبًا لِمَا قَالَاهُ: مَا هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: مَا هَذَا الَّذِي تَقُولَانِهِ مِنَ الْبَعْثِ إِلَّا أحاديث الأوّلين وأباطيلهم التي سطّروها في الكتاب. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ» بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَوِ التَّعْلِيلِ، وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ فائد والأعرج بفتحها على أنها معمولة لآمن بِتَقْدِيرِ الْبَاءِ. أَيْ: آمِنْ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بِالْبَعْثِ حَقٌّ أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أَيْ: أُولَئِكَ الْقَائِلُونَ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ هُمُ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ لِإِبْلِيسَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ «2» تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَهَذَا يَدْفَعُ كَوْنَ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّهُ الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ مَا قَالَ، فَإِنَّهُ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ مِمَّنْ حقّت عليه كلمة العذاب، وسيأتي بيان سبب النُّزُولِ فِي آخِرِ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أَيْ: لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَرَاتِبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِهِمْ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: دَرَجَاتُ أَهْلِ النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَذْهَبُ سُفْلًا، وَدَرَجَاتُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَذْهَبُ عُلُوًّا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ أَيْ: جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ. قَرَأَ

_ (1) . يوسف: 23. (2) . ص: 85.

الْجُمْهُورُ: لِنُوَفِّيَهُمْ بِالنُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وَاخْتَارَ الثَّانِيَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ: لَا يزاد مسيء وَلَا يُنْقَصُ مُحْسِنٌ، بَلْ يُوَفَّى كُلُّ فَرِيقٍ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْكُرْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ يَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ فَيَنْظُرُونَ إِلَى النَّارِ وَيَقْرَبُونَ مِنْهَا، وَقِيلَ: مَعْنَى يُعْرَضُونَ يُعَذَّبُونَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: عَرَضَهُ عَلَى السَّيْفِ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ قَلْبٌ. وَالْمَعْنَى: تُعْرَضُ النَّارُ عَلَيْهِمْ. أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذلك، وقيل: وَهَذَا الْمُقَدَّرُ هُوَ النَّاصِبُ لِلظَّرْفِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَذْهَبْتُمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ ونصر أبو الْعَالِيَةِ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْعَرَبُ تُوَبِّخُ بِالِاسْتِفْهَامِ وَبِغَيْرِهِ، فَالتَّوْبِيخُ كَائِنٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ بِالطَّيِّبَاتِ اللَّذَّاتُ وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْمَعَايِشِ وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها أَيْ: بِالطَّيِّبَاتِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ الَّتِي فِي مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَمْ يُبَالُوا بِالذَّنْبِ تَكْذِيبًا مِنْهُمْ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْوَعْدِ بِالْحِسَابِ وَالْعِقَابِ وَالثَّوَابِ فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أَيِ: الْعَذَابَ الَّذِي فِيهِ ذُلٌّ لَكُمْ وَخِزْيٌ عَلَيْكُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْهُونُ الْهَوَانُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ: بِسَبَبِ تَكَبُّرِكُمْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أَيْ: تَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَتَعْمَلُونَ بِمَعَاصِيهِ، فَجَعَلَ السَّبَبَ فِي عَذَابِهِمْ أَمْرَيْنِ: التَّكَبُّرَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَالْعَمَلَ بِمَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا شَأْنُ الْكَفَرَةِ فَإِنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَهُمَا. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ: كَانَ مَرْوَانُ عَلَى الْحِجَازِ، اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَخَطَبَ فَجَعَلَ يَذْكُرُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لِكَيْ يُبَايَعَ لَهُ بَعْدَ أَبِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا، فَقَالَ: خُذُوهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: إِنَّ هَذَا أُنْزِلَ فِيهِ وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُذْرِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: لَمَّا بَايَعَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِهِ، قَالَ مَرْوَانُ: سُنَّةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سُنَّةُ هِرَقْلَ وَقَيْصَرَ، فَقَالَ مَرْوَانُ: هَذَا الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما الْآيَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: كَذَبَ مَرْوَانُ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ لَسَمَّيْتُهُ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ أَبَا مَرْوَانَ وَمَرْوَانُ فِي صُلْبِهِ، فَمَرْوَانُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا ابْنٌ لِأَبِي بَكْرٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا كَمَا قَدَّمْنَا.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 إلى 28]

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ أَيْ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ أَخَا عَادٍ، وَهُوَ هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، كَانَ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ، لَا فِي الدِّينِ، وَقَوْلُهُ: إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُ، أَيْ: وَقْتَ إِنْذَارِهِ إِيَّاهُمْ بِالْأَحْقافِ وَهِيَ دِيَارُ عَادٍ، جَمْعُ حِقْفٍ، وَهُوَ الرَّمْلُ الْعَظِيمُ الْمُسْتَطِيلُ الْمُعْوَجُّ، قَالَهُ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ، وَكَانُوا قَهَرُوا أَهْلَ الْأَرْضِ بِقُوَّتِهِمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ أَنْ يَذْكُرَ لِقَوْمِهِ قِصَّتَهُمْ لِيَتَّعِظُوا وَيَخَافُوا، وَقِيلَ: أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قِصَّتَهُمْ مَعَ هُودٍ لِيَقْتَدِيَ بِهِ، وَيَهُونَ عَلَيْهِ تَكْذِيبُ قَوْمِهِ. قَالَ عَطَاءٌ: الْأَحْقَافُ: رِمَالُ بِلَادِ الشَّحْرِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ بِالْيَمَنِ فِي حضر موت. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ رِمَالٌ مَبْسُوطَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ كَهَيْئَةِ الْجِبَالِ، وَلَمْ تَبْلُغْ أَنْ تَكُونَ جِبَالًا وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَيْ: وَقَدْ مَضَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ بعده» . وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ إِنْذَارِ هُودٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِقَوْمِهِ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ بُعِثُوا قَبْلَهُ وَالَّذِينَ سَيُبْعَثُونَ بَعْدَهُ كُلُّهُمْ مُنْذِرُونَ نَحْوَ إِنْذَارِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى كَلَامِ هُودٍ لِقَوْمِهِ، فَقَالَ حَاكِيًا عَنْهُ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَقِيلَ: إِنَّ جَعْلَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ اعْتِرَاضِيَّةً أَوْلَى بِالْمَقَامِ وَأَوْفَقُ بِالْمَعْنَى قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا أَيْ: لِتَصْرِفَنَا عَنْ عِبَادَتِهَا، وَقِيلَ: لِتُزِيلَنَا، وَقِيلَ: لِتَمْنَعَنَا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ عروة بن أذينة: إن تلك عن أحسن الصنيعة «1» مأ ... فوكا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُوَفَّقْ لِلْإِحْسَانِ فَأَنْتَ فِي قَوْمٍ قَدْ صُرِفُوا عَنْ ذَلِكَ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي وَعْدِكَ لَنَا بِهِ قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي: إنما العلم بوقت مجيئه عند

_ (1) . الّذي في اللسان: المروءة.

اللَّهِ لَا عِنْدِي وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ، فَأَمَّا الْعِلْمُ بِوَقْتِ مَجِيءِ الْعَذَابِ فَمَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ حَيْثُ بَقِيتُمْ مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِكُمْ، وَلَمْ تَهْتَدُوا بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، بَلِ اقْتَرَحْتُمْ عَلَيَّ مَا لَيْسَ مِنْ وَظَائِفِ الرُّسُلِ فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى «مَا» فِي قَوْلِهِ «بِمَا تَعِدُنَا» . وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: الضَّمِيرُ فِي رَأَوْهُ يَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ: عارِضاً، فَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى السحاب، أي: فلما رأوا السحاب عارضا، فعارضا نُصِبَ عَلَى التَّكْرِيرِ، يَعْنِي التَّفْسِيرَ، وَسُمِّيَ السَّحَابُ عَارِضًا لِأَنَّهُ يَبْدُو فِي عَرْضِ السَّمَاءِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَارِضُ: السَّحَابُ يَعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا وَانْتِصَابُ عَارِضًا عَلَى الْحَالِ أَوِ التَّمْيِيزِ مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أَيْ: مُتَوَجِّهًا نَحْوَ أَوْدِيَتِهِمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتْ عَادٌ قَدْ حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ أَيَّامًا، فَسَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ سَحَابَةً سَوْدَاءَ، فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: الْمَعْتَبُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمُ استبشروا، وقالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا أَيْ: غَيْمٌ فِيهِ مَطَرٌ، وقوله: مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ صفة لعارض لِأَنَّ إِضَافَتَهُ لَفْظِيَّةٌ لَا مَعْنَوِيَّةٌ، فَصَحَّ وَصْفُ النَّكِرَةِ بِهِ، وَهَكَذَا مُمْطِرُنَا، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أَجَابَ عَلَيْهِمْ هُودٌ، فَقَالَ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ يَعْنِي مِنَ الْعَذَابِ حَيْثُ قَالُوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا وَقَوْلُهُ: رِيحٌ بَدَلٌ مِنْ مَا، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَجُمْلَةُ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ صفة لريح، وَالرِّيحُ الَّتِي عُذِّبُوا بِهَا نَشَأَتْ مِنْ ذَلِكَ السَّحَابِ الَّذِي رَأَوْهُ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها هذه الجملة صفة ثانية لريح، أَيْ: تُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ مَرَّتْ بِهِ مِنْ نُفُوسِ عَادٍ وَأَمْوَالِهَا، وَالتَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ، وَكَذَا الدَّمَارُ، وَقُرِئَ يَدْمُرُ بِالتَّحْتِيَّةِ مَفْتُوحَةً وَسُكُونِ الدَّالِ وَضَمِّ الْمِيمِ وَرَفْعِ كُلُّ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ مِنْ دَمَرَ دَمَارًا. وَمَعْنَى بِأَمْرِ رَبِّها أَنَّ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ وقدره فأصبحوا لا ترى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ أَيْ: لَا تَرَى أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ أَوْ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلرُّؤْيَةِ إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ بَعْدَ ذَهَابِ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَرى بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَنَصْبِ مَسَاكِنَهُمْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ بِالتَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ «مَسَاكِنُهُمْ» . قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَعْنَاهُ لَا يُرَى أَشْخَاصُهُمْ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ: مَعْنَاهَا لَا يُرَى شَيْءٌ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ: مَا قَامَ إِلَّا هِنْدٌ، وَالْمَعْنَى: مَا قَامَ أَحَدٌ إِلَّا هِنْدٌ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَاءَتْهُمُ الرِّيحُ فَدَمَّرَتْهُمْ فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي هَؤُلَاءِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ قَالَ الْمُبَرِّدُ: «مَا» فِي قَوْلِهِ فِيمَا بمنزلة الّذي وإن بِمَنْزِلَةِ مَا: يَعْنِي النَّافِيَةَ، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ مِنَ الْمَالِ وَطُولِ الْعُمْرِ وَقُوَّةِ الْأَبْدَانِ، وَقِيلَ: إِنْ زَائِدَةٌ، وتقديره: ولقد مكناهم فيما مكناهم فيه، وبه قال القتبي، ومثله قول الشاعر «1» : فما إن طبّنا «2» جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا

_ (1) . هو فروة بن مسيك المرادي. (2) . «الطب» : الشأن والعادة والشهوة والإرادة.

وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّوْبِيخِ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَأَمْثَالِهِمْ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً أَيْ: إِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الْحُجَّةِ وَالتَّذَكُّرِ مَعَ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْحَوَاسِّ الَّتِي تدرك بها الْأَدِلَّةُ، وَلِهَذَا قَالَ: فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أَيْ: فَمَا نَفَعَهُمْ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَصِحَّةِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ إِفْرَادِ السَّمْعِ وَجَمْعِ الْبَصَرِ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ، وَ «مِنْ» فِي مِنْ شَيْءٍ زائدة، والتقدير: فما أغنى عنهم شيئا مِنَ الْإِغْنَاءِ وَلَا نَفَعَهُمْ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِأَغْنَى، وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْحَدُونَ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ: أَحَاطَ بِهِمُ الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ حَيْثُ قَالُوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى الْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمُرَادُ بِمَا حَوْلَهُمْ مِنَ الْقُرَى قرى ثمود، وقرى لوط، ونحو هما مِمَّا كَانَ مُجَاوِرًا لِبِلَادِ الْحِجَازِ، وَكَانَتْ أَخْبَارُهُمْ مُتَوَاتِرَةً عِنْدَهُمْ وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيْ: بَيَّنَّا الْحُجَجَ وَنَوَّعْنَاهَا لِكَيْ يَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ فَلَمْ يَرْجِعُوا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَنْصُرْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ نَاصِرٌ فَقَالَ: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً أَيْ: فَهَلَّا نَصَرَهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي تَقَرَّبُوا بِهَا بِزَعْمِهِمْ إِلَى اللَّهِ لِتَشْفَعَ لَهُمْ، حَيْثُ قَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ وَمَنَعَتْهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ الْوَاقِعِ بِهِمْ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْقُرْبَانُ: كُلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْ طَاعَةٍ وَنَسِيكَةٍ، وَالْجَمْعُ قَرَابِينُ، كَالرُّهْبَانِ وَالرَّهَابِينِ، وَأَحَدُ مَفْعُولَيِ «اتَّخَذُوا» ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَالثَّانِي آلِهَةً، وقربانا حَالٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَانًا مَفْعُولًا ثانيا، وآلهة بَدَلًا مِنْهُ لِفَسَادِ الْمَعْنَى، وَقِيلَ: يَصِحُّ ذَلِكَ وَلَا يَفْسُدُ الْمَعْنَى، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ وَأَبُو حَيَّانَ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَعْنَى فَسَادٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أَيْ: غَابُوا عَنْ نَصْرِهِمْ وَلَمْ يَحْضُرُوا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ: بَلْ هَلَكُوا، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي «ضَلُّوا» رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ، أَيْ: تركوا الأصنام وتبرّؤوا مِنْهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ إِلَى ضَلَالِ آلِهَتِهِمْ. وَالْمَعْنَى: وَذَلِكَ الضَّلَالُ وَالضَّيَاعُ أَثَرُ إِفْكُهُمْ الَّذِي هُوَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهَا آلِهَةً وَزَعْمِهِمْ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِفْكُهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ مَصْدَرُ أَفِكَ يَأْفِكُ إِفْكًا، أَيْ: كَذِبِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ وَالْكَافِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ، أَيْ: ذَلِكَ الْقَوْلُ صَرَفَهُمْ عَنِ التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ، أَيْ: صَيَّرَهُمْ آفِكِينَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يَعْنِي قَلَبَهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْفَاءِ، بِمَعْنَى صَارِفِهِمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى إِفْكُهُمْ، أَيْ: وَأَثَرُ افْتِرَائِهِمْ أَوْ أَثَرُ الَّذِي كَانُوا يَفْتَرُونَهُ. وَالْمَعْنَى: وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ، أَيْ: كَذِبُهُمُ الَّذِي كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَتَشْفَعُ لَهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ: يَكْذِبُونَ أَنَّهَا آلِهَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَحْقَافُ: جَبَلٌ بِالشَّامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا قَالَ: هُوَ السَّحَابُ. وَأَخْرَجَ البخاريّ ومسلم وغير هما عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إنما كان

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 إلى 35]

يَتَبَسَّمُ، وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ، قَالَ: يَا عَائِشَةُ: وَمَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ، فَقَالُوا: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، فَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، لَعَلَّهُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ «السَّحَابِ» ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي «الْعَظَمَةِ» ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا: غَيْمٌ فِيهِ مَطَرٌ، فَأَوَّلَ مَا عَرَفُوا أَنَّهُ عَذَابٌ رَأَوْا مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ رِجَالِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ تَطِيرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِثْلَ الرِّيشِ دَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَغَلَّقُوا أَبْوَابَهُمْ، فَجَاءَتِ الرِّيحُ فَفَتَحَتْ أَبْوَابَهُمْ وَمَالَتْ عَلَيْهِمْ بِالرَّمْلِ، فَكَانُوا تَحْتَ الرَّمْلِ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا لَهُمْ أَنِينٌ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ الرِّيحَ فَكَشَفَتْ عَنْهُمُ الرَّمْلَ وَطَرَحَتْهُمْ فِي الْبَحْرِ، فَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا قَدْرَ خَاتَمِي هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ يَقُولُ: لَمْ نُمَكِّنْكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: عَادٌ مُكِّنُوا فِي الْأَرْضِ أَفْضَلَ مِمَّا مُكِّنَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَكَانُوا أشدّ قوة وأكثر أموالا وأطول أعمارا. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 35] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِي الْإِنْسِ مَنْ آمَنَ، وَفِيهِمْ مَنْ كَفَرَ، بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ فِي الْجِنِّ كَذَلِكَ، فَقَالَ: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مُقَدَّرٌ، أَيْ: وَاذْكُرْ إِذْ صَرَفْنَا، أَيْ: وَجَّهْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ وَبَعَثْنَاهُمْ إِلَيْكَ، وَقَوْلُهُ: يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةٌ ثانية لنفرا أَوْ حَالٌ لِأَنَّ النَّكِرَةَ قَدْ تَخَصَّصَتْ بِالصِّفَةِ الْأُولَى فَلَمَّا حَضَرُوهُ أَيْ: حَضَرُوا الْقُرْآنَ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ، وَقِيلَ: حَضَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم،

وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى قالُوا أَنْصِتُوا أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اسْكُتُوا، أَمَرُوا بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَسْمَعُوا فَلَمَّا قُضِيَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ قُضِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ: فُرِغَ مِنْ تِلَاوَتِهِ. وَقَرَأَ حَبِيبُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ولا حق بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أي: فرغ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ تِلَاوَتِهِ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى تُؤَيِّدُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حَضَرُوهُ لِلْقُرْآنِ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ تُؤَيِّدُ أنه للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أَيِ: انْصَرَفُوا قاصدين إلى من وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ لَهُمْ عَنْ مُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ وَمُحَذِّرِينَ لَهُمْ، وَانْتِصَابُ «مُنْذِرِينَ» عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ، أَيْ: مُقَدِّرِينَ الْإِنْذَارِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنهم آمنوا بالنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ بَيَانُ ذَلِكَ. قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى يَعْنُونَ الْقُرْآنَ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَوَصَلُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا يَا قَوْمَنَا. قَالَ عَطَاءٌ: كَانُوا يَهُودًا فَأَسْلَمُوا مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ: لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَيْ: إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: إِلَى طَرِيقِ اللَّهِ الْقَوِيمِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يعنون محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَوِ الْقُرْآنَ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أَيْ: بَعْضَهَا، وَهُوَ مَا عَدَا حَقَّ الْعِبَادِ، وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ هُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقَعُ ابْتِدَاءُ الْغُفْرَانِ مِنَ الذُّنُوبِ ثُمَّ يَنْتَهِي إِلَى غُفْرَانِ تَرْكِ مَا هُوَ الْأَوْلَى، وَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْجِنِّ حُكْمُ الْإِنْسِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالتَّعَبُّدِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لِمُؤْمِنِي الْجِنِّ ثَوَابٌ غَيْرَ نَجَاتِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ الْقَائِلُونَ بِهِ أَنَّهُمْ بَعْدَ نَجَاتِهِمْ مِنَ النَّارِ يُقَالُ لَهُمْ: كُونُوا تُرَابًا، كَمَا يُقَالُ لِلْبَهَائِمِ، وَالثَّانِي أَرْجَحُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي مُخَاطَبَةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ- فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «1» فَامْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الثَّقَلَيْنِ بِأَنْ جَعَلَ جَزَاءَ محسنهم الجنة، ولا ينافي هذا الاقتصار ها هنا عَلَى ذِكْرِ إِجَارَتِهِمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَازَى كَافِرَهُمْ بِالنَّارِ وَهُوَ مَقَامُ عَدْلٍ، فَكَيْفَ لَا يُجَازِي مُحْسِنَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَهُوَ مَقَامُ فَضْلٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَيْضًا مَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةُ، وَجَزَاءَ مَنْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ الْجَنَّةُ وَجَزَاءَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْجَنَّةُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَى الْجِنِّ رُسُلًا مِنْهُمْ أَمْ لَا، وَظَاهِرُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنَّ الرُّسُلَ مِنَ الْإِنْسِ فَقَطْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى «2» . وَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ «3» وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ «4» ، فَكُلُّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ بعد إبراهيم هو مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ

_ (1) . الرّحمن: 46 و 47. (2) . يوسف: 109. (3) . الفرقان: 20. (4) . العنكبوت: 27.

الأنعام: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ «1» فَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ مَجْمُوعِ الْجِنْسَيْنِ وَصَدَقَ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَهُمُ الْإِنْسُ، كَقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «2» أي: من أحدهما وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أَيْ: لَا يَفُوتُ اللَّهَ، وَلَا يَسْبِقُهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْهَرَبِ مِنْهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ هَرَبَ كُلَّ مَهْرَبٍ فَهُوَ فِي الْأَرْضِ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَفِي هَذَا تَرْهِيبٌ شَدِيدٌ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أَيْ: أَنْصَارٌ يَمْنَعُونَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ اسْتِحَالَةِ نَجَاتِهِ بِنَفْسِهِ اسْتِحَالَةَ نَجَاتِهِ بِوَاسِطَةِ غَيْرِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى مَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: ظَاهِرٍ وَاضِحٍ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا عَلَى الْبَعْثِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الرُّؤْيَةُ هُنَا هِيَ الْقَلْبِيَّةُ الَّتِي بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي خَلَقَ هذه الأجرام العظام من السّموات وَالْأَرْضِ ابْتِدَاءً وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ أَيْ: لَمْ يَعْجِزْ عَنْ ذَلِكَ وَلَا ضَعُفَ عَنْهُ، يُقَالُ: عَيَّ بِالْأَمْرِ وَعَيِيَ إِذَا لَمْ يَهْتَدِ لِوَجْهِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «3» : عَيَّوْا بِأَمْرِهِمُ كَمَا ... عَيَّتْ بِبَيْضَتِهَا الْحَمَامَهْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَمْ يَعْيَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْيَاءِ مُضَارِعَ عَيِيَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْيَاءِ. بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «4» . قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْعَرَبُ تُدْخِلُ الْبَاءَ مَعَ الْجَحْدِ وَالِاسْتِفْهَامِ، فَتَقُولُ: مَا أَظُنُّكَ بِقَائِمٍ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرٌ لِأَنَّ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْأَعْرَجُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «يَقْدِرُ» عَلَى صِيغَةِ المضارع، واختار أبو عبيد الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ، قَالَ: لِأَنَّ دُخُولَ الْبَاءِ فِي خَبَرِ أَنَّ قَبِيحٌ. بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يُقَالُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الْمَحْكِيَّةُ بِالْقَوْلِ، وَالْإِشَارَةُ بهذا إِلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ لَهُمْ يَوْمَ عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ، وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِمُجَرَّدِ الْإِشَارَةِ مِنَ التَّهْوِيلِ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهِ مَا لَا يَخْفَى، كَأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قالُوا بَلى وَرَبِّنا اعْتَرَفُوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الِاعْتِرَافُ، وَأَكَّدُوا هَذَا الِاعْتِرَافَ بِالْقَسَمِ لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ هِيَ حَقُّ الْيَقِينِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ جَحَدُهُ وَلَا إِنْكَارُهُ قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَيْ: بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ بِهَذَا فِي الدُّنْيَا وَإِنْكَارِكُمْ لَهُ، وَفِي هَذَا الْأَمْرِ لَهُمْ بِذَوْقِ الْعَذَابِ تَوْبِيخٌ بَالِغٌ وَتَهَكُّمٌ عَظِيمٌ. لَمَّا قَرَّرَ سُبْحَانَهُ الْأَدِلَّةَ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ أَمَرَ رَسُولَهُ بِالصَّبْرِ، فَقَالَ: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَرَاهِينُ وَلَمْ يَنْجَعْ فِي الْكَافِرِينَ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ، أَيْ: أَرْبَابُ الثَّبَاتِ وَالْحَزْمِ فَإِنَّكَ منهم. قال مجاهد: أولو

_ (1) . الأنعام: 130. (2) . الرّحمن: 22. (3) . هو عبيد بن الأبرص. (4) . النساء: 79.

الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ خَمْسَةٌ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وعيسى ومحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَهُمْ أَصْحَابُ الشَّرَائِعِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُمْ نُوحٌ وَهُودٌ وَإِبْرَاهِيمُ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَكُونَ رَابِعَهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ سِتَّةٌ إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَلُوطٌ وَمُوسَى. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّ مِنْهُمْ إِسْمَاعِيلَ وَيَعْقُوبَ وَأَيُّوبَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ يُونُسُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْكَلْبِيُّ: هُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ، فَأَظْهَرُوا الْمُكَاشَفَةَ وَجَاهَدُوا الْكَفَرَةَ، وَقِيلَ: هُمْ نُجَبَاءُ الرُّسُلِ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ: إِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَنُوحٌ وَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَأَيُّوبُ وَيُوسُفُ وَمُوسَى وَهَارُونُ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسُ وَإِسْمَاعِيلُ وَالْيَسَعُ وَيُونُسُ وَلُوطٌ. وَاخْتَارَ هَذَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِمْ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «1» وقيل: إن الرسل كلهم أولو عزم، وقيل: هم اثنا عشر نبيا أرسلوا إلى نبي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ أَرْبَعَةٌ: إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَدَاوُدُ وَعِيسَى وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلِ الْعَذَابَ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ. لَمَّا أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالصَّبْرِ وَنَهَاهُ عَنِ اسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ لِقَوْمِهِ رَجَاءَ أَنْ يُؤْمِنُوا قَالَ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ أَيْ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يُشَاهِدُونَهُ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الدُّنْيَا إِلَّا قَدْرَ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْأَيَّامِ لِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْهَوْلِ الْعَظِيمِ وَالْبَلَاءِ الْمُقِيمِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بَلاغٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا الَّذِي وَعَظْتُهُمْ بِهِ بَلَاغٌ، أَوْ تِلْكَ السَّاعَةُ بَلَاغٌ، أَوْ هَذَا الْقُرْآنُ بَلَاغٌ، أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ لَهُمُ الْوَاقِعُ بَعْدَ قَوْلِهِ: «وَلَا تَسْتَعْجِلْ» أَيْ: لَهُمْ بَلَاغٌ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بَلَاغًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: بَلِّغْ بَلَاغًا، وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ بَلِّغْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. وَقُرِئَ بَلَّغَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ فَهَلْ يُهْلَكُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَهْلِكُ بِعَذَابِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الطَّاعَةِ الْوَاقِعُونَ فِي مَعَاصِي اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ مُشْرِكٌ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ أَقْوَى آيَةٍ فِي الرَّجَاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ لَا يَهْلِكُ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ منيع، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ كلا هما فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: هَبَطُوا: يَعْنِي الْجِنَّ عَلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ قَالُوا: أَنْصِتُوا، قَالُوا: صَهٍ، وَكَانُوا تِسْعَةً أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ إِلَى قَوْلِهِ: ضَلالٍ مُبِينٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ الزُّبَيْرِ: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ قَالَ: بِنَخْلَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي: الْآيَةَ، قَالَ: كَانُوا تِسْعَةَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ، فَجَعَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عنه نحوه قال: أتوه ببطن نخلة. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيضا قال:

_ (1) . الأنعام: 90. [.....]

صُرِفَتِ الْجِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ، وَكَانُوا أَشْرَافَ الْجِنِّ بِنَصِيبِينَ. وَأَخْرَجَ البخاري ومسلم وغير هما عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ مَنْ آذن النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟ قَالَ: آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ صَحِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم منكم أحد لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: مَا صَحِبَهُ مِنَّا أَحَدٌ، وَلَكِنَّا فَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُلْنَا: اغْتِيلَ، اسْتُطِيرَ «1» مَا فَعَلَ؟ قَالَ: فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ إِذَا نَحْنُ بِهِ يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ، فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: «إِنَّهُ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَأَتَيْتُهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ» فَانْطَلَقَ فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِالْحَمْلِ عَلَى قصتين وقعت منه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَعَ الْجِنِّ حَضَرَ إِحْدَاهُمَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَلَمْ يَحْضُرْ فِي الْأُخْرَى. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ أَنَّ الْجِنَّ بَعْدَ هَذَا وَفَدَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَأَخَذُوا عَنْهُ الشَّرَائِعَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ حَتَّى مَضَوْا عَلَى ذَلِكَ: نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَمُوسَى وَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ كَانُوا ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ظَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ صَائِمًا ثُمَّ طَوَى، ثُمَّ ظَلَّ صَائِمًا ثُمَّ طَوَى، ثُمَّ ظَلَّ صَائِمًا قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ الدَّيْنَ لَا يَنْبَغِي لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ، يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى مَكْرُوهِهَا وَالصَّبْرِ عَنْ مَحْبُوبِهَا، ثُمَّ لَمْ يَرْضَ مِنِّي إِلَّا أَنْ يُكَلِّفَنِي مَا كلّفهم، فقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَصْبِرَنَّ كَمَا صبروا جهدي، ولا قوّة إلا بالله» .

_ (1) . «استطير» : طارت به الجن.

سورة محمد

سورة محمّد وَتُسَمَّى سُورَةَ الْقِتَالِ، وَسُورَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَهِيَ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً، وَقِيلَ: ثَمَانٌ وَثَلَاثُونَ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ فَإِنَّهُمَا قَالَا: إِلَّا آيَةً مِنْهَا نَزَلَتْ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ وَهُوَ يَبْكِي حُزْنًا عَلَيْهِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَحَكَاهُ ابْنُ هِبَةِ اللَّهِ عَنِ الضَّحَّاكِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنَ الْقَوْلِ، فَالسُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْقِتَالِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «الدَّلَائِلِ» عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ مُحَمَّدٍ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ سُورَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِهِمْ فِي الْمَغْرِبِ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَصَدُّوا أَنْفُسَهُمْ وَغَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، بِنَهْيِهِمْ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ، كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ. مَعْنَى «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» : عَنْ بَيْتِ اللَّهِ بِمَنْعِ قَاصِدِيهِ. وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَالْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أَيْ: أَبْطَلَهَا وَجَعَلَهَا ضَائِعَةً. قَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى «أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» : أَبْطَلَ كَيْدَهُمْ وَمَكْرَهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ الدَّائِرَةَ عَلَيْهِمْ فِي كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: أَبْطَلَ مَا عَمِلُوهُ فِي الْكُفْرِ مِمَّا كَانُوا يسمّونه مكارم

أَخْلَاقٍ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَفَكِّ الْأُسَارَى، وَقِرَى الْأَضْيَافِ، وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً مِنْ أَصْلِهَا، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بِبُطْلَانِهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ فَرِيقَ الْكَافِرِينَ أَتْبَعَهُمْ بِذِكْرِ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ ظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومُ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ خُصُوصُ سَبَبِهَا فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ، وَقِيلَ: فِي نَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَكِنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَخَصَّ سُبْحَانَهُ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ مَعَ انْدِرَاجِهِ تَحْتَ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهِ وَعُلُوِّ مَكَانِهِ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَبَيْنَ خَبَرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ الْحَقَّ أَنَّهُ النَّاسِخُ لِمَا قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَى «كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» ، أَيِ: السَّيِّئَاتِ الَّتِي عَمِلُوهَا فِيمَا مَضَى، فَإِنَّهُ غَفَرَهَا لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أَيْ: شَأْنَهُمْ وَحَالَهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: شَأْنَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: حَالَهُمْ، وَقِيلَ: أَمْرَهُمْ، والمعاني متقاربة. قال المبرّد: البال: الحال ها هنا. قِيلَ: وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَصَمَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي فِي حَيَاتِهِمْ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِصْلَاحَ حَالِ دُنْيَاهُمْ مِنْ إِعْطَائِهِمُ الْمَالَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: إِنَّ الْمَعْنَى أَصْلَحَ نِيَّاتِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَإِنْ تُقْبِلِي بِالْوُدِّ أُقْبِلْ بِمِثْلِهِ ... وَإِنْ تُدْبِرِي أَذْهَبْ إِلَى حَالِ بَالِيَا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا مَرَّ مِمَّا أَوْعَدَ بِهِ الْكُفَّارَ وَوَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَقِيلَ: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: الْأَمْرُ ذَلِكَ بسبب أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ فَالْبَاطِلُ: الشِّرْكُ، وَالْحَقُّ: التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْإِضْلَالَ لِأَعْمَالِ الْكَافِرِينَ بِسَبَبِ اتِّبَاعِهُمُ الْبَاطِلَ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَالْعَمَلِ بِمَعَاصِيهِ، وَذَلِكَ التَّكْفِيرُ لِسَيِّئَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِصْلَاحُ بِالِهِمْ بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِمْ لِلْحَقِّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَعَمَلِ الطَّاعَاتِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الضَّرْبِ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ، أَيْ: أَحْوَالَ الْفَرِيقَيْنِ الْجَارِيَةَ مَجْرَى الْأَمْثَالِ فِي الْغَرَابَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «كَذَلِكَ يَضْرِبُ» يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِضْلَالِ أَعْمَالِ الْكَافِرِينَ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا أَضَلَّ اللَّهُ عَمَلَهُ، وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَفَّرَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ. فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ أَمَرَ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ عَهْدٍ من أهل الكتاب، وانتصاب «ضَرْبَ» عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا، وَخَصَّ الرِّقَابَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْقَتْلَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِقَطْعِهَا، وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ كَقَوْلِهِمْ: يَا نَفْسُ صَبْرًا، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: اقْصِدُوا ضَرْبَ الرِّقَابِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا خَصَّ ضَرْبَ الرِّقَابِ لِأَنَّ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ مَا لَيْسَ فِي نَفْسِ الْقَتْلِ، وَهِيَ حَزُّ الْعُنُقِ وَإِطَارَةُ الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْبَدَنِ وَعُلُّوُّهُ وَأَحْسَنُ أَعْضَائِهِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أَيْ: بَالَغْتُمْ فِي قَتْلِهِمْ وَأَكْثَرْتُمُ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَهَذِهِ غَايَةٌ لِلْأَمْرِ بِضَرْبِ الرِّقَابِ، لَا لِبَيَانِ غَايَةِ الْقَتْلِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّيْءِ الثخين، أي:

الْغَلِيظِ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فَشُدُّوا الْوَثاقَ الْوَثَاقَ بِالْفَتْحِ وَيَجِيءُ بِالْكَسْرِ: اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ كَالرِّبَاطِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَأَوْثَقَهُ فِي الْوَثَاقِ، أَيْ: شَدَّهُ، قَالَ: وَالْوِثَاقُ بِكَسْرِ الْوَاوِ لُغَةٌ فِيهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ فَشُدُّوا بِضَمِّ الشِّينِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِكَسْرِهَا، وَإِنَّمَا أمر سبحانه بشدّ الوثاق لئلا ينفلتو، وَالْمَعْنَى: إِذَا بَالَغْتُمْ فِي قَتْلِهِمْ فَأْسِرُوهُمْ وَأَحِيطُوهُمْ بِالْوَثَاقِ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أَيْ: فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْأَسْرِ مَنًّا، أَوْ تَفْدُوا فِدَاءً، وَالْمَنُّ: الْإِطْلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْفِدَاءُ: مَا يَفْدِي بِهِ الْأَسِيرُ نَفْسَهُ مِنَ الْأَسْرِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَتْلَ هُنَا اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِداءً بِالْمَدِّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِدًى بِالْقَصْرِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمَنَّ عَلَى الْفِدَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْتَخِرُ بِهِ، كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ: وَلَا نَقْتُلُ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ ... إِذَا أَثْقَلَ الْأَعْنَاقَ حَمْلُ الْمَغَارِمِ ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْغَايَةَ لِذَلِكَ قال: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أَوْزَارُ الْحَرْبِ: الَّتِي لَا تَقُومُ إِلَّا بِهَا مِنَ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، أَسْنَدَ الْوَضْعَ إِلَيْهَا وَهُوَ لِأَهْلِهَا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ تِلْكَ الْأُمُورِ إِلَى غَايَةٍ هِيَ أَنْ لَا يَكُونَ حَرْبٌ مَعَ الْكُفَّارِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى حَتَّى لَا يَكُونَ دِينٌ غَيْرُ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: حَتَّى يُسْلِمَ الْخَلْقُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيَذْهَبَ الْكُفْرُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: حَتَّى يَضَعَ الْأَعْدَاءُ الْمُحَارِبُونَ أَوْزَارَهُمْ، وَهُوَ سِلَاحُهُمْ بِالْهَزِيمَةِ أَوِ الْمُوَادَعَةِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمَا قَالَا: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَإِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَادَوْا وَلَا يُمَنَّ عَلَيْهِمْ، وَالنَّاسِخُ لَهَا قَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ «2» وقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «3» وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: قَالُوا: وَالْمَائِدَةُ آخِرُ مَا نَزَلَ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ كُلُّ مُشْرِكٍ إِلَّا مَنْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَرْكِهِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَبَعْدَ الْأَسْرِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ لأن النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَكُونُ فِدَاءٌ وَلَا أَسْرٌ إِلَّا بَعْدَ الْإِثْخَانِ وَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ لِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ «4» فَإِذَا أَسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا رَآهُ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ مَحَلُّ «ذَلِكَ» الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ

_ (1) . التوبة: 5. (2) . الأنفال: 57. (3) . التوبة: 36. (4) . الأنفال: 67.

مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْأَمْرُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ، أَيِ: افْعَلُوا ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ: ذَلِكَ حُكْمُ الكفار، ومعنى «لو يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» أَيْ: قَادِرٌ عَلَى الِانْتِصَارِ مِنْهُمْ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَإِهْلَاكِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَلكِنْ أَمَرَكُمْ بِحَرْبِهِمْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أَيْ: لِيَخْتَبِرَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ فَيَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ وَالصَّابِرِينَ عَلَى ابْتِلَائِهِ وَيُجْزِلَ ثَوَابَهُمْ وَيُعَذِّبَ الْكُفَّارَ بِأَيْدِيهِمْ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «قَاتَلُوا» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ قُتِلُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْضًا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرَيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو حَيْوَةَ «قَتَلُوا» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ مَعَ التَّخْفِيفِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى. وَالرَّابِعَةِ: أَنَّ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثَوَابُهُمْ غَيْرُ ضَائِعٍ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ: أَنَّ الْمَقْتُولِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَذَلِكَ لَا يُضِيعُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَجْرَهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ فَقَالَ: سَيَهْدِيهِمْ أَيْ: سَيَهْدِيهِمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى الرُّشْدِ فِي الدُّنْيَا، وَيُعْطِيهِمُ الثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ أَيْ: حَالَهُمْ وَشَأْنَهُمْ وَأَمْرَهُمْ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قَدْ تَرِدُ الْهِدَايَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا إِرْشَادُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَسَالِكِ الْجِنَانِ وَالطَّرِيقِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهَا، وَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: يَهْدِيهِمْ إِلَى مُحَاجَّةِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ أَيْ: بَيَّنَهَا لَهُمْ حَتَّى عَرَفُوهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ تَفَرَّقُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَصَفَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ فِي الدُّنْيَا، فَلَمَّا دَخَلُوهَا عَرَفُوهَا بِصِفَتِهَا. وَقِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ، أَيْ: عَرَفُوا طُرُقَهَا وَمَسَاكِنَهَا وَبُيُوتَهَا. وَقِيلَ: هَذَا التَّعْرِيفُ بِدَلِيلٍ يَدُلُّهُمْ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالْعَبْدِ يَسِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يُدْخِلَهُ مَنْزِلَهُ، كَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى «عَرَّفَهَا لَهُمْ» : طَيَّبَهَا بِأَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَرْفِ، وَهُوَ الرَّائِحَةُ. ثُمَّ وَعَدَهُمْ سُبْحَانَهُ عَلَى نَصْرِ دِينِهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ أَيْ: إِنْ تَنْصُرُوا دِينَ اللَّهِ يَنْصُرْكُمْ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَفْتَحْ لَكُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ «1» قَالَ قُطْرُبٌ: إِنْ تَنْصُرُوا نَبِيَّ اللَّهِ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ أَيْ: عِنْدَ الْقِتَالِ. وَتَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ عِبَارَةٌ عَنِ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ فِي مُوَاطِنِ الْحَرْبِ، وَقِيلَ: عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: عَلَى الصِّرَاطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَتَعِسُوا بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ تَشْبِيهًا لِلْمُبْتَدَأِ بِالشَّرْطِ، وَانْتِصَابُ تَعْسًا عَلَى الْمَصْدَرِ لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ خَبَرًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: مثل سقيا لهم ورعيا، وَأَصْلُ التَّعْسِ الِانْحِطَاطُ وَالْعِثَارُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: التَّعْسُ: أَنْ يُجَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَالنَّكْسُ: أَنْ يُجَرَّ عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: وَالتَّعْسُ أَيْضًا الْهَلَاكُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَأَصْلُهُ الْكَبُّ وَهُوَ ضِدُّ الِانْتِعَاشِ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُجَمِّعِ بْنِ هِلَالٍ: تَقُولُ وَقَدْ أفردتها من خليلها ... تَعِسْتَ كَمَا أَتْعَسْتَنِي يَا مُجَمِّعُ قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ: فَمَكْرُوهًا لَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بُعْدًا لَهُمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: خِزْيًا لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زيد:

_ (1) . الحج: 40.

شَقَاءً لَهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: شَتْمًا لَهُمْ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هَلَاكًا لَهُمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَيْبَةً لَهُمْ. وقيل: قبحا لَهُمْ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: رَغْمًا لَهُمْ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ أَيْضًا: شَرًّا لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: شِقْوَةً لَهُمْ. وَاللَّامُ فِي «لَهُمْ» لِلْبَيَانِ كما في قوله: هَيْتَ لَكَ «1» . وَقَوْلُهُ: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، دَاخِلٌ مَعَهُ فِي خَبَرِيَّةِ الْمَوْصُولِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنَ التَّعْسِ وَالْإِضْلَالِ، أَيِ: الْأَمْرُ ذَلِكَ، أَوْ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ مَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ مِنْ كُتُبِهِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ مَا كَانُوا عَمِلُوا مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ فِي الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً مِنَ الْأَصْلِ لِأَنَّ عَمَلَ الْكَافِرِ لَا يُقْبَلُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. ثُمَّ خَوَّفَ سُبْحَانَهُ الْكُفَّارَ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِحَالِ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَقَالَ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أَيْ: أَلَمْ يَسِيرُوا فِي أَرْضِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ لِيَعْتَبِرُوا فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: آخِرُ أَمْرِ «2» الْكَافِرِينَ قَبْلَهُمْ، فَإِنَّ آثَارَ الْعَذَابِ فِي دِيَارِهِمْ بَاقِيَةٌ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا صَنَعَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ فَقَالَ: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مقدّر، والتدمير: الإهلاك، أَيْ: أَهْلَكَهُمْ وَاسْتَأْصَلَهُمْ، يُقَالُ: دَمَّرَهُ وَدَمَّرَ عَلَيْهِ بِمَعْنًى. ثُمَّ تَوَعَّدَ مُشْرِكِي مَكَّةَ فَقَالَ: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها أي: لهؤلاء أَمْثَالُ عَاقِبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ جَرِيرٍ: الضَّمِيرُ فِي «أَمْثالُها» يَرْجِعُ إِلَى «عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» ، وَإِنَّمَا جُمِعَ لِأَنَّ الْعَوَاقِبَ مُتَعَدِّدَةٌ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْأُمَمِ الْمُعَذَّبَةِ، وَقِيلَ: أَمْثَالُ الْعُقُوبَةِ، وَقِيلَ: الْهَلْكَةُ، وَقِيلَ: التدمير، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِرُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ قَبْلَهُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ أَنَّ لِلْكَافِرِينَ أَمْثَالَهَا بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُمْ وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ أَيْ: لَا نَاصِرَ يَدْفَعُ عَنْهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَتَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ جَرْيِ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِ الْجَنَّاتِ، وَالْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ وِلَايَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ أَيْ: يَتَمَتَّعُونَ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ كَأَنَّهُمْ أَنْعَامٌ لَيْسَ لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا بُطُونُهُمْ وَفُرُوجُهُمْ، سَاهُونَ عَنِ الْعَاقِبَةِ، لَاهُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أَيْ: مُقَامٌ يُقِيمُونَ بِهِ، وَمَنْزِلٌ يَنْزِلُونَهُ وَيَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ قُرَيْشٌ نَزَلَتْ فِيهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْأَنْصَارُ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ قَالَ: أَمْرَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ قَالَ: كانت لهم أعمال فاضلة، ولا يقبل الله مع الكفر

_ (1) . يوسف: 23. (2) . من تفسير القرطبي (16/ 235) .

[سورة محمد (47) : الآيات 13 إلى 19]

عَمَلًا. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً قَالَ: فَجَعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْخِيَارِ فِي الْأُسَارَى، إِنْ شاؤوا قتلوهم، وإن شاؤوا استعبدوهم، وإن شاؤوا فَادَوْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا مَنْسُوخٌ، نَسَخَتْهَا: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أُتِيَ الْحَجَّاجُ بِأُسَارَى، فَدَفَعَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ رَجُلًا يَقْتُلُهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ بِهَذَا أُمِرْنَا، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ لَيْثٍ قَالَ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْأُسَارَى لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً فَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَعْبَأْ بِهَذَا شَيْئًا، أَدْرَكْتُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّهُمْ يُنْكِرُ هَذَا، وَيَقُولُ: هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ، إِنَّمَا كَانَتْ فِي الْهُدْنَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا، يَقُولُ الله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» وَيَقُولُ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ فَإِنْ كَانَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَمْ يُقْبَلْ شَيْءٌ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَالْقَتْلُ، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ فَإِنَّهُمْ إِذَا أُسِرُوا فالمسلمون فيهم بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استحيوهم، وإن شاؤوا فَادَوْهُمْ إِذَا لَمْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ دِينِهِمْ، فَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ لَمْ يُفَادَوْا. وَنَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الصَّغِيرِ وَالْمَرْأَةِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُوشِكُ مَنْ عَاشَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِمَامًا مَهْدِيًّا وَحَكَمًا عادلا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَتُوضَعُ الْجِزْيَةُ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نفيل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثٍ قَالَ: «لَا تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا حَتَّى يَخْرُجَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها قَالَ: لِكُفَّارِ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ [مِثْلُ] «3» مَا دُمِّرَتْ به القرى فأهلكوا بالسيف. [سورة محمد (47) : الآيات 13 الى 19] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)

_ (1) . التوبة: 5. (2) . التوبة: 5. (3) . من الدر المنثور (7/ 463) .

خَوَّفَ سُبْحَانَهُ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُ قَدْ أَهْلَكَ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ، فَقَالَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ «كَأَيِّنْ» مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْكَافِ وَأَيٍّ، وَأَنَّهَا بِمَعْنَى كَمِ الْخَبَرِيَّةِ أَيْ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ، وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ قَوْلَ الْوَلِيدِ «1» : وكأين رَأَيْنَا مِنْ مُلُوكٍ وَسُوقَةٍ ... وَمِفْتَاحِ قَيْدٍ لِلْأَسِيرِ الْمُكَبَّلِ وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ هُمْ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجُوكَ مِنْهَا أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ فَبِالْأَوْلَى مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُمْ وَهُمْ قُرَيْشٌ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ قَرْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مَكَّةُ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كما في قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ حِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَحَالِ الْكَافِرِ فَقَالَ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ على مقدّر كنظائره، ومن مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَأَفْرَدَ فِي هَذَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِ مَنْ، وَجَمَعَ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي مَنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّهِ وَلَا يَكُونُ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، وَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَالْعَمَلُ بِمَعَاصِي اللَّهِ، وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فِي عِبَادَتِهَا، وانهمكوا في أنواع الضلالات، بل شُبْهَةٍ تُوجِبُ الشَّكَّ فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ نَيِّرَةٍ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الِاهْتِدَاءِ وَالضَّلَالِ بَيْنَ الْفَرْقِ فِي مَرْجِعِهِمَا وَمَآلِهِمَا، فَقَالَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِشَرْحِ مَحَاسِنِ الْجَنَّةِ وَبَيَانِ مَا فِيهَا، وَمَعْنَى «مَثَلُ الْجَنَّةِ» وَصْفُهَا الْعَجِيبُ الشَّأْنِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: تَقْدِيرُهُ مَا يَسْمَعُونَ، وَقَدَّرَهُ سِيبَوَيْهِ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ، قَالَ: وَالْمَثَلُ هُوَ الْوَصْفُ، وَمَعْنَاهُ وَصْفُ الْجَنَّةِ، وَجُمْلَةُ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ إِلَخْ، مُفَسِّرَةٌ لِلْمَثَلِ. وَقِيلَ: إِنَّ «مَثَلُ» زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ مَثَلُ الْجَنَّةِ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ فِيهَا أَنْهَارٌ، وَقِيلَ: خَبَرُهُ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ، وَالْآسِنُ: الْمُتَغَيِّرُ، يُقَالُ: أَسِنَ الْمَاءُ يَأْسَنُ أُسُونًا إِذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ، وَمِثْلُهُ الْآجِنُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: قَدْ أَتْرُكُ الْقَرْنَ مصفرّا أنامله ... يميد في الرّمح ميد الماتح الْأَسِنِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: آسِنٍ بِالْمَدِّ. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْقَصْرِ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَحَاذِرٍ وَحَذِرٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ الْمَمْدُودَ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ، وَالْمَقْصُورَ يُرَادُ بِهِ الْحَالُ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ أَيْ: لَمْ يَحْمَضْ كَمَا تُغَيَّرُ أَلْبَانُ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ ضُرُوعِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أَيْ: لَذِيذَةٍ لَهُمْ، طَيِّبَةِ الشُّرْبِ، لَا يَتَكَرَّهُهَا الشَّارِبُونَ، يُقَالُ: شَرَابٌ لَذٌّ وَلَذِيذٌ وَفِيهِ لَذَّةٌ بِمَعْنًى، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَذَّةٍ بِالْجَرِّ صِفَةً لِخَمْرٍ، وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ صِفَةً لِأَنْهَارٍ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى أي: مصفّى ممّا يخالطه

_ (1) . في تفسير القرطبي: لبيد.

مِنَ الشَّمْعِ وَالْقَذَى وَالْعَكَرِ وَالْكَدَرِ وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أَيْ: لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، أَيْ: مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أصنافها، ومِنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ لِذُنُوبِهِمْ، وَتَنْكِيرُ مَغْفِرَةٌ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: وَلَهُمْ مَغْفِرَةٌ عَظِيمَةٌ كَائِنَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ هُوَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ مَنْ هُوَ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ خَالِدًا فِيهَا كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ، أَوْ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ الْفَرَّاءُ فَقَالَ: أَرَادَ أَمَّنْ كَانَ في هذا النعيم كمن هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَأُعْطِيَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ؟ فَقَوْلُهُ: كَمَنْ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَيْسَ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي فِيهَا الثِّمَارُ وَالْأَنْهَارُ كَمَثَلِ النَّارِ الَّتِي فِيهَا الْحَمِيمُ وَالزَّقُّومُ، وَلَيْسَ مَثَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي النَّعِيمِ كَمَثَلِ أَهْلِ النَّارِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وقوله: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً عُطِفَ عَلَى الصِّلَةِ عَطَفَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً عَلَى اسْمِيَّةٍ، لَكِنَّهُ رَاعَى فِي الْأُولَى لَفْظَ مَنْ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَعْنَاهَا، وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ الشَّدِيدُ الْغَلَيَانِ، فَإِذَا شَرِبُوهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ لِفَرْطِ حَرَارَتِهِ. وَالْأَمْعَاءُ: جَمْعُ مِعًى، وَهِيَ مَا فِي الْبُطُونِ مِنَ الْحَوَايَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ أَيْ: مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. أَفْرَدَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ مَنْ، وَجَمَعَ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَحْضُرُونَ مَوَاقِفَ وَعْظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوَاطِنَ خُطَبِهِ الَّتِي يُمْلِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَهُمْ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، أَيْ: سَأَلُوا أَهْلَ الْعِلْمِ، فَقَالُوا لَهُمْ: مَاذَا قالَ آنِفاً أَيْ: مَاذَا قَالَ النَّبِيُّ السَّاعَةَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّا لَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ، وَآنِفًا يُرَادُ بِهِ السَّاعَةُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الْأَوْقَاتِ، وَمِنْهُ أَمْرٌ آنِفٌ، أَيْ: مُسْتَأْنَفٌ، وَرَوْضَةٌ أُنُفٌ، أَيْ: لَمْ يَرْعَهَا أَحَدٌ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: وَقْتًا مُؤْتَنَفًا، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَالَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنِ اسْتَأْنَفْتُ الشَّيْءَ إِذَا ابْتَدَأْتَهُ، وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَنْفِ الشَّيْءِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْهُ، مُسْتَعَارٌ مِنَ الْجَارِحَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ الْقِصَاعِ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَا تَوَجَّهَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي: فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ أَضْدَادِهِمْ فَقَالَ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً أَيْ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ، فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ زَادَهُمْ هُدًى بِالتَّوْفِيقِ، وَقِيلَ: زادهم النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: زَادَهُمُ الْقُرْآنَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: زَادَهُمْ إِعْرَاضُ الْمُنَافِقِينَ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ هُدًى. وَقِيلَ: زَادَهُمْ نُزُولُ النَّاسِخِ هُدًى، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ زادهم إيمانا وعلما

_ (1) . هو الحطيئة.

وَبَصِيرَةً فِي الدِّينِ وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ أَيْ: أَلْهَمَهُمْ إياها وأعانهم عليها. والتقوى في الرَّبِيعُ: هِيَ الْخَشْيَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ التَّوْفِيقُ لِلْعَمَلِ الَّذِي يَرْضَاهُ، وَقِيلَ: الْعَمَلُ بِالنَّاسِخِ وَتَرْكُ الْمَنْسُوخِ، وَقِيلَ: تَرْكُ الرُّخَصِ وَالْأَخْذُ بِالْعَزَائِمِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَيِ: الْقِيَامَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أَيْ: فَجْأَةً، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ شَدِيدٌ، وَقَوْلُهُ: أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً بَدَلٌ مِنَ السَّاعَةِ بَدَلُ اشتمال. وقرأ أبو جعفر الرؤاسي: «إِنْ تَأْتِهِمْ» بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أَيْ: أَمَارَاتُهَا وَعَلَامَاتُهَا، وَكَانُوا قَدْ قَرَءُوا فِي كتبهم أن النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، فَبِعْثَتُهُ مِنْ أَشْرَاطِهَا، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ. وَالْأَشْرَاطُ: جَمْعُ شَرْطٍ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَشْرَاطِهَا هُنَا: أَسْبَابُهَا الَّتِي هِيَ دُونَ مُعْظَمِهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ بِعَلَامَاتِ السَّاعَةِ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَالدُّخَانَ، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَثْرَةُ الْمَالِ وَالتِّجَارَةِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَقَطْعُ الْأَرْحَامِ وَقِلَّةُ الْكِرَامِ وَكَثْرَةُ اللِّئَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أبي الْأَسْوَدِ: فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَزْمَعْتَ بِالصَّرْمِ بَيْنَنَا ... فَقَدْ جَعَلَتْ أَشْرَاطُ أَوَّلِهِ تَبْدُو فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ذِكْرَاهُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فَأَنَّى لَهُمْ، أَيْ: أَنَّى لَهُمُ التَّذَكُّرُ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى «1» وَ «إِذَا جَاءَتْهُمُ» اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أَيْ: إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ مَدَارَ الْخَيْرِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالطَّاعَةُ، وَمَدَارُ الشَّرِّ هُوَ الشِّرْكُ وَالْعَمَلُ بِمَعَاصِي اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَالْمَعْنَى: اثْبُتْ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَمِرَّ عليه، لأنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَبْلَ هَذَا، وَقِيلَ: مَا عَلِمْتَهُ اسْتِدْلَالًا فَاعْلَمْهُ خَبَرًا يَقِينًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَاذْكُرْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَعَبَّرَ عَنِ الذِّكْرِ بِالْعِلْمِ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أَيِ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ أَنْ يَقَعَ مِنْكَ ذَنْبٌ، أَوِ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِيَعْصِمَكَ، أَوِ اسْتَغْفِرْهُ مِمَّا رُبَّمَا يَصْدُرُ مِنْكَ مِنْ تَرْكِ الْأَوْلَى. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لَهُ، وَالْمُرَادُ الْأُمَّةُ، وَيَأْبَى هَذَا قَوْلُهُ: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ اسْتِغْفَارُهُ لِذُنُوبِ أُمَّتِهِ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ عَمَّا فَرَطَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ وَمَثْواكُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ نَهَارًا وَمَثْوَاكُمْ فِي لَيْلِكُمْ نِيَامًا. وَقِيلَ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِلَى أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ وَمَثْوَاكُمْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: مَقَامَكُمْ فِيهَا. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مُتَقَلَّبَكُمْ مِنْ ظَهْرٍ إِلَى بَطْنٍ فِي الدُّنْيَا، وَمَثْوَاكُمْ فِي الْقُبُورِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْغَارِ الْتَفَتَ إِلَى مَكَّةَ وَقَالَ: أَنْتِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ لَمْ أَخْرُجْ، فَأَعْتَى الْأَعْدَاءِ مَنْ عَتَا عَلَى اللَّهِ فِي حَرَمِهِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ بِدُخُولِ الْجَاهِلِيَّةِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ قَالَ: غَيْرِ مُتَغَيِّرٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فِي الْجَنَّةِ بَحْرُ اللَّبَنِ وَبَحْرُ الْمَاءِ وبحر العسل وبحر

_ (1) . الفجر: 23. [.....]

الْخَمْرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الْأَنْهَارُ مِنْهَا» . وَأَخْرَجَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: نَهْرُ النِّيلِ نَهْرُ الْعَسَلِ فِي الْجَنَّةِ، وَنَهْرُ دِجْلَةَ نَهْرُ اللَّبَنِ فِي الْجَنَّةِ، وَنَهْرُ الْفُرَاتِ نَهْرُ الْخَمْرِ فِي الْجَنَّةِ، وَنَهْرُ سَيْحَانَ نَهْرُ الْمَاءِ فِي الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ يَسْأَلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَنَا مِنْهُمْ. وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ جَلِيلَةٌ لِأَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ صَبِيًّا غَيْرَ بَالِغٍ، فَإِنَّ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَاتَ وَهُوَ فِي سِنِّ الْبُلُوغِ، فَسُؤَالُ النَّاسِ لَهُ عَنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ فِي حَيَاةِ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَوَصْفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِلْمَسْئُولِينَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَهُوَ مِنْهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِ وَمَزِيدِ فِقْهِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، مَعَ كَوْنِ أَتْرَابِهِ وَأَهْلِ سِنِّهِ إِذْ ذَاكَ يَلْعَبُونَ مَعَ الصِّبْيَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ قَالُوا لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ فَيَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآية، فكان ابن عباس من الذين أتوا الْعِلْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ آمَنُوا بِهِ، فَكَانَ هُدًى، فَلَمَّا تَبَيَّنَ النَّاسِخُ مِنَ الْمَنْسُوخِ زَادَهُمْ هُدًى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها قَالَ: أَوَّلُ السَّاعَاتِ. وقد ثبت في الصحيحين وغير هما مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ» وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِيهَا بَيَانُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَبَيَانُ مَا قَدْ وَقَعَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَكُنْ قَدْ وَقَعَ، وَهِيَ تَأْتِي فِي مُصَنَّفٍ مُسْتَقِلٍّ فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الِاسْتِغْفَارُ» ثُمَّ قَرَأَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلْتُ مَعَهُ مِنْ طَعَامٍ، فَقُلْتُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَلَكَ، فقيل: أستغفر لك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكُمْ، وَقَرَأَ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» . وَقَدْ وَرَدَ أَحَادِيثُ فِي اسْتِغْفَارِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ وَتَرْغِيبِهِ فِي الِاسْتِغْفَارِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ في الدنيا وَمَثْواكُمْ في الآخرة.

[سورة محمد (47) : الآيات 20 إلى 31]

[سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 31] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) سَأَلَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ ينزل على رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ سُورَةً يَأْمُرُهُمْ فِيهَا بِقِتَالِ الْكُفَّارِ حِرْصًا مِنْهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَنَيْلِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، فَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أَيْ: هَلَّا نُزِّلَتْ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ أَيْ: غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أَيْ: فُرِضَ الْجِهَادُ. قَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ سُورَةٍ ذُكِرَ فِيهَا الْجِهَادُ فَهِيَ مُحْكَمَةٌ، وَهِيَ أَشَدُّ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْدَثَةٌ» أَيْ: مُحْدَثَةُ النُّزُولِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَإِذا أُنْزِلَتْ وَذُكِرَ عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلَيْنِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عُمَيْرٍ «نَزَلَتْ» «وَذُكِرَ» عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلَيْنِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْقِتَالِ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَيْ: شَكٌّ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أَيْ: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ مَنْ شَخَصَ بَصَرُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ لِجُبْنِهِمْ عَنِ الْقِتَالِ وَمَيْلِهِمْ إِلَى الْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ: يُرِيدُ أَنَّهُمْ يَشْخَصُونَ نَحْوَكَ بِأَبْصَارِهِمْ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرًا شَدِيدًا، كَمَا يَنْظُرُ الشَّاخِصُ بَصَرُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَوْلُهُمْ: أَوْلَى لَكَ، تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَقَتَادَةُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي التَّهْدِيدِ: أَوْلَى لَكَ، أَيْ: وَلِيَكَ وَقَارَبَكَ مَا تَكْرَهُ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا ... وَأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ أَيْ: قَارَبَ أَنْ يَزِيدَ. قَالَ ثَعْلَبٌ: وَلَمْ يقل (أحد) «1» فِي أَوْلَى أَحْسَنَ مِمَّا قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. وَقَالَ المبرّد: يقال لمن همّ بالعطب ثم أفلت: أولى لك أي: قاربت العطب. وقال الجرجاني: هو مأخوذ من الويل

_ (1) . من تفسير القرطبي (16/ 244) .

أَيْ: فَوَيْلٌ لَهُمْ، وَكَذَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ. قَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: كَأَنَّهُ قَالَ: الْعِقَابُ أَوْلَى لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، أَيْ: أَمْرُهُمْ طَاعَةٌ، أَوْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ خَيْرٌ لَكُمْ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: إِنَّ التَّقْدِيرَ طاعة وقول معروف أحسن وأمثل لكم من غير هما. وَقِيلَ: إِنَّ طَاعَةٌ خَبَرُ أَوْلَى، وَقِيلَ: إِنَّ طاعة صفة لسورة، وقيل: إن لهم خبر مقدّم وطاعة مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ عَزَمَ الْأَمْرُ: جَدَّ الْأَمْرُ، أَيْ: جَدَّ الْقِتَالُ وَوَجَبَ وَفُرِضَ، وَأَسْنَدَ الْعَزْمَ إِلَى الْأَمْرِ وَهُوَ لِأَصْحَابِهِ مَجَازًا، وَجَوَابُ «إِذَا» قِيلَ: هُوَ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَرِهُوهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ إِذَا جَدَّ الْأَمْرُ وَلَزِمَ فَرْضُ الْقِتَالِ خَالَفُوا وَتَخَلَّفُوا فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ فِي إِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ هَذَا خِطَابٌ لِلَّذِينِ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بِطْرِيقِ الِالْتِفَاتِ لِمَزِيدِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَمْرَ الْأُمَّةِ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ. وَقَالَ كَعْبٌ: أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أَيْ: بِقَتْلِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ طَاعَةِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْقِتَالِ وَفَارَقْتُمْ أَحْكَامَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَوَلَّيْتُمْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: بِضَمِّ التَّاءِ وَالْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَوَرْشٌ عَنْ يَعْقُوبَ، وَمَعْنَاهَا: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ وُلِّيَ عَلَيْكُمْ وُلَاةٌ جَائِرِينَ أَنْ تَخْرُجُوا عَلَيْهِمْ فِي الْفِتْنَةِ وَتُحَارِبُوهُمْ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالْقَتْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتُقَطِّعُوا بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَسَلَّامٌ وَعِيسَى وَيَعْقُوبُ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْقَطْعِ، يُقَالُ: عَسَيْتُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا، وَعَسَيْتُ، بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ لُغَتَانِ، ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَخَبَرُ عَسَيْتُمْ هُوَ أَنْ تُفْسِدُوا، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَيْ: أَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَطَرَدَهُمْ عَنْهَا فَأَصَمَّهُمْ عَنِ اسْتِمَاعِ الْحَقِّ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ عَنْ مُشَاهَدَةِ مَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَحَقِيَةِ سَائِرِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ لِلْإِنْكَارِ وَالْمَعْنَى: أَفَلَا يَتَفَهَّمُونَهُ فَيَعْلَمُونَ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ الزَّاجِرَةِ، وَالْحُجَجِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ الَّتِي تَكْفِي مَنْ لَهُ فَهْمٌ وَعَقْلٌ، وَتَزْجُرُهُ عَنِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْإِشْرَاكِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمَعَاصِيهِ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، أَيْ: بَلْ أَعَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا فَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الطَّبْعَ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالْأَقْفَالُ اسْتِعَارَةٌ لِانْغِلَاقِ الْقَلْبِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَإِضَافَةُ الْأَقْفَالِ إِلَى الْقُلُوبِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا هُوَ لِلْقُلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَقْفَالِ لِلْأَبْوَابِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ طَبَعَ عَلَيْهَا، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْقُلُوبِ قُلُوبُ هَؤُلَاءِ الْمُخَاطَبِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَقْفالُها بِالْجَمْعِ، وَقُرِئَ: «إِقْفَالُهَا» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْإِقْبَالِ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أَيْ: رَجَعُوا كُفَّارًا كَمَا كَانُوا. قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ كُفَّارُ أَهْلِ الكتاب كفروا بالنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا عَرَفُوا نَعْتَهُ عِنْدَهُمْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ قَعَدُوا عَنِ الْقِتَالِ، وَهَذَا أَوْلَى

لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ أَيْ: زَيَّنَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ وَسَهَّلَ لَهُمُ الْوُقُوعَ فِيهَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَمَعْنَى وَأَمْلى لَهُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ مَدَّ لَهُمْ فِي الْأَمَلِ وَوَعَدَهُمْ طُولَ الْعُمْرِ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَمْلَى لَهُمْ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمْلى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. قِيلَ: وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ أَوِ الشَّيْطَانُ كَالْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَقَدِ اخْتَارَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْفَاعِلَ اللَّهُ الْفَرَّاءُ وَالْمُفَضَّلُ، وَالْأَوْلَى اخْتِيَارُ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ قَرِيبًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ارْتِدَادِهِمْ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ أي: بسبب أن هؤلاء المنافقين الذين ارتدّوا على أدبارهم قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَهَذَا الْبَعْضُ هُوَ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومخافة مَا جَاءَ بِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا لِلْيَهُودِ: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلِينَ الْيَهُودُ وَالَّذِينَ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إلى الإملاء، وقيل: إن الإشارة بقوله: ذلِكَ إلى الإسلام، وَقِيلَ: إِلَى التَّسْوِيلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ الْقَائِلِينَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَارِهِينَ الْيَهُودَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ «1» وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُمُ الْمَذْكُورُ لِلَّذِينِ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِطَرِيقَةِ السِّرِّ بَيْنَهُمْ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، جَمْعَ سِرٍّ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ. وقرأ الكوفيون وحمزة والكسائي وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: إِخْفَاءَهُمْ فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَ «كَيْفَ» فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالتَّقْدِيرُ، فَكَيْفَ عِلْمُهُ بِأَسْرَارِهِمْ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ، أَوْ خبر لكان مَقْدَّرَةٍ: أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُونَ، وَالظَّرْفُ مَعْمُولٌ لِلْمُقَدَّرِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَوَفَّتْهُمُ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «تَوَفَّاهُمْ» وَجُمْلَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تَوَفَّتْهُمْ أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ، أَيْ: ضَارِبِينَ وُجُوهَهُمْ وَضَارِبِينَ أَدْبَارَهُمْ، وَفِي الْكَلَامِ تَخْوِيفٌ وَتَشْدِيدٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ فَسَيَكُونُ حَالُهُمْ هَذَا، وَهُوَ تَصْوِيرٌ لِتَوَفِّيهِمْ عَلَى أَقْبَحِ حَالٍ وَأَشْنَعِهِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ عِنْدَ الْقِتَالِ نُصْرَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى التَّوَفِّي الْمَذْكُورِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ أَيْ: بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِمْ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَقِيلَ: كِتْمَانُهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ نَعْتِ نَبِيِّنَا صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا فِي الصِّيغَةِ مِنَ الْعُمُومِ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ أَيْ: كَرِهُوا مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ بهذا السبب، والمراد

_ (1) . الحشر: 11.

بِأَعْمَالِهِمُ الْأَعْمَالُ الَّتِي صُورَتُهَا صُورَةُ الطَّاعَةِ وَإِلَّا فَلَا عَمَلَ لِكَافِرٍ، أَوْ مَا كَانُوا قَدْ عَمِلُوا مِنَ الْخَيْرِ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ الْمَذْكُورِينَ سَابِقًا، وَ «أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، أَيْ: بَلْ أَحَسِبَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ الْإِخْرَاجُ بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ، وَالْأَضْغَانُ: جَمْعُ ضِغْنٍ، وَهُوَ مَا يُضْمَرُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فقيل: هو الغش، وقيل: الحسد، وقيل: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الضِّغْنُ وَالضَّغِينَةُ: الْحِقْدُ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: هو في الآية العداوة، وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مُقَدَّرٌ وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أَيْ: لَأَعْلَمْنَاكَهُمْ وَعَرَّفْنَاكَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ مَعْرِفَةً تَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: سَأُرِيكَ مَا أَصْنَعُ، أَيْ: سَأُعْلِمُكَ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ أَيْ: بِعَلَامَتِهِمُ الْخَاصَّةِ بِهِمُ الَّتِي يَتَمَيَّزُونَ بِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا عَلَى الْمُنَافِقِينَ عَلَامَةً، وَهِيَ السِّيمَا فَلَعَرَفْتَهُمْ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَمَا بَعْدَهَا مَعْطُوفٌ عَلَى جَوَابِ لَوْ، وَكُرِّرَتْ فِي الْمَعْطُوفِ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَمَّا اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ فَهِيَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَحْنُ الْقَوْلِ: فَحْوَاهُ وَمَقْصِدُهُ وَمَغْزَاهُ وَمَا يُعَرِّضُونَ بِهِ مِنْ تَهْجِينِ أَمْرِكَ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ بَعْدَ هَذَا لَا يَتَكَلَّمُ مُنَافِقٌ عِنْدَهُ إِلَّا عَرَفَهُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: لَحَنْتَ لَهُ اللَّحْنَ: إِذَا قُلْتَ لَهُ قَوْلًا يَفْقَهُهُ عَنْكَ وَيَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : مَنْطِقٌ صائب وتلحن أحيا ... نا وَخَيْرُ الْكَلَامِ مَا كَانَ لَحْنًا أَيْ: أَحْسَنُهُ مَا كَانَ تَعْرِيضًا يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُ وَلَا يَفْهَمُهُ غَيْرُهُ لِفِطْنَتِهِ وَذَكَائِهِ، وَأَصْلُ اللَّحْنِ إِمَالَةُ الْكَلَامِ إِلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ فَيُجَازِيكُمْ بِهَا، وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ أَيْ: لَنُعَامِلَنَّكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ، وَذَلِكَ بِأَنْ نَأْمُرَكُمْ بِالْجِهَادِ حَتَّى نَعْلَمَ مَنِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ وَصَبَرَ عَلَى دِينِهِ وَمَشَاقِّ مَا كُلِّفَ بِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ الْأَفْعَالَ الثَّلَاثَةَ بِالنُّونِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عاصم بالتحتية فيها كلها، ومعنى وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ نُظْهِرُهَا وَنَكْشِفُهَا امْتِحَانًا لَكُمْ لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ مَنْ أَطَاعَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ عصى، ومن لم يمتثل. وقرأ الجمهور وَنَبْلُوَا بِنَصْبِ الْوَاوِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: حَتَّى نَعْلَمَ وَرَوَى وَرْشٌ عَنْ يَعْقُوبَ إِسْكَانَهَا عَلَى الْقَطْعِ عمّا قبله. وقد أخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بِحِقْوِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضي أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَذَلِكَ لَكِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» وَالْأَحَادِيثُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ قَالَ: هُمْ أَهْلُ النِّفَاقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ في قوله:

_ (1) . هو الفزاريّ.

[سورة محمد (47) : الآيات 32 إلى 38]

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ قَالَ: أَعْمَالَهُمْ خُبْثَهُمْ وَالْحَسَدَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ دَلَّ اللَّهُ تعالى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَكَانَ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ قَالَ: بِبُغْضِهِمْ عليّ بن أبي طالب. [سورة محمد (47) : الآيات 32 الى 38] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُطْعِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَعْنَى صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: مَنْعُهُمْ لِلنَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم ومعنى شَاقُّوا الرَّسُولَ عَادَوْهُ وَخَالَفُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى أَيْ: عَلِمُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ نَبِيٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا شَاهَدُوا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَمَا ضَرُّوا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ أَيْ: يُبْطِلُهَا، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ مَا صُورَتُهُ صُورَةُ أَعْمَالِ الْخَيْرِ كَإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَسَائِرِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً مِنَ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَانِعٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ الْمَكَائِدُ الَّتِي نَصَبُوهَا لِإِبْطَالِ دِينِ اللَّهِ، وَالْغَوَائِلُ الَّتِي كَانُوا يَبْغُونَهَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فِيمَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يُبْطِلُوا أَعْمَالَهُمْ كَمَا أَبْطَلَتِ الْكُفَّارُ أَعْمَالَهَا بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، فَقَالَ: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ لَا تُبْطِلُوا حَسَنَاتِكُمْ بِالْمَعَاصِي. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: بِالْكَبَائِرِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِالْمَنِّ. وَالظَّاهِرُ النَّهْيُ عَنْ كُلِّ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوصِلُ إِلَى بُطْلَانِ الْأَعْمَالِ، كَائِنًا مَا كَانَ، مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِلْمُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فَقَيَّدَ سُبْحَانَهُ عَدَمَ الْمَغْفِرَةِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ وَطَرِيقَ الْمَغْفِرَةِ لَا يُغْلَقَانِ عَلَى مَنْ كَانَ حَيًّا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا. ثُمَّ نَهَى سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْوَهَنِ وَالضَّعْفِ فَقَالَ: فَلا تَهِنُوا أَيْ: تَضْعُفُوا عَنِ الْقِتَالِ، وَالْوَهَنُ: الضَّعْفُ وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أَيْ: وَلَا تَدْعُوا الْكُفَّارَ إِلَى الصُّلْحِ ابْتِدَاءً مِنْكُمْ،

فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الضَّعْفِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنَعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْعُوا الْكُفَّارَ إِلَى الصُّلْحِ وَأَمَرَهُمْ بِحَرْبِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَتَدْعُوا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، مِنِ ادَّعَى الْقَوْمُ وَتَدَاعَوْا. قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَكُونُوا أَوَّلَ الطَّائِفَتَيْنِ ضَرَعَتْ إِلَى صَاحِبَتِهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَإِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَقِيلَ: مَنْسُوخَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَا مُقْتَضَى لِلْقَوْلِ بِالنَّسْخِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَهَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ أَنْ يَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ابْتِدَاءً، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ قَبُولِ السَّلْمِ إِذَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، فَالْآيَتَانِ محكمتان، ولم يتوارد عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى دَعْوَى النَّسْخِ أَوِ التَّخْصِيصِ، وَجُمْلَةُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ النَّهْيِ، أَيْ: وَأَنْتُمُ الْغَالِبُونَ بِالسَّيْفِ وَالْحُجَّةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ آخِرُ الْأَمْرِ لَكُمْ وَإِنْ غَلَبُوكُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكَذَا جُمْلَةُ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ مَعَكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَعَكُمْ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ عَلَيْهِمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ أَيْ: لَنْ يَنْقُصَكُمْ شَيْئًا من ثواب أعمالكم، يقال: وتره يتره وَتْرًا إِذَا نَقَصَهُ حَقَّهُ. وَأَصْلُهُ مِنْ وَتَرْتُ الرَّجُلَ: إِذَا قَتَلْتُ لَهُ قَرِيبًا، أَوْ نَهَبْتُ له مالا، ويقال: فلان موتور: إِذَا قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ وَلَمْ يُؤْخَذْ بِدَمِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَيْ لَنْ يَنْقُصَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ، كَمَا تَقُولُ: دَخَلْتُ الْبَيْتَ وَأَنْتَ تُرِيدُ فِي الْبَيْتِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَتْرِ وهو الذّحل «1» ، وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَتْرِ وَهُوَ الْفَرْدُ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَنْ يُفْرِدَكُمْ بِغَيْرِ ثَوَابٍ إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أَيْ: بَاطِلٌ وَغُرُورٌ، لَا أَصْلَ لِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَا اعْتِدَادَ بِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي: إن تؤمنوا وَتَتَّقُوا الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ يُؤْتِكُمْ جَزَاءَ ذَلِكَ فِي الآخرة، والأجر: الثواب على الطاعة وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أَيْ: لَا يَأْمُرُكُمْ بِإِخْرَاجِهَا جَمِيعِهَا فِي الزَّكَاةِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ، بَلْ أَمَرَكُمْ بِإِخْرَاجِ الْقَلِيلِ مِنْهَا وَهُوَ الزَّكَاةُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَهُ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ لَهَا، وَهُوَ الْمُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِإِعْطَائِهَا. وَقِيلَ: لَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَكُمْ أَجْرًا عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كَمَا في قوله: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ والأوّل أولى إِنْ يَسْئَلْكُمُوها أَيْ: أَمْوَالَكُمْ كُلَّهَا فَيُحْفِكُمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُجْهِدُكُمْ وَيُلْحِفُ عَلَيْكُمْ بِمَسْأَلَةِ جَمِيعِهَا، يُقَالُ: أَحْفَى بِالْمَسْأَلَةِ وألحف وألحّ بمعنى واحد، والحفي: الْمُسْتَقْصِي فِي السُّؤَالِ، وَالْإِحْفَاءُ: الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْكَلَامِ، وَمِنْهُ إِحْفَاءُ الشَّارِبِ، أَيِ: اسْتِئْصَالُهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: تَبْخَلُوا أَيْ: إِنْ يَأْمُرْكُمْ بِإِخْرَاجِ جَمِيعِ أَمْوَالِكُمْ تَبْخَلُوا بِهَا وَتَمْتَنِعُوا مِنَ الِامْتِثَالِ وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَلِهَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُخْرِجْ بِالْجَزْمِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَرَفْعِ أَضْغَانُكُمْ، وَرُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ بِالنُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ بِالْفَوْقِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ مَعَ ضَمِّ الرَّاءِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ سبحانه، أو إلى البخل المدلول عليه بتبخلوا. والأضغان: الأحقاد،

_ (1) . «الذّحل» : الحقد والعداوة والثأر.

وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَظْهَرُ عِنْدَ ذَلِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي سُؤَالِ الْمَالِ خروج الأضغان هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي الْجِهَادِ وَفِي طَرِيقِ الْخَيْرِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ وَيُدْعَى إِلَيْهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ مِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْمَالِ، فَكَيْفَ لَا تَبْخَلُونَ بِالْكَثِيرِ وَهُوَ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ضَرَرَ الْبُخْلِ عَائِدٌ عَلَى النَّفْسِ، فَقَالَ: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أَيْ: يَمْنَعُهَا الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ بِبُخْلِهِ، وبخل يتعدى بعلى تارة وبعن أُخْرَى. وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِعَلَى، وَلَا يَتَعَدَّى بِعَنْ إِلَّا إِذَا ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِمْسَاكِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، الْمُتَنَزِّهُ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، وَجُمْلَةُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ «وَإِنْ تُؤْمِنُوا» ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تُعْرِضُوا عَنِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا آخَرِينَ يَكُونُونَ مَكَانَكُمْ هُمْ أَطْوَعُ لِلَّهِ مِنْكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فِي التَّوَلِّي عَنِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. قَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْعَجَمُ. وَقَالَ شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ: هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَقِيلَ: الْأَنْصَارُ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: التَّابِعُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْمَعْنَى ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ أي: فِي الْبُخْلِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ «الصَّلَاةِ» ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ذَنْبٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ، حَتَّى نَزَلَتْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فَخَافُوا أَنْ يبطل الذنب العمل، ولفظ عبد ابن حُمَيْدٍ: فَخَافُوا الْكَبَائِرَ أَنْ تُحْبِطَ أَعْمَالَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ نَصْرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ إِلَّا مَقْبُولٌ، حَتَّى نَزَلَتْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْنَا: مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ أَعْمَالَنَا؟ فَقُلْنَا: الْكَبَائِرُ الْمُوجِبَاتُ وَالْفَوَاحِشُ، فَكُنَّا إِذَا رَأَيْنَا مَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْهَا قُلْنَا قَدْ هَلَكَ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَلَمَّا نَزَلَتْ كَفَفْنَا عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، وَكُنَّا إِذَا رَأَيْنَا أَحَدًا أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا خِفْنَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهَا شَيْئًا رَجَوْنَاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَتِرَكُمْ قَالَ: يظلمكم. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم وابن مردويه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ قَالُوا: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ وَسَلْمَانُ إِلَى جَانِبِ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «هُمُ الْفُرْسُ، هَذَا وَقَوْمُهُ» . وَفِي إِسْنَادِهِ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا بِنَا ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا؟ فَضَرَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْكِبِ سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَقَوْمُهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لِتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ» وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ. وَأَخْرَجَ ابن مردويه من حديث جابر نحوه.

سورة الفتح

سورة الفتح وهي مَدَنِيَّةٌ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِالْإِجْمَاعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وأخرج ابن إسحاق، والحاكم وصحّحه، والبيهقي فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ قَالَا: نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا. وَهَذَا لَا يُنَافِي الْإِجْمَاعَ عَلَى كَوْنِهَا مَدَنِيَّةً لأنّ المراد بالسور الْمَدَنِيَّةِ النَّازِلَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ البخاري ومسلم وغير هما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فِي مَسِيرِهِ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَرَجَعَ فِيهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هَلَكَتْ أُمُّ عُمَرَ، نَزَرْتُ «1» رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ، فَقَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَمَا نَشِبْتُ «2» أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ، ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: فَوْزاً عَظِيماً مرجعه من الحديبية، وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعِهَا» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)

_ (1) . «نزرت» : أي ألححت عليه وبالغت في السؤال. (2) . «ما نشبت» : أي ما لبثت.

قَوْلُهُ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْفَتْحِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُ: هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالصُّلْحُ قَدْ يُسَمَّى فَتْحًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْفَتْحُ قَدْ يَكُونُ صُلْحًا، وَمَعْنَى الْفَتْحِ فِي اللُّغَةِ: فَتْحُ الْمُنْغَلِقِ، وَالصُّلْحُ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ كَانَ مَسْدُودًا مُتَعَذِّرًا حَتَّى فَتَحَهُ اللَّهُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ يَكُنْ فَتْحٌ أَعْظَمَ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اخْتَلَطُوا بِالْمُسْلِمِينَ، فَسَمِعُوا كَلَامَهُمْ، فَتَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَسْلَمَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَثُرَ بِهِمْ سَوَادُ الْإِسْلَامِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَقَدْ أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مَا لَمْ يُصِبْ فِي غَزْوَةٍ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَبُويِعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَأُطْعِمُوا نَخْلَ خَيْبَرَ، وَبَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمَجُوسِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ فَتْحُ خَيْبَرَ. وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا مِنْ أَنَّ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ فِي شَأْنِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقِيلَ: هُوَ جَمِيعُ مَا فَتَحَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مِنَ الْفُتُوحِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا فَتَحَ لَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: فَتْحُ الرُّومِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا قَضَيْنَا لَكَ قَضَاءً مُبِينًا، أَيْ: ظَاهِرًا وَاضِحًا مَكْشُوفًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ اللَّامُ متعلقة بفتحنا، وَهِيَ لَامُ الْعِلَّةِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ، يَعْنِي الْمُبَرِّدَ، عَنِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ فَقَالَ: هِيَ لَامُ كَيْ، مَعْنَاهَا: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِكَيْ يَجْتَمِعَ لَكَ مَعَ الْمَغْفِرَةِ تَمَامُ النِّعْمَةِ فِي الْفَتْحِ، فَلَمَّا انْضَمَّ إِلَى الْمَغْفِرَةِ شَيْءٌ حَادِثٌ وَاقِعٌ حَسُنَ مَعْنَى كَيْ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ لَيْسَ الْفَتْحُ سَبَبَ الْمَغْفِرَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّ اللَّامَ لَمْ تَكُنْ عِلَّةً لِلْمَغْفِرَةِ، وَلَكِنْ لِاجْتِمَاعِ مَا عُدِّدَ مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ: الْمَغْفِرَةُ، وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ، وَهِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالنَّصْرُ الْعَزِيزُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَسَّرْنَا لَكَ فَتْحَ مَكَّةَ وَنَصَرْنَاكَ عَلَى عَدُوِّكَ لِنَجْمَعَ لَكَ بَيْنَ عِزِّ الدَّارَيْنِ، وَأَعْرَاضِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ جَيِّدٍ، فَإِنَّ اللَّامَ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فَهِيَ عِلَّةٌ لِلْفَتْحِ. فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُعَلِّلَةً؟ وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَوْجِيهِ التَّعْلِيلِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ التَّعْرِيفُ بِالْمَغْفِرَةِ تقديره: إنا فتحنا لك لنعرف أَنَّكَ مَغْفُورٌ لَكَ مَعْصُومٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ فَتَحَ لَكَ لِكَيْ يَجْعَلَ الْفَتْحُ عَلَامَةً لِغُفْرَانِهِ لَكَ. فَكَأَنَّهَا لَامُ الصَّيْرُورَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ لَامُ الْقَسَمِ وَهُوَ خَطَأٌ، فَإِنَّ لَامَ الْقَسَمِ لَا تُكْسَرُ وَلَا يُنْصَبُ بِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فَقِيلَ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قَبْلَ الرِّسَالَةِ، وَمَا تَأَخَّرَ بَعْدَهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ: يَعْنِي ذَنْبَ أَبَوَيْكَ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذُنُوبِ أُمَّتِكَ. وَمَا أَبْعَدَ هَذَا عَنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ! وَقِيلَ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنب أبيك أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ، وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذُنُوبِ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَذَا كَالَّذِي قَبْلَهُ. وَقِيلَ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذَنْبِ يَوْمِ حُنَيْنٍ، وَهَذَا كَالْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي الْبُعْدِ. وَقِيلَ: لَوْ كَانَ ذَنْبٌ قَدِيمٌ أَوْ حَدِيثٌ لَغَفَرْنَاهُ لَكَ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالذَّنْبِ بَعْدَ الرِّسَالَةِ تَرْكَ مَا هُوَ الْأَوْلَى، وَسُمِّيَ ذَنْبًا فِي حَقِّهِ لِجَلَالَةِ قَدْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَنْبًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بِإِظْهَارِ دِينِكَ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَقِيلَ: بِالْجَنَّةِ، وَقِيلَ: بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَخَيْبَرَ، وَالْأَوْلَى أَنْ

يَكُونَ الْمَعْنَى لِيَجْتَمِعَ لَكَ مَعَ الْفَتْحِ تَمَامُ النِّعْمَةِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَمَعْنَى «يَهْدِيَكَ» : يُثَبِّتَكَ عَلَى الْهُدَى إِلَى أَنْ يَقْبِضَكَ إِلَيْهِ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أَيْ: غَالِبًا مَنِيعًا لَا يَتْبَعُهُ ذُلٌّ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أَيِ: السُّكُونَ وَالطُّمَأْنِينَةَ بِمَا يَسَّرَهُ لَهُمْ مِنَ الْفَتْحِ لِئَلَّا تَنْزَعِجَ نُفُوسُهُمْ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أَيْ: لِيَزْدَادُوا بِسَبَبِ تِلْكَ السَّكِينَةِ إِيمَانًا مُنْضَمًّا إِلَى إِيمَانِهِمُ الْحَاصِلِ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كُلَّمَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فَصَدَّقُوا بِهَا ازْدَادُوا تَصْدِيقًا إِلَى تَصْدِيقِهِمْ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: خَشْيَةً مَعَ خَشْيَتِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَقِينًا مَعَ يَقِينِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ يُدَبِّرُ أَمْرَهُمْ كَيْفَ يَشَاءُ، وَيُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَحُوطُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً كَثِيرَ الْعِلْمِ بَلِيغَهُ حَكِيماً فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ. لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ هَذِهِ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، تَقْدِيرُهُ: يَبْتَلِي بِتِلْكَ الْجُنُودِ مَنْ يَشَاءُ، فَيَقْبَلُ الْخَيْرَ مِنْ أَهْلِهِ وَالشَّرَّ مِمَّنْ قَضَى لَهُ بِهِ لِيُدْخِلَ وَيُعَذِّبَ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّا فَتَحْنا كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ مَا فَتَحْنَا لِيُدْخِلَ وَيُعَذِّبَ، وَقِيلَ: متعلقة بينصرك: أَيْ نَصَرَكَ اللَّهُ بِالْمُؤْمِنِينَ لِيُدْخِلَ وَيُعَذِّبَ، وَقِيلَ: متعلقة بيزدادوا، أي: يزدادوا «ليدخل» و «يعذب» ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أَيْ: يَسْتُرَهَا وَلَا يُظْهِرَهَا وَلَا يُعَذِّبَهُمْ بِهَا، وَقَدَّمَ الْإِدْخَالَ عَلَى التَّكْفِيرِ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ لِلْمُسَارَعَةِ إِلَى بَيَانِ مَا هُوَ الْمَطْلَبُ الْأَعْلَى، وَالْمَقْصِدُ الْأَسْنَى وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً أي: وكان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم عند الله وفي حكمه فَوْزًا عَظِيمًا، أَيْ: ظَفَرًا بِكُلِّ مَطْلُوبٍ وَنَجَاةً مِنْ كُلِّ غَمٍّ، وَجَلْبًا لِكُلِّ نَفْعٍ، وَدَفْعًا لِكُلِّ ضُرٍّ، وَقَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ فَوْزًا لِأَنَّهُ صِفَةٌ فِي الْأَصْلِ، فَلَمَّا قُدِّمَ صَارَ حَالًا، أَيْ: كَائِنًا عِنْدَ اللَّهِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَزَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِمَّا وَعَدَ بِهِ صَالِحِي عِبَادِهِ ذَكَرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُمْ، فَقَالَ: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «يُدْخِلَ» ، أَيْ: يُعَذِّبَهُمْ في الدنيا بما يصل إليهم مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ بِسَبَبِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ ظُهُورِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَقَهْرِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ، وَبِمَا يُصَابُونَ بِهِ مِنَ الْقَهْرِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِعَذَابِ جَهَنَّمَ، وَفِي تَقْدِيمِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ عَذَابًا، وَأَحَقُّ مِنْهُمْ بِمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ. ثُمَّ وَصَفَ الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ وَهُوَ ظَنُّهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغْلَبُ وَأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ تَعْلُو كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ. وَمِمَّا ظَنُّوهُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أَيْ: مَا يَظُنُّونَهُ وَيَتَرَبَّصُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ دَائِرٌ عَلَيْهِمْ، حَائِقٌ بِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَذَابَ وَالْهَلَاكَ الَّذِي يَتَوَقَّعُونَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَاقِعَانِ عَلَيْهِمْ نازلان بهم. وقال الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: السَّوْءُ هُنَا الْفَسَادُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ السَّوْءِ بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ دَائِرَةَ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا بَيَّنَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ وَعَذَابِ جَهَنَّمَ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الملائكة والإنس والجنّ والشياطين

وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً كَرَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْجُنُودِ هُنَا جُنُودُ الْعَذَابِ كَمَا يُفِيدُهُ التعبير بالعزة هنا مكان العلم هنا لك. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ مُجَمِّعِ بن جارية الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: شَهِدْنَا الْحُدَيْبِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا حتى بلغنا كراع الغميم «1» ، إذ الناس يهزّون الْأَبَاعِرَ، فَقَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَقَالُوا: أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجْنَا مَعَ النَّاسِ نُوجِفُ «2» ، فَإِذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، فَقَالَ رَجُلٌ: إِي رَسُولَ اللَّهِ أو فتح هُوَ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَفَتْحٌ. فَقُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَقَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبينا نحن نسير إذا أَتَاهُ الْوَحْيُ، وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَسُرِّيَ عَنْهُ وَبِهِ مِنَ السُّرُورِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قَالَ: الْحُدَيْبِيَةُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قَالَ: «فتح مكة» . وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: السَّكِينَةُ هِيَ الرَّحْمَةُ، وَفِي قَوْلِهِ: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمَّا صَدَّقَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ زَادَهُمُ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا صَدَّقُوا بِهَا زَادَهُمُ الصِّيَامَ، فَلَمَّا صَدَّقُوا بِهِ زَادَهُمُ الزَّكَاةَ، فَلَمَّا صَدَّقُوا بِهَا زَادَهُمُ الْحَجَّ، فَلَمَّا صَدَّقُوا بِهِ زَادَهُمُ الْجِهَادَ. ثُمَّ أَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «3» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَوْثَقُ إِيمَانِ أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ وَأَصْدَقُهُ وَأَكْمَلُهُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ قَالَ: تصديقا مع تصديقهم. وأخرج البخاري ومسلم

_ (1) . «كراع الغميم» : موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة. (2) . «نوجف» : نسرع السير. (3) . المائدة: 3.

[سورة الفتح (48) : الآيات 8 إلى 15]

وغير هما عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ. قَالَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا: هَنِيئًا مَرِيئًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ مَاذَا يَفْعَلُ بِكَ فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا. فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ حَتَّى بَلَغَ فَوْزاً عَظِيماً» . [سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 15] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قَوْلُهُ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أَيْ: عَلَى أُمَّتِكَ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ لِلْمُطِيعِينَ وَنَذِيراً لِأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِتُؤْمِنُوا بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّحْتِيَّةِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ الْمُرَادُ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَانْتِصَابُ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ الْخِلَافُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَفْعَالِ كَالْخِلَافِ فِي لِتُؤْمِنُوا كما سلف، ومعنى تعزّروه: تعظّموه وتفخّموه قال الحسن والكلبي، والعزيز: التَّعْظِيمُ وَالتَّوْقِيرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَنْصُرُوهُ وَتَمْنَعُوا مِنْهُ. وقال عكرمة: تقاتلون مَعَهُ بِالسَّيْفِ، وَمَعْنَى تُوَقِّرُوهُ: تُعَظِّمُوهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: تسوّدوه، وقيل: وَالضَّمِيرَانِ فِي الْفِعْلَيْنِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُنَا وَقْفٌ تَامٌّ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ وَتُسَبِّحُوهُ، أَيْ: تُسَبِّحُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أَيْ: غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، وَقِيلَ: الضَّمَائِرُ كُلُّهَا فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَكُونُ مَعْنَى تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ: تُثْبِتُونَ لَهُ التَّوْحِيدَ وَتَنْفُونَ عَنْهُ الشُّرَكَاءَ، وَقِيلَ: تَنْصُرُوا دِينَهُ وَتُجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ. وفي التسبيح وجهان، أحد هما التَّنْزِيهُ لَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ كُلِّ قَبِيحٍ، وَالثَّانِي الصَّلَاةُ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يَعْنِي بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّهُمْ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى قِتَالِ قُرَيْشٍ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هذه البيعة لرسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ هِيَ بَيْعَةٌ لَهُ،

كَمَا قَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِالْجَنَّةِ، وَجُمْلَةُ: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيلِ، فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَقْدَ الْمِيثَاقِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعَقْدِهِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى: إِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْهِدَايَةِ فَوْقَ مَا صَنَعُوا مِنَ الْبَيْعَةِ. وَقِيلَ: يَدُهُ فِي الثَّوَابِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فِي الْوَفَاءِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: قُوَّةُ اللَّهِ وَنُصْرَتُهُ فَوْقَ قُوَّتِهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أَيْ: فَمَنْ نَقَضَ مَا عَقَدَ مِنَ الْبَيْعَةِ فَإِنَّمَا يَنْقُضُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ لَا يُجَاوِزُهُ إِلَى غَيْرِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ أَيْ: ثَبَتَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا عَاهَدَ عليه في البيعة لرسوله. قرأ الجمهور: فَسَيُؤْتِيهِ بالتحتية، وقرأ نافع وابن كَثِيرٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ الْفَرَّاءُ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ هُمُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمُ اللَّهُ عَنْ صُحْبَةِ رَسُولِهِ حِينَ خَرَجَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي أَعْرَابَ غِفَارٍ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ وَأَشْجَعَ وَالدُّئِلِ، وَهُمُ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَافَرَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدِ اسْتَنْفَرَهُمْ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ، وَالْمُخَلَّفُ: الْمَتْرُوكُ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا أَيْ: مَنَعَنَا عَنِ الْخُرُوجِ مَعَكَ مَا لَنَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، وَلَيْسَ لَنَا مَنْ يَقُومُ بِهِمْ وَيَخْلُفُنَا عَلَيْهِمْ فَاسْتَغْفِرْ لَنا لِيَغْفِرَ اللَّهُ لَنَا مَا وَقَعَ مِنَّا مِنَ التَّخَلُّفِ عَنْكَ بِهَذَا السَّبَبِ، وَلَمَّا كَانَ طَلَبُ الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُمْ لَيْسَ عَنِ اعْتِقَادٍ بَلْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَكَانَتْ بَوَاطِنُهُمْ مُخَالِفَةً لِظَوَاهِرِهِمْ فَضَحَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَهَذَا هُوَ صَنِيعُ الْمُنَافِقِينَ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ بَوَاطِنُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ، فَقَالَ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: فَمَنْ يَمْنَعُكُمْ مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ بِكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَيْ: إِنْزَالَ مَا يَضُرُّكُمْ مِنْ ضَيَاعِ الْأَمْوَالِ وَهَلَاكِ الْأَهْلِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: ضَرًّا بِفَتْحِ الضَّادِ، وَهُوَ مَصْدَرُ ضَرَرْتُهُ ضَرًّا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا، وَهُوَ اسْمُ مَا يَضُرُّ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أَيْ: نَصْرًا وَغَنِيمَةً، وَهَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ حِينَ ظَنُّوا أَنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدفع عنه الضَّرَّ، وَيَجْلِبُ لَهُمُ النَّفْعَ، ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أَيْ: إِنَّ تَخَلُّفَكُمْ لَيْسَ لِمَا زَعَمْتُمْ، بَلْ كَانَ اللَّهُ خَبِيرًا بِجَمِيعِ مَا تَعْمَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا تَخَلُّفُكُمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تَخَلُّفَكُمْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ، بَلْ لِلشَّكِّ وَالنِّفَاقِ وَمَا خَطَرَ لَكُمْ مِنَ الظُّنُونِ الْفَاسِدَةِ النَّاشِئَةِ عَنْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِبْهَامِ، أَيْ: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يَسْتَأْصِلُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَرَّةِ فَلَا يَرْجِعُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَى أَهْلِهِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ تخلفتم لا لما ذكرتم من

_ (1) . النساء: 80.

الْمَعَاذِيرِ الْبَاطِلَةِ وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ أَيْ: وَزَيَّنَ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ الظَّنَّ فِي قُلُوبِكُمْ فَقَبِلْتُمُوهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَزُيِّنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقُرِئَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وَهَذَا الظَّنُّ إِمَّا هُوَ الظَّنُّ الْأَوَّلُ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، فَيَدْخُلُ الظَّنُّ الْأَوَّلُ تَحْتَهُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً أَيْ: هَلْكَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَالِكِينَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْبُورُ: الرَّجُلُ الْفَاسِدُ الْهَالِكُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ قَوْماً بُوراً هَلْكَى، وَهُوَ جَمْعُ بَائِرٍ، مِثْلُ حَائِلٍ وَحُولٍ، وَقَدْ بَارَ فُلَانٌ، أَيْ: هَلَكَ، وَأَبَارَهُ اللَّهُ: أَهْلَكَهُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً هَذَا الْكَلَامُ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ، أَيْ: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمَا كَمَا صَنَعَ هَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفُونَ، فَجَزَاؤُهُمْ مَا أعدّه الله لهم مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّمَا تَعَبَّدَهُمْ بِمَا تَعَبَّدَهُمْ لِيُثِيبَ مَنْ أَحْسَنَ وَيُعَاقِبَ مَنْ أَسَاءَ، وَلِهَذَا قَالَ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» . وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ: كَثِيرَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ بَلِيغَهَا، يَخُصُّ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها الْمُخَلَّفُونَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ سَابِقًا، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ سَيَقُولُ وَالْمَعْنَى: سَيَقُولُونَ عِنْدَ انْطِلَاقِكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ إِلى مَغانِمَ يَعْنِي مَغَانِمَ خَيْبَرَ لِتَأْخُذُوها لِتَحُوزُوهَا ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ أَيِ: اتْرُكُونَا نَتَّبِعْكُمْ وَنَشْهَدْ مَعَكُمْ غَزْوَةَ خَيْبَرَ. وَأَصْلُ الْقِصَّةِ أَنَّهُ لما انصرف النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعَدَهُمُ اللَّهُ فَتْحَ خَيْبَرَ، وَخَصَّ بِغَنَائِمِهَا مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَلَمَّا انْطَلَقُوا إِلَيْهَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفُونَ: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ أَيْ: يُغَيِّرُوا كَلَامَ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي أَرَادُوا أَنْ يُبَدِّلُوهُ هُوَ مَوَاعِيدُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ خَاصَّةً بِغَنِيمَةِ خَيْبَرَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَمْرَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ أَنْ لَا يَسِيرَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا «2» واعترض على هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ غَزْوَةَ تَبُوكَ كَانَتْ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَبَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَلامَ اللَّهِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «كَلْمَ اللَّهِ» قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكَلَامُ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، والكلام لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ لِأَنَّهُ جَمْعُ كَلْمَةٍ، مِثْلُ نَبْقَةٍ وَنَبْقٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ فَقَالَ: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا هَذَا النَّفْيُ هُوَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَتَّبِعُونَا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ رُجُوعِنَا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ غَنِيمَةَ خَيْبَرَ لِمَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ خَاصَّةً لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ فِيهَا نَصِيبٌ فَسَيَقُولُونَ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «لَنْ تَتَّبِعُونا» بَلْ تَحْسُدُونَنا أَيْ: بَلْ مَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ خُرُوجِنَا مَعَكُمْ إِلَّا الْحَسَدُ لئلا نشارككم في الغنيمة، وليس ذلك

_ (1) . الأنبياء: 23. (2) . التوبة: 83.

[سورة الفتح (48) : الآيات 16 إلى 24]

بِقَوْلِ اللَّهِ كَمَا تَزْعُمُونَ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا عِلْمًا قَلِيلًا، وَهُوَ عِلْمُهُمْ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: لَا يَفْقَهُونَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ إِلَّا فِقْهًا قَلِيلًا، وَهُوَ مَا يَصْنَعُونَهُ نِفَاقًا بِظَوَاهِرِهِمْ دُونَ بَوَاطِنِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتُعَزِّرُوهُ يَعْنِي الْإِجْلَالَ وَتُوَقِّرُوهُ يَعْنِي التَّعْظِيمَ، يعني مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَتُعَزِّرُوهُ قَالَ: تَضْرِبُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسَّيْفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةُ وَتُعَزِّرُوهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا ذَاكَ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: لِتَنْصُرُوهُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِي اللَّهِ لَا تَأْخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ، فَنَمْنَعَهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَلَنَا الْجَنَّةُ، فَمَنْ وَفَى وَفَى اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: «أَنَّهُمْ كَانُوا فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً» وَفِيهِمَا عَنْهُ أنهم كانوا أربعة عَشْرَةَ مِائَةً، وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَأَلَهُ كَمْ كَانُوا فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ قَالَ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ جَابِرًا قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهِمَ، هُوَ حَدَّثَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. [سورة الفتح (48) : الآيات 16 الى 24] قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) قَوْلُهُ: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ سَابِقًا سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هُمْ فَارِسُ. وَقَالَ كَعْبٌ وَالْحَسَنُ: هُمُ الرُّومُ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:

هَوَازِنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُمْ بَنُو حَنِيفَةَ أَهْلُ الْيَمَامَةِ أَصْحَابُ مُسَيْلِمَةَ. وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أَيْ: يَكُونُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْمُقَاتَلَةُ، أَوِ الْإِسْلَامُ، لَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَهَذَا حُكْمُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ: أَوْ هُمْ يُسْلِمُونَ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ أَوْ يُسْلِمُوا أَيْ: حَتَّى يُسْلِمُوا فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَهُوَ الْغَنِيمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا أَيْ: تُعْرِضُوا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ وَذَلِكَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْقَهْرِ فِي الدُّنْيَا وَبِعَذَابِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ لِتَضَاعُفِ جُرْمِكُمْ. لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أَيْ: لَيْسَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَعْذُورِينَ بِهَذِهِ الْأَعْذَارِ حَرَجٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَذَرَ اللَّهُ أَهْلَ الزَّمَانَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْحَرَجُ: الْإِثْمُ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَاهُ بِهِ وَنَهَيَاهُ عَنْهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُدْخِلْهُ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ. وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً أَيْ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنِ الطَّاعَةِ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ عَذَابًا شَدِيدَ الْأَلَمِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ أَخْلَصُوا نِيَّاتِهِمْ وَشَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، فَقَالَ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَيْ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقْتَ تِلْكَ الْبَيْعَةِ، وَهِيَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَكَانَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَالْعَامِلُ فِي «تَحْتَ» إِمَّا يُبَايِعُونَكَ، أَوْ مَحْذُوفٌ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ شَجَرَةٌ كَانَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقِيلَ: سِدْرَةٌ. وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا قُرَيْشًا وَلَا يَفِرُّوا. وَرُوِيَ أَنَّهُ بَايَعَهُمْ «1» عَلَى الْمَوْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ عَدَدِ أَهْلِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ قَرِيبًا، وَالْقِصَّةُ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى يُبَايِعُونَكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: مِنَ الرضى بِأَمْرِ الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْ كَرَاهَةِ الْبَيْعَةِ عَلَى الْمَوْتِ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى رَضِيَ. وَالسَّكِينَةُ: الطُّمَأْنِينَةُ وَسُكُونُ النَّفْسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: الصَّبْرُ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ عِنْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ. قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وغير هما، وَقِيلَ: فَتْحُ مَكَّةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها أَيْ: وَأَثَابَكُمْ مَغَانِمَ كَثِيرَةً، أَوْ: وَآتَاكُمْ، وَهِيَ غَنَائِمُ خَيْبَرَ، وَالِالْتِفَاتُ لِتَشْرِيفِهِمْ بِالْخِطَابِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أَيْ: غَالِبًا مُصْدِرًا أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ عَلَى أُسْلُوبِ الْحِكْمَةِ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فِي هَذَا وَعْدٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا سَيَفْتَحُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَنَائِمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَأْخُذُونَهَا فِي أَوْقَاتِهَا الَّتِي قُدِّرَ وُقُوعُهَا فِيهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ أَيْ: غَنَائِمَ خَيْبَرَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أَيْ: وَكَفَّ أَيْدِيَ قُرَيْشٍ عَنْكُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالصُّلْحِ، وَقِيلَ: كَفَّ أَيْدِيَ أَهْلِ خَيْبَرَ وَأَنْصَارِهِمْ عَنْ قِتَالِكُمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَفَّ أَيْدِيَ الْيَهُودِ عَنِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ خُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الحديبية وخيبر،

_ (1) . في مسند أحمد (4/ 51) : فبايعوه.

وَرَجَّحَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: لِأَنَّ كَفَّ أَيْدِي النَّاسِ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَقِيلَ: كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ يَعْنِي عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الْفَزَارِيَّ، وَعَوْفَ بْنَ مَالِكٍ النَّضْرِيَّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا، إذا جَاءُوا لِيَنْصُرُوا أَهْلَ خَيْبَرَ عِنْدَ حِصَارِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَهُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ اللَّامُ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بَعْدَهُ، أَيْ: فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنَ التَّعْجِيلِ وَالْكَفِّ لِتَكُونَ آيَةً، أَوْ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ تَقْدِيرُهَا: وَعَدَ فَعَجَّلَ وَكَفَّ لِتَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَلِتَكُونَ آيَةً. وَقِيلَ: إِنَّ الْوَاوَ مَزِيدَةٌ وَاللَّامُ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهُ أَيْ: وَكَفَّ لِتَكُونَ وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْكَفُّ آيَةٌ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَا يَعِدُكُمْ بِهِ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أَيْ: يَزِيدَكُمْ بِتِلْكَ الْآيَةِ هُدًى، أَوْ يُثَبِّتَكُمْ عَلَى الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها مَعْطُوفٌ عَلَى «هَذِهِ» ، أَيْ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ الْمَغَانِمَ، وَمَغَانِمَ أُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا، وَهِيَ الْفُتُوحُ الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدُ كَفَارِسَ وَالرُّومِ وَنَحْوِهِمَا، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: هِيَ خَيْبَرُ وَعَدَهَا اللَّهُ نَبِيَّهُ قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَهَا وَلَمْ يَكُونُوا يَرْجُونَهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَتْحُ مَكَّةَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حُنَيْنٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِأُخْرَى. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا لَكُمْ حَتَّى تَفْتَحُوهَا وَتَأْخُذُوهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَعَدَّهَا لَهُمْ وَجَعَلَهَا كَالشَّيْءِ الَّذِي قَدْ أُحِيطَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، فَهُوَ مَحْصُورٌ لَا يَفُوتُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا فِي الْحَالِ فَهِيَ مَحْبُوسَةٌ لَهُمْ لَا تَفُوتُهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَحَاطَ: عَلِمَ أَنَّهَا سَتَكُونُ لَهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلَا تَخْتَصُّ قُدْرَتُهُ بِبَعْضِ الْمَقْدُورَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقِيلَ: أَسَدٌ وَغَطَفَانُ الَّذِينَ أَرَادُوا نَصْرَ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا يُوَالِيهِمْ عَلَى قِتَالِكُمْ وَلا نَصِيراً يَنْصُرُهُمْ عَلَيْكُمْ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ أَيْ: طَرِيقَتَهُ وَعَادَتَهُ الَّتِي قَدْ مَضَتْ فِي الْأُمَمِ مِنْ نَصْرِ أَوْلِيَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَانْتِصَابُ «سُنَّةَ» عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: بَيَّنَ اللَّهُ سُنَّةَ اللَّهِ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أَيْ: لَنْ تَجِدَ لَهَا تَغْيِيرًا، بَلْ هِيَ مُسْتَمِرَّةٌ ثَابِتَةٌ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أَيْ: كَفَّ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَأَيْدِيَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا جَاءُوا يَصُدُّونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ عَنِ الْبَيْتِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ: الْمُرَادُ بِبَطْنِ مَكَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ يُرِيدُونَ غرّة «1» النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخذهم المسلمون ثم تركوهم. وفي رواية اخْتِلَافٌ سَيَأْتِي بَيَانُهُ آخِرَ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يَقُولُ: فَارِسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُمُ الأكراد. وأخرج ابن مردويه عن

_ (1) . «الغرّة» : الغفلة. [.....]

ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَارِسَ وَالرُّومَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: هَوَازِنَ وَبَنِي حَنِيفَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ- قَالَ السُّيُوطِيُّ- بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَإِنِّي لَوَاضِعٌ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِي، إِذْ أُمِرَ بِالْقِتَالِ إِذْ جَاءَ أَعْمَى فَقَالَ: كَيْفَ لِي وَأَنَا ذَاهِبُ الْبَصَرِ؟ فَنَزَلَتْ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ الْآيَةَ. قَالَ هَذَا فِي الْجِهَادِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَادٍ إِذَا لَمْ يُطِيقُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «بَيْنَا نَحْنُ قَائِلُونَ إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ، نَزَلَ رُوحُ القدس، فسرنا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ تَحْتَ شَجَرَةِ سَمُرَةَ فَبَايَعْنَاهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَبَايَعَ لِعُثْمَانَ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لابن عفان يطوف بالبيت ونحن ها هنا، فقال رسول الله: لَوْ مَكَثَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مَا طَافَ حتى أطواف» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي «الْمُصَنَّفِ» عَنْ نَافِعٍ قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ نَاسًا يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا، فَأَمَرَ بِهَا. فَقُطِعَتْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قِيلَ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَهُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَايَعْنَاهُ عَلَى ألّا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِهِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتِ السَّكِينَةُ عَلَى مَنْ عُلِمَ مِنْهُ الْوَفَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يَعْنِي الْفَتْحَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يَعْنِي خَيْبَرَ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يَسْتَحِلُّوا حَرَمَ اللَّهِ، وَيُسْتَحَلَّ بِكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ قال: سنة من بَعْدَكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَالَ: هَذِهِ الْفُتُوحُ الَّتِي تُفْتَحُ إِلَى الْيَوْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَالَ: هِيَ خَيْبَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ، هَبَطَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ في السلاح من قبل جبال التَّنْعِيمِ يُرِيدُونَ غِرَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَأُخِذُوا فَعَفَا عَنْهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ أَسَرَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: «أَنَّ ثَلَاثِينَ شَابًّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ خَرَجُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السِّلَاحِ، فَثَارُوا فِي وُجُوهِهِمْ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ اللَّهُ بِأَسْمَاعِهِمْ- وَلَفْظُ الْحَاكِمِ: بِأَبْصَارِهِمْ- فَقَامَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ جِئْتُمْ فِي عَهْدِ أَحَدٍ، أَوْ هَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا؟ فَقَالُوا: لَا، فخلّى سبيلهم، فنزلت هذه الآية» .

[سورة الفتح (48) : الآيات 25 إلى 29]

[سورة الفتح (48) : الآيات 25 الى 29] هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) قَوْلُهُ: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، وَمَعْنَى صَدِّهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: أَنَّهُمْ مَنَعُوهُمْ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ وَيَحِلُّوا عَنْ عُمْرَتِهِمْ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ «الْهَدْيَ» عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي «صَدُّوكُمْ» ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى «الْمَسْجِدِ» ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: عَنْ نَحْرِ الْهَدْيِ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ: وَصُدَّ الْهَدْيُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْهَاءِ مِنَ الْهَدْيِ وَسُكُونِ الدَّالِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَانْتِصَابُ مَعْكُوفًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَدْيِ، أَيْ: مَحْبُوسًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: عَكَفَهُ، أَيْ: حَبَسَهُ وَوَقَفَهُ، وَمِنْهُ: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً وَمِنْهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مَعْكُوفًا: مَجْمُوعًا، وَقَوْلُهُ: أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أَيْ: عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، أَوْ هُوَ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَالْمَعْنَى: صَدُّوا الْهَدْيَ كَرَاهَةَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، أَوْ هو بدل من الهدي بدل اشتمال، ومحلّه: مَنْحَرَهُ، وَهُوَ حَيْثُ يَحِلُّ نَحْرُهُ مِنَ الْحَرَمِ، وَكَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَرَخَّصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ بِجَعْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَلُوا إِلَيْهِ وَهُوَ الْحُدَيْبِيَةُ مَحِلًّا لِلنَّحْرِ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا كَلَامٌ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ يَعْنِي الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ، وَمَعْنَى: «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» لَمْ تَعْرِفُوهُمْ، وَقِيلَ: لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ أَنْ تَطَؤُهُمْ يجوز أن يكون بدلا من رجال ونساء، وَلَكِنَّهُ غَلَّبَ الذُّكُورَ، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَفْعُولِ «تَعْلَمُوهُمْ» ، وَالْمَعْنَى أَنْ تَطَئُوهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْإِيقَاعِ بِهِمْ، يُقَالُ: وَطِئْتُ الْقَوْمَ، أَيْ: أَوْقَعْتُ بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ كَسَبُوا مَكَّةَ وَأَخَذُوهَا عَنْوَةً بِالسَّيْفِ لَمْ يَتَمَيَّزِ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِيهَا مِنَ الْكُفَّارِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَأْمَنُوا أَنْ يَقْتُلُوا الْمُؤْمِنِينَ فَتَلْزَمَهُمُ الْكَفَّارَةُ وَتَلْحَقَهُمْ سُبَّةٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ أَيْ: مِنْ جِهَتِهِمْ مَعَرَّةٌ أَيْ: مَشَقَّةٌ بِمَا يَلْزَمُهُمْ فِي قَتْلِهِمْ مِنْ كَفَّارَةٍ وَعَيْبٍ، وَأَصْلُ الْمَعَرَّةِ: الْعَيْبُ، مَأْخُوذَةٌ من العرّ

وَهُوَ الْجَرَبُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ قَتَلُوا أَهْلَ دِينِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْلَا أَنْ تَقْتُلُوا رِجَالًا مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ، أَيْ: إِثْمٌ، وَكَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ ومقاتل وغير هما: الْمَعَرَّةُ: كَفَارَّةُ قَتْلِ الْخَطَأِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ «1» وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْمَعَرَّةُ: غُرْمُ الدِّيَةِ. وَقَالَ قطرب: المعرّة: الشدّة، وقيل: الغمّ، وبِغَيْرِ عِلْمٍ متعلّق بأن تَطَئُوهُمْ، أَيْ: غَيْرَ عَالِمِينَ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَأَذِنَ اللَّهُ لَكُمْ أَوْ لَمَا كَفَّ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ، وَاللَّامُ فِي لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ الْمُقَدَّرُ، أَيْ: وَلَكِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، أَوْ كَفَّ أَيْدِيَكُمْ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ بِذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ الَّذِينَ كَانُوا فِي مَكَّةَ، فَيُتَمِّمَ لَهُمْ أُجُورَهُمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيِ الْكُفَّارِ وَيَفُكَّ أَسْرَهُمْ، وَيَرْفَعَ مَا كَانَ يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ غَيْرِ مَا ذُكِرَ، وَتَقْدِيرُهُ: لَوْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَأَدْخَلَهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: إِنَّ «مَنْ يَشَاءُ» عِبَادُهُ مِمَّنْ رَغِبَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً التَّزَيُّلُ: التَّمَيُّزُ، أَيْ: لَوْ تَمَيَّزَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا، وَقِيلَ: التَّزَيُّلُ: التَّفَرُّقُ، أَيْ: لَوْ تَفَرَّقَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَقِيلَ: لَوْ زَالَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ، وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَالْقَهْرُ، وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ وَقْتَ جَعْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ وقيل: متعلّق بعذبنا، وَالْحَمِيَّةُ: الْأَنَفَةُ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو حَمِيَّةٍ، أَيْ: ذُو أَنَفَةٍ وَغَضَبٍ، أَيْ: جَعَلُوهَا ثَابِتَةً رَاسِخَةً فِي قُلُوبِهِمْ، وَالْجَعْلُ بِمَعْنَى الْإِلْقَاءِ، وَحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ بَدَلٌ مِنَ الْحَمِيَّةِ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: قَدْ قَتَلُوا أَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَيَدْخُلُونَ عَلَيْنَا فِي مَنَازِلِنَا، فَتَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا عَلَيْنَا عَلَى رَغْمِ أَنْفِنَا، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا يَدْخُلُونَهَا عَلَيْنَا. فَهَذِهِ الْحَمِيَّةُ هِيَ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ قُلُوبَهُمْ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: حَمِيَّتُهُمْ: أَنَفَتُهُمْ مِنَ الْإِقْرَارِ للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «لَوْ تَزَيَّلُوا» وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ عَوْنٍ لَوْ تَزَايَلُوا وَالتَّزَايُلُ: التَّبَايُنُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: أَنْزَلَ الطُّمَأْنِينَةَ وَالْوَقَارَ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ لَمْ يَدْخُلْهُمْ مَا دَخَلَ أَهْلَ الْكُفْرِ مِنَ الْحَمِيَّةِ، وقيل: ثبّتهم على الرضى وَالتَّسْلِيمِ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَهِيَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ «محمد رسول الله» صلّى الله عليه وسلّم وَزَادَ بَعْضُهُمْ «وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ هِيَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُقِرُّوا بِهَا، وَامْتَنَعُوا مِنْ كِتَابَتِهَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ، فَخَصَّ اللَّهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ بِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ هِيَ الَّتِي يُتَّقَى بِهَا الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقِيلَ: كَلِمَةُ التَّقْوَى هِيَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَالثَّبَاتُ عَلَيْهِ وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها أَيْ: وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ أَحَقَّ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْتَأْهِلِينَ لَهَا دُونَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَهَّلَهُمْ لِدِينِهِ وَصُحْبَةِ رَسُولِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ قَالَ الواحدي: قال

_ (1) . النساء: 92.

الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَى نَبِيَّهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ كَأَنَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حَلَقُوا وَقَصَّرُوا، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ فَفَرِحُوا وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ سَيَدْخُلُونَ مَكَّةَ عَامَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعُوا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: وَاللَّهِ مَا حَلَقْنَا وَلَا قَصَّرْنَا وَلَا دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقِيلَ: إِنَّ الرُّؤْيَا كَانَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: صدقا متلبسا بِالْحَقِّ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ هُوَ قَوْلُهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ أَيْ: فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَقَوْلُهُ: إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد لما يَجِبُ أَنْ يَقُولُوهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1» قَالَ ثَعْلَبٌ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَثْنَى فِيمَا يَعْلَمُ لِيَسْتَثْنِيَ الْخَلْقُ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ. وَقِيلَ: كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، فَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ لهذا المعنى، قاله الحسن ابن الْفَضْلِ. وَقِيلَ: مَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ: كَمَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: «إِنْ» بِمَعْنَى إِذْ، يَعْنِي إِذْ شَاءَ اللَّهُ حَيْثُ أَرَى رَسُولَهُ ذَلِكَ، وَانْتِصَابُ آمِنِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ فاعل لتدخلنّ، وكذا مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ أَيْ: آمِنِينَ مِنَ الْعَدُوِّ، وَمُحَلِّقًا بَعْضُكُمْ وَمُقَصِّرًا بَعْضُكُمْ، وَالْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي اسْتِغْفَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُحَلِّقِينَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ لَهُ: وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: وَلِلْمُقَصِّرِينَ، وَقَوْلُهُ: لَا تَخافُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ مُسْتَأْنَفٌ، وَفِيهِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِمَا قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: آمِنِينَ. فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَيْ: مَا لَمْ تَعْلَمُوا مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الصُّلْحِ لِمَا فِي دُخُولِكُمْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «صَدَقَ» ، أَيْ: صَدَقَ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا، فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا بِهِ فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً أَيْ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ دُخُولِكُمْ مَكَّةَ، كَمَا أَرَى رَسُولَهُ، فَتْحًا قَرِيبًا. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ: فَتْحُ خَيْبَرَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا فَتْحَ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَقَدْ دَخَلَ فِي تِلْكَ السَّنَتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُ مَنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ بَلْ أَكْثَرُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَهِيَ سَنَةُ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَكَانُوا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ عَشَرَةَ آلَافٍ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي: إرسالا متلبسا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أَيْ: يُعْلِيَهُ عَلَى كُلِّ الْأَدْيَانِ كَمَا يُفِيدُهُ تَأْكِيدُ الْجِنْسِ، وَقِيلَ: لِيُظْهِرَ رَسُولَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ قَدْ ظَهَرَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَانْقَهَرَ لَهُ كُلُّ أَهْلِ الْمِلَلِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً الْبَاءُ زَائِدَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، أَيْ: كَفَى اللَّهُ شَهِيدًا عَلَى هَذَا الْإِظْهَارِ الَّذِي وَعَدَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ وَعَلَى صحة نبوّة نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ مُبْتَدَأٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ خَبَرُهُ، أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ورَسُولُ اللَّهِ بَدَلٌ مِنْهُ، وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ مُبْتَدَأٌ وَرَسُولُ اللَّهِ نَعْتٌ لَهُ. وَالَّذِينَ مَعَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَمَا بَعْدَهُ الْخَبَرُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ قِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْحُدَيْبِيَةِ، والأولى

_ (1) . الكهف: 23 و 24.

الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ أَيْ: غِلَاظٌ عَلَيْهِمْ كَمَا يَغْلُظُ الْأَسَدُ عَلَى فَرِيسَتِهِ، وَهُوَ جَمْعُ شَدِيدٍ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ أَيْ: مُتَوَادُّونَ مُتَعَاطِفُونَ، وَهُوَ جَمْعُ رَحِيمٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ لِمَنْ خَالَفَ دِينَهُمُ الشِّدَّةَ وَالصَّلَابَةَ، وَلِمَنْ وَافَقَهُ الرحمة والرأفة. قرأ الجمهور برفع أَشِدَّاءُ ورُحَماءُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِلْمَوْصُولِ، أَوْ خَبَرٌ لِمُحَمَّدٍ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِنَصْبِهِمَا عَلَى الْحَالِ أَوِ الْمَدْحِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً أَيْ: تُشَاهِدُهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ رَاكِعِينَ سَاجِدِينَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هُوَ خَبَرٌ آخَرُ أَوِ اسْتِئْنَافٌ، أَعْنِي قَوْلَهُ «تَرَاهُمْ» . يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أَيْ: يَطْلُبُونَ ثَوَابَ اللَّهِ لَهُمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ «تَرَاهُمْ» ، وَهَكَذَا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ السِّيمَا: الْعَلَامَةُ، وَفِيهَا لُغَتَانِ الْمَدُّ والقصر، أي: تظهر علامتهم في جباههم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ وَكَثْرَةِ التَّعَبُّدِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا سَهِرَ الرَّجُلُ أَصْبَحَ مُصْفَرًّا، فَجَعَلَ هَذَا هُوَ السِّيمَا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَوَاضِعُ السُّجُودِ أَشَدُّ وُجُوهِهِمْ بَيَاضًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ، وَبِالْأَوَّلِ: أَعْنِي كَوْنَهُ مَا يَظْهَرُ فِي الْجِبَاهِ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَالِكٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ الْوَقَارُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ مَرْضَى وَمَا هُمْ بِمَرْضَى، وَقِيلَ: هُوَ الْبَهَاءُ فِي الْوَجْهِ وَظُهُورُ الْأَنْوَارِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ أَيْ: وَصْفُهُمُ الَّذِي وُصِفُوا بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَوَصْفُهُمُ الَّذِي وُصِفُوا بِهِ فِي الْإِنْجِيلِ وَتَكْرِيرُ ذِكْرِ الْمَثَلِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِهِ وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَرَابَتِهِ وَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْأَمْثَالِ فِي الْغَرَابَةِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ إِلَخْ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، أَيْ: هُمْ كَزَرْعٍ إِلَخْ، وَقِيلَ: هُوَ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِشَارَةٌ مُبْهَمَةٌ لَمْ يُرِدْ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ، لِقَوْلِهِ: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ أَيْ: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: فِيهِ وَجْهَانِ: إِنْ شِئْتَ قُلْتَ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، يَعْنِي كَمَثَلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى الْإِنْجِيلِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، ثُمَّ تَبْتَدِئُ: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ شَطْأَهُ بِسُكُونِ الطَّاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ بِفَتْحِهَا، وَقَرَأَ أَنَسٌ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «شَطَاهُ» كَعَصَاهُ. وَقَرَأَهُ الْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ شَطَّهُ بِغَيْرِ هَمْزَةِ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ. قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ: شطأه: أي طرفه. قال الفراء: أشطأ الزَّرْعُ فَهُوَ مُشْطِئٌ إِذَا خَرَجَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي: نباته. وقال قطرب: الشطء: شوك السُّنْبُلِ. وَرُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: هو السنبل. وقال الجوهري: شطء الزرع والنبات: [فراخه] «1» ، وَالْجَمْعُ أَشْطَاءٍ. وَقَدْ أَشْطَأَ الزَّرْعُ خَرَجَ شَطْؤُهُ. فَآزَرَهُ أي: قواه وأعانه وشدّه، وقيل: الْمَعْنَى: إِنَّ الشَّطْءَ قَوَّى الزَّرْعَ، وَقِيلَ: إِنَّ الزَّرْعَ قَوَّى الشَّطْءَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّطْءَ خُرُوجُ النَّبَاتِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَخْرَجَ الشَّطْءَ عَلَى وَجْهِ الثَّرَى ... وَمِنَ الْأَشْجَارِ أَفْنَانُ الثَّمَرْ

_ (1) . من تفسير القرطبي (16/ 294) .

قَرَأَ الْجُمْهُورُ فَآزَرَهُ بِالْمَدِّ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ بِالْقَصْرِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: بِمَحْنِيَّةٍ «1» قَدْ آزَرَ الضَّالُّ «2» نَبْتَهَا ... مَجِرَّ جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيَّبِ قال الفراء: آزرت فلانا آزره أَزْرًا إِذَا قَوَّيْتُهُ فَاسْتَغْلَظَ أَيْ: صَارَ ذَلِكَ الزَّرْعُ غَلِيظًا بَعْدَ أَنْ كَانَ دَقِيقًا فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ أَيْ: فَاسْتَقَامَ عَلَى أَعْوَادِهِ، وَالسُّوقُ: جَمْعُ سَاقٍ. وَقَرَأَ قُنْبُلٌ: سُؤْقِهِ بِالْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أَيْ: يُعْجِبُ هَذَا الزَّرْعُ زَارِعَهُ لِقُوَّتِهِ وَحُسْنِ مَنْظَرِهِ، وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سبحانه لأصحاب النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي الِابْتِدَاءِ قَلِيلًا، ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ وَيَقْوَوْنَ كَالزَّرْعِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الِابْتِدَاءِ ضَعِيفًا، ثُمَّ يَقْوَى حَالًا بَعْدَ حَالٍ حَتَّى يَغْلُظَ سَاقُهُ. قَالَ قَتَادَةُ: مَثَلُ أَصْحَابِ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْإِنْجِيلِ أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ قَوْمٍ يَنْبُتُونَ نَبَاتَ الزَّرْعِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عِلَّةَ تَكْثِيرِهِ لِأَصْحَابِ نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَتَقْوِيَتِهِ لَهُمْ، فَقَالَ: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ أَيْ: كَثَّرَهُمْ وَقَوَّاهُمْ لِيَكُونُوا غَيْظًا لِلْكَافِرِينَ، وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَعَلَ ذَلِكَ لِيَغِيظَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً أَيْ: وَعَدَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مع محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَغْفِرَ ذُنُوبَهُمْ، وَيُجْزِلَ أَجْرَهُمْ بِإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ نِعْمَةٍ وَأَعْظَمُ مِنَّةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَحَرُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً، فَلَمَّا صُدَّتْ عَنِ الْبَيْتِ حَنَّتْ كَمَا تَحِنُّ إِلَى أَوْلَادِهَا. وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وابن قانع والباوردي وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنْ أبي جميعة جنيد بْنِ سَبُعٍ قَالَ: «قَابَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَوَّلَ النَّهَارِ كَافِرًا، وَقَابَلْتُ مَعَهُ آخِرَ النَّهَارِ مُسْلِمًا، وَفِينَا نَزَلَتْ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ وَكُنَّا تِسْعَةَ نَفَرٍ سَبْعَةُ رِجَالٍ وَامْرَأَتَانِ» وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: «كُنَّا ثَلَاثَةَ رِجَالٍ وَتِسْعَ نِسْوَةٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ قَالَ: حِينَ رَدُّوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أَنْ تَطَؤُهُمْ بِقَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ لَوْ تَزَيَّلُوا يَقُولُ: لَوْ تَزَيَّلَ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَعَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا بقتلكم إياهم. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ قَالَ: يَوْمَ صفّين: [أيها الناس] «3» اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، يَعْنِي الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: «يا بن الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ

_ (1) . «المحنية» : معاطف الأودية. (2) . «الضال» : شجرة السدر. (3) . من صحيح مسلم (1785) .

أَبَدًا» . فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا، فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى جَاءَ أبو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي ديننا؟ قال: يا بن الْخَطَّابِ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهَا، قَالَ: يَا رسول الله أفتح هو؟ قال: «نعم» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْإِفْرَادِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَفِي إِسْنَادِهِ الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو زرعة. وأخرج ابن مردويه عن سلمة ابن الْأَكْوَعِ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مثله في قوله. وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم من قول عمر بن الخطاب نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ نَحْوَهُ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ نَحْوُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ قَالَ: هُوَ دُخُولُ مُحَمَّدٍ الْبَيْتَ وَالْمُؤْمِنِينَ مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ لِلْمُحَلِّقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ فِي الصحيحين وغير هما أَحَادِيثُ مِنْهَا مَا قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي يَرَوْنَهُ، وَلَكِنَّهُ سِيمَا الْإِسْلَامِ وَسَمْتُهُ وَخُشُوعُهُ. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ «الصَّلَاةِ» وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ السَّمْتُ الْحَسَنُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ قَالَ: «النُّورُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ نَصْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: بَيَاضٌ يَغْشَى وُجُوهَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ: يَعْنِي نَعْتُهُمْ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قال: نباته: فروخه.

سورة الحجرات

سورة الحجرات هي ثماني عشرة آية وهي مَدَنِيَّةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِالْإِجْمَاعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ تُقَدِّمُوا بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ مَكْسُورَةً. وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَعَدٍّ وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَوْ تُرِكَ الْمَفْعُولُ لِلْقَصْدِ إِلَى نَفْسِ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَازِمٌ نحو وجه توجه، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَيَعْقُوبَ «تَقَدَّمُوا» بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ وَالدَّالِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَدَّمَ ها هنا بِمَعْنَى تَقَدَّمَ، وَهُوَ لَازِمٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَرَبُ تَقُولُ: لَا تَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ يَدَيِ الْأَبِ، أَيْ: لَا تُعَجِّلْ بِالْأَمْرِ دُونَهُ وَالنَّهْيِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَقَدَّمُوا قَبْلَ أمر هما وَنَهْيِهِمَا، وَبَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِمَامِ لَا مَا بَيْنَ يَدَيِ الْإِنْسَانِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَقْطَعُوا أَمْرًا دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا تَعْجَلُوا بِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَعْنَى بَيْنَ يَدَيْ فُلَانٍ: بِحَضْرَتِهِ لِأَنَّ مَا يَحْضُرُهُ الْإِنْسَانُ فَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي كُلِّ أُمُورِكُمْ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهَا التَّرْكُ لِلتَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. ثُمَّ عَلَّلَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ التَّقْوَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ عَلِيمٌ بِكُلِّ مَعْلُومٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ رَفْعِ الصَّوْتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الِاحْتِشَامِ وَتَرْكِ الِاحْتِرَامِ لِأَنَّ خَفْضَ الصَّوْتِ وَعَدَمَ رَفْعِهِ مِنْ لَوَازِمِ التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَنْعَ مِنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ وَمَزِيدِ اللَّغَطِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: لَا تَرْفَعُوا

أَصْوَاتَكُمْ إِلَى حَدٍّ يَكُونُ فَوْقَ مَا يَبْلُغُهُ صوت النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَعْظِيمُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَتَوْقِيرُهُ وَأَنْ لَا يُنَادُوهُ كَمَا يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَيْ: لَا تَجْهَرُوا بِالْقَوْلِ إِذَا كَلَّمْتُمُوهُ، كَمَا تَعْتَادُونَهُ مِنَ الْجَهْرِ بِالْقَوْلِ إِذَا كَلَّمَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ بتبجيل نَبِيِّهِ وَأَنْ يَغُضُّوا أَصْوَاتَهُمْ وَيُخَاطِبُوهُ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ لَا تَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ، وَيَا أَحْمَدُ، وَلَكِنْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَيَا رَسُولَ اللَّهِ، تَوْقِيرًا لَهُ، وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: جَهْرًا مِثْلَ جَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَبِالْجَهْرِ فِي الْقَوْلِ هُوَ مَا يَقَعُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِخْفَافِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لِمَا يَقَعُ فِي مَوَاقِفِ مَنْ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ وَتَوْقِيرُهُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ النَّهْيَ هُنَا وَقَعَ عَنْ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ بِمَا لَا يَأْذَنُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي: عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ الْبَالِغِ إِلَى حَدٍّ يَكُونُ فَوْقَ صَوْتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي خِطَابِهِ أَوْ فِي خِطَابِ غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: تَرْكُ الْجَفَاءِ فِي مُخَاطَبَتِهِ وَلُزُومُ الْأَدَبِ فِي مُجَاوَرَتِهِ لِأَنَّ الْمُقَاوَلَةَ الْمَجْهُورَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ الْأَكْفَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَزِيَّةٌ تُوجِبُ احْتِرَامَهُ وَتَوْقِيرَهُ. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: «أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ» التَّقْدِيرُ لِأَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ، أَيْ: فَتَحْبَطَ، فَاللَّامُ الْمُقَدَّرَةُ لَامُ الصَّيْرُورَةِ كَذَا قَالَ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِلنَّهْيِ، أَيْ: نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الْجَهْرِ خَشْيَةَ أَنْ تَحْبَطَ، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تَحْبَطَ، أَوْ عِلَّةً لِلْمَنْهِيِّ، أَيْ: لَا تَفْعَلُوا الْجَهْرَ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْحُبُوطِ، فَكَلَامُ الزَّجَّاجِ يَنْظُرُ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَجُمْلَةُ: وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَفِيهِ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ عَظِيمٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ يُوجِبُ أَنْ يَكْفُرَ الْإِنْسَانُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَكَمَا لَا يَكُونُ الْكَافِرُ مُؤْمِنًا إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ الْإِيمَانَ عَلَى الْكُفْرِ، كَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْكَافِرُ كَافِرًا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ. ثُمَّ رَغَّبَ سُبْحَانَهُ فِي امْتِثَالِ مَا أَمَرَ بِهِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أَصْلُ الْغَضِّ النَّقْصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ نَقْصُ الصَّوْتِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قَالَ الْفَرَّاءُ: أَخْلَصَ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى كَمَا يُمْتَحَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ، فَيَخْرُجُ جَيِّدُهُ مِنْ رَدِيئِهِ وَيَسْقُطُ خَبِيثُهُ. وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: اخْتَصَّهَا لِلتَّقْوَى، وَقِيلَ: طَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ قبيح، وقيل: وسّعها وسرّحها، من منحت الأديم إذا أوسعته. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: كُلُّ شَيْءٍ جَهَدْتَهُ فَقَدْ مَحَنْتَهُ، وَاللَّامُ فِي «لِلتَّقْوَى» مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: صَالِحَةٌ لِلتَّقْوَى، كَقَوْلِكَ: أَنْتَ صَالِحٌ لِكَذَا، أَوْ لِلتَّعْلِيلِ الْجَارِي مَجْرَى بَيَانِ السَّبَبِ، كَقَوْلِكَ: جِئْتُكَ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، أَيْ: لِيَكُونَ مَجِيئِي سَبَبًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ: أُولَئِكَ لَهُمْ، فَهُوَ خَبَرٌ آخَرُ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا لِبَيَانٍ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ هُمْ جُفَاةُ بني تميم كما سيأتي بيانه، ووراء الْحُجُرَاتِ. خَارِجَهَا وَخَلْفَهَا، وَالْحُجُرَاتُ: جَمْعُ حُجْرَةٍ، كَالْغُرُفَاتِ جَمْعُ غُرْفَةٍ، وَالظُّلُمَاتِ: جَمْعُ ظُلْمَةٍ، وَقِيلَ: الْحُجُرَاتُ جَمْعُ حُجَرٍ، وَالْحُجَرُ جَمْعُ حُجْرَةٍ، فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَالْحُجْرَةُ: الرُّقْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَحْجُورَةُ بِحَائِطٍ يحوّط عليها، وهي فعلة بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْحُجُرَاتِ بِضَمِّ الْجِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةُ

بِفَتْحِهَا تَخْفِيفًا، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِإِسْكَانِهَا، وهي لغات، ومِنْ فِي مِنْ وَراءِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْ جَعْلِهَا لِهَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ وَكَثْرَةِ الْجَفَاءِ فِي طِبَاعِهِمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أَيْ: لَوِ انْتَظَرُوا خُرُوجَكَ، وَلَمْ يُعَجِّلُوا بِالْمُنَادَاةِ، لَكَانَ أَصْلَحَ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ رِعَايَةِ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرِعَايَةِ جَانِبِهِ الشَّرِيفِ وَالْعَمَلِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ من التعظيم والتبجيل. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ جَاءُوا شُفَعَاءَ فِي أُسَارَى، فَأَعْتَقَ رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نِصْفَهُمْ وَفَادَى نِصْفَهُمْ، وَلَوْ صَبَرُوا لَأَعْتَقَ الْجَمِيعَ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ مُقَاتِلٌ. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، بَلِيغُهُمَا، لَا يُؤَاخِذُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ فِيمَا فَرَطَ مِنْهُمْ مِنْ إِسَاءَةِ الْأَدَبِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَبَيَّنُوا مِنَ التَّبَيُّنِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «فَتَثَبَّتُوا» مِنَ التَّثَبُّتِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّبَيُّنِ التَّعَرُّفُ وَالتَّفَحُّصُ، وَمِنَ التَّثَبُّتِ: الْأَنَاةُ وَعَدَمُ الْعَجَلَةِ، وَالتَّبَصُّرُ فِي الْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَالْخَبَرِ الْوَارِدِ حَتَّى يَتَّضِحَ وَيَظْهَرَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ تُصِيبُوا، أَوْ لِئَلَّا تُصِيبُوا لِأَنَّ الْخَطَأَ مِمَّنْ لَمْ يَتَبَيَّنِ الْأَمْرَ وَلَمْ يَتَثَبَّتْ فِيهِ هُوَ الْغَالِبُ وَهُوَ جَهَالَةٌ، لِأَنَّهُ لم يصدر عن علم، والمعنى: متلبسين بِجَهَالَةٍ بِحَالِهِمْ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ بِهِمْ مِنْ إِصَابَتِهِمْ بِالْخَطَأِ نادِمِينَ عَلَى ذَلِكَ مُغْتَمِّينَ لَهُ مُهْتَمِّينَ بِهِ. ثُمَّ وَعَظَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ فَلَا تَقُولُوا قَوْلًا بَاطِلًا وَلَا تَتَسَرَّعُوا عِنْدَ وُصُولِ الْخَبَرِ إِلَيْكُمْ مِنْ غَيْرِ تَبَيُّنٍ، وَ «أَنَّ» وَمَا فِي حَيِّزِهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيِ «اعْلَمُوا» ، وَجُمْلَةُ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ فِيكُمْ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْمَعْنَى: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِمَّا تُخْبِرُونَهُ بِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْبَاطِلَةِ، وَتُشِيرُونَ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْآرَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ بِصَوَابٍ لَوَقَعْتُمْ فِي الْعَنَتِ وَهُوَ التَّعَبُ، وَالْجَهْدُ، وَالْإِثْمُ، وَالْهَلَاكُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُطِيعُكُمْ فِي غَالِبِ مَا تُرِيدُونَ قَبْلَ وُضُوحِ وَجْهِهِ لَهُ، وَلَا يُسَارِعُ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا يَبْلُغُهُ قَبْلَ النَّظَرِ فِيهِ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أَيْ: جَعَلَهُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكُمْ، أَوْ مَحْبُوبًا لَدَيْكُمْ، فَلَا يَقَعُ مِنْكُمْ إِلَّا مَا يُوَافِقُهُ وَيَقْتَضِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ، وَتَرْكِ التَّسَرُّعِ فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدَمِ التَّثَبُّتِ فِيهَا، قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ مَنْ عَدَا الْأَوَّلِينَ لِبَيَانِ بَرَاءَتِهِمْ عَنْ أَوْصَافِ الْأَوَّلِينَ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ تَذْكِيرٌ لِلْكُلِّ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ وَتُوجِبُهُ مَحَبَّتُهُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ أَيْ: حَسَّنَهُ بِتَوْفِيقِهِ حَتَّى جَرَوْا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أَيْ: جَعَلَ كُلَّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْفُسُوقِ وَمِنْ جِنْسِ الْعِصْيَانِ مَكْرُوهًا عِنْدَكُمْ. وَأَصْلُ الْفِسْقِ الخروج على الطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانُ جِنْسُ مَا يُعْصَى اللَّهُ بِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ الْكَذِبَ خَاصَّةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أَيِ: الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذَكَرَهُمُ الرَّاشِدُونَ. وَالرُّشْدُ: الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ، مِنَ الرَّشَادَةِ: وَهِيَ الصَّخْرَةُ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً أَيْ: لِأَجْلِ فَضْلِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَالْمَعْنَى: أنه حبّب إليكم ما حبّب، وكرّه لِأَجْلِ فَضْلِهِ وَإِنْعَامِهِ، أَوْ جَعَلَكُمْ رَاشِدِينَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ: أَيْ تَبْتَغُونَ فَضْلًا وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ مَعْلُومٍ حَكِيمٌ فِي كُلِّ مَا يَقْضِي بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ ويقدّره لهم.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تميم عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرِ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَقَالَ عُمَرُ: بَلْ أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أصواتهما، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى انْقَضَتِ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: نُهُوا أَنْ يتكلموا بين يدي كلامه. وأخرج عَنْ عَائِشَةَ فِي الْآيَةِ قَالَتْ: لَا تَصُومُوا قَبْلَ أَنْ يَصُومَ نَبِيُّكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ أُنَاسٌ يَتَقَدَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَمَضَانَ بِصِيَامٍ يَعْنِي يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهَا أَيْضًا: أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَتَقَدَّمُونَ الشَّهْرَ فيصومون قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ عَدِيٍّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قال: أنزلت هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ، وَفِي إِسْنَادِهِ حُصَيْنُ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَكِنَّهُ يُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ حَتَّى أَلْقَى الله. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن أنس قال: «لما نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ رَفِيعَ الصَّوْتِ، فَقَالَ: أَنَا الَّذِي كُنْتُ أَرْفَعُ صَوْتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَبِطَ عَمَلِي، أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ حَزِينًا، فَفَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَيْهِ فَقَالُوا: فَقَدَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لَكَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي أَرْفَعُ صَوْتِي فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَأَجْهَرُ لَهُ بِالْقَوْلِ، حَبِطَ عَمَلِي، أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «لَا، بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ قتل. وفي الباب أحاديث بمعناه. أخرج ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الْآيَةَ: قَالَ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى: «مِنْهُمْ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ: «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إِلَيْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَإِنَّ ذَمِّي شَيْنٌ، فَقَالَ: ذَاكَ اللَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ قَالَ ابْنُ مَنِيعٍ: لَا أَعْلَمُ رَوَى الْأَقْرَعُ مُسْنَدًا غَيْرَ هَذَا. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ حَمْدِي زَيْنٌ وَإِنَّ ذَمِّي شَيْنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «ذَاكَ اللَّهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَمُسَدَّدٌ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ

[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 إلى 12]

جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: اجْتَمَعَ نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالُوا: انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ يَكُ نَبِيًّا فَنَحْنُ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ يَكُ مَلِكًا نَعِشْ بِجَنَاحِهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلّم فأخبرته بما قالوا، فجاؤوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه: يَا مُحَمَّدُ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنِي وَجَعَلَ يَقُولُ: «لَقَدْ صَدَّقَ اللَّهُ قَوْلَكَ يَا زَيْدُ، لَقَدْ صَدَّقَ اللَّهُ قَوْلَكَ يَا زَيْدُ» . وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ جَيِّدٍ- عَنْ الْحَارِثِ بْنِ ضِرَارٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَدَخَلْتُ فِيهِ وَأَقْرَرْتُ بِهِ، وَدَعَانِي إِلَى الزَّكَاةِ فَأَقْرَرْتُ بِهَا، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي فَأَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لِي جَمَعْتُ زَكَاتَهُ، وَتُرْسِلُ إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَسُولًا لِإِبَّانِ كَذَا وَكَذَا لِيَأْتِيَكَ مَا جَمَعْتُ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا جَمَعَ الْحَارِثُ الزَّكَاةَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَهُ وَبَلَغَ الْإِبَّانَ الَّذِي أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَبْعَثَ إِلَيْهِ احْتُبِسَ الرَّسُولُ فَلَمْ يَأْتِ، فَظَنَّ الْحَارِثُ أَنْ قَدْ حَدَثَ فِيهِ سخط مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَدَعَا سَرَوَاتِ «1» قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَقَّتَ لِي وَقْتًا يُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولَهُ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنَ الزَّكَاةِ وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ الْخُلْفُ، وَلَا أَرَى حَبْسَ رَسُولِهِ إِلَّا مِنْ سَخْطَةٍ، فَانْطَلِقُوا فَنَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم الوليد ابن عُقْبَةَ إِلَى الْحَارِثِ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِمَّا جَمَعَ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا أَنْ سَارَ الْوَلِيدُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ فَرِقَ «2» فَرَجَعَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ الْحَارِثَ مَنَعَنِي الزَّكَاةَ وَأَرَادَ قَتْلِي، فضرب رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْبَعْثَ إِلَى الْحَارِثِ، فَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بِأَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَقَلَّ الْبَعْثُ وَفَصَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ لَقِيَهُمُ الْحَارِثُ، فَقَالُوا: هَذَا الْحَارِثُ؟ فَلَمَّا غَشِيَهُمْ قَالَ لَهُمْ: إِلَى مَنْ بُعِثْتُمْ؟ قَالُوا: إِلَيْكَ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَزَعَمَ أَنَّكَ مَنَعْتَهُ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَهُ، قَالَ: لَا والّذي بعث محمدا بالحقّ ما رأيته وَلَا أَتَانِي، فَلَمَّا دَخَلَ الْحَارِثُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنَعْتَ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَ رَسُولِي؟» قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ وَلَا رَآنِي، وَمَا أَقْبَلْتُ إِلَّا حِينَ احْتُبِسَ عَلَيَّ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم خشيت أن تكون سخطة من الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ إِلَى قَوْلِهِ: حَكِيمٌ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقَدْ رُوِيَتْ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ الْمُرَادُ بِهَا وَإِنِ اختلفت القصص. [سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 12] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

_ (1) . «سروات» : أي زعماء. (2) . أي خاف.

قَوْلُهُ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قَرَأَ الْجُمْهُورُ: اقْتَتَلُوا بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الطائفتين كقوله: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا «1» وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَهُما عَائِدٌ إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: «اقْتَتَلَتَا» اعْتِبَارًا بِلَفْظِ طَائِفَتَانِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: «اقْتَتَلَا» وَتَذْكِيرُ الْفِعْلِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِاعْتِبَارِ الْفَرِيقَيْنِ أَوِ الرَّهْطَيْنِ. وَالْبَغْيُ: التَّعَدِّي بِغَيْرِ حَقٍّ وَالِامْتِنَاعُ مِنَ الصُّلْحِ الْمُوَافِقِ لِلصَّوَابِ، وَالْفَيْءُ: الرُّجُوعُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا تَقَاتَلَ فريقان من الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْعَوْا بِالصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنْ حَصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّعَدِّي مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَلَمْ تَقْبَلِ الصُّلْحَ، وَلَا دَخَلَتْ فِيهِ، كَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا هَذِهِ الطَّائِفَةَ الْبَاغِيَةَ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ، فَإِنْ رَجَعَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ الْبَاغِيَةُ عَنْ بَغْيِهَا وَأَجَابَتِ الدَّعْوَةَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ، فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْدِلُوا بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ، وَيَتَحَرَّوُا الصَّوَابَ الْمُطَابِقَ لِحُكْمِ اللَّهِ، وَيَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الطَّائِفَةِ الظَّالِمَةِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنَ الظُّلْمِ، وَتُؤَدِّيَ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِلْأُخْرَى. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْدِلُوا فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ بَعْدَ أَمْرِهِمْ بِهَذَا الْعَدْلِ الْخَاصِّ بِالطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ فَقَالَ: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أَيْ: وَاعْدِلُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَادِلِينَ، وَمَحَبَّتُهُ لَهُمْ تَسْتَلْزِمُ مُجَازَاتَهُمْ بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضى بِمَا فِيهِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما وَطَلَبَتْ مَا لَيْسَ لَهَا، وَلَمْ تَرْجِعْ إِلَى الصُّلْحِ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَالصُّلْحِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَجُمْلَةُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِصْلَاحِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِيمَانُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الدِّينُ يَجْمَعُهُمْ، فَهُمْ إِخْوَةٌ إِذَا كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي دِينِهِمْ، فَرَجَعُوا بِالِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ إِلَى أَصْلِ النَّسَبِ لِأَنَّهُمْ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ يَعْنِي كُلَّ مُسْلِمَيْنِ تَخَاصَمَا وَتَقَاتَلَا، وَتَخْصِيصُ الِاثْنَيْنِ بِالذِّكْرِ لِإِثْبَاتِ وُجُوبِ الْإِصْلَاحِ فِيمَا فَوْقَهُمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَابْنُ سيرين «إخوانكم» بالجمع، وروي عن أبي عمرو وَنَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْجَحْدَرِيِّ وَيَعْقُوبَ أَنَّهُمْ قَرَءُوا: «بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْجَمْعِ أَيْضًا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: أَرَادَ بِالْأَخَوَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ لِأَنَّ لَفْظَ التَّثْنِيَةِ قَدْ يَرِدُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ: أَصْلِحُوا بَيْنَ كُلِّ أَخَوَيْنِ وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي كُلِّ أُمُورِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

_ (1) . الحج: 19.

بِسَبَبِ التَّقْوَى، وَالتَّرَجِّي بِاعْتِبَارِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ: رَاجِينَ أَنْ تُرْحَمُوا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ إِذَا تَقَرَّرَ بَغْيُهَا عَلَى الْإِمَامِ، أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مُسْتَدِلًّا بقوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «قِتَالُ الْمُسْلِمِ كُفْرٌ» فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ قِتَالُ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يَبْغِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ اخْتِلَافٍ يَكُونُ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْهَرَبَ مِنْهُ وَلُزُومَ الْمَنَازِلِ لَمَا أُقِيمَ حَقٌّ، وَلَا أُبْطِلَ بَاطِلٌ وَلَوَجَدَ أَهْلُ النِّفَاقِ وَالْفُجُورِ سَبَبًا إِلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ، وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ بِأَنْ يَتَحَزَّبُوا عَلَيْهِمْ، وَلِكَفِّ الْمُسْلِمِينَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ» . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُمْدَةٌ فِي حَرْبِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَعَلَيْهَا عَوَّلَ الصَّحَابَةُ، وَإِلَيْهَا لَجَأَ الْأَعْيَانُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ، وَإِيَّاهَا عنى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» ، وَقَوْلُهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ الْخَوَارِجِ: «يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ، تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ السُّخْرِيَةُ: الِاسْتِهْزَاءُ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: سَخِرْتُ بِهِ وَضَحِكْتُ بِهِ وَهَزَأْتُ بِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: سَخِرْتُ مِنْهُ وَسَخِرْتُ بِهِ، وَضَحِكْتُ مِنْهُ وَضَحِكْتُ بِهِ، وهزئت منه وهزئت بِهِ، كُلُّ ذَلِكَ يُقَالُ: وَالِاسْمُ السُّخْرِيَةُ وَالسُّخْرَى، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا «1» ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: النَّهْيُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَسْتَهْزِئَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَعَلَّلَ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ أَيْ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُورُ بِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا مِنَ السَّاخِرِينَ بِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ قَوْمٌ مُخْتَصًّا بِالرِّجَالِ، لِأَنَّهُمُ الْقُوَّمُ عَلَى النِّسَاءِ أَفْرَدَ النِّسَاءَ بِالذِّكْرِ فَقَالَ: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ أَيْ: وَلَا يَسْخَرْ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ الْمَسْخُورُ بِهِنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ يَعْنِي خَيْرًا مِنَ السَّاخِرَاتِ مِنْهُنَّ، وَقِيلَ: أَفْرَدَ النِّسَاءَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ السُّخْرِيَةَ مِنْهُنَّ أَكْثَرُ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ اللَّمْزُ: الْعَيْبُ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ «2» قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اللَّمْزُ بِالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْإِشَارَةِ، وَالْهَمْزُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللِّسَانِ، وَمَعْنَى: لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ لَا يَلْمِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَمَا في قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «3» وقوله: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «4» قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَطْعَنْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَلْعَنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ التَّنَابُزُ: التَّفَاعُلُ مِنَ النَّبْزِ بِالتَّسْكِينِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ، وَالنَّبَزُ بِالتَّحْرِيكِ اللَّقَبُ، وَالْجَمْعُ أَنْبَازٌ، وَالْأَلْقَابُ جَمْعُ لَقَبٍ، وَهُوَ اسْمٌ غَيْرُ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ الْإِنْسَانُ، والمراد هنا لقب السوء، والتنابز بالألقاب بأن يُلَقِّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ: يَا فَاسِقُ، يَا مُنَافِقُ. أَوْ يَقُولَ لِمَنْ أَسْلَمَ: يَا يَهُودِيُّ، يَا نَصْرَانِيُّ، قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ أَخْرَجْتَ بِهِ أَخَاكَ مِنَ الْإِسْلَامِ، كَقَوْلِكَ يَا كَلْبُ، يَا حِمَارُ، يَا خِنْزِيرُ. قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَيَّرُ بِكُفْرِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا يَهُودِيُّ يَا نَصْرَانِيُّ، فَنَزَلَتْ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةُ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أَيْ: بِئْسَ الِاسْمُ الَّذِي

_ (1) . الزخرف: 32. (2) . التوبة: 58. (3) . النساء: 29. (4) . النور: 61.

يذكر بِالْفِسْقِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَالِاسْمُ هُنَا بِمَعْنَى الذِّكْرِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ بِئْسَ أَنْ يُسَمَّى الرَّجُلُ كَافِرًا أَوْ زَانِيًا بَعْدَ إسلامه وتوبته. وقيل: أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَاللَّمْزِ وَالنَّبْذِ فَهُوَ فَاسِقٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ كَالْأَعْرَجِ وَالْأَحْدَبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ عَلَيْهِ، فَجَوَّزَتْهُ الْأَئِمَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَى قَوْلِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ اه. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لِارْتِكَابِهِمْ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَامْتِنَاعِهِمْ مِنَ التَّوْبَةِ، فَظَلَمُوا مَنْ لَقَّبُوهُ، وَظُلْمِهِمْ أنفسهم بما لزمها مِنَ الْإِثْمِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ الظَّنُّ هُنَا: هُوَ مُجَرَّدُ التُّهْمَةِ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا كَمَنْ يَتَّهِمُ غَيْرَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِاجْتِنَابِ الْكَثِيرِ لِيَفْحَصَ الْمُؤْمِنُ عَنْ كُلِّ ظَنٍّ يَظُنُّهُ حَتَّى يَعْلَمَ وَجْهَهُ لِأَنَّ مِنَ الظَّنِّ مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّنِّ، كَالْقِيَاسِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَدَلَالَةِ الْعُمُومِ، وَلَكِنَّ هَذَا الظَّنَّ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَدْ قُوِّيَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَمَلِ بِهِ فَارْتَفَعَ عَنِ الشَّكِّ وَالتُّهْمَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ أَنْ يَظُنَّ بِأَهْلِ الْخَيْرِ سُوءًا، فَأَمَّا أَهْلُ السوء والفسوق قلنا أَنْ نَظُنَّ بِهِمْ مِثْلَ الَّذِي ظَهَرَ مِنْهُمْ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: هُوَ أَنْ يَظُنَّ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ سُوءًا، وَلَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ الظَّنِّ وَأَبْدَاهُ أَثِمَ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الظَّنَّ الْقَبِيحَ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْخَيْرُ لَا يَجُوزُ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي الظَّنِّ الْقَبِيحِ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْقَبِيحُ، وَجُمْلَةُ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ، وَهَذَا الْبَعْضُ هُوَ ظَنُّ السُّوءِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَالْإِثْمُ: هُوَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الظَّانُّ مِنَ الْعُقُوبَةِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ هَذَا الظَّنِّ الْمَأْمُورِ بِاجْتِنَابِهِ بِظَنِّ السُّوءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً «1» فَلَا يَدْخُلُ فِي الظَّنِّ الْمَأْمُورِ بِاجْتِنَابِهِ شَيْءٌ مِنَ الظَّنِّ الْمَأْمُورِ بِاتِّبَاعِهِ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَعَبَّدَ عِبَادَهُ بِاتِّبَاعِهِ، وَأَوْجَبَ الْعَمَلَ بِهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْضُ طَوَائِفِ الْمُبْتَدِعَةِ كِيَادًا لِلدِّينِ، وَشُذُوذًا عَنْ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ جَاءَ التَّعَبُّدُ بِالظَّنِّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ بَلْ فِي أَكْثَرِهَا. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِاجْتِنَابِ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ نَهَاهُمْ عَنِ التَّجَسُّسِ فَقَالَ: وَلا تَجَسَّسُوا التَّجَسُّسُ: الْبَحْثُ عَمَّا يَنْكَتِمُ عَنْكَ مِنْ عُيُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَعَوْرَاتِهِمْ، نَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْبَحْثِ عَنْ مَعَايِبِ النَّاسِ وَمَثَالِبِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَجَسَّسُوا بِالْجِيمِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ سِيرِينَ بِالْحَاءِ. قال الأخفش: ليس يبعد أحد هما مِنَ الْآخَرِ لِأَنَّ التَّجَسُّسَ بِالْجِيمِ: الْبَحْثُ عَمَّا يُكْتَمُ عَنْكَ، وَالتَّحَسُّسُ بِالْحَاءِ: طَلَبُ الْأَخْبَارِ وَالْبَحْثُ عَنْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّجَسُّسَ بِالْجِيمِ هُوَ الْبَحْثُ، وَمِنْهُ قِيلُ رَجُلٌ جَاسُوسٌ إِذَا كَانَ يَبْحَثُ عَنِ الْأُمُورِ، وَبِالْحَاءِ مَا أَدْرَكَهُ الْإِنْسَانُ بِبَعْضِ حَوَاسِّهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ بِالْحَاءِ فِيمَا يَطْلُبُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ، وَبِالْجِيمِ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا لِغَيْرِهِ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ. وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيْ: لَا يَتَنَاوَلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِمَا يَسُوءُهُ، وَالْغِيبِةُ: أَنْ تَذْكُرَ الرَّجُلَ بِمَا يَكْرَهُهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبِةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أعلم، قال: ذكرك

_ (1) . الفتح: 12. [.....]

أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، فَقِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً مَثَّلَ سُبْحَانَهُ الْغِيبِةَ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَعْلَمُ بِأَكْلِ لَحْمِهِ، كَمَا أَنَّ الْحَيَّ لَا يَعْلَمُ بِغِيبَةِ مَنِ اغْتَابَهُ. ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عِرْضَ الْإِنْسَانِ كَلَحْمِهِ، وَأَنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ أَكْلُ لَحْمِهِ يَحْرُمُ الِاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِهِ «1» ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّنْفِيرِ عَنِ الْغِيبَةِ وَالتَّوْبِيخِ لها وَالتَّوْبِيخِ لِفَاعِلِهَا وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِ مَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّ لَحْمَ الْإِنْسَانِ مِمَّا تَنْفِرُ عَنْ أَكْلِهِ الطِّبَاعُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَتَسْتَكْرِهُهُ الْجِبِلَّةُ الْبَشَرِيَّةُ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا شَرْعًا فَكَرِهْتُمُوهُ قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقْدِيرُهُ فَقَدْ كَرِهْتُمُوهُ فَلَا تَفْعَلُوا، وَالْمَعْنَى: فَكَمَا كَرِهْتُمْ هَذَا فَاجْتَنِبُوا ذِكْرَهُ بِالسُّوءِ غَائِبًا. قَالَ الرَّازِيُّ: الْفَاءُ فِي تَقْدِيرِ جَوَابِ كَلَامٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ فكرهتموه إذا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: عُرِضَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ بِتَرْكِ مَا أَمَرَكُمْ بِاجْتِنَابِهِ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ لمن اتقاه وتاب عَمَّا فَرَطَ مِنْهُ مِنَ الذَّنْبِ وَمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ. وقد أخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ وَرَكِبَ حِمَارًا، وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ «2» ، فَلَمَّا انْطَلَقَ إِلَيْهِ قَالَ: إليك عني، فو الله لَقَدْ آذَانِي رِيحُ حِمَارِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَغَضِبَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ «3» وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الْآيَةَ» . وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا وَجَدْتُ فِي نَفْسِي مِنْ شَيْءٍ مَا وَجَدْتُ فِي نَفْسِي مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، إِنِّي لَمْ أُقَاتِلْ هَذِهِ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ إِذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَيُنْصِفَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا أَجَابُوا حَكَمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ حَتَّى يُنْصِفَ الْمَظْلُومَ، فَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ أَنْ يُجِيبَ فَهُوَ بَاغٍ، وَحَقَّ عَلَى إِمَامِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَفِيئُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَيُقِرُّوا بِحُكْمِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الْآيَةَ. قَالَ: كَانَ قِتَالٌ بِالنِّعَالِ وَالْعِصِيِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُصْلِحُوا بَيْنَهُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَغِبَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ بني تميم استهزءوا مِنْ بِلَالٍ وَسَلْمَانَ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ وَصُهَيْبٍ وَابْنِ فُهَيْرَةَ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ

_ (1) . «الاستطالة في العرض» : أي استحقاره والترفع عليه والوقيعة فيه. (2) . «أرض سبخة» : أي لا تنبت. (3) . «الجريد» : سعف النخل، أي أغصانه.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 13 إلى 18]

ابن حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْغِيبَةِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ قَالَ: لَا يَطْعَنْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حبان، والشيرازي في الألقاب، والطبراني، وابن السنّي في عمل يوم وليلة، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي جَبِيرَةَ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ فِي بَنِي سَلَمَةَ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وَلَيْسَ فِينَا رَجُلٌ إِلَّا وَلَهُ اسْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، فَكَانَ إِذَا دَعَا وَاحِدًا مِنْهُمْ بِاسْمٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَكْرَهُهُ، فَنَزَلَتْ: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عَمِلَ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابَ مِنْهَا وَرَاجَعَ الْحَقَّ، فَنَهَى اللَّهُ أَنْ يُعَيَّرَ بِمَا سَلَفَ مِنْ عَمَلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ فَيَقُولُ: يَا يَهُودِيُّ، يَا نَصْرَانِيُّ، يَا مَجُوسِيُّ، وَيَقُولُ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ: يَا فَاسِقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ قَالَ: نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَظُنَّ بالمؤمن سوءا. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَخْطُبِ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَجَسَّسُوا قَالَ: نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَتَتَبَّعَ عَوْرَاتِ الْمُؤْمِنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقِيلَ: هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي النَّهْيِ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ والتجسس على عُيُوبِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً الْآيَةَ قَالَ: حَرَّمَ اللَّهُ أَنْ يُغْتَابَ الْمُؤْمِنُ بِشَيْءٍ كَمَا حَرَّمَ الْمَيْتَةَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. [سورة الحجرات (49) : الآيات 13 الى 18] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)

قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى هُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ لِاتِّصَالِهِمْ بِنَسَبٍ وَاحِدٍ، وَكَوْنِهِ يَجْمَعُهُمْ أَبٌ وَاحِدٌ وَأُمٌّ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّهُ لَا مَوْضِعَ لِلتَّفَاخُرِ بَيْنَهُمْ بِالْأَنْسَابِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ، فَالْكُلُّ سَوَاءٌ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ الشُّعُوبُ جَمْعُ شَعْبٍ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَهُوَ الْحَيُّ الْعَظِيمُ، مِثْلُ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ، وَالْقَبَائِلُ دُونَهَا كَبَنِي بَكْرٍ مِنْ رَبِيعَةَ، وَبَنِي تَمِيمٍ مِنْ مُضَرَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، سُمُّوا شَعْبًا لِتَشَعُّبِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ كَشُعَبِ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ، وَالشَّعْبُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ. يُقَالُ شَعَبْتُهُ: إِذَا جَمَعْتَهُ، وَشَعَبْتُهُ إِذَا فَرَّقْتَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْمَنِيَّةُ شَعُوبًا لِأَنَّهَا مُفَرِّقَةٌ، فَأَمَّا الشِّعْبُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشَّعْبُ مَا تَشَعَّبَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَالْجَمْعُ الشُّعُوبُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشُّعُوبُ: الْبَعِيدُ مِنَ النَّسَبِ، وَالْقَبَائِلُ دُونَ ذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الشُّعُوبُ: النَّسَبُ الأقرب. وَقِيلَ: إِنَّ الشُّعُوبَ: عَرَبُ الْيَمَنِ مِنْ قَحْطَانَ، وَالْقَبَائِلَ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَسَائِرِ عَدْنَانَ. وَقِيلَ: الشُّعُوبُ بُطُونُ الْعَجَمِ، وَالْقَبَائِلُ بُطُونِ الْعَرَبِ. وَحَكَى أبو عبيدة أَنَّ الشَّعْبَ أَكْثَرُ مِنَ الْقَبِيلَةِ، ثُمَّ الْقَبِيلَةُ ثُمَّ الْعِمَارَةُ ثُمَّ الْبَطْنُ ثُمَّ الْفَخِذُ ثُمَّ الْفَصِيلَةُ ثُمَّ الْعَشِيرَةُ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الشَّعْبَ أَكْثَرُ مِنَ الْقَبِيلَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَبَائِلُ مِنْ شُعُوبٍ لَيْسَ فِيهِمْ ... كَرِيمٌ قَدْ يُعَدُّ وَلَا نَجِيبُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِتَعارَفُوا بِتَخْفِيفِ التَّاءِ، وَأَصْلُهُ لِتَتَعَارَفُوا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ بِتَشْدِيدِهَا عَلَى الْإِدْغَامِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِتَاءَيْنِ، وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَقْنَاكُمْ، أَيْ: خَلَقْنَاكُمْ كَذَلِكَ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لِتَعْرِفُوا» مُضَارِعَ عَرَفَ. وَالْفَائِدَةُ فِي التَّعَارُفِ أَنْ يَنْتَسِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى نَسَبِهِ وَلَا يَعْتَرِي إِلَى غَيْرِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُمْ كَذَلِكَ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ لَا لِلتَّفَاخُرِ بِأَنْسَابِهِمْ، وَدَعْوَى أَنَّ هَذَا الشَّعْبَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الشَّعْبِ، وَهَذِهِ الْقَبِيلَةَ أَكْرَمُ مِنْ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ، وَهَذَا الْبَطْنَ أَشْرَفُ مِنْ هَذَا الْبَطْنِ. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّفَاخُرِ فَقَالَ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أَيْ: إِنَّ التَّفَاضُلَ بَيْنَكُمْ إِنَّمَا هُوَ بِالتَّقْوَى، فَمَنْ تَلَبَّسَ بِهَا فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ مِمَّنْ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِهَا وَأَشْرَفَ وَأَفْضَلَ، فَدَعُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ التَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ كَرَمًا وَلَا يُثْبِتُ شَرَفًا وَلَا يَقْتَضِي فَضْلًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ بِكَسْرِ إِنَّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِفَتْحِهَا، أَيْ: لِأَنَّ أَكْرَمَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِكُلِّ مَعْلُومٍ وَمِنْ ذَلِكَ أَعْمَالُكُمْ خَبِيرٌ بِمَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ لَهُ، وَكَانَ أَصْلُ التَّقْوَى الْإِيمَانَ ذَكَرَ مَا كَانَتْ تَقُولُهُ الْعَرَبُ مِنْ دَعْوَى الْإِيمَانِ لِيُثْبِتَ لَهُمُ الشَّرَفَ وَالْفَضْلَ، فَقَالَ: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا وَهُمْ بَنُو أَسَدٍ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فِي سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ يُرِيدُونَ الصَّدَقَةَ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَيْ: لَمْ تُصَدِّقُوا تَصْدِيقًا صَحِيحًا عَنِ اعْتِقَادِ قَلْبٍ وَخُلُوصِ نِيَّةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أَيِ: اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ

الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ أَوْ لِلطَّمَعِ فِي الصَّدَقَةِ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أَيْ: لَمْ يَكُنْ مَا أَظْهَرْتُمُوهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ عَنْ مُوَاطَأَةِ قُلُوبِكُمْ، بَلْ مُجَرَّدُ قَوْلٍ بِاللِّسَانِ مِنْ دُونِ اعْتِقَادٍ صَحِيحٍ وَلَا نِيَّةٍ خَالِصَةٍ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَفِي لَمَّا مَعْنَى التَّوَقُّعِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِسْلَامُ: إِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَقَبُولُ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ، وَبِذَلِكَ يُحْقَنُ الدَّمُ، فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ الْإِظْهَارِ اعْتِقَادٌ وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ فَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَصَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ. وَقَدْ أَخْرَجَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أَيْ: لَمْ تُصَدِّقُوا وَإِنَّمَا أَسْلَمْتُمْ تَعُوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ طَاعَةً صَحِيحَةً صَادِرَةً عَنْ نِيَّاتٍ خَالِصَةٍ، وَقُلُوبٍ مُصَدِّقَةٍ غَيْرِ مُنَافِقَةٍ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً يُقَالُ: لَاتَ يَلِتُ: إِذَا نَقَصَ، وَلَاتَهُ يَلِيتُهُ وَيَلُوتُهُ إِذَا نَقَصَهُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَنْقُصُكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَلِتْكُمْ مِنْ لَاتَهُ يَلِيتُهُ، كَبَاعَ يَبِيعُهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو لَا يَأْلِتْكُمْ بِالْهَمْزِ مِنْ أَلَتَهُ يَأْلِتُهُ بِالْفَتْحِ فِي الْمَاضِي وَالْكَسْرِ فِي الْمُضَارِعِ، وَاخْتَارَ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو أَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ «1» وَعَلَيْهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَبْلِغْ بَنِي أَسَدٍ «2» عَنِّي مُغَلْغَلَةً ... جَهْرَ الرِّسَالَةِ لَا أَلْتًا وَلَا كَذِبَا وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، وَعَلَيْهَا قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ: وَلَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُ ... وَلَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاهَا لَيْتُ وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ أَيْ: بَلِيغُ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ فَرَطَ مِنْهُ ذَنْبٌ رَحِيمٌ بَلِيغُ الرَّحْمَةِ لَهُمْ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَا دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ بَيَّنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يَعْنِي إِيمَانًا صَحِيحًا خَالِصًا عَنْ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أَيْ: لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الرَّيْبِ، وَلَا خَالَطَهُمْ شَكٌّ مِنَ الشُّكُوكِ وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: فِي طَاعَتِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْجِهَادِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، فَإِنَّهَا مِنْ جملة ما يجاهد المرء به نفسه حتى يقوم به ويؤدّيه كَمَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: هُمُ الصَّادِقُونَ أَيِ: الصَّادِقُونَ فِي الِاتِّصَافِ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ وَالدُّخُولِ فِي عِدَادِ أَهْلِهِ، لَا مَنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ بِلِسَانِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ بِالْإِيمَانِ قَلْبُهُ، وَلَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَعْنَاهُ، وَلَا عَمِلَ بِأَعْمَالِ أَهْلِهِ، وَهُمُ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ النِّفَاقِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لِأُولَئِكَ الْأَعْرَابِ وَأَمْثَالِهِمْ قَوْلًا آخَرَ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَقَالَ: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ التعليم ها هنا بمعنى الإعلام، ولهذا دخلت الباء في دينكم، أَيْ: أَتُخْبِرُونَهُ بِذَلِكَ حَيْثُ قُلْتُمْ آمَنَّا وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ

_ (1) . الطور: 21. (2) . في تفسير القرطبي (16/ 349) : ثعل.

فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ بُطْلَانُ مَا تَدَّعُونَهُ مِنَ الإيمان. والجملة من مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ تُعَلِّمُونَ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ، وَقَدْ عَلِمَ مَا تُبْطِنُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ وَتُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ لِخَوْفِ الضَّرَّاءِ وَرَجَاءِ النَّفْعِ. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِمَا يَقُولُهُ لَهُمْ عِنْدَ الْمَنِّ عَلَيْهِ مِنْهُمْ بِمَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أَيْ: يَعُدُّونَ إِسْلَامَهُمْ مِنَّةً عَلَيْكَ، حَيْثُ قَالُوا: جِئْنَاكَ بِالْأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ، وَلَمْ نُقَاتِلْكَ كَمَا قَاتَلَكَ بَنُو فُلَانٍ وَبَنُو فُلَانٍ قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أَيْ: لَا تَعُدُّوهُ عَلَيَّ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْمِنَّةُ الَّتِي لَا يطلب موليها ثَوَابًا لِمَنْ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أَيْ: أَرْشَدَكُمْ إِلَيْهِ وَأَرَاكُمْ طَرِيقَهُ، سَوَاءً وَصَلْتُمْ إِلَى الْمَطْلُوبِ أَمْ لَمْ تَصِلُوا إِلَيْهِ، وَانْتِصَابُ إِسْلَامَكُمْ إِمَّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى تَضْمِينِ يَمُنُّونَ مَعْنَى يَعُدُّونَ، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: لِأَنْ أَسْلَمُوا، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِيمَا تَدَّعُونَهُ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ عَلَيْكُمْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ هَداكُمْ بِفَتْحِ أَنْ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِكَسْرِهَا. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: مَا غَابَ فِيهِمَا وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِالْخَيْرِ خَيْرًا وَبِالشَّرِّ شَرًّا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَعْمَلُونَ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ رَقِيَ بِلَالٌ فَأَذَّنَ عَلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: أَهَذَا الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ يُؤَذِّنُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ؟! وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ يَسْخَطِ اللَّهُ هَذَا يُغَيِّرْهُ، فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي بَيَاضَةَ أَنْ يُزَوِّجُوا أَبَا هِنْدٍ امْرَأَةً مِنْهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُزَوِّجُ بَنَاتِنَا مُوَالِيَنَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ هَذِهِ الآية يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى هِيَ مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ لِلْعَرَبِ خَاصَّةً الْمَوَالِيَ، أَيُّ قَبِيلَةٍ لَهُمْ، وَأَيُّ شِعَابٍ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ قال: أَتْقَاكُمْ لِلشِّرْكِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشُّعُوبُ: الْقَبَائِلُ الْعِظَامُ، وَالْقَبَائِلُ: الْبُطُونُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الشُّعُوبُ: الْجُمَّاعُ، وَالْقَبَائِلُ: الْأَفْخَاذُ الَّتِي يَتَعَارَفُونَ بِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْقَبَائِلُ الْأَفْخَاذُ، وَالشُّعُوبُ: الْجُمْهُورُ مِثْلُ مُضَرَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ. قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ. قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا» وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ الَّتِي يَتَفَاضَلُ بِهَا الْعِبَادُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قَالَ: أَعْرَابُ

بَنِي أَسَدٍ وَخُزَيْمَةَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا استسلمنا «1» مَخَافَةَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي أَسَدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: أَنَّ نَاسًا مِنَ الْعَرَبِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نُقَاتِلْكَ كَمَا قَاتَلَكَ بَنُو فُلَانٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ بَنُو أَسَدٍ.

_ (1) . من الدر المنثور (7/ 582) .

سورة ق

سورة ق وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٌ وَجَابِرٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ وَهِيَ أَوَّلُ الْمُفَصَّلِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: مِنَ الْحُجُرَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ ق بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقرأ في العيد بقاف واقتربت» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُمِّ هِشَامٍ ابْنَةِ حَارِثَةَ قَالَتْ: مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إِلَّا مِنْ فِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقْرَأُ بِهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ. وَهُوَ فِي صحيح مسلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) قَوْلُهُ: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ هَذَا كَالْكَلَامِ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. وفي قوله: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ واختلف في ق، فقال الواقدي: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ اسْمُ جَبَلٍ يُحِيطُ بِالدُّنْيَا من زبرجد والسماء مقبيّة عَلَيْهِ، وَهُوَ وَرَاءَ الْحِجَابِ الَّذِي تَغِيبُ الشَّمْسُ مِنْ وَرَائِهِ بِمَسِيرَةِ سَنَةٍ «1» . قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَظْهَرَ الْإِعْرَابُ فِي ق لأنه اسم، وليس بهجاء. قال:

_ (1) . قال أبو حيان: (ق) حرف هجاء، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولا متعارضة، لا دليل على صحة شيء منها.

وَلَعَلَّ الْقَافَ وَحْدَهَا ذُكِرَتْ مِنِ اسْمِهِ كَقَوْلِ القائل: قلت لها قفي لنا قالت قَافِ أَيْ: أَنَا وَاقِفَةٌ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: أَنَّ قَوْمًا قَالُوا مَعْنَى ق: قُضِيَ الْأَمْرُ وَقُضِيَ مَا هُوَ كَائِنٌ، كَمَا قِيلَ فِي حم: حُمَّ الْأَمْرُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَقْسَمَ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: فَاتِحَةُ السُّورَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ مَعْنَاهُ: قِفْ عند أمرنا ونهينا ولا تتعداهما، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَمَا حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمَعْنَى الْمَجِيدِ: أَنَّهُ ذُو مَجْدٍ وَشَرَفٍ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكَرِيمُ، وَقِيلَ: الرَّفِيعُ الْقَدْرِ، وَقِيلَ: الْكَبِيرُ الْقَدْرِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ هُوَ قَوْلُهُ: بَلْ عَجِبُوا وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: ق والقرآن المجيد لتبعثن، يدلّ عليه أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ جَوَابُهُ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ وَقِيلَ هُوَ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ، أَيْ: لَقَدْ عَلِمْنَا، وَقِيلَ: هُوَ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ، كَأَنَّهُ قِيلَ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ النَّاسَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ قَافْ بِالسُّكُونِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ بِفَتْحِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ هَارُونُ وَمُحَمَّدُ بن السّميع بِالضَّمِّ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ بَلْ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْجَوَابِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ، وأن فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ: لِأَنْ جَاءَهُمْ. وَالْمَعْنَى: بَلْ عَجِبَ الْكُفَّارُ لِأَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ وَالرَّدِّ، بَلْ جَعَلُوا ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ، وَقِيلَ: هُوَ إِضْرَابٌ عَنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ مَجِيدًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ ص. ثُمَّ فَسَّرَ مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ مِنْ كَوْنِهِمْ عَجِبُوا بِقَوْلِهِ: فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ وَفِيهِ زِيَادَةُ تَصْرِيحٍ وَإِيضَاحٍ. قَالَ قَتَادَةُ: عَجَبُهُمْ أَنْ دُعُوا إِلَى إِلَهٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: تَعَجُّبُهُمْ مِنَ الْبَعْثِ، فَيَكُونُ لَفْظُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى مُبْهَمٍ يفسره ما بعده من قوله: أَإِذا مِتْنا إِلَخْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الرَّازِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَجِيءِ الْمُنْذِرِ، ثم قالوا: أَإِذا مِتْنا وأيضا قد وجد ها هنا بَعْدَ الِاسْتِبْعَادِ بِالِاسْتِفْهَامِ أَمْرٌ يُؤَدِّي مَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ فَإِنَّهُ اسْتِبْعَادٌ وَهُوَ كَالتَّعَجُّبِ، فَلَوْ كَانَ التَّعَجُّبُ بِقَوْلِهِمْ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ عائدا إلى قولهم: «أإذا» لَكَانَ كَالتَّكْرَارِ، فَإِنْ قِيلَ: التَّكْرَارُ الصَّرِيحُ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِكَ: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى مَجِيءِ الْمُنْذِرِ، فَإِنَّ تَعَجُّبَهُمْ مِنْهُ عُلِمَ من قوله: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ فقولهم: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ يَكُونُ تَكْرَارًا، فَنَقُولُ: ذَلِكَ لَيْسَ بِتَكْرَارٍ، بَلْ هُوَ تَقْرِيرٌ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ بَلْ عَجِبُوا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَجَازَ أَنْ يَتَعَجَّبَ الْإِنْسَانُ مِمَّا لَا يَكُونُ عَجَبًا، كَقَوْلِهِ: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ: لَا وَجْهَ لِتَعَجُّبِكَ مِمَّا لَيْسَ بِعَجَبٍ، فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا عَجِبُوا قِيلَ لَهُمْ: لَا مَعْنَى لِتَعَجُّبِكُمْ، فَقَالُوا: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ فَكَيْفَ لَا نَعْجَبُ مِنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله ها هنا: فَقالَ الْكافِرُونَ بِالْفَاءِ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مترتّب على ما قدّم، قرأ الجمهور أَإِذا مِتْنا بِالِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْأَعْرَجُ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيُحْتَمَلُ الِاسْتِفْهَامُ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ،

وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مُقَدَّرٌ، أَيْ: أَيَبْعَثُنَا، أَوْ أَنَرْجِعُ إِذَا مِتْنَا لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: رَجَعْنَا، وَقِيلَ: ذَلِكَ رَجْعٌ، وَالْمَعْنَى: اسْتِنْكَارُهُمْ لِلْبَعْثِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَمَصِيرِهِمْ تُرَابًا. ثُمَّ جَزَمُوا بِاسْتِبْعَادِهِمْ لِلْبَعْثِ فَقَالُوا: ذلِكَ أَيِ: الْبَعْثُ رَجْعٌ بَعِيدٌ أَيْ: بَعِيدٌ عَنِ الْعُقُولِ أَوِ الْأَفْهَامِ أَوِ الْعَادَةِ أَوِ الْإِمْكَانِ، يُقَالُ: رَجَعْتُهُ أَرْجِعُهُ رَجْعًا، وَرَجَعَ هُوَ يَرْجِعُ رُجُوعًا. ثُمَّ رَدَّ سُبْحَانَهُ مَا قَالُوهُ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أَيْ: مَا تَأْكُلُ مِنْ أَجْسَادِهِمْ فَلَا يَضِلُّ عَنَّا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بشيء حَتَّى انْتَهَى إِلَى عِلْمِ مَا يَذْهَبُ مِنْ أَجْسَادِ الْمَوْتَى فِي الْقُبُورِ لَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ الْبَعْثُ وَلَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: النَّقْصُ هُنَا الْمَوْتُ، يَقُولُ: قَدْ عَلِمْنَا مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ وَمَنْ يَبْقَى لِأَنَّ مَنْ مَاتَ دُفِنَ، فَكَأَنَّ الْأَرْضَ تَنْقُصُ مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ أَيْ: حَافِظٌ لِعِدَّتِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ وَلِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ اللَّوْحُ المحفوظ، وقيل: المراد بالكتاب هنا العلم والإحصاء، والأوّل أولى. وقيل: حفيظ بمعنى محفوظ، أَيْ: مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَوْ مَحْفُوظٌ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ. ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنْ كَلَامِهِمُ الْأَوَّلِ، وَانْتَقَلَ إِلَى مَا هُوَ أَشْنَعُ مِنْهُ، فَقَالَ: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ تَصْرِيحٌ مِنْهُمْ بالتكذيب بعد ما تقدّم عنهم من الاستبعاد، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا الْقُرْآنُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَقِيلَ: هُوَ الْإِسْلَامُ، وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ الثَّابِتَةُ بِالْمُعْجِزَاتِ لَمَّا جاءَهُمْ أَيْ: وَقْتَ مَجِيئِهِ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَفَكُّرٍ وَلَا إِمْعَانِ نَظَرٍ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أَيْ: مُخْتَلِطٍ مُضْطَرِبٍ، يَقُولُونَ مَرَّةً سَاحِرٌ، وَمَرَّةً شَاعِرٌ، وَمَرَّةً كَاهِنٌ قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُخْتَلِفٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُلْتَبِسٌ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَقِيلَ: فَاسِدٌ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَرَجَتْ أَمَانَاتُ النَّاسِ: أَيْ فَسَدَتْ، وَمَرَجَ الدِّينُ وَالْأَمْرُ اخْتَلَطَ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ أي: الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ: أَيْ كَيْفَ غَفَلُوا عَنِ النَّظَرِ إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَجَعَلْنَاهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مَرْفُوعَةً بِغَيْرِ عِمَادٍ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَزَيَّنَّاها بِمَا جَعَلْنَا فِيهَا مِنَ الْمَصَابِيحِ وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أَيْ: فُتُوقٍ وَشُقُوقٍ وَصُدُوعٍ، وَهُوَ جَمْعُ فَرْجٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ القيس: تسدّ بِهِ فَرْجَهَا مِنْ دُبُرْ «1» قَالَ الْكِسَائِيُّ: لَيْسَ فِيهَا تَفَاوُتٌ وَلَا اخْتِلَافٌ وَلَا فُتُوقٌ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أَيْ: بَسَطْنَاهَا وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أَيْ: جِبَالًا ثَوَابِتَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أَيْ: مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ هُمَا عِلَّتَانِ لِمَا تَقَدَّمَ مُنْتَصِبَانِ بِالْفِعْلِ الْأَخِيرِ مِنْهَا، أَوْ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ: فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا لِلتَّبْصِيرِ وَالتَّذْكِيرِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: انْتَصَبَا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: جَعَلْنَا ذَلِكَ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى. وَالْمُنِيبُ الرَّاجِعُ إلى الله بالتوبة،

_ (1) . وصدره: لها ذنب مثل ذيل العروس.

الْمُتَدَبِّرُ فِي بَدِيعِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِ مَخْلُوقَاتِهِ. وَفِي سياق هذه الآيات تَذْكِيرٌ لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ وَإِيقَاظٌ لَهُمْ عَنْ سُنَّةِ الْغَفْلَةِ، وَبَيَانٌ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ وَعَدَمِ امْتِنَاعِهِ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً أَيْ: نَزَّلْنَا مِنَ السَّحَابِ مَاءً كَثِيرَ الْبَرَكَةِ لِانْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِ فِي غَالِبِ أُمُورِهِمْ فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ أَيْ: أَنْبَتْنَا بِذَلِكَ الْمَاءِ بَسَاتِينَ كَثِيرَةً وَحَبَّ الْحَصِيدِ أَيْ: مَا يُقْتَاتُ وَيُحْصَدُ مِنَ الْحُبُوبِ، وَالْمَعْنَى: وَحَبَّ الزَّرْعِ الْحَصِيدِ، وَخُصَّ الْحَبُّ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، كَذَا قَالَ الْبَصْرِيُّونَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ كَمَسْجِدِ الْجَامِعِ، حَكَاهُ الْفَرَّاءُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: حَبُّ الْحَصِيدِ: الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ، وَقِيلَ: كُلُّ حَبٍّ يُحْصَدُ وَيُدَّخَرُ وَيُقْتَاتُ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جَنَّاتٍ أَيْ: وَأَنْبَتْنَا بِهِ النَّخْلَ، وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهَا فِي الْجَنَّاتِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى فَضْلِهَا عَلَى سَائِرِ الْأَشْجَارِ، وَانْتِصَابُ بَاسِقَاتٍ عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ لِأَنَّهَا وَقْتَ الْإِنْبَاتِ لَمْ تَكُنْ بَاسِقَةً. قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: الْبَاسِقَاتُ: الطِّوَالُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُسْتَوِيَاتٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالْفَرَّاءُ: مواقير حوامل، يقال للشاة بسقت إذا وَلَدَتْ، وَالْأَشْهَرُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْأَوَّلُ، يُقَالُ: بَسَقَتِ النَّخْلَةُ بُسُوقًا إِذَا طَالَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ ... وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجِ الْبَاسِقَاتِ كِرَامٍ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولًا ... وَفَاتَ ثِمَارُهَا أَيْدِي الْجُنَاةِ وَجُمْلَةُ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ من النخل، والطلع: هُوَ أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ، يُقَالُ: طَلَعَ الطَّلْعُ طُلُوعًا. وَالنَّضِيدُ: الْمُتَرَاكِبُ الَّذِي نُضِّدَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْفَتِحَ فَهُوَ نَضِيدٌ فِي أَكْمَامِهِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَكْمَامِهِ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ رِزْقاً لِلْعِبادِ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: رَزَقْنَاهُمْ رِزْقًا، أَوْ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: أَنْبَتْنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِلرِّزْقِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أَيْ: أَحْيَيْنَا بِذَلِكَ الْمَاءِ بَلْدَةً مُجْدِبَةً لَا ثِمَارَ فِيهَا وَلَا زَرْعَ، وَجُمْلَةُ كَذلِكَ الْخُرُوجُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْقُبُورِ عِنْدَ الْبَعْثِ كَمِثْلِ هَذَا الْإِحْيَاءِ الَّذِي أَحْيَا اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَيْتاً عَلَى التَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَخَالِدٌ بِالتَّثْقِيلِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ فَقَالَ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ جَاءَهُمْ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى، وَهُمْ مِنْ قَوْمِ عِيسَى. وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ. وَالرَّسُّ: إِمَّا مَوْضِعٌ نُسِبُوا إِلَيْهِ، أَوْ فِعْلٌ، وَهُوَ حَفْرُ الْبِئْرِ، يُقَالُ: رَسَّ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا وَثَمُودُ- وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ أَيْ: فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَإِخْوانُ لُوطٍ جَعَلَهُمْ إِخْوَانَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْهَارَهُ، وَقِيلَ: هُمْ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانُوا مِنْ مَعَارِفِ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَيْكَةِ، وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِيهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مُسْتَوْفًى، وَنَبِيُّهُمُ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ شُعَيْبٌ وَقَوْمُ تُبَّعٍ هُوَ تَبَّعٌ الْحِمْيَرِيُّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَاسْمُهُ سَعْدٌ أَبُو كَرْبٍ، وَقِيلَ: أَسْعَدُ. قَالَ قَتَادَةُ: ذَمَّ اللَّهُ قَوْمَ تُبَّعٍ، وَلَمْ يَذُمَّهُ. كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ التَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ كَذَّبَ رَسُولَهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَكَذَّبَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ، وَاللَّامُ فِي الرُّسُلِ تكون للعهد،

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ أَيْ: كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ كَذَّبَتْ جَمِيعَ الرُّسُلِ، وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ فِي كَذَّبَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ كُلٌّ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لَا تَحْزَنْ وَلَا تُكْثِرْ غَمَّكَ لِتَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ لَكَ، فَهَذَا شَأْنُ مَنْ تَقَدَّمَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ فَحَقَّ وَعِيدِ أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَعِيدِي، وَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَحَلَّ بِهِمْ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالْإِهْلَاكِ بِالْأَنْوَاعِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ بِهِمْ مِنْ عَذَابِهِ أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ أَمْرِ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرَتْهُ الْأُمَمُ أَيْ: أَفَعَجَزْنَا بِالْخَلْقِ حِينَ خَلَقْنَاهُمْ أَوَّلًا وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا، فَكَيْفَ نَعْجِزُ عَنْ بَعْثِهِمْ، يُقَالُ: عَيِيتُ بِالْأَمْرِ إِذَا عَجَزْتُ عَنْهُ وَلَمْ أَعْرِفْ وَجْهَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بكسر الياء الأولى بعدها ياء ساكنة. وقرأ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْبَعْثِ، فَقَالَ: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أَيْ: فِي شَكٍّ وَحَيْرَةٍ وَاخْتِلَاطٍ مِنْ خَلْقٍ مُسْتَأْنَفٍ، وَهُوَ بَعْثُ الْأَمْوَاتِ، وَمَعْنَى الْإِضْرَابِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْكِرِينَ لِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ق قَالَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الْأَرْضِ بَحْرًا مُحِيطًا، ثُمَّ خَلَقَ وَرَاءَ ذَلِكَ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ: ق، السَّمَاءُ الدُّنْيَا مُرَفْرِفَةٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ الْجَبَلِ أَرْضًا مِثْلَ تِلْكَ الْأَرْضِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ بَحْرًا مُحِيطًا بِهَا، ثُمَّ خَلَقَ وَرَاءَ ذَلِكَ جبلا، يقال له قاف، السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ مُرَفْرِفَةٌ عَلَيْهِ، حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرَضِينَ وَسَبْعَةَ أَبْحُرٍ وَسَبْعَةَ أَجْبُلٍ وَسَبْعَ سَمَاوَاتٍ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ «1» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَيْضًا: وَفِيهِ انْقِطَاعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُوَ جَبَلٌ، وَعُرُوقُهُ إِلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَرْضُ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُزَلْزِلَ قَرْيَةً أَمَرَ ذَلِكَ الْجَبَلَ فَحَرَّكَ ذَلِكَ الْعِرْقَ الَّذِي يَلِي تِلْكَ الْقَرْيَةَ فَيُزَلْزِلُهَا وَيُحَرِّكُهَا، فَمِنْ ثَمَّ يُحَرِّكُ الْقَرْيَةَ دُونَ الْقَرْيَةِ «2» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قَالَ: الْكَرِيمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ لَيْسَ شَيْءٌ أَحْسَنَ مِنْهُ وَلَا أَفْضَلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ قَالَ: أَجْسَادُهُمْ وَمَا يَذْهَبُ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: مَا تَأْكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَعِظَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْمَرِيجُ: الشَّيْءُ الْمُتَغَيِّرُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ قُطْبَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ ق، فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ فَجَعَلْتُ أَقُولُ: مَا بُسُوقُهَا؟ قَالَ: طُولُهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ قَالَ: الطُّولُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ قال: متراكم بعضه على بعض. وأخرج

_ (1) . لقمان: 27. (2) . هذا الكلام لا يستند إلى أصل شرعي ويتنافى مع الحقائق العلمية فلا يعتد به.

[سورة ق (50) : الآيات 16 إلى 35]

ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ يَقُولُ: لَمْ يعينا الْخَلْقُ الْأَوَّلُ، وَفِي قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ فِي شَكٍّ مِنَ البعث. [سورة ق (50) : الآيات 16 الى 35] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) قَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ بَعْضِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ، وَقِيلَ: آدَمُ. وَالْوَسْوَسَةُ هِيَ فِي الْأَصْلِ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَا يَخْتَلِجُ فِي سِرِّهِ وَقَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ، أَيْ: نَعْلَمُ مَا يُخْفِي وَيُكِنُّ فِي نَفْسِهِ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الْوَسْوَسَةِ فِي الصَّوْتِ الْخَفِيِّ قَوْلُ الْأَعْشَى: تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا انْصَرَفَتْ «1» فَاسْتُعْمِلَ لِمَا خَفِيَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ هُوَ حَبْلُ الْعَاتِقِ، وَهُوَ مُمْتَدٌّ مِنْ نَاحِيَةِ حَلْقِهِ إِلَى عَاتِقِهِ، وَهُمَا وَرِيدَانِ مِنْ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَرِيدُ الْوَتِينُ، وَهُوَ عِرْقٌ مُعَلَّقٌ بِالْقَلْبِ. وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلْقُرْبِ بِقُرْبِ ذَلِكَ الْعِرْقِ مِنَ الْإِنْسَانِ، أَيْ: نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ: حَبْلٌ هُوَ الْوَرِيدُ. وَقِيلَ: الْحَبْلُ هُوَ نَفْسُ الْوَرِيدِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ مَسْجِدِ الْجَامِعِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَكَّلَ بِهِ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ وَيَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ فَقَالَ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ الظَّرْفُ مُنْتَصِبٌ بِمَا فِي أَقْرَبُ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِمُقَدَّرٍ هُوَ اذكر، والمعنى: أنه أقرب إليه من حيل وَرِيدِهِ حِينَ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ، وَهُمَا الْمَلَكَانِ الْمُوَكَّلَانِ بِهِ مَا يَلْفِظُ بِهِ وَمَا يَعْمَلُ بِهِ، أَيْ: يَأْخُذَانِ ذَلِكَ وَيُثْبِتَانِهِ، وَالتَّلَقِّي: الْأَخْذُ، أَيْ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِهِ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ إِلَى الْحَفَظَةِ الموكّلين به، وإنما جعلنا

_ (1) . وعجزه: كما استعان بريح عشرق زجل.

ذَلِكَ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ وَتَوْكِيدًا لِلْأَمْرِ. قَالَ الْحَسَنُ وقتادة ومجاهد: المتلقيان: ملكان يتلقيان عملك أحد هما عَنْ يَمِينِكَ يَكْتُبُ حَسَنَاتِكَ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ يَكْتُبُ سَيِّئَاتِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: وَكَّلَ اللَّهُ بِالْإِنْسَانِ مَلَكَيْنِ بِاللَّيْلِ وَمَلَكَيْنِ بِالنَّهَارِ يَحْفَظَانِ عَمَلَهُ وَيَكْتُبَانِ أَثَرَهُ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ إِنَّمَا قَالَ قَعِيدٌ وَلَمْ يَقُلْ قَعِيدَانِ وَهُمَا اثْنَانِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. فَحَذَفَ الْأَوَّلَ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ «1» : نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وقول الفرزدق: وأبي فكان وكنت غير غدور «2» أي: وكان غير غدور وكنت غير غدور، وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ لَفْظَ قَعِيدٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ فِي الْأَوَّلِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ: فَعِيلٌ وَفَعُولٌ مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ، وَالْقَعِيدُ: الْمُقَاعِدُ كَالْجَلِيسِ بِمَعْنَى الْمُجَالِسِ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أَيْ: مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ كَلَامٍ، فَيَلْفِظُهُ وَيَرْمِيهِ مِنْ فِيهِ إِلَّا لَدَيْهِ، أَيْ: على ذَلِكَ اللَّافِظِ رَقِيبٌ، أَيْ: مَلَكٌ يَرْقُبُ قَوْلَهُ وَيَكْتُبُهُ، وَالرَّقِيبُ: الْحَافِظُ الْمُتَتَبِّعُ لِأُمُورِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَكْتُبُ مَا يَقُولُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَكَاتِبُ الْخَيْرِ هُوَ مَلَكُ الْيَمِينِ، وَكَاتِبُ الشَّرِّ مَلَكُ الشِّمَالِ. وَالْعَتِيدُ: الْحَاضِرُ الْمُهَيَّأُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَتِيدُ: الحاضر المهيأ، يقال: عتّده تعتيدا وأعتده إعتادا، أي: أعدّه، ومنه: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً «3» وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْكِتَابَةِ مُهَيَّأٌ لَهَا وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أن جميع أعمالهم مَحْفُوظَةٌ مَكْتُوبَةٌ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَالْمُرَادُ بِسَكْرَةِ الْمَوْتِ شِدَّتُهُ وَغَمْرَتُهُ الَّتِي تَغْشَى الْإِنْسَانَ وَتَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ، وَمَعْنَى بِالْحَقِّ: أَنَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ يَتَّضِحُ لَهُ الْحَقُّ وَيَظْهَرُ لَهُ صِدْقُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْبَعْثِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَقِيلَ: الْحَقُّ هُوَ الْمَوْتُ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أي: وجاءت سكرة الموت بالحق، وَكَذَا قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَالسَّكْرَةُ: هِيَ الْحَقُّ، فَأُضِيفَتْ إِلَى نَفْسِهَا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «4» أي: متلبسة بِالْحَقِّ، أَيْ: بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْحَيْدُ: الْمَيْلُ، أَيْ: ذَلِكَ الْمَوْتُ الَّذِي كُنْتَ تَمِيلُ عَنْهُ وَتَفِرُّ مِنْهُ، يُقَالُ: حَادَ عَنِ الشَّيْءِ يَحِيدُ حُيُودًا وَحِيدَةً وَحَيْدُودَةً مَالَ عَنْهُ وَعَدَلَ، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ: أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْوَفَاءَ فَهِبْتَهُ ... وَحِدْتَ كَمَا حَادَ البعير عن الدّحض

_ (1) . هو قيس بن الخطيم. (2) . وصدره: إنّي ضمنت لمن أتاني ما جنى. (3) . يوسف: 31. [.....] (4) . المؤمنون: 20.

وَقَالَ الْحَسَنُ: تَحِيدُ: تَهْرُبُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَهَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الْآخِرَةُ لِلْبَعْثِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أَيْ: ذَلِكَ الْوَقْتُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ النَّفْخُ فِي الصُّورِ يَوْمُ الْوَعِيدِ الَّذِي أَوْعَدَ اللَّهُ بِهِ الْكُفَّارَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْوَعِيدِ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَخَصَّصَ الْوَعِيدَ مَعَ كَوْنِ الْيَوْمِ هُوَ يَوْمُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ جَمِيعًا لِتَهْوِيلِهِ وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ أَيْ: جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مِنَ النُّفُوسِ مَعَهَا مَنْ يَسُوقُهَا وَمَنْ يَشْهَدُ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا. وَاخْتُلِفَ فِي السَّائِقِ وَالشَّهِيدِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: السَّائِقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالشَّهِيدُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: يَعْنِي الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: سَائِقٌ يَسُوقُهَا وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا. وَقَالَ ابْنُ مُسْلِمٍ: السَّائِقُ قَرِينُهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ، سمّي سائقها لِأَنَّهُ يَتْبَعُهَا وَإِنْ لَمْ يَحُثَّهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: السَّائِقُ وَالشَّهِيدُ مَلَكَانِ. وَقِيلَ: السَّائِقُ الْمَلَكُ، وَالشَّهِيدُ الْعَمَلُ، وَقِيلَ: السَّائِقُ كَاتِبُ السَّيِّئَاتِ، وَالشَّهِيدُ كَاتِبُ الْحَسَنَاتِ. وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا أَيْ: يُقَالُ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا، والجملة في محل نصب على الحال من نَفْسٍ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ مَا يُقَالُ له؟ قال الضحاك: والمراد بِهَذَا الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَفْلَةٍ مِنْ عَوَاقِبِ أُمُورِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: لَقَدْ كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ فِي غَفْلَةٍ مِنَ الرِّسَالَةِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ كُنْتَ وفتح الكاف في غطاءك وبصرك، حَمْلًا عَلَى مَا فِي لَفْظِ كُلٍّ مِنَ التَّذْكِيرِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِالْكَسْرِ فِي الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ النَّفْسُ فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا، يَعْنِي: رَفَعْنَا الْحِجَابَ الَّذِي كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَرَفَعْنَا مَا كُنْتَ فِيهِ مِنَ الْغَفْلَةِ عَنْ ذَلِكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أَيْ: نَافِذٌ تبصر به ما كان يخفى عليك في الدُّنْيَا. قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِالْغِطَاءِ أَنَّهُ كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَوُلِدَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي الْقَبْرِ فَنُشِرَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْبَصَرُ قِيلَ: هُوَ بَصَرُ الْقَلْبِ، وَقِيلَ: بَصَرُ الْعَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَصَرُكَ إِلَى لِسَانِ مِيزَانِكَ حِينَ تُوزَنُ حَسَنَاتُكَ وَسَيِّئَاتُكَ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ. وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَيْ: قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: هَذَا مَا عِنْدِي مِنْ كِتَابِ عَمَلِكَ عَتِيدٌ حَاضِرٌ قَدْ هَيَّأْتُهُ، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْمَلَكَ يَقُولُ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ: هَذَا الَّذِي وَكَّلْتَنِي بِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ قَدْ أَحْضَرْتُهُ وَأَحْضَرْتُ دِيوَانَ عَمَلِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ قَرِينَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، يَقُولُ ذَلِكَ، أَيْ: هَذَا مَا قَدْ هَيَّأْتُهُ لَكَ بِإِغْوَائِي وَإِضْلَالِي. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْمُرَادَ هُنَا قَرِينُهُ مِنَ الْإِنْسِ، وعتيد مرفوع على أنه صفة لما إِنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً، وَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً فَهُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلسَّائِقِ وَالشَّهِيدِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا أَمْرٌ لِلْمَلَكَيْنِ الْمُوَكَّلَيْنِ بِهِ، وَهُمَا السَّائِقُ وَالشَّاهِدُ. «كُلَّ كُفَّارٍ» لِلنِّعَمِ، «عَنِيدٍ» مُجَانِبٍ لِلْإِيمَانِ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ لَا يَبْذُلُ خَيْرًا مُعْتَدٍ ظَالِمٍ لَا يُقِرُّ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ مُرِيبٍ شَاكٍّ فِي الْحَقِّ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرَابَ الرَّجُلُ إِذَا صَارَ ذَا رَيْبٍ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمَلَكَيْنِ مِنْ خَزَنَةِ النَّارِ، وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِوَاحِدٍ عَلَى تَنْزِيلِ تَثْنِيَةِ الْفَاعِلِ مَنْزِلَةَ تَثْنِيَةِ الْفِعْلِ وَتَكْرِيرِهِ. قَالَ الْخَلِيلُ وَالْأَخْفَشُ: هَذَا كَلَامُ الْعَرَبِ الصَّحِيحُ أَنْ يُخَاطَبَ الْوَاحِدُ بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ

يَقُولُونَ: ارْحَلَاهَا وَازْجُرَاهَا، وَخُذَاهُ وَأَطْلِقَاهُ لِلْوَاحِدِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِلْوَاحِدِ: قُومَا عَنَّا. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ أَدْنَى أَعْوَانِ الرَّجُلِ فِي إِبِلِهِ وَغَنَمِهِ وَرُفْقَتِهِ فِي سَفَرِهِ اثْنَانِ، فَجَرَى كَلَامُ الرَّجُلِ لِلْوَاحِدِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلْوَاحِدِ في الشعر: خليليّ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي عَلَى أُمِّ جُنْدَبِ ... نُقَضِّ لُبَانَاتِ الْفُؤَادِ الْمُعَذَّبِ وَقَوْلِهِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ ... بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدُّخُولِ فَحَوْمَلِ وَقَوْلِ الْآخَرِ «1» : فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ ... وَإِنْ تدعاني أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعَا قَالَ الْمَازِنِيُّ: قَوْلُهُ: أَلْقِيا يَدُلُّ عَلَى أَلْقِ أَلْقِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ تَثْنِيَةٌ عَلَى التَّوْكِيدِ، فَنَابَ «أَلْقِيَا» مَنَابَ أَلْقِ أَلْقِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: الْعَنِيدُ: الْمُعَانِدُ لِلْحَقِّ، وَقِيلَ: الْمُعْرِضُ عَنِ الْحَقِّ، يُقَالُ: عَنَدَ يَعْنِدُ بِالْكَسْرِ عُنُودًا إِذَا خَالَفَ الْحَقَّ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ كُلَّ، أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ، أَوْ بَدَلًا مِنْ كَفَّارٍ، أَوْ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ أو الخبر فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ تأكيدا لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ ما يقوله القريب، وَالْمُرَادُ بِالْقَرِينِ هُنَا الشَّيْطَانُ الَّذِي قُيِّضَ لِهَذَا الْكَافِرِ، أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَطْغَاهُ، ثُمَّ قَالَ: وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أَيْ: عَنِ الْحَقِّ فَدَعَوْتُهُ فَاسْتَجَابَ لِي، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ لَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّ قَرِينَهُ الْمَلَكُ الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ سَيِّئَاتِهِ. وَإِنَّ الْكَافِرَ يَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ أَعْجَلَنِي فَيُجِيبُهُ بِهَذَا، كَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ اللَّهُ؟ فَقِيلَ: قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ يعني الكافرين وقرنائهم، نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ عَنْ الِاخْتِصَامِ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ، وَجُمْلَةُ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أن قد قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَالْبَاءُ فِي «بِالْوَعِيدِ» مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ قَدَّمَ مَعْنَى تَقَدَّمَ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أَيْ: لَا خُلْفَ لِوَعْدِي، بَلْ هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ قَضَيْتُ عَلَيْكُمْ بِالْعَذَابِ فَلَا تَبْدِيلَ لَهُ، وَقِيلَ: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُهُ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها «2» وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «3» وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ مَا يُكَذَّبُ عِنْدِي بِزِيَادَةٍ فِي الْقَوْلِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ لِعِلْمِي بِالْغَيْبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. وَاخْتَارَهُ الْوَاحِدِيُّ لِأَنَّهُ قَالَ لَدَيَّ وَلَمْ يَقُلْ: وَمَا يُبَدَّلُ قَوْلِي، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: إِنَّ مفعول قدّمت

_ (1) . الشاعر هو سويد بن كراع، والبيت في الأغاني (11/ 123) ، وشرح المعلقات السبع للزوزني ص (33) . (2) . الأنعام: 160. (3) . هود: 119.

إِلَيْكُمْ هُوَ مَا يُبَدَّلُ، أَيْ: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ هُوَ مَا يُبَدَّلُ، أَيْ: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ مُلْتَبِسًا بِالْوَعِيدِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أَيْ: لَا أُعَذِّبُهُمْ ظُلْمًا بِغَيْرِ جُرْمٍ اجْتَرَمُوهُ وَلَا ذَنْبٍ أَذْنَبُوهُ. وَلَمَّا كَانَ نَفْيُ الظَّلَّامِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ مُجَرَّدِ الظُّلْمِ قِيلَ: إِنَّهُ هُنَا بِمَعْنَى الظالم كالثمّار بمعنى الثامر. وَقِيلَ: إِنَّ صِيغَةَ الْمُبَالَغَةِ لِتَأْكِيدِ هَذَا الْمَعْنَى بِإِبْرَازِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّعْذِيبِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ فِي مَعْرِضِ الْمُبَالَغَةِ فِي الظُّلْمِ. وَقِيلَ: صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ لِرِعَايَةِ جَمْعِيَّةِ الْعَبِيدِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ ظَالِمٌ لِعَبْدِهِ وَظَلَّامٌ لِعَبِيدِهِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ نَقُولُ بِالنُّونِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «أَقُولُ» . وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: «يُقَالُ» وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أَوْ مَحْذُوفٌ، أَيِ: اذْكُرْ، أَوْ أَنْذِرْهُمْ، وَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ، وَلَا سُؤَالَ وَلَا جَوَابَ، كَذَا قِيلَ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّحْقِيقِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أراها الله تصديق قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ فَلَمَّا امْتَلَأَتْ قَالَ لَهَا: هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أَيْ: قَدِ امْتَلَأْتُ وَلَمْ يَبْقَ فِيَّ مَوْضِعٌ لَمْ يَمْتَلِئْ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ بِمَعْنَى الِاسْتِزَادَةِ، أَيْ: إِنَّهَا تَطْلُبُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَنْ قَدْ صَارَ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا طَلَبَتْ أَنْ يُزَادَ فِي سعتها لتضايقها بأهلها، والمزيد إما مصدر كالمجيد، أَوِ اسْمُ مَفْعُولٍ كَالْمَنِيعِ، فَالْأَوَّلُ بِمَعْنَى: هَلْ مِنْ زِيَادَةٍ، وَالثَّانِي بِمَعْنَى: هَلْ مِنْ شَيْءٍ تَزِيدُونِيهِ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْكَافِرِينَ شَرَعَ فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ أَيْ: قُرِّبَتِ لِلْمُتَّقِينَ تَقْرِيبًا غَيْرَ بَعِيدٍ أَوْ مَكَانٌ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنْهُمْ، بِحَيْثُ يُشَاهِدُونَهَا فِي الْمَوْقِفِ، وَيَنْظُرُونَ مَا فِيهَا مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُ غَيْرَ بَعِيدٍ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهَا زَيَّنَتْ قُلُوبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَصَارَتْ قَرِيبَةً مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا مَا تُوعَدُونَ إلى الجنة التي أزلفت لهم، على معنى: هذا الّذي ترونه من فنون نعيمها ما توعدون، والجملة بتقدير القول، أي: يقال لَهُمْ هَذَا مَا تُوعَدُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُوعَدُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالتَّحْتِيَّةِ. لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ هُوَ بَدَلٌ مِنْ «لِلْمُتَّقِينَ» بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ، أَيْ: مَقُولًا لَهُمْ لِكُلِّ أَوَّابٍ، وَالْأَوَّابُ: الرَّجَّاعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُسَبِّحُ، وَقِيلَ: هُوَ الذَّاكِرُ لِلَّهِ فِي الْخَلْوَةِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ فِي الْخَلْوَةِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: هُوَ الَّذِي لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا حَتَّى يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ فِيهِ، وَالْحَفِيظُ: هُوَ الْحَافِظُ لِذُنُوبِهِ حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْحَافِظُ لِمَا اسْتَوْدَعَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ وَنِعْمَتِهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: هُوَ الْحَافِظُ لِأَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْحَافِظُ لِوَصِيَّةِ اللَّهِ لَهُ بِالْقَبُولِ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا لِكُلِّ أَوَّابٍ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا بَعْدَ بَدَلٍ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الْبَدَلُ، وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ وَاحِدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالْخَبَرُ «ادْخُلُوهَا» بِتَقْدِيرِ: يُقَالُ لَهُمُ: ادْخُلُوهَا، وَالْخَشْيَةُ بِالْغَيْبِ أَنْ يَخَافَ اللَّهَ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ والسدّي: يعني في الْخَلْوَةَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ.

قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَرْخَى السِّتْرَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ، «وَبِالْغَيْبِ» مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرِ خَشِيَ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أَيْ: رَاجِعٍ إِلَى اللَّهِ مُخْلِصٍ لِطَاعَتِهِ، وَقِيلَ: الْمُنِيبُ: الْمُقْبِلُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: السَّلِيمُ ادْخُلُوها هُوَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوهَا، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مِنْ، أَيْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ أَيْ: بِسَلَامَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، وَقِيلَ: بِسَلَامٍ مِنَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَقِيلَ: بِسَلَامَةٍ مِنْ زَوَالِ النِّعَمِ، وَهُوَ متعلق بمحذوف هو حال، أي: متلبسين بِسَلَامٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى زَمَنِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ، وَخَبَرُهُ يَوْمُ الْخُلُودِ وَسَمَّاهُ يَوْمَ الْخُلُودِ لِأَنَّهُ لَا انْتِهَاءَ لَهُ، بَلْ هُوَ دَائِمٌ أَبَدًا لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ فِيها أَيْ: فِي الْجَنَّةِ مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُهُمْ وَتَلَذُّ أَعْيُنُهُمْ مِنْ فُنُونِ النِّعَمِ وَأَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَلَدَيْنا مَزِيدٌ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَمْ تَخْطُرْ لَهُمْ عَلَى بَالٍ، وَلَا مَرَّتْ لَهُمْ فِي خَيَالٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَزَلَ اللَّهُ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَرْبَعَ مَنَازِلَ: هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَهُوَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَهُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَةِ كُلِّ دَابَّةٍ، وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ قَالَ: عُرُوقُ الْعُنُقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: هُوَ نِيَاطُ الْقَلْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا، فِي قَوْلِهِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ قَالَ: يَكْتُبُ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ حَتَّى إِنَّهُ لَيَكْتُبُ قَوْلَهُ: أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ ذَهَبْتُ جِئْتُ رَأَيْتُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عَرَضَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ فَأَقَرَّ مِنْهُ مَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَأَلْقَى سَائِرَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّمَا يُكْتَبُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، لَا يُكْتَبُ: يَا غُلَامُ اسْرُجِ الْفَرَسَ، يَا غُلَامُ اسْقِنِي الماء. وقد ثبت في الصحيحين وغير هما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، والحكيم والترمذي وأبو نعيم، والبيهقي في الشعب، عن عمرة بْنِ ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ عَبْدٌ، وَلْيَنْظُرْ مَا يَقُولُ» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ قَرَأَ: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ قَالَ: سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَشَهِيدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا عَمِلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: السَّائِقُ: الْمَلَكُ، وَالشَّهِيدُ: الْعَمَلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: السَّائِقُ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالشَّهِيدُ: شَاهِدٌ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا قَالَ: هُوَ الكافر. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ قَالَ: الْحَيَاةُ بَعْدَ الموت. وأخرج ابن

[سورة ق (50) : الآيات 36 إلى 45]

جرير عنه أيضا، وقالَ قَرِينُهُ قَالَ: شَيْطَانُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ قَالَ: إِنَّهُمُ اعْتَذَرُوا بِغَيْرِ عُذْرٍ فَأَبْطَلَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ قَالَ: مَا أَنَا بِمُعَذِّبٍ مَنْ لَمْ يَجْتَرِمْ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا، فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ قَالَ: وَهَلْ فِيَّ مِنْ مَكَانٍ يُزَادُ فِيَّ؟ وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، وَعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ. وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ فَيُسْكِنَهُمْ فِي فُضُولِ الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ قَالَ: حَفِظَ ذُنُوبَهُ حَتَّى رَجَعَ عَنْهَا. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، عَنْ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قَالَ: يَتَجَلَّى لَهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ جُمُعَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الرُّؤْيَةِ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَتَجَلَّى لَهُمُ الرَّبُّ عَزَّ وجلّ. وفي الباب أحاديث. [سورة ق (50) : الآيات 36 الى 45] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) خَوَّفَ سُبْحَانَهُ أَهْلَ مَكَّةَ بِمَا اتَّفَقَ لِلْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَهُمْ أَيْ: قَبْلَ قُرَيْشٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أَيْ: مِنْ أُمَّةٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً أَيْ: قُوَّةً كعاد وثمود وغير هما فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أَيْ: سَارُوا وَتَقَلَّبُوا فِيهَا وَطَافُوا بِقَاعِهَا. وَأَصْلُهُ مِنَ النَّقْبِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: ضَرَبُوا وَطَافُوا. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: دَوَّرُوا. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: تَبَاعَدُوا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: نَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ مِنْ حَذَرِ الْمَوْ ... تِ وَجَالُوا فِي الْأَرْضِ كلّ مجال

_ (1) . «يجترم» : يرتكب الذّنب.

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: نَقَبُوا بِفَتْحِ الْقَافِ مُخَفَّفَةً، وَالنَّقْبُ: هُوَ الْخَرْقُ وَالطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ وَكَذَا الْمَنْقَبُ وَالْمَنْقَبَةُ، كَذَا قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ، وَجَمْعُ النَّقْبِ نُقُوبٌ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ بِكَسْرِ الْقَافِ مُشَدَّدَةً عَلَى الْأَمْرِ لِلتَّهْدِيدِ، أَيْ: طُوفُوا فِيهَا وَسِيرُوا فِي جَوَانِبِهَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ مُشَدَّدَةً عَلَى الْمَاضِي. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أَيْ: هَلْ لَهُمْ مِنْ مَهْرَبٍ يَهْرُبُونَ إِلَيْهِ، أَوْ مَخْلَصٍ يَتَخَلَّصُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَرَوْا مَحِيصًا مِنَ الْمَوْتِ، وَالْمَحِيصُ مَصْدَرُ حَاصَ عَنْهُ يَحِيصُ حَيْصًا وَحُيُوصًا وَمَحِيصًا وَمَحَاصًا وَحَيَصَانًا، أَيْ: عَدَلَ وَحَادَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا مَهْرَبَ لَهُمْ، وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنَّهُمْ مِثْلُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ لَا يَجِدُونَ مِنَ الْمَوْتِ وَالْعَذَابِ مَفَرًّا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أَيْ: فِيمَا ذُكِرَ مِنْ قِصَّتِهِمْ تَذْكِرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَيْ: عَقْلٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهَذَا جَائِزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، تَقُولُ: مَا لَكَ قَلْبٌ، وَمَا قَلْبُكَ مَعَكَ، أَيْ: مَا لَكَ عَقْلٌ، وَمَا عَقْلُكَ مَعَكَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْقَلْبُ نَفْسُهُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ سَلِيمًا أَدْرَكَ الْحَقَائِقَ وَتَفَكَّرَ كَمَا يَنْبَغِي. وَقِيلَ: لِمَنْ كَانَ لَهُ حَيَاةٌ وَنَفْسٌ مُمَيِّزَةٌ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ لِأَنَّهُ وَطَنُهَا وَمَعْدِنُ حَيَاتِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي ... وَأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي النَّفْسَ «1» تَفْعَلِ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أَيِ: اسْتَمَعَ مَا يُقَالُ لَهُ، يُقَالُ: أَلْقِ سَمْعَكَ إِلَيَّ، أَيِ: اسْتَمِعْ مِنِّي، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَلْقَى السَّمْعَ إِلَى مَا يُتْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ الْحَاكِي لِمَا جَرَى عَلَى تِلْكَ الْأُمَمِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَلْقَى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَطَلْحَةُ وَالسُّدِّيُّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ السَّمْعِ وَهُوَ شَهِيدٌ أَيْ: حَاضِرُ الْفَهْمِ أَوْ حَاضِرُ الْقَلْبِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَفْهَمُ فِي حُكْمِ الْغَائِبِ وَإِنْ حَضَرَ بِجِسْمِهِ فَهُوَ لَمْ يَحْضُرْ بِفَهْمِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: وَقَلْبُهُ حَاضِرٌ فِيمَا يَسْمَعُ. قَالَ سُفْيَانُ: أَيْ لَا يَكُونُ حَاضِرًا وَقَلْبُهُ غَائِبٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو صَالِحٍ: إِنَّهَا فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ خَاصَّةً وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ اللُّغُوبُ: التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ، تَقُولُ: لَغَبَ يَلْغُبُ بِالضَّمِّ لُغُوبًا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، أَوَّلُهَا الْأَحَدُ وَآخِرُهَا الْجُمُعَةُ، وَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السبت، فكذّبهم اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ- فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ هذه تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمر لهم بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ، أَيْ: هَوِّنْ عَلَيْكَ، وَلَا تَحْزَنْ لِقَوْلِهِمْ وَتَلَقَّ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْهُ بِالصَّبْرِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ أَيْ: نَزِّهِ اللَّهَ عمّا لا يليق بجنابه العالي متلبسا بِحَمْدِهِ وَقْتَ الْفَجْرِ وَوَقْتَ الْعَصْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ، وَقِيلَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَقِيلَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ غُرُوبِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ: أَيْ سَبِّحْهُ بَعْضَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: هِيَ صَلَاةُ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: رَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَقِيلَ: صلاة العشاء،

_ (1) . وفي رواية: القلب.

وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَدْبارَ السُّجُودِ أَيْ: وَسَبِّحْهُ أَعْقَابَ الصَّلَوَاتِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَدْبارَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعَ دُبُرٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ بِكَسْرِهَا عَلَى الْمَصْدَرِ، مِنْ أَدْبَرَ الشَّيْءُ إِدْبَارًا إِذَا وَلَّى. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: إِدْبَارُ السُّجُودِ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَإِدْبَارُ النُّجُومِ: الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ فِي إدبار النُّجُومِ أَنَّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ كَمَا سَيَأْتِي وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أَيِ: اسْتَمِعْ مَا يُوحَى إليك من أحوال القيامة يوم ينادي المناد، وَهُوَ إِسْرَافِيلُ أَوْ جِبْرِيلُ، وَقِيلَ: اسْتَمِعِ النِّدَاءَ أَوِ الصَّوْتَ أَوِ الصَّيْحَةَ، وَهِيَ صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ، أَعْنِي النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ فِي الصُّورِ مِنْ إِسْرَافِيلَ، وَقِيلَ: إِسْرَافِيلُ يَنْفُخُ، وَجِبْرِيلُ يُنَادِي أَهْلَ الْمَحْشَرِ، وَيَقُولُ: هَلُمُّوا لِلْحِسَابِ، فَالنِّدَاءُ عَلَى هَذَا فِي الْمَحْشَرِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ إِسْرَافِيلُ يُنَادِي بِالْحَشْرِ فَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا لِلْحِسَابِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ بِحَيْثُ يَصِلُ النِّدَاءُ إِلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ. قَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُ يُنَادِي مِنْ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَهِيَ أَقْرَبُ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ بِاثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا. وَقَالَ كَعْبٌ: بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ هُوَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ يُنَادِي، يَعْنِي صَيْحَةَ الْبَعْثِ، وَ «بِالْحَقِّ» مُتَعَلِّقٌ بِالصَّيْحَةِ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أَيْ: يَوْمُ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: معنى بالحق: بالبعث. وقال مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَنَّهَا كَائِنَةٌ حَقًّا إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أَيْ: نُحْيِي فِي الْآخِرَةِ وَنُمِيتُ فِي الدُّنْيَا، لَا يُشَارِكُنَا فِي ذَلِكَ مُشَارِكٌ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ أَمْرِ الْبَعْثِ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ فَنُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الشِّينِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التاءين تخفيفا. وقرأ زيد بن عليّ: تشقق بِإِثْبَاتِ التَّاءَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقُرِئَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَانْتِصَابُ سِراعاً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَنْهُمْ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ تَشَقَّقُ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِي الْحَالِ هُوَ الْعَامِلُ فِي يَوْمَ، أَيْ: مُسْرِعِينَ إِلَى الْمُنَادِي الَّذِي نَادَاهُمْ ذلِكَ حَشْرٌ أَيْ: بَعْثٌ وَجَمْعٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ هَيِّنٌ. ثُمَّ عَزَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ يَعْنِي مِنْ تَكْذِيبِكَ فِيمَا جِئْتَ بِهِ وَمِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالتَّوْحِيدِ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أَيْ: بِمُسَلَّطٍ يُجْبِرُهُمْ وَيَقْهَرُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أَيْ: مَنْ يَخَافُ وَعِيدِي لِعُصَاتِي بِالْعَذَابِ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ فَلَا تَشْتَغِلْ بِهِمْ. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْقِتَالِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ قَالَ: مِنْ نَصَبٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ «صَلَاةِ الصُّبْحِ» وَقَبْلَ الْغُرُوبِ «صَلَاةِ الْعَصْرِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بِتُّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِدْبَارَ النُّجُومِ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إِدْبَارَ السُّجُودِ» . وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِدْبَارِ النُّجُومِ وَإِدْبَارِ السُّجُودِ، فَقَالَ: إِدْبَارُ السُّجُودِ رَكْعَتَانِ

بعد المغرب، وإدبار النجوم ركعتان قَبْلَ الْغَدَاةِ» . وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي الصلاة، وابن المنذر عن عمر ابن الْخَطَّابِ: إِدْبَارُ السُّجُودِ رَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَإِدْبَارُ النُّجُومِ رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ نَصْرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابن أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ نَصْرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُ أَنْ يُسَبِّحَ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ قَالَ: هِيَ الصَّيْحَةُ. وَأَخْرَجَ الْوَاسِطِيُّ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قَالَ: مِنْ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ قَالَ: يَوْمُ يَخْرُجُونَ إِلَى الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ خَوَّفْتَنَا، فَنَزَلَتْ: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.

سورة الذاريات

سورة الذّاريات وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الذَّارِيَاتِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 23] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) قَوْلُهُ: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً يُقَالُ: ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ تَذْرُوهُ ذَرْوًا وَأَذْرَتْهُ تُذْرِيهِ ذَرْيًا. أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِالرِّيَاحِ الَّتِي تُذْرِي التُّرَابَ، وَانْتِصَابُ ذَرْوًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا اسْمُ الْفَاعِلِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ بِإِدْغَامِ تَاءِ الذَّارِيَاتِ فِي ذَالِ ذَرْوًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِدُونِ إِدْغَامٍ. وَقِيلَ: الْمُقْسَمُ بِهِ مُقَدَّرٌ وَهُوَ رَبُّ الذَّارِيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَالْحامِلاتِ وِقْراً هِيَ السَّحَابُ تَحْمِلُ الْمَاءَ كَمَا تَحْمِلُ ذَوَاتُ الْأَرْبَعِ الْوِقْرَ، وَانْتِصَابُ «وِقْراً» عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: حَمَلَ فُلَانٌ عِدْلًا ثَقِيلًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وِقْراً بِكَسْرِ الْوَاوِ اسْمُ مَا يُوقَرُ، أَيْ: يُحْمَلُ، وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ اسْمُ الْفَاعِلِ، أَوْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْمَحْمُولِ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً فَالْجارِياتِ يُسْراً هِيَ السُّفُنُ الْجَارِيَةُ فِي الْبَحْرِ بِالرِّيَاحِ جَرْيًا سَهْلًا، وَانْتِصَابُ «يُسْرًا» عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: جَرْيًا ذَا يُسْرٍ. وَقِيلَ: هِيَ الرِّيَاحُ، وَقِيلَ: السَّحَابُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْيُسْرُ: السَّهْلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً هِيَ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تُقَسِّمُ الْأُمُورَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَأْتِي بِأَمْرٍ مُخْتَلِفٍ، جِبْرِيلُ بِالْغِلْظَةِ، وَمِيكَائِيلُ صَاحِبُ الرَّحْمَةِ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي بِالْمَوْتِ، وَقِيلَ: تَأْتِي بِأَمْرٍ مُخْتَلِفٍ مِنَ الْجَدْبِ وَالْخِصْبِ وَالْمَطَرِ وَالْمَوْتِ وَالْحَوَادِثِ. وَقِيلَ: هِيَ السُّحُبُ الَّتِي يُقَسِّمُ اللَّهُ بِهَا أَمْرَ الْعِبَادِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذَّارِيَاتِ وَالْحَامِلَاتِ وَالْجَارِيَاتِ وَالْمُقَسِّمَاتِ: الرِّيَاحُ، فَإِنَّهَا تُوصَفُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَذْرُو التُّرَابَ، وَتَحْمِلُ السَّحَابَ، وَتَجْرِي فِي الْهَوَاءِ، وَتُقَسِّمُ الْأَمْطَارَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جدّا.

وَانْتِصَابُ «أَمْرًا» عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَأْمُورَةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ: إِنَّمَا تُوعَدُونَ من الثواب والعقاب لكائن لا محالة. وما يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِالْإِقْسَامِ بِهَا كَوْنُهَا أُمُورًا بَدِيعَةً مُخَالِفَةً لِمُقْتَضَى الْعَادَةِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْحُبُكِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْبَاءِ، وَقُرِئَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَبِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَبِكَسْرِ الْحَاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لُغَاتٌ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ هُنَا هِيَ الْمَعْرُوفَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا السَّحَابُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْحُبُكِ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ: الْمَعْنَى ذَاتُ الْخَلْقِ الْمُسْتَوِي الْحَسَنِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كُلُّ شَيْءٍ أَحْكَمْتَهُ وَأَحْسَنْتَ عَمَلَهُ فقد حبكته واحتبكته. وقال الحسن وسعيد ابن جُبَيْرٍ: ذَاتُ الزِّينَةِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: ذَاتُ النُّجُومِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذَاتُ الطَّرَائِقِ، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ، يُقَالُ لِمَا تَرَاهُ مِنَ الْمَاءِ وَالرَّمْلِ إِذَا أَصَابَتْهُ الرِّيحُ: حُبُكٌ. قال الفراء: الحبك تكسّر كُلُّ شَيْءٍ كَالرَّمْلِ إِذَا مَرَّتْ بِهِ الرِّيحُ السَّاكِنَةُ، وَالْمَاءُ إِذَا مَرَّتْ بِهِ الرِّيحُ، وَيُقَالُ لِدِرْعِ الْحَدِيدِ: حُبُكٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَأَنَّمَا جَلَّلَهَا الْحُوَّاكُ ... طِنْفِسَةٌ فِي وَشْيِهَا حِبَاكُ أَيْ: طُرُقٌ، وَقِيلَ: الْحَبْكُ الشِّدَّةُ، وَالْمَعْنَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الشِّدَّةِ، وَالْمَحْبُوكُ: الشَّدِيدُ الْخَلْقِ مِنْ فَرَسٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَدْ غَدَا يَحْمِلُنِي في أنفه ... لاحق الإطلين «1» محبوك ممر وقول الْآخَرُ «2» : مَرَجَ الدِّينُ فَأَعْدَدْتُ لَهُ ... مُشْرِفَ الْحَارِكِ مَحْبُوكَ الْكَتَدْ «3» قَالَ الْوَاحِدِيُّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ بِالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ. أَيْ: إِنَّكُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ مُتَنَاقِضٍ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بَعْضُكُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ شَاعِرٌ. وَبَعْضُكُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ سَاحِرٌ، وَبَعْضُكُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْقَسَمِ بِالسَّمَاءِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ تَشْبِيهُ أَقْوَالِهِمْ فِي اخْتِلَافِهَا بِاخْتِلَافِ طَرَائِقِ السَّمَاءِ، وَاسْتِعْمَالُ الْحُبُكِ فِي الطَّرَائِقِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى خِلَافِهِ. عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَرْجِعَ تِلْكَ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ الْحُبُكِ إِلَى هَذَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا فِي السَّمَاءِ مِنَ الطَّرَائِقِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِمَزِيدِ حُسْنِهَا واستواء خلقها

_ (1) . «الإطل» : الخاصرة. (2) . هو أبو دؤاد. (3) . «الكتد» : هو مجتمع الكتفين من الإنسان والفرس.

وَحُصُولِ الزِّينَةِ فِيهَا وَمَزِيدِ الْقُوَّةِ لَهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِمْ فِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَنْفِي الْحَشْرَ وَبَعْضَهُمْ يَشُكُّ فِيهِ، وَقِيلَ: كَوْنُهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ وَيَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أَيْ: يُصْرَفُ عَنِ الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، أَوْ عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْبَعْثُ وَالتَّوْحِيدُ مَنْ صُرِفَ. وَقِيلَ: يُصْرَفُ عَنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ مَنْ صَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ بِالْعِصْمَةِ وَالتَّوْفِيقِ، يُقَالُ: أَفِكَهُ يَأْفِكُهُ إِفْكًا، أَيْ: قَلَبَهُ عَنِ الشَّيْءِ، وَصَرَفَهُ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا «1» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُؤْفَنُ عَنْهُ مَنْ أُفِنَ، وَالْأَفْنُ: فَسَادُ الْعَقْلِ، وَقِيلَ: يُحْرَمُهُ مَنْ حُرِمَ. وَقَالَ قطرب: يخدع عنه من خدع. وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ: يُدْفَعُ عَنْهُ مَنْ دُفِعَ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ هَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ جَمِيعًا أَنَّ الْمَعْنَى: لُعِنَ الْكَذَّابُونَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالْقَتْلُ إِذَا أُخْبِرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ كَانَ بِمَعْنَى اللَّعْنِ لِأَنَّ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْتُولِ الْهَالِكِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى «قُتِلَ» : لُعِنَ. وَالْخَرَّاصُونَ: الْكَذَّابُونَ الَّذِينَ يَتَخَرَّصُونَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، كَذَّابٌ، شَاعِرٌ، سَاحِرٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْخَرَّاصُونَ: هُمُ الْكَذَّابُونَ، وَالْخَرْصُ: حَزْرُ مَا عَلَى النَّخْلِ مِنَ الرُّطَبِ تَمْرًا، وَالْخَرَّاصُ: الَّذِي يَخْرُصُهَا، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا. ثُمَّ قَالَ: الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ أي: في غفلة وعمى وجهالة عَنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى سَاهُونَ: لَاهُونَ غَافِلُونَ، وَالسَّهْوُ: الْغَفْلَةُ عَنِ الشَّيْءِ وَذَهَابُهُ عَنِ الْقَلْبِ، وَأَصْلُ الْغَمْرَةِ مَا سَتَرَ الشَّيْءَ وَغَطَّاهُ، وَمِنْهَا غمرات الموت يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أَيْ: يَقُولُونَ مَتَى يَوْمُ الْجَزَاءِ تَكْذِيبًا مِنْهُمْ وَاسْتِهْزَاءً. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أَيْ: يُحْرَقُونَ وَيُعَذَّبُونَ، يُقَالُ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ إِذَا أَحْرَقْتَهُ لِتَخْتَبِرَهُ وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ: الِاخْتِبَارُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الذَّهَبَ إِذَا أُدْخِلَ النَّارَ قِيلَ: فُتِنَ. وَانْتِصَابُ يَوْمَ بِمُضْمَرٍ: أَيِ الْجَزَاءُ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ يَوْمُ الدِّينِ، وَالْفَتْحُ لِلْبِنَاءِ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى الْجُمْلَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِرَفْعِ يَوْمَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ يَوْمُ الدِّينِ، وَجُمْلَةُ: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هِيَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَكُمْ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَرِيقَكُمْ، وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ الْفَرَّاءُ، وَجُمْلَةُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَا هُوَ مَحْكِيٌّ بِالْقَوْلِ، أَيْ: هَذَا مَا كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ تَعْجِيلَهُ اسْتِهْزَاءً مِنْكُمْ، وَقِيلَ: هِيَ بَدَلٌ مِنْ فِتْنَتَكُمْ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ أَهْلِ النَّارِ ذَكَرَ حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَيْ: هُمْ فِي بَسَاتِينَ فِيهَا عُيُونٌ جَارِيَةٌ لَا يَبْلُغُ وَصْفَهَا الْوَاصِفُونَ آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ أَيْ: قَابِلِينَ مَا أَعْطَاهُمْ رَبُّهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُحْسِنِينَ فِي أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَتَرْكِ مَا نُهُوا عَنْهُ. ثُمَّ بَيَّنَ إِحْسَانَهُمُ الَّذِي وَصَفَهُمْ بِهِ فَقَالَ: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ الْهُجُوعُ: النَّوْمُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، وَالْمَعْنَى: كَانُوا قَلِيلًا مَا يَنَامُونَ مِنَ اللَّيْلِ، وَ «مَا» زَائِدَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَوْ مَوْصُولَةً، أَيْ: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ هُجُوعُهُمْ أَوْ مَا يَهْجَعُونَ فِيهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ:

_ (1) . الأحقاف: 22.

قَدْ حَصَّتِ الْبَيْضَةُ رَأْسِي فَمَا ... أَطْعَمُ نَوْمًا غير تهجاع والتهجاع: القليل من النوم، وفي ذَلِكَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... يُهَيِّجُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ «1» وَقِيلَ: «مَا» نَافِيَةٌ، أَيْ: مَا كَانُوا يَنَامُونَ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ، فَكَيْفَ بِالْكَثِيرِ مِنْهُ؟! وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى كَانَ عَدَدُهُمْ قَلِيلًا. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: مَا يَهْجَعُونَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَهُوَ أَضْعَفُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ وَهْبٍ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَيْ: يَطْلُبُونَ فِي أَوْقَاتِ السَّحَرِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَغْفِرَ ذُنُوبَهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: مَدُّوا الصَّلَاةَ إِلَى الْأَسْحَارِ، ثُمَّ أَخَذُوا بِالْأَسْحَارِ الِاسْتِغْفَارَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ: هُمْ بِالْأَسْحَارِ يُصَلُّونَ، وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاتَهُمْ طَلَبٌ مِنْهُمْ لِلْمَغْفِرَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ صَلَاةُ الْفَجْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ صَدَقَاتِهِمْ فَقَالَ: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أَيْ: يَجْعَلُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ حَقًّا لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ: الْحَقُّ هُنَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَيُحْمَلُ عَلَى صَدَقَةِ النَّفْلِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقَرْيِ الضَّيْفِ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالزَّكَاةُ لَمْ تُفْرَضْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَسَيَأْتِي في سورة: سأل سائل وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ- لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ «2» بِزِيَادَةِ مَعْلُومٌ، وَالسَّائِلُ: هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ النَّاسَ لِفَاقَتِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْمَحْرُومِ، فَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَتَعَفَّفُ عَنِ السُّؤَالِ حَتَّى يَحْسَبَهُ النَّاسُ غَنِيًّا فَلَا يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ الَّذِي لَا سَهْمَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنَ الْفَيْءِ شَيْءٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ الَّذِي أُصِيبَ ثَمَرُهُ أَوْ زَرْعُهُ أَوْ مَاشِيَتُهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَائِحَةُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يَكْتَسِبُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَطْلُبُ الدُّنْيَا وَتُدْبِرُ عَنْهُ، وَقِيلَ: هو الملوك، وَقِيلَ: الْكَلْبُ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: لِي الْيَوْمَ سَبْعُونَ سَنَةً مُنْذُ احْتَلَمْتُ أَسْأَلُ عَنِ الْمَحْرُومِ، فَمَا أَنَا الْيَوْمَ بِأَعْلَمَ مِنِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ. وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، وَالْمَحْرُومُ فِي اللُّغَةِ: الْمَمْنُوعُ، مِنَ الْحِرْمَانِ وَهُوَ الْمَنْعُ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَنْ حُرِمَ الرِّزْقَ مِنَ الْأَصْلِ، وَمَنْ أُصِيبَ مَالُهُ بِجَائِحَةٍ أَذْهَبَتْهُ، وَمَنْ حُرِمَ الْعَطَاءَ، وَمَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ لِتَعَفُّفِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا نصبه من الدلائل عَلَى تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَقَالَ: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ أَيْ: دَلَائِلُ وَاضِحَةٌ وَعَلَامَاتٌ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْجِبَالِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ، وَفِيهَا آثَارُ الْهَلَاكِ لِلْأُمَمِ الْكَافِرَةِ الْمُكَذِّبَةِ لِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ وَدَعَتْهُمْ إِلَيْهِ، وَخَصَّ الْمُوقِنِينَ بِاللَّهِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ ويتدبرون فيه فينتفعون

_ (1) . هذا البيت قاله عمرو بن معدي كرب يتشوّق أخته، وكان قد أسرها الصّمّة أبو دريد بن الصّمّة. (2) . المعارج: 24- 25.

بِهِ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ أَيْ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَصِدْقِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَإِنَّهُ خَلَقَهُمْ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عَظْمًا إِلَى أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، ثُمَّ تَخْتَلِفُ بَعْدَ ذلك صورهم وألوانهم وطبائعهم وألسنتهم، ثم نقش خَلْقِهِمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنِ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ وَعَظْمٍ وَأَعْضَاءٍ وَحَوَاسَّ وَمَجَارِي وَمَنَافِسَ. وَمَعْنَى أَفَلا تُبْصِرُونَ أَفَلَا تَنْظُرُونَ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، فَتَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى الْخَالِقِ الرَّزَّاقِ الْمُتَفَرِّدِ بِالْأُلُوهِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا ضِدَّ وَلَا نِدَّ، وَأَنَّ وَعْدَهُ الْحَقُّ، وَقَوْلَهُ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا جَاءَتْ إِلَيْكُمْ بِهِ رُسُلُهُ هُوَ الْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ تَعْتَرِيهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ الْأَرْوَاحُ، أَيْ: وَفِي نُفُوسِكُمُ الَّتِي بِهَا حَيَاتُكُمْ آيَاتٌ وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أَيْ: سَبَبُ رِزْقِكُمْ، وَهُوَ الْمَطَرُ فَإِنَّهُ سَبَبُ الأرزاق. قال سعيد ابن جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: الرِّزْقُ هُنَا مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَطَرٍ وَثَلْجٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ السَّحَابُ، أَيْ: وَفِي السَّحَابِ رِزْقُكُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ الْمَطَرُ، وَسَمَّاهُ سَمَاءً لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ جِهَتِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: يَعْنِي وَعَلَى رَبِّ السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ، قال: وَنَظِيرُهُ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «2» وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أَيْ عِنْدَ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَفِي السَّمَاءِ تَقْدِيرُ رِزْقِكُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ رِزْقُكُمْ بِالْإِفْرَادِ، وقرأ يعقوب وابن محيصن ومجاهد «وأرزاقكم» «3» بِالْجَمْعِ. وَما تُوعَدُونَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. قَالَ عَطَاءٌ: مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: مَا تُوعَدُونَ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ، وَبِهِ قَالَ الرَّبِيعُ. وَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ جَزَاءَ الْأَعْمَالِ مَكْتُوبٌ فِي السَّمَاءِ، وَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ يَنْزِلُ مِنْهَا، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِيهَا. ثُمَّ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ أَيْ: مَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَا ذَكَرَ مِنْ أَمْرِ الرِّزْقِ وَالْآيَاتِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي مَا قَصَّ فِي الْكِتَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما تُوعَدُونَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ» ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ لِ «مَا» . ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ مِثْلَ عَلَى تَقْدِيرِ: كَمِثْلِ نُطْقِكُمْ، وَ «مَا» زَائِدَةٌ، كَذَا قَالَ بعض الكوفيين إنه منصوب ينزع الْخَافِضِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى التَّوْكِيدِ، أَيْ: لَحَقٌّ حَقًّا مِثْلَ نُطْقِكُمْ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: إِنَّ مِثْلَ مَعَ مَا بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَبُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مَبْنِيٌّ لِإِضَافَتِهِ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْأَعْمَشُ مِثْلُ بِالرَّفْعِ على أنه

_ (1) . هو معوّد الحكماء معاوية بن مالك. (2) . هود: 6. [.....] (3) . في تفسير القرطبي (17/ 41) : رازقكم.

صفة لحقّ لِأَنَّ مِثْلَ نَكِرَةٌ وَإِنْ أُضِيفَتْ فَهِيَ لَا تتعرّف بالإضافة كغير. وَرَجَّحَ قَوْلَ الْمَازِنِيِّ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُ حُمَيْدٍ: ............... .... وَوَيْحًا لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا هُنَّ وَيْحَمَا فَبُنِيَ وَيْحَ مَعَ مَا وَلَمْ يَلْحَقْهُ التَّنْوِينُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ تَشْبِيهُ تَحْقِيقِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِتَحْقِيقِ نُطْقِ الْآدَمِيِّ وَوُجُودِهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: إِنَّهُ لَحَقٌّ كَمَا أنك ها هنا، وَإِنَّهُ لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ تَتَكَلَّمُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ فِي صِدْقِهِ وَوُجُودِهِ كَالَّذِي تَعْرِفُهُ ضَرُورَةً. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً قَالَ: الرِّيَاحُ: فَالْحامِلاتِ وِقْراً قَالَ: السَّحَابُ: فَالْجارِياتِ يُسْراً قَالَ: السُّفُنُ فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً قَالَ: الْمَلَائِكَةُ، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِثْلَهُ وَرَفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي إسناده أبو بكر بن أبي سَبْرَةَ وَهُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَسَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ ليس مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، كَذَا قَالَ الْبَزَّارُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ رَفْعُهُ، وَأَقْرَبُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ قَوْلِ عَلِيٍّ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ قَالَ: حُسْنُهَا وَاسْتِوَاؤُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذَاتُ الْبَهَاءِ وَالْجَمَالِ وَإِنَّ بُنْيَانَهَا كَالْبَرَدِ الْمُسَلْسَلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: ذات الخلق الحسن. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنِيعٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هِيَ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قَالَ: يُضَلُّ عَنْهُ مَنْ ضَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ قَالَ: لُعِنَ الْمُرْتَابُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُمُ الْكَهَنَةُ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ قَالَ: فِي غَفْلَةٍ لَاهُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْغَمْرَةُ: الْكُفْرُ وَالشَّكُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: فِي ضَلَالَتِهِمْ يَتَمَادَوْنَ، وَفِي قَوْلِهِ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ قَالَ: يُعَذَّبُونَ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ قَالَ: الْفَرَائِضُ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ قَالَ: قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ الْفَرَائِضُ يَعْمَلُونَ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْهُ أَيْضًا كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ قَالَ: مَا تَأْتِي عَلَيْهِمْ لَيْلَةٌ يَنَامُونَ حَتَّى يُصْبِحُوا إِلَّا يُصَلُّونَ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ نَصْرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ يَقُولُ: قَلِيلًا مَا كَانُوا يَنَامُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَنَسٍ فِي الآية قال:

[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 إلى 37]

كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قَالَ: يُصَلُّونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ قَالَ: سِوَى الزَّكَاةِ، يَصِلُ بِهَا رَحِمًا، أَوْ يَقْرِي بِهَا ضَيْفًا، أَوْ يُعِينُ بِهَا مَحْرُومًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: السَّائِلُ الَّذِي يَسْأَلُ النَّاسَ، وَالْمَحْرُومُ الّذي ليس له سهم في فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْمَحْرُومُ هُوَ الْمُحَارِفُ الَّذِي يَطْلُبُ الدُّنْيَا وَتُدْبِرُ عَنْهُ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِرَفْدِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي الْآيَةِ: قَالَتْ: هُوَ الْمُحَارِفُ الَّذِي لَا يَكَادُ يَتَيَسَّرُ لَهُ مَكْسَبُهُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: «إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ» وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ قَالَ: سَبِيلُ الغائط والبول. [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 37] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) قَوْلُهُ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ أَهْلَكَ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ مَنْ أَهْلَكَ. وَفِي الِاسْتِفْهَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ مِمَّا قد علم به رسول الله، وَأَنَّهُ إِنَّمَا عَلِمَهُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ. وَقِيلَ: إِنَّ «هَلْ» بِمَعْنَى قَدْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ «1» وَالضَّيْفُ مَصْدَرٌ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ فِي سُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الْحِجْرِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ مُكْرَمِينَ: أَنَّهُمْ مُكْرَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ جَاءُوا إِلَيْهِ فِي صُورَةِ بَنِي آدَمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِهِمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «2» وَقِيلَ: هُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ: أَكْرَمَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَأَحْسَنَ إليهم وقام على رؤوسهم، وكان لا يقوم على رؤوس الضَّيْفِ، وَأَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَخْدِمَهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَكْرَمَهُمْ بِالْعِجْلِ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ «حَدِيثُ» ، أَيْ: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُهُمُ الْوَاقِعُ فِي وَقْتِ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ، أَوِ الْعَامِلُ فِيهِ ضيف لأنه مصدر، أو العامل فيه

_ (1) . الإنسان: 1. (2) . الأنبياء: 26.

الْمُكْرَمِينَ، أَوِ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، أَيِ: اذْكُرْ فَقالُوا سَلاماً أَيْ: نُسَلِّمُ عَلَيْكَ سَلَامًا قالَ سَلامٌ أَيْ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ سَلَامٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ سَلاماً الْأَوَّلِ وَرَفْعِ الثَّانِي، فَنَصْبُ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّحِيَّةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَقَالُوا كَلَامًا حَسَنًا لِأَنَّهُ كَلَامٌ سَلِمَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَنْ يَلْغُوَ، فَيَكُونَ عَلَى هَذَا مَفْعُولًا بِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ مبتدأ محذوف الخبر، أي: عليكم سلام، وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّ سَلَامَ إِبْرَاهِيمَ أَبْلَغُ مِنْ سَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمًا بِكَسْرِ السِّينِ، وَقُرِئَ «سِلْمٌ» فِيهِمَا. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ارْتِفَاعُ قَوْمٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ هَذَا فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ الْإِكْرَامَ. قِيلَ: إِنَّهُ أَنْكَرَهُمْ لِكَوْنِهِمُ ابْتَدَءُوا بِالسَّلَامِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْهُودًا عِنْدَ قَوْمِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ رَأَى فِيهِمْ مَا يُخَالِفُ بَعْضَ الصُّوَرِ الْبَشَرِيَّةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ رَآهُمْ عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمْ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ فَراغَ إِلى أَهْلِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ عَدَلَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقِيلَ: ذَهَبَ إِلَيْهِمْ فِي خُفْيَةٍ مِنْ ضُيُوفِهِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. يُقَالُ: رَاغَ وَارْتَاغَ بِمَعْنَى طَلَبَ، وَمَاذَا يُرِيغُ: أَيْ يرصد وَيَطْلُبُ، وَأَرَاغَ إِلَى كَذَا: مَالَ إِلَيْهِ سِرًّا وَحَادَ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ أَيْ: فَجَاءَ ضَيْفَهُ بِعَجَلٍ قَدْ شَوَاهُ لَهُمْ، كَمَا فِي سُورَةِ هود بِعِجْلٍ حَنِيذٍ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ الْفَصِيحَةُ، أَيْ: فَذَبَحَ عِجْلًا فَحَنَذَهُ فَجَاءَ بِهِ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ أَيْ: قَرَّبَ الْعِجْلَ إِلَيْهِمْ وَوَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ لَمْ يَأْكُلُوا مِنْهُ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرِ، وَالْعُجُولُ مِثْلُهُ، وَالْجَمْعُ الْعَجَاجِيلُ وَالْأُنْثَى عِجْلَةٌ، وَقِيلَ: الْعِجْلُ فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ الشَّاةُ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أَيْ: أَحَسَّ فِي نَفْسِهِ خَوْفًا مِنْهُمْ لَمَّا لَمْ يَأْكُلُوا مِمَّا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: مَعْنَى أَوْجَسَ أَضْمَرَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَتَحَرَّمُوا بِطَعَامِهِ، وَمِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ مِنْ طَعَامِ إِنْسَانٍ صَارَ آمِنًا مِنْهُ، فَظَنَّ إِبْرَاهِيمُ أَنَّهُمْ جَاءُوا لِلشَّرِّ وَلَمْ يَأْتُوا لِلْخَيْرِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَمَارَاتِ الْخَوْفِ قالُوا لَا تَخَفْ وَأَعْلَمُوهُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ مُرْسَلُونَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أَيْ: بَشَّرُوهُ بغلام يولد له كثير العلم عند ما يَبْلُغَ مَبَالِغَ الرِّجَالِ، وَالْمُبَشَّرُ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ إِسْحَاقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَحْدَهُ: إِنَّهُ إِسْمَاعِيلُ، وهو مردود بقوله: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ هَذَا الْمَقَامِ بِمَا لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِقْبَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِكَ: أَقْبَلَ يَشْتُمُنِي، أَيْ: أَخَذَ فِي شَتْمِي، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَالصَّرَّةُ: الصَّيْحَةُ وَالضَّجَّةُ، وَقِيلَ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الصَّرَّةُ: الضَّجَّةُ وَالصَّيْحَةُ، وَالصَّرَّةُ: الْجَمَاعَةُ، وَالصَّرَّةُ، الشِّدَّةُ مِنْ كَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا أَقْبَلَتْ فِي صَيْحَةٍ، أَوْ فِي ضَجَّةٍ، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْتَمِعُونَ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ امْرِئِ القيس: فألحقه بِالْهَادِيَاتِ وَدُونَهُ ... جَوَاحِرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ «1»

_ (1) . «الهاديات» : أوائل بقر الوحش. «جواحرها» : متخلفاتها. «لم تزيل» : لم تتفرق.

وَقَوْلُهُ: فِي صَرَّةٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ فَصَكَّتْ وَجْهَها أَيْ: ضَرَبَتْ بِيَدِهَا عَلَى وَجْهِهَا كَمَا جَرَتْ بِذَلِكَ عَادَةُ النِّسَاءِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: جَمَعَتْ أَصَابِعَهَا فَضَرَبَتْ جَبِينَهَا تَعَجُّبًا، وَمَعْنَى الصَّكِّ: ضَرْبُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ الْعَرِيضِ، يُقَالُ صَكَّهُ، أَيْ: ضَرَبَهُ وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أَيْ: كَيْفَ أَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ عَقِيمٌ؟ اسْتَبْعَدَتْ ذَلِكَ لِكِبَرِ سِنِّهَا، وَلِكَوْنِهَا عَقِيمًا لَا تَلِدُ قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أَيْ: كَمَا قُلْنَا لَكِ وَأَخْبَرْنَاكِ قَالَ: رَبُّكِ فَلَا تَشُكِّي فِي ذَلِكَ وَلَا تَعْجَبِي مِنْهُ، فَإِنَّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَلَمْ نَقُلْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِنَا، وَقَدْ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ بِنْتَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَ مِائَةِ سَنَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا مُسْتَوْفًى، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَجُمْلَةُ قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْخَطْبُ: الشَّأْنُ وَالْقِصَّةُ، وَالْمَعْنَى: فَمَا شَأْنُكُمْ وَمَا قِصَّتُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ، وَمَا ذَاكَ الْأَمْرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَرْسَلَكُمْ سِوَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يُرِيدُونَ قَوْمَ لُوطٍ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ أَيْ: لِنَرْجُمَهُمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ طين متحجّر، وانتصاب مُسَوَّمَةً على الصفة لحجارة، أَوْ عَلَى الْحَالِ فِي الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَوْ مِنَ الْحِجَارَةِ لِكَوْنِهَا قَدْ وُصِفَتْ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَمَعْنَى: مُسَوَّمَةً مُعَلَّمَةً بِعَلَامَاتٍ تعرف بها، وقيل: كَانَتْ مُخَطَّطَةً بِسَوَادٍ وَبَيَاضٍ، وَقِيلَ: بِسَوَادٍ وَحُمْرَةٍ، وَقِيلَ: مَعْرُوفَةٌ بِأَنَّهَا حِجَارَةُ الْعَذَابِ، وَقِيلَ: مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ مَنْ يَهْلِكُ بِهَا، وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّكَ ظرف لمسومة، أَيْ: مُعَلَّمَةً عِنْدَهُ لِلْمُسْرِفِينَ الْمُتَمَادِينَ فِي الضَّلَالَةِ المجاوزين الْحَدَّ فِي الْفُجُورِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِلْمُشْرِكِينَ، وَالشِّرْكُ أَسْرَفُ الذُّنُوبِ وَأَعْظَمُهَا فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا كَلَامٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: لَمَّا أَرَدْنَا إِهْلَاكَ قَوْمِ لُوطٍ أَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِي قُرَى قَوْمِ لُوطٍ مِنْ قَوْمِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْ: غَيْرَ أَهْلِ بَيْتٍ. يُقَالُ: بَيْتٌ شَرِيفٌ وَيُرَادُ بِهِ أَهْلُهُ، وقيل: وَهُمْ أَهْلُ بَيْتِ لُوطٍ، وَالْإِسْلَامُ: الِانْقِيَادُ وَالِاسْتِسْلَامُ لِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «1» وقد أوضح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفرق بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فِي الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وغير هما، الثَّابِتِ مِنْ طُرُقٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ. وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ» ، وَسُئِلَ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» «2» فَالْمَرْجِعُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا هُوَ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا قَالَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رَسْمِ كل واحد منهما برسوم مضطربة مختلفة مُتَنَاقِضَةٍ، وَأَمَّا مَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنِ اخْتِلَافِ مَوَاضِعِ اسْتِعْمَالِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ المعاني اللغوية والاستعمالات العربية، والواجب

_ (1) . الحجرات: 14. (2) . سقط من الحديث: واليوم الآخر.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 إلى 60]

تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، وَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ هَذِهِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجابة سُؤَالَ السَّائِلِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَا وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أَيْ: وَتَرْكَنَا فِي تِلْكَ الْقُرَى عَلَامَةً وَدَلَالَةً تَدُلُّ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، كُلَّ مَنْ يَخَافُ عَذَابَ اللَّهِ وَيَخْشَاهُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ آثَارُ الْعَذَابِ فِي تِلْكَ الْقُرَى، فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ، وَقِيلَ: هِيَ الْحِجَارَةُ الَّتِي رُجِمُوا بِهَا، وَإِنَّمَا خَصَّ الَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ بِالْمَوَاعِظِ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي الْآيَاتِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَخَافُ ذَلِكَ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فِي صَرَّةٍ قَالَ: فِي صَيْحَةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها قَالَ: لَطَمَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: لُوطٍ وَابْنَتَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانُوا ثلاثة عشر. [سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 60] وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) قَوْلُهُ: وَفِي مُوسى مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ «فِيهَا» بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَتَرَكْنَا فِي قِصَّةِ مُوسَى آيَةً، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى وَفِي الْأَرْضِ وَالتَّقْدِيرُ: وَفِي الْأَرْضِ وَفِي مُوسَى آيَاتٌ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَهُوَ بِعِيدٌ جِدًّا يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ مثله. ويجوز أن يكون متعلقا بجعلنا مقدّر لِدَلَالَةِ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى «وَتَرَكْنا» عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَالتَّقْدِيرُ: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً، وَجَعَلْنَا فِي مُوسَى آيَةً. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارِ وَجَعَلْنَا لِأَنَّهُ قَدْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْمَجْرُورِ: وَتَرَكْنَا. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَوْلَى، وَمَا عَدَاهُ مُتَكَلَّفٌ مُتَعَسَّفٌ لَمْ تُلْجِئْ

إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَلَا دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوف هو نعت لآية، أَيْ: كَائِنَةً وَقْتَ أَرْسَلْنَاهُ، أَوْ بِآيَةٍ نَفْسِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: الْحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ الْوَاضِحَةُ، وهي العصي وما معه مِنَ الْآيَاتِ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ التَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ، وَالرُّكْنُ: الْجَانِبُ. قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَالْمَعْنَى: أَعْرَضَ بِجَانِبِهِ كَمَا في قوله: أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ «1» قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: رُكْنُ الشَّيْءِ جَانِبُهُ الْأَقْوَى، وَهُوَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، أَيْ: عِزٍّ وَمَنَعَةٍ. وقال ابن زيد ومجاهد وغير هما: الرُّكْنُ جَمْعُهُ وَجُنُودُهُ الَّذِينَ كَانَ يَتَقَوَّى بِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ «2» أَيْ: عَشِيرَةٍ وَمَنَعَةٍ، وَقِيلَ: الرُّكْنُ: نَفْسُ الْقُوَّةِ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: فَمَا أَوْهَى مِرَاسُ الْحَرْبِ رُكْنِي ... وَلَكِنْ مَا تَقَادَمَ مِنْ زَمَانِي وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَيْ: قَالَ فِرْعَوْنُ فِي حَقِّ مُوسَى: هُوَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، فَرَدَّدَ فِيمَا رَآهُ مِنْ أَحْوَالِ مُوسَى بَيْنَ كَوْنِهِ سَاحِرًا أَوْ مَجْنُونًا، وَهَذَا مِنَ اللَّعِينِ مُغَالَطَةٌ وَإِيهَامٌ لِقَوْمِهِ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَا رَآهُ مِنَ الْخَوَارِقِ لَا يَتَيَسَّرُ عَلَى يَدِ سَاحِرٍ، وَلَا يَفْعَلُهُ مَنْ به جنون. وقيل: إنّ «أو» بمعنى واو، لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ جَمِيعًا وَلَمْ يَتَرَدَّدْ، قَالَهُ الْمُؤَرِّجُ وَالْفَرَّاءُ، كَقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً «3» أَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ أَيْ: طَرَحْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ، وجملة هُوَ مُلِيمٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: آتٍ بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ حِينَ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَكَفَرَ بِاللَّهِ، وَطَغَى فِي عِصْيَانِهِ وَفِي عادٍ أَيْ: وَتَرَكْنَا فِي قِصَّةِ عَادٍ آيَةً إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وَهِيَ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا بَرَكَةَ، لَا تُلَقِّحُ شَجَرًا وَلَا تَحْمِلُ مَطَرًا، إِنَّمَا هِيَ رِيحُ الْإِهْلَاكِ وَالْعَذَابِ، ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الرِّيحَ فَقَالَ: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أَيْ: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ مَرَّتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالشَّيْءِ الْهَالِكِ الْبَالِي. قَالَ الشَّاعِرُ «4» : تَرَكَتْنِي حِينَ كَفَّ الدَّهْرُ مِنْ بَصَرِي ... وَإِذْ بَقِيتُ كَعَظْمِ الرِّمَّةِ الْبَالِي وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ الَّذِي دِيسَ مِنْ يَابِسِ النَّبَاتِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: إِنَّهُ التُّرَابُ الْمَدْقُوقُ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: إِنَّهُ الرَّمَادُ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ رَمَّ الْعَظْمُ: إِذَا بَلِيَ فَهُوَ رَمِيمٌ، وَالرِّمَّةُ: الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ أَيْ: وَتَرَكْنَا فِي قِصَّةِ ثَمُودَ آيَةً وَقْتَ قلنا لهم: عيشوا بِالدُّنْيَا إِلَى حِينِ وَقْتِ الْهَلَاكِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ «5» فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أَيْ: تَكَبَّرُوا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهِيَ كُلُّ عَذَابٍ مُهْلِكٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الصَّاعِقَةُ وَقَرَأَ عُمَرُ

_ (1) . الإسراء: 83. (2) . هود: 80. (3) . هو جرير. (4) . الإنسان: 24. (5) . هود: 65.

ابن الْخَطَّابِ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْكِسَائِيُّ «الصَّعْقَةُ» . وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى الصَّاعِقَةِ فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي مَوَاضِعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أَيْ: يَرَوْنَهَا عَيَانًا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: يَنْتَظِرُونَ مَا وُعِدُوهُ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أَيْ: لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْقِيَامِ. قَالَ قَتَادَةُ: مِنْ نُهُوضٍ، يَعْنِي لَمْ يَنْهَضُوا مِنْ تِلْكَ الصَّرْعَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنِ الْقِيَامِ فَضْلًا عَنِ الْهَرَبِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ «1» . وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أَيْ: مُمْتَنِعِينَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِغَيْرِهِمْ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الْمُهْلَكِينَ، فَإِنَّ زَمَانَهُمْ مُتَقَدِّمٌ عَلَى زَمَنِ فِرْعَوْنَ وَعَادٍ وَثَمُودَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أَيْ: خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو بِخَفْضِ قَوْمٍ أَيْ: وَفِي قَوْمِ نُوحٍ آيَةٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، أَيْ: وَأَهْلَكْنَا قَوْمَ نُوحٍ، أَوْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولِ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، أَوْ عَلَى مَفْعُولِ نَبَذْنَاهُمْ، أَيْ: نَبَذْنَاهُمْ وَنَبَذْنَا قَوْمَ نُوحٍ، أَوْ يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ اذْكُرْ وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أَيْ: بِقُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ السَّمَاءَ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَبَنَيْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا. وقرأ أبو السمال وَابْنُ مِقْسَمٍ بِرَفْعِهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ الْمُوَسِعُ: ذُو الْوُسْعِ وَالسَّعَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّا لَذُو سَعَةٍ بِخَلْقِهَا وَخَلْقِ غَيْرِهَا لَا نَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَقَادِرُونَ، مِنَ الْوُسْعِ بِمَعْنَى الطَّاقَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّا لَمُوسِعُونَ الرِّزْقَ بِالْمَطَرِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَأَوْسَعَ الرَّجُلُ: صَارَ ذَا سَعَةٍ وَغِنًى وَالْأَرْضَ فَرَشْناها قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ الْأَرْضَ عَلَى الاشتغال. وقرأ أبو السمال وَابْنُ مِقْسَمٍ بِرَفْعِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءَ بَنَيْناها وَمَعْنَى فَرَشْنَاهَا: بَسَطْنَاهَا كَالْفِرَاشِ فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أَيْ: نَحْنُ، يُقَالُ: مَهَدْتُ الْفِرَاشَ: بَسَطْتُهُ وَوَطَّأْتُهُ، وَتَمْهِيدُ الْأُمُورِ: تَسْوِيَتُهَا وَإِصْلَاحُهَا وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أَيْ: صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَبَرٍّ وَبَحْرٍ، وَشَمْسٍ وَقَمَرٍ، وَحُلْوٍ وَمُرٍّ، وَسَمَاءٍ وَأَرْضٍ، وَلَيْلٍ وَنَهَارٍ، وَنُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَجِنٍّ وَإِنْسٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ: خَلَقْنَا ذَلِكَ هَكَذَا لِتَتَذَكَّرُوا فَتَعْرِفُوا أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَتَسْتَدِلُّوا بِذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَجُمْلَةُ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْفِرَارِ، وَقِيلَ: مَعْنَى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ اخْرُجُوا مِنْ مَكَّةَ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: احْتَرِزُوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ، فَمَنْ فَرَّ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْهُ. وَقِيلَ: فِرُّوا مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ: فِرُّوا مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ، وَمَعْنَى إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أَيْ: مِنْ جِهَتِهِ مُنْذِرٌ بَيِّنُ الْإِنْذَارِ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ نَهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ بَعْدَ أَمْرِهِمْ بِالْفِرَارِ إِلَى اللَّهِ، وَجُمْلَةُ: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِ أَنَّ هَذَا شَأْنُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَنَّ مَا وَقَعَ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ التَّكْذِيبِ لرسول الله، وَوَصْفِهِ بِالسِّحْرِ وَالْجُنُونِ، قَدْ كَانَ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ لرسلهم، وكَذلِكَ في محل رفع على أنه

_ (1) . الأعراف: 78.

خبر مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ. ثُمَّ فَسَّرَ مَا أَجْمَلَهُ بِقَوْلِهِ: مَا أَتَى إِلَخْ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أُنْذِرُكُمْ إِنْذَارًا كَإِنْذَارِ مَنْ تَقَدَّمَنِي مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَنْذَرُوا قَوْمَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى أَتَواصَوْا بِهِ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، أَيْ: هَلْ أوصى أوّلهم آخرهم بالتكذيب وتواطؤوا عليه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب على التَّوَاصِي إِلَى مَا جَمَعَهُمْ مِنَ الطُّغْيَانِ، أَيْ: لَمْ يَتَوَاصَوْا بِذَلِكَ، بَلْ جَمَعَهُمُ الطُّغْيَانُ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْكُفْرِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ فَقَالَ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أَيْ: أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْ جِدَالِهِمْ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْحَقِّ، فَقَدْ فَعَلْتَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ وَبَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ عِنْدَ اللَّهِ بَعْدَ هَذَا لِأَنَّكَ قَدْ أَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ أَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَتْرُكَ التَّذْكِيرَ وَالْمَوْعِظَةَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَقَالَ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى عِظْ بِالْقُرْآنِ مَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِكَ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عِظْ كُفَّارَ مَكَّةَ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُؤْمِنُ. وَقِيلَ: ذَكِّرْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ وَأَيَّامِ اللَّهِ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّذْكِيرِ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ، وَجُمْلَةُ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّ كَوْنَ خَلْقِهِمْ لِمُجَرَّدِ الْعِبَادَةِ مِمَّا يُنَشِّطُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّذْكِيرِ، وَيُنَشِّطُهُمْ لِلْإِجَابَةِ. قِيلَ: هَذَا خَاصٌّ فِي من سبق في عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَعْبُدُهُ، فَهُوَ عُمُومٌ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا خَاصٌّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، يَعْنِي مَنْ أُهِّلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْآيَةُ دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ بِالْقَطْعِ، لِأَنَّ الْمَجَانِينَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْعِبَادَةِ وَلَا أَرَادَهَا مِنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «1» وَمَنْ خُلِقَ لِجَهَنَّمَ لَا يَكُونُ مِمَّنْ خُلِقَ لِلْعِبَادَةِ. فَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْمَعْنَى: إِلَّا لِيَعْرِفُونِي. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمَا عُرِفَ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى إِلَّا لِآمُرَهُمْ وَأَنْهَاهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ «2» وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، فَخَلَقَ السُّعَدَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِلْعِبَادَةِ، وَخَلَقَ الْأَشْقِيَاءَ لِلْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ دُونَ النِّعْمَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «3» وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِلَّا لِيَخْضَعُوا لِي وَيَتَذَلَّلُوا، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ: الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ خَاضِعٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ، مُتَذَلِّلٌ لِمَشِيئَتِهِ، مُنْقَادٌ لِمَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِ. خَلَقَهُمْ عَلَى مَا أَرَادَ، وَرَزَقَهُمْ كَمَا قَضَى، لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا. ووجه تقديم الجن على الإنس ها هنا تَقَدُّمُ وَجُودِهِمْ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِيهَا بَيَانُ اسْتِغْنَائِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ لَا يريد منهم منفعة كما تريده السادة

_ (1) . الأعراف: 179. (2) . التوبة: 31. [.....] (3) . لقمان: 32.

مِنْ عَبِيدِهِمْ، بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ الرَّازِقُ الْمُعْطِي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يَرْزُقُوا أَحَدًا مِنْ خَلْقِي وَلَا أَنْ يَرْزُقُوا أَنْفُسَهُمْ، وَلَا يُطْعِمُوا أَحَدًا مِنْ خَلْقِي وَلَا يُطْعِمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ الْإِطْعَامَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ الْخَلْقَ عِيَالُ اللَّهِ، فَمَنْ أَطْعَمَ عِيَالَ اللَّهِ فَهُوَ كَمَنْ أَطْعَمَهُ. وَهَذَا كَمَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَبْدِي اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي» أَيْ: لَمْ تُطْعِمْ عِبَادِي، وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ رِزْقٍ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ هُوَ الرَّزَّاقُ لَا غَيْرُهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ لَا رَزَّاقَ سِوَاهُ وَلَا مُعْطِيَ غَيْرُهُ، فَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُ مَخْلُوقَاتِهُ، وَيَقُومُ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، فَلَا يَشْتَغِلُوا بِغَيْرِ مَا خُلِقُوا لَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ارْتِفَاعُ المتين على أنه وصف للرزاق، أو لذو، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرَّزَّاقُ وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: «الرزاق» وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمَتِينُ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ بِالْجَرِّ صِفَةً لِلْقُوَّةِ، وَالتَّذْكِيرُ لِكَوْنِ تَأْنِيثِهَا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ حَقُّهُ الْمَتِينَةِ، فَذَكَّرَهَا لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِهَا إِلَى الشَّيْءِ الْمُبْرَمِ الْمُحْكَمِ الْفَتْلِ، يُقَالُ: حَبْلٌ مَتِينٌ، أَيْ: مُحْكَمُ الْفَتْلِ، وَمَعْنَى الْمَتِينِ: الشَّدِيدُ الْقُوَّةِ هُنَا فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ أَيْ: ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، فَإِنَّ لَهُمْ ذَنُوبًا، أَيْ: نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ مِثْلَ نَصِيبِ الْكُفَّارِ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ يَوْمٌ ذَنُوبٌ، أَيْ: طَوِيلُ الشَّرِّ لَا يَنْقَضِي، وَأَصْلُ الذَّنُوبِ فِي اللُّغَةِ الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ، ومن استعمال الذنوب في النصب مِنَ الشَّيْءِ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : لَعَمْرُكَ وَالْمَنَايَا طَارِقَاتٌ ... لِكُلِّ بَنِي أَبٍ مِنْهَا ذَنُوبُ وَمَا فِي الْآيَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ مُقَاسَمَةِ السُّقَاةِ الْمَاءَ بِالدَّلْوِ الْكَبِيرِ، فَهُوَ تَمْثِيلٌ، جَعَلَ الذَّنُوبَ مَكَانَ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أَيْ: لَا يَطْلُبُوا مِنِّي أَنْ أُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «2» . فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ قِيلَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ فِي قَوْلِهِ: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِقَوْمِهِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: الرِّيحَ الْعَقِيمَ قَالَ: الشَّدِيدَةُ الَّتِي لَا تُلَقِّحُ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَا تُلَقِّحُ الشَّجَرَ وَلَا تُثِيرُ السَّحَابَ، وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ قَالَ: كَالشَّيْءِ الْهَالِكِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الرِّيحُ: الْعَقِيمُ النَّكْبَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ قَالَ: بِقُوَّةٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ فِي قَوْلِهِ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ قَالَ: أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَتَوَلَّى عَنْهُمْ لِيُعَذِّبَهُمْ، وَعَذَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فَنَسَخَتْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

_ (1) . هو أبو ذؤيب. (2) . الأعراف: 70.

قَالَ: لِيُقِرُّوا بِالْعُبُودِيَّةِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: عَلَى مَا خَلَقْتُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَتِي وَمَعْصِيَتِي وَشِقْوَتِي وَسَعَادَتِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: الْمَتِينُ يَقُولُ: الشَّدِيدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: ذَنُوباً قال: دلوا.

سورة الطور

سورة الطّور وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتِ الطُّورُ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: «أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ بِالطُّورِ وكتاب مسطور» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) قَوْلُهُ: وَالطُّورِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى. قال مجاهد: الطُّورُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ الْجَبَلُ، وَالْمُرَادُ بِهِ طُورُ سَيْنَاءَ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: هُمَا طُورَانِ: يُقَالُ لأحد هما طور سينا، وَلِلْآخَرِ طُورُ زَيْتَا، لِأَنَّهُمَا يُنْبِتَانِ التِّينَ وَالزَّيْتُونَ. وَقِيلَ: هُوَ جَبَلُ مَدْيَنَ، وَقِيلَ: إِنَّ الطُّورَ كُلُّ جَبَلٍ يُنْبِتُ، وَمَا لَا يُنْبِتُ فَلَيْسَ بطور، أقسم الله سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْجَبَلِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ الْمَسْطُورُ: الْمَكْتُوبُ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَقِيلَ: أَلْوَاحُ مُوسَى، وَقِيلَ: مَا تَكْتُبُهُ الْحَفَظَةُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ، وَمِثْلُهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً «1» وقوله: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ «2» فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَسْطُورٍ، أَيْ: مَكْتُوبٌ فِي رَقٍّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي رَقٍّ بِفَتْحِ الراء، وقرأ أبو السمال بِكَسْرِهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّقُّ بِالْفَتْحِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ، وَهُوَ جِلْدٌ رَقِيقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ قَالَ الْمُبَرِّدُ: الرَّقُّ: مَا رَقَّ مِنَ الْجِلْدِ لِيُكْتَبَ فِيهِ، وَالْمَنْشُورُ: الْمَبْسُوطُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَجَمْعُهُ رُقُوقٌ، وَمِنْ هَذَا قول المتلمّس:

_ (1) . الإسراء: 13. (2) . التكوير: 10.

فَكَأَنَّمَا هِيَ مِنْ تَقَادُمِ عَهْدِهَا ... رَقٌّ أُتِيحَ كِتَابُهَا مَسْطُورُ وَأَمَّا الرِّقُّ بِالْكَسْرِ فَهُوَ الْمَمْلُوكُ، يُقَالُ عَبْدُ رِقٍّ وَعَبْدٌ مَرْقُوقٌ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. وَقِيلَ: فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، وقيل: هو الكعبة، فعلى القولين الأوّلين كون وَصْفُهُ بِالْعِمَارَةِ بِاعْتِبَارِ مَنْ يَدْخُلُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَيَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ يَكُونُ وَصْفُهُ بِالْعِمَارَةِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ مَنْ يَتَعَبَّدُ فِيهِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يَعْنِي السَّمَاءَ، سَمَّاهَا سَقْفًا لِكَوْنِهَا كَالسَّقْفِ لِلْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً «1» وَقِيلَ: هُوَ الْعَرْشُ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أَيِ: الْمُوقَدِ، مِنَ السَّجْرِ: وَهُوَ إِيقَادُ النَّارِ فِي التنور، ومنه قوله: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ «2» وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْبِحَارَ تُسَجَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فتكون نارا، وقيل: المسجور: المملوء، وقيل: إِنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادُ، يُقَالُ: بَحْرٌ مَسْجُورٌ، أَيْ: مَمْلُوءٌ، وَبَحْرٌ مَسْجُورٌ، أَيْ: فَارِغٌ، وَقِيلَ: الْمَسْجُورُ: الْمَمْسُوكُ، وَمِنْهُ سَاجُورُ الْكَلْبِ، لِأَنَّهُ يُمْسِكُهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمَسْجُورُ الَّذِي ذَهَبَ مَاؤُهُ، وَقِيلَ: الْمَسْجُورُ الْمَفْجُورُ، وَمِنْهُ: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ «3» وقال الربيع ابن أَنَسٍ: هُوَ الَّذِي يَخْتَلِطُ فِيهِ الْعَذْبُ بِالْمَالِحِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُمْ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ: كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ يَدْفَعُهُ وَيَرُدُّهُ عَنْ أَهْلِ النَّارِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خبر ثان لأن، أو صفة لواقع، و «من» مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِالْإِقْسَامِ بِهَا أَنَّهَا عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ «لَوَاقِعٌ» أَيْ: إِنَّهُ لَوَاقِعٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ دَافِعٍ. وَالْمَوْرُ: الِاضْطِرَابُ وَالْحَرَكَةُ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: مَارَ الشَّيْءُ يَمُورُ مَوْرًا إِذَا تَحَرَّكَ وَجَاءَ وَذَهَبَ، قاله الأخفش وأبو عبيدة، وأنشد بَيْتَ الْأَعْشَى: كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... مَشْيُ «4» السَّحَابَةِ لَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَاهُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمِشْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَيْتِ يُطْلَقُ الْمَوْرُ عَلَيْهَا لُغَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَمُوجُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَدُورُ دَوْرًا، وَقِيلَ: تَجْرِي جَرْيًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «5» : وَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُورُ دِمَاؤُهَا ... بِدِجْلَةَ حَتَّى مَاءَ دِجْلَةَ أَشْكَلُ «6» وَيُطْلَقُ الْمَوْرُ عَلَى الْمَوْجِ، وَمِنْهُ نَاقَةٌ مَوَّارَةُ الْيَدِ، أَيْ: سَرِيعَةٌ تَمُوجُ فِي مَشْيِهَا مَوْجًا، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْعَذَابَ

_ (1) . الأنبياء: 32. (2) . التكوير: 6. (3) . الانفطار: 3. (4) . في تفسير القرطبي: مور. (5) . هو جرير. (6) . «الأشكل» : ما فيه بياض وحمرة.

يَقَعُ بِالْعُصَاةِ وَلَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ دَافِعٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ السَّمَاءُ هَكَذَا، وهو يوم القيامة. وقيل: إن السماء ها هنا الْفَلَكُ، وَمَوْرُهُ: اضْطِرَابُ نَظْمِهِ وَاخْتِلَافُ سَيْرِهِ وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أَيْ: تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، وَتَسِيرُ عَنْ مَوَاضِعِهَا كَسَيْرِ السَّحَابِ، وَتَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وقيل: ووجه تأكيد الفعلين بالمصدر الدالة على غرابتهما وخروجهما عن المعهود، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَيْلٌ: كَلِمَةٌ تُقَالُ لِلْهَالِكِ، وَاسْمُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ، أَيْ: إِذَا وَقَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ مَوْرِ السَّمَاءِ وَسَيْرِ الْجِبَالِ فَوَيْلٌ لَهُمْ. ثُمَّ وَصَفَ الْمُكَذِّبِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أَيْ: فِي تَرَدُّدٍ فِي الْبَاطِلِ وَانْدِفَاعٍ فِيهِ يَلْهُونَ لَا يَذْكُرُونَ حِسَابًا وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَخُوضُونَ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَقِيلَ: يَخُوضُونَ فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْآخِرَةِ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا الدعّ: الدفع بعنف وجفوة، يقال: دعّته أَدُعُّهُ دَعًّا، أَيْ: دَفَعْتُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُدْفَعُونَ إِلَى النَّارِ دَفْعًا عَنِيفًا شَدِيدًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: تُغَلُّ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ، وَتُجْمَعُ نَوَاصِيهِمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، ثُمَّ يُدْفَعُونَ إِلَى جَهَنَّمَ دَفْعًا عَلَى وُجُوهِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالسُّلَمِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَزَيْدُ بْنُ عليّ وابن السّميقع بِسُكُونِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْعَيْنِ مَفْتُوحَةً، أَيْ: يُدْعَوْنَ إلى النار من الدعاء. و «يوم» إِمَّا بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ تَمُورُ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، وَهِيَ هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا، أَيْ: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي تُشَاهِدُونَهَا هِيَ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَالْقَائِلُ لَهُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ هُمْ خَزَنَةُ النَّارِ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ سُبْحَانَهُ أَوْ أَمَرَ مَلَائِكَتَهُ بِتَوْبِيخِهِمْ، فَقَالَ: أَفَسِحْرٌ هَذَا الَّذِي تَرَوْنَ وَتُشَاهِدُونَ كَمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِرُسُلِ اللَّهِ الْمُرْسَلَةِ وَلِكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَقُدِّمَ الْخَبَرُ هُنَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِأَنَّهُ الَّذِي وَقَعَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ وَتَوَجَّهَ التَّوْبِيخُ إِلَيْهِ أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ أَيْ: أَمْ أَنْتُمْ عُمْيٌ عَنْ هَذَا كَمَا كُنْتُمْ عُمْيًا عَنِ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا أَيْ: إِذَا لَمْ يُمْكِنْكُمْ إِنْكَارُهَا، وَتَحَقَّقْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسِحْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَبْصَارِكُمْ خَلَلٌ، فَالْآنَ ادْخُلُوهَا وَقَاسُوا شِدَّتَهَا، فَاصْبِرُوا عَلَى الْعَذَابِ أَوْ لَا تَصْبِرُوا، وَافْعَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَالْأَمْرَانِ سَواءٌ عَلَيْكُمْ فِي عَدَمِ النفع، وقيل: أَيْضًا تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا الْقَوْلَ، وَسَوَاءٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْأَمْرَانِ سَوَاءٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: سَوَاءٌ عَلَيْكُمُ الصَّبْرُ وَعَدَمُهُ، وَجُمْلَةُ: إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْلِيلٌ لِلِاسْتِوَاءِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ بِالْعَمَلِ إِذَا كَانَ وَاقِعًا حَتْمًا كَانَ الصَّبْرُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ حَالِ الْمُجْرِمِينَ ذَكَرَ حَالَ الْمُتَّقِينَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ لِلْكُفَّارِ زِيَادَةً فِي غَمِّهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ، وَالتَّنْوِينُ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ لِلتَّفْخِيمِ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ يُقَالُ رَجُلٌ فَاكِهٌ، أَيْ: ذُو فَاكِهَةٍ، كَمَا قِيلَ: لَابِنٌ، وَتَامِرٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ذَوُو فَاكِهَةٍ مِنْ فَوَاكِهِ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: ذَوُو نِعْمَةٍ وَتَلَذُّذٍ بِمَا صَارُوا فِيهِ مِمَّا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى هَذَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فاكِهِينَ بِالْأَلِفِ وَالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ خَالِدٌ: «فَاكِهُونَ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَكِهِينَ»

بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْفَكِهُ: طَيِّبُ النَّفْسِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الدُّخَانِ، وَيُقَالُ لِلْأَشِرِ وَالْبَطِرِ، وَلَا يُنَاسِبُ التَّفْسِيرُ بِهِ هُنَا وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ مَعْطُوفٌ عَلَى آتَاهُمْ، أَوْ عَلَى خَبَرِ إِنَّ، أَوِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِإِضْمَارِ قَدْ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَالْهَنِيءُ: مَا لَا تَنْغِيصَ فِيهِ وَلَا نَكَدَ وَلَا كَدَرَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ ليهنئكم ما صرتم إليه هنيئا وَالْمَعْنَى: كُلُوا طَعَامًا هَنِيئًا، وَاشْرَبُوا شَرَابًا هَنِيئًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَنِيئًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقِيلَ: مَعْنَى هَنِيئًا: أَنَّكُمْ لَا تَمُوتُونَ مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ كُلُوا، أَوْ مِنْ مَفْعُولِ آتَاهُمْ، أَوْ مِنْ مَفْعُولِ وَقَاهُمْ، أَوْ مِنَ الْضَمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي الظَّرْفِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَاكِهِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى سُرُرٍ بِضَمِّ الرَّاءِ الْأُولَى. وقرأ أبو السمال: بِفَتْحِهَا، وَالسُّرُرُ: جَمْعُ سَرِيرٍ. وَالْمَصْفُوفَةُ: الْمُتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى تَصِيرَ صَفًّا وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أَيْ: قَرَنَّاهُمْ بِهَا. قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: تَقُولُ الْعَرَبُ زَوَّجْتُهُ امْرَأَةً وَتَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ زَوَّجْتُهُ بِامْرَأَةٍ. قَالَ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أَيْ: قَرَنَّاهُمْ بِهِنَّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: زَوَّجْتُهُ بِامْرَأَةٍ لُغَةُ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحُورِ الْعِينِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِحُورٍ عِينٍ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بِإِضَافَةِ الْحُورِ إِلَى الْعِينِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالطُّورِ قَالَ: جَبَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطُّورُ: جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ» وَكَثِيرٌ: ضَعِيفٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ قَالَ: فِي الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إليه حتى تقوم الساعة» ، وفي الصحيحين وغير هما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في حديث الإسراء بعد مجاوزه إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ: «ثُمَّ رُفِعَ إِلَيَّ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَ عَلِيًّا عَنِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فَقَالَ: ذلك الضراح بيت فوق سبع سماوات تَحْتَ الْعَرْشِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر وَرَفَعَهُ. قَالَ: إِنَّ الْبَيْتَ الْمُعْمُورَ لَبِحِيَالِ الْكَعْبَةِ، لَوْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ لَسَقَطَ عَلَيْهَا، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَضَعَّفَ إِسْنَادَهُ السُّيُوطِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ قَالَ: السَّمَاءُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ قَالَ: بَحْرٌ فِي السَّمَاءِ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَسْجُورُ: الْمَحْبُوسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: الْمَسْجُورُ:

[سورة الطور (52) : الآيات 21 إلى 34]

الْمُرْسَلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً قَالَ: تَحَرَّكُ، وَفِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يُدَعُّونَ قَالَ: يُدْفَعُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا قَالَ: يُدْفَعُ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَرِدُوا النَّارَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أَيْ: لَا تَمُوتُونَ فِيهَا، فَعِنْدَهَا قَالُوا: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ- إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «1» . [سورة الطور (52) : الآيات 21 الى 34] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى الْعُمُومِ ذَكَرَ حَالَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَلَى الْخُصُوصِ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَالْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ أَلْحَقْنا بِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَأَكْرَمْنَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَكُونُ «أَلْحَقْنَا» مُفَسِّرًا لِهَذَا الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاتَّبَعَتْهُمْ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الذُّرِّيَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: «أَتْبَعْنَاهُمْ» بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، كَقَوْلِهِ: ألحقنا. وقرأ الجمهور: ذُرِّيَّتُهُمْ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ عَلَى الْجَمْعِ، وَجُمْلَةُ: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ معطوف على آمنوا، أو معترضة، و «بِإِيمانٍ» مُتَعَلِّقٌ بِالِاتِّبَاعِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ لِتَقَرَّ عَيْنُهُ، وَتَطِيبَ نَفْسُهُ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، فَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَنْ يَتَّصِفُ بِالْإِيمَانِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ وَهُمُ الْبَالِغُونَ دُونَ الصِّغَارِ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَاحِقِينَ بِآبَائِهِمْ فَبِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الذُّرِّيَّةَ تُطْلَقُ عَلَى الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ كَمَا هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، فَيَلْحَقُ بِالْآبَاءِ الْمُؤْمِنِينَ صِغَارُ ذَرِّيَّتِهِمْ وَكِبَارُهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بِإِيمانٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: بِإِيمَانٍ مِنَ الْآبَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «بِهِمْ» رَاجِعٌ إِلَى الذُّرِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا، أَيْ: أَلْحَقَنَا بِالذُّرِّيَّةِ الْمُتَّبِعَةِ لِآبَائِهِمْ بِإِيمَانٍ ذُرِّيَّتَهُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ آمَنُوا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَقَطْ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ، وَلَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهَا بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَوْنُهُمُ السَّبَبَ فِي نُزُولِهَا إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قرأ الجمهور بفتح اللام من أَلَتْناهُمْ وقرأ ابن كثير بكسرها،

_ (1) . الصافات: 58- 59.

أَيْ: وَمَا نَقَصْنَا الْآبَاءَ بِإِلْحَاقِ ذُرِّيَّتِهِمْ بِهِمْ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا، فَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَا نَقَصْنَا الذرية من أعمالهم لِقِصَرِ أَعْمَارِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ مَعْنَى لَاتَهُ وَأَلَاتَهُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ «1» آلَتْنَاهُمْ بِالْمَدِّ، وَهُوَ لُغَةٌ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: يُقَالُ: مَا آلَتَهُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْئًا، أَيْ: مَا نَقَصَهُ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ رهين بِمَعْنَى مَرْهُونٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ، وَأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِهِ، فَإِنْ قَامَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَكَّهُ وَإِلَّا أهلكه. وقيل: هو بمعنى راهن، كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ دَائِمٌ ثَابِتٌ. وَقِيلَ: هَذَا خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ- إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ «2» ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَمَدَّهُمْ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ فَقَالَ: وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أَيْ: زِدْنَاهُمْ عَلَى مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ بِفَاكِهَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَلَحْمٍ مِنْ أَنْوَاعِ اللُّحْمَانِ مِمَّا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ وَيَسْتَطِيبُونَهُ يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أَيْ: يَتَعَاطَوْنَ وَيَتَنَاوَلُونَ كَأْسًا، وَالْكَأْسُ: إِنَاءُ الْخَمْرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ إِنَاءٍ مَمْلُوءٍ مَنْ خَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِذَا فَرَغَ لَمْ يُسَمَّ كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مَا يُلْغِي وَلَا مَا فيه إثم يَجْرِي بَيْنَ مَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّأْثِيمُ: تَفْعِيلٌ مِنَ الْإِثْمِ، وَالضَّمِيرُ فِي فِيها رَاجِعٌ إِلَى الْكَأْسِ، وَقِيلَ: «لَا لَغْوٌ فِيها» أَيْ: فِي الْجَنَّةِ وَلَا يَجْرِي فِيهَا مَا فيها إِثْمٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا تَذْهَبُ بِعُقُولِهِمْ فَيَلْغَوْا كَمَا يَكُونُ مِنْ خَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا يَكُونُ مِنْهُمْ مَا يُؤَثِّمُهُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: «لَا تَأْثِيمٌ» أَيْ: لَا كَذِبَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِفَتْحِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. قَالَ قَتَادَةُ: اللَّغْوُ: الْبَاطِلُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَا فُضُولَ فيها. وقال سعيد ابن الْمُسَيَّبِ: لَا رَفَثَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا سِبَابَ وَلَا تَخَاصُمَ فِيهَا. وَالْجُمْلَةُ فِي محل نصب على الحال صفة لكأسا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ أَيْ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ بِالْكَأْسِ وَالْفَوَاكِهِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَمَالِيكٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: أَوْلَادُهُمْ كَأَنَّهُمْ فِي الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أَيْ: مَسْتُورٌ مَصُونٌ فِي الصَّدَفِ لَمْ تَمَسَّهُ الْأَيْدِي. قَالَ الْكِسَائِيُّ: كَنَنْتُ الشَّيْءَ: سَتَرْتُهُ وَصُنْتُهُ مِنَ الشَّمْسِ، وَأَكْنَنْتُهُ: جَعَلْتُهُ فِي الْكِنِّ، وَمِنْهُ: كَنَنْتُ الْجَارِيَةَ، وَأَكْنَنْتُهَا، فَهِيَ مَكْنُونَةٌ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أَيْ: يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْجَنَّةِ عَنْ حَالِهِ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا وَخَوْفِ الْعَاقِبَةِ، فَيَحْمَدُونَ اللَّهَ الَّذِي أَذْهَبَ عَنْهُمُ الْحَزَنَ وَالْخَوْفَ وَالْهَمَّ، وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْكَدِّ وَالنَّكَدِ بِطَلَبِ الْمَعَاشِ وَتَحْصِيلِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الرِّزْقِ. وَقِيلَ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: بِمَ صِرْتُمْ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ؟ وَقِيلَ: إِنَّ التَّسَاؤُلَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا فِي الْجَنَّةِ، وَجُمْلَةُ قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عِنْدَ التَّسَاؤُلِ؟ فَقِيلَ: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ، أَيْ: قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فِي أَهْلِنَا خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، أَوْ كُنَّا خَائِفِينَ مِنْ عِصْيَانِ اللَّهِ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ أَوْ بِالتَّوْفِيقِ لِطَاعَتِهِ وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ يَعْنِي عَذَابَ جَهَنَّمَ، وَالسَّمُومُ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ، كذا قال

_ (1) . في تفسير القرطبي (17/ 67) : أبو هريرة. (2) . المدثر: 38- 39. [.....]

الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ عَذَابُ النَّارِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُمُومُ جَهَنَّمَ مَا يُوجَدُ مِنْ حَرِّهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّمُومُ بِالنَّهَارِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاللَّيْلِ، وَالْحَرُورُ بِاللَّيْلِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالنَّهَارِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ السَّمُومُ فِي لَفْحِ الْبَرْدِ، وَفِي لَفْحِ الشَّمْسِ وَالْحَرِّ أَكْثَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: الْيَوْمَ يَوْمٌ بَارِدٌ سَمُومُهُ ... مَنْ جَزِعَ الْيَوْمَ فَلَا أَلُومُهُ وَقِيلَ: سُمِّيَتِ الرِّيحُ سَمُومًا لِأَنَّهَا تَدْخُلُ الْمَسَامَّ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ أَيْ: نُوَحِّدُ اللَّهَ وَنَعْبُدُهُ، أَوْ نَسْأَلُهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِهَا، أَيْ لِأَنَّهُ، وَالْبَرُّ: كَثِيرُ الْإِحْسَانِ، وَقِيلَ: اللَّطِيفُ، وَالرَّحِيمُ: كَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِعِبَادِهِ فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أَيِ: اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَالْبَاءُ متعلّقة بمحذوف هو حال، أي: ما أنت متلبسا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكَ مِنْ رَجَاحَةِ الْعَقْلِ وَالنُّبُوَّةِ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ، وَقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ: مَا أَنْتَ في حَالَ إِذْكَارِكَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ، وَقِيلَ: الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: انْتَفَى عَنْكَ الْكِهَانَةُ وَالْجُنُونُ بِسَبَبِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ، كَمَا تَقُولُ: مَا أَنَا بِمُعْسِرٍ بِحَمْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلْقَسَمِ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ اسْمِ مَا وَخَبَرِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَنْتَ وَنِعْمَةِ اللَّهِ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ، وَالْكَاهِنُ: هُوَ الَّذِي يُوهِمُ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ مِنْ دُونِ وَحْيٍ، أَيْ: لَيْسَ مَا تَقُولُهُ كِهَانَةٌ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا تَنْطِقُ بِالْوَحْيِ الَّذِي أَمَرَكَ اللَّهُ بِإِبْلَاغِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ رَدُّ مَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، أَوْ بِبَلْ وَحْدَهَا. قَالَ الْخَلِيلُ: هِيَ هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: خُوطِبَ الْعِبَادُ بِمَا جَرَى فِي كَلَامِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: يُرِيدُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ «أَمْ» فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْخُرُوجِ مِنْ حديث إلى حديث، و «نتربص» في محل رفع صفة لشاعر، و «ريب الْمَنُونِ» : صُرُوفُ الدَّهْرِ، وَالْمَعْنَى: نَنْتَظِرُ بِهِ حَوَادِثَ الْأَيَّامِ فَيَمُوتُ كَمَا مَاتَ غَيْرُهُ، أَوْ يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَهُ، وَالْمَنُونُ يَكُونُ بِمَعْنَى الدَّهْرِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَنِيَّةِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى نَتَرَبَّصُ إِلَى رَيْبِ الْمَنُونِ، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، كَمَا تَقُولُ: قَصَدْتُ زَيْدًا، وَقَصَدْتُ إِلَى زَيْدٍ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرُ: تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يوما أو يموت حليلها وقول أبي ذؤيب الهذلي: أمن المنون وريبه تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْمَنُونُ وَاحِدٌ لَا جَمْعَ لَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ، فَقَالَ: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَيِ: انْتَظِرُوا مَوْتِي أَوْ هَلَاكِي، فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ لِمَوْتِكُمْ أَوْ هَلَاكِكُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «نَتَرَبَّصُ» بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى جماعة المتكلمين. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَيْ: بَلْ

أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض، فإن الْكَاهِنَ هُوَ الْمُفْرِطُ فِي الْفِطْنَةِ وَالذَّكَاءِ، وَالْمَجْنُونُ: هُوَ ذَاهِبُ الْعَقْلِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِطْنَةٌ وَذَكَاءٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كانت عظماء قريش توصف بالأحلام، وَجَاوَزُوا الْحَدَّ فِي الْعِنَادِ، فَقَالُوا مَا قَالُوا، وهذه الاضطرابات مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ مَعَ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا هُوَ مَدْلُولُ «أَمِ» الْمُنْقَطِعَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا تَعَقَّبَهَا أَشْنَعُ مِمَّا تَقَدَّمَهَا، وَأَكْثَرُ جُرْأَةً وَعِنَادًا أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أَيِ: اخْتَلَقَ الْقُرْآنَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَافْتَعَلَهُ، وَالتَّقَوُّلُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْكَذِبِ فِي الْغَالِبِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ تَكَلُّفَ الْقَوْلِ، وَمِنْهُ اقْتَالَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ اقتال عليه: بمعنى تحكّم، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : وَمَنْزِلَةٍ فِي دَارِ صِدْقٍ وَغِبْطَةٍ ... وَمَا اقْتَالَ فِي حُكْمٍ عَلَيَّ طَبِيبُ ثم أضرب سبحانه عن قولهم: تَقَوَّلَهُ وَانْتَقَلَ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ شَنَاعَةً عَلَيْهِمْ فَقَالَ: بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ: سَبَبُ صُدُورِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. الْمُتَنَاقِضَةِ عَنْهُمْ كَوْنُهُمْ كُفَّارًا لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَلَا يُصَدِّقُونَ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ سُبْحَانَهُ وَأَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ فَقَالَ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أَيْ: مِثْلِ الْقُرْآنِ فِي نَظْمِهِ، وَحُسْنِ بَيَانِهِ، وَبَدِيعِ أُسْلُوبِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ فِيمَا زَعَمُوا مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَوَّلَهُ وَجَاءَ بِهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ، وَهُمْ رُؤُوسُ الْعَرَبِ وَفُصَحَاؤُهُمْ وَالْمُمَارِسُونَ لِجَمِيعِ الْأَوْضَاعِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَهَنَّادٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ مَعَهُ فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي العمل لتقرّ بهم عَيْنُهُ. ثُمَّ قَرَأَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْجَنَّةَ سَأَلَ عَنْ أَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَتَكَ وَعَمَلَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ لِي وَلَهُمْ، فَيُؤْمَرُ بِإِلْحَاقِهِمْ بِهِ» وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي النَّارِ» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ. وَإِسْنَادُهُ هَكَذَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «سَأَلَتْ خَدِيجَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَلَدَيْنِ مَاتَا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُمَا فِي النَّارِ، فَلَمَّا رَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهَا قَالَ: لَوْ رَأَيْتِ مَكَانَهُمَا لَأَبْغَضْتِهِمَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَلَدِي مِنْكَ. قَالَ: فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا» الْآيَةَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إن اللَّهَ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فيقول: يا ربّ

_ (1) . هو كعب بن سعد الغنوي.

[سورة الطور (52) : الآيات 35 إلى 49]

مِنْ أَيْنَ لِي هَذَا، فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ» . وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما أَلَتْناهُمْ قَالَ: مَا نَقَصْنَاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ لَا لَغْوٌ فِيها يَقُولُ: بَاطِلٌ وَلا تَأْثِيمٌ يَقُولُ: كَذِبٌ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ اشْتَاقُوا إِلَى الْإِخْوَانِ، فَيَجِيءُ سَرِيرُ هَذَا حَتَّى يُحَاذِيَ سَرِيرَ هَذَا، فَيَتَحَدَّثَانِ فَيَتَّكِئُ ذَا وَيَتَّكِئُ ذَا فيتحدّثان بما كانوا في الدنيا، فيقول أحد هما: يَا فُلَانُ تَدْرِي أَيَّ يَوْمٍ غَفَرَ اللَّهُ لَنَا؟ يَوْمَ كُنَّا فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، فَدَعَوْنَا اللَّهَ فَغَفَرَ لَنَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَوْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى أهل الأرض من عذاب السموم قد الْأُنْمُلَةِ لَأَحْرَقَتِ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ قَالَ: اللَّطِيفُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ: أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَى دَارِ النَّدْوَةِ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمُ: احْبِسُوهُ فِي وَثَاقٍ، تربّصوا بِهِ الْمَنُونَ حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ: زُهَيْرٌ وَالنَّابِغَةُ، إِنَّمَا هُوَ كَأَحَدِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: رَيْبَ الْمَنُونِ قَالَ: الْمَوْتُ. [سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 49] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) قَوْلُهُ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ «أَمْ» هَذِهِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهَا، وَكَمَا سَيَأْتِي فِيمَا بَعْدَهَا، أَيْ: بَلْ أَخُلِقُوا عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْبَدِيعَةِ وَالصَّنْعَةِ الْعَجِيبَةِ مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ لَهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: أَخُلِقُوا بَاطِلًا لِغَيْرِ شَيْءٍ لَا يُحَاسَبُونَ وَلَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ؟! وَجَعَلَ مِنْ بِمَعْنَى اللَّامِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَمْ خُلِقُوا عَبَثًا وَتُرِكُوا سُدًى لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، فَهُمْ كَالْجَمَادِ لَا يَفْهَمُونَ وَلَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَيْ: بَلْ أَيَقُولُونَ هُمُ الْخَالِقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَلَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ مَعَ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ، وَإِذَا أَقَرُّوا لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ فَلَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ، وَلِهَذَا أَضْرَبَ عَنْ هَذَا وَقَالَ: بَلْ لَا يُوقِنُونَ أَيْ: لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْأَمْرِ، بَلْ يَخْبِطُونَ فِي ظُلُمَاتِ الشَّكِّ فِي وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَيْ: خَزَائِنُ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ، وَقِيلَ: مَفَاتِيحُ الرَّحْمَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ: أَبِأَيْدِيهِمْ مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟

وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَزَائِنُ الْمَطَرِ والرزق أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أَيِ: الْمُسَلَّطُونَ الْجَبَّارُونَ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْمُسَيْطِرُ: الْمُسَلَّطُ عَلَى الشَّيْءِ لِيُشْرِفَ عَلَيْهِ، وَيَتَعَهَّدَ أَحْوَالَهُ، وَيَكْتُبَ عَمَلَهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّطْرِ لِأَنَّ الْكِتَابَ يسطّر. وقال أبو عبيدة: تسيطرت عَلَيَّ: اتَّخَذْتَنِي خَوَلًا لَكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «الْمُصَيْطِرُونَ» بِالصَّادِ الْخَالِصَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ وَقُنْبُلٌ وَهِشَامٌ بِالسِّينِ الْخَالِصَةِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ حَفْصٍ، وَقَرَأَ خَلَّادٌ «1» بِصَادٍ مُشَمَّةٍ زَايًا أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أَيْ: بَلْ أَيَقُولُونَ إِنَّ لَهُمْ سُلَّمًا مَنْصُوبًا إِلَى السَّمَاءِ يَصْعَدُونَ بِهِ، وَيَسْتَمِعُونَ فِيهِ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا يُوحَى إِلَيْهِمْ، وَيَصِلُونَ بِهِ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ كَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ. وَقَوْلِهِ: فِيهِ صِفَةٌ لِسُلَّمٍ، وَهِيَ لِلظَّرْفِيَّةِ عَلَى بَابِهَا، وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: يَسْتَمِعُونَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «2» قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَسْتَمِعُونَ بِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَجِبْرِيلَ الَّذِي يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، وَقِيلَ: هِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: صَاعِدِينَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ إِنِ ادَّعَى ذَلِكَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أَيْ: بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ ظَاهِرَةٍ أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَيْ: بَلْ أَتَقُولُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ. سَفَّهَ سُبْحَانَهُ أَحْلَامَهُمْ، وَضَلَّلَ عُقُولَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ، أَيْ: أَيُضِيفُونَ إِلَى اللَّهِ الْبَنَاتِ وَهِيَ أَضْعَفُ الصِّنْفَيْنِ، وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ وَهُمْ أَعْلَاهُمَا، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَنْ كَانَ هَذَا رَأْيُهُ فَهُوَ بِمَحَلٍّ سَافِلٍ فِي الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ، فَلَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ إِنْكَارُ الْبَعْثِ وَجَحْدُ التَّوْحِيدِ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى خِطَابِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أَيْ: بَلْ أَتَسْأَلُهُمْ أَجْرًا يَدْفَعُونَهُ إِلَيْكَ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَيْ: مِنَ الْتِزَامِ غَرَامَةٍ تَطْلُبُهَا مِنْهُمْ مُثْقَلُونَ، أَيْ: مَجْهُودُونَ بِحَمْلِهِمْ ذَلِكَ الْمَغْرَمَ الثَّقِيلَ. قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ: هَلْ سَأَلْتَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَجْرًا يجهدهم فَلَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِسْلَامَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَيْ: بَلْ أَيَدَّعُونَ أَنَّ عِنْدَهُمْ عِلْمَ الْغَيْبِ، وَهُوَ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَهُمْ يَكْتُبُونَ لِلنَّاسِ مَا أَرَادُوا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ. قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ يَقُولُ اللَّهُ: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا يَمُوتُ قَبْلَهُمْ فَهُمْ يكتبون. قال ابن قتيبة: معنى يكتبون يحاكمون بِمَا يَقُولُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً أَيْ: مَكْرًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُهْلِكُونَهُ بِذَلِكَ الْمَكْرِ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أَيِ: الْمَمْكُورُ بِهِمُ، الْمَجْزِيُّونَ بِكَيْدِهِمْ، فَضَرَرُ كَيْدِهِمْ يَعُودُ عَلَيْهِمْ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ وَقَدْ قَتَلَهُمُ اللَّهُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَأَذَلَّهُمْ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ، وَمَكَرَ سُبْحَانَهُ بِهِمْ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «3» أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ أَيْ: بَلْ أيدّعون أَنَّ لَهُمْ إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ يَحْفَظُهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ. ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنْعَاءِ فَقَالَ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: عَنْ شِرْكِهِمْ بِهِ، أَوْ عَنِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَهُمْ شُرَكَاءَ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ جَهَالَاتِهِمْ، فَقَالَ: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ الكسف جمع

_ (1) . في تفسير القرطبي (17/ 75) : حمزة. (2) . طه: 71. (3) . آل عمران: 54.

كِسْفَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، وَانْتِصَابُ سَاقِطًا عَلَى الْحَالِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَالْمَرْكُومُ: الْمَجْعُولُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا عَلَيْهِمْ لِعَذَابِهِمْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ، بَلْ يَقُولُونَ: هُوَ سَحَابٌ مُتَرَاكِمٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي «كِسْفًا» . قَالَ الْأَخْفَشُ: مَنْ قَرَأَ كِسْفًا، يَعْنِي بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ السين جعله واحدا، ومن قرأ كسافا، يَعْنِي بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ السِّينِ جَعَلَهُ جَمْعًا. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَهُمْ، فَقَالَ: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ أَيِ: اتْرُكْهُمْ وَخَلِّ عَنْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَ مَوْتِهِمْ، أَوْ يَوْمَ قَتْلِهِمْ بِبَدْرٍ، أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُلاقُوا وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ «يَلْقَوْا» وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يُصْعَقُونَ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالصَّعْقَةُ: الْهَلَاكُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً هُوَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمِهِمْ، أَيْ: لَا يَنْفَعُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَيْدُهُمُ الَّذِي كَادُوا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أَيْ: وَلَا يَمْنَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ النَّازِلَ بِهِمْ مَانِعٌ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي عَذَابًا فِي الدُّنْيَا دُونَ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ: قَبْلَهُ، وَهُوَ قَتْلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مَصَائِبُ الدُّنْيَا مِنَ الْأَوْجَاعِ وَالْأَسْقَامِ وَالْبَلَايَا، وَذَهَابِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْجُوعُ وَالْجَهْدُ سَبْعَ سِنِينَ، وَقِيلَ: عَذَابُ الْقَبْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُوَ الْقَحْطُ، وَبِالْعَذَابِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ هُوَ قَتْلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إِلَى أَنْ يَقَعَ لَهُمُ الْعَذَابُ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ بِهِ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أَيْ: بِمَرْأَى وَمَنْظَرٍ مِنَّا، وَفِي حِفْظِنَا وَحِمَايَتِنَا، فَلَا تُبَالِ بِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّكَ بِحَيْثُ نَرَاكَ وَنَحْفَظُكَ وَنَرْعَاكَ فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أَيْ: نَزِّهْ رَبَّكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِ رَبِّكَ عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَيْكَ حِينَ تَقُومُ مِنْ مَجْلِسِكَ. قَالَ عَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو الْأَحْوَصِ: يُسَبِّحُ اللَّهَ حِينَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسِهِ فَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، أَوْ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ عِنْدَ قِيَامِهِ مِنْ كُلِّ مَجْلِسٍ يَجْلِسُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بن أنس: حين تقول إِلَى الصَّلَاةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ يَكُونُ بَعْدَ الْقِيَامِ لَا حَالَ الْقِيَامِ، وَيَكُونُ التَّسْبِيحُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْنَى الْآيَةِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: صَلِّ لِلَّهِ حِينَ تَقُومُ مِنْ مَنَامِكَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ وَحَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَاذْكُرِ اللَّهَ بِاللِّسَانِ حِينَ تَقُومُ مِنْ فِرَاشِكَ إِلَى أَنْ تَدْخُلَ الصَّلَاةَ، وَهِيَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُسَبِّحَهُ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ صِلِّ الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ، وَقِيلَ: رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَإِدْبارَ النُّجُومِ أَيْ: وَقْتَ إِدْبَارِهَا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: هُوَ التَّسْبِيحُ فِي إِدْبَارِ الصلوات، وقرأ الْجُمْهُورُ إِدْبارَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَقَرَأَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ السّميقع ويعقوب والمنهال بن عمر بِفَتْحِهَا عَلَى الْجَمْعِ، أَيْ: أَعْقَابَ النُّجُومِ، وَأَدْبَارَهَا: إِذَا غَرَبَتْ، وَدُبُرُ الْأَمْرِ: آخِرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «ق» .

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ قَالَ: الْمُسَلَّطُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: أَمْ هُمُ الْمُنْزِلُونَ. وَأَخْرَجَا عَنْهُ أَيْضًا عَذاباً دُونَ ذلِكَ قَالَ: عَذَابُ الْقَبْرِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ والحاكم وبان مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآخِرَةٍ إِذَا قَامَ مِنَ الْمَجْلِسِ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لِتَقُولَ قَوْلًا مَا كُنْتَ تَقُولُهُ فِيمَا مَضَى، قَالَ كَفَّارَةٌ لِمَا يَكُونُ فِي الْمَجْلِسِ» . وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا غفر له ما كان في مجلسه» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ مُسْنَدَةٌ وَمُرْسَلَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ قَالَ: حِينَ تَقُومُ مِنْ فِرَاشِكَ إِلَى أَنْ تَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ قَالَ: الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِدْبارَ النُّجُومِ قال: ركعتي الفجر.

سورة النجم

سورة النجم هي إحدى وستون آية، وقيل ثنتان وستون آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ جَمِيعُهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَةً مِنْهَا. وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النَّجْمِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وغير هما عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ وَالنَّجْمِ، فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، إِلَّا رَجُلًا رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا، وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أوّل سورة استعان بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرؤها وَالنَّجْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ النَّجْمَ، فَسَجَدَ بِنَا فَأَطَالَ السُّجُودَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ النَّجْمَ، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ سَجَدَ فِيهَا» . وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَرَأْتُ النَّجْمَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِي النَّجْمِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَرَكَهَا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 26] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى (16) مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) قَوْلُهُ: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى التَّعْرِيفُ للجنس، والمراد به جِنْسُ النُّجُومِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ،

وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَحْسَنُ النَّجْمِ فِي السَّمَاءِ الثُّرَيَّا ... وَالثُّرَيَّا فِي الْأَرْضِ زَيْنُ النِّسَاءِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الثُّرَيَّا، وَهُوَ اسْمٌ غَلَبَ فِيهَا، تَقُولُ الْعَرَبُ: النَّجْمُ وَتُرِيدُ بِهِ الثُّرَيَّا، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: النَّجْمُ هُنَا هُوَ الزُّهَرَةُ لِأَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، وَقِيلَ: النَّجْمُ هُنَا النَّبْتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ، كَمَا فِي قوله: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ «1» قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: النَّجْمُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: النَّجْمُ الْقُرْآنُ، وَسُمِّيَ نَجْمًا لِكَوْنِهِ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي التَّفْرِيقَ تَنْجِيمًا، وَالْمُفَرِّقَ: الْمُنَجِّمَ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ وغير هما، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ النُّجُومُ إِذَا سَقَطَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا النُّجُومُ الَّتِي تُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ، وَمَعْنَى هُوِيِّهِ: سُقُوطُهُ مِنْ عُلْوٍ، يُقَالُ: هَوَى النَّجْمُ يَهْوِي هُوِيًّا إِذَا سَقَطَ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ، وَقِيلَ: غُرُوبُهُ، وَقِيلَ: طُلُوعُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قال الأصمعي وغيره، ومنه قال زهير: فشجّ بها الأماعز وَهِيَ تَهْوِي ... هُوِيَّ الدَّلْوِ أَسْلَمَهَا الرِّشَاءُ وَيُقَالُ: هَوَى فِي السَّيْرِ إِذَا مَضَى وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بَيْنَمَا نَحْنُ بِالْبَلَاكِثِ فَالْقَا ... عِ سِرَاعًا وَالْعِيسُ تَهْوِي هُوِيًّا خَطَرَتْ خَطْرَةٌ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذِكْ ... رَاكِ وَهْنًا فَمَا اسْتَطَعْتُ مُضِيَّا وَمَعْنَى الْهُوِيِّ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ النَّجْمَ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الشَّجَرُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ، أَوْ أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَظْهَرُ لِلْهُوِيِّ مَعْنًى صَحِيحٌ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ فِعْلُ الْقَسَمِ المقدّر، وجواب القسم قوله: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى أَيْ: مَا ضَلَّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَقِّ وَالْهُدَى وَلَا عَدَلَ عَنْهُ، وَالْغَيُّ: ضِدُّ الرُّشْدِ، أَيْ: مَا صَارَ غَاوِيًا، وَلَا تَكَلَّمَ بِالْبَاطِلِ، وَقِيلَ: مَا خَابَ فِيمَا طَلَبَ، وَالْغَيُّ: الْخَيْبَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ ... وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمًا وَفِي قَوْلِهِ: صاحِبُكُمْ إِشَارَةٌ بِأَنَّهُمُ الْمُطَّلِعُونَ عَلَى حَقِيقَةِ حَالِهِ، وَالْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أَيْ: مَا يَصْدُرُ نُطْقُهُ عَنِ الْهَوَى لَا بِالْقُرْآنِ وَلَا بِغَيْرِهِ، فَعَنْ عَلَى بَابِهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ عَنْ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ: بِالْهَوَى. قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: مَا يَنْطِقُ بِالْقِرَاءَةِ عَنْ هَوَاهُ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أَيْ: مَا هُوَ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ إِلَّا وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ يوحيه إليه. وقوله: يُوحى صفة لوحي تُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ التَّجَدُّدِيَّ، وَتُفِيدُ نَفْيَ الْمَجَازِ، أَيْ: هُوَ وَحْيُ حَقِيقَةٍ لَا لِمُجَرَّدِ التَّسْمِيَةِ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى الْقُوَى: جَمْعُ قُوَّةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ الَّذِي هُوَ شَدِيدٌ قُوَاهُ، هَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الْمُرَادَ جِبْرِيلُ. وَقَالَ الحسن:

_ (1) . الرّحمن: 6.

هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى الْمِرَّةُ: الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ فِي الْخَلْقِ، وَقِيلَ: ذُو صِحَّةِ جِسْمٍ وَسَلَامَةٍ مِنَ الْآفَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ «1» » . وَقِيلَ: ذُو حَصَافَةِ عَقْلٍ وَمَتَانَةِ رَأْيٍ. قَالَ قُطْرُبٌ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ هُوَ جَزِلُ الرَّأْيِ حَصِيفُ الْعَقْلِ: ذُو مِرَّةٍ، وَمِنْهُ قول الشاعر: قد كنت قبل لقاكم ذَا مِرَّةٍ ... عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهُ وَالتَّفْسِيرُ لِلْمِرَّةِ بِهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْقُوَّةَ وَالشِّدَّةَ قَدْ أَفَادَهَا قَوْلُهُ: شَدِيدُ الْقُوى قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمِرَّةُ: إِحْدَى الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، وَالْمِرَّةُ: الْقُوَّةُ وَشِدَّةُ الْعَقْلِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَوى لِلْعَطْفِ عَلَى عَلَّمَهُ، يعني جبريل، أي: ارتفع وعلا إِلَى مَكَانِهِ فِي السَّمَاءِ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى اسْتَوَى قَامَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَاسْتَوَى الْقُرْآنُ فِي صَدْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَاسْتَوَى: يَعْنِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَرْشِ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فَاسْتَوَى جِبْرِيلُ حَالَ كَوْنِهِ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَالْمُرَادُ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى: جَانِبُ الْمَشْرِقِ، وَهُوَ فَوْقَ جَانِبِ الْمَغْرِبِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَاسْتَوَى عَالِيًا، وَالْأُفُقُ: نَاحِيَةُ السَّمَاءِ، وَجَمْعُهُ آفَاقٌ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَطْلُعُ مِنْهُ الشَّمْسُ، وَقِيلَ: هُوَ يَعْنِي جِبْرِيلَ وَالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى أَيْ: دَنَا جِبْرِيلُ بَعْدَ اسْتِوَائِهِ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، أَيْ: قَرُبَ مِنَ الْأَرْضِ، فَتَدَلَّى، فَنَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، وَقِيلَ: فِي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ثم تدلّى فدنا، قاله ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَغَيْرُهُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى دَنَا فَتَدَلَّى وَاحِدٌ، أَيْ: قَرُبَ وَزَادَ فِي الْقُرْبِ، كَمَا تَقُولُ: فَدَنَا مِنِّي فُلَانٌ وَقَرُبَ، وَلَوْ قُلْتَ: قَرُبَ مِنِّي وَدَنَا جَازَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْفَاءُ فِي «فَتَدَلَّى» بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ تَدَلَّى جِبْرِيلُ وَدَنَا، وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا أَنْ تُقَدِّمَ أَيَّهُمَا شِئْتَ. قَالَ الْجُمْهُورُ: وَالَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى هُوَ جِبْرِيلُ وَقِيلَ: هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعنى: دنا منه أمره وحكمه، والأوّل أولى، وقيل: وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الَّذِي اسْتَوَى هُوَ جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ، فَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: ثُمَّ دَنَا مُحَمَّدٌ مِنْ رَبِّهِ دُنُوَّ كَرَامَةٍ فَتَدَلَّى، أَيْ: هَوَى لِلسُّجُودِ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أَيْ: فَكَانَ مِقْدَارُ مَا بَيْنَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَرَبِّهِ قَابَ قَوْسَيْنِ، أَيْ: قَدْرَ قَوْسَيْنِ عَرَبِيَّيْنِ. وَالْقَابُ وَالْقِيبُ، وَالْقَادُ وَالْقِيدُ: الْمِقْدَارُ، ذُكِرَ مَعْنَاهُ فِي الصِّحَاحِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: فِيمَا تُقَدِّرُونَ أَنْتُمْ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِمَقَادِيرِ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنَّهُ يُخَاطِبُنَا عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُخَاطَبَةِ فِيمَا بَيْنَنَا. وَقِيلَ «أَوْ» بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: وَأَدْنَى، وَقِيلَ: بِمَعْنَى بَلْ، أَيْ: بَلْ أَدْنَى. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ وَأَبُو وَائِلٍ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ، وَالْقَوْسُ: الذِّرَاعُ يُقَاسُ بِهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ الْحِجَازِيِّينَ، وَقِيلَ: هِيَ لُغَةُ أَزْدِ شَنُوءَةَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: «فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ» أَرَادَ قَوْسًا

_ (1) . «السوي» : صحيح الأعضاء.

وَاحِدَةً فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى أَيْ: فَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَوْحَى، وَفِيهِ تَفْخِيمٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَالْوَحْيُ: إِلْقَاءُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْهُ الوحاء وَهُوَ السُّرْعَةُ، وَالضَّمِيرُ فِي عَبْدِهِ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ «1» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى عَبْدِهِ جِبْرِيلَ مَا أَوْحَى، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الرَّبِيعُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ. قِيلَ: وَقَدْ أَبْهَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا أَوْحَاهُ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ، أَوْ مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى عَبْدِهِ جِبْرِيلَ، أَوْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَرَّضَ لِتَفْسِيرِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الَّذِي أَوْحَى إليه هو أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ إلخ «2» ، وأَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى إِلَخْ «3» . وَقِيلَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ الْجَنَّةَ حرام على الأنبياء حتى تدخلها [يا محمد] «4» ، وَعَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدَخُلَهَا أُمَّتُكَ. وَقِيلَ: إِنَّ «مَا» لِلْعُمُومِ لَا لِلْإِبْهَامِ، وَالْمُرَادُ كُلُّ مَا أَوْحَى بِهِ إِلَيْهِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْإِبْهَامِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى أَيْ: مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَآهُ بَصَرُهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، يُقَالُ: كَذَبَهُ إِذَا قَالَ لَهُ الْكَذِبَ وَلَمْ يَصْدُقْهُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: مَعْنَى الْآيَةِ أنه رأى شيئا فصدق فيه. قال الْجُمْهُورُ مَا كَذَبَ مُخَفَّفًا، وَقَرَأَ هِشَامٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالتَّشْدِيدِ وَ «مَا» فِي مَا رَأى مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِكَذَبَ، مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَفَتُمارُونَهُ بِالْأَلِفِ مِنَ الْمُمَارَاةِ، وَهِيَ الْمُجَادَلَةُ وَالْمُلَاحَاةُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «أَفَتَمْرُونَهُ» بِفَتْحِ التَّاءِ وسكون الميم، أي: أفتجحدونه، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ: قَالَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يُمَارُوهُ وَإِنَّمَا جَحَدُوهُ، يُقَالُ: مَرَاهُ حَقَّهُ، أَيْ: جَحَدَهُ، وَمَرَيْتُهُ أَنَا: جَحَدْتُهُ. قَالَ: وَمِنْهُ قول الشاعر: لئن هَجَوْتَ أَخَا صِدْقٍ وَمَكْرُمَةٍ ... لَقَدْ مَرَيْتَ أَخًا مَا كَانَ يُمْرِيكَا أَيْ: جَحَدْتَهُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: يقال مراه عَنْ حَقِّهِ وَعَلَى حَقِّهِ: إِذَا مَنَعَهُ مِنْهُ ودفعه عنه «5» . وَقِيلَ: عَلَى بِمَعْنَى عَنْ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْرَجُ «أَفَتُمْرُونَهُ» بِضَمِّ التَّاءِ مَنْ أَمْرَيْتُ، أَيْ: أَتُرِيبُونَهُ وَتَشُكُّونَ فِيهِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: أَفَتُجَادِلُونَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَادَلُوهُ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ، فَقَالُوا: صِفْ لَنَا مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَيْ: أَفَتُجَادِلُونَهُ جدالا ترمون بِهِ دَفْعَهُ عَمَّا شَاهَدَهُ وَعَلِمَهُ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى هِيَ الْمُوطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، وَالنَّزْلَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ النُّزُولِ، فَانْتِصَابُهَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَوْ مُنْتَصِبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ الْحَالِ، أَيْ: رَأَى جِبْرِيلُ نَازِلًا نَزْلَةً أُخْرَى أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مُؤَكَّدٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: رَآهُ رُؤْيَةً أُخْرَى. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ رَأَى مُحَمَّدٌ جِبْرِيلَ مَرَّةً أُخْرَى، وَقِيلَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ مَرَّةً أُخْرَى بِفُؤَادِهِ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى الظَّرْفُ مُنْتَصِبٌ بَرَآهُ، وَالسِّدْرُ: هُوَ شَجَرُ النَّبْقِ، وَهَذِهِ السِّدْرَةُ هِيَ فِي السَّمَاءِ السادسة كما في الصحيح،

_ (1) . فاطر: 45. (2) . الشرح: 1- 8. (3) . الضحى: آية 6 إلى آخر السورة. (4) . من تفسير القرطبي (17/ 92) . (5) . من تفسير القرطبي (17/ 93) .

وروي أنها في السماء السابعة. و «الْمُنْتَهى» : مَكَانُ الِانْتِهَاءِ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَالْمُرَادُ به الانتهاء نفسه، وَقِيلَ: تَنْتَهِي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَإِضَافَةُ الشَّجَرَةِ إِلَى الْمُنْتَهَى مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مَكَانِهِ. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى أَيْ: عِنْدَ تِلْكَ السِّدْرَةِ جَنَّةٌ تُعْرَفُ بِجَنَّةِ الْمَأْوَى، وَسُمِّيَتْ جَنَّةَ الْمَأْوَى لِأَنَّهُ أَوَى إِلَيْهَا آدَمُ، وقيل: إن أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ تَأْوِي إِلَيْهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ جَنَّةُ بِرَفْعِ جَنَّةٍ عَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهَا الظَّرْفُ الْمُتَقَدِّمُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَنَسٌ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ «جَنَّهُ» فِعْلًا مَاضِيًا مِنْ جَنَّ يَجِنُّ، أَيْ: ضَمَّهُ الْمَبِيتُ، أَوْ سَتَرَهُ إِيوَاءُ اللَّهِ لَهُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: أَدْرَكَهُ كَمَا تَقُولُ جَنَّهُ اللَّيْلُ، أَيْ: سَتَرَهُ وَأَدْرَكَهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ رَآهُ أَيْضًا، وَهُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ، وَالَّذِي قَبْلَهُ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَالْغَشَيَانُ بِمَعْنَى التَّغْطِيَةِ والسرّ، وَبِمَعْنَى الْإِتْيَانِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَغْشَانِي كُلَّ حِينٍ، أَيْ: يَأْتِينِي، وَفِي الْإِبْهَامِ فِي قَوْلِهِ: مَا يَغْشى. مِنَ التَّفْخِيمِ مَا لَا يَخْفَى، وَقِيلَ: يغشاها جراد من ذهب، وقيل: طوائف الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَفْرَفٌ أَخْضَرُ، وَقِيلَ: رَفْرَفٌ مِنْ طُيُورٍ خُضْرٍ، وَقِيلَ: غَشِيَهَا أَمْرُ اللَّهِ، وَالْمَجِيءُ بِالْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ اسْتِحْضَارًا لِلصُّورَةِ الْبَدِيعَةِ، أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ التَّجَدُّدِيِّ مَا زاغَ الْبَصَرُ أَيْ: مَا مَالَ بَصَرُ النَّبِيِّ عَمَّا رَآهُ وَما طَغى أَيْ: مَا جَاوَزَ مَا رَأَى، وَفِي هَذَا وَصْفُ أَدَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ حَيْثُ لَمْ يَلْتَفِتْ، وَلَمْ يَمِلْ بَصَرُهُ، وَلَمْ يَمُدَّهُ إِلَى غَيْرِ مَا رَأَى، وَقِيلَ: مَا جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِهِ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْعِظَامِ مَا لا يحيط به الوصف، وقيل: رَأَى رَفْرَفًا سَدَّ الْأُفُقَ، وَقِيلَ: رَأَى جِبْرِيلَ فِي حُلَّةٍ خَضْرَاءَ، قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، كَذَا فِي صَحِيح مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: رَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ مَا رَآهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي مَسْرَاهُ وَعَوْدِهِ، وَ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ، وَمَفْعُولُ «رَأَى» : «الْكُبْرَى» ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا، أَيْ رَأَى شَيْئًا عَظِيمًا مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مِنْ» زَائِدَةً أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى- وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى لَمَّا قَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَقَاصِيصَ قَالَ لِلْمُشْرِكِينَ مُوَبِّخًا وَمُقَرِّعًا: أَفَرَأَيْتُمُ أَيْ: أَخْبِرُونِي عَنِ الْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ لَهَا قُدْرَةٌ تُوصَفُ بِهَا؟ وَهَلْ أَوْحَتْ إِلَيْكُمْ شَيْئًا كَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُحَمَّدٍ؟ أَمْ هِيَ جَمَادَاتٌ لَا تَعْقِلُ وَلَا تَنْفَعُ؟ ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي اشْتُهِرَتْ فِي الْعَرَبِ وَعَظُمَ اعْتِقَادُهُمْ فِيهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَكَانُوا يَشْتَقُّونَ لها اسما مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالُوا مِنَ اللَّهِ اللَّاتَ، وَمِنَ الْعَزِيزِ الْعُزَّى، وَهِيَ تَأْنِيثُ الْأَعَزِّ بِمَعْنَى الْعَزِيزَةِ، وَمَنَاةَ مِنْ مَنَى اللَّهُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: اللَّاتَ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ، فَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ لَاتَ يَلِيتُ، فَالتَّاءُ أَصْلِيَّةٌ، وَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ، وَأَصْلُهُ لَوَى يَلْوِي لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَلْوُونَ أَعْنَاقَهُمْ إِلَيْهَا، أَوْ يَلْتَوُونَ عَلَيْهَا، وَيَطُوفُونَ بِهَا. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ هَلْ يُوقَفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ أَوْ بِالْهَاءِ؟ فَوَقَفَ عَلَيْهَا الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ وَوَقَفَ عَلَيْهَا الْكِسَائِيُّ بِالْهَاءِ، وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ الْوَقْفَ بِالتَّاءِ لِاتِّبَاعِ رَسْمِ الْمُصْحَفِ فَإِنَّهَا تُكْتَبُ بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَمَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَأَبُو صالح وحميد اللَّاتَ بتشديد التاء، ورويت الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ رجل كان

يَلِتُّ السَّوِيقَ وَيُطْعِمُهُ الْحَاجَّ، فَلَمَّا مَاتَ عَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ يَعْبُدُونَهُ، فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ فِي الْأَصْلِ غَلَبَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كان رجلا في رأس جبل [له غنيمة يسلي «1» منها السمن، و] «2» يَتَّخِذُ مِنْ لَبَنِهَا وَسَمْنِهَا حَيْسًا «3» ، وَيُطَعِمُ الْحَاجَّ، وَكَانَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمَّا مَاتَ عَبَدُوهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ لَهُ صِرْمَةُ غَنَمٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَامِرُ بْنُ الظَّرَبِ الْعُدْوَانِيُّ، وَكَانَ هَذَا الصَّنَمُ لِثَقِيفٍ، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ «4» : لَا تَنْصُرُوا اللَّاتَ إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهَا ... وَكَيْفَ يَنْصُرُكُمْ مَنْ لَيْسَ يَنْتَصِرُ قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَاللَّاتُ اسْمُ صَنَمٍ لِثَقِيفٍ، وَكَانَ بِالطَّائِفِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقِفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْهَاءِ. وَالْعُزَّى صَنَمُ قُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ شَجَرَةٌ كَانَتْ بِغَطَفَانَ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَطَعَهَا، وَقِيلَ: كَانَتْ شَيْطَانَةٌ تَأْتِي ثَلَاثَ سَمُرَاتٍ بِبَطْنِ نَخْلَةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْعُزَّى: حَجَرٌ أَبْيَضٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ بَيْتٌ كَانَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ وَمَناةَ صَنَمُ بَنِي هِلَالٍ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: صَنَمُ هُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ لِلْأَنْصَارِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَناةَ بِأَلِفٍ مِنْ دُونِ هَمْزَةٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّلَمِيُّ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ «5» . فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَاشْتِقَاقُهَا مِنْ مَنَى يَمْنَى، أَيْ صَبَّ لِأَنَّ دِمَاءَ النَّسَائِكِ كَانَتْ تُصَبُّ عِنْدَهَا يَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ إِلَيْهَا. وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فَاشْتِقَاقُهَا مِنَ النَّوْءِ، وَهُوَ الْمَطَرُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَمْطِرُونَ عِنْدَهَا الْأَنْوَاءَ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ لِلْعَرَبِ، وَمِمَّا جَاءَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى قَوْلُ جَرِيرٍ: أَزَيْدَ مَنَاةَ تُوعِدُ يَا ابْنَ تَيْمٍ ... تَأَمَّلْ أَيْنَ تَاهَ بِكَ الْوَعِيدُ وَمِمَّا جاء على القراءة الأخرى قول الحارئي: أَلَا هَلْ أَتَى التَّيْمُ بْنُ عَبْدِ مُنَاءَةٍ ... على الشّنء فِيمَا بَيْنَنَا ابْنُ تَمِيمِ وَقَفَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ اتَّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَوَقَفَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَمَنَاةُ اسْمُ صَنَمٍ كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَالْهَاءُ لِلتَّأْنِيثِ وَيُسْكَتُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ. قَوْلُهُ: الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هَذَا وَصْفٌ لِمَنَاةَ، وَصَفَهَا بِأَنَّهَا ثَالِثَةٌ وَبِأَنَّهَا أُخْرَى، وَالثَّالِثَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا أُخْرَى. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فَالْوَصْفُ بِالْأُخْرَى لِلتَّأْكِيدِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ وَصْفُ الثَّالِثَةِ بِالْأُخْرَى، وَالْعَرَبُ إِنَّمَا تَصِفُ بِهِ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ الْخَلِيلُ: إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله: مَآرِبُ أُخْرى «6» وقال الحسين بن الفضل:

_ (1) . «يسلي» : يجمع. (2) . من تفسير القرطبي (17/ 100) . (3) . «الحيس» : الطعام المتّخذ من التمر والأقط والسمن. [.....] (4) . هو شداد بن عارض الجشمي. (5) . أي: مناءة. (6) . طه: 18.

فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى الْأُخْرَى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ وَصْفَهَا بِالْأُخْرَى لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ لِأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ عَظِيمَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لِلتَّحْقِيرِ وَالذَّمِّ، وَإِنَّ الْمُرَادَ الْمُتَأَخِّرَةُ الْوَضِيعَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ «1» أَيْ: وُضَعَاؤُهُمْ لِرُؤَسَائِهِمْ. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ تَوْبِيخَهُمْ وَتَقْرِيعَهُمْ بِمَقَالَةٍ شَنْعَاءَ قَالُوهَا فَقَالَ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى أَيْ: كَيْفَ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْإِنَاثِ، وَتَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنَ الذُّكُورِ، قِيلَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ كَيْفَ تَجْعَلُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وَهِيَ إِنَاثٌ، فِي زَعْمِكُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَمِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَحْتَقِرُوا الْإِنَاثَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ وَالْقِسْمَةَ الْمَفْهُومَةَ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ قِسْمَةٌ جَائِرَةٌ، فَقَالَ: تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى قَرَأَ الْجُمْهُورُ: ضِيزى بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا قِسْمَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الصَّوَابِ جَائِرَةٌ عَنِ الْعَدْلِ مَائِلَةٌ عَنِ الْحَقِّ. قَالَ الْأَخْفَشُ: يقال: ضاز في الحكم، أي: جار، وضاز حَقَّهُ يَضِيزُهُ ضَيْزًا، أَيْ: نَقَصَهُ وَبَخَسَهُ، قَالَ: وَقَدْ يُهْمَزُ، وَأَنْشَدَ: فَإِنْ تَنْأَ عَنَّا نَنْتَقِصْكَ وَإِنْ تَغِبْ «2» ... فَحَقُّكَ «3» مَضْئُوزٌ وَأَنْفُكَ رَاغِمُ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: ضَازَ يَضِيزُ ضَيْزًا، وَضَازَ يَضُوزُ ضَوْزًا إِذَا تَعَدَّى وَظَلَمَ وَبَخَسَ وَانْتَقَصَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «4» : ضَازَتْ بَنُو أَسَدٍ بِحُكْمِهِمُ ... إِذْ يَجْعَلُونَ الرَّأْسَ كَالذَّنَبِ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: ضِئْزَى بِالْهَمْزِ، وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْعَرَبَ تَهْمِزُ «ضِيزَى» . قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِعْلَى بِكَسْرِ الْفَاءِ فِي النُّعُوتِ، إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ مِثْلَ ذِكْرَى. قَالَ الْمُؤَرِّجُ: كَرِهُوا ضَمَّ الضَّادِ فِي ضِيزَى، وَخَافُوا انْقِلَابَ الْيَاءِ وَاوًا، وَهِيَ مِنْ بَنَاتِ الْوَاوِ، فَكَسَرُوا الضَّادَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، كَمَا قَالُوا فِي جَمْعِ أَبْيَضَ بِيضٌ، وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقِيلَ: هِيَ مَصْدَرٌ كَذِكْرَى، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: قِسْمَةٌ ذَاتُ جَوْرٍ وَظُلْمٍ. ثُمَّ رَدَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أَيْ: مَا الْأَوْثَانُ أَوِ الْأَصْنَامُ بِاعْتِبَارِ مَا تَدَّعُونَهُ مِنْ كَوْنِهَا آلِهَةً إِلَّا أَسْمَاءٌ مَحْضَةٌ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ الَّتِي تَدَّعُونَهَا لِأَنَّهَا لَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ، وَلَا تَعْقِلُ وَلَا تَفْهَمُ، وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، فَلَيْسَتْ إِلَّا مُجَرَّدَ أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ، قَلَّدَ الْآخِرُ فِيهَا الْأَوَّلَ، وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الْأَبْنَاءُ الْآبَاءَ. وَفِي هَذَا مِنَ التَّحْقِيرِ لِشَأْنِهَا مَا لَا يَخْفَى، كَمَا تَقُولُ فِي تَحْقِيرِ رَجُلٍ: مَا هُوَ إِلَّا اسْمٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مُشْتَمِلًا عَلَى صِفَةٍ مُعْتَبَرَةٍ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها «5» يُقَالُ: سَمَّيْتُهُ زَيْدًا وَسَمَّيْتُهُ بِزَيْدٍ، فَقَوْلُهُ «سَمَّيْتُمُوهَا» صفة

_ (1) . الأعراف: 38. (2) . في تفسير القرطبي: تقم. (3) . في تفسير القرطبي: فقسمك. (4) . هو امرؤ القيس. (5) . يوسف: 40.

لِأَصْنَامٍ، وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْأَسْمَاءِ لَا إِلَى الْأَصْنَامِ، أَيْ: جَعَلْتُمُوهَا أَسْمَاءً لَا جَعَلْتُمْ لَهَا اسما. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: هِيَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أَيْ: مَا أَنْزَلَ بِهَا مِنْ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمْ يُنْزِلْ لَنَا كِتَابًا لَكُمْ فِيهِ حُجَّةٌ كَمَا تَقُولُونَ إِنَّهَا آلِهَةٌ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أَيْ: مَا يَتَّبِعُونَ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ التَّسْمِيَةِ وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِهَا إِلَّا الظَّنَّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَالْتَفَتَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ وَتَحْقِيرًا لِشَأْنِهِمْ، فَقَالَ: وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أَيْ: تَمِيلُ إِلَيْهِ وَتَشْتَهِيهِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى مَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ الِاتِّبَاعُ لَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَتَّبِعُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَ عيسى بن عمر وأيوب وابن السّميقع بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَلْحَةَ وَابْنِ وَثَّابٍ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أَيِ: الْبَيَانُ الْوَاضِحُ الظَّاهِرُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَتَّبِعُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَتَّبِعُونَ ذَلِكَ وَالْحَالُ أَنْ قَدْ جَاءَهُمْ مَا فِيهِ هُدًى لَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى «أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ الَّتِي لِلْإِنْكَارِ، فَأَضْرَبَ عَنِ اتِّبَاعِهِمُ الظَّنَّ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ التَّوَهُّمِ، وَعَنِ اتِّبَاعِهِمْ هَوَى الْأَنْفُسِ وَمَا تَمِيلُ إِلَيْهِ، وَانْتَقَلَ إِلَى إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَتَمَنَّوْنَ مِنْ كَوْنِ الْأَصْنَامِ تَنْفَعُهُمْ وَتَشْفَعُ لَهُمْ. ثُمَّ عَلَّلَ انْتِفَاءَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى بِقَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أَيْ: إِنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَيْسَ لَهُمْ مَعَهُ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أُمْنِيَاتُهُمُ الْبَاطِلَةُ وَأَطْمَاعُهُمُ الْفَارِغَةُ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ وَزَادَ فِي إِبْطَالِ مَا يَتَمَنَّوْنَهُ فَقَالَ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً و «كم» هُنَا هِيَ الْخَبَرِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلتَّكْثِيرِ، وَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا خَبَرُهَا، وَلِمَا فِي كَمْ مِنْ مَعْنَى التَّكْثِيرِ جَمَعَ الضَّمِيرَ فِي شَفَاعَتُهُمْ مَعَ إِفْرَادِ الْمَلَكِ، وَالْمَعْنَى: التَّوْبِيخُ لَهُمْ بِمَا يَتَمَنَّوْنَ وَيَطْمَعُونَ فِيهِ مِنْ شَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ مَعَ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ كَثْرَةِ عِبَادَتِهَا وَكَرَامَتِهَا عَلَى اللَّهِ لَا تَشْفَعُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ أن يشفع له، فكيف هذه الْجَمَادَاتِ الْفَاقِدَةِ لِلْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ لِمَنْ يَشاءُ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُ وَيَرْضى بِالشَّفَاعَةِ لَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَلَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ حَظٌّ، وَلَا يَأْذَنُ اللَّهُ بِالشَّفَاعَةِ لَهُمْ، وَلَا يَرْضَاهَا لِكَوْنِهِمْ لَيْسُوا مِنَ المستحقّين لها. وقد أخرج ابن جرير وعن ابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى قَالَ: إِذَا انْصَبَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: هُوَ الثُّرَيَّا إِذَا تَدَلَّتْ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أقسم الله أنه مَا ضَلَّ مُحَمَّدٌ وَلَا غَوَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: ذُو مِرَّةٍ قَالَ: ذُو خَلْقٍ حَسَنٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ، أَمَّا وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ سَأَلَهُ أن يراه في صورته فأراه صوته فَسَدَّ الْأُفُقَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهُ حَيْثُ صَعِدَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى - لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قَالَ: خَلْقَ جِبْرِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى لَهُ ستّمائة جناح»

وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى قَالَ: مطلع الشمس. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى قَالَ: «رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي قَوْلِهِ: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ حُلَّتَا رَفْرَفٍ أَخْضَرَ، قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: دَنَا رَبُّهُ فَتَدَلَّى. وأخرج قَالَ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَنَا فَتَدَلَّى إِلَى رَبِّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: دَنَا رَبُّهُ فَتَدَلَّى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ قَالَ: دَنَا جِبْرِيلُ مِنْهُ حَتَّى كَانَ قَدْرَ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقَابُ: الْقِيدُ، وَالْقَوْسَيْنِ: الذِّرَاعَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَرَبَ مِنْ رَبِّهِ، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، أَلَمْ تَرَ إِلَى الْقَوْسِ مَا أَقْرَبَهَا مِنَ الْوَتَرِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى قَالَ: عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ مَرَّتَيْنِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِبَصَرِهِ وَمَرَّةً بِفُؤَادِهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ؟ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟» قَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ «أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: هل رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ نُورًا» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِبَصَرِهِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى قَالَ جِبْرِيلَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مسعود: «لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السماء السادسة، إليها ينتهي ما يصعد مِنَ الْأَرْوَاحِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا» إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى قَالَ: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْعُلْيَا، وَالنَّارُ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ اللات رجالا يَلِتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ: أَنَّ الْعُزَّى كَانَتْ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، وَأَنَّ اللات كانت بالطائف، وأن

[سورة النجم (53) : الآيات 27 إلى 42]

مَنَاةَ كَانَتْ بِقَدِيدَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضِيزى قَالَ: جَائِرَةٌ، لَا حَقَّ لها. [سورة النجم (53) : الآيات 27 الى 42] إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أَيْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُمُ الْكُفَّارُ، يَضُمُّونَ إِلَى كُفْرِهِمْ مَقَالَةً شَنْعَاءَ وَجَهَالَةً جَهْلَاءَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ الْمَلَائِكَةَ الْمُنَزَّهِينَ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ، فَجَعَلُوهُمْ إِنَاثًا، وَسَمَّوْهُمْ بَنَاتٍ وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ جملة فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يُسَمُّونَهُمْ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ غَيْرُ عَالِمِينَ بِمَا يَقُولُونَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُمْ، وَلَا شَاهَدُوهُمْ، وَلَا بَلَغَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي يُخْبِرُ الْمُخْبِرُونَ عَنْهَا، بَلْ قَالُوا ذَلِكَ جَهْلًا وَضَلَالَةً وَجَرْأَةً. وَقُرِئَ «مَا لَهُمْ بِهَا» أَيْ: بِالْمَلَائِكَةِ أَوِ التَّسْمِيَةِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أَيْ: مَا يَتَّبِعُونَ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلَّا مُجَرَّدَ الظَّنِّ وَالتَّوَهُّمِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عن الظنّ وحكمه فقال: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أَيْ: إِنَّ جِنْسَ الظَّنِّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ، وَالْحَقُّ هُنَا الْعِلْمُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الظَّنِّ لَا يقوم قيام الْعِلْمِ، وَأَنَّ الظَّانَّ غَيْرُ عَالِمٍ. وَهَذَا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْعِلْمِ وَهِيَ الْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ، لَا فِيمَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ، وهي الحقائق الْعَمَلِيَّةُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ هَذَا. وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّخْصِيصِ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ وَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ظَنِّيَّةٌ، فَالْعَمَلُ بِهَا عَمَلٌ بِالظَّنِّ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَكَانَتْ أَدِلَّةُ وُجُوبِهِ العمل بما فيها مُخَصِّصَةٌ لِهَذَا الْعُمُومِ، وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الذَّمِّ لِمَنْ عَمِلَ بِالظَّنِّ وَالنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِهِ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا أَيْ: أَعْرِضْ عَمَّنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِنَا، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الْقُرْآنُ، أَوْ ذِكْرُ الْآخِرَةِ، أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الْإِيمَانُ، وَالْمَعْنَى: اتْرُكْ مُجَادَلَتَهُمْ فَقَدْ بَلَّغْتَ إِلَيْهِمْ مَا أُمِرْتَ بِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ: لَمْ يُرِدْ سِوَاهَا، وَلَا طَلَبَ غَيْرَهَا، بَلْ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَأَهِّلٍ لِلْخَيْرِ، وَلَا مُسْتَحِقٍّ لِلِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ. ثُمَّ صَغَّرَ سُبْحَانَهُ شَأْنَهُمْ، وَحَقَّرَ أَمْرَهُمْ فَقَالَ: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أَيْ: إِنَّ ذَلِكَ التَّوَلِّيَ وَقَصْرَ الْإِرَادَةِ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، لَيْسَ لَهُمْ غَيْرُهُ،

وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى سِوَاهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: ذَلِكَ قَدْرُ عُقُولِهِمْ وَنِهَايَةُ عِلْمِهِمْ أَنْ آثَرُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى جَعْلِهِمْ لِلْمَلَائِكَةِ بَنَاتِ اللَّهِ، وَتَسْمِيَتِهِمْ لَهُمْ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هَنَا مُطْلَقُ الْإِدْرَاكِ الَّذِي يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الظَّنُّ الْفَاسِدُ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ جَهْلِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ مُجَرَّدَ الظَّنِّ. وَقِيلَ: مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُعَلَّلِ وَالْعِلَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى فَإِنَّ هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ حَادَ عَنِ الْحَقِّ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ، وَأَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى فَقَبِلَ الْحَقَّ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ وَعَمِلَ بِهِ، فَهُوَ مُجَازٍ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِرْشَادٌ لَهُ بأنه لَا يُتْعِبَ نَفْسَهُ فِي دَعْوَةِ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الضَّلَالَةِ وَسَبَقَتْ لَهُ الشَّقَاوَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ حَالَ هَذَا الْفَرِيقِ الضَّالِّ كَمَا عَلِمَ حَالَ الْفَرِيقِ الرَّاشِدِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ سَعَةِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ مُلْكِهِ، فَقَالَ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ: هُوَ الْمَالِكُ لِذَلِكَ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ لَا يُشَارِكُهُ فيه أحد، واللام في لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَالِكُ ذَلِكَ، يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ لِيَجْزِيَ الْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ وَالْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى لِيَجْزِيَ. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: وَعَاقِبَةُ أَمْرِ الْخَلْقِ الَّذِينَ فِيهِمُ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ أَنْ يَجْزِيَ اللَّهُ كُلًّا مِنْهُمَا بِعَمَلِهِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّ اللَّامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. قَرَأَ الجمهور لِيَجْزِيَ بالتحتية. وقرأ زيد ابن عَلِيٍّ بِالنُّونِ، وَمَعْنَى بِالْحُسْنَى أَيْ: بِالْمَثُوبَةِ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّةُ، أَوْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الْحُسْنَى، ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُحْسِنِينَ فَقَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ فَهَذَا الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ أَحْسَنُوا وَقِيلَ بَدَلٌ مِنْهُ، وَقِيلَ بَيَانٌ لَهُ، وَقِيلَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، أو في رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَبائِرَ عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ كَبِيرَ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْكَبَائِرُ: كُلُّ ذَنْبٍ تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، أَوْ ذَمَّ فَاعِلَهُ ذَمًّا شَدِيدًا، وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْقِيقِ الْكَبَائِرِ كَلَامٌ طَوِيلٌ. وَكَمَا اخْتَلَفُوا فِي تَحْقِيقِ مَعْنَاهَا وَمَاهِيَّتِهَا اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهَا، وَالْفَوَاحِشُ: جُمَعُ فَاحِشَةٍ، وَهِيَ مَا فَحُشَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ كَالزِّنَا وَنَحْوِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَبَائِرُ الْإِثْمِ كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِالنَّارِ، وَالْفَوَاحِشُ: كُلُّ ذَنْبِ فِيهِ الْحَدُّ. وَقِيلَ: الْكَبَائِرُ: الشِّرْكُ، وَالْفَوَاحِشُ: الزِّنَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مَا هُوَ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا وَأَكْثَرُ فَائِدَةً، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ مُنْقَطِعٌ «1» . وَأَصْلُ اللَّمَمِ فِي اللُّغَةِ مَا قَلَّ وصغر، منه: أَلَمَّ بِالْمَكَانِ قَلَّ لُبْثُهُ فِيهِ، وَأَلَمَّ بِالطَّعَامِ قَلَّ أَكْلُهُ مِنْهُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ اللَّمَمِ أَنْ تُلِمَّ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْكَبَهُ. يُقَالُ: أَلَمَّ بِكَذَا إِذَا قَارَبَهُ وَلَمْ يُخَالِطْهُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الْإِلْمَامَ فِي مَعْنَى الدنوّ والقرب، ومنه قول جرير:

_ (1) . في تفسير القرطبي (17/ 108) : متصل.

بِنَفْسِي مَنْ تَجَنُّبُهُ عَزِيزٌ ... عَلَيَّ وَمَنْ زِيَارَتُهُ لِمَامُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا «1» وَنَارًا تَأَجَّجَا قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ اللَّمَمِ وَالْإِلْمَامِ مَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَلَا يَتَعَمَّقُ فِيهِ، وَلَا يُقِيمُ عَلَيْهِ، يُقَالُ: أَلْمَمْتُ بِهِ إِذَا زُرْتُهُ وَانْصَرَفْتُ عَنْهُ، وَيُقَالُ: مَا فَعَلْتُهُ إِلَّا لمما وَإِلْمَامًا، أَيِ: الْحِينَ بَعْدَ الْحِينِ، وَمِنْهُ إِلْمَامُ الْخَيَالِ. قَالَ الْأَعْشَى: أَلَمَّ خَيَالٌ مِنْ قُتَيْلَةَ بعد ما ... هي حَبْلُهَا مِنْ حَبْلِنَا فَتَصَرَّمَا قَالَ فِي الصِّحَاحِ: ألمّ الرجل من اللمم وَهُوَ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ، وَيُقَالُ: هُوَ مُقَارَبَةُ الْمَعْصِيَةِ مِنْ غَيْرِ مُوَاقَعَةٍ، وَأَنْشَدَ غَيْرُهُ: بِزَيْنَبَ أَلْمِمْ قَبْلَ أَنْ يَرْحَلَ الرَّكْبُ ... وَقُلْ إِنْ تَمَلِّينَا فَمَا مَلَّكِ الْقَلْبُ وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا اللَّمَمِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا كَانَ دُونَ الزِّنَا مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْغَمْزَةِ وَالنَّظْرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الرَّجُلُ يُلِمُّ بِذَنْبٍ ثُمَّ يَتُوبُ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَالزَّهْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَمِنْهُ: إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرُ جَمَّا ... وأيّ عبد لك لا أَلَمَّا؟ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ. وَقِيلَ: هُوَ ذُنُوبُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ بِهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ: هُوَ أَنْ يأتي بذنب لم يكن له بعبادة. قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَا تَأْتِينَا إِلَّا إِلْمَامًا، أَيْ: فِي الْحِينِ بَعْدَ الْحِينِ. قَالَ: وَلَا يَكُونُ أَنْ يُلِمَّ وَلَا يَفْعَلَ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ أَلَمَّ بِنَا إِلَّا إِذَا فَعَلَ، لَا إِذَا هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ، وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ تَعْلِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْنَاءُ، أَيْ: إِنْ ذَلِكَ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمُؤَاخَذَةِ فَلَيْسَ يَخْلُو عَنْ كَوْنِهِ ذَنْبًا يَفْتَقِرُ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَيَحْتَاجُ إِلَى رَحْمَتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَغْفِرُ لِمَنْ تَابَ عَنْ ذَنْبِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ فَقَالَ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أَيْ: خَلَقَكُمْ مِنْهَا فِي ضِمْنِ خَلْقِ أَبِيكُمْ آدَمَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ آدَمُ فَإِنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِكُمْ وَقْتَ كَوْنِكُمْ أَجِنَّةً، والأجنّة: جمع جنين هو الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاجْتِنَانِهِ، أَيِ: اسْتِتَارِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلَا يُسَمَّى مَنْ خَرَجَ عَنِ الْبَطْنِ جَنِينًا، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أَيْ لَا تَمْدَحُوهَا وَلَا تُبَرِّئُوهَا عَنِ الْآثَامِ وَلَا تُثْنُوا عَلَيْهَا، فَإِنَّ تَرْكَ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ أَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْخُشُوعِ، وَجُمْلَةُ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى مُسْتَأْنَفَةٌ مقررة

_ (1) . «الجزل» : الكثير العظيم.

لِلنَّهْيِ، أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى عُقُوبَةَ اللَّهِ وَأَخْلَصَ الْعَمَلَ لَهُ. قَالَ الْحَسَنُ: وَقَدْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ مِنْ كُلِّ نَفْسٍ مَا هِيَ عَامِلَةٌ، وَمَا هِيَ صَانِعَةٌ، وَإِلَى مَا هِيَ صَائِرَةٌ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ جَهَالَةَ الْمُشْرِكِينَ على العمون خَصَّ بِالذَّمِّ بَعْضَهُمْ، فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أَيْ: تَوَلَّى عَنِ الْخَيْرِ، وَأَعْرَضَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى أَيْ: أَعْطَى عَطَاءً قليلا، وأعطى شَيْئًا قَلِيلًا، وَقَطَعَ ذَلِكَ وَأَمْسَكَ عَنْهُ، وَأَصْلُ أَكْدَى مِنَ الْكُدْيَةِ وَهِيَ الصَّلَابَةُ، يُقَالُ: لِمَنْ حَفَرَ بِئْرًا ثُمَّ بَلَغَ فِيهَا إِلَى حَجَرٍ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ فِيهِ حَفْرٌ: قَدْ أَكْدَى، ثُمَّ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ لِمَنْ أَعْطَى فَلَمْ يُتِمَّ، وَلِمَنْ طَلَبَ شَيْئًا فَلَمْ يَبْلُغْ آخِرَهُ، وَمِنْهُ قول الحطيئة: فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه ... وَمَنْ يَبْذُلِ الْمَعْرُوفَ فِي النَّاسِ يُحْمَدِ قَالَ الكسائي وأبو زيد: [أكدى الحافر وأجبل: إذا بلغ في حفره كدية أو جبلا، فلا يمكنه أن يحفر. وحفر فأكدى: إذا بلغ إلى الصّلب] «1» . وَيُقَالُ: كَدِيَتْ أَصَابِعُهُ: إِذَا مَحَلَتْ «2» مِنَ الْحَفْرِ، وكديت يَدُهُ: إِذَا كَلَّتْ فَلَمْ تَعْمَلْ شَيْئًا، وَكَدَتِ الْأَرْضُ: إِذَا قَلَّ نَبَاتُهَا، وَأَكْدَيْتُ الرَّجُلَ عَنِ الشَّيْءِ رَدَدْتُهُ، وَأَكْدَى الرَّجُلُ: إِذَا قَلَّ خَيْرُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَمْسَكَ مِنَ الْعَطِيَّةِ وقطع. وقال المبرد: منعه مَنْعًا شَدِيدًا. قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ قَدِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دِينِهِ، فَعَيَّرَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ فَتَرَكَ وَرَجَعَ إِلَى شِرْكِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الْوَلِيدُ مَدَحَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْهُ فَأَعْطَى قَلِيلًا مِنْ لِسَانِهِ مِنَ الْخَيْرِ ثُمَّ قَطَعَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمَعْنَى: أَعْنَدَ هَذَا الْمُكْدِي عِلْمُ مَا غاب عنه أَمْرِ الْعَذَابِ، فَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى - وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَيْ: أَلَمْ يُخْبَرْ وَلَمْ يُحَدَّثْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى؟ يَعْنِي أَسْفَارَهُ، وَهِيَ التَّوْرَاةُ، وَبِمَا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَيْ: تَمَّمَ وَأَكْمَلَ مَا أُمِرَ بِهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ: بَلَّغَ قَوْمَهُ مَا أُمِرَ بِهِ وَأَدَّاهُ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ: بَالَغَ فِي الْوَفَاءِ بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا فِي صُحُفِهِمَا فَقَالَ: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةٌ حِمْلَ نَفْسٍ أُخْرَى، وَمَعْنَاهُ: لَا تُؤْخَذُ نَفْسٌ بِذَنْبِ غَيْرِهَا، وَ «إِنْ» هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مُقَدَّرٌ، وَخَبَرُهَا الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ الْجَرُّ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ صُحُفِ مُوسَى وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ، أَوِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَّا تَزِرُ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا فِي صُحُفِ مُوسَى، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ لَهُ إِلَّا أَجْرُ سَعْيِهِ وَجَزَاءُ عَمَلِهِ، وَلَا يَنْفَعُ أَحَدًا عَمَلُ أَحَدٍ، وَهَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ بِمِثْلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «3» ، وَبِمِثْلِ مَا وَرَدَ فِي شَفَاعَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ لِلْعِبَادِ وَمَشْرُوعِيَّةِ دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ لِلْأَمْوَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ،

_ (1) . من تفسير القرطبي (11/ 112) . (2) . في تفسير القرطبي: كلّت. (3) . الطور: 21.

وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ الْخَاصَّ لَا يَنْسَخُ الْعَامَّ، بَلْ يُخَصِّصُهُ، فَكُلُّ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ سَعْيِهِ كَانَ مُخَصَّصًا لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْعُمُومِ. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أَيْ: يُعْرَضُ عَلَيْهِ وَيُكْشَفُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُجْزاهُ أَيْ: يُجْزَى الْإِنْسَانُ سَعْيَهُ، يُقَالُ: جَزَاهُ اللَّهُ بِعَمَلِهِ وَجَزَاهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْمَنْصُوبُ إِلَى سَعْيِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ رَاجِعٌ إِلَى الْجَزَاءِ الْمُتَأَخِّرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الْجَزاءَ الْأَوْفى فَيَكُونُ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ هُوَ مُفَسِّرٌ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ رَاجِعًا إِلَى الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ يُجْزَاهُ، وَيُجْعَلُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى تَفْسِيرًا لِلْجَزَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ، كما في قوله: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ «1» قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ: جَزَيْتُهُ الْجَزَاءَ «2» وَجَزَيْتُهُ بِالْجَزَاءِ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أَيْ: الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ قَالَ: الْكَبَائِرُ: مَا سَمَّى اللَّهُ فِيهِ النَّارَ، وَالْفَوَاحِشُ: مَا كَانَ فيه حدّ الدنيا. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إن اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ: زِنَا الْعَيْنَيْنِ: النَّظَرُ، وَزِنَا الشَّفَتَيْنِ: التَّقْبِيلُ، وَزِنَا الْيَدَيْنِ: الْبَطْشُ، وَزِنَا الرِّجْلَيْنِ: الْمَشْيُ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرَجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَإِنَّ تَقَدَّمَ بِفَرْجِهِ كَانَ زَانِيًا، وَإِلَّا فَهُوَ اللَّمَمُ. وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ: هِيَ النَّظْرَةُ وَالْغَمْزَةُ وَالْقُبْلَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ، فَإِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ، وَهُوَ الزِّنَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ هُوَ الرَّجُلُ يُلِمُّ بِالْفَاحِشَةِ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهَا. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَ تَغْفِرْ جَمَّا ... وأيّ عبد لك لا أَلَمَّا؟ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ يَقُولُ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ: اللَّمَّةُ: مِنَ الزِّنَا ثُمَّ يَتُوبُ وَلَا يَعُودُ، وَاللَّمَّةُ: مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ثُمَّ يَتُوبُ وَلَا يَعُودُ، فَذَلِكَ الْإِلْمَامُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اللَّمَمُ كُلُّ شَيْءٍ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ حَدِّ الدُّنْيَا وَحَدِّ الْآخِرَةِ يُكَفِّرُهُ الصَّلَاةُ، وَهُوَ دُونَ كُلِّ مُوجِبٍ، فَأَمَّا حَدُّ الدُّنْيَا فَكُلُّ حَدٍّ فَرَضَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا حدّ الآخرة فكلّ شيء

_ (1) . المائدة: 8. [.....] (2) . من تفسير القرطبي (17/ 115) .

[سورة النجم (53) : الآيات 43 إلى 62]

خَتَمَهُ اللَّهُ بِالنَّارِ وَأَخَّرَ عُقُوبَتَهُ إِلَى الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ إِذَا هَلَكَ لَهُمْ صَبِيٌّ صَغِيرٌ قَالُوا: هُوَ صِدِّيقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «كَذَبَتْ يَهُودُ مَا مِنْ نَسَمَةٍ يَخْلُقُهَا فِي بَطْنِ أُمِّهَا إِلَّا أَنَّهُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ الْآيَةَ كُلَّهَا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بَرَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ، سَمُّوهَا زَيْنَبَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى قَالَ: قَطَعَ، نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: أَطَاعَ قَلِيلًا ثُمَّ انْقَطَعَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ ابن مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالشِّيرَازِيُّ فِي الْأَلْقَابِ، وَالدَّيْلَمِيُّ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا قَوْلُهُ: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: وَفَّى عَمَلَ يَوْمِهِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ كَانَ يُصَلِّيهِنَّ، وَزَعَمَ أَنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى» وَفِي إِسْنَادِهِ جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سِهَامُ الْإِسْلَامِ ثَلَاثُونَ سَهْمًا لَمْ يُتَمِّمْهَا أَحَدٌ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ الَّذِي اسْتَكْمَلَ الطَّاعَةَ فِيمَا فَعَلَ بِابْنِهِ حِينَ رَأَى الرُّؤْيَا، وَالَّذِي فِي صُحُفِ مُوسَى. أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَهْلِ بن معاذ ابن أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وَفَّى؟ إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ» وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَالنَّجْمِ فَبَلَغَ وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى قَالَ: وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ النُّذُرِ الْأُولى. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّحَّاسُ كِلَاهُمَا فِي النَّاسِخِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «1» ، فَأَدْخَلَ اللَّهُ الْأَبْنَاءَ الْجَنَّةَ بِصَلَاحِ الْآبَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى - وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى - ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى اسْتَرْجَعَ وَاسْتَكَانَ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى قَالَ: «لَا فِكْرَةَ في الرب» «2» . [سورة النجم (53) : الآيات 43 الى 62] وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

_ (1) . الطور: 21. (2) . أي لا تحيط به الفكرة. [تفسير البغوي: 4/ 255] .

قَوْلُهُ: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى أَيْ: هُوَ الْخَالِقُ لِذَلِكَ وَالْقَاضِي بِسَبَبِهِ. قَالَ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: أَضْحَكَ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبْكَى أَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَضْحَكَ الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ، وَأَبْكَى السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ، وَقِيلَ: أَضْحَكَ مَنْ شَاءَ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ سَرَّهُ، وَأَبْكَى مَنْ شَاءَ بِأَنْ غَمَّهُ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَضْحَكَ الْمُطِيعِينَ بِالرَّحْمَةِ، وَأَبْكَى الْعَاصِينَ بِالسُّخْطِ وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أَيْ: قَضَى أَسْبَابَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: خَلَقَ نَفْسَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، كَمَا فِي قوله: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ «1» وَقِيلَ: أَمَاتَ الْآبَاءَ وَأَحْيَا الْأَبْنَاءَ، وَقِيلَ: أَمَاتَ فِي الدُّنْيَا وَأَحْيَا لِلْبَعْثِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمَا النَّوْمُ وَالْيَقَظَةُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَاتَ بِعَدْلِهِ وَأَحْيَا بفضله، وقيل: أمات الكافر وأحياء الْمُؤْمِنَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «2» وأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى - مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى الْمُرَادُ بِالزَّوْجَيْنِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ آدَمُ وَحَوَّاءُ فَإِنَّهُمَا لَمْ يُخْلَقَا مِنَ النُّطْفَةِ، وَالنُّطْفَةُ: الماء القليل، ومعنى: إِذا تُمْنى إذا تُصَبُّ فِي الرَّحِمِ وَتَدْفُقُ فِيهِ، كَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرُهُمْ، يُقَالُ: مَنَى الرَّجُلُ وَأَمْنَى، أَيْ: صَبَّ الْمَنِيَّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِذا تُمْنى إِذَا تُقَدَّرُ، يُقَالُ: مَنَيْتُ الشَّيْءَ: إِذَا قَدَّرْتُهُ، وَمُنِيَ لَهُ أَيْ: قُدِّرَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «3» : حَتَّى تُلَاقِي مَا يُمَنِّي لَكِ الْمَانِي «4» وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُقَدِّرُ مِنْهَا الْوَلَدَ. وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أَيْ: إِعَادَةَ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَامِ عِنْدَ الْبَعْثِ وَفَاءً بِوَعْدِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: النَّشْأَةَ بِالْقَصْرِ بِوَزْنِ الضَّرْبَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْمَدِّ بِوَزْنِ الْكَفَالَةِ، وَهُمَا عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ مَصْدَرَانِ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أَيْ: أَغْنَى مَنْ شَاءَ وَأَفْقَرَ مَنْ شَاءَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ «5» وقوله: يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ «6» قاله ابْنُ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: أَغْنَى: مَوَّلَ، وَأَقْنَى: أَخْدَمَ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَقْنَى: أَعْطَى الْقِنْيَةَ، وَهِيَ مَا يُتَأَثَّلُ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَقِيلَ: مَعْنَى أَقْنَى: أَرْضَى بِمَا أَعْطَى، أَيْ: أَغْنَاهُ، ثُمَّ رَضَّاهُ بِمَا أَعْطَاهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَنَّى الرَّجُلُ قِنًى، مِثْلَ غَنِيَ غِنًى، أَيْ: أَعْطَاهُ مَا يَقْتَنِي، وَأَقْنَاهُ: أَرْضَاهُ، والقنى: الرضا. قال أبو زيد: تقول

_ (1) . الملك: 2. (2) . الأنعام: 122. (3) . هو أبو قلابة الهذلي. (4) . وصدره: ولا تقولن لشيء سوف أفعله. (5) . الرعد: 26. (6) . البقرة: 245.

الْعَرَبُ مَنْ أَعْطَى مِائَةً مِنَ الْبَقَرِ فَقَدْ أَعْطَى الْقِنَى، وَمَنْ أَعْطَى مِائَةً مِنَ الضَّأْنِ فَقَدْ أَعْطَى الْغِنَى، وَمَنْ أَعْطَى مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ فَقَدْ أَعْطَى الْمُنَى. قَالَ الْأَخْفَشُ وَابْنُ كَيْسَانَ: أَقْنَى: أَفْقَرَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى هِيَ كَوْكَبٌ خَلَفَ الْجَوْزَاءِ كَانَتْ خُزَاعَةُ تَعْبُدُهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا الشِّعْرَى الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْعُبُورُ، وَهِيَ أَشَدُّ ضِيَاءً مِنَ الشِّعْرَى الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْغُمَيْصَاءُ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ رَبُّ الشِّعْرَى مَعَ كَوْنِهِ رَبًّا لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُهَا، وَأَوَّلُ مَنْ عَبَدَهَا أَبُو كَبْشَةَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ تَشْبِيهًا لَهُ بِهِ لِمُخَالَفَتِهِ دِينَهُمْ كَمَا خَالَفَهُمْ أَبُو كَبْشَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى وَصَفَ عَادًا بِالْأُولَى لِكَوْنِهِمْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ ثَمُودَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قِيلَ لَهَا عَادًا الْأُولَى، لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ أُمَّةٍ أُهْلِكَتْ بَعْدَ نُوحٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقٍ: هُمَا عَادَانِ، فَالْأُوْلَى أُهْلِكَتْ بِالصَّرْصَرِ، وَالْأُخْرَى أُهْلِكَتْ بِالصَّيْحَةِ. وَقِيلَ: عَادٌ الْأُولَى قَوْمُ هُودٍ وَعَادٌ الْأُخْرَى إِرَمُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَادًا الْأُولى بِالتَّنْوِينِ وَالْهَمْزِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى اللَّامِ وَإِدْغَامِ التَّنْوِينِ فِيهَا وَثَمُودَ فَما أَبْقى أَيْ: وأهلك ثمودا كما أهلك عادا، فما أبقى مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَثَمُودُ هُمْ قَوْمُ صَالِحٍ أُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى عَادٍ وَثَمُودَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أَيْ: وَأَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلِ إِهْلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أَيْ: أَظْلَمَ مِنْ عَادٍ وَثَمُودَ وَأَطْغَى مِنْهُمْ، أَوْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى مِنْ جَمِيعِ الْفِرَقِ الْكُفْرِيَّةِ، أَوْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا كَانُوا كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَتَوْا عَلَى اللَّهِ بِالْمَعَاصِي مَعَ طُولِ مُدَّةِ دَعْوَةِ نُوحٍ لَهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا «1» وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى الِائْتِفَاكُ: الِانْقِلَابُ، وَالْمُؤْتَفِكَةُ: مَدَائِنُ قَوْمِ لُوطٍ، وَسُمِّيَتِ الْمُؤْتَفِكَةَ. لِأَنَّهَا انْقَلَبَتْ بِهِمْ وَصَارَ عَالِيهَا سَافِلَهَا، تَقُولُ: أَفَكْتُهُ إِذَا قَلَبْتُهُ، وَمَعْنَى أَهْوَى: أَسْقَطَ، أَيْ: أَهْوَاهَا جِبْرِيلُ بَعْدَ أَنْ رَفَعَهَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: جَعَلَهَا تَهْوِي فَغَشَّاها مَا غَشَّى أَيْ: أَلْبَسَهَا مَا أَلْبَسَهَا مِنَ الْحِجَارَةِ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَيْهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «2» وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تَهْوِيلٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي غَشَّاهَا بِهِ وَتَعْظِيمٌ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: فَغَشَّاهَا مِنَ الْعَذَابِ مَا غَشَّى عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى هَذَا خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبِ، أَيْ: فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الْمُكَذِّبُ تُشَكِّكُ وَتَمْتَرِي، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضًا لِغَيْرِهِ، وَقِيلَ: لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَإِسْنَادُ فِعْلِ التَّمَارِي إِلَى الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِهِ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ مُتَعَلَّقِهِ، وَسَمَّى هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ آلَاءً، أَيْ: نِعَمًا مَعَ كَوْنِ بَعْضِهَا نِقَمًا لَا نِعَمًا، لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ، وَلِكَوْنِ فِيهَا انْتِقَامٌ مِنَ الْعُصَاةِ، وَفِي ذَلِكَ نُصْرَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَتَمارى مِنْ غَيْرِ إِدْغَامٍ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أَيْ: هَذَا مُحَمَّدٌ رَسُولٌ إِلَيْكُمْ مِنَ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ أَنْذَرَكُمْ كَمَا أَنْذَرُوا قَوْمَهُمْ، كَذَا قَالَ ابن جريج ومحمد بن كعب وغير هما. وقال

_ (1) . العنكبوت: 14. (2) . الحجر: 74.

قَتَادَةُ: يُرِيدُ الْقُرْآنَ، وَأَنَّهُ أَنْذَرَ بِمَا أَنْذَرَتْ بِهِ الْكُتُبُ الْأُولَى، وَقِيلَ: هَذَا الَّذِي أَخْبَرَنَا بِهِ عَنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ تَخْوِيفٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِأُولَئِكَ، كَذَا قَالَ أَبُو مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: إِنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِلَى مَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أَيْ: قَرُبَتِ السَّاعَةُ وَدَنَتْ، سَمَّاهَا آزِفَةً لِقُرْبِ قِيَامِهَا، وَقِيلَ: لِدُنُوِّهَا مِنَ النَّاسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «1» أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ لِيَسْتَعِدُّوا لَهَا. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ: يَعْنِي الْقِيَامَةَ، وَأَزِفَ الرَّجُلُ عَجِلَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمَّا تَزَلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قد ولَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أَيْ: لَيْسَ لَهَا نَفْسٌ قَادِرَةٌ عَلَى كَشْفِهَا عِنْدَ وُقُوعِهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: كَاشِفَةٌ بِمَعْنَى انْكِشَافٍ، وَالْهَاءُ فِيهَا كَالْهَاءِ فِي الْعَاقِبَةِ وَالدَّاهِيَةِ، وَقِيلَ: كاشفة بمعنى كاشف، والهاء للمبالغة كرواية، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَكَاشِفَةٌ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِهَا إِذَا غَشَتِ الْخَلْقَ بِشَدَائِدِهَا وَأَهْوَالِهَا أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ، كَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. ثم وبّخهم سُبْحَانَهُ فَقَالَ: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْقُرْآنُ، أَيْ: كَيْفَ تَعْجَبُونَ مِنْهُ تَكْذِيبًا وَتَضْحَكُونَ مِنْهُ اسْتِهْزَاءً مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَحَلٍّ لِلتَّكْذِيبِ وَلَا مَوْضِعٍ لِلِاسْتِهْزَاءِ وَلا تَبْكُونَ خَوْفًا وَانْزِجَارًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَجُمْلَةُ: وَأَنْتُمْ سامِدُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لِتَقْرِيرِ مَا فِيهَا، وَالسُّمُودُ: الْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ عَنِ الشَّيْءِ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: سَمَدَ سُمُودًا رَفَعَ رَأْسَهُ تَكَبُّرًا، فَهُوَ سَامِدٌ، قَالَ الشَّاعِرُ «2» : سَوَامِدَ اللَّيْلِ خِفَافَ الْأَزْوَادِ وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: السُّمُودُ: اللَّهْوُ، وَالسَّامِدُ: اللَّاهِي، يُقَالُ لِلْقَيْنَةِ: أَسَمِدِينَا، أَيْ: أَلْهِينَا بِالْغِنَاءِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: سَامِدُونَ: خَامِدُونَ. قَالَ الشَّاعِرُ: رَمَى الْحَدَثَانِ نِسْوَةَ آلِ عَمْرٍو ... بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضَا ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودَا فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا لَمَّا وَبَّخَ سُبْحَانَهُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِالْقُرْآنِ وَالضَّحِكِ مِنْهُ وَالسُّخْرِيَةِ بِهِ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَوَاعِظِهِ وَزَوَاجِرِهِ أَمَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالسُّجُودِ لِلَّهِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ، وَالْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مِنَ الْكُفَّارِ كَذَلِكَ، فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا، فَإِنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ مِنْكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَاتِحَةِ السُّورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْكُفَّارُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهَا سُجُودَ التِّلَاوَةِ، وَقِيلَ: سُجُودُ الْفَرْضِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى قال: أعطى

_ (1) . القمر: 1. (2) . هو رؤبة بن العجاج.

وَأَرْضَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى قَالَ: هُوَ الْكَوْكَبُ الَّذِي يُدْعَى الشِّعْرَى. وَأَخْرَجَ الْفَاكِهِيُّ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي خُزَاعَةَ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الشِّعْرَى، وَهُوَ الْكَوْكَبُ الَّذِي يَتْبَعُ الْجَوْزَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى قَالَ: مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْآزِفَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ- وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ فَمَا ضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَتَبَسَّمَ. وَلَفْظُ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ: فَمَا رُؤِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا وَلَا مُتَبَسِّمًا حَتَّى ذَهَبَ مِنَ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سامِدُونَ قَالَ: لَاهُونَ مُعْرِضُونَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْهُ: وَأَنْتُمْ سامِدُونَ قَالَ: الْغِنَاءُ بِالْيَمَانِيَّةِ، كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَغَنَّوْا وَلَعِبُوا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: سامِدُونَ قَالَ: كَانُوا يَمُرُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَامِخِينَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الْبَعِيرِ كَيْفَ يَخْطُرُ شَامِخًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْنَا وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَنَحْنُ قِيَامٌ ننتظره ليتقدّم، فقال: مالكم سَامِدُونَ؟ لَا أَنْتُمْ فِي صَلَاةٍ، وَلَا أَنْتُمْ في جلوس تنتظرون؟

سورة القمر

سورة القمر ويقال سورة اقتربت، وهي خمس وخمسون آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يَصِحُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالنَّحَّاسُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «اقْتَرَبَتْ» تُدْعَى فِي التَّوْرَاةِ الْمُبَيِّضَةَ تُبَيِّضُ وَجْهَ صَاحِبِهَا يَوْمَ تَبْيَضُّ الْوُجُوهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مُنْكَرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، رَفَعَهُ: «مَنْ قَرَأَ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ نَحْوَهُ عَنْ لَيْثِ بْنِ مَعْنٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ هَمْدَانَ رَفَعَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِقَافٍ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) قَوْلُهُ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ أَيْ: قَرُبَتْ وَلَا شك أنها قد صارت، فاعتبار نِسْبَةِ مَا بَقِيَ بَعْدَ قِيَامِ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ إِلَى مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا قَرِيبَةً. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُتَحَقِّقَةَ الْوُقُوعِ لَا مَحَالَةَ كَانَتْ قَرِيبَةً، فَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ أَيْ: وَقَدِ انْشَقَّ الْقَمَرُ، وَكَذَا قَرَأَ حُذَيْفَةُ بِزِيَادَةِ قَدْ، وَالْمُرَادُ: الِانْشِقَاقُ الْوَاقِعُ فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ مُعْجِزَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى هَذَا إِلَّا مَا رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى سَيَنْشَقُّ الْقَمَرُ، وَالْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ عَلَى خِلَافِهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ اقْتِرَابَ السَّاعَةِ مَعَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ لِأَنَّ انْشِقَاقَهُ مِنْ عَلَامَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتُهُ وَزَمَانُهُ مَنْ أَشْرَاطِ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيِ: انْشَقَّ الْقَمَرُ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَ قَوْلِ عَطَاءٍ: أَنَّهُ الِانْشِقَاقُ الْكَائِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى وَانْشَقَّ الْقَمَرُ: وَضَحَ الْأَمْرُ وَظَهَرَ، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ بِالْقَمَرِ الْمَثَلَ فِيمَا وَضَحَ. وَقِيلَ: انْشِقَاقُ الْقَمَرِ هُوَ انْشِقَاقُ الظُّلْمَةِ عَنْهُ، وَطُلُوعُهُ فِي أَثْنَائِهَا، كَمَا يُسَمَّى الصُّبْحُ فَلَقًا لِانْفِلَاقِ الظُّلْمَةِ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ كَانَ الِانْشِقَاقُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ: وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ قَدْ وَقَعَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ كَانَ إِحْدَى الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ. قَالَ الزَّجَّاجُ، زَعَمَ قَوْمٌ عَنَدُوا عَنِ الْقَصْدِ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ تَأْوِيلَهُ: أَنَّ الْقَمَرَ يَنْشَقُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْأَمْرُ بَيِّنٌ فِي اللَّفْظِ وَإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْقِيَامَةِ. انْتَهَى. وَلَمْ يَأْتِ مَنْ خَالَفَ الْجُمْهُورَ وَقَالَ: إِنَّ الِانْشِقَاقَ سَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا بِمُجَرَّدِ اسْتِبْعَادٍ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ لَوِ انْشَقَّ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا رَآهُ لِأَنَّهُ آيَةٌ، وَالنَّاسُ فِي الْآيَاتِ سَوَاءٌ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا عَادَةً، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نُقِلَ إِلَيْنَا بِطْرِيقِ التَّوَاتُرِ، وَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ يَدْفَعُ الِاسْتِبْعَادَ وَيَضْرِبُ بِهِ فِي وَجْهِ قَائِلِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ انْشَقَّ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِأَنَّهُ سَيَنْشَقُّ، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَنَّهُ قَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى شُذُوذِ مَنْ شَذَّ، وَاسْتِبْعَادِ مَنِ اسْتَبْعَدَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا انْشَقَّ الْقَمَرُ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ، فَقَالَ اللَّهُ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يَعْنِي انْشِقَاقَ الْقَمَرِ يُعْرِضُوا عَنِ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ بِهَا، وَيَقُولُوا: سِحْرٌ قَوِيٌّ شَدِيدٌ يَعْلُو كُلَّ سِحْرٍ، مِنْ قَوْلِهِمُ: اسْتَمَرَّ الشَّيْءُ إِذَا قَوِيَ وَاسْتَحْكَمَ، وَقَدْ قَالَ بِأَنَّ مَعْنَى مُسْتَمِرٍّ: قَوِيٌّ شَدِيدٌ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ إِمْرَارِ الْحَبْلِ، وَهُوَ شِدَّةُ فَتْلِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَقِيطٍ: حَتَّى استمرّت على شزر مريرته ... صدق العزيمة لا رتّا وَلَا ضَرَعًا «1» وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أَيْ: ذَاهِبٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَّ الشَّيْءُ وَاسْتَمَرَّ إِذَا ذَهَبَ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ ومجاهد وغير هما، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقِيلَ: مَعْنَى مُسْتَمِرٌّ: دَائِمٌ مُطَّرِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا لَيَالٍ وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر

_ (1) . «الرتة» : ردّة قبيحة في اللسان من العيب. «الضّرع» اللين الذليل. [.....] (2) . هو امرؤ القيس.

أَيْ: بِدَائِمٍ بَاقٍ، وَقِيلَ: مُسْتَمِرٌّ: بَاطِلٌ، رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا. وَقِيلَ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَقِيلَ: قَدْ مَرَّ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَرَارَةِ، يُقَالُ: مَرَّ الشَّيْءُ صَارَ مُرًّا، أَيْ: مُسْتَبْشَعٌ عِنْدَهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الانشقاق قد كان كما قرّرناه سَابِقًا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَكْذِيبَهُمْ فَقَالَ: وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أَيْ: وَكَذَّبُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا عَايَنُوا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَمَا زَيَّنَهُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، وَجُمْلَةُ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ بُطْلَانِ مَا قَالُوهُ مِنَ التَّكْذِيبِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ، أَيْ: وَكُلُّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ مُنْتَهٍ إِلَى غَايَةٍ، فَالْخَيْرُ يَسْتَقِرُّ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَالشَّرُّ يَسْتَقِرُّ بِأَهْلِ الشَّرِّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ: يَسْتَقِرُّ قَرَارُ تَكْذِيبِهِمْ وَقَرَارُ قَوْلِ الْمُصَدِّقِينَ حَتَّى يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى لِكُلِّ أَمْرٍ حَقِيقَةٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا فَسَيَظْهَرُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ فَسَيُعْرَفُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُسْتَقِرٌّ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهُوَ مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ «كُلُّ» . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِجَرِّ مُسْتَقِرٍّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِأَمْرٍ، وَقَرَأَ شَيْبَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ نَافِعٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا وَجْهَ لَهَا، وَقِيلَ: لَهَا وَجْهٌ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَكُلُّ أَمْرٍ ذُو اسْتِقْرَارٍ، أَوْ زَمَانُ اسْتِقْرَارٍ، أَوْ مَكَانُ اسْتِقْرَارٍ، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَوْ ظَرْفُ زَمَانٍ، أَوْ ظَرْفُ مَكَانٍ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ أَيْ: وَلَقَدْ جَاءَ كَفَارَ مَكَّةَ، أَوِ الْكُفَّارَ عَلَى الْعُمُومِ مِنَ الْأَنْبَاءِ، وَهِيَ أَخْبَارُ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ الْمَقْصُوصَةُ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ أَيِ: ازْدِجَارٌ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، يُقَالُ: زَجَرْتُهُ إِذَا نَهَيْتُهُ عَنِ السُّوءِ وَوَعَظْتُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَكَانٍ، وَالْمَعْنَى: جَاءَهُمْ مَا فِيهِ مَوْضِعُ ازْدِجَارٍ، أَيْ: أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَوْضِعٌ لِذَلِكَ، وَأَصْلُهُ مُزْتَجَرٌ، وَتَاءُ الِافْتِعَالِ تُقْلَبُ دَالًا مَعَ الزَّايِ وَالدَّالِ وَالذَّالِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ مُزَّجَرٌ بِقَلْبِ تَاءِ الِافْتِعَالِ زَايًا وَإِدْغَامِ الزَّايِ فِي الزَّايِ، وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْأَنْباءِ لِلتَّبْعِيضِ، وَهِيَ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَارْتِفَاعُ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ «مَا» ، بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ حِكْمَةٌ قَدْ بَلَغَتِ الْغَايَةَ، لَيْسَ فِيهَا نَقْصٌ وَلَا خَلَلٌ، وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنْ «مَا» ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةً بَالِغَةً فَما تُغْنِ النُّذُرُ «مَا» يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ تُغْنِي النُّذُرُ؟ أَوْ: لَمْ تُغَنِ النُّذُرُ شَيْئًا، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ عَدَمِ الْإِغْنَاءِ عَلَى مَجِيءِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالنُّذُرُ جَمْعُ نَذِيرٍ بِمَعْنَى الْمُنْذِرِ، أَوْ بِمَعْنَى الإنذار على أنه مصدر. ثم أمره الله سُبْحَانَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ فَقَالَ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أَيْ: أَعْرِضْ عَنْهُمْ حَيْثُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمُ الْإِنْذَارُ، وهي منسوخة بآية السيف يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ انتصاب الظَّرْفُ إِمَّا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ، وَإِمَّا بيخرجون الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، وَإِمَّا بِقَوْلِهِ: فَما تُغْنِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ اعْتِرَاضٌ، أَوْ بِقَوْلِهِ: يَقُولُ الْكافِرُونَ أَوْ بِقَوْلِهِ: خُشَّعاً وَسَقَطَتِ الْوَاوُ مِنْ يَدْعُ اتِّبَاعًا لِلَّفْظِ، وَقَدْ وَقَعَتْ فِي الرَّسْمِ هَكَذَا وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مِنَ الدَّاعِ لِلتَّخْفِيفِ وَاكْتِفَاءً بالكسرة، والداع هُوَ إِسْرَافِيلُ، وَالشَّيْءُ النُّكُرُ: الْأَمْرُ الْفَظِيعُ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ اسْتِعْظَامًا لَهُ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ الْعَهْدِ لَهُمْ بِمِثْلِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْكَافِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِسُكُونِهَا تَخْفِيفًا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ

خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: خُشَّعاً جَمْعُ خَاشِعٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو خَاشِعًا عَلَى الْإِفْرَادِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : وَشَبَابٌ حَسَنٌ أَوْجُهُهُمْ مِنْ ... إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدْ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ خَاشِعَةً قَالَ الْفَرَّاءُ: الصِّفَةُ إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ جَازَ فِيهَا التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالْجَمْعُ، يَعْنِي جَمْعَ التَّكْسِيرِ لَا جَمْعَ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ فَاعِلَيْنِ، وَمِثْلُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ «2» : وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيُّهُمْ ... يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَلَّدِ وَانْتِصَابُ «خُشَّعًا» عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ «يَخْرُجُونَ» ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «عَنْهُمْ» ، وَالْخُشُوعُ فِي الْبَصَرِ الْخُضُوعُ وَالذِّلَّةُ، وَأَضَافَ الْخُشُوعَ إِلَى الْأَبْصَارِ لِأَنَّ الْعِزَّ وَالذُّلَّ يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ أَيْ: يَخْرُجُونَ مِنَ الْقُبُورِ، وَوَاحِدُ الْأَجْدَاثِ: جَدَثٌ، وَهُوَ الْقَبْرُ، كَأَنَّهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ وَاخْتِلَاطِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ، أَيْ: مُنْبَثٌّ فِي الْأَقْطَارِ، مُخْتَلِطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ الْإِهْطَاعُ: الْإِسْرَاعُ، أَيْ: قَالَ كَوْنُهُمْ مُسْرِعِينَ إِلَى الدَّاعِي، وَهُوَ إِسْرَافِيلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بِدَجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُمْ ... بِدَجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ أَيْ: مُسْرِعِينَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُقْبِلِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَامِدِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَاتِحِينَ آذَانَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ، وَجُمْلَةُ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ «مُهْطِعِينَ» ، وَالرَّابِطُ مُقَدَّرٌ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا يَكُونُ حِينَئِذٍ؟ وَالْعَسِرُ: الصَّعْبُ الشَّدِيدُ، وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الْكُفَّارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْيَوْمَ لَيْسَ بِشَدِيدٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَفْصِيلَ بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبَاءِ الْمُجْمَلَةِ فَقَالَ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أَيْ: كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ الْمُبْهَمِ، وَفِيهِ مَزِيدُ تَقْرِيرٍ وَتَأْكِيدٍ، أَيْ: فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا نُوحًا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الرُّسُلَ، فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا نُوحًا بِتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مُجَرَّدِ التَّكْذِيبِ فَقَالَ: وَقالُوا مَجْنُونٌ أَيْ: نَسَبُوا نُوحًا إِلَى الْجُنُونِ، وَقَوْلُهُ: وَازْدُجِرَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَالُوا، أَيْ: وَزُجِرَ عَنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَعَنْ تَبْلِيغِ مَا أُرْسِلَ بِهِ بِأَنْوَاعِ الزَّجْرِ، وَالدَّالُ بَدَلٌ مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مجنون، أي: وقالوا إنه ازدجر، أَيِ: ازْدَجَرَتْهُ الْجِنُّ وَذَهَبَتْ بِلُبِّهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أخبر عنه بأنه انتهر وزجر بالسبّ وأنواع الْأَذَى. قَالَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ

_ (1) . هو الحرث بن دوس الإيادي، ويروى لأبي دؤاد الإيادي. (2) . البيت لطرفة بن العبد. انظر: شرح المعلقات السبع للزوزني ص (88) .

تَقْوِيَةُ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي: دعا نوح رَبَّهُ عَلَى قَوْمِهِ بِأَنِّي مَغْلُوبٌ مِنْ جِهَةِ قَوْمِي لِتَمَرُّدِهِمْ عَنِ الطَّاعَةِ وَزَجْرِهِمْ لِي عَنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، فَانْتَصِرْ لِي، أَيِ: انْتَقِمْ لِي مِنْهُمْ. طَلَبَ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ النُّصْرَةَ عَلَيْهِمْ لَمَّا أَيِسَ مِنْ إِجَابَتِهِمْ، وَعَلِمَ تَمَرُّدَهُمْ وَعُتُوَّهُمْ وَإِصْرَارَهُمْ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: بِأَنِّي. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: فَقَالَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا عَاقَبَهُمْ بِهِ فَقَالَ: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أَيْ: مَنْصَبٍّ انْصِبَابًا شَدِيدًا، وَالْهَمْرُ: الصَّبُّ بِكَثْرَةٍ يُقَالُ: هَمَرَ الْمَاءَ وَالدَّمْعَ يَهْمِرُ هَمْرًا وَهُمُورًا إِذَا كَثُرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَعَيْنَيَّ جُودَا بِالدُّمُوعِ الْهَوَامِرِ ... عَلَى خَيْرِ بَادٍ مِنْ مَعَدٍّ وَحَاضِرِ وَمِنْهُ قول امرئ القيس يصف غيثا: راح تمريه الصّبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر «1» قرأ الجمهور: فَفَتَحْنا مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِالتَّشْدِيدِ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أَيْ: جَعَلْنَا الْأَرْضَ كُلَّهَا عُيُونًا مُتَفَجِّرَةً، وَالْأَصْلُ: فَجَّرْنَا عُيُونَ الْأَرْضِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَجَّرْنَا بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ أَنْ تُخْرِجَ مَاءَهَا فَتَفَجَّرَتْ بِالْعُيُونِ فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أَيِ: الْتَقَى مَاءُ السَّمَاءِ وَمَاءُ الْأَرْضِ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، أَيْ: كَائِنًا عَلَى حَالٍ قَدَّرَهَا اللَّهُ وَقَضَى بِهَا. وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى مِقْدَارٍ لَمْ يَزِدْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، بَلْ كَانَ مَاءُ السَّمَاءِ وَمَاءُ الْأَرْضِ عَلَى سَوَاءٍ. قَالَ قَتَادَةُ: قُدِّرَ لَهُمْ إِذْ كَفَرُوا أَنْ يغرقوا. وقرأ الجحدري: فالتقى الماءان وَقَرَأَ الْحَسَنُ فَالْتَقَى الْمَاوَانِ وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ أَيْ: وَحَمَلْنَا نُوحًا عَلَى سَفِينَةٍ ذَاتِ أَلْوَاحٍ، وَهِيَ الْأَخْشَابُ الْعَرِيضَةُ وَدُسُرٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ الْمَسَامِيرُ الَّتِي تُشَدُّ بِهَا الْأَلْوَاحُ، وَاحِدُهَا دِسَارٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ أُدْخِلَ فِي شَيْءٍ يَشُدُّهُ فَهُوَ الدُّسُرُ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَعِكْرِمَةُ: الدَّسُرُ: ظَهْرُ السَّفِينَةِ الَّتِي يَضْرِبُهَا الْمَوْجُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدْسُرُ الْمَاءَ، أَيْ: تَدْفَعُهُ، وَالدَّسْرُ: الدَّفْعُ، وَقَالَ اللَّيْثُ: الدِّسَارُ: خَيْطٌ تُشَدُّ بِهِ أَلْوَاحُ السَّفِينَةِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الدِّسَارُ وَاحِدُ الدَّسُرِ، وَهِيَ خُيُوطٌ تُشَدُّ بِهَا أَلْوَاحُ السَّفِينَةِ، وَيُقَالُ: هِيَ الْمَسَامِيرُ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أَيْ: بِمَنْظَرٍ وَمَرْأًى مِنَّا وَحِفْظٍ لَهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا «2» وَقِيلَ: بِأَمْرِنَا، وَقِيلَ: بِوَحْيِنَا، وَقِيلَ: بِالْأَعْيُنِ النَّابِعَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: بِأَعْيُنِ أَوْلِيَائِنَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِحِفْظِهَا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ قَالَ الْفَرَّاءُ: فَعَلْنَا بِهِ وَبِهِمْ مَا فَعَلْنَا مِنْ إِنْجَائِهِ وَإِغْرَاقِهِمْ ثَوَابًا لِمَنْ كَفَرَ بِهِ وَجَحَدَ أمره، وهو نوح عليه السلام،

_ (1) . «راح» عاد في الرواح. «تمريه» : تستدرّه. «الشؤبوب» الدفعة من المطر. (2) . هود: 37.

فَإِنَّهُ كَانَ لَهُمْ نِعْمَةٌ كَفَرُوهَا، فَانْتِصَابُ «جَزَاءً» عَلَى الْعِلَّةِ، وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: جَازَيْنَاهُمْ جَزَاءً. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُفِرَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْمُرَادُ بِهِ نُوحٌ. وَقِيلَ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ وَجَحَدُوا نِعْمَتَهُ. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَعِيسَى «كَفَرَ» بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْفَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ: جَزَاءً وَعِقَابًا لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً أَيِ: السَّفِينَةَ تَرْكَهَا اللَّهُ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَقَدْ تَرَكْنَا هَذِهِ الْفِعْلَةَ الَّتِي فَعَلْنَاهَا بِهِمْ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أَصْلُهُ مُذْتَكِرٍ، فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ دَالًا مُهْمَلَةً، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْمُعْجَمَةُ مُهْمَلَةً لِتَقَارُبِهِمَا، وَأُدْغِمَتِ الدَّالُ فِي الذَّالِ وَالْمَعْنَى: هَلْ مِنْ مُتَّعِظٍ وَمُعْتَبِرٍ يَتَّعِظُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَيَعْتَبِرُ بِهَا فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أَيْ: إِنْذَارِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِنْذَارُ وَالنُّذُرُ مَصْدَرَانِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّهْوِيلِ وَالتَّعْجِيبِ، أَيْ: كَانَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ هَائِلَةٍ عَجِيبَةٍ لَا يُحِيطُ بِهَا الْوَصْفُ، وَقِيلَ: نُذُرٌ جَمْعُ نَذِيرٍ، وَنَذِيرٌ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، كَنَكِيرٍ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أَيْ: سَهَّلْنَاهُ لِلْحِفْظِ، وَأَعَنَّا عَلَيْهِ مَنْ أَرَادَ حِفْظَهُ، وَقِيلَ: هَيَّأْنَاهُ لِلتَّذَكُّرِ وَالِاتِّعَاظِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أَيْ: مُتَّعِظٍ بِمَوَاعِظِهِ وَمُعْتَبِرٍ بِعِبَرِهِ. وَفِي الْآيَةِ الْحَثُّ عَلَى دَرْسِ الْقُرْآنِ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ تِلَاوَتِهِ، وَالْمُسَارَعَةِ فِي تَعَلُّمِهِ. وَمُدَّكِرٌ أَصْلُهُ مُذْتَكِرٌ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وغير هما عَنْ أَنَسٍ: «إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا» . وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمْ قَالَ: فَنَزَلَتِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةٌ فَوْقَ الْجَبَلِ، وَفِرْقَةٌ دُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْهَدُوا» وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ الْقَمَرَ مُنْشَقًا شِقَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِقَّةٌ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَشِقَّةٌ عَلَى السُّوَيْدَاءِ ... وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ أحمد وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: رَأَيْتُ الْقَمَرَ وَقَدِ انْشَقَّ، وَأَبْصَرْتُ الْجَبَلَ بَيْنَ فُرْجَتَيِ الْقَمَرِ. وَلَهُ طَرُقٌ عَنْهُ. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن ابن عباس قال: انشقّ القمر فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وله طرق عنه. وأخرج مسلم والترمذي وغير هما عن ابن عمر في قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْشَقَّ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ مِنْ دُونِ الْجَبَلِ، وَفِرْقَةٌ خَلْفَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، اللهم أشد، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَارَ فِرْقَةً عَلَى هَذَا الْجَبَلِ وَفِرْقَةً عَلَى هَذَا الْجَبَلِ، فَقَالَ النَّاسُ: سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنْ كَانَ سَحَرَكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عن أبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: «خَطَبَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ بِالْمَدَائِنِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، أَلَا وَإِنَّ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ، أَلَا وَإِنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ

[سورة القمر (54) : الآيات 18 إلى 40]

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِفِرَاقٍ، الْيَوْمُ الْمِضْمَارُ وَغَدًا السِّبَاقُ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُهْطِعِينَ قَالَ: نَاظِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ قَالَ: كَثِيرٌ، لَمْ تُمْطِرِ السَّمَاءُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا بَعْدَهُ إِلَّا مِنَ السَّحَابِ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ ذلك اليوم، فالتقى الماءان. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ قَالَ: الْأَلْوَاحُ: أَلْوَاحُ السَّفِينَةِ، وَالدَّسُرُ: مَعَارِيضُهَا الَّتِي تُشَدُّ بِهَا السَّفِينَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَدُسُرٍ قَالَ: الْمَسَامِيرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الدَّسْرُ: كَلْكَلُ السَّفِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ عَلَى لِسَانِ الْآدَمِيِّينَ مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلَامِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قَالَ: هَلْ مِنْ متذكّر. [سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 40] كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) قَوْلُهُ: كَذَّبَتْ عادٌ هُمْ قَوْمُ عَادٍ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أَيْ: فَاسْمَعُوا كَيْفَ كَانَ عَذَابِي لَهُمْ وَإِنْذَارِي إِيَّاهُمْ، وَ «نُذُرِ» مَصْدَرٌ بِمَعْنَى إِنْذَارٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّهْوِيلِ وَالتَّعْظِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَا أَجْمَلَهُ سَابِقًا مِنَ العذاب، والصرصر: شدة البرد، أي: ريح شَدِيدَةَ الْبَرْدِ، وَقِيلَ: الصَّرْصَرُ: شِدَّةُ الصَّوْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ أَيْ: دَائِمِ الشُّؤْمِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِمْ بِنُحُوسِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ: فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ فِي آخِرِ الشَّهْرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فِي يَوْمِ نَحْسٍ» بِإِضَافَةِ يَوْمٍ إِلَى نَحْسٍ مَعَ سُكُونِ الْحَاءِ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: فِي يَوْمِ عَذَابِ نَحْسٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِتَنْوِينِ يَوْمٍ عَلَى أَنَّ نَحْسٍ صِفَةٌ لَهُ. وَقَرَأَ هَارُونُ بِكَسْرِ الْحَاءِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ مُرًّا عَلَيْهِمْ. وكذا

حَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ مِنَ الْمَرَارَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمِرَّةِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، أَيْ: فِي يَوْمٍ قَوِيِّ الشُّؤْمِ مُسْتَحْكَمِهِ كَالشَّيْءِ الْمُحْكَمِ الْفَتْلِ الَّذِي لَا يُطَاقُ نَقْضُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ، لَا مِنَ الْمَرَارَةِ وَلَا مِنَ الْمِرَّةِ، أَيْ: دَامَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ فِيهِ حَتَّى أَهْلَكَهُمْ، وَشَمَلَ بِهَلَاكِهِ كَبِيرَهُمْ وَصَغِيرَهُمْ، وَجُمْلَةُ تَنْزِعُ النَّاسَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أنها صفة لريحا أَوْ حَالٌ مِنْهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا، أَيْ: تَقْلَعُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمُ اقْتِلَاعَ النَّخْلَةِ مِنْ أَصْلِهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ تَقْلَعُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَتَرْمِي بِهِمْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، فَتَدُقُّ أَعْنَاقَهُمْ، وَتُبَيِّنُ رُؤُوسَهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، وَقِيلَ: النَّاسَ مِنَ الْبُيُوتِ، وَقِيلَ: مِنْ قُبُورِهِمْ لِأَنَّهُمْ حَفَرُوا حَفَائِرَ وَدَخَلُوهَا كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ الْأَعْجَازُ: جَمْعُ عَجُزٍ، وَهُوَ مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ، وَالْمُنْقَعِرُ: الْمُنْقَطِعُ الْمُنْقَلِعُ مِنْ أَصْلِهِ، يُقَالُ: قَعَّرْتُ النَّخْلَةَ إِذَا قَلَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا حَتَّى تَسْقُطَ. شَبَّهَهُمْ فِي طُولِ قَامَاتِهِمْ حِينَ صَرَعَتْهُمُ الرِّيحُ وَطَرَحَتْهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ بِالنَّخْلِ السَّاقِطِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا رُؤُوسٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ قَلَعَتْ رُؤُوسَهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ كَبَّتْهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ. وَتَذْكِيرُ مُنْقَعِرٍ مَعَ كَوْنِهِ صِفَةً لِأَعْجَازِ نَخْلٍ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ، وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى كما قال: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «1» قَالَ الْمُبَرِّدُ: كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْ شِئْتَ رَدَدْتَهُ إِلَى اللَّفْظِ تَذْكِيرًا، أَوْ إِلَى الْمَعْنَى تَأْنِيثًا. وَقِيلَ: إِنَّ النَّخْلَ وَالنَّخِيلَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ قَرِيبًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَكْذِيبَ عَادٍ أَتْبَعَهُ بِتَكْذِيبِ ثَمُودٍ فَقَالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَذِيرٍ، أَيْ: كَذَّبَتْ بِالرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، أَيْ: كَذَّبَتْ بِالْإِنْذَارِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ لِرَسُولِهِمْ وَهُوَ صَالِحٌ تَكْذِيبًا لِلرُّسُلِ لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ وَاحِدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ كَذَّبَ سَائِرَهُمْ لِاتِّفَاقِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرَائِعِ فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: كَيْفَ نَتَّبِعُ بَشَرًا كَائِنًا مِنْ جِنْسِنَا مُنْفَرِدًا وَحْدَهُ لَا مُتَابِعَ لَهُ عَلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ؟ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ «بَشَرًا» عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَيْ: أَنَتَّبِعُ بَشَرًا وَاحِدًا؟ وقرأ أبو السّمّال أنه قرأ برفع: «بشرا» ونصب بالرفع على الابتداء، وواحدا صفته، ونتبعه خبره. وروي عن أبي السّمّال أَنَّهُ قَرَأَ بِرَفْعِ: «بَشَرًا» وَنَصْبِ «وَاحِدًا» عَلَى الْحَالِ. إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ أَيْ: إِنَّا إِذَا اتَّبَعْنَاهُ لَفِي خَطَأٍ وَذَهَابٍ عَنِ الْحَقِّ وَسُعُرٍ أَيْ: عَذَابٍ وَعَنَاءٍ وَشِدَّةٍ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ جَمْعُ سَعِيرٍ، وَهُوَ لَهَبُ النَّارِ، وَالسُّعُرُ: الْجُنُونُ يَذْهَبُ كَذَا وَكَذَا لِمَا يَلْتَهِبُ بِهِ مِنَ الْحِدَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: «وَسُعُرٍ» وَبُعْدٍ عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي احْتِرَاقٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجُنُونُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ، أَيْ: كَأَنَّهَا مِنْ شِدَّةِ نَشَاطِهَا مَجْنُونَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يصف ناقة: تخال بها سعرا إذ السّفر هَزَّهَا ... ذَمِيلٌ وَإِيقَاعٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ ثُمَّ كرّروا الإنكار والاستبعاد، فقالوا: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أَيْ: كَيْفَ خُصَّ من بيننا بالوحي

_ (1) . الحاقة: 7.

وَالنُّبُوَّةِ، وَفِينَا مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ؟ ثُمَّ أَضْرَبُوا عَنِ الِاسْتِنْكَارِ وَانْتَقَلُوا إِلَى الْجَزْمِ بِكَوْنِهِ كَذَّابًا أَشِرًا، فَقَالُوا: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ وَالْأَشَرُ: الْمَرَحُ وَالنَّشَاطُ، أَوِ الْبَطَرُ وَالتَّكَبُّرُ، وَتَفْسِيرُهُ بِالْبَطَرِ وَالتَّكَبُّرِ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَشِرْتُمْ بِلُبْسِ الْخَزِّ لَمَّا لَبِسْتُمُ ... وَمِنْ قَبْلُ لَا تَدْرُونَ مَنْ فَتَحَ الْقُرَى قَرَأَ الْجُمْهُورُ «أُشِرْ» كَفَرِحْ. وَقَرَأَ أَبُو قِلَابَةَ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ. وَنَقَلَ الْكِسَائِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِضَمِّ الشِّينِ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ. ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «غَدًا» وَقْتَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ جَرْيًا عَلَى عَادَةِ النَّاسِ فِي التَّعْبِيرِ بِالْغَدِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْأَمْرِ وَإِنْ بَعُدَ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مَعَ الْيَوْمِ غَدًا، وَكَمَا فِي قَوْلِ الْحُطَيْئَةِ: لِلْمَوْتِ فِيهَا سِهَامٌ غَيْرُ مُخْطِئَةٍ ... مَنْ لَمْ يَكُنْ مَيْتًا فِي اليوم مات غدا ومنه قول الطِّرِمَّاحِ: أَلَا عَلِّلَانِي قَبْلَ نَوْحِ النَّوَائِحِ ... وَقَبْلَ اضْطِرَابِ النَّفْسِ بَيْنَ الْجَوَانِحِ وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى غَدٍ ... إِذَا رَاحَ أَصْحِابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «سَيَعْلَمُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ، إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِصَالِحٍ عَنْ وُقُوعِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مُدَّةٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ مِنْ صالح لقومه، وجملة: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا تَقَدَّمَ إِجْمَالُهُ مِنَ الْوَعِيدِ، أَيْ: إِنَّا مُخْرِجُوهَا مِنَ الصَّخْرَةِ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَرَحُوهُ فِتْنَةً لَهُمْ أَيِ: ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا، وَانْتِصَابُ فِتْنَةً عَلَى الْعِلَّةِ فَارْتَقِبْهُمْ أَيِ: انْتَظِرْ مَا يَصْنَعُونَ وَاصْطَبِرْ عَلَى مَا يُصِيبُكَ مِنَ الْأَذَى مِنْهُمْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أَيْ: بَيْنَ ثَمُودَ وَبَيْنَ النَّاقَةِ، لَهَا يَوْمٌ وَلَهُمْ يَوْمٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ «1» وَقَالَ: نَبِّئْهُمْ بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ الشِّرْبُ: بِكَسْرِ الشِّينِ: الْحَظُّ مِنَ الْمَاءِ. وَمَعْنَى مُحْتَضَرٍ: أَنَّهُ يَحْضُرُهُ مَنْ هُوَ لَهُ، فَالنَّاقَةُ تَحْضُرُهُ يَوْمًا وَهُمْ يَحْضُرُونَهُ يَوْمًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ ثَمُودَ يَحْضُرُونَ الْمَاءَ يَوْمَ نَوْبَتِهِمْ، فَيَشْرَبُونَ، وَيَحْضُرُونَ يَوْمَ نَوْبَتِهَا فَيَحْتَلِبُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «قِسْمَةٌ» بِكَسْرِ الْقَافِ بِمَعْنَى مَقْسُومٍ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِفَتْحِهَا فَنادَوْا صاحِبَهُمْ أَيْ: نَادَى ثَمُودُ صَاحِبَهُمْ وَهُوَ قِدَارُ بْنُ سَالِفٍ عَاقِرُ النَّاقَةِ يَحُضُّونَهُ عَلَى عَقْرِهَا فَتَعاطى فَعَقَرَ أَيْ: تَنَاوَلَ النَّاقَةَ بِالْعَقْرِ فَعَقَرَهَا، أَوِ اجْتَرَأَ عَلَى تَعَاطِي أَسْبَابِ الْعَقْرِ فَعَقَرَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَمَنَ لَهَا فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ عَلَى طَرِيقِهَا، فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ بِهِ سَاقِهَا، ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهَا بِالسَّيْفِ فَكَسَرَ عُرْقُوبَهَا ثُمَّ نَحَرَهَا، وَالتَّعَاطِي: تَنَاوُلُ الشَّيْءِ بِتَكَلُّفٍ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ قد تقدّم

_ (1) . الشعراء: 155.

تَفْسِيرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا أَجْمَلَهُ مِنَ الْعَذَابِ فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ صَيْحَةَ جِبْرِيلَ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ هُودٍ وَفِي الْأَعْرَافِ فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الظَّاءِ، وَالْهَشِيمُ: حُطَامُ الشَّجَرِ وَيَابِسُهُ، وَالْمُحْتَظِرُ: صَاحِبُ الْحَظِيرَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّخِذُ لِغَنَمِهِ حَظِيرَةً تَمْنَعُهَا عَنْ بَرْدِ الرِّيحِ، يُقَالُ: احْتَظَرَ عَلَى غَنَمِهِ إِذَا جَمَعَ الشَّجَرَ وَوَضَعَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالْمُحْتَظِرُ: الَّذِي يَعْمَلُ الْحَظِيرَةَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ بِفَتْحِ الظَّاءِ، أَيْ: كَهَشِيمِ الْحَظِيرَةِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ أَرَادَ الْفَاعِلَ لِلِاحْتِظَارِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ أَرَادَ الحظيرة، وهي فعلية بِمَعْنَى مُفَعُولَةٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ صَارُوا كَالشَّجَرِ إِذَا يَبِسَ فِي الْحَظِيرَةِ وَدَاسَتْهُ الْغَنَمُ بَعْدَ سُقُوطِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَثَرْنَ عَجَاجَهُ كَدُخَانِ نَارٍ ... تَشِبُّ بِغَرْقَدٍ بَالٍ هَشِيمِ وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْعِظَامُ النَّخِرَةُ الْمُحْتَرِقَةُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ التُّرَابُ الْمُتَنَاثِرُ مِنَ الْحِيطَانِ فِي يَوْمِ رِيحٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: هُوَ مَا يَتَنَاثَرُ مِنَ الْحَظِيرَةِ إِذَا ضَرَبْتَهَا بِالْعِصِيِّ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ كَانَ رَطْبًا فَيَبِسَ هَشِيمًا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَرَى جِيَفَ الْمَطِيِّ بِجَانِبَيْهِ ... كَأَنَّ عِظَامَهَا خَشَبُ الْهَشِيمِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ كَمَا كَذَّبَهُمْ غَيْرُهُمْ فَقَالَ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النُّذُرِ قَرِيبًا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا عَذَّبَهُمْ بِهِ فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً أَيْ: رِيحًا تَرْمِيهِمْ بِالْحَصْبَاءِ، وَهِيَ الْحَصَى. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْحَاصِبُ: الْحِجَارَةُ فِي الرِّيحِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْحَاصِبُ: الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تُثِيرُ الْحَصْبَاءَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّامِ يَضْرِبُهَا ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورِ إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ يَعْنِي لُوطًا وَمَنْ تَبِعَهُ، وَالسَّحَرُ: آخِرُ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: هُوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اخْتِلَاطُ سَوَادِ اللَّيْلِ بِبَيَاضِ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَانْصَرَفَ سَحَرٍ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ سَحَرَ لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَوْ قَصَدَ معينا لامتنع. كذا قال الزجاج والأخفش وغير هما، وَانْتِصَابُ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا عَلَى الْعِلَّةِ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: إِنْعَامًا مِنَّا عَلَى لُوطٍ وَمَنْ تَبِعَهُ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نِعْمَتَنَا وَلَمْ يَكْفُرْهَا وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا أَيْ: أَنْذَرَ لُوطٌ قَوْمَهُ بَطْشَةَ اللَّهِ بِهِمْ، وَهِيَ عَذَابُهُ الشَّدِيدُ وَعُقُوبَتُهُ الْبَالِغَةُ فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أَيْ: شَكُّوا في الإنذار ولم يصدّقوه، وهو تفاعل مِنَ الْمِرْيَةِ، وَهِيَ الشَّكُّ وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أَيْ: أَرَادُوا مِنْهُ تَمْكِينَهُمْ مِمَّنْ أَتَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَفْجُرُوا بِهِمْ كَمَا هُوَ دَأْبُهُمْ، يُقَالُ: رَاوَدْتُهُ عَنْ كَذَا مُرَاوَدَةً وَرِوَادًا، أَيْ: أَرَدْتُهُ، وَرَادَ الْكَلَامَ يَرُودُهُ رَوْدًا: أَيْ طَلَبَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمُرَاوَدَةِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ هُودٍ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أَيْ: صَيَّرْنَا أَعْيُنَهُمْ مَمْسُوحَةً لَا يُرَى لَهَا شِقٌّ، كَمَا تَطْمِسُ الرِّيحُ الْأَعْلَامَ بِمَا تَسْفِي عَلَيْهَا مِنَ التُّرَابِ. وَقِيلَ: أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَ أَبْصَارِهِمْ مَعَ بَقَاءِ الْأَعْيُنِ عَلَى صُورَتِهَا. قَالَ

[سورة القمر (54) : الآيات 41 إلى 55]

الضَّحَّاكُ: طَمَسَ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ فَلَمْ يَرَوُا الرُّسُلَ فَرَجَعُوا فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أَيْ: أَتَاهُمْ صَبَاحًا عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ بِهِمْ نَازِلٌ عَلَيْهِمْ لَا يُفَارِقُهُمْ وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَقَرَّ بِهِمُ الْعَذَابُ بُكْرَةً، وَانْصِرَافُ بُكْرَةً لِكَوْنِهِ لَمْ يُرِدْ بِهَا وَقْتًا بِعَيْنِهِ كَمَا سَبَقَ فِي «بِسَحَرٍ» فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ- وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَكْرِيرِ تَيْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلذِّكْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِشْعَارُ بِأَنَّهُ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ شُكْرِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً قَالَ: بَارِدَةً فِي يَوْمِ نَحْسٍ قَالَ: أَيَّامٌ شِدَادٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» . وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن عليّ مرفوعا. وأخرج ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَفِيهِ «قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَغْرَقَ اللَّهُ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَأَهْلَكَ فِيهِ عادا وثمودا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ بِسَنَدٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آخِرُ أَرْبِعَاءٍ فِي الشَّهْرِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ المنذر عنه كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ قَالَ: أُصُولُ النَّخْلِ مُنْقَعِرٍ قَالَ: مُنْقَلِعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: أَعْجَازُ سَوَادِ النَّخْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا وَسُعُرٍ قَالَ: شَقَاءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ قَالَ: كَحَظَائِرَ مِنَ الشَّجَرِ مُحْتَرِقَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: كَالْعِظَامِ الْمُحْتَرِقَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: كَالْحَشِيشِ تأكله الغنم. [سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 55] وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) النُّذُرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جمع نذير، ويجوز أن يكون مصدرا كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الْآيَاتُ الَّتِي أَنْذَرَهُمْ بِهَا مُوسَى، وَهَذَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ: كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْآيَاتُ التِّسْعُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ أَيْ: أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ أَخْذَ غَالِبٍ فِي انْتِقَامِهِ، قَادِرٍ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. ثُمَّ خَوَّفَ سُبْحَانَهُ كُفَّارَ مَكَّةَ فَقَالَ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ،

وَالْمَعْنَى النَّفْيُ، أَيْ: لَيْسَ كُفَّارُكُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَوْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، خَيْرٌ مِنْ كَفَّارِ مَنْ تَقَدَّمَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ فِي السَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ وَأَنْتُمْ شَرٌّ مِنْهُمْ. ثُمَّ أَضْرَبَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ وَانْتَقَلَ إِلَى تَبْكِيتِهِمْ بِوَجْهٍ آخَرَ هُوَ أَشَدُّ مِنَ التَّبْكِيتِ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ وَالزُّبُرُ: هِيَ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ هَذَا التَّبْكِيتِ، وَانْتَقَلَ إِلَى التَّبْكِيتِ لَهُمْ بِوَجْهٍ آخَرَ، فَقَالَ: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أَيْ: جَمَاعَةٌ لَا تُطَاقُ لِكَثْرَةِ عَدَدِنَا وَقُوَّتِنَا، أَوْ أَمْرُنَا مُجْتَمِعٌ لَا نُغْلَبُ، وَأَفْرَدَ مُنْتَصِرًا اعْتِبَارًا بِلَفْظِ «جَمِيعٍ» . قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى: نَحْنُ جَمِيعُ أَمْرِنَا، نَنْتَصِرُ مِنْ أَعْدَائِنَا، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ أَيْ: جَمْعُ كَفَّارِ مَكَّةَ، أَوْ كُفَّارِ الْعَرَبِ عَلَى الْعُمُومِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «سَيُهْزَمُ» بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ وَرْشٌ عَنْ يَعْقُوبَ «سَنَهْزِمُ» بِالنُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَنَصَبَ الْجَمْعَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقُرِئَ بِالْفَوْقِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يُوَلُّونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ عِيسَى وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَوَرْشٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْمُرَادُ بِالدُّبُرِ: الْجِنْسُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْإِدْبَارِ، وَقَدْ هَزَمَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ، وَقَتَلَ رُؤَسَاءَ الشِّرْكِ وأساطين الْكُفْرِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أَيْ: مَوْعِدُ عَذَابِهِمُ الْأُخْرَوِيِّ، وَلَيْسَ هَذَا الْعَذَابُ الْكَائِنُ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْقَهْرِ هُوَ تَمَامُ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقَدِّمَةٌ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ، وَطَلِيعَةٌ مِنْ طَلَائِعِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ أَيْ: وَعَذَابُ السَّاعَةِ أَعْظَمُ فِي الضُّرِّ وَأَفْظَعُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّهَاءِ، وَهُوَ النُّكْرُ وَالْفَظَاعَةُ، وَمَعْنَى أَمَرُّ: أَشَدُّ مَرَارَةً مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، يُقَالُ: دَهَاهُ أَمْرُ كَذَا، أَيْ: أَصَابَهُ دَهْوًا وَدَهْيًا إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَيْ: فِي ذَهَابٍ عَنِ الْحَقِّ وَبُعْدٍ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَفْسِيرُ «وَسُعُرٍ» فَلَا نُعِيدُهُ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ وَالظَّرْفُ مُنْتَصِبٌ بِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: كَائِنُونَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ، أَوْ بِقَوْلٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَهُ، أَيْ: يَوْمَ يُسْحَبُونَ يُقَالُ لَهُمْ: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أَيْ: قَاسُوا حَرَّهَا وَشِدَّةَ عَذَابِهَا، وَسَقَرُ: عَلَمٌ لِجَهَنَّمَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِإِدْغَامِ سِينِ «مَسَّ» فِي سِينِ «سَقَرَ» إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ كُلَّ عَلَى الِاشْتِغَالِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمْأَلِ بِالرَّفْعِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ خلقه الله سبحانه متلبسا بِقَدَرٍ قَدَّرَهُ وَقَضَاءٍ قَضَاهُ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ، مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ وُقُوعِهِ. وَالْقَدَرُ: التَّقْدِيرُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى. وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أَيْ: إِلَّا مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ كَلِمَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ فِي سُرْعَتِهِ، وَاللَّمْحُ: النَّظَرُ عَلَى الْعَجَلَةِ وَالسُّرْعَةِ. وَفِي الصِّحَاحِ: لَمَحَهُ وَأَلْمَحَهُ إِذَا أَبْصَرَهُ بِنَظَرٍ خَفِيفٍ، وَالِاسْمُ اللَّمْحَةُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَمَا أَمْرُنَا بِمَجِيءِ السَّاعَةِ فِي السُّرْعَةِ إِلَّا كَطَرْفِ الْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أَيْ: أَشْبَاهَكُمْ وَنُظَرَاءَكُمْ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْأُمَمِ، وَقِيلَ: أَتْبَاعَكُمْ وَأَعْوَانَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يَتَذَكَّرُ وَيَتَّعِظُ بِالْمَوَاعِظِ وَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، فَيَخَافُ الْعُقُوبَةَ وَأَنْ يَحِلَّ بِهِ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ أَيْ: جَمِيعُ مَا فَعَلَتْهُ الْأُمَمُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقِيلَ: فِي كُتُبِ الْحَفَظَةِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ

مُسْتَطَرٌ أَيْ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَلْقِ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ مَسْطُورٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، صَغِيرُهُ وَكَبِيرُهُ، وَجَلِيلُهُ وَحَقِيرُهُ. يُقَالُ: سَطَرَ يَسْطُرُ سَطْرًا: كتب، واستطر مثله. ثم لما فرغ سبحانه من ذكر حال الأشقياء ذكر حال السعداء فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أَيْ: فِي بَسَاتِينَ مُخْتَلِفَةٍ وَجِنَانٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَأَنْهَارٍ مُتَدَفِّقَةٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَنَهَرٍ» بِفَتْحِ الْهَاءِ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَهُوَ جِنْسٌ يَشْمَلُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْأَعْرَجُ وأبو السمال بِسُكُونِ الْهَاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ وَأَبُو نَهْشَلٍ وَالْأَعْرَجُ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَقَتَادَةُ «نُهُرٍ» بِضَمِّ النُّونِ وَالْهَاءِ عَلَى الْجَمْعِ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أَيْ: فِي مَجْلِسِ حَقٍّ لَا لَغْوَ فِيهِ وَلَا تَأْثِيمَ، وَهُوَ الْجَنَّةُ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ أَيْ: قَادِرٍ عَلَى مَا يَشَاءُ لا يعجزه شيء، وعند هَاهُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْكَرَامَةِ وَشَرَفِ الْمَنْزِلَةِ، وَقَرَأَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ «فِي مَقَاعِدِ صِدْقٍ» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ يَقُولُ: لَيْسَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ لُوطٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَنِيعٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ قَالُوا: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: «أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ وَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَيَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ- بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمُونَهُ فِي الْقَدَرِ، فَنَزَلَتْ: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ قال: مسطور في الكتاب.

سورة الرحمن

سورة الرّحمن وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا آيَةً مِنْهَا، وهي قوله: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ مسعود ومقاتل: هي مدينة كُلُّهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ النَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الرَّحْمَنِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أُنْزِلَ بِمَكَّةَ سُورَةُ الرَّحْمَنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَزَلَتْ سُورَةُ الرَّحْمنُ- عَلَّمَ الْقُرْآنَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ وَهُوَ يُصَلِّي نَحْوَ الرُّكْنِ قَبْلَ أَنْ يَصْدَعَ بِمَا يُؤْمَرُ وَالْمُشْرِكُونَ يَسْمَعُونَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِيَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الرَّحْمَنِ بِالْمَدِينَةِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ نَزَلَ بَعْضُهَا بِمَكَّةَ وَبَعْضُهَا بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ. فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَسَكَتُوا، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا: ولا بشيء مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَحُكِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَنْكِرُ رِوَايَتَهُ عَنْ زُهَيْرٍ. وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْرِفُهُ يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَصَحَّحَ السُّيُوطِيُّ إِسْنَادَهُ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَلِيٍّ، سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لِكُلِّ شَيْءٍ عَرُوسٌ، وَعَرُوسُ الْقُرْآنِ الرَّحْمَنُ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 25] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)

قَوْلُهُ: الرَّحْمنُ- عَلَّمَ الْقُرْآنَ ارْتِفَاعُ الرَّحْمَنُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ أَخْبَارٌ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: اللَّهُ الرَّحْمَنُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى عَلَّمَ الْقُرْآنَ يَسَّرَهُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ مُحَمَّدًا وَعَلَّمَهُ مُحَمَّدٌ أُمَّتَهُ، وَقِيلَ: جَعَلَهُ عَلَامَةً لِمَا يعبد النَّاسَ بِهِ، قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، وَقِيلَ: جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ: وَمَا الرَّحْمَنُ؟ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ لِتَعْدَادِ نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ قَدَّمَ النِّعْمَةَ الَّتِي هِيَ أَجْلُّهَا قَدْرًا، وَأَكْثَرُهَا نَفْعًا، وَأَتَمُّهَا فَائِدَةً، وَأَعْظَمُهَا عَائِدَةً، وَهِيَ نِعْمَةُ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهَا مَدَارُ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَقُطْبُ رَحَى الْخَيْرَيْنِ، وَعِمَادُ الْأَمْرَيْنِ. ثُمَّ امْتَنَّ بَعْدَ هَذِهِ النِّعْمَةِ بِنِعْمَةِ الْخَلْقِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ كُلِّ الْأُمُورِ وَمَرْجِعُ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ ثُمَّ امْتَنَّ ثَالِثًا بِتَعْلِيمِهِ الْبَيَانَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ التَّفَاهُمُ، وَيَدُورُ عَلَيْهِ التَّخَاطُبُ، وَتَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَصَالِحُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِبْرَازُ مَا فِي الضَّمَائِرِ وَلَا إِظْهَارُ مَا يَدُورُ فِي الْخَلَدِ إِلَّا بِهِ. قال قتادة والحسن: المراد بالإنسان آدم، والمراد بالبيان أسماء كلّ شيء، وقيل: المراد به اللغات. وقال ابن كيسان: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هَاهُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وبالبيان بيان الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، وَالْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْبَيَانُ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ مَا يَنْفَعُهُ مِمَّا يَضُرُّهُ، وَقِيلَ: الْبَيَانُ: الْكِتَابَةُ بِالْقَلَمِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْجِنْسِ، وَحَمْلُ الْبَيَانِ عَلَى تَعْلِيمِ كُلِّ قَوْمٍ لِسَانَهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أَيْ: يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ وَمَنَازِلَ لَا يَعْدُوَانِهَا، وَيَدُلَّانِ بِذَلِكَ عَلَى عَدَدِ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ. قَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو مَالِكٍ: يَجْرِيَانِ بِحُسْبَانٍ فِي منازل لَا يَعْدُوَانِهَا وَلَا يَحِيدَانِ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ كَيْسَانَ: يَعْنِي أَنَّ بِهِمَا تُحْسَبُ الأوقات والآجال والأعمار، وَلَوْلَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ كَيْفَ يَحْسُبُ لِأَنَّ الدَّهْرَ يَكُونُ كُلُّهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى بِحُسْبَانٍ: بِقَدَرٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِحُسْبَانٍ كَحُسْبَانِ الرَّحَى، يَعْنِي قُطْبَهُمَا الَّذِي يَدُورَانِ عَلَيْهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْحُسْبَانُ جَمَاعَةُ الْحِسَابِ، مِثْلُ شُهُبٍ وَشُهْبَانٍ. وَأَمَّا الْحُسْبَانُ بِالضَّمِّ فَهُوَ الْعَذَابُ كَمَا مَضَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ النَّجْمُ: مَا لَا سَاقَ لَهُ مِنَ النَّبَاتِ، وَالشَّجَرُ: مَا لَهُ ساق. قال الشاعر «1» : لقد أنجم القاع الكبير عِضَاهُهُ ... وَتَمَّ بِهِ حَيَّا تَمِيمٍ وَوَائِلِ وَقَالَ زُهَيْرٌ: مُكَلَّلٍ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسُجُهُ ... رِيحُ الْجَنُوبِ لضاحي مائه حبك

_ (1) . هو صفوان بن أسد التميمي.

والمراد بسجودهما انقياد هما لِلَّهِ تَعَالَى انْقِيَادَ السَّاجِدِينَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سُجُودُهُمَا أَنَّهُمَا يَسْتَقْبِلَانِ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ، ثُمَّ يَمِيلَانِ مَعَهَا حِينَ يَنْكَسِرُ الْفَيْءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُجُودُهُمَا دَوَرَانُ الظِّلِّ مَعَهُمَا، كَمَا فِي قوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ «1» وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ نَجْمُ السَّمَاءِ وَسُجُودُهُ طُلُوعُهُ، وَرَجَّحَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: سُجُودُهُ أُفُولُهُ، وَسُجُودُ الشَّجَرِ: تَمْكِينُهَا مِنَ الِاجْتِنَاءِ لِثِمَارِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: أَصْلُ السُّجُودِ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِلَّهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا خَبَرَانِ آخَرَانِ لِلرَّحْمَنِ، وَتُرِكَ الرَّابِطُ فِيهِمَا لِظُهُورِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانِهِ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ لَهُ وَالسَّماءَ رَفَعَها قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ السَّمَاءِ عَلَى الِاشْتِغَالِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمْأَلِ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ السَّمَاءَ مَرْفُوعَةً فَوْقَ الْأَرْضِ وَوَضَعَ الْمِيزانَ الْمُرَادُ بِالْمِيزَانِ الْعَدْلُ، أَيْ: وَضَعَ فِي الْأَرْضِ الْعَدْلَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَنَا بِالْعَدْلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أَيْ: لَا تُجَاوِزُوا الْعَدْلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: الْمُرَادُ بِهِ آلَةُ الْوَزْنِ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الْإِنْصَافِ وَالِانْتِصَافِ. وَقِيلَ: الْمِيزَانُ الْقُرْآنُ لِأَنَّ فِيهِ بَيَانُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ بَعْدَ إِخْبَارِهِ لِلْعِبَادِ بِأَنَّهُ وَضَعَهُ لَهُمْ، فَقَالَ: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أَيْ: قَوِّمُوا وَزْنَكُمْ بِالْعَدْلِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَقِيمُوا لِسَانَ الْمِيزَانِ بِالْعَدْلِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ وَضَعَ الْمِيزَانَ فِي الآخرة لوزن الأعمال، و «أن» فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَطْغَوْا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: لِئَلَّا تَطْغَوْا، وَ «لَا» نَافِيَةٌ، أَيْ: وَضَعَ الْمِيزَانَ لِئَلَّا تَطْغَوْا، وَقِيلَ: هِيَ مُفَسِّرَةٌ، لِأَنَّ فِي الْوَضْعِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، فَمَنْ قَالَ: الْمِيزَانُ الْعَدْلُ، قَالَ: طُغْيَانُهُ الْجَوْرُ، وَمَنْ قَالَ: الْمِيزَانُ الْآلَةُ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا، قَالَ: الْبَخْسُ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أَيْ: لَا تَنْقُصُوهُ، أَمَرَ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا بِالتَّسْوِيَةِ، ثُمَّ نَهَى عَنِ الطُّغْيَانِ الَّذِي هُوَ الْمُجَاوَزَةُ لِلْحَدِّ بِالزِّيَادَةِ، ثُمَّ نَهَى عَنِ الْخُسْرَانِ الَّذِي هُوَ النَّقْصُ وَالْبَخْسُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تُخْسِرُوا» بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ السِّينِ من أخسر، وقرأ بلال بن أبي بردة وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ التاء والسين بن خَسِرَ، وَهُمَا لُغَتَانِ. يُقَالُ أَخْسَرْتُ الْمِيزَانَ وَخَسَرْتُهُ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ رَفَعَ السَّمَاءَ ذَكَرَ أَنَّهُ وَضَعَ الْأَرْضَ فَقَالَ: وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ أَيْ: بَسَطَهَا عَلَى الْمَاءِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِمَّا لَهُ رُوحٌ وَحَيَاةٌ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الْأَنَامِ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ الْأَرْضَ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمْأَلِ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَجُمْلَةُ فِيها فاكِهَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنْ الْأَرْضِ مُقَدَّرَةٌ، وَقِيلَ: مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا كُلُّ مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ. ثُمَّ أَفْرَدَ سُبْحَانَهُ النَّخْلَ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ وَمَزِيدِ فَائِدَتِهِ عَلَى سَائِرِ الْفَوَاكِهِ، فَقَالَ: وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ الْأَكْمَامُ: جَمْعُ كِمٍّ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ وِعَاءُ التَّمْرِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْكِمُّ بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النّور، وَالْجَمْعُ كِمَامٌ وَأَكِمَّةٌ وَأَكْمَامٌ. قَالَ الْحَسَنُ: ذَاتُ الْأَكْمَامِ، أَيْ: ذَاتُ اللِّيفِ، فَإِنَّ النَّخْلَةَ تُكَمَّمُ بِاللِّيفِ وَكِمَامُهَا لِيفُهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ذَاتُ الطَّلْعِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَتَّقَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ذَاتُ الْأَحْمَالِ. وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ الْحَبُّ: هُوَ جَمِيعُ مَا يُقْتَاتُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْعَصْفُ. قَالَ السديّ والفراء: هو بقل الزرع،

_ (1) . النحل: 47.

وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ بِهِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: يَبْدُو أَوَّلًا وَرَقًا، وَهُوَ الْعَصْفُ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ سَاقٌ، ثُمَّ يُحَدِثُ اللَّهُ فِيهِ أَكْمَامًا، ثُمَّ يُحْدِثُ فِي الْأَكْمَامِ الْحَبَّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ خَرَجْنَا نَعْصِفُ الزَّرْعَ إِذَا قَطَعُوا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ، وَكَذَا قَالَ الصِّحَاحِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْعَصْفُ: التِّبْنُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ وَرَقُ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ. وَقِيلَ: هُوَ وَرَقُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ إِذَا قُطِعَ رَأَسُهُ وَيَبِسَ، وَمِنْهُ قوله: كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ «1» ، وَقِيلَ: هُوَ الزَّرْعُ الْكَثِيرُ، يُقَالُ: قَدْ أَعْصَفَ الزَّرْعُ، وَمَكَانٌ مُعْصِفٌ، أَيْ: كَثِيرُ الزَّرْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ: إِذَا جُمَادَى منعت قطرها ... زان جنابي عَطَنٌ مُعْصِفُ وَالرَّيْحَانُ: الْوَرَقُ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ الرَّيْحَانُ الَّذِي يُشَمُّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ الْعَصْفَ: هُوَ الْوَرَقُ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ، وَالرَّيْحَانُ: هُوَ الْحَبُّ الْمَأْكُولُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا: الْعَصْفُ: الْمَأْكُولُ مِنَ الزَّرْعِ، وَالرَّيْحَانُ: مَا لَا يُؤْكَلُ، وَقِيلَ: الرَّيْحَانُ كُلُّ بَقْلَةٍ طَيِّبَةِ الرِّيحِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ شَيْءٌ رَيْحَانِيٌّ وَرُوحَانِيٌّ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: الرَّيْحَانُ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ، وَالرَّيْحَانُ: الرِّزْقُ، تَقُولُ: خَرَجْتُ أَبْتَغِي رَيْحَانَ اللَّهِ. قَالَ النمر بن تولب: سلام الإله وريحانه ... ورحمته وَسَمَاءٌ دَرَرْ وَقِيلَ: الْعَصْفُ: رِزْقُ الْبَهَائِمِ، وَالرَّيْحَانُ: رِزْقُ النَّاسِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ بِرَفْعِ الثَّلَاثَةِ عَطْفًا عَلَى فَاكِهَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْمُغِيرَةُ بِنَصْبِهِمَا عَطْفًا عَلَى الْأَرْضَ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: وَخَلَقَ الْحَبَّ ذَا الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالرَّيْحَانِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْعَصْفِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الْخِطَابُ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِأَنَّ لفظ الأنام يعمّهما وغير هما، ثُمَّ خَصَّصَ بِهَذَا الْخِطَابِ مَنْ يَعْقِلُ. وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فيما سيأتي: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا قَدَّمْنَا فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا عَلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْإِنْسِ، وَثَنَّاهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْعَرَبِ فِي خِطَابِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي قوله: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ «2» وَالْآلَاءُ: النِّعَمُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَاحِدُهَا إِلًى مِثْلُ مِعًى وَعَصًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا الْقُدْرَةُ، أَيْ: فَبِأَيِّ قُدْرَةِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، وَبِهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ. وَكَرَّرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَقْرِيرًا لِلنِّعْمَةِ وَتَأْكِيدًا لِلتَّذْكِيرِ بِهَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الاتساع. قال القتبي: إِنَّ اللَّهَ عَدَّدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَعْمَاءَهُ، وَذَكَّرَ خَلْقَهُ آلَاءَهُ، ثُمَّ أَتْبَعَ كُلَّ خَلَّةٍ وَضَعَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَجَعَلَهَا فَاصِلَةً بَيْنَ كُلِّ نِعْمَتَيْنِ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى النِّعَمِ وَيُقْرِرَهُمْ بِهَا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تَتَابَعَ لَهُ إِحْسَانُكَ، وَهُوَ يَكْفُرُهُ: أَلَمْ تَكُنْ فَقِيرًا فَأَغْنَيْتُكَ؟ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ أَلَمْ تَكُنْ رَاجِلًا فَحَمَلْتُكَ؟ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ وَالتَّكْرِيرُ حَسَنٌ فِي مِثْلِ هَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا تَقْتُلِي رَجُلًا إِنْ كُنْتِ مُسْلِمَةً ... إِيَّاكِ مِنْ دَمِهِ إِيَّاكِ إِيَّاكِ قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: التَّكْرِيرُ طَرْدٌ لِلْغَفْلَةِ، وَتَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ

_ (1) . الفيل: 5. (2) . ق: 24.

لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِمَا، ذَكَرَ خَلْقَ الْعَالَمِ الصَّغِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا آدَمُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ الْجِنْسُ لِأَنَّ بَنِي آدَمَ مَخْلُوقُونَ فِي ضِمْنِ خَلْقِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَالصَّلْصَالُ: الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي يُسْمَعُ لَهُ صَلْصَلَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ، وَقِيلَ: هُوَ الطِّينُ الْمُنْتِنُ، يُقَالُ: صَلَّ اللَّحْمُ وَأَصَلَّ إِذَا أَنْتَنَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، وَالْفَخَّارُ: الْخَزَفُ الَّذِي طُبِخَ بِالنَّارِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ طِينٍ يُشْبِهُ فِي يُبْسِهُ الْخَزَفَ. وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ يَعْنِي خَلَقَ أَبَا الْجِنِّ أَوْ جِنْسَ الْجِنِّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَالْمَارِجُ: اللَّهَبُ الصَّافِي مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ: الْخَالِصُ مِنْهَا، وَقِيلَ: لِسَانُهَا الَّذِي يَكُونُ فِي طَرَفِهَا إِذَا الْتَهَبَتْ، وَقَالَ اللَّيْثُ: الْمَارِجُ: الشُّعْلَةُ الساطعة ذات اللهب الشديد. وقال الْمُبَرِّدُ: الْمَارِجُ: النَّارُ الْمُرْسَلَةُ الَّتِي لَا تُمْنَعُ، وقال أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَارِجُ: خَلْطُ النَّارِ، مِنْ مَرَجَ إِذَا اخْتَلَطَ وَاضْطَرَبَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: «مارِجٍ مِنْ نارٍ» : نَارٌ لَا دُخَانَ لَهَا، خُلِقَ مِنْهَا الْجَانَّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّهُ أَنْعَمَ عَلَيْكُمَا فِي تَضَاعِيفِ خَلْقِكُمَا مِنْ ذَلِكَ بِنِعَمٍ لَا تُحْصَى رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «رَبُّ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ، وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْمُرَادُ بِالْمُشْرِقَيْنِ مَشْرِقَا الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَبِالْمَغْرِبَيْنِ مَغْرِبَاهُمَا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ مَا لَا يُحْصَى وَلَا يَتَيَسَّرُ لِمَنْ أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ تَكْذِيبُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ الْمَرْجُ: التَّخْلِيَةُ وَالْإِرْسَالُ، يُقَالُ: مَرَجْتُ الدَّابَّةَ إِذَا أَرْسَلْتُهَا، وَأَصْلُهُ الْإِهْمَالُ كَمَا تَمْرُجُ الدَّابَّةُ فِي الْمَرْعَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَرْسَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، يَلْتَقِيَانِ: أَيْ يَتَجَاوَرَانِ لَا فَصْلَ بَيْنَهُمَا فِي مَرْأَى الْعَيْنِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَخْتَلِطَا، وَلِهَذَا قَالَ: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أَيْ: حَاجِزٌ يَحْجِزُ بَيْنَهُمَا لَا يَبْغِيانِ أَيْ: لَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِأَنْ يَدْخُلَ فِيهِ وَيَخْتَلِطَ بِهِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هَمَا بَحْرُ فَارِسَ وَالرُّومِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هَمَّا الْبَحْرُ الْمَالِحُ وَالْأَنْهَارُ الْعَذْبَةُ، وَقِيلَ: بَحْرُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَقِيلَ: بَحْرُ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، وَقِيلَ: بَحْرُ السَّمَاءِ وَبَحْرُ الْأَرْضِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَلْتَقِيَانِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَقِيلَ: يَلْتَقِي طَرَفَاهُمَا. وَقَوْلُهُ: يَلْتَقِيانِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، وَجُمْلَةُ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَأَنْ تَكُونَ حَالًا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمْثَالَهَا لَا يَتَيَسَّرُ تَكْذِيبُهَا بِحَالٍ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يَخْرُجُ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَاللُّؤْلُؤُ: الدُّرُّ، وَالْمَرْجَانُ: الْخَرَزُ الْأَحْمَرُ الْمَعْرُوفُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: اللُّؤْلُؤُ: الْعِظَامُ، وَالْمَرْجَانُ مَا صَغُرَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ: اللُّؤْلُؤُ صِغَارُهُ، وَالْمَرْجَانُ كِبَارُهُ، وَقَالَ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا يَخْرُجُ ذَلِكَ مِنَ الْمَالِحِ لَا مِنَ الْعَذْبِ، لِأَنَّهُ إِذَا خَرَجَ من أحد هما فَقَدْ خَرَجَ مِنْهُمَا، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: مِنْ أَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ: عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» . وَقَالَ الْأَخْفَشُ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ يَخْرُجُ اللُّؤْلُؤُ مِنَ الْعَذْبِ، وَقِيلَ: هُمَا بَحْرَانِ يَخْرُجُ مِنْ

_ (1) . الزخرف: 31.

أَحَدِهِمَا اللُّؤْلُؤُ، وَمِنَ الْآخَرِ الْمَرْجَانُ، وَقِيلَ: هُمَا بَحْرُ السَّمَاءِ وَبَحْرُ الْأَرْضِ، فَإِذَا وَقَعَ مَاءُ السَّمَاءِ فِي صَدَفِ الْبَحْرِ انْعَقَدَ لُؤْلُؤًا فَصَارَ خَارِجًا مِنْهُمَا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ تَكْذِيبَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِهِ وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ المراد بالجوار: السفن الجارية في البحر، والمنشآت: المرفوعات التي رفع بعض خشبها على بضع وَرُكِّبَ، حَتَّى ارْتَفَعَتْ وَطَالَتْ، حَتَّى صَارَتْ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، وَهِيَ الْجِبَالُ، وَالْعَلَمُ: الْجَبَلُ الطَّوِيلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُنْشَآتُ: الْمَخْلُوقَاتُ لِلْجَرْيِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمُنْشَآتُ: الْمُجْرَيَاتُ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ الْكَلَامِ فِي هَذَا فِي سُورَةِ الشُّورَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «الْجَوارِ» بِكَسْرِ الرَّاءِ وَحَذْفِ الْيَاءِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عنه رفع الراء تناسبا لِلْحَذْفِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُنْشَآتُ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: بِكَسْرِ الشِّينِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوُضُوحِ وَالظُّهُورِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَكْذِيبُهُ وَلَا إِنْكَارُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ قَالَ: بِحِسَابٍ وَمَنَازِلَ يُرْسَلَانِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ قَالَ: لِلنَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لِلْخَلْقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ رُوحٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ قَالَ: أَوْعِيَةُ الطَّلْعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ قَالَ: التِّبْنُ وَالرَّيْحانُ قَالَ: خُضْرَةُ الزَّرْعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْعَصْفِ وَرَقُ الزَّرْعِ إِذَا يَبِسَ وَالرَّيْحانُ مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ مِنَ الرَّيْحَانِ الَّذِي يُشَمُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْعَصْفِ الزَّرْعُ أَوَّلَ مَا يخرج بقلا وَالرَّيْحانُ حتى يَسْتَوِي عَلَى سُوقِهِ وَلَمْ يُسَنْبِلْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كُلُّ رَيْحَانٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ رِزْقٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قَالَ: يَعْنِي بِأَيِّ نِعْمَةِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي الْجِنَّ وَالْإِنْسَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ قَالَ: مِنْ لَهَبِ النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: خَالِصُ النَّارِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ قَالَ: لِلشَّمْسِ مَطْلِعٌ فِي الشِّتَاءِ، وَمَغْرِبٌ فِي الشِّتَاءِ، وَمَطْلِعٌ فِي الصَّيْفِ، وَمَغْرِبٌ فِي الصَّيْفِ، غَيْرُ مَطْلِعِهَا فِي الشِّتَاءِ وَغَيْرُ مَغْرِبِهَا فِي الشِّتَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: مُشْرِقُ الْفَجْرِ وَمُشْرِقُ الشَّفَقِ. وَمَغْرِبُ الشَّمْسِ وَمَغْرِبُ الشَّفَقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ قَالَ: أَرْسَلَ الْبَحْرَيْنِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ قَالَ: حَاجِزٌ لَا يَبْغِيانِ لَا يَخْتَلِطَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: بَحْرُ السَّمَاءِ وَبَحْرُ الْأَرْضِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ قَالَ: بَيْنَهُمَا مِنَ الْبُعْدِ مَا لَا يَبْغِي

[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 إلى 45]

كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ قَالَ: إِذَا مَطَرَتِ السَّمَاءُ فَتَحَتِ الْأَصْدَافُ فِي الْبَحْرِ أَفْوَاهَهَا، فَمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ قَطْرِ السَّمَاءِ فَهُوَ اللُّؤْلُؤُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبً قَالَ: الْمَرْجَانُ: عِظَامُ اللُّؤْلُؤِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اللُّؤْلُؤُ: مَا عَظُمَ مِنْهُ، وَالْمَرْجَانُ: اللُّؤْلُؤُ الصِّغَارُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْمَرْجَانُ: الخرز الأحمر. [سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 45] كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) قَوْلُهُ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ أَيْ: كُلُّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ هَالِكٌ، وَغَلَّبَ الْعُقَلَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَعَبَّرَ عَنِ الْجَمِيعِ بِلَفْظِ مَنْ، وَقِيلَ: أَرَادَ مَنْ عَلَيْهَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ الْوَجْهُ عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَوُجُودِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ مَعْنَى هَذَا، وَقِيلَ: مَعْنَى يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ تَبْقَى حُجَّتُهُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْهِ، وَالْجَلَالُ: الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ، وَاسْتِحْقَاقُ صِفَاتِ الْمَدْحِ، يُقَالُ: جَلَّ الشَّيْءُ، أَيْ: عَظُمَ، وَأَجْلَلْتُهُ، أَيْ: أَعْظَمْتُهُ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ جَلَّ. وَمَعْنَى ذُو الْإِكْرَامِ: أَنَّهُ يُكَرَّمُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا يَلِيقُ بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ذُو الْإِكْرَامِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: رَبِّكَ، لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذُو الْجَلالِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِوَجْهٍ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: «ذِي الْجَلَالِ» عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِرَبِّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَجْهُ النِّعْمَةِ فِي فَنَاءِ الْخَلْقِ أَنَّ الْمَوْتَ سَبَبُ النُّقْلَةِ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَجْهُ النِّعْمَةِ فِي فَنَاءِ الْخَلْقِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَوْتِ، وَمَعَ الموت تستوي الأقدام يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: يَسْأَلُونَهُ جَمِيعًا لِأَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: يَسْأَلُهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ الْمَغْفِرَةَ وَلَا يَسْأَلُونَهُ الرِّزْقَ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُسْأَلُهُ أَهْلُ الْأَرْضِ الرِّزْقَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَتَسْأَلُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَيْضًا الرِّزْقَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: يَسْأَلُونَهُ الرَّحْمَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَلَا أَهْلُ الْأَرْضِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَسْأَلُهُ كُلُّ مَخْلُوقٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بِلِسَانِ الْمَقَالِ أَوْ لسان الحال، مِنْ خَيْرَيِ الدَّارَيْنِ أَوْ مِنْ خَيْرَيْ إِحْدَاهُمَا

كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ انْتِصَابُ «كُلَّ» بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ، وَالتَّقْدِيرُ: اسْتَقَرَّ سُبْحَانَهُ في شأنه كُلَّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَالْيَوْمُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَقْتِ، وَالشَّأْنُ هُوَ الْأَمْرُ، وَمِنْ جُمْلَةِ شُؤُونِهِ سُبْحَانَهُ إِعْطَاءُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَاجَاتِهِمْ وَتَبَايُنِ أَغْرَاضِهِمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَرْزُقُ وَيُفْقِرُ، وَيَعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُمْرِضُ وَيَشْفِي، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَغْفِرُ وَيُعَاقِبُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الْمَذْكُورِ هُوَ يَوْمُ الدُّنْيَا وَيَوْمُ الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الدَّهْرُ كُلُّهُ يَوْمَانِ: أَحَدُهُمَا مُدَّةُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَالْآخَرُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ كُلُّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ اخْتِلَافَ شُؤُونِهِ سُبْحَانَهُ فِي تَدْبِيرِ عِبَادِهِ نِعْمَةٌ لَا يُمْكِنُ جَحْدُهَا، وَلَا يَتَيَسَّرُ لِمُكَذِّبٍ تَكْذِيبُهَا سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ الْفَرَاغَ هَاهُنَا لَيْسَ هُوَ الْفَرَاغُ مِنْ شُغُلٍ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَهُ الْقَصْدُ، أَيْ: سَنَقْصِدُ لِحِسَابِكُمْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ حَاكِيًا عَنِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا تَهْدِيدٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ يُرِيدُ تَهْدِيدَهُ: إِذَنْ أَتَفَرَّغُ لَكَ، أَيْ: أَقْصِدُ قَصْدَكَ، وَفَرَغَ يَجِيءُ بِمَعْنَى قَصَدَ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ قَوْلَ الشَّاعِرِ «1» : الْآنَ وَقَدْ فَرَغْتَ إِلَى نُمَيْرٍ ... فَهَذَا حين كنت لها عَذَابًا يُرِيدُ: وَقَدْ قَصَدْتَ، وَأَنْشَدَ النَّحَّاسُ قَوْلَ الشاعر «2» : ... فرغت إلى القين الْمُقَيَّدِ فِي الْحَجَلِ «3» أَيْ: قَصَدَتْ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَعَدَ عَلَى التَّقْوَى وَأَوْعَدَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ قَالَ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ مِمَّا وَعَدْنَاكُمْ وَنُوصِلُ كُلًّا إِلَى مَا وَعَدْنَاهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ زَيْدٍ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَنَفْرُغُ بِالنُّونِ وَضَمِّ الرَّاءَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ مَفْتُوحَةً مَعَ ضَمِّ الرَّاءِ، أَيْ: سَيَفْرُغُ اللَّهُ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ بِالنُّونِ مَعَ فَتْحِ الرَّاءِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَإِبْرَاهِيمُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَسُمِّيَ الْجِنُّ والإنس ثقلين لعظم شأنهما بالنسبة إلى غير هما مِنْ حَيَوَانَاتِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ثِقْلٌ عَلَى الْأَرْضِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، كَمَا فِي قوله: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «4» وقال جعفر الصادق: سيما ثَقَلَيْنِ لِأَنَّهُمَا مُثْقَلَانِ بِالذُّنُوبِ، وَجَمَعَ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ ثم قال: أَيُّهَ الثَّقَلانِ لِأَنَّهُمَا فَرِيقَانِ، وَكُلُّ فَرِيقٍ جَمْعٌ. قَرَأَ الجمهور: بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ بِضَمِّهَا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا مَا فِي هَذَا التَّهْدِيدِ مِنَ النِّعَمِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِهِ الْمُسِيءُ عَنْ إِسَاءَتِهِ، وَيَزْدَادُ بِهِ الْمُحْسِنُ إِحْسَانًا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفَوْزِ بنعيم الدار الآخرة الّذي

_ (1) . هو جرير. (2) . هو جرير أيضا. [.....] (3) . وصدره: ولمّا اتّقى القين العراقي باسته. (4) . الزلزلة: 2.

هو النعيم في الحقيقة يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَدَّمَ الْجِنَّ هُنَا لِكَوْنِ خَلْقِ أَبِيهِمْ مُتَقَدِّمًا عَلَى خَلْقِ آدَمَ، وَلِوُجُودِ جِنْسِهِمْ قَبْلَ جِنْسِ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: إِنْ قَدَرْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ جَوَانِبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَنَوَاحِيهِمَا هَرَبًا مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهُ فَانْفُذُوا مِنْهَا وَخَلِّصُوا أَنْفُسَكُمْ، يُقَالُ: نَفَذَ الشَّيْءُ مِنَ الشَّيْءِ إِذَا خَلَصَ مِنْهُ كَمَا يَخْلُصُ السَّهْمُ لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ أَيْ: لَا تَقْدِرُونَ عَلَى النُّفُوذِ إِلَّا بِقُوَّةٍ وَقَهْرٍ، وَلَا قُوَّةَ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا قُدْرَةَ، وَالسُّلْطَانُ: الْقُوَّةُ الَّتِي يَتَسَلَّطُ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى الْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ بِالنُّفُوذِ أَمْرُ تَعْجِيزٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ إِذِ انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ وَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ فَهَرَبَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ فَتُحْدِقُ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: مَعْنَى الْآيَةِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْمَوْتِ فَاهْرُبُوا. وَقِيلَ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاعْلَمُوهُ، وَلَنْ تَعْلَمُوهُ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، أَيْ: بِبَيِّنَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهَا لَا تَنْفُذُوا إِلَّا بِمُلْكٍ وَلَيْسَ لَكُمْ مُلْكٌ. وَقِيلَ الْبَاءُ بِمَعْنَى إِلَى، أَيْ: لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا إِلَى سُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا هَذِهِ النِّعْمَةُ الْحَاصِلَةُ بِالتَّحْذِيرِ وَالتَّهْدِيدِ، فَإِنَّهَا تَزِيدُ الْمُحْسِنَ إِحْسَانًا، وَتَكُفُّ الْمُسِيءَ عَنْ إِسَاءَتِهِ، مَعَ أَنَّ مَنْ حَذَّرَكُمْ وَأَنْذَرَكُمْ قَادِرٌ عَلَى الْإِيقَاعِ بِكُمْ مِنْ دُونِ مُهْلَةٍ يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُرْسَلُ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالنُّونِ وَنَصْبِ شُواظٌ. وَالشُّوَاظُ: اللَّهَبُ الَّذِي لَا دُخَانَ مَعَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشُّوَاظُ اللَّهَبُ الْأَخْضَرُ الْمُتَقَطِّعُ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الدُّخَانُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ اللَّهَبِ لَيْسَ بِدُخَانِ الْحَطَبِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَأَبُو عَمْرٍو: هُوَ النَّارُ وَالدُّخَانُ جَمِيعًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: شُواظٌ بِضَمِّ الشِّينِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنُحاسٌ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى شُوَاظٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِخَفْضِهِ عَطْفًا عَلَى نَارٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُحاسٌ بِضَمِّ النُّونِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ مُسْلِمُ بْنُ جُنْدَبٍ وَالْحَسَنُ «وَنُحُسٌ» . وَالنَّحَّاسُ: الصُّفْرُ الْمُذَابُ يُصَبُّ على رؤوسهم، قاله مجاهد وقتادة وغير هما. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الدُّخَانُ الَّذِي لَا لَهَبَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ الْخَلِيلُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ النَّارُ الَّتِي لَهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُهْلُ فَلا تَنْتَصِرانِ أَيْ: لَا تَقْدِرَانِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا الْوَعِيدَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الِانْزِجَارُ عَنِ الشَّرِّ وَالرُّغُوبُ فِي الْخَيْرِ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أَيِ: انْصَدَعَتْ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ أَيْ: كَوَرْدَةٍ حَمْرَاءَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: الْمَعْنَى: فَكَانَتْ حَمْرَاءَ، وَقِيلَ: فَكَانَتْ كَلَوْنِ الْفَرَسِ الْوَرْدِ، وَهُوَ الْأَبْيَضُ الَّذِي يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ أَوِ الصُّفْرَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: تَصِيرُ السَّمَاءُ كَالْأَدِيمِ لِشِدَّةِ حَرِّ النَّارِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا: شَبَّهَ تَلَوُّنَ السَّمَاءِ بِتَلَوُّنِ الْوَرْدِ مِنَ الْخَيْلِ، وَشَبَّهَ الْوَرْدَ فِي أَلْوَانِهَا بِالدُّهْنِ وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ. وَالدِّهَانُ: جَمْعُ دُهْنٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَصِيرُ السَّمَاءُ فِي حُمْرَةِ الْوَرْدِ، وَجَرَيَانِ الدُّهْنِ، أَيْ: تَذُوبُ مَعَ الِانْشِقَاقِ حَتَّى تَصِيرَ حَمْرَاءَ مِنْ حَرَارَةِ نَارِ جَهَنَّمَ، وَتَصِيرَ مِثْلَ الدُّهْنِ لِذَوَبَانِهَا، وَقِيلَ: الدِّهَانُ: الْجِلْدُ الْأَحْمَرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: «كَالدِّهانِ» أَيْ: كَصَبِيبِ

الدُّهْنِ، فَإِنَّكَ إِذَا صَبَبْتَهُ تَرَى فِيهِ أَلْوَانًا. وقال زيد بن أسلم: إنها تصير كعكر الزَّيْتِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهَا الْيَوْمَ خَضْرَاءُ وَسَيَكُونُ لَهَا لَوْنٌ أَحْمَرُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَزَعَمَ «1» الْمُتَقَدِّمُونَ أَنَّ أَصْلَ لَوْنِ السَّمَاءِ الْحُمْرَةُ، وَأَنَّهَا لِكَثْرَةِ الْحَوَائِلِ وَبُعْدِ الْمَسَافَةِ تُرَى بِهَذَا اللَّوْنِ الْأَزْرَقِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا مَا فِي هَذَا التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الشَّرِّ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ أَيْ: يَوْمَ تَنْشَقُّ السَّمَاءُ لَا يُسْأَلُ أَحَدٌ مِنَ الْإِنْسِ وَلَا مِنَ الْجِنِّ عَنْ ذَنْبِهِ، لِأَنَّهُمْ يُعْرَفُونَ بِسِيمَاهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هذه الآية وبين مثل قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «2» أَنَّ مَا هُنَا يَكُونُ فِي مَوْقِفٍ وَالسُّؤَالُ فِي مَوْقِفٍ آخَرَ مِنْ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَا يُسْأَلُونَ هُنَا سُؤَالَ اسْتِفْهَامٍ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْصَى الْأَعْمَالَ وَحَفِظَهَا عَلَى الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يُسْأَلُونَ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وتقريع، ومثل هذه الآية قوله: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ «3» قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمَعْنَى لَا يُسْأَلُ غَيْرُ الْمُجْرِمِ عَنْ ذَنْبِ الْمُجْرِمِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَدَمَ السُّؤَالِ هُوَ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَالسُّؤَالُ هُوَ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِكَثْرَةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِعَدَمِ السُّؤَالِ. السِّيمَا: الْعَلَامَةُ. قَالَ الْحَسَنُ: سِيمَاهُمْ: سَوَادُ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةُ الْأَعْيُنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً «4» وقال: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «5» وَقِيلَ: سِيمَاهُمْ مَا يَعْلُوهُمْ مِنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ والجار وَالْمَجْرُورُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ النَّائِبُ، وَالنَّوَاصِي: شُعُورُ مُقَدَّمِ الرُؤُوسِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تُجْعَلُ الْأَقْدَامُ مَضْمُومَةً إِلَى النَّوَاصِي، وَتُلْقِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ فِي النَّارِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: يُجْمَعُ بَيْنَ نَاصِيَتِهِ وَقَدَمِهِ فِي سِلْسِلَةٍ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. وَقِيلَ: تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى النَّارِ، تَارَةً تَأْخُذُ بِنَوَاصِيهِمْ وَتَجُرُّهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَتَارَةً تَأْخُذُ بِأَقْدَامِهِمْ وَتَجُرُّهُمْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا التَّرْهِيبَ الشَّدِيدَ وَالْوَعِيدَ الْبَالِغَ الَّذِي تَرْجُفُ لَهُ الْقُلُوبُ وَتَضْطَرِبُ لِهَوْلِهِ الْأَحْشَاءُ هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي تُشَاهِدُونَهَا وَتَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، مَعَ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهَا وَتَقُولُونَ إِنَّهَا لَا تَكُونُ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ الْأَخْذِ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ؟ فَقِيلَ: يُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ جَهَنَّمُ، تَقْرِيعًا لَهُمْ وَتَوْبِيخًا يَطُوفُونَ بَيْنَها أَيْ: بَيْنَ جَهَنَّمَ فَتُحْرِقُهُمْ وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَتُصَبُّ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ، وَالْآنُ: الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ وَبَلَغَ غَايَتَهُ. كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنَى يَأْنَى أَنًى فَهُوَ آنٍ: إِذَا انْتَهَى فِي النُّضْجِ وَالْحَرَارَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ: وَتُخْضَبُ لِحْيَةٌ غَدَرَتْ وَخَانَتْ ... بِأَحْمَرَ مِنْ نَجِيعِ الْجَوْفِ آنِ وَقِيلَ: هو واد من أودية جهنم يجمع فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، فَيُغْمَسُونَ فِيهِ. قَالَ قتادة: يطوفون مرّة بين

_ (1) . الزّعم: القول يشكّ فيه. (2) . الحجر: 92. (3) . القصص: 78. (4) . طه: 102. (5) . آل عمران: 106.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 إلى 78]

الْحَمِيمِ وَمَرَّةً بَيْنَ الْجَحِيمِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن من جملتها النِّعْمَةَ الْحَاصِلَةَ بِهَذَا التَّخْوِيفِ وَمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْخَيْرِ وَالتَّرْهِيبِ عَنِ الشَّرِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ قَالَ: ذُو الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ قَالَ: مَسْأَلَةُ عِبَادِهِ إِيَّاهُ الرِّزْقَ وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيبٍ قَالَ: «تَلَا عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ذَلِكَ الشَّأْنُ؟ قَالَ: أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا، وَيُفَرِّجَ كَرْبًا، وَيَرْفَعَ قَوْمًا وَيَضَعَ آخَرِينَ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ والبزار وابن جرير وابن المنده وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: «مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا، وَيُفَرِّجَ كَرْبًا، وَيَرْفَعَ قَوْمًا، وَيَضَعَ آخَرِينَ» . زَادَ الْبَزَّارُ «وَيُجِيبَ دَاعِيًا» ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَجَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: «يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيُفَرِّجُ كَرْبًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ قَالَ: هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ، وَلَيْسَ بِاللَّهِ شُغُلٌ، وَفِي قَوْلِهِ: لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ يَقُولُ: لَا تَخْرُجُونَ مِنْ سُلْطَانِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ قَالَ: لَهَبُ النَّارِ وَنُحاسٌ قَالَ: دُخَانُ النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا وَنُحاسٌ: قَالَ: الصُّفْرُ يُعَذَّبُونَ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فَكانَتْ وَرْدَةً يَقُولُ: حَمْرَاءَ كَالدِّهانِ قَالَ: هُوَ الْأَدِيمُ الْأَحْمَرُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ قَالَ: مِثْلَ لَوْنِ الْفَرَسِ الْوَرْدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ قَالَ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَقُولُ لَهُمْ: لِمَ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ قَالَ: تَأْخُذُ الزَّبَانِيَةُ بِنَاصِيَتِهِ وَقَدَمَيْهِ وَيُجْمَعُ فَيُكْسَرُ كَمَا يُكْسَرُ الْحَطَبُ فِي التَّنُّورِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ قَالَ: هُوَ الَّذِي انتهى حرّه. [سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 78] وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)

لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى الثَّقَلَيْنِ ذَكَرَ نِعَمَهُ الْأُخْرَوِيَّةَ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ مَقَامُهُ سُبْحَانَهُ: هُوَ الْمَوْقِفُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ الْعِبَادُ لِلْحِسَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» فَالْمَقَامُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِيَامِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: خَافَ قِيَامَ رَبِّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِشْرَافُهُ عَلَى أَحْوَالِهِ وَاطِّلَاعُهُ عَلَى أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «2» قَالَ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَدَعُهَا مِنْ خَوْفِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْجَنَّتَيْنِ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي جَنَّةَ عَدْنٍ وَجَنَّةَ النَّعِيمِ، وَقِيلَ: إِحْدَاهُمَا الَّتِي خُلِقَتْ لَهُ وَالْأُخْرَى وَرِثَهَا. وَقِيلَ: إِحْدَاهُمَا مَنْزِلُهُ وَالْأُخْرَى مَنْزِلُ أَزْوَاجِهِ. وَقِيلَ: إِحْدَاهُمَا أَسَافِلُ الْقُصُورِ وَالْأُخْرَى أَعَالِيهَا. وَقِيلَ: جَنَّةٌ لِلْخَائِفِ الْإِنْسِيِّ، وَجَنَّةٌ لِلْخَائِفِ الْجِنِّيِّ. وَقِيلَ: جَنَّةٌ لِفِعْلِ الطَّاعَةِ وَأُخْرَى لِتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ: جَنَّةٌ لِلْعَقِيدَةِ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا، وَأُخْرَى لِلْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ، وَقِيلَ: جَنَّةٌ بِالْعَمَلِ وَجَنَّةٌ بِالتَّفَضُّلِ، وَقِيلَ: جَنَّةٌ رُوحَانِيَّةٌ وَجَنَّةٌ جُسْمَانِيَّةٌ، وَقِيلَ: جَنَّةٌ لِخَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ وَجَنَّةٌ لِتَرْكِهِ شَهْوَتَهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا هِيَ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَالتَّثْنِيَةُ لِأَجْلِ مُوَافَقَةِ رُؤُوسِ الْآيِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَعْظَمِ الْغَلَطِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: «جَنَّتَانِ» وَيَصِفُهُمَا بِقَوْلِهِ فِيهِمَا إِلَخْ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ، وَهِيَ إِعْطَاءُ الْخَائِفِ مِنْ مَقَامِ رَبِّهِ جَنَّتَيْنِ مُتَّصِفَتَيْنِ بِالصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ الْعَظِيمَةِ ذَواتا أَفْنانٍ هذه صفة للجنتين، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَالْأَفْنَانُ: الْأَغْصَانُ، وَاحِدُهَا فَنَنٌ، وَهُوَ الْغُصْنُ الْمُسْتَقِيمُ طُولًا، وَبِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَفْنَانُ: الْأَلْوَانُ، وَاحِدُهَا فَنٌّ، وَهُوَ الضَّرْبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَجَمَعَ عَطَاءٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَقَالَ: فِي كُلِّ غُصْنِ فُنُونٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْفَنَنِ عَلَى الْغُصْنِ قَوْلُ النَّابِغَةِ: دُعَاءَ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلًا ... مفجّعة على فنن تغنّي وقول الآخر:

_ (1) . المطففين: 6. (2) . الرعد: 33.

ما هاج شوقك من هديل حَمَامَةٍ ... تَدْعُو عَلَى فَنَنِ الْغُصُونِ حَمَامَا وَقِيلَ: مَعْنَى ذَواتا أَفْنانٍ ذَوَاتَا فَضْلٍ وَسَعَةٍ عَلَى مَا سِوَاهُمَا، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ: الْأَفْنَانُ: ظِلُّ الْأَغْصَانِ عَلَى الْحِيطَانِ، رُوِيَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلتَّكْذِيبِ وَلَا بِمَوْضِعٍ لِلْإِنْكَارِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ هَذَا أَيْضًا صِفَةٌ أخرى ل «جنتان» ، أَيْ: فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ. قَالَ الْحَسَنُ: إِحْدَاهُمَا السَّلْسَبِيلُ وَالْأُخْرَى التَّسْنِيمُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: إِحْدَاهُمَا مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَالْأُخْرَى مَنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، قِيلَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِثْلُ الدُّنْيَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذِهِ النِّعْمَةَ الْكَائِنَةَ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِ السَّعَادَةِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ هَذَا صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لِجَنَّتَانِ، وَالزَّوْجَانِ: الصِّنْفَانِ وَالنَّوْعَانِ، وَالْمَعْنَى: أَنْ فِي الْجَنَّتَيْنِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ يُتَفَكَّهُ بِهِ ضَرْبَيْنِ يُسْتَلَذُّ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، قِيلَ: أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ رَطْبٌ وَالْآخَرُ يَابِسٌ، لَا يَقْصُرُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ فِي الْفَضْلِ وَالطِّيبِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ فِي مُجَرَّدِ تَعْدَادِ هَذِهِ النِّعَمَ وَوَصْفِهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنَ التَّرْغِيبِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالتَّرْهِيبِ عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَفْهَمُ، وَذَلِكَ نِعْمَةٌ عُظْمَى وَمِنَّةٌ كُبْرَى، فَكَيْفَ بِالتَّنَعُّمِ بِهِ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ انْتِصَابُ مُتَّكِئِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ، وَإِنَّمَا جَمَعَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَقِيلَ: عَامِلُهَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يَتَنَعَّمُونَ مُتَّكِئِينَ. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَالْفُرُشُ: جمع فراش، وَالْبَطَائِنُ: هِيَ الَّتِي تَحْتَ الظَّهَائِرِ، وَهِيَ جَمْعُ بِطَانَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ مَا يَلِي الْأَرْضَ، وَالْإِسْتَبْرَقُ: مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَإِذَا كَانَتِ الْبَطَائِنُ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فَكَيْفَ تَكُونُ الظَّهَائِرُ؟ قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: البَطَائِنُ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فَمَا الظواهر؟ قال: هذا مما قَالَ اللَّهُ فِيهِ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» قِيلَ: إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْبَطَائِنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ يَعْرِفُ مَا فِي الظَّهَائِرِ. وقال الحسن: بطائنها من إستبرق مِنْ نُورٍ جَامِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْبَطَائِنُ هِيَ الظَّهَائِرُ، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَالَ: قَدْ تَكُونُ الْبِطَانَةُ الظِّهَارَةَ وَالظِّهَارَةُ الْبِطَانَةَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ وَجْهًا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هَذَا ظَهْرُ السَّمَاءِ، وَهَذَا بَطْنُ السَّمَاءِ لِظَاهِرِهَا الَّذِي نَرَاهُ، وَأَنْكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ هَذَا، وَقَالَ: لَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا فِي الْوَجْهَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ مبتدأ وخبر، وَالْجَنَى: مَا يُجْتَنَى مِنَ الثِّمَارِ، قِيلَ: إِنَّ الشَّجَرَةَ تَدْنُو حَتَّى يَجْنِيَهَا مَنْ يُرِيدُ جَنَاهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : هَذَا جَنَايَ وَخَيَارُهُ فِيهِ ... إِذْ كَلُّ جَانٍ يَدَهُ إِلَى فِيهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فُرُشٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِضَمَّةٍ وَسُكُونٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَنَى بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِكَسْرِهَا، وَقَرَأَ عِيسَى أَيْضًا بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى الْإِمَالَةِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا بِمَوْضِعٍ لَا يَتَيَسَّرُ لِمُكَذِّبٍ أَنْ يُكَذِّبَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ من الفوائد العاجلة

_ (1) . السجدة: 17. (2) . هو عمرو بن عدي اللخمي.

وَالْآجِلَةِ فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَيْ: فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا قَالَ فِيهِنَّ لِأَنَّهُ عَنَى الْجَنَّتَيْنِ وَمَا أَعَدَّ لِصَاحِبِهِمَا فِيهِمَا مِنَ النَّعِيمِ، وَقِيلَ فِيهِنَّ: أَيْ فِي الْفُرِشِ الَّتِي بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ. وَمَعْنَى قاصِراتُ الطَّرْفِ أَنَّهُنَّ يَقْصُرْنَ أَبْصَارَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قَالَ الْفَرَّاءُ: الطَّمْثُ: الِافْتِضَاضُ، وَهُوَ النِّكَاحُ بِالتَّدْمِيَةِ، يُقَالُ: طَمَثَ الْجَارِيَةَ: إِذَا افْتَرَعَهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَطَأْهُنَّ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ وَلَمْ يُجَامِعْهُنَّ قَبْلَهُمْ أَحَدٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لِأَنَّهُنَّ خُلِقْنَ فِي الْجَنَّةِ، وَالضَّمِيرُ فِي «قَبْلَهُمْ» يَعُودُ إِلَى الْأَزْوَاجِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ، وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى مُتَّكِئِينَ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ صِفَةً لقاصرات لِأَنَّ إِضَافَتَهَا لَفْظِيَّةٌ، وَقِيلَ: الطَّمْثُ: الْمَسُّ، أَيْ: لَمْ يَمْسَسْهُنَّ، قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ: لَمْ يُذَلِّلْهُنَّ، وَالطَّمْثُ: التَّذْلِيلُ، وَمِنَ اسْتِعْمَالِ الطمث فيما ذكره الفراء قول الفرزدق: وقعن إِلَيَّ لَمْ يُطْمَثْنَ قَبْلِي ... وَهُنَّ أَصَحُّ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَطْمِثْهُنَّ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِفَتْحِهَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَلْ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ دَلِيلٌ أَنَّ الْجِنَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِذَا آمَنُوا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَعَمِلُوا بِفَرَائِضِهِ وَانْتَهَوْا عَنْ مَنَاهِيهِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ فِي مُجَرَّدِ هَذَا التَّرْغِيبِ فِي هَذِهِ النِّعَمِ نِعْمَةً جَلِيلَةً وَمِنَّةً عَظِيمَةً، لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْحِرْصُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْفِرَارُ مِنَ الْأَعْمَالِ الطَّالِحَةِ، فَكَيْفَ بِالْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ النِّعَمِ وَالتَّنَعُّمِ بِهَا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ بِلَا انْقِطَاعٍ وَلَا زَوَالٍ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ هذا صفة لقاصرات، أَوْ حَالٌ مِنْهُنَّ، شَبَّهَهُنَّ سُبْحَانَهُ فِي صَفَاءِ اللَّوْنِ مَعَ حُمْرَتِهِ بِالْيَاقُوتِ وَالْمَرْجَانِ، وَالْيَاقُوتُ: هُوَ الْحَجَرُ الْمَعْرُوفُ، وَالْمَرْجَانُ قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي كَوْنِهِ صِغَارَ الدُّرِّ، أَوِ الْأَحْمَرَ الْمَعْرُوفَ. قَالَ الْحَسَنُ: هُنَّ فِي صَفَاءِ الْيَاقُوتِ وَبَيَاضِ الْمَرْجَانِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَرْجَانَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ صِغَارُ الدُّرِّ لِأَنَّ صَفَاءَهَا أَشَدُّ مِنْ صَفَاءِ كِبَارِ الدُّرِّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ نِعَمَهُ كُلَّهَا لَا يَتَيَسَّرُ تَكْذِيبُ شَيْءٍ مِنْهَا كَائِنَةً مَا كَانَتْ، فَكَيْفَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ وَالْمِنَنِ الْجَزِيلَةِ؟ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى مَا جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، كَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا الْجَنَّةُ، وَقَالَ الصادق: هل جزاء من أحسنت عليه فِي الْأَزَلِ إِلَّا حِفْظُ الْإِحْسَانِ عَلَيْهِ فِي الْأَبَدِ. قَالَ الرَّازِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثَ آيَاتٍ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مِائَةُ قَوْلٍ، إِحْدَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «1» وَثَانِيهَا وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا «2» وَثَالِثُهَا هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، الْبَرُّ فِي الْآخِرَةِ، وَالْفَاجِرُ فِي الدُّنْيَا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِحْسَانَ إِلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالزَّجْرِ عَنِ الْعَمَلِ الّذي لا يرضاه

_ (1) . البقرة: 152. (2) . الإسراء: 8.

وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ أَيْ: وَمَنْ دُونِ تَيْنِكَ الْجَنَّتَيْنِ الْمَوْصُوفَتَيْنِ بِالصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ جَنَّتَانِ أُخْرَيَانِ لِمَنْ دُونَ أَصْحَابِ الْجَنَّتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَعْنَى «مِنْ دُونِهِمَا» أَيْ: مِنْ أَمَامِهِمَا وَمِنْ قَبْلِهِمَا، أَيْ: هُمَا أَقْرَبُ مِنْهُمَا وَأَدْنَى إِلَى الْعَرْشِ، وَقِيلَ: الْجَنَّتَانِ الْأُولَيَانِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَجَنَّةُ النَّعِيمِ، وَالْأُخْرَيَانِ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ وَجَنَّةُ الْمَأْوَى. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هِيَ أَرْبَعُ جَنَّاتٍ: جَنَّتَانِ مِنْهُمَا لِلسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ و «عينان تَجْرِيَانِ» ، وَجَنَّتَانِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ويهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْأُولَيَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَالْأُخْرَيَيْنِ مِنْ وَرِقٍ «1» لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا حقّ ونعم لا يمكن جحدها. ثم وصف سبحانه هاتين الجنتين الأخريين فقال: مُدْهامَّتانِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: مِنْ خُضْرَتِهِمَا قَدِ اسْوَدَّتَا مِنَ الرِّيِّ، وَكُلُّ مَا عَلَاهُ السَّوَادُ رِيًّا فَهُوَ مُدْهَمٌّ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مُسْوَدَّتَانِ، وَالدُّهْمَةُ فِي اللُّغَةِ: السَّوَادُ، يُقَالُ فَرَسٌ أَدْهَمُ وَبَعِيرٌ أَدْهَمُ إِذَا اشْتَدَّتْ زرقته حَتَّى ذَهَبَ الْبَيَاضُ الَّذِي فِيهِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ جَمِيعَهَا نِعَمٌ ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ لا تجحد ولا تنكريهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ النَّضْخُ: فَوَرَانُ الْمَاءِ مِنَ الْعَيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ عَيْنَيْنِ فَوَّارَتَيْنِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَالنَّضْخُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَكْثَرُ مِنَ النَّضْحِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: تَنْضَخُ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ فِي دُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا يَنْضَخُ رَشُّ الْمَطَرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهَا تَنْضَخُ بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَالْمَاءِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْضِعٍ لِلتَّكْذِيبِ وَلَا بِمَكَانٍ لِلْجَحْدِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْجَنَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ قَرِيبًا، وَالنَّخْلُ وَالرُّمَّانُ وَإِنْ كَانَا مِنَ الْفَاكِهَةِ لَكِنَّهُمَا خُصِّصَا بِالذِّكْرِ لِمَزِيدِ حُسْنِهِمَا وَكَثْرَةِ نَفْعِهِمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ الْفَوَاكِهِ كَمَا حكاه الزجاج والأزهري وغير هما. وَقِيلَ: إِنَّمَا خَصَّهُمَا لِكَثْرَتِهِمَا فِي أَرْضِ الْعَرَبِ، وَقِيلَ: خَصَّهُمَا لِأَنَّ النَّخْلَ فَاكِهَةٌ وَطَعَامٌ، وَالرُّمَّانُ فَاكِهَةٌ وَدَوَاءٌ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْفَاكِهَةِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ خَالَفَهُ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذِهِ النِّعَمَ الَّتِي فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَمُجَرَّدُ الْحِكَايَةِ لَهَا أَثَرٌ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ وَتَجْذِبُهُمْ إِلَى طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَيْراتٌ بالتخفيف، وقرأ قتادة وابن السّميقع وَأَبُو رَجَاءٍ العُطَارِدِيُّ وَبَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ السَّهْمِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَالنَّهْدِيُّ بِالتَّشْدِيدِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى هِيَ جَمْعُ خَيْرَةٍ بِزِنَةِ فَعْلَةٍ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، يُقَالُ: امْرَأَةٌ خَيْرَةٌ وَأُخْرَى شَرَّةٌ، أَوْ جَمْعُ خَيْرَةٍ مُخَفَّفُ خَيِّرَةٍ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ جَمْعُ خَيِّرَةٍ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْخَيِّرَاتُ: النساء خيرات الأخلاق وحسان الْوُجُوهِ. قِيلَ: وَهَذِهِ الصِّفَةُ عَائِدَةٌ إِلَى الْجِنَانِ الْأَرْبَعِ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا، فَإِنَّهُ قَدْ وَصَفَ نِسَاءَ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأَنَّهُنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ وَبَيْنَ الصِّفَتَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ شَيْئًا مِنْهَا كَائِنًا مَا كَانَ لَا يَقْبَلُ التَّكْذِيبَ حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ أَيْ: مَحْبُوسَاتٌ، وَمِنْهُ الْقَصْرُ، لِأَنَّهُ يَحْبِسُ مَنْ فِيهِ، وَالْحُورُ جَمْعُ حَوْرَاءَ، وَهِيَ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ سَوَادِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بيان معنى الحوراء

_ (1) . «ورق» : فضة. [.....]

وَالْخِلَافُ فِيهِ. وَقِيلَ مَعْنَى «مَقْصُوراتٌ» : أَنَّهُنَّ قُصِرْنَ على أزواجهنّ فلا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ، وَحَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْأَوَّلُ أولى، وبه قال أبو عبيدة ومقاتل وغير هما. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: قَصَرْتُ الشَّيْءَ أَقْصُرُهُ قَصْرًا: حَبَسْتُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُنَّ خُدِّرْنَ فِي الْخِيَامِ. وَالْخِيَامُ جَمْعُ خَيْمَةٍ، وَقِيلَ: جَمْعُ خِيَمٍ، وَالْخِيَمُ: جَمْعُ خَيْمَةٍ، وَهِيَ أَعْوَادٌ تُنْصَبُ وَتُظَلَّلُ بِالثِّيَابِ، فَتَكُونُ أَبْرَدَ مِنَ الْأَخْبِيَةِ. قِيلَ: الْخَيْمَةُ مِنْ خِيَامِ الْجَنَّةِ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ. وَارْتِفَاعُ «حُورٌ» عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ خَيْرَاتٌ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي صِفَةِ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا نِعَمٌ لَا تُكْفَرُ وَمِنَنٌ لَا تُجْحَدُ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ انْتِصَابُ «مُتَّكِئِينَ» عَلَى الْحَالِ أَوِ الْمَدْحِ كَمَا سَبَقَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّفَارِفُ: الْبُسُطُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هِيَ الزَّرَابِيُّ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هِيَ الْمَرَافِقُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ حَاشِيَةُ الثَّوْبِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: ضَرْبٌ مِنَ الثِّيَابِ الْخُضْرِ. وَقِيلَ: الْفُرُشُ الْمُرْتَفِعَةُ، وَقِيلَ: كُلُّ ثَوْبٍ عَرِيضٍ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالرَّفْرَفُ: ثِيَابٌ خُضْرٌ تتّخذ منها المحابس، الواحدة رَفْرَفَةٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَالُوا الرَّفْرَفُ هَنَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ، وَقَالُوا: الرَّفْرَفُ: الْوَسَائِدُ، وَقَالُوا: الرَّفْرَفُ: الْمَحَابِسُ اهـ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَاشْتِقَاقُ الرَّفْرَفِ مِنْ رَفَّ يَرِفُّ إِذَا ارْتَفَعَ، وَمِنْهُ رَفْرَفَةُ الطَّائِرِ، وَهِيَ تَحْرِيكُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَفْرَفٍ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ رَفَارِفٍ عَلَى الْجَمْعِ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ الْعَبْقَرِيُّ: الزَّرَابِيُّ وَالطَّنَافِسُ الْمَوْشِيَّةُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ وَشْيٍ مِنَ الْبُسُطِ عَبْقَرِيٌّ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَرْضٍ يعمل فيه الوشي. قال الفرّاء: العبقريّ: الطنافس الثخان. وَقِيلَ: الزَّرَابِيُّ، وَقِيلَ: الْبُسُطُ، وَقِيلَ: الدِّيبَاجُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ عَبْقَرَ قَرْيَةٌ تَسْكُنُهَا الْجِنُّ يُنْسَبُ إِلَيْهَا كُلُّ فَائِقٍ، قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَبْقَرِيُّ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلُّ جَلِيلٍ فَاضِلٍ فَاخِرٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: بِخَيْلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جَدِيرُونَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوا فَيَسْتَعْلُوا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَبْقَرِيُّ مَوْضِعٌ تَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّهُ مِنْ أَرْضِ الْجِنِّ. قَالَ لَبِيدٌ: كُهُولٌ وَشُبَّانٌ كَجِنَّةِ عَبْقَرِ «1» ثُمَّ نَسَبُوا إِلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ تَعَجَّبُوا مِنْ حِذْقِهِ وَجَوْدَةِ صَنْعَتِهِ وَقُوَّتِهِ فَقَالُوا: عَبْقَرِيٌّ، وَهُوَ وَاحِدٌ وَجَمْعٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَبْقَرِيٍّ وَقَرَأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ «عَبَاقِرِيٍّ» وَقُرِئَ «عَبَاقِرَ» وَهُمَا نِسْبَةٌ إِلَى عَبَاقِرَ اسْمِ بَلَدِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: لَيْسَ بِمَنْسُوبٍ، وهو مثل كرسيّ وَبُخْتِيٍّ وَبَخَاتِيٍّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ خُضْرٍ بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ، وَقُرِئَ بِضَمِّهِمَا وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ التَّكْذِيبُ، وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَجْحَدَهُ جَاحِدٌ أَوْ يُنْكِرَهُ منكر، وقد

_ (1) . وصدره: ومن فاد من إخوانهم وبنيهم.

قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَجْهَ تَكْرِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا نُعِيدُهُ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ تَبَارَكَ: تَفَاعَلَ، مِنَ الْبَرَكَةِ، قَالَ الرَّازِيُّ: وَأَصْلُ التَّبَارُكِ مِنَ التَّبَرُّكِ، وَهُوَ الدَّوَامُ وَالثَّبَاتُ، وَمِنْهُ بَرَكَ الْبَعِيرُ وَبِرْكَةُ الْمَاءِ فَإِنَّ الْمَاءَ يَكُونُ دَائِمًا، وَالْمَعْنَى: دَامَ اسْمُهُ وَثَبَتَ أَوْ دَامَ الْخَيْرُ عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْبَرَكَةَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الثَّبَاتِ لَكِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَا وَارْتَفَعَ شَأْنُهُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَقْدِيسُهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّبَارُكُ مَنْسُوبًا إِلَى اسْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا ظَنُّكَ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: الِاسْمُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مُقْحَمٌ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «ذِي الْجَلالِ» عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ذو الجلال على أنه صفة لاسم. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ خَافُوا مَقَامَهُ فَأَدَّوْا فَرَائِضَهُ الْجَنَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ يَقُولُ: خَافَ ثُمَّ اتَّقَى، وَالْخَائِفُ: مِنْ رَكِبَ طَاعَةَ اللَّهِ وَتَرَكَ مَعْصِيَتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: لِمَنْ خَافَهُ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَنِيعٍ وَالْحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِيَةَ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِيَةَ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، فَقَالَ الثَّالِثَةَ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ نَعَمْ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي الدَّرْدَاءِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي الدَّرْدَاءِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ يَسَارٍ مَوْلًى لِآلِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ قَالَ: قِيلَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: من خاف مقام ربه ولم يَزْنِ وَلَمْ يَسْرِقْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الفرائض ذهب هذا» . وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جِنَانُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعُ جَنَّاتٍ: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُمَا وَأَبْنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ حِلْيَتُهُمَا وَأَبْنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وفي قوله:

وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ وَرِقٍ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي مُوسَى فِي قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ قَالَ: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلسَّابِقِينَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِلتَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ذَواتا أَفْنانٍ قَالَ: ذَوَاتَا أَلْوَانٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ذَواتا أَفْنانٍ قَالَ: ذَوَاتَا أَلْوَانٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: فنّ غصونهما يَمَسُّ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْفَنُّ: الْغُصْنُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ قال: أخبرتم بالبطائن، فكيف الظهائر؟ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَمَا الظَّوَاهِرُ؟ قَالَ: ذَلِكَ مِمَّا قَالَ اللَّهُ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ قَالَ: جَنَاهَا: ثَمَرُهَا، وَالدَّانِي: الْقَرِيبُ مِنْكَ يَنَالُهُ الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ يَقُولُ: عَنْ غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ يَقُولُ: لَمْ يَدْنُ مِنْهُنَّ أَوْ لَمْ يُدْمِهِنَّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ قَالَ: تَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهَا فِي خِدْرِهَا أَصْفَى مِنَ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ ثَوْبًا، وَيَنْفُذُهَا بَصَرُهُ حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً، حَتَّى يُرَى مُخُّهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ، فَأَمَّا الْيَاقُوتُ فَإِنَّهُ حَجَرٌ لَوْ أَدْخَلْتَ فِيهِ سِلْكًا ثُمَّ اسْتَصْفَيْتَهُ لَرَأَيْتَهُ مِنْ وَرَائِهِ» وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَوْقُوفًا، وَقَالَ: هُوَ أَصَحٌّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَضَعَّفَهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «قَوْلِهِ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ قَالَ: مَا جَزَاءُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إِلَّا الْجَنَّةُ» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، وَابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا فِي الآية قال: «هل جزاء من أنعمت عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ قَالَ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَضَعَّفَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ هَذِهِ الآية في

سُورَةِ الرَّحْمَنِ لِلْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلا الإحسان» . وأخرجه ابن مردويه مرفوعا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُدْهامَّتانِ قَالَ: هُمَا خَضْرَاوَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَدِ اسْوَدَّتَا مِنَ الْخُضْرَةِ مِنَ الرِّيِّ مِنَ الْمَاءِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: مُدْهامَّتانِ قَالَ: خَضْرَاوَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضَّاخَتانِ قَالَ: فَائِضَتَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: يَنْضَخَانِ بِالْمَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: خَيْراتٌ حِسانٌ قَالَ: لِكُلِّ مُسْلِمٍ خَيْرَةٌ، وَلِكُلِّ خَيْرَةٍ خَيْمَةٌ وَلِكُلِّ خَيْمَةٍ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ كُلَّ يَوْمٍ تُحْفَةٌ وَكَرَامَةٌ وَهَدِيَّةٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، لَا مَرَّاحَاتٍ، وَلَا طَمَّاحَاتٍ، وَلَا بَخِرَاتٍ «1» ، وَلَا دَفِرَاتٍ «2» ، حُورٌ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حُورٌ قَالَ: بِيضٌ مَقْصُوراتٌ قَالَ: مَحْبُوسَاتٌ فِي الْخِيامِ قَالَ: فِي بُيُوتِ اللُّؤْلُؤِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: الْحَوَرُ: سُودُ الْحَدَقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخِيَامُ دُرٌّ مُجَوَّفٌ» . وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْخَيْمَةُ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ طُولُهَا فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلًا، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا لِلْمُؤْمِنِ أَهْلٌ لَا يَرَاهُمُ الْآخَرُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ قَالَ: فُضُولُ الْمَحَابِسِ وَالْفُرُشِ وَالْبُسُطِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: هِيَ فُضُولُ الْمَحَابِسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفْرَفٍ خُضْرٍ قَالَ: الْمَحَابِسُ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ قَالَ: الزَّرَابِيُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: الرَّفْرَفُ: الرّياض، والعبقريّ: الزرابي.

_ (1) . بخر الفم: أنتنت رائحته. (2) . دفر الشيء: خبثت رائحته. والأدفر: من فاح ريح صنانه. والدّفار: المنتنة.

سورة الواقعة

سورة الواقعة هي سبع وتسعون، أو ست وتسعون آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرِ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا آيَةً مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «1» وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْهَا، وَهِيَ أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ- وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «2» وَقَوْلُهُ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ- وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ «3» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الواقعة بمكة. وأخرج عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَابْنُ الضُّرَيْسِ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «سورة الواقعة سورة الغنى، فاقرؤوها، وَعَلِّمُوهَا أَوْلَادَكُمْ» . وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «علموا نساءكم سُورَةَ الْوَاقِعَةِ فَإِنَّهَا سُورَةُ الْغِنَى» وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ والواقعة» اهـ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 26] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) قَوْلُهُ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ الْوَاقِعَةُ: اسْمٌ لِلْقِيَامَةِ كَالْآزِفَةِ وَغَيْرِهَا، وَسُمِّيَتْ وَاقِعَةً لِأَنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، أَوْ لِقُرْبِ وُقُوعِهَا، أَوْ لِكَثْرَةِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الشَّدَائِدِ، وَانْتِصَابُ «إِذَا» بِمُضْمَرٍ، أَيِ: اذْكُرْ وَقْتَ وُقُوعِ الْوَاقِعَةِ، أَوْ بِالنَّفْيِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أَيْ: لَا يَكُونُ عِنْدَ وُقُوعِهَا تَكْذِيبٌ، وَالْكَاذِبَةُ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ، أَيْ: لَيْسَ لِمَجِيئِهَا وَظُهُورِهَا كَذِبٌ أَصْلًا، وَقِيلَ: «إِذَا» شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهَا مقدّر،

_ (1) . الواقعة: 82. (2) . الواقعة: 81- 82. (3) . الواقعة: 13- 14.

أَيْ: إِذَا وَقَعَتْ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَالْجَوَابُ هَذَا هُوَ الْعَامِلُ فِيهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهَا، وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو حَيَّانَ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا مَكِّيٌّ فَقَالَ: وَالْعَامِلُ وَقَعَتْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَالْوَاقِعَةُ هُنَا هِيَ النَّفْخَةُ الْآخِرَةُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهَا إِذَا وَقَعَتِ النَّفْخَةُ الْآخِرَةُ عِنْدَ الْبَعْثِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَكْذِيبٌ بِهَا أَصْلًا، أَوْ لَا يَكُونُ هناك نفس تكذيب على الله وتكذيب بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ» أَيْ: لَا يَرُدُّهَا شيء، وبه قال الحسن وقتادة. وقال الثوري: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا أَحَدٌ يُكَذِّبُ بِهَا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَيْسَ لَهَا تَكْذِيبٌ، أَيْ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَذِّبَ بِهَا أَحَدٌ خافِضَةٌ رافِعَةٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِهِمَا عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هِيَ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ بِنَصْبِهِمَا عَلَى الْحَالِ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: خَفَضَتِ الصَّوْتَ فَأَسْمَعَتْ مَنْ دَنَا، وَرَفَعَتِ الصَّوْتَ فَأَسْمَعَتْ مَنْ نَأَى، أَيْ: أَسْمَعَتِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَفَضَتْ أَقْوَامًا فِي عَذَابِ اللَّهِ، وَرَفَعَتْ أَقْوَامًا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: خَفَضَتْ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مَرْفُوعِينَ، وَرَفَعَتْ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مَخْفُوضِينَ. وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الْخَفْضَ وَالرَّفْعَ فِي الْمَكَانِ وَالْمَكَانَةِ وَالْعِزِّ وَالْإِهَانَةِ، وَنِسْبَةُ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ إِلَيْهَا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، والخافض والرّافع فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أَيْ: إِذَا حُرِّكَتْ حَرَكَةً شَدِيدَةً، يُقَالُ: رَجَّهُ يَرُجُّهُ رَجًّا إِذَا حَرَّكَهُ، وَالرَّجَّةُ: الِاضْطِرَابُ، وَارْتَجَّ الْبَحْرُ: اضْطَرَبَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تَرْتَجُّ كَمَا يَرْتَجُّ الصَّبِيُّ فِي الْمَهْدِ حَتَّى يَنْهَدِمَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا، وَيَنْكَسِرَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْجِبَالِ وَغَيْرِهَا. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَى رُجَّتْ: زُلْزِلَتْ، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ أَيْ: تَخْفِضُ وَتَرْفَعُ وَقْتَ رَجِّ الْأَرْضِ وَبَسِّ الْجِبَالِ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَفِعُ مَا هُوَ مُنْخَفِضٌ وَيَنْخَفِضُ مَا هُوَ مُرْتَفِعٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُ بدل من الظرف الأوّل ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ، فَيَكُونُ مَعْنَى وُقُوعِ الْوَاقِعَةِ هُوَ رَجُّ الْأَرْضِ، وَبَسُّ الْجِبَالِ. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا الْبَسُّ: الْفَتُّ، يُقَالُ: بَسَّ الشَّيْءَ إِذَا فَتَّهُ حتى يصير فتاتا، ويقال: بسّ السويق: إذابته بِالسَّمْنِ أَوْ بِالزَّيْتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى أن الجبال فتت فَتًّا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كُسِرَتْ كَسْرًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: قُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا. بُسَّتْ كَمَا يُبَسُّ الدَّقِيقُ بِالسَّمْنِ أَوْ بِالزَّيْتِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا خُلِطَتْ فَصَارَتْ كَالدَّقِيقِ الْمَلْتُوتِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْبَسُّ السَّوْقُ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: سِيقَتِ الْجِبَالُ سَوْقًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: بَسَّ الْإِبِلَ وَأَبَسَّهَا لُغَتَانِ إِذَا زَجَرَهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمَعْنَى هُدَّتْ هَدًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا أَيْ: غُبَارًا مُتَفَرِّقًا مُنْتَشِرًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْهَبَاءُ الشُّعَاعُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْكُوَّةِ كَهَيْئَةِ الْغُبَارِ، وَقِيلَ: هُوَ الرَّهَجُ الَّذِي يَسْطَعُ مِنْ حَوَافِرِ الدَّوَابِّ ثُمَّ يَذْهَبُ، وَقِيلَ: مَا تَطَايَرَ مِنَ النَّارِ إِذَا اضْطَرَمَتْ عَلَى سَوْرَةِ الشَّرَرِ، فَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْفُرْقَانِ عند تفسير قوله: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «1» قَرَأَ الْجُمْهُورُ مُنْبَثًّا بِالْمُثَلَّثَةِ. وَقَرَأَ مَسْرُوقٌ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ. أَيْ: مُنْقَطِعًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَتَّهُ اللَّهُ، أَيْ: قَطَعَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ النَّاسِ وَاخْتِلَافَهُمْ فَقَالَ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ أَوْ لِلْأُمَّةِ الْحَاضِرَةِ، وَالْأَزْوَاجُ: الْأَصْنَافُ، وَالْمَعْنَى: وَكُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَصْنَافًا ثَلَاثَةً. ثُمَّ فَسَّرَ سُبْحَانَهُ هذه الأصناف فقال:

_ (1) . الفرقان: 23.

فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أَيْ: أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، أَوِ الَّذِينَ يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ إِلَى الْجَنَّةِ، وأصحاب الْمَيْمَنَةِ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ هُمْ فِي حَالِهِمْ وَصِفَتِهِمْ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَتَكْرِيرُ الْمُبْتَدَأِ هُنَا بِلَفْظِهِ مُغْنٍ عَنِ الضَّمِيرِ الرَّابِطِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ «1» والْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ «2» وَلَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا إِلَّا فِي مواضع التفخيم والتعظيم، والكلام في أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ كَالْكَلَامِ فِي أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَالْمُرَادُ الَّذِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ إِلَى النَّارِ، أَوْ يَأْخُذُونَ صَحَائِفَ أَعْمَالِهِمْ بِشِمَالِهِمْ، وَالْمُرَادُ تَعْجِيبُ السَّامِعِ مِنْ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْفَخَامَةِ وَالْفَظَاعَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ فِي نِهَايَةِ السَّعَادَةِ وَحُسْنِ الْحَالِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ فِي نِهَايَةِ الشَّقَاوَةِ وَسُوءِ الْحَالِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَنْ يَمِينِ آدَمَ حِينَ أُخْرِجَتِ الذَّرِّيَّةُ مِنْ صُلْبِهِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَنْ شِمَالِهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هُمُ الَّذِينَ أُخِذُوا مِنْ شِقِّ آدَمَ الْأَيْمَنِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هُمُ الَّذِينَ أُخِذُوا مَنْ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هُمْ أَهْلُ الْحَسَنَاتِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هُمْ أَهْلُ السَّيِّئَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ: أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هُمُ الْمَيَامِينُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هُمُ الْمَشَائِيمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ أَصْحَابُ التَّقَدُّمِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ أَصْحَابُ التَّأَخُّرِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: اجْعَلْنِي فِي يَمِينِكَ وَلَا تَجْعَلْنِي فِي شِمَالِكَ، أَيِ: اجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَا تَجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الدُّمَيْنَةِ: أَبُنَيَّتِي أَفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي ... فَأَفْرَحُ أَمْ صَيَّرْتِنِي فِي شِمَالِكِ ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الصِّنْفَ الثَّالِثَ فَقَالَ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ وَالتَّكْرِيرُ فِيهِ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ كَمَا مَرَّ فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، كَمَا تَقُولُ أَنْتَ أَنْتَ وَزَيْدٌ زَيْدٌ، وَالسَّابِقُونَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ السَّابِقُونَ. وَفِيهِ تأويلان: أحد هما أَنَّهُ بِمَعْنَى السَّابِقُونَ هُمُ الَّذِينَ اشْتُهِرَتْ حَالُهُمْ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ مُتَعَلَّقَ السَّابِقِينَ مُخْتَلِفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالسَّابِقُونَ إِلَى الْإِيمَانِ السَّابِقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُمُ السَّابِقُونَ إِلَى الإيمان من كل أمة. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الَّذِينَ سَبَقُوا إِلَى الْجِهَادِ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمُ السَّابِقُونَ إِلَى التَّوْبَةِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَالسَّابِقُونَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ هُمُ السابقون إلى رحمة الله. وقيل: وَوَجْهُ تَأْخِيرِ هَذَا الصِّنْفِ الثَّالِثِ مَعَ كَوْنِهِ أَشْرَفَ مِنَ الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هُوَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ فَالْإِشَارَةُ هِيَ إِلَيْهِمْ، أَيِ: الْمُقَرَّبُونَ إِلَى جَزِيلِ ثَوَابِ اللَّهِ وَعَظِيمِ كَرَامَتِهِ، أَوِ الَّذِينَ قَرُبَتْ دَرَجَاتُهُمْ وَأُعْلِيَتْ مَرَاتِبُهُمْ عِنْدَ الله. وقوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ متعلق بالمقربون، أَيْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا لِأُولَئِكَ، وَأَنْ يكون حالا من

_ (1) . الحاقة: 1- 2. (2) . القارعة: 1- 2.

الضَّمِيرِ فِي الْمُقَرَّبُونَ، أَيْ: كَائِنِينَ فِيهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي جَنَّاتِ بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ «فِي جَنَّةِ» بِالْإِفْرَادِ، وَإِضَافَةُ الْجَنَّاتِ إِلَى النَّعِيمِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَكَانِ إِلَى مَا يَكُونُ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: دَارُ الضِّيَافَةِ وَدَارُ الدَّعْوَةِ وَدَارُ الْعَدْلِ، وَارْتِفَاعُ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ ثُلَّةٌ، وَالثُّلَّةُ الْجَمَاعَةُ الَّتِي لَا يُحْصَرُ عَدَدُهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى ثُلَّةٍ مَعْنَى فِرْقَةٍ، مِنْ ثَلَلْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعْتَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ هُمُ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَسُمُّوا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، وَهُمْ كَثِيرُونَ لِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فيهم وكثرة من أجابهم. قال الحسن: سابقوا مَنْ مَضَى أَكْثَرُ مِنْ سَابِقِينَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ عَايَنُوا جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَصَدَّقُوا بِهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ عَايَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. ثُمَّ قَالَ: ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قَالَ: نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» لِأَنَّ قَوْلَهُ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ إنما هو تفصيل لِلسَّابِقِينَ فَقَطْ كَمَا سَيَأْتِي فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ أَنَّهُمْ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَيَجْتَمِعُ مِنْ قَلِيلِ سَابِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمِنْ ثُلَّةِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْهَا مَنْ يَكُونُ نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، والمقابلة بين الثلثين فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ لَا تَسْتَلْزِمُ اسْتِوَاءَهُمَا لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الثُّلَّةُ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الثُّلَّةِ، كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ الْجَمَاعَةُ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ، وَهَذِهِ الْقِطْعَةُ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْقِطْعَةِ. وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَةً أُخْرَى لِلسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ فَقَالَ: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ سُرُرٍ بِضَمِّ السين والراء الأولى، وقرأ أبو السّمّال وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَوْضُونَةُ: الْمَنْسُوجَةُ: وَالْوَضْنُ: النَّسْجُ الْمُضَاعَفُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَنْسُوجَةٌ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ، وَقِيلَ: مُشَبَّكَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوْضُونَةَ: الْمَصْفُوفَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَوْضُونَةُ: الْمَرْمُولَةُ «1» بِالذَّهَبِ، وَانْتِصَابُ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها عَلَى الْحَالِ، وَكَذَا انْتِصَابُ مُتَقابِلِينَ وَالْمَعْنَى: مُسْتَقِرِّينَ عَلَى سُرُرٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ قَفَا بَعْضٍ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ بَعْضِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ، وَالْمَعْنَى يَدُورُ حَوْلَهُمْ لِلْخِدْمَةِ غِلْمَانٌ لَا يَهْرَمُونَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ، بَلْ شَكْلُهُمْ شَكْلُ الْوِلْدَانِ دَائِمًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى لَا يَمُوتُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: لَا يَهْرَمُونَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط إِنَّهُ لَمُخَلَّدٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُخَلَّدُونَ مُقَرَّطُونَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ مُخَلَّدُونَ: مُقَرَّطُونَ، يُقَالُ: خلد جاريته إذا حلاها بالخلدة، وهي القرط. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُخَلَّدُونَ: مُنَعَّمُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَهَلْ يَنْعَمْنَ إِلَّا سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ ... قَلِيلُ الْهُمُومِ مَا يَبِيتُ بِأَوْجَالِ وَقِيلَ: مَسْتُورُونَ بِالْحِلْيَةِ، وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

_ (1) . «مرمولة» : منسوجة.

وَمُخَلَّدَاتٌ بِاللُّجَيْنِ كَأَنَّمَا ... أَعْجَازُهُنَّ أَقَاوِزُ «1» الْكُثْبَانِ وَقِيلَ: مخلدون: منطقون، قِيلَ: وَهُمْ وِلْدَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ صِغَارًا وَلَا حَسَنَةَ لَهُمْ وَلَا سَيِّئَةَ، وَقِيلَ: هُمْ أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونُوا مَخْلُوقِينَ فِي الْجَنَّةِ لِلْقِيَامِ بِهَذِهِ الْخِدْمَةِ، وَالْأَكْوَابُ: هِيَ الْأَقْدَاحُ الْمُسْتَدِيرَةُ الْأَفْوَاهِ الَّتِي لَا آذَانَ لَهَا وَلَا عُرًى، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ مَعْنَاهَا فِي سورة الزخرف، والأباريق: هي ذات العرا وَالْخَرَاطِيمِ، وَاحِدُهَا إِبْرِيقٌ، وَهُوَ الَّذِي يَبْرُقُ لَوْنُهُ مِنْ صَفَائِهِ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أَيْ: مِنْ خمر جارية أو من مَاءٍ جَارٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْخَمْرُ الْجَارِيَةُ مِنَ الْعُيُونِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْكَأْسِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها أَيْ: لَا تَتَصَدَّعُ رُؤُوسُهُمْ مِنْ شُرْبِهَا كَمَا تَتَصَدَّعُ مِنْ شُرْبِ خَمْرِ الدُّنْيَا. وَالصُّدَاعُ: هُوَ الدَّاءُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ فِي رَأْسِهِ، وَقِيلَ: لَا يُصَدَّعُونَ لَا يَتَفَرَّقُونَ كَمَا يَتَفَرَّقُ الشُّرَّابُ، وَيُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ يَصَّدَّعُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَالْأَصْلُ يَتَصَدَّعُونَ، أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَجُمْلَةُ وَلا يُنْزِفُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي هذا الحرف في سُورَةِ الصَّافَّاتِ، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، أَيْ: لَا يَسْكَرُونَ فَتَذْهَبُ عُقُولُهُمْ، مِنْ أَنْزَفَ الشَّارِبُ إِذَا نفذ عَقْلُهُ أَوْ شَرَابُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : لَعَمْرِي لَئِنْ أَنَزَفْتُمُ أَوْ صَحَوْتُمْ ... لَبِئْسَ النَّدَامَى كُنْتُمُ آلَ أَبْجَرَا وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أَيْ: يَخْتَارُونَهُ، يُقَالُ: تَخَيَّرْتُ الشَّيْءَ: إِذَا أَخَذْتَ خَيْرَهُ. قَرَأَ الجمهور وَفاكِهَةٍ بالجر وَكذا لَحْمِ عَطْفًا عَلَى أَكْوَابٍ، أَيْ: يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمُتَفَكَّهِ بِهِ. وَقَرَأَ زيد بن علي وأبو عبد الرّحمن برفعهما عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: وَلَهُمْ فَاكِهَةٌ وَلَحْمٌ، وَمَعْنَى مِمَّا يَشْتَهُونَ مِمَّا يَتَمَنَّوْنَهُ وَتَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ وَحُورٌ عِينٌ- كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ قَرَأَ الجمهور: وَحُورٌ عِينٌ بِرَفْعِهِمَا عَطْفًا عَلَى وِلْدَانٌ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: نِسَاؤُهُمْ حُورٌ عِينٌ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ خَبَرٍ، أَيْ: وَلَهُمْ حُورٌ عِينٌ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِجَرِّهِمَا عَطْفًا عَلَى أَكْوَابٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جَنَّاتٍ، أَيْ: هُمْ فِي جَنَّاتٍ وَفِي حُورٍ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَفِي مُعَاشَرَةِ حُورٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي تَوْجِيهِ الْعَطْفِ عَلَى أَكْوَابٍ إِنَّهُ يَجُوزُ الْجَرُّ عَلَى الْإِتْبَاعِ فِي اللَّفْظِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الْحُورَ لَا يُطَافُ بِهِنَّ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا وَالْعَيْنُ لَا تُزَجَّجُ وَإِنَّمَا تُكَحَّلُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

_ (1) . «الأقاوز» : جمع قوز: وهو كثيب من الرمل صغير شبه به أرداف النساء. (2) . هو الحطيئة.

وَقَوْلُ الْآخَرِ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا «1» قَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ عَلَى الْمَعْنَى. قَالَ: وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يُطَافَ عَلَيْهِمْ بِالْحُورِ، وَيَكُونُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لَذَّةٌ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِنَصْبِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ فِعْلٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَيُزَوَّجُونَ حُورًا عِينًا، أَوْ وَيُعْطَوْنَ، وَرَجَّحَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ. ثُمَّ شَبَّهَهُنَّ سُبْحَانَهُ بِاللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَمَسَّهُ الْأَيْدِي وَلَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْغُبَارُ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ صَفَاءً، وَانْتِصَابُ جَزَاءً فِي قَوْلِهِ: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْجَزَاءِ بِأَعْمَالِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يُجْزَوْنَ جَزَاءً، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحُورِ الْعِينِ فِي سُورَةِ الطُّورِ وَغَيْرِهَا لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً اللَّغْوُ: الْبَاطِلُ مِنَ الْكَلَامِ، وَالتَّأْثِيمُ النِّسْبَةُ إِلَى الْإِثْمِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَا يُؤَثِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَسْمَعُونَ شَتْمًا وَلَا مأثما، والمعنى: أنه لا يقول بعضهم لبعض أَثِمْتَ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا فِيهِ إِثْمٌ إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً الْقِيلُ: الْقَوْلُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ يَقُولُونَ قِيلًا، أَوْ يَسْمَعُونَ قِيلًا، وَانْتِصَابُ سَلَامًا سَلَامًا عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ «قِيلًا» ، أَوْ صِفَةٌ لَهُ، أَوْ هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ لِقِيلًا، أَيْ: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا سَلَامًا سَلَامًا، وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ هُوَ مَحْكِيٌّ بِقِيلًا، أَيْ: إِلَّا قِيلًا سَلِّمُوا سَلَامًا سَلَامًا، وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِلَّا تَحِيَّةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. قَالَ عَطَاءٌ: يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ، وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ التَّحِيَّةَ لَيْسَتْ مِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ اللَّغْوِ وَالتَّأْثِيمِ، وقرئ سَلَامٌ سَلَامٌ بِالرَّفْعِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى مَعْنَى سَلَامٌ عَلَيْكُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ قَالَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ قَالَ: لَيْسَ لَهَا مَرَدٌّ يَرُدُّ خافِضَةٌ رافِعَةٌ قَالَ: تَخْفِضُ نَاسًا وَتَرْفَعُ آخَرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ خافِضَةٌ رافِعَةٌ قَالَ: أَسْمَعَتِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خافِضَةٌ رافِعَةٌ قَالَ: السَّاعَةُ خَفَضَتْ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ، وَرَفَعَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا قَالَ: زُلْزِلَتْ وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا قَالَ: فُتِّتَتْ فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا قَالَ: شُعَاعُ الشَّمْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا قَالَ: الْهَبَاءُ الَّذِي يَطِيرُ مِنَ النَّارِ إِذَا أُضْرِمَتْ يَطِيرُ مِنْهَا الشَّرَرُ، فَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْهَبَاءُ: مَا يَثُورُ مَعَ شُعَاعِ الشَّمْسِ، وَانْبِثَاثُهُ تَفَرُّقُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْهَبَاءُ الْمُنْبَثُّ: رَهَجُ الدَّوَابِّ، وَالْهَبَاءُ الْمَنْثُورُ: غُبَارُ الشَّمْسِ الَّذِي تَرَاهُ فِي شُعَاعِ الْكُوَّةَ. وَأَخْرَجَ ابن

_ (1) . وصدره: ورأيت زوجك في الوغى.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 إلى 56]

أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكُنْتُمْ أَزْواجاً قَالَ: أَصْنَافًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً قَالَ: هِيَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ قَالَ: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ سَبَقَ إِلَى مُوسَى، وَمُؤْمِنُ آلِ يَاسِينَ سَبَقَ إِلَى عِيسَى، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سَبَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي حَزْقِيلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَحَبِيبٍ النَّجَّارِ الَّذِي ذُكِرَ فِي يس، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَابِقُ أُمَّتِهِ، وَعَلِيٌّ أَفْضَلُهُمْ سَبْقًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَأَصْحابُ الْيَمِينِ وَأَصْحابُ الشِّمالِ فَقَبَضَ بِيَدَيْهِ قَبْضَتَيْنِ فَقَالَ: هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَذِهِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَنِ السَّابِقُونَ إِلَى ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإِذَا سُئِلُوا بَذَلُوا، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ- وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ شَقَّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثلث أهل الْجَنَّةِ، بَلْ أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ شَطْرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتُقَاسِمُونَهُمُ النِّصْفَ الثَّانِيَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ قَالَ: مَصْفُوفَةٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْهُ قَالَ: مَرْمُولَةٍ بِالذَّهَبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ مردويه فِي الْبَعْثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ فَتَشْتَهِيهِ فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «إن طَيْرَ الْجَنَّةِ كَأَمْثَالِ الْبُخْتِ تَرْعَى فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الطَّيْرَ لَنَاعِمَةٌ، قَالَ: آكِلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا، وَإِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَأْكُلُ مِنْهَا» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ قَالَ: الَّذِي فِي الصُّدَفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً قَالَ: بَاطِلًا وَلا تَأْثِيماً قَالَ: كذبا. [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 56] وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

_ (1) . فاطر: 32. [.....]

لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ السَّابِقِينَ وَمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، ذَكَرَ أَحْوَالَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَقَالَ: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ قَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ إِعْرَابِ هَذَا الْكَلَامِ، وَمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَهِيَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَهُوَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَقَوْلُهُ: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ خَبَرٌ ثَانٍ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَالسِّدْرُ: نَوْعٌ مِنَ الشَّجَرِ، وَالْمَخْضُودُ: الَّذِي خُضِّدَ شَوْكُهُ، أَيْ: قُطِّعَ فَلَا شَوْكَ فِيهِ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ يَصِفُ الْجَنَّةَ: إِنَّ الْحَدَائِقَ فِي الْجِنَانِ ظَلِيلَةٌ ... فِيهَا الْكَوَاعِبُ سِدْرُهَا مَخْضُودُ وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنَّ السِّدْرَ الْمَخْضُودَ: الْمُوقَرُ حَمْلًا وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الطَّلْحَ فِي الْآيَةِ هُوَ شَجَرُ الْمَوْزِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَيْسَ هُوَ شَجَرُ الْمَوْزِ، وَلَكِنَّهُ الطَّلْحُ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَشْجَارِ الْعَرَبِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ شَجَرٌ عِظَامٌ لَهَا شَوْكٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الطَّلْحُ هُوَ أمُّ غِيلَانَ. وَلَهَا نَوْرٌ طيّب، فخوطبوا ووعدوا بما يُحِبُّونَ، إِلَّا أَنَّ فَضْلَهُ عَلَى مَا فِي الدُّنْيَا كَفَضْلِ سَائِرِ مَا فِي الْجَنَّةِ عَلَى مَا فِي الدُّنْيَا. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ وَقَدْ أُزِيلَ شَوْكُهُ. قَالَ السُّدِّيُّ: طَلْحُ الْجَنَّةِ يُشْبِهُ طَلْحَ الدُّنْيَا، لَكِنْ لَهُ ثَمَرٌ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَالْمَنْضُودُ: الْمُتَرَاكِبُ الَّذِي قَدْ نُضِّدَ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ بِالْحَمْلِ لَيْسَ لَهُ سُوقٌ بَارِزَةٌ. قَالَ مَسْرُوقٌ: أَشْجَارُ الْجَنَّةِ مِنْ عُرُوقِهَا إِلَى أَفْنَانِهَا نَضِيدٌ، ثَمَرٌ كُلُّهُ، كُلَّمَا أُخِذَتْ ثَمَرَةٌ عَادَ مَكَانُهَا أَحْسَنَ مِنْهَا وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أَيْ: دَائِمٍ بَاقٍ لَا يَزُولُ وَلَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ شَيْءٍ طَوِيلٍ لَا يَنْقَطِعُ مَمْدُودٌ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «1» وَالْجَنَّةُ كُلُّهَا ظِلٌّ لَا شَمْسَ مَعَهُ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: يَعْنِي ظِلَّ الْعَرْشِ، وَمِنَ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ لِلْمَمْدُودِ فِي الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: غَلَبَ الْعَزَاءَ وَكُنْتُ غَيْرَ مُغَلَّبٍ ... دَهْرٌ طَوِيلٌ دَائِمٌ مَمْدُودُ وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي: منصبّ يجري بالليل والنهار أينما شاؤوا لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ، فَهُوَ مَسْكُوبٌ يَسْكُبُهُ اللَّهُ فِي مَجَارِيهِ، وَأَصْلُ السَّكْبِ: الصَّبُّ، يُقَالُ سَكَبَهُ سَكْبًا، أَيْ: صَبَّهُ وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ أَيْ: أَلْوَانٍ مُتَنَوِّعَةٍ مُتَكَثِّرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ كَمَا تَنْقَطِعُ فَوَاكِهُ الدُّنْيَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَلا مَمْنُوعَةٍ أَيْ: لَا تَمْتَنِعُ عَلَى مَنْ أَرَادَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ، بَلْ هِيَ مُعَدَّةٌ لِمَنْ أَرَادَهَا لَا يحول بينه

_ (1) . الفرقان: 45.

وَبَيْنَهَا حَائِلٌ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يَعْنِي أَنَّهَا غَيْرُ مَحْظُورَةٍ عَلَيْهَا كَمَا يُحْظَرُ عَلَى بَسَاتِينِ الدُّنْيَا وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أَيْ: مَرْفُوعٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، أَوْ مَرْفُوعَةٍ عَلَى الْأَسِرَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْفُرُشَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي فِي الْجَنَّةِ، وَارْتِفَاعُهَا كَوْنُهَا عَلَى الْأَرَائِكِ، أَوْ كَوْنُهَا مُرْتَفِعَاتِ الْأَقْدَارِ فِي الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أَيْ: خَلَقْنَاهُنَّ خَلْقًا جَدِيدًا مِنْ غَيْرِ تَوَالُدٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نِسَاءُ بَنِي آدَمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعَادَهُنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى حَالِ الشَّبَابِ، وَالنِّسَاءُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُنَّ ذِكْرٌ لَكِنَّهُنَّ قَدْ دَخَلْنَ فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْفُرُشَ الْمَرْفُوعَةَ عَيْنُ النِّسَاءِ فَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ ظَاهِرٌ فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ «1» . عُرُباً أَتْراباً الْعُرُبُ: جَمْعُ عَرُوبٍ، وَهِيَ الْمُتَحَبِّبَةُ إِلَى زَوْجِهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ الْعَاشِقَةُ لِزَوْجِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: وَفِي الْخِبَاءِ عَرُوبٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ ... رَيَّا الرَّوَادِفِ يُعْشِي ضَوْؤُهَا الْبَصَرَا «2» وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هِيَ الْحَسَنَةُ الْكَلَامِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي جَمْعِ فَعُولٍ، وَالْأَتْرَابُ: هُنَّ اللَّوَاتِي عَلَى مِيلَادٍ وَاحِدٍ وَسِنٍّ وَاحِدٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَتْرَابًا: أَمْثَالًا وَأَشْكَالًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَتْرَابًا فِي الْأَخْلَاقِ لَا تَبَاغُضَ بَيْنَهُنَّ وَلَا تَحَاسُدَ. قَوْلُهُ: لِأَصْحابِ الْيَمِينِ مُتَعَلِّقٌ بِأَنْشَأْنَاهُنَّ، أَوْ بِجَعَلْنَا، أَوْ بِأَتْرَابًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَنْشَأَهُنَّ لِأَجْلِهِمْ، أَوْ خَلَقَهُنَّ لِأَجْلِهِمْ، أَوْ هُنَّ مُسَاوِيَاتٌ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ فِي السِّنِّ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُنَّ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ- وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ أَيْ: هُمْ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الثُّلَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ السَّابِقِينَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ أَوْ أُمَّةٌ أَوْ فِرْقَةٌ أَوْ قِطْعَةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَهُمْ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمَاعَةٌ أَوْ أُمَّةٌ أَوْ فِرْقَةٌ أَوْ قِطْعَةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وَهُمْ أَمَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالضَّحَّاكُ: «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ» يَعْنِي: مِنْ سَابِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، «وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» : مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ آخِرِهَا. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِمَّا أَعَدَّهُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فَقَالَ: وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ الْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ هَذَا وَمَا فِيهِ مِنَ التَّفْخِيمِ كَمَا سبق في أصحاب اليمين، وقوله: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ إِمَّا خَبَرٌ ثَانٍ لِأَصْحَابِ الشِّمَالِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالسَّمُومُ: حَرُّ النَّارِ، وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَعْنَاهُ. وَقِيلَ: السَّمُومُ: الرِّيحُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي مَسَامِّ الْبَدَنِ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ الْيَحْمُومُ يَفْعُولٌ مِنَ الْأَحَمِّ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَسْوَدُ يَحْمُومٌ إِذَا كَانَ شَدِيدَ السَّوَادِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى الظِّلِّ فَيَجِدُونَهُ ظِلًّا مِنْ دُخَانِ جَهَنَّمَ شَدِيدَ السَّوَادِ. وَقِيلَ: وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَمِّ وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُسْوَدُّ بِاحْتِرَاقِ النَّارِ. وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُمَمِ وَهُوَ الفحم. قال الضحاك: النار سوداء، وأهلها سود،

_ (1) . الرّحمن: 56 و 74. (2) . في تفسير القرطبي: يغشى دونها البصر.

وَكُلُّ مَا فِيهَا أَسْوَدُ. ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الظِّلَّ بِقَوْلِهِ: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ أَيْ: لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الظِّلَالِ الَّتِي تَكُونُ بَارِدَةً، بَلْ هُوَ حَارٌّ لِأَنَّهُ مِنْ دُخَانِ نَارِ جَهَنَّمَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: «وَلا كَرِيمٍ» ، أَيْ: لَيْسَ فِيهِ حُسْنُ مَنْظَرٍ وَكُلُّ مَا لا خبر فيه فليس بِكَرِيمٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَلَا كَرِيمٍ وَلَا عَذْبٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَجْعَلُ الْكَرِيمَ تَابِعًا لِكُلِّ شَيْءٍ نَفَتْ عَنْهُ وَصْفًا تَنْوِي بِهِ الذَّمَّ، تَقُولُ: مَا هُوَ بِسَمِينٍ وَلَا بِكَرِيمٍ، وَمَا هَذِهِ الدَّارُ بِوَاسِعَةٍ وَلَا كَرِيمَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ سبحانه أعمالهم التي استحقّوا بها هذا الْعَذَابَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: إِنَّهُمْ كانوا قبل هذا العذاب النازل مُتْرَفِينَ فِي الدُّنْيَا، أَيْ: مُنَعَّمِينَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَالْمُتْرَفُ: الْمُتَنَعِّمُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: مُتَكَبِّرِينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ الْحِنْثُ: الذَّنْبُ، أَيْ: يُصِرُّونَ عَلَى الذَّنْبِ الْعَظِيمِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: عُنِيَ بِهِ الشِّرْكُ، أَيْ: كَانُوا لَا يَتُوبُونَ عَنِ الشِّرْكِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَتُوبُونَ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ اليمين الغموس، وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ الْهَمْزَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي الصَّافَّاتِ، وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وَاسْتَبْعَدُوا أَنْ يُبْعَثُوا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ صَارُوا عِظَامًا وَتُرَابًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَارَ لَحْمُهُمْ وَجُلُودُهُمْ تُرَابًا، وَصَارَتْ عِظَامُهُمْ نَخِرَةً بَالِيَةً، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَبْعُوثُونَ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ، أَيْ: أَنُبْعَثُ إِذَا مِتْنَا؟ إِلَخْ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي لَمَبْعُوثُونَ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْهَمْزَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ بَعْثَ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ أَبْعَدُ لِتَقَدُّمِ مَوْتِهِمْ، وَقُرِئَ وَآبَاؤُنَا. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ وَيَرُدَّ اسْتِبْعَادَهُمْ فَقَالَ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأُمَمِ وَالْآخِرِينَ منهم الذين أَنْتُمْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ لَمَجْمُوعُونَ بَعْدَ الْبَعْثِ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْقَوْلِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَوَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِوَصْفَيْنِ قَبِيحَيْنِ، وَهُمَا الضَّلَالُ عَنِ الْحَقِّ وَالتَّكْذِيبُ لَهُ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ أَيْ: لَآكِلُونَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ شَجَرٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرِ كَرِيهِ الطَّعْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الصافات، ومن الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالثَّانِيَةُ بَيَانِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى مَزِيدَةً، وَالثَّانِيَةُ بَيَانِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ الثانية مزيدة، والأولى للابتداء فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أَيْ: مَالِئُونَ مِنْ شَجَرِ الزَّقُّومِ بُطُونَكُمْ لِمَا يَلْحَقُكُمْ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ الضمير في عليه إِلَى الزَّقُّومِ، وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الَّذِي قَدْ بَلَغَ حَرُّهُ إِلَى الْغَايَةِ، وَالْمَعْنَى: فَشَارِبُونَ عَلَى الزَّقُّومِ عَقِبَ أَكْلِهِ مِنَ الْمَاءِ الْحَارِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى شَجَرٍ لِأَنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْأَكْلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَآكِلُونَ، وَقُرِئَ «مِنْ شَجَرَةٍ» بِالْإِفْرَادِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: شُرْبَ الْهِيمِ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَاتٌ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ بِضَمِّ السين وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْفَتْحُ عَلَى أَصْلِ الْمَصْدَرِ وَالضَّمُّ اسْمُ الْمَصْدَرِ، وَالْهِيمُ: الْإِبِلُ الْعِطَاشُ الَّتِي لَا تُرْوَى لِدَاءٍ يُصِيبُهَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهَا:

أَيْ: لَا يَكُونُ شُرْبُكُمْ شُرْبًا مُعْتَادًا بَلْ يَكُونُ مِثْلَ شُرْبِ الْهِيمِ الَّتِي تَعْطَشُ وَلَا تُرْوَى بِشُرْبِ الْمَاءِ، وَمُفْرَدُ الْهِيمِ: أَهْيَمُ، وَالْأُنْثَى هَيْمَاءُ. قَالَ قَيْسُ بْنُ الْمُلَوَّحِ: يُقَالُ بِهِ دَاءُ الْهُيَامِ أَصَابَهُ ... وَقَدْ عَلِمَتْ نَفْسِي مَكَانَ شفائها وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَالْأَخْفَشُ وَابْنُ كَيْسَانَ: الْهِيمُ: الْأَرْضُ السَّهْلَةُ ذَاتُ الرَّمْلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ كَمَا تَشْرَبُ هَذِهِ الْأَرْضُ الْمَاءَ وَلَا يَظْهَرُ لَهُ فِيهَا أَثَرٌ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْهُيَامُ بِالضَّمِّ: أَشَدُّ الْعَطَشِ، وَالْهُيَامُ كَالْجُنُونِ مِنَ الْعِشْقِ، وَالْهُيَامُ: دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ تَهِيمُ فِي الْأَرْضِ لَا تَرْعَى، يُقَالُ: نَاقَةٌ هَيْمَاءُ، وَالْهَيْمَاءُ أَيْضًا: الْمَفَازَةُ لَا مَاءَ بِهَا، وَالْهَيَامُ بِالْفَتْحِ: الرَّمْلُ الَّذِي لَا يَتَمَاسَكُ فِي الْيَدِ لِلِينِهِ، وَالْجَمْعُ هُيُمٌ، مِثْلُ قَذَالٍ وَقُذُلٍ، وَالْهِيَامُ بِالْكَسْرِ الْإِبِلُ الْعِطَاشُ. هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُزُلُهُمْ بِضَمَّتَيْنِ، وَرَوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَابْنِ مُحَيْصِنٍ بِضَمَّةٍ وَسُكُونٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النُّزُلَ مَا يُعَدُّ لِلضَّيْفِ، وَيَكُونُ أَوَّلَ مَا يَأْكُلُهُ، وَيَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ شَجَرِ الزَّقُّومِ وَشَرَابِ الْحَمِيمِ هُوَ الَّذِي يُعَدُّ لَهُمْ وَيَأْكُلُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي هَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّ النُّزُلَ هُوَ مَا يُعَدُّ لِلْأَضْيَافِ تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» . وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ يَنْفَعُنَا بِالْأَعْرَابِ وَمَسَائِلِهِمْ، أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ شَجَرَةٌ مُؤْذِيَةٌ، وَمَا كُنْتُ أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً تُؤْذِي صَاحِبَهَا. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: السِّدْرُ فَإِنَّ لَهَا شَوْكًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ؟ يخضد اللَّهُ شَوْكَهُ فَيَجْعَلُ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةً، فَإِنَّهَا تُنْبِتُ ثَمَرًا يَتَفَتَّقُ الثَّمَرُ مِنْهَا عَنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لَوْنًا مِنَ الطَّعَامِ مَا مِنْهَا لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله أَسْمَعُكَ تَذْكُرُ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً لَا أَعْلَمُ شَجَرَةً أَكْثَرَ شَوْكًا مِنْهَا: يَعْنِي الطَّلْحَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن اللَّهَ يَجْعَلُ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ مِنْهَا ثَمَرَةً مِثْلَ خُصْيَةِ التَّيْسِ الْمَلْبُودِ- يَعْنِي: الْخَصِيَّ مِنْهَا- فِيهَا سَبْعُونَ لَوْنًا مِنَ الطَّعَامِ لَا يُشْبِهُ لَوْنٌ آخَرَ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سِدْرٍ مَخْضُودٍ قَالَ: خَضَدَهُ: وَقَّرَهُ مِنَ الْحَمْلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ قَالَ: الْمَخْضُودُ: الَّذِي لَا شَوْكَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْمَخْضُودُ: الْمُوَقَّرُ الَّذِي لَا شَوْكَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ قَالَ: هُوَ الموز. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَهَنَّادُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن

_ (1) . آل عمران: 21 والتوبة: 34 والانشقاق: 24.

أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَرَأَ: وَطَلْعٍ مَنْضُودٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا بَالُ الطلح، أما تقرأ: وطلع؟ ثم قال: «وطلع نضيد» فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَحُكُّهَا فِي الْمُصْحَفِ؟ قَالَ: لَا يُهَاجُ الْقُرْآنُ الْيَوْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَنْضُودٍ قَالَ: بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ ومسلم وغير هما مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قَالَ: ارْتِفَاعُهَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمَسِيرَةُ مَا بَيْنَهُمَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ انْتَهَى، وَرِشْدِينُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم في قوله: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً قال: «إن المنشآت اللاتي كُنَّ فِي الدُّنْيَا عَجَائِزَ عُمْشًا رُمْصًا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: غَرِيبٌ، وَمُوسَى وَيَزِيدُ ضَعِيفَانِ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ قَانِعٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً قال: «الثيبات وَالْأَبْكَارُ اللَّاتِي كُنَّ فِي الدُّنْيَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: خَلْقِهِنَّ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَبْكاراً قَالَ: عَذَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: عُرُباً قَالَ: عَوَاشِقَ أَتْراباً يَقُولُ: مُسْتَوِيَاتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ عُرُباً قَالَ: عَوَاشِقَ لِأَزْوَاجِهِنَّ، وَأَزْوَاجُهُنَّ لَهُنَّ عَاشِقُونَ أَتْراباً قَالَ: فِي سَنٍّ وَاحِدٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْعَرُوبُ الْمَلِقَةُ لِزَوْجِهَا. وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ حَسُنَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قَالَ: «جَمِيعُهُمَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَمُسَدَّدٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ فِي قَوْلِهِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ- وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ قَالَ: هُمَا جَمِيعًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «فِي قَوْلِهِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَمَّا جَمِيعًا مِنْ أُمَّتِي» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الثُّلَّتَانِ جَمِيعًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 إلى 74]

فِي قَوْلِهِ: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ قَالَ: مِنْ دُخَانٍ أَسْوَدَ، وَفِي لَفْظٍ: مِنْ دُخَانِ جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: شُرْبَ الْهِيمِ قال: الإبل العطاش. [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) قَوْلُهُ: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ الْتَفَتَ سُبْحَانَهُ إِلَى خِطَابِ الْكَفَرَةِ تَبْكِيتًا لَهُمْ وَإِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ، أَيْ: فَهَلَّا تُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ أَوْ بِالْخَلْقِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: خَلَقْنَاكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَهَلَّا تُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ؟ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَيْ: مَا تَقْذِفُونَ وَتَصُبُّونَ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ مِنَ النُّطَفِ، وَمَعْنَى أَفَرَأَيْتُمْ: أَخْبِرُونِي، وَمَفْعُولُهَا الْأَوَّلُ مَا تُمْنُونَ، وَالثَّانِي: الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وَهِيَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أَيْ: تُقَدِّرُونَهُ وَتُصَوِّرُونَهُ بَشَرًا أَمْ نَحْنُ الْمُقَدِّرُونَ الْمُصَوِّرُونَ لَهُ، وَ «أَمْ» هِيَ الْمُتَّصِلَةُ، وَقِيلَ: هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تُمْنُونَ» بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ مِنْ أَمْنَى يُمْنِي. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأبو السّمّال ومحمد ابن السّميقع وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ بِفَتْحِهَا مَنْ مَنَى يَمْنِي، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، يُقَالُ: أَمْنَى إِذَا أَنْزَلَ عَنْ جِمَاعٍ، وَمَنَى إِذَا أَنْزَلَ عَنِ احْتِلَامٍ، وَسُمِّيَ الْمَنِيُّ مَنِيًّا لِأَنَّهُ يُمْنَى، أَيْ: يُرَاقُ، نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ قَدَّرْنا بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: قَدَرْتُ الشَّيْءَ وَقَدَّرْتُهُ، أَيْ: قَسَّمْنَاهُ عَلَيْكُمْ وَوَقَّتْنَاهُ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِكُمْ، وَقِيلَ: قَضَيْنَا، وَقِيلَ: كَتَبْنَا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَمِنْكُمْ مَنْ يَمُوتُ كَبِيرًا وَمِنْكُمْ مَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ فِيهِ سَوَاءً، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ بِمَغْلُوبِينَ، بَلْ قَادِرِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أَيْ: نَأْتِيَ بِخَلْقٍ مِثْلِكُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَخْلُقَ خَلْقًا غَيْرَكُمْ لَمْ يَسْبِقْنَا سَابِقٌ وَلَا يَفُوتُنَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمَعْنَى نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ بِآخَرِينَ مِنْ جِنْسِكُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فِي آجَالِكُمْ، أَيْ: لَا يَتَقَدَّمُ مُتَأَخِّرٌ وَلَا يَتَأَخَّرُ مُتَقَدِّمٌ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنَ الصُّوَرِ وَالْهَيْئَاتِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ نَجْعَلَكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ كَمَا فَعَلْنَا بِأَقْوَامٍ قَبْلَكُمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: نُنْشِئَكُمْ فِي الْبَعْثِ عَلَى غَيْرِ صُوَرِكُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: «فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ» : يَعْنِي فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ سُودٍ تَكُونُ بِبَرْهُوتَ كَأَنَّهَا الْخَطَاطِيفُ. وَبَرْهُوتُ وَادٍ بِالْيَمَنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ يَعْنِي فِي أَيِّ خَلْقٍ شِئْنَا، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى هَذَا فَهُوَ قَادِرٌ على البعث

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى وَهِيَ ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وَلَمْ تَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ شَيْئًا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي خَلْقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أَيْ: فَهَلَّا تَذَكَّرُونَ قُدْرَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى النَّشْأَةِ الْأَخِيرَةِ وَتَقِيسُونَهَا عَلَى النَّشْأَةِ الأولى. قرأ الْجُمْهُورُ: النَّشْأَةَ بِالْقَصْرِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْمَدِّ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أي: أخبروني مَا تَحْرُثُونَ مِنْ أَرْضِكُمْ فَتَطْرَحُونَ فِيهِ الْبَذْرَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَيْ: تُنْبِتُونَهُ وَتَجْعَلُونَهُ زَرْعًا فَيَكُونُ فِيهِ السُّنْبُلُ وَالْحَبُّ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أَيِ: الْمُنْبِتُونَ لَهُ الْجَاعِلُونَ لَهُ زَرْعًا لَا أَنْتُمْ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ زَرَعَهُ اللَّهُ، أَيْ: أَنْمَاهُ فَإِذَا أَقْرَرْتُمْ بِهَذَا فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ الْبَعْثَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً أي: لو نشاء جعلناه مَا تَحْرُثُونَ حُطَامًا، أَيْ: مُتَحَطِّمًا مُتَكَسِّرًا، وَالْحُطَامُ: الْهَشِيمُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ حَبٌّ وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يُطْلَبُ مِنَ الْحَرْثِ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ أَيْ: صِرْتُمْ تَعْجَبُونَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَفَكَّهُونَ تَتَعَجَّبُونَ فِيمَا نَزَلَ بِكُمْ فِي زَرْعِكُمْ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَتَفَكَّهَ: تَعَجَّبَ، وَيُقَالُ: تندّم. قال الحسن وقتادة وغير هما: مَعْنَى الْآيَةِ: تَعْجَبُونَ مِنْ ذَهَابِهَا وَتَنْدَمُونَ مِمَّا حَلَّ بِكُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَلَاوَمُونَ وَتَنْدَمُونَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ: هُوَ التَّلَهُّفُ عَلَى مَا فَاتَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَظَلْتُمْ بِفَتْحِ الظَّاءِ مَعَ لَامٍ وَاحِدَةٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِكَسْرِ الظَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجَحْدَرِيُّ «فَظَلِلْتُمْ» بِلَامَيْنِ، أُولَاهُمَا مَكْسُورَةٌ عَلَى الْأَصْلِ، وَرُوِيَ عَنِ الْجَحْدَرِيِّ فَتْحُهَا، وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَفَكَّهُونَ وَقَرَأَ أَبُو حِزَامٍ الْعُكْلِيُّ تَفَكَّنُونَ بِالنُّونِ مَكَانَ الْهَاءِ، أَيْ: تَنَدَّمُونَ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: تَفَكَّهَ: تَعَجَّبَ. وَتَفَكَّنَ: تَنَدَّمَ. وَفِي الصِّحَاحِ: التَّفَكُّنُ: التَّنَدُّمُ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْخَبَرِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وِزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَالْجُمْلَةُ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: تَقُولُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، أَيْ: مُلْزَمُونَ غُرْمًا بِمَا هَلَكَ مِنْ زَرْعِنَا، والمغرم الّذي ذهب ماله بغير عوض، قال الضحاك وابن كيسان. وقيل: إنا لمعذبون، قال قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: لَمُولَعٌ بِنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ: سَلَا عَنْ تَذَكُّرِهِ تُكْتَمَا ... وَكَانَ رَهِينًا بِهَا مُغْرَمَا يُقَالُ: أغرم فلان بفلانة، أَيْ: أُولِعَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مُهْلَكُونَ. قَالَ النَّحَّاسُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَرَامِ، وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر «1» : يوم النّسار ويوم الجفا ... ركانا عليكم عذابا مقيما «2» وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، أَيْ: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بِذَهَابِ مَا حَرَثْنَاهُ وَمَصِيرُهُ حُطَامًا، ثُمَّ أَضْرَبُوا عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا وَانْتَقَلُوا، فَقَالُوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَيْ: حُرِمْنَا رِزْقَنَا بِهَلَاكِ زَرْعِنَا، والمحروم: الممنوع

_ (1) . هو بشر بن أبي حازم. (2) . في تفسير القرطبي. وكان عذابا وكان غراما.

مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي لَا حَظَّ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ الْمُحَارَفُ. أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ فَتُسَكِّنُونَ بِهِ مَا يَلْحَقُكُمْ مِنَ الْعَطَشِ، وَتَدْفَعُونَ بِهِ مَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الظَّمَأِ. وَاقْتَصَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى ذِكْرِ الشُّرْبِ مَعَ كَثْرَةِ فَوَائِدِ الْمَاءِ وَمَنَافِعِهِ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ فَوَائِدِهِ وَأَجَلُّ مَنَافِعِهِ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَيِ: السَّحَابِ: قَالَ فِي الصِّحَاحِ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْمُزْنَةُ: السَّحَابَةُ الْبَيْضَاءُ. والجمع مزن. والمزنة: المطرة. قَالَ الشَّاعِرُ «1» : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مُزْنَةً ... وَعُفْرُ الظِّبَاءِ فِي الْكِنَاسِ تَقَمَّعُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ السَّحَابُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَنَحْنُ كَمَاءِ الْمُزْنِ مَا فِي نِصَابِنَا ... كَهَامٌ وَلَا فِينَا يُعَدُّ بَخِيلُ «2» وَقَوْلُ الْآخَرِ: فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلَا أَرْضَ أَبَقَلَ إِبْقَالُهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَهُ بِقُدْرَتِنَا دُونَ غَيْرِنَا، فَإِذَا عَرَفْتُمْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ لَا تُقِرُّونَ بِالتَّوْحِيدِ وَتُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَوْ يَشَاءُ لَسَلَبَهُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ فَقَالَ: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً الْأُجَاجُ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْمُلُوحَةِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ شُرْبُهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْمَاءُ الْمُرُّ الَّذِي لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي شُرْبٍ ولا زرع ولا غير هما فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أَيْ: فَهَلَّا تَشْكُرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَاءً عَذْبًا تَشْرَبُونَ مِنْهُ وَتَنْتَفِعُونَ بِهِ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَيْ: أَخْبِرُونِي عَنْهَا، وَمَعْنَى تُورُونَ: تَسْتَخْرِجُونَهَا بِالْقَدْحِ مِنَ الشَّجَرِ الرَّطْبِ، يُقَالُ: أَوْرَيْتُ النَّارَ إِذَا قَدَحْتَهَا أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها التي يكون منها الزّناد، وَهِيَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ، وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ لَهَا بِقُدْرَتِنَا دُونَكُمْ. وَمَعْنَى الْإِنْشَاءِ الْخَلْقُ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِنْشَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ الصَّنْعَةِ وَعَجِيبِ الْقُدْرَةِ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً أَيْ: جَعَلْنَا هَذِهِ النَّارَ الَّتِي فِي الدُّنْيَا تَذْكِرَةً لِنَارِ جَهَنَّمَ الْكُبْرَى. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: تَبْصِرَةً لِلنَّاسِ فِي الظَّلَامِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: موعظة ليتّعظ به الْمُؤْمِنُ وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ أَيْ: مَنْفَعَةً لِلَّذِينِ يَنْزِلُونَ بِالْقَوَاءِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْقَفْرُ كَالْمُسَافِرِينَ وَأَهْلِ الْبَوَادِي النازلين في الأراضي الْمُقْفِرَةِ، يُقَالُ: أَرْضٌ قَوَاءٌ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، أَيْ: مقفرة، ومنه قول النابغة: يا دارمية بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَمَدِ وَقَالَ عَنْتَرَةَ: حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وأقفر بعد أمّ الهيثم

_ (1) . هو أوس بن حجر. (2) . «نصاب» أصل. «كهام» : ثقيل، لا غناء عنده.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 إلى 96]

وَقَوْلُ الْآخَرِ «1» : أَلَمْ تَسْأَلِ الرَّبْعَ الْقَوَاءَ فَيَنْطِقُ؟ ... وهل تخبرنّك الْيَوْمَ بَيْدَاءُ سَمْلَقُ؟ «2» وَيُقَالُ: أَقْوَى إِذَا سَافَرَ، أَيْ: نَزَلَ الْقَوَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُقْوِينَ: الْمُسْتَمْتِعِينَ بِهَا مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ فِي الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَالِاصْطِلَاءِ وَالِاسْتِضَاءَةِ، وَتَذَكُّرِ نَارِ جَهَنَّمَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لِلْجَائِعِينَ فِي إِصْلَاحِ طَعَامِهِمْ، يُقَالُ: أَقْوَيْتُ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، أَيْ: مَا أَكَلْتُ شَيْئًا، وَبَاتَ فُلَانٌ الْقَوَى، أَيْ: بَاتَ جَائِعًا، وَمِنْهُ قول الشاعر «3» : وإنّي لأختار القوى طاوي الحشى ... مُحَافَظَةً مِنْ أَنْ يُقَالَ لَئِيمُ وَقَالَ قُطْرُبٌ: المقوي مِنَ الْأَضْدَادِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْفَقْرِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْغِنَى يُقَالُ: أَقْوَى الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ زَادٌ، وَأَقْوَى إِذَا قَوِيَتْ دَوَابُّهُ وَكَثُرَ مَالُهُ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ سبحانه، وتنزيه عَلَى مَا قَبْلَهَا مِمَّا عَدَّدَهُ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ وجحوده الْمُشْرِكِينَ لَهَا وَتَكْذِيبِهِمْ بِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَضَعَّفَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ زَرَعْتُ، وَلَكِنْ يَقُولُ: حَرَثْتُ» . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا اللَّهَ يَقُولُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفَكَّهُونَ قَالَ: تَعْجَبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: الْمُزْنِ: السَّحَابِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً قَالَ: تَذْكِرَةً لِلنَّارِ الْكُبْرَى وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ قال: للمسافرين. [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 96] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

_ (1) . هو جميل. (2) . «سملق» : هي الأرض المستوية. (3) . هو حاتم الطائي.

قوله: فَلا أُقْسِمُ ذهب جمهور المفسرين إلا أَنَّ «لَا» مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَالْمَعْنَى: فَأُقْسِمُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا لِلنَّفْيِ، وَإِنَّ الْمَنْفِيَّ بِهَا مَحْذُوفٌ، وَهُوَ كَلَامُ الْكُفَّارِ الْجَاحِدِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ نَفْيٌ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: أُقْسِمُ، وَضُعِّفَ هَذَا بِأَنَّ حَذْفَ اسْمِ لَا وَخَبَرِهَا غَيْرُ جَائِزٍ، كَمَا قَالَ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَالْأَصْلُ: فَلَأُقْسِمُ فَأُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ فَتَوَلَّدَ مِنْهَا أَلِفٌ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ «1» وَقَدْ قَرَأَ هَكَذَا فَلَأُقْسِمُ بِدُونِ أَلِفٍ الْحَسَنُ وَحُمَيْدٌ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةِ يُقَدَّرُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَأَنَا أُقْسِمُ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ «لَا» هُنَا بِمَعْنَى أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقِيلَ: «لَا» هُنَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَإِنَّهَا لِنَفْيِ الْقَسَمِ، أَيْ: فَلَا أُقْسِمُ عَلَى هَذَا لِأَنَّ الْأَمْرَ أَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ مَعَ تَعْيِينِ الْمُقْسَمِ بِهِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: بِمَواقِعِ النُّجُومِ مَسَاقِطِهَا، وَهِيَ مَغَارِبُهَا، كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَنَازِلُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: انْكِدَارُهَا وَانْتِثَارُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الْأَنْوَاءُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ نُزُولُ الْقُرْآنِ نُجُومًا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَبِهِ قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ مَوَاقِعَ النُّجُومِ هُوَ مُحْكَمُ الْقُرْآنِ. قَرَأَ الجمهور: بِمَواقِعِ على الجمع، وقرأ ابن مسعود والنخغي وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَوَرْشٌ «2» عَنْ يَعْقُوبَ «بِمَوْقِعِ» عَلَى الْإِفْرَادِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: «مَوْقِعِ» هَاهُنَا مَصْدَرٌ، فَهُوَ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ تَعْظِيمِ هَذَا الْقَسَمِ وَتَفْخِيمِهِ فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُقْسَمِ بِهِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: لَوْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ، فَهُوَ اعْتِرَاضٌ فِي اعْتِرَاضٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ نُزُولُ الْقُرْآنِ، وَالضَّمِيرُ فِي «إِنَّهُ» عَلَى الْقَسَمِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أُقْسِمُ، وَالْمَعْنَى إِنَّ الْقَسَمَ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ أَيْ: كَرَّمَهُ اللَّهُ وَأَعَزَّهُ وَرَفَعَ قَدْرَهُ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ، وَكَرَّمَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ سِحْرًا أَوْ كِهَانَةً أَوْ كَذِبًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَرِيمٌ لِمَا فِيهِ مِنْ كَرَمِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُكَرِّمُ حَافِظَهُ وَيُعَظِّمُ قَارِئَهُ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَهْلِ الْمَعَانِي أَنَّ وَصْفَ الْقُرْآنِ بِالْكَرِيمِ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْطِيَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْحَقِّ فِي الدِّينِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْكَرِيمُ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا يُحْمَدُ، وَالْقُرْآنُ كَرِيمٌ يُحْمَدُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ أَيْ: مَسْتُورٍ مَصُونٍ، وَقِيلَ: مَحْفُوظٌ عن الباطل، وهو اللوح

_ (1) . وتتمته في تاج العروس: الشّائلات عقد الأذناب والشاهد في قوله: «عقراب» حيث أشبعت الراء المفتوحة فصارت عقراب. والأصل: عقرب. (2) . في تفسير القرطبي: رويس بدل ورش.

الْمَحْفُوظُ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ كِتَابٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِيهِمَا ذُكِرَ الْقُرْآنُ وَمَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الزَّبُورُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْمُصْحَفُ الَّذِي فِي أَيْدِينَا لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ، أَيْ: لَا يَمَسُّ الْكِتَابَ الْمَكْنُونَ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّسُلُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَمَعْنَى «لَا يَمَسُّهُ» الْمَسَّ الْحَقِيقِيَّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا يَنْزِلُ بِهِ إلا المطهرون، وقيل: معناه: لا يقرؤه، وعلى كون المراد الكتاب الْمَكْنُونِ هُوَ الْقُرْآنُ، فَقِيلَ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ. كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الشِّرْكِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَغَيْرُهُ: مَعْنَى لَا يَمَسُّهُ: لَا يَقْرَؤُهُ، إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ أَيْ: إِلَّا الْمُوَحِّدُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَجِدُ نَفْعَهُ وَبَرَكَتَهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: لَا يَعْرِفُ تَفْسِيرَهُ وَتَأْوِيلَهُ إِلَّا مَنْ طَهَّرَهُ اللَّهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَنْعِ الْمُحْدِثِ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَسَعْدُ بْنُ أبي وقاص وسعيد ابن زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالزَّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحَدِثِ مَسُّهُ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَا هُوَ الْحَقُّ فِي هَذَا فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُطَهَّرُونَ بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ مَفْتُوحَةً اسْمُ مَفْعُولٍ. وَقَرَأَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ بِكَسْرِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ، أَيِ: الْمُطَهِّرُونَ أَنْفُسَهُمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عُمَرَ، وفي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ، بِسُكُونِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ خَفِيفَةً، اسْمَ مَفْعُولٍ مِنْ أَطْهَرَ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفٍ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَأَصْلُهُ الْمُتَطَهِّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ، وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ، فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ أخرى للقرآن، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْحَالِ أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَنْعُوتِ بِالنُّعُوتِ السَّابِقَةِ، وَالْمُدْهِنُ وَالْمُدَاهِنُ الْمُنَافِقُ. كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: هُوَ الْكَذَّابُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَقَتَادَةُ: «مُدْهِنُونَ» : كَافِرُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: «مُدْهِنُونَ» : مُعْرِضُونَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُمَالِئُونَ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَالَ أَبُو كَيْسَانَ: الْمُدْهِنُ: الَّذِي لَا يَعْقِلُ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُهُ بِالْعِلَلِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ أَصْلَ الْمُدْهِنِ الَّذِي ظَاهِرُهُ خِلَافُ بَاطِنِهِ كَأَنَّهُ يُشْبِهُ الدُّهْنَ فِي سُهُولَتِهِ. قَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْمُدْهِنُ: الْمُنَافِقُ الَّذِي يَلِينُ جانبه لِيُخْفِيَ كُفْرَهُ، وَالْإِدْهَانُ وَالْمُدَاهَنَةُ: التَّكْذِيبُ وَالْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَأَصْلُهُ اللِّينُ، وَأَنْ يُسِرَّ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ، وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: «مُدْهِنُونَ» أَيْ: مُتَهَاوِنُونَ بِهِ، كَمَنْ يُدْهِنُ فِي الْأَمْرِ، أَيْ: يَلِينُ جَانِبُهُ وَلَا يَتَصَلَّبُ فِيهِ تَهَاوُنًا بِهِ، انْتَهَى. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْإِدْهَانُ فِي الْأَصْلِ مِثْلُ التَّدْهِينِ لَكِنْ جعل عبارة عن المدارة وَالْمُلَايَنَةِ، وَتَرْكِ الْجِدِّ: كَمَا جُعِلَ التَّقْرِيدُ، وَهُوَ نَزْعُ الْقُرَادِ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ: الْحَزْمُ والقوّة خير من ال ... إدهان والفهّة والهاع «1»

_ (1) . «الفهة» : العي. «الهاع» : سوء الحرص مع ضعف. [.....]

وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، كَمَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، أَيْ: تَجْعَلُونَ شُكْرَ رِزْقِكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ فَتَضَعُونَ التَّكْذِيبَ مَوْضِعَ الشُّكْرِ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ: إِنَّ أَزْدَ شَنُوءَةَ يَقُولُونَ: مَا رُزِقَ فُلَانٌ؟ أَيْ: ما شكره. وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ لَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ مضاف محذوف بل معنى الرزق والشكر. وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ بِالرِّزْقِ عَنِ الشُّكْرِ أَنَّ الشُّكْرَ يفيض زيادة الرِّزْقِ فَيَكُونُ الشُّكْرُ رِزْقًا تَعْبِيرًا بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ، وَمِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ الْكُفَّارِ إِذَا سَقَاهُمُ اللَّهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ: سُقِينَا بِنَوْءِ كَذَا، وَمُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ وَتَجْعَلُونَ بَدَلَ شُكْرِكُمْ رِزْقَكُمُ الَّذِي رَزَقَكُمُ اللَّهُ التَّكْذِيبَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الرَّزَّاقِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ «وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ» وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْكَذِبِ. فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ أَيْ: فَهَلَّا إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ، أَوِ النَّفْسُ، الْحُلْقُومَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ عِنْدَهُمْ إِذَا جَاءُوا بِمِثْلِ هذه العبارة، ومنه قول حاتم طيء: أَمِاوِيَّ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ ذَلِكَ الَّذِي بَلَغَتْ نَفْسُهُ أَوْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَنْتُمْ يَا أَهْلَ الْمَيِّتِ فِي تِلْكَ الْحَالِ تَرَوْنَ الْمَيِّتَ قَدْ صَارَ إِلَى أَنْ تَخْرُجَ نَفْسُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَا يُمْكِنُهُمُ الدَّفْعُ عَنْهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ شَيْئًا يَنْفَعُهُ أَوْ يُخَفِّفُ عَنْهُ مَا هُوَ فِيهِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أَيْ: بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرُّؤْيَةِ، وَقِيلَ: أَرَادَ وَرُسُلُنَا الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ قَبْضَهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ أَيْ: لَا تُدْرِكُونَ ذَلِكَ لِجَهْلِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَقْرَبُ إِلَى عَبْدِهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، أَوْ لَا تُبْصِرُونَ مَلَائِكَةَ الْمَوْتِ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْمَيِّتَ وَيَتَوَلَّوْنَ قَبْضَهُ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ- تَرْجِعُونَها يُقَالُ: دَانَ السُّلْطَانُ رَعِيَّتَهُ إِذَا سَاسَهُمْ وَاسْتَعْبَدَهُمْ. قَالَ الفراء: دنته ملكته، وأنشد للحطيئة: لقد ديّنت أَمْرَ بَنِيكِ حَتَّى ... تَرَكْتِهِمْ أَدَقَّ مِنَ الطَّحِينِ أَيْ: مَلَكْتِ، وَيُقَالُ دَانَهُ إِذَا أَذَلَّهُ وَاسْتَعْبَدَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى مَدِينِينَ مُحَاسَبِينَ، وَقِيلَ: مَجْزِيِّينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا ... نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَلْصَقُ بِمَعْنَى الْآيَةِ، أَيْ: فَهَلَّا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْبُوبِينَ وَمَمْلُوكِينَ تَرْجِعُونَهَا، أَيِ: النَّفْسَ الَّتِي قَدْ بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ إِلَى مَقَرِّهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ تَرْجِعُوهَا، فَبَطَلَ زَعْمُكُمْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مَرْبُوبِينَ وَلَا مَمْلُوكِينَ، وَالْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: إذا بلغت هو قوله: ترجعونها، ولولا الثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَرُبَّمَا أَعَادَتِ الْعَرَبُ الْحَرْفَيْنِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ فَقَالَ: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أَيِ: السَّابِقِينَ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ الْمُتَقَدِّمِ تَفْصِيلُ أَحْوَالِهِمْ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ قرأ الجمهور فَرَوْحٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَمَعْنَاهُ الرَّاحَةُ مِنَ الدُّنْيَا وَالِاسْتِرَاحَةُ من أحوالها. وقال

الْحَسَنُ: الرَّوْحُ: الرَّحْمَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّوْحُ: الْفَرَحُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَالْجَحْدَرِيُّ فَرَوْحٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَرُوِيَتْ هذه القراءة عن يعقوب، قيل: ومعنى هذه القراءة الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم، والريحان: الرزق في الجنة، قاله مجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل. هُوَ الرِّزْقُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، يُقَالُ خَرَجْتُ أَطْلُبُ رَيْحَانَ اللَّهِ: أَيْ رِزْقَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّمِرِ بن تولب: سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء دَرَرْ وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ الْجَنَّةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الرَّحْمَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الرَّيْحَانُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُشَمُّ. قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: هذا عن الْمَوْتِ، وَالْجَنَّةُ مَخْبُوءَةٌ لَهُ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَمَعْنَى «وَجَنَّةُ نَعِيمٍ» : أَنَّهَا ذَاتُ تَنَعُّمٍ، وَارْتِفَاعُ رَوْحٌ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَلَهُ رَوْحٌ. وَأَمَّا إِنْ كانَ ذَلِكَ الْمُتَوَفَّى مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وقد تقدّم ذكرهم وَتَفْصِيلُ أَحْوَالِهِمْ وَمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أَيْ: لَسْتَ تَرَى فِيهِمْ إِلَّا مَا تُحِبُّ مِنَ السَّلَامَةِ، فَلَا تَهْتَمَّ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَسْلَمُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: سَلَامٌ لَكَ مِنْهُمْ، أَيْ: أَنْتَ سَالِمٌ مِنَ الِاغْتِمَامِ بِهِمْ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّهُمْ يَدْعُونَ لَكَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْكَ، وَقِيلَ: إنه صلّى الله عليه وسلّم يحين بِالسَّلَامِ إِكْرَامًا، وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِتَسْلِيمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: سَلَامٌ لَكَ يَا صَاحِبَ الْيَمِينِ مِنْ إِخْوَانِكَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ أَيِ: الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ الضَّالِّينَ عَنِ الْهُدَى، وَهُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ، وَتَفْصِيلُ أَحْوَالِهِمْ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ أَيْ: فَلَهُ نُزُلٌ يُعَدُّ لِنُزُولِهِ مِنْ حَمِيمٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي قَدْ تَنَاهَتْ حَرَارَتُهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الزَّقُّومِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ يُقَالُ: أَصْلَاهُ النَّارَ وَصَلَّاهُ، أَيْ: إِذَا جَعَلَهُ فِي النَّارِ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَوْ إِلَى الْمَكَانِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَجَوَابُ الشَّرْطِ في هذه المواضع الثلاثة مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَرَوْحٌ إِلَخْ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ الْفَاءَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ هِيَ جَوَابُ أَمَّا، وَجَوَابُ حَرْفِ الشَّرْطِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَصْلِيَةُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى فَنُزُلٌ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى حَمِيمٍ، أَيْ: فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَمِنْ تَصْلِيَةِ جَحِيمٍ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ إِلَى الْمَذْكُورِ قَرِيبًا مِنْ أَحْوَالِ المتفرقين له حَقُّ الْيَقِينِ، الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ إِلَى الْمَذْكُورِ قَرِيبًا مِنْ أحوال المتفرقين له حَقُّ الْيَقِينِ، أَيْ: مَحْضُ الْيَقِينِ وَخَالِصُهُ، وَإِضَافَةُ حَقِّ إِلَى الْيَقِينِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ كَقَوْلِكَ عَيْنُ الْيَقِينِ وَمَحْضُ الْيَقِينِ، هَذَا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَجَوَّزُوا ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَيَجْعَلُونَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: حَقُّ الْأَمْرِ الْيَقِينِ أَوِ الْخَبَرِ الْيَقِينِ، وَالْفَاءُ فِي فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ: نَزِّهْهُ عَمًّا لَا يَلِيقُ بِشَأْنِهِ، وَالْبَاءُ متعلقة بمحذوف، أي: فسبح متلبسا بَاسِمِ رَبِّكَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَصَلِّ بِذِكْرِ رَبِّكَ: وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالِاسْمُ بِمَعْنَى الذَّاتِ. وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ سَبِّحْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ تَارَةً وَيَتَعَدَّى بِالْحَرْفِ أُخْرَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنْزِلَ الْقُرْآنُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ فُرِّقَ فِي السِّنِينَ، وَفِي لَفْظٍ: ثُمَّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ نُجُومًا. ثُمَّ قَرَأَ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ قَالَ الْقُرْآنُ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ قَالَ: الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: نُجُومُ الْقُرْآنِ حِينَ يَنْزِلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ قَالَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ فِي السَّمَاءِ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: أَتَيْنَا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ فَخَرَجَ عَلَيْنَا مِنْ كَنِيفٍ، فَقُلْنَا لَهُ: لَوْ تَوَضَّأْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأْتَ عَلَيْنَا سُورَةَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ- لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا مِنَ الْقُرْآنِ مَا شِئْنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي كِتَابِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ» . وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي المراسيل، من حديث الزهري قال: قرأت فِي صَحِيفَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَلَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» وَقَدْ أَسْنَدَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان ابن أَبِي الْعَاصِ، وَفِي أَسَانِيدِهَا نَظَرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إِلَّا مُتَوَضِّئًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ سَلْمَانَ فَانْطَلَقَ إِلَى حَاجَةٍ، فَتَوَارَى عَنَّا ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا، فَقُلْنَا: لَوْ تَوَضَّأْتَ فَسَأَلْنَاكَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ، فقال: سلوني، فإني لست أَمَسَّهُ، إِنَّمَا يَمَسُّهُ الْمُطَهَّرُونَ، ثُمَّ تَلَا: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ كَتَبَ لَهُ فِي عَهْدِهِ: أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ قَالَ: مُكَذِّبُونَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةٌ وَضَعَهَا اللَّهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ حَتَّى بَلَغَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» . وَأَصْلُ الْحَدِيثِ بِدُونِ ذِكْرِ أَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَنِيعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قَالَ: «شُكْرَكُمْ، تَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا وَبِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا» .

وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا فَسَّرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقُرْآنِ إِلَّا آيَاتٍ يَسِيرَةً، قوله: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال: «شكركم» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: «وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: «وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ» قَالَ: يَعْنِي الْأَنْوَاءَ، وَمَا مُطِرَ قَوْمٌ إِلَّا أَصْبَحَ بَعْضُهُمْ كَافِرًا كَانُوا يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ: «وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ» وَقَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرؤها كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ مَدِينِينَ قَالَ: غَيْرَ مُحَاسَبِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ الْآيَةَ قَالَ: هَذَا لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ تُخَبَّأُ لَهُ الْجَنَّةُ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ- فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ قَالَ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ قَالَ: تُخَبَّأُ لَهُ الْجَحِيمُ إلى يوم يبعث. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَرَوْحٌ قَالَ: رَائِحَةٌ وَرَيْحانٌ قَالَ: اسْتِرَاحَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: يَعْنِي بِالرَّيْحَانِ: الْمُسْتَرِيحَ مِنَ الدُّنْيَا وَجَنَّةُ نَعِيمٍ يَقُولُ: مَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الرَّيْحَانُ: الرِّزْقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ قَالَ: تَأْتِيهِ الْمَلَائِكَةُ بِالسَّلَامِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَتُخْبِرُهُ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أبي حاتم حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ قَالَ: مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قَالَ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قَالَ: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: اجعلوها في سجودكم» .

سورة الحديد

سورة الحديد وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْحَدِيدِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَزَلَتْ سُورَةُ الْحَدِيدِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ اللَّهُ الْحَدِيدَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَقَتَلَ ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَنَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ» . وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «لَا تَحْتَجِمُوا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، فَإِنَّ سُورَةَ الْحَدِيدِ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ وَقَالَ: إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ» . وَفِي إِسْنَادِهِ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَذْكُرِ العِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، فَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ عَنْ يَحْيَى ابن أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الْمُسَبِّحَاتِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ» قَالَ يَحْيَى: فَنَرَاهَا الْآيَةَ الَّتِي فِي آخِرِ الْحَشْرِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالْآيَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ هِيَ قَوْلُهُ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ الْآيَةَ. وَالْمُسَبِّحَاتُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ: الْحَدِيدُ، وَالْحَشْرُ، وَالصَّفُّ، والجمعة، والتغابن. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) قَوْلُهُ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: نَزَّهَهُ وَمَجَّدَهُ. قَالَ الْمُقَاتِلَانِ: يَعْنِي كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذِي رُوحٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَسْبِيحِ الْجَمَادَاتِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «1» وَالْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ الْمُسْنَدِ إِلَى مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرض من العقلاء وغيرهم

_ (1) . الإسراء: 44.

وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ: هُوَ مَا يَعُمُّ التَّسْبِيحَ بِلِسَانِ الْمَقَالِ كَتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَبِلِسَانِ الْحَالِ كَتَسْبِيحِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ تَسْبِيحُ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ هُوَ تَسْبِيحُ الدَّلَالَةِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيحَ الدَّلَالَةِ وَظُهُورِ آثَارِ الصَّنْعَةِ لَكَانَتْ مَفْهُومَةً، فَلِمَ قَالَ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ تَسْبِيحُ مَقَالٍ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ «1» فَلَوْ كَانَ هَذَا التَّسْبِيحُ مِنَ الْجِبَالِ تَسْبِيحَ دَلَالَةٍ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ دَاوُدَ فَائِدَةٌ. وَفِعْلُ التَّسْبِيحِ قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ تَارَةً، كَمَا فِي قوله: وَسَبِّحُوهُ وَبِاللَّامِ أُخْرَى كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَعْنَى سَبَّحْتُهُ: بَعَّدْتُهُ عَنِ السُّوءِ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ بِاللَّامِ فَهِيَ إِمَّا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا فِي شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، أَوْ هِيَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيِ: افْعَلِ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ خَالِصًا لَهُ، وَجَاءَ هَذَا الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الْفَوَاتِحِ مَاضِيًا كَهَذِهِ الْفَاتِحَةِ، وَفِي بَعْضِهَا مُضَارِعًا، وَفِي بَعْضِهَا أَمْرًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُسَبِّحَةٌ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، لَا يَخْتَصُّ تَسْبِيحُهَا بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، بَلْ هِيَ مُسَبِّحَةٌ أَبَدًا فِي الْمَاضِي، وَسَتَكُونُ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْعَزِيزُ أَيِ: الْقَادِرُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُنَازِعُهُ أَحَدٌ وَلَا يُمَانِعُهُ مُمَانِعٌ كَائِنًا مَا كَانَ الْحَكِيمُ الَّذِي يَفْعَلُ أَفْعَالَ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ وَحْدَهُ وَلَا يَنْفُذُ غَيْرُ تَصَرُّفِهِ وَأَمْرِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ خَزَائِنَ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَسَائِرِ الْأَرْزَاقِ يُحْيِي وَيُمِيتُ الْفِعْلَانِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَهُ، أَوْ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ بَعْضِ أَحْكَامِ الْمُلْكِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُحْيِي فِي الدُّنْيَا وَيُمِيتُ الْأَحْيَاءَ، وَقِيلَ: يُحْيِي النُّطَفَ وَهِيَ مُوَاتٌ وَيُمِيتُ الْأَحْيَاءَ، وَقِيلَ: يُحْيِي الْأَمْوَاتَ لِلْبَعْثِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ كَائِنًا مَا كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، أَيِ: الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ وَالظَّاهِرُ الْعَالِي الْغَالِبُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوِ الظَّاهِرُ وَجُودُهُ بِالْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ وَالْباطِنُ أَيِ: الْعَالِمُ بِمَا بَطَنَ، مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يُبْطِنُ أَمْرَ فُلَانٍ، أَيْ: يَعْلَمُ دَاخِلَةَ أَمْرِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُحْتَجِبُ عَنِ الْأَبْصَارِ وَالْعُقُولِ، وَقَدْ فَسَّرَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْأَرْبَعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى ذَلِكَ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ هذا بيان لبعض ملكه للسماوات وَالْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي غَيْرِهَا مُسْتَوْفًى يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أَيْ: يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ وَما يَخْرُجُ مِنْها مِنْ نَبَاتٍ وَغَيْرِهِ وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ وَما يَعْرُجُ فِيها أَيْ: يَصْعَدُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ سَبَأٍ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ أَيْ: بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَعِلْمِهِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْإِحَاطَةِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ أَيْنَمَا دَارُوا فِي الْأَرْضِ مِنْ بَرٍّ وَبَحْرٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْءٌ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هَذَا التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لَا إِلَى غَيْرِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تُرْجَعُ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وفي مواضع

_ (1) . الأنبياء: 79.

[سورة الحديد (57) : الآيات 7 إلى 11]

وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَيْ: بِضَمَائِرِ الصُّدُورِ وَمَكْنُونَاتِهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسأله خادما، فقال قولي: «اللهم ربّ السموات السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَرَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الفقر» . وأخرج أحمد ومسلم وغير هما مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا مِثْلَ هَذَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَتَفْسِيرِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَاذَا كَانَ قَبْلَ اللَّهِ؟ فَإِنْ قَالُوا لَكُمْ ذَلِكَ فَقُولُوا: هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْبَاطِنُ دُونَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي، قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ بِهِ، قَالَ: فَقَالَ لِي: أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قَالَ: وَضَحِكَ، قَالَ: مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ، قَالَ: حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ «1» الْآيَةَ قَالَ: وَقَالَ لِي: إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُلْ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ قال: عالم بكم أينما كنتم. [سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 11] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) قَوْلُهُ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَيْ: صَدِّقُوا بِالتَّوْحِيدِ وَبِصِحَّةِ الرِّسَالَةِ، وَهَذَا خِطَابٌ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْجَمِيعِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ، أَوِ الِازْدِيَادُ مِنْهُ. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أَيْ: جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمْلِكُوهُ حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْمَالَ مَالُ اللَّهِ وَالْعِبَادَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَمْوَالِهِ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَصْرِفُوهَا فِيمَا يُرْضِيهِ. وَقِيلَ: جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِمَّنْ تَرِثُونَهُ، وَسَيَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِكُمْ مِمَّنْ يَرِثُكُمْ،

_ (1) . يونس: 94.

فَلَا تَبْخَلُوا بِهِ. كَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. وَفِيهِ التَّرْغِيبُ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُمْ وَيَصِيرَ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ التَّرْغِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي الْخَيْرِ، وَمَا يَرْضَاهُ اللَّهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَلَا وَجْهَ لهذا التخصيص. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ ثَوَابَ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ أَيِ: الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبَيْنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْجَنَّةُ وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، أَيْ: أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ، وَأَيُّ مَانِعٍ مِنَ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أُزِيحَتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ؟ وَ «ما» مبتدأ و «لكم» خبره ولا تُؤْمِنُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «لَكُمْ» ، وَالْعَامِلُ «مَا» فِيهِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ إِذَا لَمْ تُؤْمِنُوا؟ وَجُمْلَةُ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا تُؤْمِنُونَ على التداخل، و «لتؤمنوا» متعلق بيدعوكم، أَيْ: يَدْعُوكُمْ لِلْإِيمَانِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ وَيُنَبِّهُكُمْ عَلَيْهِ؟ وَجُمْلَةُ: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَدْعُوكُمْ عَلَى التَّدَاخُلِ أَيْضًا، أَيْ: وَالْحَالُ أَنْ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَكُمْ حِينَ أَخْرَجَكُمْ مِنْ ظَهْرِ أَبِيكُمْ آدَمَ، أَوْ بِمَا نَصَبَ لَكُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدالة على التوحيد وجوب الْإِيمَانِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَقَدْ أَخَذَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمَا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، أَوْ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ وَأَوْضَحِ مُوجِبَاتِهِ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ أي: واضحات ظاهرات، وهي الآيات الْقُرْآنِيَّةُ، وَقِيلَ: الْمُعْجِزَاتُ وَالْقُرْآنُ أَعْظَمُهَا لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أَيْ: لِيُخْرِجَكُمُ اللَّهُ بِتِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، أَوْ لِيُخْرِجَكُمُ الرَّسُولُ بِتِلْكَ الْآيَاتِ، أَوْ بِالدَّعْوَةِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أَيْ: لَكَثِيرُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بَلِيغُهُمَا، حَيْثُ أَنْزَلَ كُتُبَهُ وَبَعَثَ رُسُلَهُ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ، فَلَا رَأْفَةَ وَلَا رَحْمَةَ أَبْلَغُ مِنْ هَذِهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ هَذَا كَالْكَلَامِ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ هُوَ الْإِنْفَاقُ في سبيل كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ وأيّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ؟ وَالْأَصْلُ: فِي أَنْ لَا تُنْفِقُوا، وَقِيلَ: إِنَّ أَنْ زَائِدَةٌ، وَجُمْلَةُ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ «أَلَّا تُنْفِقُوا» أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ؟ وَالْحَالُ أَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِانْقِرَاضِ الْعَالَمِ كَرُجُوعِ الْمِيرَاثِ إِلَى الْوَارِثِ، وَلَا يَبْقَى لَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا أَدْخَلُ فِي التَّوْبِيخِ وَأَكْمَلُ فِي التَّقْرِيعِ، فَإِنَّ كَوْنَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ تَخْرُجُ عَنْ أَهْلِهَا، وَتَصِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ مَالِكِيهَا أَقْوَى فِي إِيجَابِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْ كَوْنِهَا لِلَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فَضْلَ مَنْ سَبَقَ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ فَتْحُ مَكَّةَ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالزَّهْرِيُّ: فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ قِتَالَانِ أَحَدُهُمَا أَفْضَلُ

مِنَ الْآخَرِ، وَنَفَقَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْأُخْرَى، كَانَ الْقِتَالُ وَالنَّفَقَةُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ أَفْضَلَ مِنَ الْقِتَالِ وَالنَّفَقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَسْتَوِي مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ وَمَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، فَحُذِفَ لِظُهُورِهِ وَلِدَلَالَةِ مَا سَيَأْتِي عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ النَّفَقَةِ وَالْقِتَالِ بَعْدَ الْفَتْحِ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ أَكْثَرَ، وَهُمْ أَقَلُّ وَأَضْعَفُ، وَتَقْدِيمُ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْقِتَالِ لِلْإِيذَانِ بِفَضِيلَةِ الْإِنْفَاقِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْحَاجَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يجودون بأنفسهم ولا يجدون ما يجدون بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ: وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ «1» وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى «مَنْ» بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا أَيْ: أَرْفَعُ مَنْزِلَةً وَأَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَطَاءٌ: دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ تَتَفَاضَلُ فَالَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ فِي أَفْضَلِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ نَالَهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ أَكْثَرُ مِمَّا نَالَ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَكَانَتْ بَصَائِرُهُمْ أَيْضًا أَنْفَذَ. وَقَدْ أَرْشَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذِهِ الْفَضِيلَةِ بِقَوْلِهِ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» وَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ صلّى الله عليه وسلّم للمتأخرين وصحبه كَمَا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ السَّبَبُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أَيْ: وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَعَدَ اللَّهُ الْمَثُوبَةَ الْحُسْنَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ مَعَ تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِيهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَكُلًّا» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْفِعْلِ الْمُتَأَخِّرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرُهُ وَالْعَائِدُ محذوف، أو على أنه خبر مبتدأ مَحْذُوفٌ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : قَدْ أَصْبَحَتْ أَمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلِيَّ ذَنْبًا كُلَّهُ لَمْ أَصْنَعِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. ثُمَّ رَغَّبَ سُبْحَانَهُ فِي الصَّدَقَةِ فَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أَيْ: مَنْ ذَا الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ كَمَنْ يُقْرِضُهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا حَسَنًا قَدْ أَقْرَضَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «3» . وَإِذَا جُوزِيتَ قَرْضًا فَاجْزِهِ ... إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى لَيْسَ الْجَمَلْ قَالَ الْكَلْبِيُّ قَرْضاً أَيْ: صَدَقَةً حَسَناً أَيْ: مُحْتَسِبًا مِنْ قَلْبِهِ بِلَا مَنٍّ وَلَا أَذًى. قَالَ مُقَاتِلٌ: حَسَنًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَيُضاعِفَهُ لَهُ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ «فَيُضْعِفُهُ» بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَامِرٍ وَيَعْقُوبَ نَصَبُوا الْفَاءَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ «فَيُضَاعِفَهُ» بِالْأَلِفِ وَتَخْفِيفِ الْعَيْنِ، إِلَّا أَنَّ عَاصِمًا نَصَبَ الْفَاءَ وَرَفَعَ الْبَاقُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الرَّفْعُ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى يُقْرِضُ، أَوِ الِاسْتِئْنَافِ وَالنَّصْبُ لِكَوْنِ الْفَاءِ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ. وضعف النصب أبو علي

_ (1) . وصدره: تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها. والبيت لمسلم بن الوليد. (2) . هو لبيد. (3) . هو لبيد.

[سورة الحديد (57) : الآيات 12 إلى 15]

الفارسي، قال: لأن السؤال لم يقع على الْقَرْضِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَنْ فَاعِلِ الْقَرْضِ، وَإِنَّمَا تَنْصِبُ الْفَاءُ فِعْلًا مَرْدُودًا عَلَى فِعْلٍ مُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ، لَكِنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ حَمَلَتْ ذَلِكَ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَيُقْرِضُ اللَّهَ أَحَدٌ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَالْمُضَاعَفَةُ هُنَا هِيَ كَوْنُ الْحَسَنَةِ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحديبية حتى إذا كان بِعُسْفَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُحَقِّرُونَ أَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ، قُلْنَا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَقَرِيشٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، فَقُلْنَا: أَهُمْ خَيْرٌ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِكُمْ وَلَا نَصِيفَهُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا فَصْلُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ الْآيَةَ» وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ غَرِيبٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْحُدَيْبِيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَلَامٌ، فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: تَسْتَطِيلُونَ عَلَيْنَا بِأَيَّامٍ سَبَقْتُمُونَا بِهَا؟ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «دعوا لي أصحابي، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أُحُدٍ أَوْ مِثْلَ الْجِبَالِ ذَهَبًا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ» . وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ: «لا تسبّوا أصحابي، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» ، وَفِي لَفْظٍ: «مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولا نصيفه» أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغير هما مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عمره. [سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15] يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) قَوْلُهُ: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مُضْمَرٌ وَهُوَ اذْكُرْ، أَوْ «كَرِيمٌ» ، أَوْ «فَيُضَاعِفَهُ» ، أَوِ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ وَهُوَ الِاسْتِقْرَارُ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَقَوْلُهُ: يَسْعى نُورُهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ تَرَى، وَالنُّورُ: هُوَ الضِّيَاءُ الَّذِي يُرَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ وَذَلِكَ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ دَلِيلُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُضِيءُ لَهُ نُورٌ كَمَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى صَنْعَاءَ، حَتَّى إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُضِيءُ لَهُ نُورُهُ إِلَّا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: وَبِأَيْمَانِهِمْ كُتُبُهُمُ الَّتِي

أُعْطُوهَا، فَكُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَنُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ: فِي أَيْمَانِهِمْ، أَوْ بِمَعْنَى عَنْ. قَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: نُورُهُمْ هُدَاهُمْ، وَبِأَيْمَانِهِمْ كُتُبُهُمْ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، أَيْ: يَسْعَى إِيمَانُهُمْ وَعَمَلُهُمُ الصَّالِحُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَفِي أَيْمَانِهِمْ كُتُبُ أَعْمَالِهِمْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «بأيمانهم» جمع يمين. وقرأ سهل ابن سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ «بِإِيمَانِهِمْ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ ضِدُّ الْكُفْرِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ نُورِهِمْ، أَيْ: كَائِنًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها «بُشْرَاكُمْ» مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ «جَنَّاتٌ» عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: دُخُولِ جَنَّاتٍ، وَالْجُمْلَةُ مَقُولُ قَوْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ هَذَا، وَالْقَائِلُ لَهُمْ هُمُ الْمَلَائِكَةُ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ نَصْبَ جَنَّاتٌ عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ «الْيَوْمَ» خَبَرَ «بُشْرَاكُمْ» ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. «خَالِدِينَ فِيهَا» حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ إِلَى النُّورِ وَالْبُشْرَى، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيِ: لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا فَوْزَ غَيْرُهُ، وَلَا اعْتِدَادَ بِمَا سِوَاهُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ «يَوْمَ» بَدَلٌ مِنْ «يَوْمَ» الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ العامل فيه هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ لِلَّذِينَ آمَنُوا اللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ كَنَظَائِرِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: انْظُرُونا أَمْرًا بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْظَاءِ مِنَ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، أَيْ: انْتَظِرُونَا، يَقُولُونَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَوُا الْمُؤْمِنِينَ يُسْرَعُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ مِنَ الإنظار، أي: أمهلونا وأخّرونا، يُقَالُ: أَنَظَرْتُهُ وَاسْتَنْظَرْتُهُ، أَيْ: أَمْهَلْتُهُ وَاسْتَمْهَلْتُهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَنْظِرْنِي، أَيِ: انْتَظِرْنِي، وَأَنْشَدَ قول عمرو ابن كُلْثُومٍ: أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا ... وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ الْيَقِينَا وَقِيلَ: مَعْنَى انْظُرُونَا: انْظُرُوا إِلَيْنَا لِأَنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِمُ اسْتَقْبَلُوهُمْ بِوُجُوهِهِمْ فَيَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِمْ نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أَيْ: نَسْتَضِيءُ مِنْهُ، وَالْقَبَسُ: الشُّعْلَةُ مِنَ النَّارِ وَالسِّرَاجُ، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ أَيْ: قَالَ لَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَوِ الْمَلَائِكَةُ زَجْرًا لَهُمْ وَتَهَكُّمًا بِهِمْ، أَيِ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذْنَا مِنْهُ النُّورَ فَالْتَمِسُوا نُوراً أَيِ: اطْلُبُوا هُنَالِكَ نُورًا لِأَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْ هُنَالِكَ يُقْتَبَسُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: ارْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا فَالْتَمِسُوا النُّورَ بِمَا الْتَمَسْنَاهُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا بِالنُّورِ مَا وَرَاءَهُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ تَهَكُّمًا بِهِمْ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ السُّورُ: هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَاجِزُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَالْبَاءُ فِي بِسُورٍ زَائِدَةٌ: ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ السُّورَ الْمَذْكُورَ فَقَالَ: لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أَيْ: بَاطِنُ ذَلِكَ السُّورِ. وَهُوَ الْجَانِبُ الَّذِي يَلِي أَهْلَ الْجَنَّةِ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَهِيَ الْجَنَّةُ وَظاهِرُهُ وَهُوَ الْجَانِبُ الَّذِي يَلِي أَهْلَ النَّارِ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أَيْ: مِنْ جِهَتِهِ عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّ المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقون يجعلون فِي الْعَذَابِ وَبَيْنَهُمُ السُّورُ، وَقِيلَ: إِنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي فِي بَاطِنِهِ نُورُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْعَذَابُ الَّذِي فِي ظَاهِرِهِ ظُلْمَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَلِمَا ضُرِبَ بِالسُّورِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَمَّا قَالَهُ الْمُنَافِقُونَ إِذْ ذَاكَ، فَقَالَ: يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ

أَيْ: مُوَافِقِينَ لَكُمْ فِي الظَّاهِرِ، نُصَلِّي بِصَلَاتِكُمْ فِي مَسَاجِدِكُمْ، وَنَعْمَلُ بِأَعْمَالِ الْإِسْلَامِ مِثْلَكُمْ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ الْمُنَافِقُونَ بَعْدَ ضَرْبِ السُّورِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: يُنادُونَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّا أَجَابَهُمْ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَقَالَ: قالُوا بَلى أَيْ: كُنْتُمْ مَعَنَا فِي الظَّاهِرِ وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالنِّفَاقِ وَإِبِطَانِ الْكُفْرِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَهْلَكْتُمُوهَا بِالنِّفَاقِ، وَقِيلَ: بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَتَرَبَّصْتُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَوَادِثَ الدَّهْرِ، وَقِيلَ: تَرَبَّصْتُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَارْتَبْتُمْ أَيْ: شَكَكْتُمْ فِي أمر الدّين، ولم تصدقوا بما نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ الْبَاطِلَةُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ التَّرَبُّصِ، وَقِيلَ: هُوَ طُولُ الْأَمَلِ، وَقِيلَ: مَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ مِنْ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَمَانِيُّ هُنَا غُرُورُ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: الدُّنْيَا، وَقِيلَ: هُوَ طَمَعُهُمْ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْأَمَانِيِّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَقِيلَ: نَصْرُهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ إِلْقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «الْغَرُورِ» بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَهُوَ صِفَةٌ عَلَى فَعُولٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ، أَيْ: خَدَعَكُمْ بِحِلْمِ اللَّهِ وَإِمْهَالِهِ الشَّيْطَانُ. وَقَرَأَ أَبُو حيوة ومحمد ابن السّميقع وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ بِضَمِّهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ تَفْدُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَأْواكُمُ النَّارُ أَيْ: مَنْزِلُكُمُ الَّذِي تَأْوُونَ إِلَيْهِ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ أَيْ: هِيَ أَوْلَى بِكُمْ، وَالْمَوْلَى فِي الْأَصْلِ من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن يُلَازِمُهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى مَوْلَاكُمْ: مَكَانُكُمْ عَنْ قُرْبٍ، من الولي وهو القرب. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُرَكِّبُ فِي النَّارِ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ، فَهِيَ تَتَمَيَّزُ غَيْظًا عَلَى الْكُفَّارِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: هِيَ نَاصِرُكُمْ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الَّذِي تصيرون إليه هو النَّارِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَالَ: يُؤْتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ النَّخْلَةِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِهِ يُطْفَأُ مَرَّةً وَيُوقَدُ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي ظُلْمَةٍ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ نُورًا، فَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ النُّورَ تَوَجَّهُوا نَحْوَهُ، وَكَانَ النُّورُ دَلِيلَهُمْ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمَّا رَأَى الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ انْطَلَقُوا إِلَى النُّورِ تَبِعُوهُمْ، فَأَظْلَمَ اللَّهُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقَالُوا حِينَئِذٍ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ مِنْ حَيْثُ جِئْتُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ فَالْتَمِسُوا هُنَالِكَ النُّورَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَدْعُو النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأُمَّهَاتِهِمْ سَتْرًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ الصِّرَاطِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي كُلَّ مُؤْمِنٍ نُورًا وَكُلَّ مُنَافِقٍ نُورًا، فَإِذَا اسْتَوَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللَّهُ نُورَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ:

[سورة الحديد (57) : الآيات 16 إلى 19]

رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا «1» فَلَا يَذْكُرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَحَدٌ أَحَدًا» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ. وَأَخْرَجَ عَبَدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّهُ كَانَ عَلَى سُورِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: هَاهُنَا أَخْبَرَنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: إِنَّ السُّورَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ هُوَ السُّورُ الَّذِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الشَّرْقِيِّ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ الْمَسْجِدُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ يَعْنِي وَادِي جَهَنَّمَ وَمَا يَلِيهِ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ تَفْسِيرَ السُّورِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا السُّورِ الْكَائِنِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ مَا لَا يَدْفَعُهُ مَقَالٌ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ زِيَادَةِ قَوْلِهِ: «بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ» : الْمَسْجِدُ، فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مَا سِيقَتْ لَهُ الْآيَةُ وَغَيْرُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَأَيْنَ يَقَعُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَوْ سُورُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السُّورِ الْحَاجِزِ بَيْنَ فَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ؟ وَأَيُّ مَعْنًى لِذِكْرِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ هَاهُنَا؟ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَنْزِعُ سُورَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَجْعَلُهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ سُورًا مَضْرُوبًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَمَا مَعْنَى تَفْسِيرِ بَاطِنِ السُّورِ وَمَا فِيهِ مِنَ الرَّحْمَةِ بِالْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ يَسُوقُ فَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيَجْعَلُ الْمُؤْمِنِينَ دَاخِلَ السُّوَرِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجْعَلُ الْمُنَافِقِينَ خَارِجَهُ، فَهُمْ إِذْ ذَاكَ عَلَى الصِّرَاطِ وَفِي طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَلَيْسُوا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُ هَذَا التَّفْسِيرِ ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، وَإِلَّا فَلَا كَرَامَةَ وَلَا قَبُولَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ قَالَ: بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَتَرَبَّصْتُمْ قَالَ: بِالتَّوْبَةِ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قَالَ: الْمَوْتُ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قَالَ: الشيطان. [سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 19] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) قَوْلُهُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا يُقَالُ: أَنَى لَكَ يَأْنِي أَنًى إِذَا حَانَ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَلَمْ يأن» وقرأ الحسن وأبو السّمّال «ألمّا يأن» وأنشد ابن السكيت: ألمّا يئن لِي أَنْ تُجَلَّى عِمَايَتِي ... وَأُقْصِرَ عَنْ لَيْلَى بلى قد أنى ليا وأَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ فَاعِلُ يَأْنِ، أَيْ: أَلَمْ يَحْضُرْ خُشُوعُ قُلُوبِهِمْ وَيَجِيءُ وَقْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

_ (1) . التحريم: 8.

أَلَمْ يَأْنِ لِي يَا قَلْبُ أَنْ أَتْرُكَ الْجَهْلَا ... وَأَنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ الْمُنِيرُ لَنَا عَقْلَا هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْحَسَنُ: يَسْتَبْطِئُهُمْ وَهُمْ أَحَبُّ خَلْقِهِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ آمَنَ بِمُوسَى وَعِيسَى دُونَ مُحَمَّدٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، حُثُّوا عَلَى الرِّقَّةِ وَالْخُشُوعِ، فَأَمَّا مَنْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالرِّقَّةِ وَالْخُشُوعِ فَطَبَقَةٌ فَوْقَ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَالْخُشُوعُ: لِينُ الْقَلْبِ وَرِقَّتُهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُورِثَهُمُ الذِّكْرُ خُشُوعًا وَرِقَّةً، وَلَا يَكُونُوا كَمَنْ لَا يَلِينُ قَلْبُهُ لِلذِّكْرِ وَلَا يَخْشَعُ لَهُ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ مَعْطُوفٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِمَا نَزَلَ مِنَ الحق القرآن، فيحمل الذكر المعطوف عليه مَا عَدَاهُ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِاللِّسَانِ، أَوْ خُطُورٍ بِالْقَلْبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُوَ الْقُرْآنُ، فَيَكُونُ هَذَا الْعَطْفُ مِنْ بَابِ عطف التفسير، أو باعتبار تغاير الْمَفْهُومَيْنِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «نَزَلَ» مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ بِالتَّخْفِيفِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو وفي رواية عنه مشدّد مبنيا للمفعول. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «أُنْزِلَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ جَرْيًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بالفوقية على الحساب الْتِفَاتًا، وَبِهَا قَرَأَ عِيسَى وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «تَخْشَعَ» أَيْ: أَلَمْ يَأْنِ لَهُمْ أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ وَلَا يَكُونُوا، وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَسْلُكُوا سَبِيلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ أُوتُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أَيْ: طَالَ عَلَيْهِمُ الزَّمَانُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «الْأَمَدُ» بِتَخْفِيفِ الدَّالِّ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِتَشْدِيدِهَا، أَيِ: الزَّمَنُ الطَّوِيلُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمَدِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى الْأَجَلُ وَالْغَايَةُ، يُقَالُ: أَمَدُ فُلَانٍ كَذَا، أَيْ: غَايَتُهُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ، فَلِذَلِكَ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أَيْ: خَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ، وَهُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ الْأَجْسَامَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَيُلِينُ الْقُلُوبَ بَعْدَ قَسْوَتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا هَذِهِ الْآيَاتُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ: كَيْ تَعْقِلُوا مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَتَعْمَلُوا بِمُوجَبِ ذَلِكَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَأَصْلُهُ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: «الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ» بِإِثْبَاتِ التَّاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ فِيهِمَا مِنَ التَّصْدِيقِ، أَيْ: صَدَّقُوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الْمُصَّدِّقِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ صِلَةً لِلْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمَوْصُولَةِ حَلَّ مَحَلَّ الْفِعْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ تَصَدَّقُوا وَأَقْرَضُوا، كَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: جُمْلَةُ وَأَقْرَضُوا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا، وَهُوَ يُضاعَفُ. وَقِيلَ: هِيَ صِلَةٌ لِمَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَالَّذِينَ أَقْرَضُوا، وَالْقَرْضُ

الْحَسَنُ: عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَدُّقِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ خُلُوصِ نِيَّةٍ، وَصِحَّةِ قَصْدٍ، وَاحْتِسَابِ أَجْرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُضاعَفُ لَهُمْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِمَّا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، أَوْ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى الْمُصَّدِّقِينَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ثَوَابُهُمْ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: «يُضَاعِفُهُ» بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَزِيَادَةِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ «يُضَعَّفُ» بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَالْمُضَاعَفَةُ هُنَا أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ جَمِيعًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمَوْصُولِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فَهُوَ صِدِّيقٌ. قَالَ الْمُقَاتِلَانِ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَشُكُّوا فِي الرُّسُلِ حِينَ أَخْبَرُوهُمْ وَلَمْ يُكَذِّبُوهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ لِلشُّهَدَاءِ خَاصَّةً، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِلْأُمَمِ وَعَلَيْهِمْ، وَاخْتَارَ هَذَا الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُمُ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: هُمْ أُمَمُ الرُّسُلِ يَشْهَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنْبِيَائِهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ جَمِيعًا بِمَنْزِلَةِ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِعُلُوِّ الدَّرَجَةِ عِنْدَ اللَّهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الصِّدِّيقِينَ هُمُ الْمُبَالِغُونَ فِي الصِّدْقِ حَيْثُ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا جَمِيعَ رُسُلِهِ، وَالْقَائِمُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّوْحِيدِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِ مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فَقَالَ: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَالضَّمِيرَانِ الْأَخِيرَانِ راجعان إلى الصديقين والشهداء، أي: لهم مثل أجرهم ونورهم، وأما على قول من قال: إن الذين آمنوا بالله ورسله هم نفس الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، فَالضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى: لَهُمُ الْأَجْرُ وَالنُّورُ الْمَوْعُودَانِ لَهُمْ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَثَوَابَهُمْ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ وَعِقَابَهُمْ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ الْآيَاتِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي صِلَتِهِ مِنَ اتِّصَافِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَهَذَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يُعَذَّبُونَ بِهَا، وَلَا أَجْرَ لَهُمْ وَلَا نُورَ، بَلْ عَذَابٌ مُقِيمٌ وَظُلْمَةٌ دَائِمَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْتَبْطَأَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ يَضْحَكُونَ، فَسَحَبَ رِدَاءَهُ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ: أَتَضْحَكُونَ وَلَمْ يَأْتِكُمْ أَمَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ بِأَنَّهُ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ؟! وَلَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ فِي ضَحِكِكُمْ آيَةً: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: تَبْكُونَ بِقَدْرِ مَا ضَحِكْتُمْ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَقْبَلَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ: أَيَّ شَيْءٍ أَحْدَثْنَا؟ أَيَّ شَيْءٍ صَنَعْنَا؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَبْطَأَ قُلُوبَ الْمُهَاجِرِينَ فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ

[سورة الحديد (57) : الآيات 20 إلى 24]

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهَرَ فِيهِمُ الْمِزَاحُ وَالضَّحِكُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَالَ: يَعْنِي أَنَّهُ يُلِينُ الْقُلُوبَ بَعْدَ قَسْوَتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مُؤْمِنُو أُمَّتِي شُهَدَاءُ، ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ صِدِّيقٌ وَشَهِيدٌ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَمُوتُ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ شَهِيدٌ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ قَالَ: هَذِهِ مَفْصُولَةٌ: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ: قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَأَدَّيْتُ الزَّكَاةَ وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَقُمْتُهُ، فَمِمَّنْ أَنَا؟ قَالَ: من الصّدّيقين والشهداء» . [سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 24] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) قَوْلُهُ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْفَرِيقِ الثَّانِي وَمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَيْلِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا وَتَأْثِيرِهَا، بَيَّنَ لَهُمْ حَقَارَتَهَا، وَأَنَّهَا أَحْقَرُ مِنْ أَنْ تُؤْثَرَ عَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَاللَّعِبُ: هُوَ الْبَاطِلُ، وَاللَّهْوُ: كُلُّ شَيْءٍ يُتَلَهَّى بِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ. قَالَ قَتَادَةُ: «لَعِبٌ وَلَهْوٌ» : أَكْلٌ وَشُرْبٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ لَعِبٍ لَهْوٌ، وَقِيلَ: اللَّعِبُ: مَا رَغَّبَ فِي الدُّنْيَا، وَاللَّهْوُ: مَا أَلْهَى عَنِ الْآخِرَةِ وَشَغَلَ عَنْهَا، وَقِيلَ: اللَّعِبُ: الِاقْتِنَاءُ، وَاللَّهْوُ: النِّسَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَالزِّينَةُ: التَّزَيُّنُ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ دُونِ عَمَلٍ لِلْآخِرَةِ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ قَرَأَ الجمهور بتنوين «تفاخر» والظرف صفة لَهُ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِالْإِضَافَةِ، أَيْ: يَفْتَخِرُ بِهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقِيلَ: يَتَفَاخَرُونَ بِالْخِلْقَةِ وَالْقُوَّةِ، وَقِيلَ: بِالْأَنْسَابِ وَالْأَحْسَابِ كَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أَيْ: يَتَكَاثَرُونَ بِأَمْوَالِهِمْ

وَأَوْلَادِهِمْ، وَيَتَطَاوَلُونَ بِذَلِكَ عَلَى الْفُقَرَاءِ. ثُمَّ بَيَّنَ سبحانه لهذه الحياة شَبَهًا، وَضَرَبَ لَهَا مَثَلًا، فَقَالَ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ أَيْ: كَمَثَلِ مَطَرٍ أَعْجَبَ الزُّرَّاعَ نَبَاتُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْكُفَّارِ هُنَا الزُّرَّاعُ لِأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ الْبَذْرَ، أَيْ: يُغَطُّونَهُ بِالتُّرَابِ، وَمَعْنَى نَبَاتُهُ: النَّبَاتُ الْحَاصِلُ بِهِ ثُمَّ يَهِيجُ أَيْ: يَجِفُّ بَعْدَ خُضْرَتِهِ وَيَيْبَسُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا أَيْ: مُتَغَيِّرًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْخُضْرَةِ وَالرَّوْنَقُ إِلَى لَوْنِ الصُّفْرَةِ وَالذُّبُولِ ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أَيْ: فُتَاتًا هَشِيمًا مُتَكَسِّرًا مُتَحَطِّمًا بَعْدَ يُبْسِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا الْمَثَلِ فِي سُورَةِ يُونُسَ والكهف. والمعنى: أن الحياة كَالزَّرْعِ يُعْجِبُ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ لِخُضْرَتِهِ وَكَثْرَةِ نَضَارَتِهِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَصِيرَ هَشِيمًا تِبْنًا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. وَقُرِئَ «مُصْفَارًّا» وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَقَارَةَ الدُّنْيَا وَسُرْعَةَ زَوَالِهَا ذَكَرَ مَا أَعَدَّهُ لِلْعُصَاةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وأتبعه ما أَعَدَّهُ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ فَقَالَ: وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ والتنكير فيها لِلتَّعْظِيمِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَذَابٌ شَدِيدٌ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ إِمَّا عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَإِمَّا مَغْفِرَةٌ، فَلَا يُوقَفُ عَلَى «شَدِيدٌ» . ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ حَقَارَةَ الدُّنْيَا فَقَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ لِمَنِ اغْتَرَّ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْ لِآخِرَتِهِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَتَاعُ الْغُرُورِ لِمَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِطَلَبِ الْآخِرَةِ. وَمَنِ اشْتَغَلَ بِطَلَبِهَا فَلَهُ مَتَاعُ بِلَاغٍ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِلْمَثَلِ الْمُتَقَدِّمِ وَمُؤَكِّدَةٌ لَهُ. ثُمَّ نَدَبَ عِبَادَهُ إِلَى الْمُسَابَقَةِ إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: سَارِعُوا مُسَارَعَةَ السَّابِقِينَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَتُوبُوا مِمَّا وَقَعَ مِنْكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ، قَالَهُ مَكْحُولٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ مَا فِي الْآيَةِ بِمِثْلِ هَذَا، بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا تُصْدُقُ عَلَيْهِ صِدْقًا شُمُولِيًّا أَوْ بَدَلِيًّا وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَيْ: كَعَرْضِهِمَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا قَدْرَ عَرْضِهَا فَمَا ظَنُّكَ بِطُولِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي جَمِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ مَبْسُوطَاتٍ كُلَّ وَاحِدَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْجَنَّةِ الَّتِي عَرْضُهَا هَذَا الْعَرْضُ هِيَ جَنَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: عَنَى بِهِ جَنَّةً وَاحِدَةً مِنَ الْجَنَّاتِ، وَالْعَرْضُ أَقَلُّ مِنَ الطُّولِ، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُعَبِّرُ عن [سعة] «1» الشَّيْءِ بِعَرْضِهِ دُونَ طُولِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الْجَنَّةَ بِصِفَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجَنَّةِ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَاجْتَنَبَ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَهِيَ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا وَعَدَ بِهِ

_ (1) . من تفسير القرطبي (17/ 256) .

سُبْحَانَهُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ إِعْطَاءَهُ إِيَّاهُ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فَهُوَ يَتَفَضَّلُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ الْكَرِيمُ الْمُطْلَقُ وَالْجَوَادُ الَّذِي لَا يَبْخَلُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا يُصَابُ بِهِ الْعِبَادُ مِنَ الْمَصَائِبِ قَدْ سَبَقَ بِذَلِكَ قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ، وَثَبَتَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَقَالَ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ مِنْ قَحْطِ مَطَرٍ، وَضَعْفِ نَبَاتٍ، وَنَقْصِ ثِمَارٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْقَحْطُ وَقِلَّةُ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ، وَقِيلَ: الْجَوَائِحُ فِي الزَّرْعِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ قَالَ قَتَادَةُ: بِالْأَوْصَابِ وَالْأَسْقَامِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ضِيقُ الْمَعَاشِ إِلَّا فِي كِتابٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ «مُصِيبَةٌ» ، أَيْ: إِلَّا حَالَ كَوْنِهَا مَكْتُوبَةً فِي كِتَابٍ، وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَجُمْلَةُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها فِي مَحَلِّ جر صفة لكتاب، وَالضَّمِيرُ فِي نَبْرَأَهَا عَائِدٌ إِلَى الْمُصِيبَةِ، أَوْ إِلَى الْأَنْفُسِ، أَوْ إِلَى الْأَرْضِ، أَوْ إِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى نَبْرَأَها نَخْلُقُهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أَيْ: إِنَّ إِثْبَاتَهَا فِي الْكِتَابِ عَلَى كَثْرَتِهِ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ غَيْرُ عسير، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ أَيِ: اخْتَبَرْنَاكُمْ بِذَلِكَ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ مِنْهَا، أَيْ: أَعْطَاكُمْ مِنْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ، وَكُلُّ زَائِلٍ عَنْ قَرِيبٍ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَحَ بِحُصُولِهِ، وَلَا يُحْزَنَ عَلَى فَوَاتِهِ، وَمَعَ أَنَّ الكل بقضاء الله وقدره، فلن يعدو أمر مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَا كَانَ حُصُولُهُ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ فَلَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ لِلْفَرَحِ بِحُصُولِهِ وَلَا للحزن على فوته، قيل: وَالْحُزْنُ وَالْفَرَحُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُمَا هُمَا اللَّذَانِ يُتَعَدَّى فِيهِمَا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَحْزَنُ وَيَفْرَحُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِما آتاكُمْ بِالْمَدِّ، أَيْ: أَعْطَاكُمْ، وَقَرَأَ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرة بِالْقَصْرِ، أَيْ: جَاءَكُمْ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو حَاتِمٍ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةِ أَبُو عُبَيْدٍ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أَيْ: لَا يُحِبُّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَهُمَا الِاخْتِيَالُ وَالِافْتِخَارُ، قِيلَ: هُوَ ذَمٌّ لِلْفَرَحِ الَّذِي يَخْتَالُ فِيهِ صَاحِبُهُ وَيَبْطَرُ، وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ فَرِحَ بِالْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَعَظُمَتْ فِي نَفْسِهِ، اخْتَالَ وَافْتَخَرَ بِهَا، وَقِيلَ: الْمُخْتَالُ: الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ، والفخور: الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْفَخُورُ: الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ بِعَيْنِ الِاسْتِحْقَارِ. وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِمَعْنَاهُمَا الشَّرْعِيِّ ثُمَّ اللُّغَوِيِّ، فَمَنْ حَصَلَتَا فِيهِ فَهُوَ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَقِيلَ: الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بَدَلٌ مِنْ «مُخْتَالٍ» ، وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّ هَذَا الْبُخْلَ بِمَا فِي الْيَدِ، وَأَمْرَ النَّاسِ بِالْبُخْلِ، لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْمُخْتَالِ الْفَخُورِ، لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ نَعْتٌ لَهُ، وَهُوَ أَيْضًا بِعِيدٌ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِالْعِلْمِ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بِهِ لِئَلَّا يُعَلِّمُوا النَّاسَ شَيْئًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّهُ الْبُخْلُ بِأَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ، وقيل: إنه البخل بالصدقة، وقال طاوس: إِنَّهُ الْبُخْلُ بِمَا فِي يَدَيْهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ الَّذِينَ بَخِلُوا بِبَيَانِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُبِهِمْ لِئَلَّا يُؤْمِنَ بِهِ النَّاسُ فَتَذْهَبَ مَآكِلُهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ والكلبي. قرأ الجمهور: بِالْبُخْلِ بضم وَسُكُونِ الْخَاءِ. وَقَرَأَ أَنَسٌ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهِيَ لُغَةُ الْأَنْصَارِ.

[سورة الحديد (57) : الآيات 25 إلى 29]

وقرأ أبو العالية وابن السّميقع بِفَتْحِ الْبَاءِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ بِضَمِّهِمَا، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَيْ: وَمَنْ يُعْرِضْ عن الإنفاق فإن الله غنيّ مَحْمُودٌ عِنْدَ خَلْقِهِ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ. قَرَأَ الجمهور هو الغني بإثبات ضمير الفصل. قرأ نافع وابن عامر فإن الله الغني الحميد بِحَذْفِ الضَّمِيرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يَقُولُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها قال: نخلقها لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُبْرَأَ الْأَنْفُسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ في الشعب عنه أيضا في قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ الْآيَةَ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَحْزَنُ وَيَفْرَحُ، وَلَكِنْ مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ جَعَلَهَا صَبْرًا، وَمَنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ جَعَلَهُ شُكْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُرِيدُ مَصَائِبَ الْمَعَاشِ، وَلَا يُرِيدُ مصائب الدين، إنه قال: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَصَائِبِ الدِّينِ، أَمَرَهُمْ أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة. [سورة الحديد (57) : الآيات 25 الى 29] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) قَوْلُهُ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أَيْ: بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَيِّنَةِ وَالشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ الْمُرَادُ الْجِنْسُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كِتَابُ كُلِّ رَسُولٍ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ قال قتادة ومقاتل ابن حَيَّانَ: الْمِيزَانُ: الْعَدْلُ، وَالْمَعْنَى: أَمَرْنَاهُمْ بِالْعَدْلِ، كَمَا في قوله: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ «1» وَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ «2» وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ وَيُتَعَامَلُ بِهِ، وَمَعْنَى لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ لِيَتَّبِعُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْعَدْلِ فَيَتَعَامَلُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالنَّصَفَةِ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِيزَانِ الْعَدْلُ، وَمَعْنَى إِنْزَالِهِ: إِنْزَالُ أسبابه وموجباته. وعلى القول

_ (1) . الرّحمن: 7. (2) . الشورى: 17.

بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْآلَةُ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا فَيَكُونُ إِنْزَالُهُ بِمَعْنَى إِرْشَادِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَإِلْهَامِهِمُ الْوَزْنَ بِهِ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ بَابِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا............... .... وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ أَيْ خَلَقْنَاهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «1» وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ وَعَلَّمَ النَّاسَ صَنْعَتَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ نَزَلَ مَعَ آدَمَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ لِأَنَّهُ تُتَّخَذُ مِنْهُ آلَاتُ الْحَرْبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُمْتَنَعُ بِهِ وَيُحَارَبُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تُتَّخَذُ مِنْهُ آلَةٌ لِلدَّفْعِ وَآلَةٌ لِلضَّرْبِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فِيهِ جُنَّةٌ وَسِلَاحٌ، وَمَعْنَى وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِثْلِ السِّكِّينِ وَالْفَأْسِ وَالْإِبْرَةِ وَآلَاتِ الزِّرَاعَةِ والنجارة والعمارة وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: «لِيَقُومَ النَّاسُ» أَيْ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا وَفَعَلْنَا كَيْتَ وَكَيْتَ لِيَقُومَ النَّاسُ وَلِيَعْلَمَ، وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: ليستعلموه وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ بِنُصْرَةِ دِينِهِ وَرُسُلِهِ فَمَنْ نَصَرَ دِينَهُ وَرُسُلَهُ عَلِمَهُ نَاصِرًا، ومن عصى علمه بخلاف ذلك وبالغيب فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَنْصُرُهُ أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ، أَيْ: غَائِبًا عَنْهُمْ أَوْ غَائِبِينَ عَنْهُ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أَيْ: قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ غَالِبٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَنْصُرَهُ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِهِ وَيَنْصُرَ رُسُلَهُ، بَلْ كَلَّفَهُمْ بذلك لينتفعوا به إذا امتثلوا، ويحصل له مَا وَعَدَ بِهِ عِبَادَهُ الْمُطِيعِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ إِرْسَالَ الرُّسُلِ إِجْمَالًا أَشَارَ هُنَا إِلَى نَوْعِ تَفْصِيلٍ، فَذَكَرَ رِسَالَتَهُ لِنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَكَرَّرَ الْقَسَمَ لِلتَّوْكِيدِ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ أَيْ: جَعَلْنَا فِيهِمُ النُّبُوَّةَ وَالْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: جَعَلَ بَعْضَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَبَعْضَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أَيْ: فَمِنَ الذُّرِّيَّةِ مَنِ اهْتَدَى بِهُدَى نوح وإبراهيم، وقيل: المعنى: فمن الرسل إِلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِ الْأَنْبِيَاءِ مُهْتَدٍ بِمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْهُدَى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خَارِجُونَ عَنِ الطَّاعَةِ ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أَيِ: أَتْبَعْنَا عَلَى آثَارِ الذُّرِّيَّةِ أَوْ عَلَى آثَارِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ بِرُسُلِنَا الَّذِينَ أَرْسَلْنَاهُمْ إِلَى الْأُمَمِ كَمُوسَى وَإِلْيَاسَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَيْ: أَرْسَلْنَا رَسُولًا بَعْدَ رَسُولٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اشْتِقَاقِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْإِنْجِيلَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِهَا وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ هُمُ الْحَوَارِيُّونَ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مَوَدَّةً لِبَعْضِهِمُ الْبَعْضَ، وَرَحْمَةً يَتَرَاحَمُونَ بِهَا، بِخِلَافِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ، وَأَصْلُ الرَّأْفَةِ: اللِّينُ، وَالرَّحْمَةُ: الشَّفَقَةُ، وَقِيلَ: الرَّأْفَةُ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها انْتِصَابُ رَهْبَانِيَّةً عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَيْ: وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، وليس بمعطوفة عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِهِمْ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً مُبْتَدَعَةً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. والأوّل أولى، ورجّحه أبو علي الفارسي غيره، وجملة ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ صفة ثانية لرهبانية، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِكَوْنِهَا مُبْتَدَعَةً مِنْ جِهَةِ أنفسهم، والمعنى: ما فرضناها عليهم،

_ (1) . الزمر: 6.

وَالرَّهْبَانِيَّةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا. وَهِيَ بِالْفَتْحِ الْخَوْفُ مِنَ الرَّهْبِ، وَبِالضَّمِّ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الرُّهْبَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ غَلَوْا فِي الْعِبَادَةِ، وحملوا على أنفسهم المشتقات فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكِحِ، وَتَعَلَّقُوا بِالْكُهُوفِ وَالصَّوَامِعِ لِأَنَّ مُلُوكَهُمْ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا وَبَقِيَ مِنْهُمْ نَفَرٌ قَلِيلٌ فَتَرَهَّبُوا وَتَبَتَّلُوا، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ وَالْأَلِفِ فِي كَتَبْنَاهَا، وَالْمَعْنَى: مَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أَيْ: لَمْ يَرْعَوْا هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةَ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، بل صنعوها وَكَفَرُوا بِدِينِ عِيسَى، وَدَخَلُوا فِي دِينِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا التَّرَهُّبَ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى دِينِ عِيسَى إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِالْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِعِيسَى وَثَبَتُوا عَلَى دِينِهِ حَتَّى آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خَارِجُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَا أُمِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَوَجْهُ الذَّمِّ لَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمُ الرَّهْبَانِيَّةَ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهَا طَاعَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يَرْضَاهَا، فَكَانَ تَرْكُهَا وَعَدَمُ رِعَايَتِهَا حَقَّ الرِّعَايَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ دِينًا. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِيَبْتَغُوا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ وَفَّقْنَاهُمْ لِابْتِدَاعِهَا فَوَجْهُ الذَّمِّ ظَاهِرٌ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالتَّقْوَى وَالْإِيمَانِ بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ بِتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيْ: نَصِيبَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ بِسَبَبِ إِيمَانِكُمْ بِرَسُولِهِ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَصْلُ الْكِفْلِ: الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يَعْنِي عَلَى الصِّرَاطِ كَمَا قَالَ: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ «1» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ سَبِيلًا وَاضِحًا فِي الدِّينِ تَهْتَدُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: بَلِيغُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَالتَّقْدِيرُ: اتَّقُوا وَآمِنُوا يُؤْتِكُمْ كَذَا وَكَذَا لِيَعْلَمَ الَّذِينَ لَمْ يَتَّقُوا وَلَا آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ «لَا» فِي قَوْلِهِ: لِئَلَّا زائدة للتوكيد، قاله الفراء والأخفش وغير هما، وأن في قوله: أَلَّا يَقْدِرُونَ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ، وَخَبَرُهَا مَا بَعْدَهَا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولُ يَعْلَمَ، وَالْمَعْنَى: لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَنَالُوا شَيْئًا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ الْفَضْلِ الَّذِي تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لَهُ، وَجُمْلَةُ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَوْلُهُ: يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ خَبَرٌ ثان لأنّ، أَوْ هُوَ الْخَبَرُ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ هُنَا مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَآمَنُوا بِرَسُولِهِ مِنَ الْأَجْرِ الْمُضَاعَفِ. وَقَالَ الكلبي:

_ (1) . التحريم: 8.

هُوَ رِزْقُ اللَّهِ، وَقِيلَ: نِعَمُ اللَّهِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَقِيلَ: هُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ «لَا» فِي «لِئَلَّا» غَيْرُ مَزِيدَةٍ، وَضَمِيرَ «لَا يَقْدِرُونَ» لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. وَالْمَعْنَى: لِئَلَّا يَعْتَقِدَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا أُوتُوهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «لِكَيْلَا يَعْلَمَ» وقرأ حطّان بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «لِأَنْ يَعْلَمَ» وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: «لِيَعْلَمَ» وَقُرِئَ: «لِيَلَّا» بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَقُرِئَ بِفَتْحِ اللَّامِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي أَيُّ عُرَى الْإِسْلَامِ أَوْثَقُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَفْضَلُ النَّاسِ أَفْضَلُهُمْ عَمَلًا إِذَا فَقُهُوا فِي دِينِهِمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَلْ تَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا بِالْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ، وَاخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا، فرقة وازت الْمُلُوكَ وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَعِيسَى ابْنِ مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الْمُلُوكِ فَأَقَامُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى فَقَتَلَهُمُ الْمُلُوكُ وَنَشْرَتْهُمْ بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الْمُلُوكِ وَلَا بِالْمَقَامِ مَعَهُمْ فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ وَتَرَهَّبُوا فِيهَا وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَصَدَّقُونِي وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ الَّذِينَ جَحَدُونِي وَكَفَرُوا بي» . وأخرج النسائي، والحكيم والترمذي فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَتْ مُلُوكٌ بَعْدَ عِيسَى بَدَّلَتِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، فَكَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، فَقِيلَ لِمُلُوكِهِمْ: مَا نَجِدُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنْ شَتْمٍ يَشْتُمُنَا هَؤُلَاءِ، إِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «1» وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «2» فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «3» مَعَ مَا يَعِيبُونَنَا بِهِ مِنْ أَعْمَالِنَا فِي قِرَاءَتِهِمْ، فَادْعُوهُمْ فَلْيَقْرَءُوا كَمَا نَقْرَأُ وَلْيُؤْمِنُوا كَمَا آمَنَّا، فَدَعَاهُمْ فَجَمَعَهُمْ وَعَرَضَ عليهم القتل، أو ليتركوا التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَّا مَا بَدَّلُوا مِنْهُمَا، فَقَالُوا: مَا تُرِيدُونَ إِلَى ذَلِكَ؟ دَعُونَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: ابْنُوا لَنَا أُسْطُوَانَةً ثُمَّ ارْفَعُونَا إِلَيْهَا، ثُمَّ أَعْطُونَا شَيْئًا نَرْفَعُ بِهِ طَعَامَنَا وَشَرَابَنَا وَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دَعُونَا نَسِيحُ فِي الْأَرْضِ وَنَهِيمُ وَنَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُ مِنْهُ الْوُحُوشُ وَنَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُ، فَإِنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْنَا فِي أَرْضِكُمْ فَاقْتُلُونَا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ابْنُوا لَنَا دُورًا فِي الْفَيَافِي وَنَحْتَفِرُ الْآبَارَ وَنَحْرُثُ الْبُقُولَ فَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ وَلَا نَمُرُّ بِكُمْ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْقَبَائِلِ إِلَّا لَهُ حَمِيمٌ فِيهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها وَقَالَ الْآخَرُونَ مِمَّنْ تَعَبَّدَ من أهل الشرك

_ (1) . المائدة: 44. (2) . المائدة: 45. [.....] (3) . المائدة: 47.

وَفَنِيَ مَنْ فَنِيَ مِنْهُمْ قَالُوا: نَتَعَبَّدُ كَمَا تَعَبَّدَ فُلَانٌ وَنَسِيحُ كَمَا سَاحَ فُلَانٌ وَنَتَّخِذُ دُورًا كَمَا اتَّخَذَ فُلَانٌ وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، لَا عِلْمَ لَهُمْ بِإِيمَانِ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمْ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ انْحَطَّ صَاحِبُ الصومعة من صومعته وجاء السائح مِنْ سِيَاحَتِهِ وَصَاحِبُ الدَّيْرِ مِنْ دَيْرِهِ، فَآمَنُوا به وصدّقوه، فقال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أَجْرَيْنِ بِإِيمَانِهِمْ بِعِيسَى وَنَصَبِ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَبِإِيمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ وَتَصْدِيقِهِمْ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ الْقُرْآنَ وَاتِّبَاعَهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةً وَرَهْبَانِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي قَوْلِهِ: كِفْلَيْنِ قَالَ: ضِعْفَيْنِ، وَهِيَ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قَالَ: الْكِفْلُ ثَلَاثُمِائَةِ جُزْءٍ وَخَمْسُونَ جُزْءًا مِنْ رحمة الله.

سورة المجادلة

سورة المجادلة وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، إِلَّا رِوَايَةً عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ الْعَشْرَ الْأُوَلِ مِنْهَا مَدَّنِيٌّ. وَبَاقِيهَا مَكِّيٌّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ جَمِيعُهَا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ قَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) قَوْلُهُ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَرَأَ أَبُو عمرو وحمزة وَالْكِسَائِيُّ بِإِدْغَامِ الدَّالِّ فِي السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَنْ بَيَّنَ الدَّالَ عِنْدَ السِّينِ فَلِسَانُهُ أَعْجَمِيٌّ وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أَيْ: تَرَاجِعُكَ الْكَلَامَ فِي شَأْنِهِ وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى «تَجَادِلُكَ» . وَالْمُجَادَلَةُ هَذِهِ الْكَائِنَةُ مِنْهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا قَالَ لَهَا: قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا ذَكَرَ طَلَاقًا، ثُمَّ تَقُولُ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَوَحْدَتِي، وَإِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا إِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيْهِ ضَاعُوا، وَإِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيَّ جَاعُوا، وَجَعَلَتْ تَرْفَعُ رَأْسَهَا إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكوا إِلَيْكَ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَزَوْجِهَا أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ «1» ، فَاشْتَدَّ بِهِ لَمَمُهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَظَاهَرَ مِنْهَا، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ الظِّهَارُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، وَقِيلَ: اسْمُهَا جَمِيلَةُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقِيلَ: هِيَ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّهَا نُسِبَتْ تَارَةً إِلَى أَبِيهَا، وَتَارَةً إِلَى جَدِّهَا وَأَحَدُهُمَا أَبُوهَا وَالْآخَرُ جَدُّهَا، فَهِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ، وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا، أي: والله يعلم تراجعكما

_ (1) . «اللمم» : طرف من الجنون يلمّ بالإنسان، أي يعتريه.

فِي الْكَلَامِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَسْمَعُ كُلَّ مَسْمُوعٍ، وَيُبْصِرُ كُلَّ مُبْصَرٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا جَادَلَتْكَ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ شَأْنَ الظِّهَارِ فِي نَفْسِهِ، وَذَكَرَ حُكْمَهُ، فَقَالَ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَظَّهَّرُونَ» بِالتَّشْدِيدِ مَعَ فَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يُظَّاهِرُونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَزِيَادَةِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَاصِمٌ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ «يُظَاهِرُونَ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ «يَتَظَاهَرُونَ» بِفَكِّ الْإِدْغَامِ. وَمَعْنَى الظِّهَارِ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَيْ: وَلَا خِلَافَ فِي كَوْنِ هَذَا ظِهَارًا. وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ ظِهَارٌ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالزَّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ قَتَادَةٌ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا، بَلْ يَخْتَصُّ الظِّهَارُ بِالْأُمِّ وَحْدَهَا. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، فَرُوِيَ عَنْهُ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ كَالْقَوْلِ الثَّانِي، وَأَصْلُ الظِّهَارِ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أُمِّي أَوْ يَدِهَا أَوْ رَجْلِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، هَلْ يَكُونُ ظِهَارًا أَمْ لَا، وَهَكَذَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي، وَلَمْ يَذْكُرِ الظَّهْرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ مِنْ أُمِّهِ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الظِّهَارُ إِلَّا فِي الظَّهْرِ وَحْدَهُ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَقِيلَ: يَكُونُ ظِهَارًا، وَقِيلَ: لَا، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَجُمْلَةُ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ الْمَوْصُولِ. أَيْ: مَا نِسَاؤُهُمْ بِأُمَّهَاتِهِمْ، فَذَلِكَ كَذِبٌ مِنْهُمْ، وَفِي هَذَا تَوْبِيخٌ لِلْمُظَاهِرِينَ وَتَبْكِيتٌ لَهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أُمَّهَاتِهِمْ» بِالنَّصْبِ عَلَى اللُّغَةِ الْحِجَازِيَّةِ فِي إِعْمَالِ «مَا» عَمَلَ لَيْسَ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالسُّلَمِيُّ بِالرَّفْعِ عَلَى عَدَمِ الْإِعْمَالِ، وَهِيَ لُغَةُ نَجْدٍ وَبَنِي أَسَدٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ لَهُمْ أُمَّهَاتِهِمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَقَالَ: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أَيْ: مَا أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا النِّسَاءُ اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ. ثُمَّ زَادَ سُبْحَانَهُ فِي تَوْبِيخِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ فَقَالَ: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أَيْ: وَإِنَّ الْمُظَاهِرِينَ لَيَقُولُونَ بِقَوْلِهِمْ هَذَا مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ، أَيْ: فَظِيعًا مِنَ الْقَوْلِ يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ، وَالزُّورُ: الْكَذِبُ، وَانْتِصَابُ مُنْكَرًا وَزُورًا عَلَى أَنَّهُمَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: قَوْلًا مُنْكَرًا وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أَيْ: بَلِيغُ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، إِذْ جَعَلَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِمْ مُخَلِّصَةً لَهُمْ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الْمُنْكَرِ. وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الظِّهَارَ إِجْمَالًا وَوَبَّخَ فَاعِلِيهِ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ أَحْكَامِهِ، وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ ذَلِكَ الْقَوْلَ الْمُنْكَرَ الزُّورَ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا، أي: مَا قَالُوا بِالتَّدَارُكِ وَالتَّلَافِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ «1» أَيْ: إِلَى مِثْلِهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ لِما قالُوا و «إلى ما

_ (1) . النور: 17.

قالوا» [واحد، واللام وإلى] «1» يَتَعَاقَبَانِ. قَالَ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «2» وقال: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «3» وقال: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «4» وقال: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ» وَقَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّامُ بِمَعْنَى عَنْ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ يَرْجِعُونَ عَمَّا قَالُوا وَيُرِيدُونَ الْوَطْءَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى إِرَادَةِ الْجِمَاعِ مِنْ أَجْلِ مَا قَالُوا. قَالَ الْأَخْفَشُ أَيْضًا: الْآيَةُ فيها تقديم وتأخير، والمعنى: والذين يظهرون مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْجِمَاعِ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لِمَا قَالُوا، أَيْ: فَعَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ أَجْلِ مَا قَالُوا، فَالْجَارُّ فِي قَوْلِهِ: لِما قالُوا مُتَعَلِّقٌ بِالْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ: فَعَلَيْهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ الْعَوْدِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ، وَبِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقِيلَ: هُوَ الْوَطْءُ نَفْسُهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ الْكَفَّارَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا إِلَّا بِكَفَّارَةٍ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: هُوَ تَكْرِيرُ الظِّهَارِ بِلَفْظِهِ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَرُوِيَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْفَرَّاءِ. وَالْمَعْنَى. ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى قَوْلِ مَا قَالُوا. وَالْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ: فَعَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ، يُقَالُ: حَرَّرْتُهُ، أَيْ: جَعَلْتُهُ حُرًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تُجْزِئُ أَيُّ رَقَبَةٍ كَانَتْ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً كَالرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَبِالثَّانِي قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَاشْتَرَطَا أَيْضًا سَلَامَتَهَا مِنْ كُلِّ عَيْبٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا الْمُرَادُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْجِمَاعِ أَوِ اللَّمْسِ أَوِ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ تُوعَظُونَ بِهِ أَيْ: تُؤْمَرُونَ بِهِ، أَوْ تُزْجَرُونَ بِهِ عَنِ ارْتِكَابِ الظِّهَارِ، وَفِيهِ بَيَانٌ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْكَفَّارَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ: ذَلِكُمُ التَّغْلِيظُ فِي الْكَفَّارَةِ تُوعَظُونَ بِهِ، أَيْ: إِنَّ غِلَظَ الْكَفَّارَةِ وَعْظٌ لَكُمْ حَتَّى تَتْرُكُوا الظِّهَارَ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَفَّارَةِ فَقَالَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أَيْ: فَمَنْ لَمْ يَجِدِ الرَّقَبَةَ فِي مِلْكِهِ، وَلَا تَمَكَّنَ مِنْ قِيمَتِهَا، فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ لَا يُفْطِرُ فِيهِمَا، فَإِنْ أَفْطَرَ اسْتَأْنَفَ إِنْ كَانَ الْإِفْطَارُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: إِنَّهُ يَبْنِي وَلَا يَسْتَأْنِفُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا هُوَ مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، فَلَوْ وَطِئَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً اسْتَأْنَفَ، وَبِهِ قال أبو حنيفة ومالك. وقال الشافعي:

_ (1) . من تفسير القرطبي (17/ 282) . (2) . الأعراف: 43. (3) . الصافات: 23. (4) . الزلزلة: 5. (5) . هود: 36.

لَا يَسْتَأْنِفُ إِذَا وَطِئَ لَيْلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحِلًّا لِلصَّوْمِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ يَعْنِي صِيَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أَيْ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ، وَهُمَا نِصْفُ صَاعٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ وَاحِدٌ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنْ يُطْعِمَهُمْ حَتَّى يَشْبَعُوا مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ مَا يُشْبِعُهُمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً، بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ بعض الستين في يوم، وَبَعْضَهُمْ فِي يَوْمٍ آخَرَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: ذَلِكَ وَاقِعٌ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا، أَيْ: لِتُصَدِّقُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ وَشَرَّعَهُ، أَوْ لِتُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَتَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِ الشَّرْعِ وَلَا تَتَعَدُّوهَا، وَلَا تَعُودُوا إِلَى الظِّهَارِ الَّذِي هُوَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تُجَاوِزُوا حُدُودَهُ الَّتِي حَدَّهَا لَكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَكُمْ أَنَّ الظِّهَارَ مَعْصِيَةٌ، وَأَنَّ كَفَّارَتَهُ الْمَذْكُورَةَ تُوجِبُ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ وَلِلْكافِرِينَ الَّذِينَ لَا يَقِفُونَ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا حَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَذابٌ أَلِيمٌ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَسَمَّاهُ كُفْرًا تَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ، إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلَ شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، حَتَّى إِذَا كَبِرَ سِنِي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ، قَالَتْ: فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَؤُلَاءِ الْآيَاتِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَهُوَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ ظَاهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْسٌ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ عَمٍّ لَهُ يُقَالُ لَهَا خَوْلَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، فَظَاهَرَ مِنْهَا فَأُسْقِطَ فِي يَدِهِ وَقَالَ: ما أراك إلا وقد حَرُمْتِ عَلَيَّ، فَانْطَلِقِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْأَلِيهِ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فوجدت عنده ماشطة تمشط رَأْسِهِ فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: يَا خَوْلَةُ مَا أُمِرْنَا فِي أَمْرِكِ بِشَيْءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا خَوْلَةُ أَبْشِرِي. قَالَتْ: خَيْرًا. قَالَ: خَيْرًا، فَقَرَأَ عَلَيْهَا: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يوسف بن عبد الله ابن سَلَامٍ قَالَ: «حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: فِيَّ وَاللَّهِ وَفِي أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ، قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ، وكان شيخا قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْمًا فَرَاجَعْتُهُ بِشَيْءٍ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ثُمَّ رَجَعَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَنْ نَفْسِي، قُلْتُ: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ خَوْلَةَ بِيَدِهِ، لَا تَصِلُ إِلَيَّ، وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَتَغَشَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كان يغشاه ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ لِي: يَا خَوْلَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ إِلَى قَوْلِهِ: عَذابٌ أَلِيمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَهُ ما يعتق،

قَالَ: فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لِشَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ عِنْدَهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَنَا سَأُعِينُهُ بِعَرْقٍ مِنْ تَمْرٍ، فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ سَأُعِينُهُ بِعَرْقٍ آخَرَ، فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي بِهِ عَنْهُ ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْرًا، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا قال: هو الرجل لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا بِنِكَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ فَمَنْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وَالْمَسُّ النِّكَاحُ فَمَنْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً وَإِنْ هُوَ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَلَيْسَ يَقَعُ فِي ذَلِكَ ظِهَارٌ حَتَّى يَحْنَثَ، فَإِنْ حَنِثَ فَلَا يَقْرَبْهَا حَتَّى يَكَفِّرَ، وَلَا يَقَعُ فِي الظِّهَارِ طَلَاقٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ثَلَاثٌ فِيهِ مُدٌّ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةُ الصِّيَامِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي، فَرَأَيْتُ بَيَاضَ خَلْخَالِهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ يُقَلِ اللَّهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَمْسِكْ عَنْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي فَوَقَعْتُ عليها قَبْلِ أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَالَ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، قَالَ: فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ» وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَدْ أُوتِيتُ مِنْ جِمَاعِ النِّسَاءِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ فَرَقًا مِنْ أَنْ أُصِيبَ مِنْهَا فِي لَيْلِي فَأَتَتَابَعَ فِي ذَلِكَ وَلَا أَسْتَطِيعَ أَنْ أَنْزِعَ حَتَّى يُدْرِكَنِي الصُّبْحُ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَخْدُمُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذِ انْكَشَفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ فَوَثَبْتُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتُهُمْ خَبَرِي، فَقُلْتُ: انْطَلِقُوا مَعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بِأَمْرِي، فَقَالُوا: لَا، وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ نَتَخَوَّفُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا الْقُرْآنُ، أَوْ يَقُولَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَالَةً يَبْقَى عَلَيْنَا عَارُهَا، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَنْتَ بِذَاكَ «1» ؟ قُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ، قَالَ: أَنْتَ بِذَاكَ؟ قُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ، قَالَ: أَنْتَ بِذَاكَ؟ قُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ وَهَا أَنَا ذَا فَأَمْضِ فِيَّ حُكْمَ اللَّهِ فَإِنِّي صَابِرٌ لِذَلِكَ، قَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً، فَضَرَبْتُ عُنُقِي بِيَدِي فَقُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ غَيْرَهَا، قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَقُلْتُ: هَلْ أَصَابَنِي إِلَّا فِي الصِّيَامِ؟ قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ بِتْنَا ليلتنا هذه وحشين «2» مَا لَنَا عَشَاءٌ، قَالَ: اذْهَبْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ، فَقُلْ لَهُ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ فَأَطْعِمْ عَنْكَ مِنْهَا وَسْقًا سِتِّينَ مِسْكِينًا، ثُمَّ استعن بسائرها عليك وعلى

_ (1) . «أنت بذاك» : أي أنت متلبّس بذلك الفعل؟ (2) . «وحشين» : رجل وحش، أي جائع لا طعام له.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 إلى 10]

عِيَالِكَ. فَرَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي فَقُلْتُ: وَجَدْتُ عِنْدَكُمُ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّعَةَ وَالْبَرَكَةَ، أَمَرَ لي بصدقتكم فادفعوها إلي، فدفعوها إليه» . [سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 10] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاقِفِينَ عِنْدَ حُدُودِهِ ذَكَرَ الْمُحَادِّينَ، وَالْمُحَادَّةُ: الْمُشَاقَّةُ وَالْمُعَادَاةُ وَالْمُخَالَفَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُحَادَّةُ: أَنْ تَكُونَ فِي حَدٍّ يُخَالِفُ صَاحِبَكَ، وَأَصْلُهَا الْمُمَانَعَةُ، وَمِنْهُ الْحَدِيدُ، وَمِنْهُ الْحَدَّادُ لِلْبَوَّابِ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: أُذِلُّوا وَأُخْزُوا، يُقَالُ: كَبَتَ اللَّهُ فُلَانًا إِذَا أَذَلَّهُ، وَالْمَرْدُودُ بِالذُّلِّ يُقَالُ لَهُ مَكْبُوتٌ. قَالَ المقاتلان: أخزوا كما أخزي الّذي مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: أُهْلِكُوا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، عُذِّبُوا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لُعِنُوا. وَقَالَ الفراء: أغيظوا، والمراد بمن قَبْلِهِمْ: كَفَّارُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُعَادِينَ لِرُسُلِ اللَّهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: عَلَى الْمُضِيِّ، وَذَلِكَ مَا وَقَعَ لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ كَبَتَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْقَهْرِ، وَجُمْلَةُ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْوَاوِ فِي كُبِتُوا، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّا قَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ فِيمَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرُسُلَهُ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْفَرَائِضُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: هِيَ الْمُعْجِزَاتُ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ: لِلْكَافِرِينَ بِكُلِّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، فَتَدْخُلُ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَالْعَذَابُ الْمُهِينُ: الَّذِي يُهِينُ صَاحِبَهُ وَيُذِلُّهُ وَيَذْهَبُ بِعِزِّهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً الظرف منتصب بإضمار اذكر، أو بمهين، أَوْ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ اللَّامُ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ، أو بأحصاه الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ، وَانْتِصَابُ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُجْتَمِعِينَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ يَبْعَثُهُمْ كُلَّهُمْ لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرُ مَبْعُوثٍ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَيْ: يُخْبِرُهُمْ بِمَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَبْكِيتًا وَلِتَكْمِيلِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَجُمْلَةُ أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يُنَبِّئُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى كَثْرَتِهِ

وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، فَقِيلَ: أَحْصَاهُ اللَّهُ جَمِيعًا وَلَمْ يَفُتْهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ قَدْ نَسُوهُ وَلَمْ يَحْفَظُوهُ، بَلْ وَجَدُوهُ حَاضِرًا مَكْتُوبًا فِي صَحَائِفِهِمْ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ هُوَ مُطَّلِعٌ وَنَاظِرٌ. ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ بَيَانَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِمَا فِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا فِيهِمَا، وَجُمْلَةُ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ شُمُولِ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَكُونُ» بِالتَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو حَيْوَةَ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَ «كَانَ» عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ تَامَّةٌ، وَ «مِنْ» مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَ «نَجْوَى» فَاعِلُ كَانَ، والنجوى: السرار، يقال: قوم نجوى، أي: ذوو نَجْوَى، وَهِيَ مَصْدَرٌ. وَالْمَعْنَى: مَا يُوجَدُ مِنْ تَنَاجِي ثَلَاثَةٍ أَوْ مِنْ ذَوِي نَجْوَى، وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَقَ النَّجْوَى عَلَى الْأَشْخَاصِ الْمُتَنَاجِينَ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ انْخِفَاضُ ثَلَاثَةٍ بِإِضَافَةِ نَجْوَى إِلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ يَكُونُ انْخِفَاضُهَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ نَجْوَى أَوِ الصِّفَةِ لَهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: ثَلَاثَةٌ نَعْتٌ لِلنَّجْوَى فَانْخَفَضَتْ، وَإِنْ شِئْتَ أَضَفْتَ نَجْوَى إِلَيْهَا، وَلَوْ نَصَبْتَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ جَازَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ، وَيَجُوزُ رَفْعُ ثَلَاثَةٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ نَجْوَى إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْ: مَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا فِي حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، وَمَعْنَى رَابِعُهُمْ جَاعِلُهُمْ أَرْبَعَةً، وَكَذَا سَادِسُهُمْ جَاعِلُهُمْ سِتَّةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى تِلْكَ النَّجْوَى وَلا خَمْسَةٍ أَيْ: وَلَا نَجْوَى خَمْسَةٍ، وَتَخْصِيصُ الْعَدَدَيْنِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ أَغْلَبَ عَادَاتِ الْمُتَنَاجِينَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً أَوْ خَمْسَةً أَوْ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ النُّزُولِ فِي مُتَنَاجِينَ كَانُوا ثَلَاثَةً فِي مَوْضِعٍ وَخَمْسَةً فِي مَوْضِعٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَدَدُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَعَ كُلِّ عَدَدٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْجَهْرَ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْ: وَلَا أَقَلَّ مِنَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ: كَالْوَاحِدِ، وَالِاثْنَيْنِ، وَلَا أَكْثَرَ منه: كالستة والسبعة إلا هو يَعْلَمُ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ من شَيْءٌ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَلَا أَكْثَرَ» بِالْجَرِّ بِالْفَتْحَةِ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ نَجْوَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وابن إِسْحَاقَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرٌ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَسَلَامٌ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ نَجْوَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَلَا أَكْثَرَ» بِالْمُثَلَّثَةِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ بِالْمُوَحَّدَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودَ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوؤهم، فَيَحْزَنُونَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ وَكَثُرَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَتَنَاجَوْا دُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَادُوا إِلَى مُنَاجَاتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَمَعْنَى أَيْنَ مَا كانُوا إِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِكُلِّ تَنَاجٍ يَكُونُ مِنْهُمْ فِي أَيْ مَكَانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ أَيْ: يخبرهم بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ توبيخا وَتَبْكِيتًا وَإِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ كَائِنًا مَا كَانَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نُهُوا، ثُمَّ عَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ هُمْ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ مُوَاعَدَةٌ، فَإِذَا مَرَّ بِهِمُ الرَّجُلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَنَاجَوْا بَيْنَهُمْ حَتَّى يَظُنَّ الْمُؤْمِنُ شَرًّا فَنَهَاهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ

زَيْدٍ: كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْأَلُهُ الْحَاجَةَ وَيُنَاجِيهِ وَالْأَرْضُ يَوْمَئِذٍ حَرْبٌ، فَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ يُنَاجِيهِ فِي حَرْبٍ أَوْ بَلِيَّةٍ أَوْ أَمْرٍ مُهِمٍّ فَيَفْزَعُونَ لِذَلِكَ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يَتَنَاجَوْنَ» بِوَزْنِ يَتَفَاعَلُونَ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ وَوَرْشٌ عَنْ يَعْقُوبَ «وَيَنْتَجُونَ» بِوَزْنِ يَفْتَعِلُونَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ تَفَاعَلُوا وَافْتَعَلُوا يَأْتِيَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، نَحْوَ: تَخَاصَمُوا وَاخْتَصَمُوا، وَتَقَاتَلُوا وَاقْتَتَلُوا، وَمَعْنَى الْإِثْمِ مَا هُوَ إِثْمٌ فِي نَفْسِهِ كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ، وَالْعُدْوَانُ مَا فِيهِ عُدْوَانٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَمَعْصِيَةُ الرَّسُولِ مُخَالَفَتُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَمَعْصِيَةِ» بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ «وَمَعْصِيَاتِ» بالجمع. وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْيَهُودُ، كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ: السَّامُ عليك، يريدون ذلك السَّلَامَ ظَاهِرًا، وَهُمْ يَعْنُونَ الْمَوْتَ بَاطِنًا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «وَعَلَيْكُمْ» . وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أَيْ: هَلَّا يُعَذِّبُنَا بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَعَذَّبَنَا بِمَا يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُنَا مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَاسْتُجِيبَ لَهُ فِينَا حَيْثُ يَقُولُ: وَعَلَيْكُمْ، وَوَقَعَ عَلَيْنَا الْمَوْتُ عِنْدَ ذَلِكَ. حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عَذَابًا يَصْلَوْنَها يَدْخُلُونَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَيِ: الْمَرْجِعُ، وَهُوَ جَهَنَّمُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَهْيِ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ عَنِ النَّجْوَى أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا تَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ لَا يَتَنَاجَوْا بِمَا فِيهِ إِثْمٌ وَعُدْوَانٌ وَمَعْصِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَخَلَوَاتِهِمْ، فَقَالَ: وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى أَيْ: بِالطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، ثُمَّ خَوَّفَهُمْ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فَيَجْزِيَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ مِنَ التَّنَاجِي هُوَ مِنْ جِهَةِ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ: إِنَّمَا النَّجْوى يَعْنِي بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ مِنَ الشَّيْطانِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، أَيْ: مِنْ تَزْيِينِهِ وَتَسْوِيلِهِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: لِأَجْلِ أَنْ يُوقِعَهُمْ فِي الْحُزْنِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ التَّوَهُّمِ أَنَّهَا فِي مَكِيدَةٍ يُكَادُونَ بِهَا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً أَوْ: وَلَيْسَ الشَّيْطَانُ أَوِ التَّنَاجِي الَّذِي يُزَيِّنُهُ الشَّيْطَانُ بِضَارِّ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: بِمَشِيئَتِهِ، وَقِيلَ: بِعِلْمِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ: يَكِلُونَ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ، وَيُفَوِّضُونَهُ فِي جَمِيعِ شُؤُونِهِمْ، وَيَسْتَعِيذُونَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَا يُبَالُونَ بِمَا يُزَيِّنُهُ مِنَ النَّجْوَى. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّامُ عَلَيْكَ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ شَتْمَهُ، ثُمَّ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَوْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ

[سورة المجادلة (58) : الآيات 11 إلى 13]

هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، سَلَّمَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا، رُدُّوهُ عَلَيَّ، فَرَدُّوهُ، قَالَ: قُلْتَ السَّامُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: عَلَيْكَ، قَالَ: عَلَيْكَ ما قلت. قال: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» . وَأَخْرَجَ البخاري ومسلم وغير هما عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودُ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ لا يحب الفحش ولا المفتحش، قُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ السَّامَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو ما سمعتني أقول وعليكم؟ فأنزل الله: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَيَّوْهُ: سَامٌ عَلَيْكَ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً وَأَغْزَاهَا الْتَقَى الْمُنَافِقُونَ فَأَنْغَضُوا رُؤُوسَهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُونَ: قُتِلَ الْقَوْمُ، وَإِذَا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاجَوْا وَأَظْهَرُوا الْحُزْنَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَ المسلمين، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ البخاري ومسلم وغير هما عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، يطرقه أَمَرَ، أَوْ يَأْمُرُ بِشَيْءٍ، فَكَثُرَ أَهْلُ النُّوَبِ والمحتسبون ليلة حتى إذا كنا أندية نَتَحَدَّثُ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ النَّجْوَى؟ أَلَمْ تُنْهَوْا عَنِ النَّجْوَى؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي ذِكْرِ الْمَسِيحِ فَرَقًا مِنْهُ، فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ مِمَّا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْهُ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِمَكَانِ رَجُلٍ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هذا إسناد غريب، وفيه بعض الضعفاء. [سورة المجادلة (58) : الآيات 11 الى 13] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ يُقَالُ: فَسَحَ لَهُ يَفْسَحُ فَسْحًا، أَيْ: وُسَّعَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَلَدٌ فَسِيحٌ. أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالتَّوْسِعَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَعَدَمِ التَّضَايُقِ فِيهِ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُمِرُوا أَنْ يُفْسِحَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: هُوَ مَجْلِسُ الْقِتَالِ إِذَا اصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ كَانُوا يَتَشَاحُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَلَا يُوَسِّعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ رَغْبَةً فِي الْقِتَالِ لِتَحْصِيلِ الشَّهَادَةِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي: فوسّعوا

يُوَسِّعِ اللَّهُ لَكُمْ فِي الْجَنَّةِ، أَوْ فِي كُلِّ مَا تُرِيدُونَ التَّفَسُّحَ فِيهِ مِنَ الْمَكَانِ والرزق وغير هما، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تَفَسَّحُوا فِي الْمَجْلِسِ» وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَعَاصِمٌ فِي الْمَجالِسِ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «تَفَاسَحُوا» . قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْوَجْهُ التَّوْحِيدُ فِي الْمَجْلِسِ، لِأَنَّهُ يَعْنِي بِهِ مَجْلِسَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لِلْخَيْرِ وَالْأَجْرِ سَوَاءٌ كَانَ مَجْلِسَ حَرْبٍ، أَوْ ذِكْرٍ، أَوْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فإن كُلَّ وَاحِدٍ أَحَقُّ بِمَكَانِهِ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ يُوَسِّعُ لِأَخِيهِ مَا لَمْ يَتَأَذَّ بِذَلِكَ فَيُخْرِجُهُ الضِّيقُ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا: حَدِيثُ ابن عمر عند البخاري ومسلم وغير هما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: «لا يقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسْ فِيهِ» ، [وعنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر] «1» وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا» . وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الشِّينِ فِيهَا، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ بِضَمِّهَا فِيهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، يُقَالُ: نَشَزَ، أَيِ: ارْتَفَعَ، يَنْشُزُ وَيَنْشِزُ، كَعَكَفَ يَعْكُفُ وَيَعْكِفُ، وَالْمَعْنَى: إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْهَضُوا فَانْهَضُوا. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: أَيِ: انْهَضُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ: كَانَ رِجَالٌ يَتَثَاقَلُونَ عَنِ الصَّلَاةِ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ فَانْهَضُوا. وَقَالَ الْحَسَنُ: انْهَضُوا إِلَى الْحَرْبِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَذَا فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْشُزُوا فَإِنَّ لَهُ حَوَائِجَ فَلَا تَمْكُثُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى أَجِيبُوا إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْمَعْنَى: إِذَا قِيلَ لَكُمُ: انْهَضُوا إِلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فَانْهَضُوا وَلَا تَتَثَاقَلُوا وَلَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْعُمُومِ كَوْنُ السَّبَبِ خَاصًّا، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ الْحَقُّ، وَيَنْدَرِجُ مَا هُوَ سَبَبُ النُّزُولِ فِيهَا انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا، وَهَكَذَا يَنْدَرِجُ مَا فِيهِ السِّيَاقُ وَهُوَ التَّفْسِيحُ فِي الْمَجْلِسِ انْدِرَاجًا أوّليا، وقد قدّمنا أن معنى نشر ارْتَفَعَ، وَهَكَذَا يُقَالُ نَشَزَ يَنْشُزُ إِذَا تَنَحَّى عَنْ مَوْضِعِهِ، وَمِنْهُ امْرَأَةٌ نَاشِزٌ، أَيْ: مُتَنَحِّيَةٌ عَنْ زَوْجِهَا، وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّشْزِ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ وَتَنَحَّى، ذَكَرَ مَعْنَاهُ النَّحَّاسُ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتَوْفِيرِ نَصِيبِهِمْ فِيهِمَا وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أَيْ: وَيَرْفَعِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْكُمْ دَرَجَاتٍ عَالِيَةٍ فِي الْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ دَرَجَاتٍ وَيَرْفَعُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا دَرَجَاتٍ، فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ رَفَعَهُ اللَّهُ بِإِيمَانِهِ دَرَجَاتٍ ثُمَّ رَفَعَهُ بِعِلْمِهِ دَرَجَاتٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْعَلَمَ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ صَاحِبِ عِلْمٍ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الْآيَةِ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى فَضْلِهِ وَفَضْلِهِمْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ وَأَحَادِيثُ نَبَوِيَّةٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

_ (1) . من تفسير القرطبي (17/ 298) .

لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِالْخَيْرِ خَيْرًا وَبِالشَّرِّ شرّا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً الْمُنَاجَاةُ: الْمُسَارَرَةُ، وَالْمَعْنَى: إِذَا أَرَدْتُمْ مُسَارَرَةَ الرَّسُولِ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكُمْ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ مُسَارَرَتِكُمْ لَهُ صَدَقَةً. قَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَسْتَخْلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجُونَهُ، فَظَنَّ بِهِمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَهُمْ فِي النَّجْوَى، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالصَّدَقَةِ عِنْدَ النَّجْوَى لِتَقْطَعَهُمْ عَنِ اسْتِخْلَائِهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودَ كَانُوا يُنَاجُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ أُذُنٌ يَسْمَعُ كُلَّ مَا قِيلَ لَهُ، وَكَانَ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ مُنَاجَاتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يُلْقِي فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ نَاجَوْهُ بِأَنَّ جُمُوعًا اجْتَمَعَتْ لِقِتَالِهِ، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ «1» فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَانْتَهَى أَهْلُ الْبَاطِلِ عَنِ النَّجْوَى لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاهُمْ صَدَقَةً، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَامْتَنَعُوا عَنِ النَّجْوَى، لِضَعْفِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَنِ الصَّدَقَةِ فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ لِمَا فِيهِ من طاعة الله، وتقييد الأمر يكون امْتِثَالِهِ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ عَدَمِ الِامْتِثَالِ وَأَطْهَرَ لِنُفُوسِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ لَا أَمْرُ وُجُوبٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَعْنِي مَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَا يَجِدُ تِلْكَ الصَّدَقَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي النَّجْوَى بِدُونِ صَدَقَةٍ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أَيْ: أَخِفْتُمُ الْفَقْرَ وَالْعَيْلَةَ لِأَنْ تُقَدِّمُوا ذَلِكَ، وَالْإِشْفَاقُ: الْخَوْفُ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَبَخِلْتُمْ، وَجَمَعَ الصَّدَقَاتِ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْمُخَاطَبِينَ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ ثُمَّ نُسِخَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا كَانَ ذَلِكَ إِلَّا لَيْلَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا كَانَ إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى، وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ وَجَدَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ فَقَدْ تَقَدَّمَ التَّرْخِيصُ لَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِأَنْ رَخَّصَ لَكُمْ في الترك، «وإذ» عَلَى بَابِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُضِيِّ، وَقِيلَ: هي بِمَعْنَى إِنْ، وَتَابَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَمْ تَفْعَلُوا، أَيْ: وَإِذَا لَمْ تَفْعَلُوا وَإِذْ تَابَ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَالْمَعْنَى: إِذَا وَقَعَ مِنْكُمُ التَّثَاقُلُ عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى فَاثْبُتُوا عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَتُنْهَوْنَ عَنْهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَهُوَ مُجَازِيكُمْ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْصِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي امْتِثَالِ هَذَا الْأَمْرِ، أَمَّا الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُكَلَّفُوا بِالْمُنَاجَاةِ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ بَلْ أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ إِذَا أَرَادُوا الْمُنَاجَاةَ، فَمَنْ تَرَكَ الْمُنَاجَاةَ فَلَا يَكُونُ مُقَصِّرًا فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالصَّدَقَةِ، عَلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ النَّسْخُ قَبْلَ إِمْكَانِ الفعل، وليس هذا

_ (1) . المجادلة: 9.

الِاسْتِدْلَالُ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ النَّسْخَ لَمْ يَقَعْ إِلَّا بَعْدَ إِمْكَانِ الْفِعْلِ، وَأَيْضًا قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ الْبَعْضُ، فَتَصَدَّقَ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاهُ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فِي الصُّفَّةِ، وَفِي الْمَكَانِ ضِيقٌ وَكَانَ يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ سُبِقُوا إِلَى الْمَجَالِسِ فَقَامُوا حِيَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ سَلَّمُوا عَلَى الْقَوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَقَامُوا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقِيَامِ، فَلَمْ يُفْسَحْ لَهُمْ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَدْرٍ: قُمْ يَا فُلَانُ وَأَنْتَ يَا فُلَانُ، فَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُهُمْ بِعِدَّةِ النَّفَرِ الَّذِينَ هُمْ قِيَامٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقِتَالِ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا قَالَ: إِلَى الْخَيْرِ وَالصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ قَالَ: يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا دَرَجَاتٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآية قال: يرفع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَأُوتُوا الْعِلْمَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُؤْتَوُا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: مَا خَصَّ اللَّهُ الْعُلَمَاءَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ مَا خَصَّهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَضَّلَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَأُوتُوا الْعِلْمَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُؤْتَوُا الْعِلْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ الْآيَةَ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُوا الْمَسَائِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ ضَنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَفُّوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا أَأَشْفَقْتُمْ الْآيَةَ، فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُضَيِّقْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَى دِينَارًا؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ: فَنِصْفَ دِينَارٍ؟ قُلْتُ لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ: فَكَمْ؟ قُلْتُ: شَعِيرَةٌ، قَالَ: إِنَّكَ لَزَهِيدٌ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الْآيَةَ، فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» وَالْمُرَادُ بِالشَّعِيرَةِ هُنَا وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَاحِدَةً مِنْ حَبِّ الشَّعِيرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ غَيْرِي حَتَّى نُسِخَتْ، وَمَا كَانَتْ إِلَّا سَاعَةً: يَعْنِي آيَةَ النَّجْوَى. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَآيَةً مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بعدي آية النجوى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً كَانَ عِنْدِي دِينَارٌ فَبِعْتُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَكُنْتُ كُلَّمَا نَاجَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمْتُ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَايَ دِرْهَمًا، ثُمَّ نُسِخَتْ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ، فَنَزَلَتْ:

[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 إلى 22]

أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قال: «نزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً فَقَدَّمْتُ شَعِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَزَهِيدٌ» ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ» . [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 22] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً أَيْ: وَالَوْهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُمُ الْيَهُودُ تُوَلَّوُا الْمُنَافِقِينَ، وَيَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فإن المغضوب عليهم هم الْيَهُودُ، وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ: مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ فَإِنَّ هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ «1» وَجُمْلَةُ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ أَيْ: يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، أَوْ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مَا نَقَلُوا الْأَخْبَارَ إِلَى الْيَهُودِ، وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى تَوَلَّوْا دَاخِلَةٌ فِي حكم التعجب مِنْ فِعْلِهِمْ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بُطْلَانَ مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَذِبٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً بِسَبَبِ هَذَا التَّوَلِّي وَالْحَلِفِ عَلَى الْبَاطِلِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَيْمَانَهُمْ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، جَمْعُ يَمِينٍ، وَهِيَ مَا كَانُوا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَذِبِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَوَقِّيًا مِنَ الْقَتْلِ، فَجَعَلُوا هَذِهِ الْأَيْمَانَ وِقَايَةً وَسُتْرَةً دُونَ دِمَائِهِمْ، كَمَا يَجْعَلُ الْمُقَاتِلُ الْجُنَّةَ وِقَايَةً لَهُ مِنْ أَنْ يُصَابَ بِسَيْفٍ أَوْ رُمْحٍ أَوْ سَهْمٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: «إِيمَانَهُمْ» بكسر الهمزة، أي: جعلوا تَصْدِيقَهُمْ جُنَّةً مِنَ الْقَتْلِ، فَآمَنَتْ أَلْسِنَتُهُمْ مِنْ خَوْفِ الْقَتْلِ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: مَنَعُوا النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ التَّثْبِيطِ، وَتَهْوِينِ أمر المسلمين، وتضعيف

_ (1) . النساء 143.

شَوْكَتِهِمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَصَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ قِتَالِهِمْ بِسَبَبِ إِظْهَارِهِمْ لِلْإِسْلَامِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ: يُهِينُهُمْ وَيُخْزِيهِمْ، قِيلَ: هُوَ تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَهَذَا عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَلَا وَجْهَ للقول بالتكرار، فَإِنَّ الْعَذَابَ الْمَوْصُوفَ بِالشِّدَّةِ غَيْرُ الْعَذَابِ الْمَوْصُوفِ بِالْإِهَانَةِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهِ شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يُنْصَرُ يوم القيامة لقد شقينا إذا! فو الله لَنُنْصَرَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَوْلَادِنَا إِنْ كانت قيامة، فنزلت الآية أُولئِكَ الموصوف بِمَا ذُكِرَ أَصْحابُ النَّارِ لَا يُفَارِقُونَهَا هُمْ فِيها خالِدُونَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: مُهِينٌ، أَوْ بِمُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي: يحلفون الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْكَذِبِ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مِنْ شِدَّةِ شَقَاوَتِهِمْ وَمَزِيدِ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدِ انْكَشَفَتِ الْحَقَائِقُ وَصَارَتِ الْأُمُورُ مَعْلُومَةً بِضَرُورَةِ الْمُشَاهَدَةِ، فكيف يجترءون عَلَى أَنْ يَكْذِبُوا فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَيْ: يَحْسَبُونَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهُمْ بِتِلْكَ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَجْلِبُ نَفْعًا، أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا، كَمَا كَانُوا يَحْسَبُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْكَذِبِ، الْمُتَهَالِكُونَ عَلَيْهِ، الْبَالِغُونَ فِيهِ إِلَى حَدٍّ لَمْ يَبْلُغْ غَيْرَهُمْ إِلَيْهِ بِإِقْدَامِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أَيْ: غَلَبَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَعْلَى وَاسْتَوْلَى. قَالَ الْمُبَرِّدُ: اسْتَحْوَذَ عَلَى الشَّيْءِ: حَوَاهُ وَأَحَاطَ بِهِ، وَقِيلَ: قَوِيَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: جَمَعَهُمْ، يُقَالُ: أَحْوَذَ الشَّيْءَ، أَيْ: جَمَعَهُ وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا جَمَعَهُمْ فَقَدْ قَوِيَ عَلَيْهِمْ وَغَلَبَهُمْ وَاسْتَعْلَى عَلَيْهِمْ وَاسْتَوْلَى وَأَحَاطَ بِهِمْ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أَيْ: أَوَامِرَهُ وَالْعَمَلَ بِطَاعَتِهِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: زَوَاجِرَهُ فِي النَّهْيِ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَذْكُرُوهُ بِقُلُوبِهِمْ وَلَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَذْكُورِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَيْ: جُنُودُهُ وَأَتْبَاعُهُ وَرَهْطُهُ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْخُسْرَانِ، حَتَّى كَأَنَّ خُسْرَانَ غَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُسْرَانِهِمْ لَيْسَ بِخُسْرَانٍ لِأَنَّهُمْ بَاعُوا الْجَنَّةَ وَالْهُدَى بِالضَّلَالَةِ، وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَعَلَى نَبِيِّهِ، وَحَلَفُوا الْأَيْمَانَ الْفَاجِرَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْمُحَادَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أَيْ: أُولَئِكَ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، الْمُتَّصِفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أذلّه الله من الأمم السابقة واللاحقة لأنهم لَمَّا حَادُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَارُوا مِنَ الذُّلِّ بِهَذَا الْمَكَانِ. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ الذُّلَّ فِي الدُّنْيَا وَالْخِزْيَ فِي الْآخِرَةِ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا مَعَ كَوْنِهِمْ فِي الْأَذَلِّينَ، أَيْ: كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقَضَى فِي سَابِقِ عِلْمِهِ: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي بِالْحُجَّةِ وَالسَّيْفِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى غَلَبَةِ الرُّسُلِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِالْحَرْبِ فَهُوَ غَالِبٌ فِي الْحَرْبِ، وَمَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ الْحَرْبِ فَهُوَ غَالِبٌ بِالْحُجَّةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَتَبَ بِمَعْنَى قَالَ، وَقَوْلُهُ: «أَنَا» تَوْكِيدٌ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ قَوْلِ الزَّجَّاجِ. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ فَهُوَ قَوِيٌّ عَلَى نَصْرِ أَوْلِيَائِهِ، غَالِبٌ لِأَعْدَائِهِ، لَا يَغْلِبُهُ أَحَدٌ

لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، أَيْ: يُحِبُّونَ وَيُوَالُونَ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَشَاقَّهُمَا، وَجُمْلَةُ «يُوَادُّونَ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي لتجد إِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ إِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، أَوْ صِفَةٌ أُخْرَى لِ «قَوْمًا» ، أَيْ: جَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْمُوَادَّةِ لِمَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أَيْ: وَلَوْ كَانَ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهُ آبَاءَ الْمُوَادِّينَ إِلَخْ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَزْجُرُ عَنْ ذَلِكَ وَيَمْنَعُ مِنْهُ، وَرِعَايَتُهُ أَقْوَى مِنْ رِعَايَةِ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ وَالْعَشِيرَةِ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ يَعْنِي الّذي لَا يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَعْنَى كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ خَلَقَهُ، وَقِيلَ: أَثْبَتَهُ، وَقِيلَ: جَعَلَهُ، وَقِيلَ: جَمَعَهُ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أَيْ: قَوَّاهُمْ بِنَصْرٍ مِنْهُ عَلَى عَدُوِّهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَسَمَّى نَصْرَهُ لَهُمْ رُوحًا لِأَنَّ بِهِ يَحْيَا أَمْرُهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ نُورٌ الْقَلْبِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: بِالْقُرْآنِ وَالْحُجَّةِ، وَقِيلَ: بِجِبْرِيلَ، وَقِيلَ: بِالْإِيمَانِ، وَقِيلَ: بِرَحْمَةٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «كَتَبَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْإِيمَانَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ الْإِيمَانَ عَلَى النِّيَابَةِ. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: «عَشِيرَاتُهُمْ» بِالْجَمْعِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْأَبَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَيْ: قَبِلَ أَعْمَالَهُمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ آثَارَ رَحْمَتِهِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ وَرَضُوا عَنْهُ أَيْ: فَرِحُوا بِمَا أَعْطَاهُمْ عَاجِلًا وَآجِلًا أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَيْ: جُنْدُهُ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ أَوَامِرَهُ وَيُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَهُ وَيَنْصُرُونَ أَوْلِيَاءَهُ، وَفِي إِضَافَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَشْرِيفٌ لَهُمْ عَظِيمٌ وَتَكْرِيمٌ فَخِيمٌ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْفَائِزُونَ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الْكَامِلُونَ فِي الْفَلَاحِ الَّذِينَ صَارَ فَلَاحُهُمْ هُوَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ، حَتَّى كَانَ فَلَاحُ غَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَلَاحِهِمْ ك: لا فَلَاحٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِهِ، وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ فَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ بِعَيْنِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا جَاءَكُمْ فَلَا تُكَلِّمُوهُ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَقَالَ حِينَ رَآهُ: عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: ذَرْنِي آتِيكَ بِهِمْ، فَحَلَفُوا وَاعْتَذَرُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الْآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: جَعَلَ وَالِدُ أبي عبيدة بن الجراح يتقصّاه، لِأَبِي عُبَيْدَةَ، يَوْمَ بَدْرٍ، وَجَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَحِيدُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ قَصَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَقَتَلَهُ، فَنَزَلَتْ: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية.

سورة الحشر

سورة الحشر وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْحَشْرِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ، قَالَ: سُورَةُ النَّضِيرِ يَعْنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) قَوْلُهُ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ هُمْ بَنُو النَّضِيرِ، وَهُمْ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ، نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فِي فِتَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ انْتِظَارًا مِنْهُمْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَدَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ عَاهَدُوهُ، وَصَارُوا عَلَيْهِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَضُوا بِالْجَلَاءِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا أَوَّلَ مَنْ أُجْلِيَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ أُجْلِيَ آخِرُهُمْ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَانَ جَلَاؤُهُمْ أَوَّلَ حَشْرٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَآخِرَ حَشْرٍ إِجْلَاءُ عُمَرَ لَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ الْحَشْرِ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ إِلَى خَيْبَرَ، وَآخِرَ الْحَشْرِ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى الشَّامِ. وَقِيلَ: آخِرُ الْحَشْرِ هُوَ حَشْرُ جَمِيعِ النَّاسِ إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ الشَّامُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: مَنْ شَكَّ أَنَّ الْمَحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الشَّامِ فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: اخْرُجُوا، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْحَشْرُ أَوَّلُ وَأَوْسَطُ

وَآخِرُ، فَالْأَوَّلُ إِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وَالْأَوْسَطُ إِجْلَاءُ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَالْآخِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ هُمْ بَنُو النَّضِيرِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَهُوَ غَلَطٌ. فَإِنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ مَا حُشِرُوا، بَلْ قُتِلُوا بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا رَضُوا بِحُكْمِهِ، فَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَتُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ. وَاللَّامُ فِي «لِأَوَّلِ الْحَشْرِ» مُتَعَلِّقَةٌ بِ «أَخْرَجَ» ، وَهِيَ لام التوقيت، كقوله: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا هَذَا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، أَيْ: مَا ظَنَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ يَخْرُجُونَ مِنْ دِيَارِهِمْ لِعِزَّتِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ حُصُونٍ مَانِعَةٍ وَعَقَارٍ وَنَخِيلٍ وَاسِعَةٍ، وَأَهْلَ عَدَدٍ وَعُدَّةٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أَيْ: وَظَنَّ بَنُو النَّضِيرِ أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ «ما نعتهم» خبر مقدّم، و «حصونهم» مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ «أَنَّهُمْ» ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون «ما نعتهم» خبر «أنهم» ، و «حصونهم» فاعل «ما نعتهم» . وَرَجَّحَ الثَّانِيَ أَبُو حَيَّانَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أَيْ: أَتَاهُمْ أَمْرُ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ أَمْرُهُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ وَكَانُوا لَا يَظُنُّونَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ قَتْلُ رَئِيسِهِمْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ، فَإِنَّ قَتْلَهُ أَضْعَفَ شَوْكَتَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «أَتَاهُمْ» وَ «لَمْ يَحْتَسِبُوا» لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: فَأَتَاهُمْ نَصْرُ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَإِنَّ قَذْفَ الرُّعْبِ كَانَ فِي قُلُوبِ بَنِي النَّضِيرِ، لَا فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الرُّعْبُ: الْخَوْفُ الَّذِي يُرْعِبُ الصَّدْرَ، أَيْ: يَمْلَؤُهُ، وَقَذْفُهُ: إِثْبَاتُهُ فِيهِ. وَقِيلَ: كَانَ قَذْفُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ بِقَتْلِ سَيِّدِهِمْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَالْأَوْلَى عَدَمُ تَقْيِيدِهِ بِذَلِكَ وَتَفْسِيرِهِ بِهِ، بَلِ الْمُرَادُ بِالرُّعْبِ الَّذِي قَذَفَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» . يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَيْقَنُوا بِالْجَلَاءِ حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْكُنُوا مَنَازِلَهُمْ، فَجَعَلُوا يُخْرِبُونَهَا مِنْ دَاخِلٍ، وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ خَارِجٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُخَرِّبُونَ مِنْ خَارِجٍ لِيَدْخُلُوا، وَالْيَهُودُ مِنْ دَاخِلٍ لِيَبْنُوا بِهِ مَا خُرِّبَ مِنْ حِصْنِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى تَخْرِيبِهَا بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ عَرَّضُوهَا لِذَلِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُخْرِبُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِنَّمَا اخْتَرْتُ الْقِرَاءَةَ بِالتَّشْدِيدِ، لِأَنَّ الْإِخْرَابَ تَرْكُ الشَّيْءِ خَرَابًا، وَإِنَّمَا خَرَّبُوهَا بِالْهَدْمِ. وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِمُسَلَّمٍ، فَإِنَّ التَّخْرِيبَ وَالْإِخْرَابَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ مَعْنَى فَعَّلْتَ وَأَفْعَلْتَ يتعاقبان، نحو: أخبرته وخبّرته، وأفرحته وَفَرَّحْتَهُ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمَّا صَالَحَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ كَانُوا يَسْتَحْسِنُونَ الْخَشَبَةَ أَوِ الْعَمُودَ فَيَهْدِمُونَ بُيُوتَهُمْ، وَيَحْمِلُونَ ذَلِكَ عَلَى إِبِلِهِمْ، وَيُخَرِّبُ الْمُؤْمِنُونَ بَاقِيَهَا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا: يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ بِنَقْضِ الْمُعَاهَدَةِ، وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُقَاتَلَةِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: بِأَيْدِيهِمْ فِي تَرْكِهِمْ لَهَا، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِي إِجْلَائِهِمْ عَنْهَا، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا فَعَلُوهُ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ فَاعْتَبِرُوا يا

أُولِي الْأَبْصارِ أَيِ: اتَّعِظُوا وَتَدَبَّرُوا وَانْظُرُوا فِيمَا نَزَلَ بِهِمْ يَا أَهْلَ الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمَعْنَى الِاعْتِبَارِ: النَّظَرُ فِي الْأُمُورِ لِيُعْرَفَ بِهَا شَيْءٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِهَا وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا أَيْ: لَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجَ مِنْ أَوْطَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ وَقَضَى بِهِ عَلَيْهِمْ لَعَذَّبَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ فِي الدُّنْيَا كَمَا فَعَلَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ. وَالْجَلَاءُ: مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ، يُقَالُ: جَلَا بِنَفْسِهِ جَلَاءً، وَأَجْلَاهُ غَيْرُهُ إِجْلَاءً. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَلَاءِ وَالْإِخْرَاجِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا فِي الْإِبْعَادِ وَاحِدًا، مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْجَلَاءَ مَا كَانَ مَعَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَالْإِخْرَاجَ قَدْ يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ. الثَّانِي: أَنَّ الْجَلَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِجَمَاعَةٍ، وَالْإِخْرَاجَ يَكُونُ لِجَمَاعَةٍ وَلِوَاحِدٍ، كَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِجَوَابِ لَوْلَا، مُتَضَمِّنَةٌ لِبَيَانِ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ وَإِنْ نَجَوْا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْجَلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ: بِسَبَبِ الْمُشَاقَّةِ مِنْهُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِعَدَمِ الطَّاعَةِ، وَالْمَيْلِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَنَقْضِ الْعَهْدِ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ اقتصرها هنا عَلَى مُشَاقَّةِ اللَّهِ، لِأَنَّ مُشَاقَّتَهُ مُشَاقَّةٌ لِرَسُولِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُشَاقِّ بِالْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مصرّف ومحمد بن السّميقع يُشَاقِقُ بِالْفَكِّ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ بَعْضَ الْمُهَاجِرِينَ وَقَعُوا فِي قَطْعِ النَّخْلِ فَنَهَاهُمْ بَعْضُهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هِيَ مَغَانِمُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ الَّذِينَ قَطَعُوا: بَلْ هُوَ غَيْظٌ لِلْعَدُوِّ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِ النَّخْلِ وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَهُ مِنَ الْإِثْمِ، فَقَالَ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّهُمْ قَطَعُوا مِنْ نَخِيلِهِمْ وَأَحْرَقُوا سِتَّ نخلات. وقال محمد بن إسحاق: قَطَعُوا نَخْلَةً وَأَحْرَقُوا نَخْلَةً، فَقَالَ بَنُو النَّضِيرِ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيٌّ تُرِيدُ الصَّلَاحَ، أَفَمِنَ الصَّلَاحِ قَطْعُ النَّخْلِ وَحَرْقُ الشَّجَرِ؟ وَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ إِبَاحَةَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَيُّ شَيْءٍ قَطَعْتُمْ مِنْ ذَلِكَ أَوْ تَرَكْتُمْ فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَالضَّمِيرُ فِي تَرَكْتُمُوها عَائِدٌ إِلَى مَا لِتَفْسِيرِهَا بِاللِّينَةِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: قائِمَةً عَلى أُصُولِها وَمَعْنَى عَلَى أُصُولِهَا: أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ اللِّينَةِ، فَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْخَلِيلُ: إِنَّهَا النَّخْلُ كُلُّهُ إِلَّا الْعَجْوَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهَا النَّخْلُ كُلُّهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ عَجْوَةً وَلَا غَيْرَهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هِيَ كِرَامُ النَّخْلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ التَّمْرِ سِوَى الْعَجْوَةِ وَالْبَرْنِيِّ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: إِنَّهَا الْعَجْوَةُ خَاصَّةً، وَقِيلَ: هِيَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ، يُقَالُ لِتَمْرِهِ: اللَّوْنُ، تَمْرُهُ أَجْوَدُ التَّمْرِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ الدَّقَلُ، وَأَصْلُ اللِّينَةِ لِوْنَةٌ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَجَمْعُ اللِّينَةِ: لِينٌ، وَقِيلَ: لِيَانٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ وَلَا تَرَكْتُمْ قَوْمًا عَلَى أُصُولِهَا» أَيْ: قَائِمَةً عَلَى سُوقِهَا، وَقُرِئَ: «عَلَى أَصْلِهَا» وَقُرِئَ: «قَائِمًا عَلَى أُصُولِهِ» . وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أَيْ: لِيُذِلَّ الْخَارِجِينَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَهُمُ الْيَهُودُ، وَيَغِيظَهُمْ فِي قَطْعِهَا وَتَرْكِهَا لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوُا الْمُؤْمِنِينَ يَتَحَكَّمُونَ فِي أموالهم كيف شاؤوا مِنَ الْقَطْعِ وَالتَّرْكِ ازْدَادُوا غَيْظًا. قَالَ الزَّجَّاجُ:

وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ بِأَنْ يُرِيَهُمْ أَمْوَالَهُمْ يَتَحَكَّمُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ كَيْفَ أَحَبُّوا مِنْ قَطْعٍ وَتَرْكٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ أَذِنَ فِي ذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَعَلَى تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالْبَحْثُ مُسْتَوْفًى فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أَيْ: مَا رَدَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ، يُقَالُ: فَاءَ يَفِيءُ إِذَا رَجَعَ، وَالضَّمِيرُ فِي «مِنْهُمْ» عَائِدٌ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ يُقَالُ: وَجَفَ الْفَرَسُ وَالْبَعِيرُ يَجِفُ وَجْفًا: وَهُوَ سُرْعَةُ السَّيْرِ، وَأَوْجَفَهُ صَاحِبُهُ: إِذَا حَمَلَهُ عَلَى السَّيْرِ السَّرِيعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ تَمِيمِ بْنِ مُقْبِلٍ: مَذَاوِيدُ بِالْبِيضِ الْحَدِيثِ صِقَالُهَا ... عَنِ الرَّكْبِ أَحْيَانًا إِذَا الرَّكْبُ أَوْجَفُوا وَقَالَ نُصَيْبٌ: أَلَا رُبَّ رَكْبٍ قَدْ قَطَعْتُ وَجِيفَهُمْ ... إِلَيْكَ ولولا أنت لم يوجف الرّكب وما فِي فَما أَوْجَفْتُمْ نَافِيَةٌ، وَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ إِنْ كَانَتْ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا أَفاءَ اللَّهُ شرطية، وإن كانت موصولة فالفاء زائدة. ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خَيْلٍ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالرِّكَابُ: مَا يُرْكَبُ مِنَ الْإِبِلِ خَاصَّةً، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا رَدَّ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ لَمْ تَرْكَبُوا لِتَحْصِيلِهِ خَيْلًا وَلَا إِبِلًا، وَلَا تَجَشَّمْتُمْ لَهَا شُقَّةً، وَلَا لَقِيتُمْ بِهَا حَرْبًا وَلَا مَشَقَّةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مِيلَيْنِ، فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنَّهُ افْتَتَحَهَا صُلْحًا وَأَخَذَ أَمْوَالَهَا، وَقَدْ كَانَ سَأَلَهُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُقَسِّمَ لَهُمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ كَانَتْ خَاصَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَصْحَابِهِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُوجِفُوا عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، بَلْ مَشَوْا إِلَيْهَا مَشْيًا، وَلَمْ يُقَاسُوا فِيهَا شَيْئًا مِنْ شَدَائِدِ الْحُرُوبِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُسَلِّطُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ أَرَادَ، وَيُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» وما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى هَذَا بَيَانٌ لِمَصَارِفِ الْفَيْءِ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَالتَّكْرِيرُ لِقَصْدِ التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ، وَوُضِعَ أَهْلُ الْقُرَى مَوْضِعَ قَوْلِهِ: مِنْهُمْ أَيْ: مِنْ بَنِيَ النَّضِيرِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِبَنِي النَّضِيرِ وَحْدَهُمْ، بَلْ هُوَ حُكْمٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ يَفْتَحُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُلْحًا، وَلَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالْقُرَى: بَنُو النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةُ وَفَدْكُ وَخَيْبَرُ. وَقَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا؟ هَلْ مَعْنَاهُمَا مُتَّفِقٌ أَوْ مُخْتَلِفٌ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا مُتَّفِقٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقِيلَ: مُخْتَلِفٌ، وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ طَوِيلٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا إِشْكَالَ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ. أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَهِيَ خَاصَّةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم خالصة لَهُ، وَهِيَ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ وَمَا كَانَ مِثْلَهَا. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ بِمُسْتَحَقٍّ غَيْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنِ اشْتَرَكَتْ هِيَ وَالْأَوْلَى فِي أَنَّ كل واحدة منهما تضمنت

_ (1) . الأنبياء: 23. [.....]

شَيْئًا أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَاقْتَضَتِ الْآيَةُ أَنَّهُ حَاصِلٌ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَاقْتَضَتْ آيَةُ الْأَنْفَالِ، وَهِيَ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ، أَنَّهُ حَاصِلٌ بِقِتَالٍ، وَعَرِيَتِ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى عَنْ ذِكْرِ حُصُولِهِ بِقِتَالٍ أَوْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَنَشَأَ الْخِلَافُ من ها هنا فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْأُولَى، وَهِيَ مَالُ الصُّلْحِ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالثَّالِثَةِ وَهِيَ آيَةُ الْأَنْفَالِ. وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُحْكَمَةٌ، هَذَا مَعْنَى حَاصِلِ كَلَامِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ خَاصَّةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْآيَةَ الثَّانِيَةَ هِيَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَيَعْنِي أَنَّ مَعْنَاهَا يَعُودُ إِلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ سَبِيلَ خُمْسِ الْفَيْءِ سَبِيلُ خُمْسِ الْغَنِيمَةِ، وَأَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وهي بعده لمصالح الْمُسْلِمِينَ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ أَنَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ بِمَا يَشَاءُ وَلِلرَّسُولِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ وَلِذِي الْقُرْبى وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ مُنِعُوا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَجُعِلَ لَهُمْ حَقًّا فِي الْفَيْءِ. قِيلَ: تَكُونُ الْقِسْمَةُ فِي هَذَا الْمَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخُمُسُهُ يُقَسَّمُ أَخْمَاسًا: لِلرَّسُولِ خُمُسٌ، وَلِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ خُمُسٌ، وَقِيلَ: يُقَسَّمُ أَسْدَاسًا. السَّادِسُ: سَهْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيُصْرَفُ إِلَى وُجُوهِ الْقُرَبِ كَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أَيْ: كَيْلَا يَكُونَ الْفَيْءُ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ دُونَ الْفُقَرَاءِ، وَالدُّولَةُ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ يَتَدَاوَلُهُ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ، يَكُونُ لِهَذَا مَرَّةً، وَلِهَذَا مَرَّةً. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَغْلِبُ الْأَغْنِيَاءُ الْفُقَرَاءَ فَيُقَسِّمُونَهُ بَيْنَهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَكُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ دُولَةً بِالنَّصْبِ، أَيْ: كَيْلَا يَكُونَ الْفَيْءُ دُولَةً. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ وهشام وأبو حيوة تَكُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ دُولَةٌ بِالرَّفْعِ، أَيْ: كَيْلَا تَقَعَ أو توجد دولة، وكان تَامَّةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ دُولَةً بِضَمِّ الدَّالِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَالسُّلَمِيُّ بِفَتْحِهَا. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَيُونُسُ وَالْأَصْمَعِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الدَّوْلَةُ بِالْفَتْحِ الَّذِي يُتَدَاوَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَبِالضَّمِّ الْفِعْلُ. وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أَيْ: مَا أَعْطَاكُمْ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْ أَخْذِهِ فَانْتَهُوا عَنْهُ وَلَا تَأْخُذُوهُ. قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: مَا أَعْطَاكُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ فَاقْبَلُوهُ، وَمَا مَنَعَكُمْ مِنْهُ فَلَا تَطْلُبُوهُ. وقال ابن جريج: مَا آتَاكُمْ مِنْ طَاعَتِي فَافْعَلُوا، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِي فَاجْتَنِبُوهُ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَأْتِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَتَانَا بِهِ مِنَ الشَّرْعِ فَقَدْ أَعْطَانَا إِيَّاهُ وَأَوْصَلَهُ إِلَيْنَا، وَمَا أَنْفَعَ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَكْثَرَ فَائِدَتَهَا. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِأَخْذِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ، وَتَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، أَمَرَهُمْ بِتَقْوَاهِ، وَخَوَّفَهُمْ شِدَّةَ عُقُوبَتِهِ، فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فَهُوَ مُعَاقِبٌ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مَا آتَاهُ الرَّسُولُ وَلَمْ يَتْرُكْ مَا نَهَاهُ عَنْهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ وَنَخْلُهُمْ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ.

فَحَاصَرَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلَاءِ، وَعَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ إِلَّا الْحَلْقَةَ، يَعْنِي السِّلَاحَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَقَاتَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَالَحَهُمْ عَلَى الْإِجْلَاءِ وَجَلَّاهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَكَانُوا مِنْ سِبْطٍ لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ فِيمَا خَلَا، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ فَكَانَ إِجْلَاؤُهُمْ ذَلِكَ أَوَّلَ حَشْرٍ فِي الدُّنْيَا إِلَى الشَّامِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَنْ شَكَّ أَنَّ الْمَحْشَرَ بِالشَّامِ فَلْيَقْرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: «اخْرُجُوا، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَاصَرَهُمْ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ، فَأَعْطَوْهُ مَا أَرَادَ مِنْهُمْ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، وَأَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، وَأَنْ يَسِيرُوا إِلَى أَذْرِعَاتِ الشَّامِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا وَسِقَاءً. وَفِي الْبُخَارِيِّ ومسلم وغير هما عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وقطع، وهي البويرة «1» ، ولها يقول حسان: فهان عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبِوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: اللِّينَةُ النَّخْلَةُ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ قَالَ: اسْتَنْزَلُوهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ، وَأَمَرُوا بِقَطْعِ النَّخْلِ، فَحَكَّ فِي صُدُورِهِمْ «2» ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: قَدْ قَطَعْنَا بَعْضًا وَتَرَكْنَا بَعْضًا، فَلْنَسْأَلُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لنا فيما قطعنا من أَجْرٌ؟ وَهَلْ عَلَيْنَا فِيمَا تَرَكْنَا مِنْ وِزْرٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ الْآيَةَ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ، وَالْكَلَامُ فِي صُلْحِ بَنِي النَّضِيرِ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ ومسلم وغير هما عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَمِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْهَا نَفَقَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ فجعل ما أصاب رسوله الله يَحْكُمُ فِيهِ مَا أَرَادَ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ خَيْلٌ وَلَا رِكَابٌ يُوجَفُ بِهَا. قَالَ: وَالْإِيجَافُ: أن يوضعوا السير، وهي لرسول الله، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ خَيْبَرُ وَفَدْكُ وَقُرَى عُرَيْنَةَ «3» . وَأُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يعمد لينبع،

_ (1) . هي مكان بين المدينة وتيماء، من جهة مسجد قباء إلى جهة الغرب. (2) . حكّ الشيء في النفس: إذا لم يكن الإنسان منشرح الصّدر به، وكان في قلبه منه شيء من الشك والريب، وأوهم أنه ذنب وخطيئة. (3) . في الدر المنثور (8/ 100) : عربية.

[سورة الحشر (59) : الآيات 8 إلى 10]

فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتَوَاهَا كُلَّهَا، فَقَالَ نَاسٌ: هَلَّا قَسَّمَهَا اللَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهُ فَقَالَ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ مَا أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ الَّذِي لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيبَةَ وَالْوَطِيحَ وَسَلَالِمَ ووخدة، وَكَانَ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ الشِّقَّ، وَالشِّقُّ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَنَطَاةَ «1» خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَلَمْ يُقَسِّمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا لِمَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ. وَلَمْ يَأْذَنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَخَلَّفَ عَنْهُ عِنْدَ مَخْرَجِهِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ خَيْبَرَ إِلَّا جَابِرَ بْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفَايَا «2» فِي النَّضِيرِ وَخَيْبَرَ وَفَدْكَ فَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَتْ حَبْسًا لِنَوَائِبِهِ، وَأَمَّا فَدْكُ فَكَانَتْ لِابْنِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا خَيْبَرُ فَجَزَّأَهَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: قَسَّمَ مِنْهَا جُزْءَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحَبَسَ جُزْءًا لِنَفْسِهِ وَلِنَفَقَةِ أَهْلِهِ، فَمَا فَضَلَ عَنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ رَدَّهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي الْأَمْوَالِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُسْلِمٌ إِلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ حَقٌّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَأَخْرَجَ البخاري ومسلم وغير هما عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ» فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتِ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ، قَالَ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ الله؟ قالت: لقد قرأت الدَّفَّتَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ هَذَا، قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِهِ لَقَدْ وَجَدْتِهِ، أَمَا قرأت وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عنه» . [سورة الحشر (59) : الآيات 8 الى 10] لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) قَوْلُهُ: لِلْفُقَراءِ قِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ لِذِي الْقُرْبى وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الرَّسُولِ وَمَا بَعْدَهُ لِئَلَّا يَسْتَلْزِمَ وَصْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بالفقر، وقيل: التقدير كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً وَلَكِنْ يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: اعْجَبُوا لِلْفُقَرَاءِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ للفقراء، أي:

_ (1) . «النّطاة» : علم لخيبر، أو حصن بها. (2) . «الصفايا» : جمع صفي، وهو ما يصطفيه صلّى الله عليه وسلّم من عرض الغنيمة من شيء قبل أن يخمس: عبد أو جارية أو فرس أو سيف أو غيرها- وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم مخصوصا بذلك مع الخمس الّذي كان له خاصة.

شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْكَفَّارِ بِسَبَبِ الْفُقَرَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا مَضَى بِتَقْدِيرِ الْوَاوِ، كَمَا تَقُولُ: الْمَالَ لِزَيْدٍ لِعَمْرٍو لِبَكْرٍ، وَالْمُرَادُ بِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغْبَةً فِي الدِّينِ وَنُصْرَةً لَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ هُمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الدِّيَارَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَهْلِينَ، وَمَعْنَى أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ أَخْرَجُوهُمْ مِنْهَا وَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ، وَكَانُوا مِائَةَ رَجُلٍ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أَيْ: يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا، وَبِالرِّضْوَانِ فِي الْآخِرَةِ وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِالْجِهَادِ لِلْكُفَّارِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «يَبْتَغُونَ» ، وَمَحَلُّ الْجُمْلَتَيْنِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، الْأُولَى مُقَارِنَةً، وَالثَّانِيَةُ مُقَدَّرَةً، أَيْ: نَاوِينَ لِذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مُقَارِنَةً لِأَنَّ خُرُوجَهُمْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ نُصْرَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ اتِّصَافِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ هُمُ الصَّادِقُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الصِّدْقِ، الرَّاسِخُونَ فِيهِ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ مَدْحِ الْمُهَاجِرِينَ مَدَحَ الأنصار فقال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمُرَادُ بِالدَّارِ الْمَدِينَةُ، وَهِيَ دَارُ الْهِجْرَةِ، وَمَعْنَى تَبَوُّئِهِمُ الدَّارَ وَالْإِيمَانَ أنهم اتخذوها مباءة، أي: تمكّنوا منهما تَمَكُّنًا شَدِيدًا، وَالتَّبَوُّءُ فِي الْأَصْلِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْمَكَانِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْإِيمَانَ مِثْلَهُ لِتَمَكُّنِهِمْ فِيهِ تَنْزِيلًا لِلْحَالِ مَنْزِلَةَ الْمَحَلِّ، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِيمَانَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ غَيْرِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاعْتَقَدُوا الْإِيمَانَ، أَوْ وَأَخْلَصُوا الْإِيمَانَ، كَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مضاف، أي: تَبَوَّءُوا مُضَمَّنًا لِمَعْنَى لَزِمُوا، وَالتَّقْدِيرُ: لَزِمُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ. وَمَعْنَى «مِنْ قَبْلِهِمْ» : مِنْ قَبْلِ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ إِنَّمَا آمَنُوا بَعْدَ إِيمَانِ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَحْسَنُوا إِلَى الْمُهَاجِرِينَ وَأَشْرَكُوهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً أَيْ: لَا يَجِدُ الْأَنْصَارُ فِي صُدُورِهِمْ حَسَدًا وَغَيْظًا وَحَزَازَةً مِمَّا أُوتُوا أَيْ: مِمَّا أُوتِيَ الْمُهَاجِرُونَ دُونَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ، بَلْ طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ، وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ مَسَّ حَاجَةٍ أَوْ أَثَرَ حَاجَةٍ، وَكُلُّ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي صَدْرِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَهُوَ حَاجَةٌ. وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ فِي دُورِ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ دَعَا الْأَنْصَارَ وَشَكَرَهُمْ فِيمَا صَنَعُوا مَعَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ إِنْزَالِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَإِشْرَاكِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: «إِنْ أَحْبَبْتُمْ قَسَّمْتُ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ» وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ السُّكْنَى فِي مَسَاكِنِكُمْ وَالْمُشَارَكَةِ لَكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَعْطَيْتُهُمْ ذَلِكَ وَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ، فَرَضُوا بِقِسْمَةِ ذَلِكَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَطَابَتْ أَنْفُسُهُمْ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ الْإِيثَارُ: تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ فِي حُظُوظِ الدُّنْيَا رَغْبَةً فِي حُظُوظِ الْآخِرَةِ، يُقَالُ: آثَرْتُهُ بِكَذَا، أَيْ: خَصَصْتُهُ بِهِ، وَالْمَعْنَى: وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي حُظُوظِ الدُّنْيَا وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أَيْ: حَاجَةٌ وَفَقْرٌ، وَالْخَصَاصَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ خِصَاصِ الْبَيْتِ، وَهِيَ الْفُرَجُ الَّتِي تَكُونُ فِيهِ، وجملة «ولو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَقِيلَ: إِنَّ الْخَصَاصَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ الِانْفِرَادُ بِالْأَمْرِ، فَالْخَصَاصَةُ: الِانْفِرَادُ بِالْحَاجَةِ، وَمِنْهُ قول الشاعر: أمّا الرّبيع إذا تكون خَصَاصَةً ... عَاشَ السَّقِيمُ بِهِ وَأَثْرَى الْمُقْتَرُ

وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوقَ بِسُكُونِ الْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ مِنَ الْوِقَايَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شُحَّ نَفْسِهِ بِضَمِّ الشِّينِ. وَقَرَأَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِكَسْرِهَا. وَالشُّحُّ: الْبُخْلُ مَعَ حِرْصٍ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَقِيلَ: الشُّحُّ أَشَدُّ مِنَ الْبُخْلِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: شُحُّ نَفْسِهِ: حِرْصُ نَفْسِهِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: شُحُّ النَّفْسِ هُوَ أَخْذُ الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَمْنَعْ شَيْئًا أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَدَائِهِ، فقد وقي شحّ نفسه. قال طاوس: البخيل: أَنْ يَبْخَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا فِي يَدِهِ، وَالشُّحُّ: أَنْ يَشِحَّ بِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا فِي أَيْدِيهِمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، لَا يَقْنَعُ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الشُّحُّ: الظُّلْمُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: تَرْكُ الْفَرَائِضِ وَانْتِهَاكُ الْمَحَارِمِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْفَلَاحَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى عَدَمِ شُحِّ النَّفْسِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يُقَبَّحُ الشُّحُّ بِهَا شَرْعًا مِنْ زَكَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا تُفِيدُهُ إِضَافَةُ الشُّحِّ إِلَى النَّفْسِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ إِلَى مِنْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالْفَلَاحُ: الْفَوْزُ وَالظَّفَرُ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، ذَكَرَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهُمُ التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يوم القيامة، وقيل: هم الذين هاجروا بعد ما قَوِيَ الْإِسْلَامُ، وَالظَّاهِرُ شُمُولُ الْآيَةِ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ السَّابِقِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ الْمُتَأَخِّرُ إِسْلَامُهُمْ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ عَصْرِ النُّبُوَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى الْكُلِّ أَنَّهُمْ جَاءُوا بَعْدَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَيَجُوزُ أَنْ يكون الموصول معطوفا على قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ، فَيَكُونُ «يَقُولُونَ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفٌ لَا مَحَلَّ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأُخُوَّةِ هُنَا أُخُوَّةُ الدِّينِ، أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: غِشًّا وَبُغْضًا وَحَسَدًا. أَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَطْلُبُوا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَنْزِعَ مِنْ قُلُوبِهِمُ الْغِلَّ لِلَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَيَدْخُلَ فِي ذَلِكَ الصَّحَابَةُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لِكَوْنِهِمْ أَشْرَفَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِكَوْنِ السِّيَاقِ فِيهِمْ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ لِلصَّحَابَةِ عَلَى الْعُمُومِ وَيَطْلُبْ رِضْوَانَ اللَّهِ لَهُمْ فَقَدْ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنْ وَجَدَ فِي قَلْبِهِ غِلًّا لَهُمْ فَقَدْ أَصَابَهُ نَزْغٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَحَلَّ بِهِ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ عِصْيَانِ اللَّهِ بِعَدَاوَةِ أَوْلِيَائِهِ وَخَيْرِ أُمَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْفَتَحَ لَهُ بَابٌ مِنَ الْخِذْلَانِ يَفِدُ بِهِ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْ نَفْسَهُ باللجوء إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ بِأَنْ يَنْزِعَ عَنْ قَلْبِهِ مَا طَرَقَهُ مِنَ الْغِلِّ لِخَيْرِ الْقُرُونِ وَأَشْرَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنْ جَاوَزَ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْغِلِّ إِلَى شَتْمِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَقَدِ انْقَادَ لِلشَّيْطَانِ بِزِمَامٍ وَوَقَعَ فِي غَضَبِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ، وَهَذَا الدَّاءُ الْعُضَالُ إِنَّمَا يُصَابُ بِهِ مَنِ ابْتُلِيَ بِمُعَلِّمٍ مِنَ الرَّافِضَةِ، أَوْ صَاحِبٍ مِنْ أَعْدَاءِ خَيْرِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ تَلَاعَبَ بِهِمُ الشَّيْطَانُ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الْأَكَاذِيبَ الْمُخْتَلِفَةَ وَالْأَقَاصِيصَ الْمُفْتَرَاةَ وَالْخُرَافَاتِ الْمَوْضُوعَةَ، وَصَرَفَهُمْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْقُولَةِ إِلَيْنَا بِرِوَايَاتِ الْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ، فَاشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَاسْتَبْدَلُوا الْخُسْرَانَ الْعَظِيمَ بِالرِّبْحِ الوافر، وما

زَالَ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ يَنْقُلُهُمْ مِنْ مَنْزِلَةٍ إِلَى مَنْزِلَةٍ، وَمِنْ رُتْبَةٍ إِلَى رُتْبَةٍ، حَتَّى صَارُوا أَعْدَاءَ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَخَيْرِ أُمَّتِهِ، وَصَالِحِي عِبَادِهِ، وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَهْمَلُوا فَرَائِضَ اللَّهِ، وَهَجَرُوا شَعَائِرَ الدِّينِ، وَسَعَوْا فِي كَيْدِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ كُلَّ السَّعْيِ، وَرَمَوُا الدِّينَ وَأَهْلَهُ بِكُلِّ حَجَرٍ وَمَدَرٍ، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي: كثير الرأفة والرحمة، بلّغهما لِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ عِبَادِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: أُوصِي الْخَلِيفَةَ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالْأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَنْ يقبل من محسنهم ويتجاوز من مسيئهم. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَصَابَنِي الْجَهْدُ، فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا فَقَالَ: أَلَا رَجُلٌ يضيف هذه اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ، قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السراج ونطوي بطوننا الليل لِضَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ غَدَا الضَّيْفُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةٍ» ، وَأَنْزَلَ فِيهِمَا: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُهْدِيَ إِلَى رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسُ شَاةٍ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي فُلَانًا وَعِيَالَهُ أَحْوَجُ إِلَى هَذَا مِنَّا، فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ بِهِ وَاحِدٌ إِلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهَا أَهْلُ سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ حَتَّى رَجَعَتْ إِلَى الْأَوَّلِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وسعيد ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَأَنَا رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنِّي شيء، فقال له ابن مسعود: ليس ذاك بِالشُّحِّ، وَلَكِنَّهُ الْبُخْلُ، وَلَا خَيْرَ فِي الْبُخْلِ. وَإِنَّ الشُّحَّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَنْ تَأْكُلَ مَالَ أَخِيكَ ظُلْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَيْسَ الشُّحُّ أَنْ يَمْنَعَ الرَّجُلُ مَالَهُ، وَلَكِنَّهُ الْبُخْلُ وَإِنَّهُ لَشَرٌّ، إِنَّمَا الشُّحُّ أَنْ تَطْمَحَ عَيْنُ الرَّجُلِ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَقَدْ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مَحَقَ الْإِسْلَامَ مَحْقَ الشُّحِّ شَيْءٌ قَطُّ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَمُسْلِمٌ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» . وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَمِّ الشُّحِّ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ مَنَازِلَ، قَدْ مَضَتْ مَنْزِلَتَانِ وَبَقِيَتْ مَنْزِلَةٌ، فَأَحْسَنُ مَا أَنْتُمْ كَائِنُونَ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونُوا بِهَذِهِ المنزلة التي بقيت، ثم قرأ:

[سورة الحشر (59) : الآيات 11 إلى 20]

وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبُّوهُمْ، ثُمَّ قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا وَهُوَ يَتَنَاوَلُ بَعْضَ الْمُهَاجِرِينَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ أَفَمِنِهُمْ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، ثم قرأ عليه: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ أَفَأَنْتَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: أَفَمِنْ هَؤُلَاءِ أَنْتَ؟ قَالَ: أَرْجُو، قَالَ: لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ من سبّ هؤلاء. [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 20] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ مَا جَرَى بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ مِنَ الْمُقَاوَلَةِ لِتَعْجِيبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَالِهِمْ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَالَّذِينَ نَافَقُوا هُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ، وَجُمْلَةُ: يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ، أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، وَجَعَلَهُمْ إِخْوَانًا لَهُمْ لِكَوْنِ الْكُفْرِ قَدْ جَمَعَهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَ نَوْعُ كُفْرِهِمْ فَهُمْ إِخْوَانٌ فِي الْكُفْرِ، وَاللَّامُ فِي «لِإِخْوَانِهِمُ» هِيَ لَامُ التَّبْلِيغِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ بَنِي النَّضِيرِ لِبَنِي قُرَيْظَةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ هُمْ يَهُودُ، وَالْمُنَافِقُونَ غَيْرُهُمْ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، أَيْ: وَاللَّهِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ: لِنَخْرُجَنَّ مِنْ دِيَارِنَا فِي صُحْبَتِكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَيْ: فِي شَأْنِكُمْ، وَمِنْ أَجْلِكُمْ أَحَداً مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَنَا مِنَ الْخُرُوجِ مَعَكُمْ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَبَداً. ثُمَّ لَمَّا وَعَدُوهُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُمْ وَعَدُوهُمْ بِالنُّصْرَةِ لَهُمْ، فَقَالُوا:

وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ عَلَى عَدِوِّكُمْ. ثُمَّ كَذَّبَهُمْ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فِيمَا وَعَدُوهُمْ بِهِ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُمْ وَالنُّصْرَةِ لَهُمْ. ثُمَّ لَمَّا أَجَمَلَ كَذِبَهُمْ فِيمَا وَعَدُوا بِهِ فَصَّلَ مَا كَذَبُوا فِيهِ فَقَالَ: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَخْرُجُوا مَعَ مَنْ أُخْرِجَ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ بَنُو النَّضِيرِ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَنْصُرُوا مَنْ قُوتِلَ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَأَهْلُ خَيْبَرَ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ أَيْ: لَوْ قُدِّرَ وُجُودُ نَصْرِهِمْ إِيَّاهُمْ لِأَنَّ مَا نَفَاهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ وُجُودُهُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَوْ قَصَدُوا نَصْرَ الْيَهُودِ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ مُنْهَزِمِينَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ يَعْنِي الْيَهُودَ لَا يَصِيرُونَ مَنْصُورِينَ إِذَا انْهَزَمَ نَاصِرُهُمْ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ: يَعْنِي لَا يَصِيرُ الْمُنَافِقُونَ مَنْصُورِينَ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ يُذِلُّهُمُ اللَّهُ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ نِفَاقُهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَنْصُرُونَهُمْ طَائِعِينَ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ مُكْرَهِينَ لِيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ، وَقِيلَ: مَعْنَى «لَا يَنْصُرُونَهُمْ» : لَا يَدُومُونَ عَلَى نَصْرِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1» لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أَيْ: لَأَنْتَمْ يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ أَشَدُّ خَوْفًا وَخَشْيَةً فِي صُدُورِ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ صُدُورِ الْيَهُودِ، أَوْ صُدُورِ الْجَمِيعِ مِنَ اللَّهِ، أَيْ: مِنْ رَهْبَةِ اللَّهِ، وَالرَّهْبَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْهُوبِيَّةِ، لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ مِنَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَانْتِصَابُهَا عَلَى التَّمْيِيزِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الرَّهْبَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِسَبَبِ عَدَمِ فِقْهِهِمْ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءَ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِقْهٌ لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَكُمْ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالرَّهْبَةِ مِنْهُ دُونَكُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِمَزِيدِ فَشَلِهِمْ وَضَعْفِ نِكَايَتِهِمْ، فَقَالَ: لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً يَعْنِي لَا يَبْرُزُ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ مُجْتَمِعِينَ لِقِتَالِكُمْ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ بِالدُّرُوبِ وَالدُّورِ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ، أَيْ: مِنْ خَلْفِ الْحِيطَانِ الَّتِي يَسْتَتِرُونَ بِهَا لِجُبْنِهِمْ وَرَهْبَتِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ جُدُرٍ بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو جِدَارٍ بِالْإِفْرَادِ. وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِهِ «قُرًى مُحَصَّنَةٍ» . وَقَرَأَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ جُدُرٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِّ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْجِدَارِ. بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أَيْ: بعضهم غليظ فظّ على بعض، وقلوبهم مختلفة، ونباتهم متباينة. قال السدّي: المراد اختلاف قلوبهم حيث لا يتفقون عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ بِالْكَلَامِ وَالْوَعِيدِ: لِيَفْعَلُنَّ كَذَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا انْفَرَدُوا نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ، وَإِذَا لَاقُوا عَدُوًّا ذَلُّوا وَخَضَعُوا وَانْهَزَمُوا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ بَأْسَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَقْرَانِهِمْ شَدِيدٌ، وَإِنَّمَا ضَعْفُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ لِمَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ مَعَ تَخَالُفِ قُلُوبِهِمْ فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا التَّخَالُفُ هُوَ الْبَأْسُ الَّذِي بَيْنَهُمُ الْمَوْصُوفُ بِالشِّدَّةِ، وَمَعْنَى شَتَّى: مُتَفَرِّقَةٌ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ الْمُنَافِقُونَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ. قَالَ قَتَادَةَ: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا» أَيْ: مُجْتَمِعِينَ عَلَى أَمْرٍ وَرَأْيٍ، وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى مُتَفَرِّقَةٌ، فأهل

_ (1) . الأنعام: 28.

الباطن مُخْتَلِفَةٌ آرَاؤُهُمْ، مُخْتَلِفَةٌ شَهَادَتُهُمْ، مُخْتَلِفَةٌ أَهْوَاؤُهُمْ، وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي عَدَاوَةِ أَهْلِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «وَقُلُوبُهُمْ أَشَتُّ» أَيْ: أَشَدُّ اخْتِلَافًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ أَيْ: ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ وَالتَّشَتُّتِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، وَلَوْ عَقَلُوا لَعَرَفُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوهُ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: مِثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَثَلَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ كُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ قَرِيباً يَعْنِي فِي زَمَانٍ قَرِيبٍ، وَانْتِصَابُ قَرِيبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: يُشْبِهُونَهُمْ فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ ذَاقُوا، أَيْ: ذَاقُوا فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ، وَمَعْنَى ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أَيْ: سُوءَ عَاقِبَةِ كُفْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِقَتْلِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بَنُو النَّضِيرِ حَيْثُ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: قَتْلُ بَنِي قُرَيْظَةَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنِ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ ضَرَبَ لِلْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ مَثَلًا آخَرَ فَقَالَ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أَيْ: مَثَلُهُمْ فِي تَخَاذُلِهِمْ وَعَدَمِ تَنَاصُرِهِمْ، فَهُوَ إِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ خَبَرٌ آخَرُ لِلْمُبْتَدَأِ الْمُقَدَّرِ قَبْلَ قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ عَاقِلٌ، أَنْتَ عالم، أَنْتَ كَرِيمٌ. وَقِيلَ: الْمَثَلُ الْأَوَّلُ خَاصٌّ بِالْيَهُودِ، وَالثَّانِي خَاصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: الْمَثَلُ الثَّانِي بَيَانٌ لِلْمَثَلِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَجْهَ الشَّبَهِ فَقَالَ: إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أَيْ: أَغْرَاهُ بِالْكُفْرِ، وَزَيَّنَهُ لَهُ، وَحَمَلَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا جِنْسُ مَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: هُوَ عَابِدٌ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حَمَلَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْكُفْرِ فَأَطَاعَهُ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ أَيْ: فَلَمَّا كَفَرَ الْإِنْسَانُ مُطَاوَعَةً لِلشَّيْطَانِ، وَقَبُولًا لِتَزْيِينِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ. وَهِذَا يَكُونُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ تَعْلِيلٌ لِبَرَاءَتِهِ مِنَ الْإِنْسَانِ بَعْدَ كُفْرِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا أَبُو جَهْلٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا جَمِيعُ النَّاسِ فِي غُرُورِ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ، قِيلَ: وَلَيْسَ قَوْلُ الشَّيْطَانِ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّبَرِّي مِنَ الْإِنْسَانِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنِّي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِهَا فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: عاقِبَتَهُما بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهَا «أَنَّهُمَا فِي النَّارِ» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ، وَالْخَبَرُ مَا بَعْدَهُ وَالْمَعْنَى: فَكَانَ عَاقِبَةُ الشَّيْطَانِ وَذَلِكَ الْإِنْسَانِ الَّذِي كَفَرَ أَنَّهُمَا صَائِرَانِ إِلَى النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها قَرَأَ الْجُمْهُورُ خالِدَيْنِ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «خَالِدَانِ» عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ أَنَّ وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أَيِ: الْخُلُودُ فِي النَّارِ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، وَيَدْخُلُ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ دُخُولًا أَوَلِيًّا. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى خِطَابِ المؤمنين بالموعظة الحسنة فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أَيِ: اتَّقُوا عِقَابَهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ أَيْ: لِتَنْظُرَ أَيَّ شَيْءٍ قَدَّمَتْ مِنَ الْأَعْمَالِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْغَدِ، وَقِيلَ: ذِكْرُ الْغَدِ تَنْبِيهًا عَلَى قُرْبِ السَّاعَةِ وَاتَّقُوا اللَّهَ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى لِلتَّأْكِيدِ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ

ذَلِكَ خَافِيَةٌ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أَيْ: تَرَكُوا أَمْرَهُ، أَوْ مَا قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، أَوْ لَمْ يَخَافُوهُ، أَوْ جَمِيعُ ذَلِكَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أَيْ: جَعَلَهُمْ نَاسِينَ لَهَا بِسَبَبِ نِسْيَانِهِمْ لَهُ، فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُنْجِيهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَمْ يَكُفُّوا عَنِ الْمَعَاصِي الَّتِي تُوقِعُهُمْ فِيهِ، فَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَنْسَاهُمْ حُظُوظَ أَنْفُسِهِمْ. قَالَ سُفْيَانُ: نَسُوا حَقَّ اللَّهِ فَأَنْسَاهُمْ حَقَّ أَنْفُسِهِمْ، وَقِيلَ: نسوا لله فِي الرَّخَاءِ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ فِي الْفَضْلِ وَالرُّتْبَةِ، وَالْمُرَادُ الْفَرِيقَانِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فِي فَرِيقِ أَهْلِ النَّارِ مَنْ نَسِيَ اللَّهَ مِنْهُمْ دُخُولًا أَوَلِيًّا، وَيَدْخُلُ فِي فَرِيقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ اتَّقَوْا دُخُولًا أَوَلِيًّا لِأَنَّ السِّيَاقَ فِيهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَفِي سُورَةِ السَّجْدَةِ، وَفِي سُورَةِ ص. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ بَعْدَ نَفْيِ التَّسَاوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ أَيِ: الظَّافِرُونَ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ، النَّاجُونَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ تَابُوتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلَ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ، وَإِخْوَانُهُمْ بَنُو النَّضِيرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْهُ: أَنَّ رَهْطًا مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ، وَوَدِيعَةُ بْنُ مَالِكٍ، وَسُوِيدٌ وَدَاعِسٌ بُعِثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ أَنِ اثْبَتُوا وَتَمَنَّعُوا فَإِنَّنَا لَا نُسَلِّمُكُمْ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ، فَتَرَبَّصُوا ذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُجْلِيَهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ ما حملت الإبل إلا الحلقة «1» ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَهْدِمُ بَيْتَهُ فَيَضَعُهُ عَلَى ظهر بعيره فَيَنْطَلِقُ بِهِ، فَخَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَى الشَّامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ، وَأَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا إِخْوَةٌ، فَعَرَضَ لَهَا شَيْءٌ فَأَتَوْهُ بِهَا فَزَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: اقْتُلْهَا فَإِنَّهُمْ إِنْ ظَهَرُوا عَلَيْكَ افتضحت فقتلها ودفنها، فجاؤوه فَأَخَذُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَمْشُونَ إِذْ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنِّي أَنَا الَّذِي زَيَّنْتُ لك فاسجد لي سجدة أنجيك، فَسَجَدَ لَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ الْآيَةَ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَصْدُقُ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بالآية. وأخرجوه بِنَحْوِهِ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ ابن مردويه عن ابن مسعود

_ (1) . «الحلقة» : السلاح، وقيل: الدروع خاصة.

[سورة الحشر (59) : الآيات 21 إلى 24]

فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ قَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذ قال للإنسان اكفر. [سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 24] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَبَيَّنَ عَدَمَ اسْتِوَائِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءَ، ذَكَرَ تَعْظِيمَ كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، وَأَخْبَرَ عَنْ جَلَالَتِهِ، وَأَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ تَخْشَعَ لَهُ الْقُلُوبُ، وَتَرِقَّ لَهُ الْأَفْئِدَةُ، فَقَالَ: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَيْ: مِنْ شَأْنِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَجَوْدَةِ أَلْفَاظِهِ، وَقُوَّةِ مَبَانِيهِ، وَبَلَاغَتِهِ، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَوَاعِظِ الَّتِي تَلِينُ لَهَا الْقُلُوبُ أَنَّهُ لَوْ أُنْزِلَ عَلَى جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ الْكَائِنَةِ فِي الْأَرْضِ لَرَأَيْتَهُ مَعَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْقَسْوَةِ وَشِدَّةِ الصَّلَابَةِ وَضَخَامَةِ الْجِرْمِ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا، أَيْ: مُتَشَقِّقًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَذَرًا مِنْ عِقَابِهِ، وَخَوْفًا مِنْ أَنْ لَا يُؤَدِّي مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ كَلَامِ اللَّهِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ وَتَخْيِيلٌ يَقْتَضِي عُلُوَّ شَأْنِ الْقُرْآنِ وَقُوَّةَ تَأْثِيرِهِ فِي الْقُلُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ التَّفَكُّرُ فِيهِ لِيَتَّعِظُوا بِالْمَوَاعِظَ وَيَنْزَجِرُوا بِالزَّوَاجِرَ، وَفِيهِ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ لِلْكُفَّارِ حَيْثُ لَمْ يَخْشَعُوا لِلْقُرْآنِ، وَلَا اتَّعَظُوا بِمَوَاعِظِهِ، وَلَا انْزَجَرُوا بِزَوَاجِرِهِ، وَالْخَاشِعُ: الذَّلِيلُ الْمُتَوَاضِعُ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى جَبَلٍ لِمَا ثَبَتَ وَلَتَصَدَّعَ مِنْ نُزُولِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ وَثَبَّتْنَاكَ لَهُ وَقَوَّيْنَاكَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مِنْ بَابِ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ثَبَّتَهُ لِمَا لَا تَثْبُتُ لَهُ الْجِبَالُ الرَّوَاسِيُ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَعَظْمَتِهِ، فَقَالَ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَفِي هَذَا تَقْرِيرٌ لِلتَّوْحِيدِ وَدَفْعٌ لِلشِّرْكِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيْ: عَالِمٌ مَا غَابَ مِنَ الْإِحْسَاسِ وَمَا حَضَرَ، وَقِيلَ: عَالِمُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَقِيلَ: مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَقِيلَ: الْآخِرَةُ وَالدُّنْيَا، وَقَدَّمَ الْغَيْبَ عَلَى الشَّهَادَةِ لِكَوْنِهِ مُتَقَدِّمًا وُجُودًا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ لِكَوْنِ التَّوْحِيدِ حَقِيقًا بِذَلِكَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ أَيِ: الطَّاهِرُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَالْقُدُسُ: بِالتَّحْرِيكِ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ السَّطْلُ لِأَنَّهُ يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَمِنْهُ الْقَادُوسُ لِوَاحِدِ الْأَوَانِي الَّتِي يُسْتَخْرَجُ بِهَا الْمَاءُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْقُدُّوسُ بِضَمِّ الْقَافِ. وَقَرَأَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبُو السّمّال بِفَتْحِهَا، وَكَانَ سِيبَوَيْهِ يَقُولُ: سَبُّوحٌ قَدُّوسٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا، وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ يَعْقُوبَ أَنَّهُ سَمِعَ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ أَعْرَابِيًّا فَصِيحًا يَقْرَأُ: الْقُدُّوسُ بِفَتْحِ الْقَافِ. قَالَ ثَعْلَبُ: كُلُّ اسْمٍ عَلَى فَعَوْلٍ فَهُوَ مَفْتُوحُ الْأَوَّلِ إِلَّا السُّبُّوحَ وَالْقُدُّوسَ،

فَإِنَّ الضَّمَّ فِيهِمَا أَكْثَرُ، وَقَدْ يُفْتَحَانِ. السَّلامُ أَيِ: الَّذِي سَلِمَ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ، وَقِيلَ: الْمُسَلِّمُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا قال: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ «1» وَقِيلَ: الَّذِي سَلِمَ الْخَلْقُ مِنْ ظُلْمِهِ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُ، وَقِيلَ: الْمُسْلِمُ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ. الْمُؤْمِنُ أَيِ: الَّذِي وَهَبَ لِعِبَادِهِ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِهِ، وَقِيلَ: الْمُصَدِّقُ لِرُسُلِهِ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ، وَقِيلَ: الْمُصَدِّقُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَالْمُصَدِّقُ لِلْكَافِرِينَ بِمَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، يُقَالُ: أَمِنَهُ مِنَ الْأَمْنِ وَهُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: وَالْمُؤْمِنِ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرُ يَمْسَحُهَا ... رُكْبَانُ مَكَّةَ بَيْنَ الْغَيْلِ وَالسَّنَدِ «2» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي وَحَّدَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُؤْمِنُ بِكَسْرِ الْمِيمِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ آمَنَ بِمَعْنَى أَمِنَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِفَتْحِهَا بِمَعْنَى الْمُؤْمَنِ بِهِ عَلَى الْحَذْفِ كَقَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «3» وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ خَائِفًا فَأَمَّنَهُ غَيْرُهُ. الْمُهَيْمِنُ أَيِ: الشَّهِيدُ عَلَى عِبَادِهِ بِأَعْمَالِهِمُ الرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ. كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: يُقَالُ: همين يُهَيْمِنُ فَهُوَ مُهَيْمِنُ إِذَا كَانَ رَقِيبًا عَلَى الشَّيْءِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ مُؤَيْمِنٌ مِنْ آمَنَ يُؤْمِنُ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمُؤْمِنِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْمُهَيْمِنِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ، وَقِيلَ: الْقَاهِرُ، وَقِيلَ: الْغَالِبُ غَيْرُ الْمَغْلُوبِ، وَقِيلَ: الْقَوِيُّ، الْجَبَّارُ جَبَرُوتُ اللَّهِ: عَظَمَتُهُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَلِكَ الْجَبَّارَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ جَبَرَ: إِذَا أَغْنَى الْفَقِيرَ، وَأَصْلَحَ الْكَسِيرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَبَرَهُ عَلَى كَذَا إِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى مَا أَرَادَ، فَهُوَ الَّذِي جَبَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ، قَالَ: هُوَ مِنْ أَجْبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ، أَيْ: قَهَرَهُ. قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْ فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ إِلَّا فِي جَبَّارٍ مِنْ أَجْبَرَ، وَدَرَّاكٍ مِنْ أَدْرَكَ، وَقِيلَ: الْجَبَّارُ الَّذِي لَا تُطَاقُ سَطْوَتُهُ. الْمُتَكَبِّرُ أَيِ: الَّذِي تَكَبَّرَ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَتَعَظَّمَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَأَصْلُ التَّكَبُّرِ الِامْتِنَاعُ وَعَدَمُ الِانْقِيَادِ، وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: عَفَتْ مِثْلَ مَا يَعْفُو الْفَصِيلُ فَأَصْبَحَتْ ... بِهَا كِبْرِيَاءُ الصَّعْبِ وَهِيَ ذَلُولُ وَالْكِبْرُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ مَدْحٌ، وَفِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ذَمٌّ. قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي تَكَبَّرَ عَنْ كُلِّ سُوءٍ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمُتَكَبِّرُ: ذُو الْكِبْرِيَاءِ، وَهُوَ الْمَلِكُ، ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نفسه عن شرك المشركين، فقال:

_ (1) . يس: 58. (2) . «العائذات» : ما عاذ بالبيت من الطير. «الغيل» : الشجر الكثيف الملتف. «السند» : ما قابلك من الجبل وعلا عن السفح. (3) . الأعراف: 155.

سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: عَمَّا يُشْرِكُونَهُ أَوْ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ بِهِ هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ أَيِ: الْمُقَدِّرُ لِلْأَشْيَاءَ عَلَى مُقْتَضَى إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ الْبارِئُ أَيِ: الْمُنْشِئُ، الْمُخْتَرِعُ لِلْأَشْيَاءَ، الْمُوجِدُ لَهَا. وَقِيلَ: الْمُمَيِّزُ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. الْمُصَوِّرُ أَيِ: الْمُوجِدُ لِلصُّوَرِ، الْمُرَكِّبُ لَهَا عَلَى هَيْئَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالتَّصْوِيرُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْخَلْقِ وَالْبِرَايَةِ وَتَابِعٌ لَهُمَا، وَمَعْنَى التَّصْوِيرِ التَّخْطِيطُ وَالتَّشْكِيلُ، قَالَ النَّابِغَةُ: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فِي الْ ... أَرْحَامِ مَاءً حَتَّى يَصِيرَ دَمَا وَقَرَأَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ الصَّحَابِيُّ: «الْمُصَوَّرَ» بِفَتْحِ الْوَاوِ وَنَصْبِ الرَّاءِ عَلَى أنه مفعول له لِلْبَارِئِ، أَيِ: الَّذِي بَرَأَ الْمُصَوَّرَ، أَيْ: مَيَّزَهُ. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا وَالْكَلَامُ فِيهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها «1» يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: يَنْطِقُ بِتَنْزِيهِهِ بِلِسَانِ الْحَالِ، أَوِ الْمَقَالِ كُلُّ مَا فِيهِمَا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: الْغَالِبُ لِغَيْرِهِ الَّذِي لَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ، الْحَكِيمُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ الَّتِي يَقْضِي بِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ قَالَ: يَقُولُ لَوْ أَنِّي أَنْزَلْتُ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ، حَمَّلْتُهُ إِيَّاهُ، تَصَدَّعَ وَخَشَعَ مِنْ ثِقَلِهِ وَمِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ النَّاسَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ أَنْ يَأْخُذُوهُ بالخشية الشديدة والتخشّع. قال: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ: هِيَ رُقْيَةُ الصُّدَاعِ. رَوَاهُ الدَّيْلَمَيُّ بِإِسْنَادَيْنِ لَا نَدْرِي كَيْفَ حَالُ رِجَالِهِمَا. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، بِإِسْنَادِهِ إِلَى إِدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْحَدَّادِ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى خَلَفٍ، فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ، فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى حَمْزَةَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ، فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى الْأَعْمَشِ ثُمَّ سَاقَ الْإِسْنَادُ مُسَلْسَلًا هَكَذَا إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ لِي: «ضَعْ يَدُكَ عَلَى رَأْسِكَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا نَزَلَ بِهَا قَالَ لِي: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ، فَإِنَّهَا شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ، وَالسَّامُ الْمَوْتُ» . قَالَ الذَّهَبِيُّ: هُوَ بَاطِلٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيُّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلًا إِذَا آوى إلى فراشه أن يقرأ آخر سور الْحَشْرِ وَقَالَ: «إِنْ مُتَّ مُتَّ شَهِيدًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ الْحَشْرِ بَعَثَ اللَّهُ سَبْعِينَ مَلَكًا يَطْرُدُونَ عَنْهُ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، إِنْ كَانَ لَيْلًا حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِنْ كَانَ نِهَارًا حَتَّى يُمْسِيَ» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ الثَّلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ مات ذلك اليوم مات

_ (1) . الأعراف: 180.

شَهِيدًا، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ خَوَاتِيمَ الْحَشْرِ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ لَيْلَتِهِ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ قَالَ: السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ. وَفِي قَوْلِهِ: الْمُؤْمِنُ قَالَ: الْمُؤَمِّنُ خَلْقَهُ مِنْ أَنْ يَظْلِمَهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: الْمُهَيْمِنُ قَالَ: الشاهد.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَالْمُمْتَحِنَةُ، بِكَسْرِ الْحَاءِ، اسْمُ فَاعِلٍ أُضِيفَ الْفِعْلُ إِلَيْهَا مَجَازًا كَمَا سُمِّيَتْ سُورَةُ بَرَاءَةَ الْفَاضِحَةَ لِكَشْفِهَا عَنْ عُيُوبِ الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: الْمُمْتَحَنَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ اسْمُ مَفْعُولٍ إِضَافَةً إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا، وَهِيَ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ كَتَبَ إلى مشركي قريش يخبرهم بِمَسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْقِصَّةِ آخِرَ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ: عَدُوِّي هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَعَدُوَّكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي «أَوْلِيَاءَ» ، وَأَضَافَ سُبْحَانَهُ الْعَدُوَّ إِلَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِجُرْمِهِمْ، وَالْعَدُوُّ مَصْدَرٌ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أَيْ: تُوصِلُونَ إِلَيْهِمُ الْمَوَدَّةَ، عَلَى أَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ، أَوْ هِيَ سَبَبِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ الْمَوَدَّةِ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِرَّهُ بِالْمَوَدَّةِ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ «تَتَّخِذُوا» ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لِقَصْدِ الْإِخْبَارِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ أَوْ لِتَفْسِيرِ مُوَالَاتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةً لِأَوْلِيَاءَ، وَجُمْلَةُ: وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تُلْقُونَ، أَوْ مِنْ فَاعِلِ «لَا تَتَّخِذُوا» ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِما جاءَكُمْ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لما جاءكم باللام، أي: لأجل

_ (1) . الممتحنة: 10.

مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَى حَذْفِ الْمَكْفُورِ بِهِ، أَيْ: كَفَرُوا بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ لِأَجْلِ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، أَوْ عَلَى جَعْلِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِلْإِيمَانِ سَبَبًا لِلْكُفْرِ تَوْبِيخًا لَهُمْ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ كُفْرِهِمْ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقَوْلُهُ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ تَعْلِيلٌ لِلْإِخْرَاجِ، أَيْ: يُخْرِجُونَكُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِكُمْ، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تُؤْمِنُوا إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي جواب الشرط محذوف: إِنْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ فَلَا تُلْقُوا إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ فَلَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعدوّكم أولياء، وانتصاب جهادا وابتغاء عَلَى الْعِلَّةِ: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ لِأَجْلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِي وَلِأَجْلِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِي، وَجُمْلَةُ: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمُ الْأَخْبَارَ بِسَبَبِ الْمَوَدَّةِ، وَقِيلَ: هِيَ بدل من قوله: «تلقون» . ثم أخبر بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ شَيْءٌ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: بِمَا أَضْمَرْتُمْ وَمَا أَظْهَرْتُمْ، وَالْبَاءُ فِي «بِمَا» زَائِدَةٌ. يُقَالُ: عَلِمْتُ كَذَا وَعَلِمْتُ بِكَذَا، هَذَا عَلَى أَنَّ «أَعْلَمَ» مُضَارِعٌ، وَقِيلَ: هُوَ أَفْعَلُ تفضيل، أي: أَعْلَمُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أَيْ: مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الِاتِّخَاذَ لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكُمْ أَوْلِيَاءَ، وَيُلْقِي إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، فَقَدْ أَخْطَأَ طَرِيقَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَضَلَّ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أَيْ: إِنْ يَلْقَوْكُمْ وَيُصَادِفُوكُمْ يُظْهِرُوا لَكُمْ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ، وَمِنْهُ الْمُثَاقَفَةُ: وَهِيَ طَلَبُ مُصَادَفَةِ الغرّة في المسايفة، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنْ يَظْفَرُوا بِكُمْ وَيَتَمَكَّنُوا مِنْكُمْ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أَيْ: يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بِالضَّرْبِ وَنَحْوِهِ، وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالشَّتْمِ وَنَحْوِهِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَرَجَّحَ هَذَا أَبُو حَيَّانَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ تَمَنُّوا ارْتِدَادَهُمْ وَوَدُّوا رُجُوعَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ «1» لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ أَيْ: لَا تَنْفَعُكُمُ الْقُرَابَاتُ عَلَى عُمُومِهَا وَلَا الْأَوْلَادُ، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهِمْ فِي الْأَرْحَامِ لِمَزِيدِ الْمَحَبَّةِ لَهُمْ وَالْحُنُوِّ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَنْفَعُونَكُمْ حين تُوَالُوا الْكُفَّارَ لِأَجْلِهِمْ كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، بَلِ الَّذِي يَنْفَعُكُمْ هُوَ مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ مُعَادَاةِ الْكُفَّارِ وَتَرْكِ مُوَالَاتِهِمْ. وَجُمْلَةُ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ عَدَمِ نَفْعِ الْأَرْحَامِ وَالْأَوْلَادِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَعْنَى يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يُفَرِّقُ بَيْنَكُمْ، فَيُدْخِلُ أَهْلَ طَاعَتِهِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلَ مَعْصِيَتِهِ النَّارَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَصْلِ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ يَفِرُّ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنَ الْآخَرِ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ «2» الْآيَةَ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ عَلَيْهِ، وَيُبْتَدَأُ بِقَوْلِهِ: يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا بَعْدَهُ كَمَا ذَكَرْنَا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَفْصِلُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عبيد.

_ (1) . المقصود أن الكافرين تمنوا ارتداد المؤمنين عن الحق ورجوعهم إلى الكفر. (2) . عبس: 34. [.....]

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 إلى 9]

وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ بِالنُّونِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصاد مخففة. وقد أخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرُ وَالْمِقْدَادُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ «1» فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً «2» مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا فَأْتُونِي بِهِ، فَخَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، قَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لِتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لِتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟ قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قُرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِمَكَّةَ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَصْطَنِعَ إِلَيْهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ونزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ مُسْنَدَةٌ وَمُرْسَلَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِبَيَانِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ «3» نازلة في ذلك. [سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 9] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ، وَالذَّمِّ لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ، ضَرَبَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمَ مَثَلًا حين

_ (1) . «روضة خاخ» : موضع بين مكة والمدينة، على اثني عشر ميلا من المدينة. (2) . «الظعينة» : هي المرأة في الهودج. (3) . الممتحنة: 4.

تَبَرَّأَ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، أَيْ: خَصْلَةٌ حَمِيدَةٌ تَقْتَدُونَ بِهَا، يُقَالُ: لِي بِهِ أُسْوَةٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ، أَيِ: اقْتِدَاءٌ، فَأَرْشَدَهُمْ سُبْحَانَهُ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ إِلَّا فِي اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِسْوَةٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، وَأَصْلُ الْأُسْوَةِ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ: الْقُدْوَةُ، وَيُقَالُ: هُوَ أُسْوَتُكَ، أَيْ: مِثْلُكَ وَأَنْتَ مِثْلُهُ، وَقَوْلُهُ: «فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ» مُتَعَلِّقٌ بِأُسْوَةٍ، أَوْ بِحَسَنَةٍ، أَوْ هُوَ نَعْتٌ لِأُسْوَةٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي «حَسَنَةٍ» ، أَوْ خبر كان، «ولكم» لِلْبَيَانِ، «وَالَّذِينَ مَعَهُ» هُمْ أَصْحَابُهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ أَفَلَا تَأَسَّيْتَ يَا حَاطِبُ بِإِبْرَاهِيمَ، فَتَتَبَرَّأَ مِنْ أَهْلِكَ كَمَا تَبْرَّأَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ؟! وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ هُوَ خَبَرُ كَانَ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، أَيْ: وَقْتَ قولهم لقومهم الكفار إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ جَمْعُ بَرِيءٍ، مِثْلُ: شُرَكَاءَ وَشَرِيكٍ، وَظُرَفَاءَ وظريف. قرأ الجمهور: بُرَآؤُا بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَأَلِفٍ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ، ككرماء في كريم. وقرأ عيسى ابن عُمَرَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ أَلِفٍ، كَكِرَامٍ فِي جَمْعِ كَرِيمٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْبَاءِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ أَلِفٍ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهِيَ الْأَصْنَامُ كَفَرْنا بِكُمْ أَيْ: بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ، أَوْ بِدِينِكُمْ، أَوْ بِأَفْعَالِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً أَيْ: هَذَا دَأْبُنَا مَعَكُمْ مَا دُمْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَتَتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ صَارَتْ تِلْكَ الْعَدَاوَةُ مُوَالَاةً وَالْبَغْضَاءُ مَحَبَّةً إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ «فِي إِبْراهِيمَ» بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ لِيَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، أَيْ: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي مَقَالَاتِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا قَوْلَهُ لِأَبِيهِ، أَوْ مِنْ «أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» ، وَصَحَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُسْوَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ كَانَتْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ إِلَّا قَوْلَهُ لِأَبِيهِ، أَوْ مِنَ التَّبَرِّي وَالْقَطِيعَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ، أَيْ: لَمْ يُوَاصِلْهُ إِلَّا قَوْلَهُ، ذَكَرَ هَذَا ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ هُوَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، فَلَا تَأْتَسُوا بِهِ، فَتَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمُسْتَثْنَى، يَعْنِي مَا أُغْنِي عَنْكَ، وَمَا أَدْفَعُ عَنْكَ، مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ «لَأَسْتَغْفِرَنَّ» ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لَا إِلَى هَذَا الْقَيْدِ، فَإِنَّهُ إِظْهَارٌ لِلْعَجْزِ وَتَفْوِيضٌ لِلْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ هَذَا مِنْ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِهِ وَمِمَّا فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ يُقْتَدَى بِهِ فِيهَا، وَقِيلَ: هُوَ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَالتَّوَكُّلُ: هُوَ تَفْوِيضُ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ، وَالْإِنَابَةُ: الرُّجُوعُ، وَالْمَصِيرُ: الْمَرْجِعُ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِقَصْرِ التَّوَكُّلِ وَالْإِنَابَةِ وَالْمَصِيرِ عَلَى اللَّهِ رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تُظْهِرْهُمْ عَلَيْنَا فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ فَيُفْتَنُوا بِذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُوا: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى حَقٍّ مَا أَصَابَهُمْ هَذَا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ أَيِ: الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ الْحَكِيمُ ذُو الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أَيْ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ قُدْوَةٌ حَسَنَةٌ،

وَكَرَّرَ هَذَا لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا نزل بعد الأوّل بمدّة لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ «لَكُمْ» بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كَلِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْأُسْوَةَ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَيَخَافُ عِقَابَ الْآخِرَةِ، أَوْ يَطْمَعُ فِي الْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَيْ: يُعْرِضُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ خَلْقِهِ، الْحَمِيدُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَذَلِكَ بِأَنْ يُسْلِمُوا فَيَصِيرُوا مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ، وَقَدْ أَسْلَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ مَوَدَّةٌ، وَجَاهَدُوا، وَفَعَلُوا الْأَفْعَالَ الْمُقَرِّبَةَ إِلَى اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَوَدَّةِ هُنَا تَزْوِيجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ. وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا صَارَ سَبَبًا إِلَى الْمَوَدَّةِ، فَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بَعْدَ ذَلِكَ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَحْصُلِ الْمَوَدَّةُ إِلَّا بِإِسْلَامِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَمَا بَعْدَهُ، وَاللَّهُ قَدِيرٌ أَيْ: بَلِيغُ الْقُدْرَةِ كَثِيرُهَا، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: بَلِيغُهُمَا، كَثِيرُهُمَا. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُعَادَاةِ الْكُفَّارِ وَتَرْكِ مُوَادَّتِهِمْ فَصَّلَ الْقَوْلَ فِيمَنْ يَجُوزُ بِرُّهُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يَجُوزُ، فَقَالَ: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَيْ: لَا يَنْهَاكُمْ عَنْ هَؤُلَاءِ أَنْ تَبَرُّوهُمْ هَذَا بَدَلٌ مِنَ الْمَوْصُولِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ يُقَالُ: أَقَسَطْتُ إِلَى الرَّجُلِ إِذَا عَامَلْتَهُ بِالْعَدْلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: وَتَعْدِلُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أَيِ: الْعَادِلِينَ وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنْهَى عَنْ بِرِّ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ عَاهَدُوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَعَلَى أَنْ لَا يُظَاهِرُوا الْكُفَّارَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَنْهَى عَنْ مُعَامَلَتِهِمْ بِالْعَدْلِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمُوَادَعَةِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ نُسِخَ. قَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَتْهَا: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» وَقِيلَ: هَذَا الْحُكْمُ كَانَ ثَابِتًا فِي الصُّلْحِ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا زَالَ الصُّلْحُ بِفَتْحِ مَكَّةَ نُسِخَ الْحُكْمُ. وَقِيلَ: هِيَ خَاصَّةٌ فِي حُلَفَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ خُزَاعَةُ وبنو الحارث ابن عَبْدِ مَنَافٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ خَاصَّةٌ فِي الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا، وَقِيلَ: هِيَ خَاصَّةٌ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَنْ لَا يَحِلُّ بِرُّهُ وَلَا الْعَدْلُ فِي مُعَامَلَتِهِ فَقَالَ: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَهُمْ صَنَادِيدُ الْكُفْرِ مِنْ قُرَيْشٍ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَيْ: عَاوَنُوا الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهُمْ سَائِرُ أهل مكة من دَخَلَ مَعَهُمْ فِي عَهْدِهِمْ، وَقَوْلُهُ: أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْمَوْصُولِ كَمَا سَلَفَ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الظُّلْمِ لِأَنَّهُمْ تَوَلَّوْا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَدَاوَةَ لِكَوْنِهِ عَدُوًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ، وَجَعَلُوهُمْ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ قَالَ: نهوا أن يتأسوا

_ (1) . التوبة: 5.

بِاسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ، وَقَوْلُهُ: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ، وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِّ مَا أَصَابَهُمْ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قَالَ: فِي صَنِيعِ إِبْرَاهِيمَ كُلِّهِ إِلَّا فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ، وَهُوَ مُشْرِكٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ عَلَى إِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عَلَى بَعْضِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ فَلَقِيَ ذَا الْخِمَارِ مُرْتَدًّا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَاتَلَ فِي الرِّدَّةِ وَجَاهَدَ عَنِ الدِّينِ. قَالَ: وَهُوَ فِيمَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَتِ الْمَوَدَّةُ الَّتِي جَعَلَ بَيْنَهُمْ تَزْوِيجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَصَارَتْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَصَارَ مُعَاوِيَةُ خَالَ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَلَاثٌ أَعْطِنِيهِنَّ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تُؤَمِّرُنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَمُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَعِنْدِي أَحْسَنُ الْعَرَبِ وَأَجْمَلُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ أُزَوِّجُكَهَا» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَدِمَتْ قَتِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى عَلَى ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ بِهَدَايَا: ضِبَابٍ وَأَقِطٍ «1» وَسَمْنٍ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَأَبَتْ أَسْمَاءُ أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا، أَوْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا حَتَّى أَرْسَلَتْ إِلَى عَائِشَةَ أَنْ سَلِي عَنْ هَذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ الْآيَةَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَتُدْخِلَهَا بَيْتَهَا. وَزَادَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: «أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَأَصِلُهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ: فَقَالَ: نَعَمْ صلي أمك» .

_ (1) . «ضباب» : جمع ضبّة، وهي جلد الضّبّ يدبغ ليوضع فيه السّمن. «أقط» : لبن مجفف يابس متحجّر يطبخ به.

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 إلى 13]

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 13] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ فَرِيقَيِ الْكَافِرِينَ فِي جَوَازِ الْبِرِّ وَالْإِقْسَاطِ لِلْفَرِيقِ الْأَوَّلِ دُونَ الْفَرِيقِ الثَّانِي ذَكَرَ حُكْمَ مَنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ مِنْ بَيْنِ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَ قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ أَبَى اللَّهُ أَنْ يُرْدَدْنَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَرَ بامتحانهنّ فقال: فَامْتَحِنُوهُنَّ أي: فاختبروهنّ. وقد اختلف فيما كان يمتحنّ به، فقيل: كنّ يستحلفن بِاللَّهِ مَا خَرَجْنَ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، وَلَا رَغْبَةٍ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، وَلَا لِالْتِمَاسِ دُنْيَا، بَلْ حُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَرَغْبَةً فِي دِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَتْ كَذَلِكَ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوْجَهَا مَهْرَهَا، وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الِامْتِحَانُ هُوَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَا كَانَ الِامْتِحَانُ إِلَّا بِأَنْ يَتْلُوَ عَلَيْهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم الآية، وهي: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ إِلَى آخِرِهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ دَخَلَ النِّسَاءُ فِي عَهْدِ الْهُدْنَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِالدُّخُولِ: تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُخَصِّصَةً لِذَلِكَ الْعَهْدِ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ: لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ حَقِيقَةَ حَالِهِنَّ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَلَمْ يَتَعَبَّدْكُمْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَعَبَّدَكُمْ بِامْتِحَانِهِنَّ حَتَّى يَظْهَرَ لَكُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُنَّ فِي الرُّغُوبِ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ أَيْ: عَلِمْتُمْ ذَلِكَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ بَعْدَ الِامْتِحَانِ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أَيْ: إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْكَافِرِينَ، وَجُمْلَةُ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ إِرْجَاعِهِنَّ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَةَ لَا تَحِلُّ لِكَافِرٍ، وَأَنَّ إِسْلَامَ الْمَرْأَةِ يُوجِبُ فُرْقَتَهَا مِنْ زَوْجِهَا، لَا مُجَرَّدَ هِجْرَتِهَا، وَالتَّكْرِيرُ لِتَأْكِيدِ الْحُرْمَةِ، أَوِ الْأَوَّلُ: لِبَيَانِ زَوَالِ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: لِامْتِنَاعِ النِّكَاحِ الْجَدِيدِ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا أَيْ: وَأَعْطُوا أزواج هؤلاء اللاتي هاجرون وَأَسْلَمْنَ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهِنَّ مِنَ الْمُهُورِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا طَلَبَهَا غَيْرُ الزَّوْجِ مِنْ قَرَابَاتِهَا مُنِعَ مِنْهَا بِلَا عِوَضٍ وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِأَنَّهُنَّ قَدْ صِرْنَ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أَيْ: مُهُورَهُنَّ، وَذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ تُمْسِكُوا بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِمْسَاكِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، لِقَوْلِهِ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ «1» وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّشْدِيدِ من التمسّك،

_ (1) . البقرة: 231 والطلاق: 2.

وَالْعِصَمُ: جَمْعُ عِصْمَةٍ، وَهِيَ مَا يُعْتَصَمُ بِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا عِصْمَةُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ فَلَيْسَتْ لَهُ بِامْرَأَةٍ لِانْقِطَاعِ عِصْمَتِهَا بِاخْتِلَافِ الدِّينِ. قَالَ النَّخَعِيُّ: هِيَ الْمُسْلِمَةُ تَلْحَقُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَتَكْفُرُ، وَكَانَ الكفار يتزوجون المسلمات، وَالْمُسْلِمُونَ يَتَزَوَّجُونَ الْمُشْرِكَاتِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا خَاصٌّ بِالْكَوَافِرِ الْمُشْرِكَاتِ دُونَ الْكَوَافِرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْكَوَافِرِ مُخَصَّصَةٌ بِإِخْرَاجِ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْهَا. وَقَدْ ذَهَبَ جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثنّي أو كتابيّ لا يفرق بينهما إلا بعد انقضاء العدّة. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي انْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ بَيْنَهُمَا بِالْإِسْلَامِ إِذْ لَا عدة عليها وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ أَيِ: اطْلُبُوا مُهُورَ نِسَائِكُمُ اللَّاحِقَاتِ بالكفار وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ مُرْتَدَّةً إِلَى الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ يُقَالُ لِلْكُفَّارِ: هَاتُوا مَهْرَهَا، وَيُقَالُ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَسْلَمَتْ: رُدُّوا مَهْرَهَا عَلَى زَوْجِهَا الْكَافِرِ ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ أَيْ: ذَلِكُمُ الْمَذْكُورُ مِنْ إِرْجَاعِ الْمُهُورِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ حُكْمُ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ: بَلِيغُ الْعِلْمِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، بَلِيغُ الْحِكْمَةِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَانَ هَذَا مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الزَّمَانِ فِي تِلْكَ النَّازِلَةِ خَاصَّةً بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: رَضِينَا بِحُكْمِ اللَّهِ وَكَتَبُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَامْتَنَعُوا، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ مِمَّا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ مِنْ مُهُورِ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِنِ انْفَلَتَ مِنْكُمْ أحد من نساءكم إِلَى الْكُفَّارِ بِأَنِ ارْتَدَّتِ الْمُسْلِمَةُ فَعاقَبْتُمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَعَاقَبْتُمْ فَغَنِمْتُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ: وَكَانَتِ الْعُقْبَى لَكُمْ، أَيْ: كَانَتِ الْغَنِيمَةُ لَكُمْ حَتَّى غَنِمْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا مِنْ مَهْرِ الْمُهَاجِرَةِ الَّتِي تزوّجوها ودفعوه إِلَى الْكُفَّارِ، وَلَا تُؤْتُوهُ زَوْجَهَا الْكَافِرَ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يُعْطُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ قَدِ انْقَطَعَ حُكْمُهَا بَعْدَ الْفَتْحِ. وَحَاصِلُ مَعْنَاهَا أَنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ يجوز أن يتعلّق بفاتكم، أَيْ: مِنْ جِهَةِ أَزْوَاجِكُمْ، وَيُرَادُ بِالشَّيْءِ الْمَهْرُ الَّذِي غَرِمَهُ الزَّوْجُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِشَيْءٍ. ثُمَّ يَجُوزُ فِي شَيْءٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَهْرُ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ عَلَى هَذَا مِنْ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مِنْ مَهْرِ أَزْوَاجِكُمْ لِيَتَطَابَقَ الْمَوْصُوفُ وَصِفَتُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِشَيْءٍ النِّسَاءُ: أَيْ نَوْعٌ وَصِنْفٌ مِنْهُنَّ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِنْ أَزْواجِكُمْ وَقَوْلِهِ: فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُعْطُونَ مَنْ ذَهَبَتْ زَوْجَتُهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَكَفَرَتْ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مَهْرَهَا، كَمَا حَكَمَ اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَهْرِ الَّذِي أَنْفَقَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أَيِ: احْذَرُوا أَنْ تَتَعَرَّضُوا لِشَيْءٍ مِمَّا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي أَنْتُمْ مُتَّصِفُونَ به يوجب على صاحبه ذلك يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ أَيْ: قَاصِدَاتٌ لمبايعتك على الإسلام، وعَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً مِنَ الْأَشْيَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ، هَذَا كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَإِنَّ نِسَاءَ أَهْلِ مَكَّةَ أَتَيْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعْنَهُ، فَأَمَرَهُ الله

أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَهُوَ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ وَأْدِ الْبَنَاتِ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ أي: لا يلحقن بأزواجهنّ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَقِطُ الْمَوْلُودَ فَتَقُولُ لِزَوْجِهَا: هَذَا وَلَدِي مِنْكَ، فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ الْمُفْتَرَى بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا وَضَعَتْهُ الْأُمُّ سَقَطَ بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا أَنَّهَا تَنْسِبُ وَلَدَهَا مِنَ الزِّنَا إِلَى زَوْجِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ دَخَلَ تَحْتَ النَّهْيِ عَنِ الزِّنَا وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أَيْ: فِي كُلِّ أَمْرٍ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ. قَالَ عَطَاءُ: فِي كُلِّ بِرٍّ وَتَقْوَى، وَقَالَ الْمُقَاتِلَانِ: عَنَى بِالْمَعْرُوفِ النَّهْيَ عَنِ النَّوْحِ، وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ، وَجَزِّ الشَّعْرِ، وَشَقِّ الْجَيْبِ، وَخَمْشِ الْوُجُوهِ، وَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ، وَكَذَا قَالَ قتادة وسعيد بن المسيب ومحمد ابن السَّائِبِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَعْنَى الْقُرْآنِ أَوْسَعُ مِمَّا قَالُوهُ. قِيلَ: وَوَجْهُ التَّقْيِيدِ بِالْمَعْرُوفِ، مَعَ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَاعَةُ مَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ فَبايِعْهُنَّ هَذَا جَوَابُ إِذَا، وَالْمَعْنَى: إِذَا بَايَعْنَكَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَبَايِعْهُنَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي بَيْعَتِهِنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ لِوُضُوحِ كَوْنِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ وَشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ. وَإِنَّمَا خَصَّ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ أَيِ: اطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الْمَغْفِرَةَ لَهُنَّ بَعْدَ هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ لَهُنَّ مِنْكَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: بَلِيغُ الْمَغْفِرَةِ والرحمة لعباده يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمْ جَمِيعُ طَوَائِفِ الْكُفْرِ، وَقِيلَ: الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَقِيلَ: الْمُنَافِقُونَ خَاصَّةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ جَمِيعَ طَوَائِفِ الْكُفْرِ تَتَّصِفُ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ غَضِبَ عَلَيْهَا قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَلْبَتَّةَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أَيْ: كَيَأْسِهِمْ مِنْ بَعْثِ مَوْتَاهُمْ لِاعْتِقَادِهِمْ عَدَمَ الْبَعْثِ، وَقِيلَ: كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ قَدْ مَاتُوا مِنْهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ قَدْ وَقَفُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَتَكُونُ مِنَ عَلَى الْوَجْهِ الأوّل ابتدائية، وعلى الثاني بَيَانِيَّةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَاهَدَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ جَاءَهُ نِسَاءٌ مسلمات، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ حَتَّى بَلَغَ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِمَا بِأَطْوَلَ مِنْ هذا، وفيه وكانت أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي عاتق «1» ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُرْجِعُهَا إِلَيْهِمْ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْمُؤْمِنَاتِ مَا أَنْزَلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَامْتَحِنُوهُنَّ قَالَ: كَانَ امْتِحَانُهُنَّ أَنْ يَشْهَدْنَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ حَقًّا مِنْهُنَّ لَمْ يَرْجِعْنَ إِلَى الْكُفَّارِ، وَأَعْطَى بَعْلَهَا فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ عَقَدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَاقَهَا الَّذِي أَصْدَقَهَا وَأَحَلَّهُنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. وأخرج ابن مردويه

_ (1) . «العاتق» : الشابة أول ما تدرك (النهاية 3/ 178) .

عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ الصُّلْحِ، فَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ، فَسُئِلَتْ: مَا أَخْرَجَكِ؟ فَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ فِرَارًا مِنْ زَوْجِهَا وَرَغْبَةً عَنْهُ رُدَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ رغبة في الإسلام أمسك وَرُدَّ عَلَى زَوْجِهَا مِثْلُ مَا أَنْفَقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي أُسَامَةَ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، بِسَنَدٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ السُّيُوطِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ قَالَ: كَانَ إِذَا جَاءَتِ الْمَرْأَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّفَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِاللَّهِ مَا خَرَجَتْ رَغْبَةً بِأَرْضٍ عَنْ أَرْضٍ، وَبِاللَّهِ مَا خَرَجَتْ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، وَبِاللَّهِ مَا خَرَجَتِ الْتِمَاسَ دُنْيَا، وَبِاللَّهِ مَا خَرَجَتْ إِلَّا حُبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنِيعٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَتَأَخَّرَتِ امْرَأَتُهُ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ بِهَذِهِ الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ بَايَعْتُكَ- كَلَامًا-، وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ مَا بَايَعَهُنَّ إِلَّا بِقَوْلِهِ: قَدْ بَايَعْتُكِ عَلَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ سعد وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رَقِيقَةَ قَالَتْ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسَاءٍ لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا حَتَّى بَلَغَ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَقَالَ: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ، فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُصَافِحُنَا؟ قَالَ: إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ ومسلم وغير هما عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَقَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ قَالَ: كَانَتِ الْحُرَّةُ تُولَدُ لَهَا الْجَارِيَةُ فَتَجْعَلُ مَكَانَهَا غُلَامًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ. قَالَ لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ شَرَطَهُ اللَّهُ لِلنِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ مَا هَذَا الْمَعْرُوفُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعْصِيَكَ فِيهِ؟ قَالَ: «لَا تَنُحْنَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَنِي فُلَانٍ أَسْعَدُونِي عَلَى عَمِّي لَا بُدَّ لِي مِنْ قَضَائِهِنَّ. فَأَبَى عَلَيَّ فَعَاوَدْتُهُ مِرَارًا فَأَذِنَ لِي فِي قَضَائِهِنَّ، فَلَمْ أَنُحْ بَعْدُ، وَلَمْ يبق من النسوة امرأة إِلَّا وَقَدْ نَاحَتْ غَيْرِي» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وغير هما عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةَ أَسْعَدَتْنِي وَأَنَا أُرِيدَ أَنْ أَجْزِيَهَا، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا. فَذَهَبَتْ

ثُمَّ رَجَعَتْ فَقَالَتْ: مَا وَفَّتْ مِنَّا امْرَأَةٌ إِلَّا أُمَّ سُلَيْمٍ وَأُمَّ الْعَلَاءِ وَبِنْتَ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةَ مُعَاذٍ أَوْ بِنْتَ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةَ مُعَاذٍ» . وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ النوح. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَزَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ يَوَدَّانِ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ قَالَ: فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَلَا يَرْجُونَهَا كَمَا يَئِسَ الْكَافِرُ إِذَا مَاتَ وَعَايَنَ ثَوَابَهُ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمِ الْكُفَّارُ أَصْحَابُ الْقُبُورِ الَّذِينَ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ مَاتَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَقَدْ يَئِسَ الْأَحْيَاءُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِمْ، أو يبعثهم الله.

سورة الصف

سورة الصّفّ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نزلت سُورَةُ الصَّفِّ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الصَّفِّ بِمَكَّةَ، وَلَعَلَّ هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ. وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهَا مَدَنِيَّةً ما أخرجه أحمد عن عبد الله ابن سَلَامٍ قَالَ: تَذَاكَرْنَا أَيَّكُمْ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْأَلُهُ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ مِنَّا، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا رَجُلًا رَجُلًا فَجَمَعَنَا، فَقَرَأَ عَلَيْنَا هَذِهِ السُّورَةَ يَعْنِي سُورَةَ الصَّفِّ كُلَّهَا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ السُّورَةُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَالسُّنَنِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) قَوْلُهُ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا، وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ بلفظ الماضي كهذه السورة، وفي بعضها بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ: الْإِرْشَادُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْبِيحِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ مَاضِيهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا وَحَالِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا نَحْوَ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيُ: الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وأقواله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: لِمَ تَقُولُونَ مِنَ الْخَيْرِ مَا لَا تَفْعَلُونَهُ، وَ «لِمَ» مركبة من اللام الجارّة، وما الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وَحُذِفَتْ أَلِفُهَا تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا كَمَا فِي نَظَائِرِهَا، ثُمَّ ذَمَّهُمْ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ أَيْ: عَظُمَ ذَلِكَ فِي الْمَقْتِ، وَهُوَ الْبُغْضُ، وَالْمَقْتُ

وَالْمَقَاتَةُ مَصْدَرَانِ، يُقَالُ: رَجُلٌ مَقِيتٌ وَمَمْقُوتٌ إِذَا لَمْ يُحِبَّهُ النَّاسُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَنْ تَقُولُوا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لِأَنَّ «كَبُرَ» فِعْلٌ بِمَعْنَى بَئِسَ، وَ «مَقْتًا» مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ فِي كَبُرَ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ مُفَسَّرٌ بالنكرة، وأن «تَقُولُوا» هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ، وَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ هَلْ رَفْعُهُ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَيْهِ، أَوْ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف. وقيل: إِنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ كَبُرَ التَّعَجُّبَ، وَقَدْ عَدَّهُ ابْنُ عُصْفُورٍ مِنْ أَفْعَالِ التَّعَجُّبِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الذَّمِّ وَلَا مِنْ أَفْعَالِ التَّعَجُّبِ، بَلْ هُوَ مُسْنَدٌ إِلَى «أَنْ تَقُولُوا» ، وَ «مَقْتًا» تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: وَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ يُخْبِرُنَا بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ حَتَّى نَعْمَلَهُ وَلَوْ ذَهَبَتْ فِيهِ أَمْوَالُنَا وَأَنْفُسُنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ الْآيَةَ، وَانْتِصَابُ «صَفًّا» عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَصِفُونَ أَنْفُسَهُمْ صَفًّا، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: صَافِّينَ أَوْ مَصْفُوفِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُقاتِلُونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقُرِئَ «يَقْتُلُونَ» بِالتَّشْدِيدِ، وَجُمْلَةُ كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يُقَاتِلُونَ، أَوْ مِنَ الضمير في «صفا» على تقدير أنه مؤوّل بصافين أو مصفوفين، ومعنى مرصوص: ملتصق بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، يُقَالُ: رَصَصْتُ الْبِنَاءَ أَرُصُّهُ رَصًّا إِذَا ضَمَمْتُ بَعْضَهَ إِلَى بَعْضٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَرْصُوصٌ بِالرَّصَاصِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مَنْ رصصت البناء إذا لاءمت بَيْنَهُ وَقَارَبْتُ حَتَّى يَصِيرَ كَقِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الرَّصِيصِ، وَهُوَ ضَمُّ الْأَشْيَاءِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَالتَّرَاصُّ: التَّلَاصُقُ. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِهِ بَيَّنَ أَنَّ مُوسَى وَعِيسَى أَمَرَا بِالتَّوْحِيدِ، وَجَاهَدَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَحَلَّ الْعِقَابُ بِمَنْ خَالَفَهُمَا، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ اذْكُرْ، وأي: اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ وَقْتَ قَوْلِ مُوسَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى وَعِيسَى بَعْدَ مَحَبَّةِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ التَّحْذِيرَ لِأَمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلُوا مَعَ نَبِيِّهِمْ مَا فَعَلَهُ قوم موسى وعيسى معهما يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي هَذَا مَقُولُ الْقَوْلِ، أَيْ: لِمَ تُؤْذُونَنِي بِمُخَالَفَةِ مَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ، أَوْ لِمَ تُؤْذُونَنِي بِالشَّتْمِ وَالِانْتِقَاصِ، وَمِنْ ذَلِكَ رَمْيُهُ بِالْأُدْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَجُمْلَةُ وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَ (قَدْ) لِتَحَقُّقِ الْعِلْمِ أَوْ لِتَأْكِيدِهِ، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ تُؤْذُونَنِي مَعَ عِلْمِكُمْ بِأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَالرَّسُولُ يُحْتَرَمُ وَيُعَظَّمُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَكُمْ شَكٌّ فِي الرِّسَالَةِ لِمَا قَدْ شَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكُمُ الِاعْتِرَافَ بِرِسَالَتِي، وَتُفِيدُكُمُ الْعِلْمَ بِهَا عِلْمًا يَقِينِيًّا فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أَيْ: لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الزَّيْغِ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ، أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْهُدَى وَصَرَفَهَا عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: فَلَمَّا زَاغُوا عَنِ الْإِيمَانِ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الثَّوَابِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا عَدَلُوا عَنِ الْحَقِّ أَمَالَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنْهُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْحَقَّ بِإِيذَاءِ نَبِيِّهِمْ أَمَالَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْحَقِّ جَزَاءً بِمَا ارْتَكَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَهْدِي مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ فَاسِقٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَهْدِي كُلَّ مُتَّصِفٍ بِالْفِسْقِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَإِذْ قالَ مُوسى مَعْمُولٌ لِعَامِلِهِ، أَوْ

مَعْمُولٌ لِعَامِلٍ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى عَامِلِ الظَّرْفِ الأوّل يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أَيْ: أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ بِالْإِنْجِيلِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ لِأَنِّي لَمْ آتِكُمْ بِشَيْءٍ يُخَالِفُ التَّوْرَاةَ، بَلْ هِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّبْشِيرِ بِي، فَكَيْفَ تَنْفِرُونَ عَنِّي وَتُخَالِفُونَنِي، وَانْتِصَابُ مُصَدِّقًا عَلَى الْحَالِ، وَكذا مُبَشِّراً، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا مَا فِي الرَّسُولِ مِنْ مَعْنَى الْإِرْسَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنِّي أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ حَالَ كَوْنِي مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِمَنْ يَأْتِي بَعْدِي، وَإِذَا كُنْتُ كَذَلِكَ فِي التَّصْدِيقِ وَالتَّبْشِيرِ فلا مقتضى لتكذيبي، وأحمد اسْمُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَمٌ مَنْقُولٌ مِنَ الصِّفَةِ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُبَالَغَةً مِنَ الْفَاعِلِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ أَكْثَرُ حَمْدًا لِلَّهِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ فَيَكُونُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ يُحْمَدُ بِمَا فِيهِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالسُّلَمِيُّ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ بَعْدِي بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِسْكَانِهَا فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ: لَمَّا جَاءَهُمْ عِيسَى بِالْمُعْجِزَاتِ قَالُوا هَذَا الَّذِي جَاءَنَا بِهِ سِحْرٌ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ لَمَّا جَاءَهُمْ بِذَلِكَ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: سِحْرٌ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «سَاحِرٌ» . وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ أَيْ: لَا أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْمًا مِنْهُ حَيْثُ يَفْتَرِي عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ يُدْعَى إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ الْأَدْيَانِ وَأَشْرَفُهَا لِأَنَّ من كان كذلك فحقّه أن لا يَفْتَرِيَ عَلَى غَيْرِهِ الْكَذِبَ، فَكَيْفَ يَفْتَرِيهِ عَلَى رَبِّهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَهُوَ يُدْعى مِنَ الدُّعَاءِ مبنيا للمفعول. وقرأ طلحة ابن مُصَرِّفٍ يُدْعى بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ الادّعاء مبنيا للفاعل، وإنما عدّي بإلى لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الِانْتِمَاءِ وَالِانْتِسَابِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا. وَالْمَعْنَى: لَا يَهْدِي مَنِ اتَّصَفَ بالظلم، والمذكورون من جملتهم يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ الْإِطْفَاءُ: الْإِخْمَادُ، وَأَصْلُهُ فِي النَّارِ، وَاسْتُعِيرَ لِمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنَ الظُّهُورِ. وَالْمُرَادُ بِنُورِ اللَّهِ الْقُرْآنُ، أَيْ: يُرِيدُونَ إِبْطَالَهُ وَتَكْذِيبَهُ بِالْقَوْلِ، أَوِ الْإِسْلَامِ، أَوْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، أَوْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، وَمَعْنَى بِأَفْوَاهِهِمْ: بِأَقْوَالِهِمُ الْخَارِجَةِ مِنْ أَفْوَاهِهِمُ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلطَّعْنِ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ بِإِظْهَارِهِ فِي الْآفَاقِ وَإِعْلَائِهِ عَلَى غَيْرِهِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ مُتِمُّ نُورِهِ بِالْإِضَافَةِ وَالْبَاقُونَ بِتَنْوِينِ مُتِمٌّ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّامُ فِي «لِيُطْفِئُوا» لَامٌ مُؤَكِّدَةٌ دَخَلَتْ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا، وَأَكْثَرُ مَا تَلْزَمُ هَذِهِ اللَّامُ الْمَفْعُولُ إِذَا تَقَدَّمَ، كَقَوْلِكَ: لَزَيْدٌ ضَرَبْتُ، وَلَرُؤْيَتُكَ قَصَدْتُ، وَقِيلَ: هِيَ لَامُ الْعِلَّةِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يُرِيدُونَ إِبْطَالَ الْقُرْآنِ أَوْ دَفْعَ الْإِسْلَامِ أَوْ هَلَاكَ الرَّسُولِ لِيُطْفِئُوا، وَقِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى أَنِ النَّاصِبَةِ وَأَنَّهَا نَاصِبَةٌ بِنَفْسِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَجْعَلُ لَامَ كَيْ فِي مَوْضِعِ أَنْ فِي أَرَادَ وَأَمَرَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْكِسَائِيُّ، وَمِثْلُ هَذَا قوله: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «1» وَجُمْلَةُ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْهُدَى: الْقُرْآنُ أَوِ الْمُعْجِزَاتُ، وَمَعْنَى دِينِ الْحَقِّ: الْمِلَّةُ الْحَقَّةُ، وهي

_ (1) . النساء: 26.

[سورة الصف (61) : الآيات 10 إلى 14]

مِلَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَعْنَى لِيُظْهِرَهُ: لِيَجْعَلَهُ ظَاهِرًا عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، عَالِيًا عَلَيْهَا غَالِبًا لَهَا، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: ذَلِكَ إِذَا نَزَلَ عِيسَى لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ دِينٌ إِلَّا دِينَ الْإِسْلَامِ، وَالدِّينُ مَصْدَرٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْأَدْيَانِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَجَوَابُ «لَوْ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَتَمَّهُ وَأَظْهَرَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْجِهَادُ يَقُولُونَ: وَدِدْنَا لَوْ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَنَا بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ فَنَعْمَلُ بِهِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ لَا شَكَّ فِيهِ، وَجِهَادُ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ خَالَفُوا الْإِيمَانَ وَلَمْ يُقِرُّوا بِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْجِهَادُ كَرِهَ ذَلِكَ أُنَاسٌ مِنَ المؤمنين وشقّ عليهم أمره، فقال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْقِتَالِ وَحْدَهُ، وَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ الرَّجُلُ: قَاتَلْتُ وَضَرَبْتُ بِسَيْفِي وَلَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ لَفَعَلْنَاهُ، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ فكرهوا ذلك، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ قَالَ: مُثَبَّتٌ لَا يَزُولُ مُلْصَقٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْعَاقِبُ: وَالْعَاقِبُ الَّذِي ليس بعده نبيّ» . [سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 14] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ جَعَلَ الْعَمَلَ الْمَذْكُورَ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُمْ يَرْبَحُونَ فِيهِ كَمَا يَرْبَحُونَ فِيهَا، وَذَلِكَ بِدُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ وَنَجَاتِهِمْ مِنَ النَّارِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُنْجِيكُمْ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْجَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْجِيَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ التِّجَارَةَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا فَقَالَ: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَهُوَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ لِلْإِيذَانِ بِوُجُوبِ الِامْتِثَالِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فَأَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْأَمْوَالِ عَلَى الْأَنْفُسِ لِأَنَّهَا

هِيَ الَّتِي يُبْدَأُ بِهَا فِي الْإِنْفَاقِ وَالتَّجَهُّزِ إِلَى الْجِهَادِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُؤْمِنُونَ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «آمِنُوا وَجَاهِدُوا» عَلَى الْأَمْرِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: تُؤْمِنُونَ عَطْفُ بَيَانٍ لِتِجَارَةٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً مُبَيِّنَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: هَذَا الْفِعْلُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يَعْلَمُ فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ، لَا إِذَا كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ فَإِنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ هَذَا جَوَابُ الْأَمْرِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَلِهَذَا جُزِمَ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْمُبَرِّدُ: قَوْلُهُ: تُؤْمِنُونَ فِي مَعْنَى آمِنُوا، وَلِذَلِكَ جَاءَ يَغْفِرْ لَكُمْ مَجْزُومًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَغْفِرْ لَكُمْ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ فَجَعَلَهُ مَجْزُومًا لِكَوْنِهِ جواب الاستفهام، وقد غلّطه بعض أَهْلُ الْعِلْمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَيْسُوا إِذَا دَلَّهُمْ عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ يَغْفِرْ لَهُمْ إِنَّمَا يَغْفِرُ لَهُمْ إِذَا آمَنُوا وَجَاهَدُوا. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِ الْفَرَّاءِ: إِنَّ «هَلْ أَدُلُّكُمْ» فِي مَعْنَى الْأَمْرِ عِنْدَهُ، يُقَالُ: هَلْ أَنْتَ سَاكِتٌ؟ أَيِ: اسْكُتْ، وَبَيَانُهُ أَنَّ هَلْ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، ثُمَّ يَتَدَرَّجُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ عَرْضًا وَحَثًّا، وَالْحَثُّ كَالْإِغْرَاءِ، وَالْإِغْرَاءُ أَمْرٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: «تُؤْمِنُوا، وَتُجَاهِدُوا» عَلَى إِضْمَارِ لَامِ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: إِنَّ يَغْفِرْ لَكُمْ مَجْزُومٌ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِنْ تُؤْمِنُوا يَغْفِرْ لَكُمْ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْإِدْغَامِ فِي يَغْفِرْ لَكُمْ، وَالْأَوْلَى تَرْكُ الْإِدْغَامِ لِأَنَّ الرَّاءَ حَرْفٌ مُتَكَرِّرٌ فَلَا يَحْسُنُ إِدْغَامُهُ فِي اللَّامِ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ جَرْيِ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِ الْجَنَّاتِ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أَيْ: فِي جَنَّاتِ إِقَامَةٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي: ذلك المذكور من الْمَغْفِرَةِ، وَإِدْخَالُ الْجَنَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِمَا ذُكِرَ هُوَ الْفَوْزُ الَّذِي لَا فَوْزَ بَعْدَهُ، وَالظَّفَرُ الَّذِي لَا ظَفَرَ يُمَاثِلُهُ وَأُخْرى تُحِبُّونَها، قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: «أُخْرَى» مَعْطُوفَةٌ عَلَى «تِجَارَةٍ» فَهِيَ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ، أَيْ: وَهَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى خَصْلَةٍ أُخْرَى تُحِبُّونَهَا فِي الْعَاجِلِ مَعَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: هِيَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، أَيْ: وَلَكُمْ خَصْلَةٌ أُخْرَى، وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، أَيْ: وَيُعْطِيكُمْ خَصْلَةً أُخْرَى. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الأخرى فَقَالَ: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أَيْ: هِيَ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ لَكُمْ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ يفتحه عليكم، وقيل: نصر بدل من أخرى على تقدير كونها في محلّ رفع، وقيل: التقدير: ولكم نصر وَفَتْحٌ قَرِيبٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي النَّصْرَ عَلَى قُرَيْشٍ وَفَتْحَ مَكَّةَ. وَقَالَ عَطَاءُ: يُرِيدُ فَتْحَ فَارِسَ وَالرُّومِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَبَشِّرْ، أَوْ عَلَى تُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى: وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ، أَوْ بَشِّرْهُمْ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْفَتْحِ، وَبِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ وَبَشِّرْهُمْ بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ حَضَّ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نُصْرَةِ دِينِهِ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أَيْ: دُومُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ نُصْرَةِ الدِّينِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو ونافع أَنْصارَ اللَّهِ بِالتَّنْوِينِ وَتَرْكِ الْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ، وَالرَّسْمُ يَحْتَمِلُ الْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ الْإِضَافَةِ لِقَوْلِهِ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ بِالْإِضَافَةِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أَيِ انْصُرُوا دِينَ اللَّهِ مِثْلَ نُصْرَةِ الْحَوَارِيِّينَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ عِيسَى مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ فقالوا: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وَالْكَافُ فِي كَما قالَ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كُونُوا كَوْنًا كَمَا قَالَ، وَقِيلَ: الْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى إضمار الفعل،

وَقِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، وَالْمَعْنَى: كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا كَانَ الْحَوَارِيُّونَ أَنْصَارَ عِيسَى حِينَ قَالَ لَهُمْ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ وَقَوْلُهُ: إِلَى اللَّهِ قِيلَ: إِلَى بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ مَنْ أَنْصَارِي مَعَ اللَّهِ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: مَنْ أَنْصَارِي فِيمَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: مَنْ أَنْصَارِي مُتَوَجِّهًا إِلَى نُصْرَةِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَالْحَوَارِيُّونَ: هُمْ أَنْصَارُ الْمَسِيحِ وَخُلَّصُ أَصْحَابِهِ، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمْ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ أَيْ آمَنَتْ طَائِفَةٌ بِعِيسَى وَكَفَرَتْ بِهِ طَائِفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا بَعْدَ رَفْعِهِ تَفَرَّقُوا وَتَقَاتَلُوا فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ أَيْ: قَوَّيْنَا الْمُحِقِّينَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُبْطِلِينَ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أَيْ: عَالِينَ غَالِبِينَ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَأَيَّدْنَا الْآنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفِرْقَتَيْنِ جَمِيعًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا: لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَيُّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ فَكَرِهُوا فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ «1» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ جَاءَهُ سَبْعُونَ رَجُلًا فَبَايَعُوهُ عِنْدَ الْعَقَبَةِ وَآوَوْهُ وَنَصَرُوهُ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ دِينَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وابن سعد عن عبد الله ابن أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّفَرِ الَّذِينَ لَقُوهُ بِالْعَقَبَةِ: «أَخْرِجُوا إليّ اثني عشر منكم يكونوا كُفَلَاءَ عَلَى قَوْمِهِمْ كَمَا كَفَلَتِ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى بن مَرْيَمَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنُّقَبَاءِ: «إِنَّكُمْ كُفَلَاءُ عَلَى قَوْمِكُمْ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلُ قَوْمِي، قَالُوا: نَعَمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ: فَقَوَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا الْيَوْمَ ظاهِرِينَ.

_ (1) . الصف: 2- 4.

سورة الجمعة

سورة الجمعة وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْجُمْعَةِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الجمعة سورة الجمعة وإِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة ب قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقُونَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) قَوْلُهُ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْجَرِّ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ لِلَّهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْبَدَلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَرَأَ أَبُو وَائِلِ بْنُ مُحَارِبٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَرُؤْبَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْقُدُّوسِ بِضَمِّ الْقَافِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ الْمُرَادُ بِالْأُمِّيِّينَ الْعَرَبُ، مَنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يُحْسِنُهَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَالْأُمِّيُّ فِي الْأَصْلِ الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ الْمَكْتُوبَ، وَكَانَ غَالِبُ الْعَرَبِ كَذَلِكَ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ مَعْنَى الْأُمِّيِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمَعْنَى مِنْهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِنْ جِنْسِهِمْ وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَمَا كَانَ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، وَوَجْهُ الِامْتِنَانِ بِكَوْنِهِ

مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّ الجنس أميل إلى جنسه وأقرب إليه يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَا تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِ «رَسُولًا» ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَيُزَكِّيهِمْ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ: أَيْ يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَأْخُذُ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَقِيلَ: يَجْعَلُهُمْ أَزْكِيَاءَ الْقُلُوبِ بِالْإِيمَانِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ هَذِهِ صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لِ «رَسُولًا» ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنُ، وَبِالْحِكْمَةِ: السُّنَّةُ، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ: الْخَطُّ بِالْقَلَمِ، وَالْحِكْمَةُ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ، كَذَا قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ «1» وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ بَعْثَتِهِ فِيهِمْ فِي شِرْكٍ وَذَهَابٍ عَنِ الْحَقِّ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأُمِّيِّينَ، أَيْ: بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ، وَبَعَثَ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَسَيَلْحَقُونَ بِهِمْ مِنْ بَعْدُ، أَوْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فِي «يُعَلِّمُهُمْ» ، أَيْ: وَيُعَلِّمُ آخَرِينَ، أَوْ عَلَى مَفْعُولِ «يُزَكِّيهِمْ» أَيْ: يُزَكِّيهِمْ وَيُزَكِّي آخَرِينَ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْآخَرِينَ مَنْ جَاءَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ التَّابِعُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ. وَجُمْلَةُ: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ صفة لآخرين، والضمير في «منهم» و «بهم» رَاجِعٌ إِلَى الْأُمِّيِّينَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآخَرِينَ هُمْ مَنْ يَأْتِي بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْعَرَبِ خَاصَّةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا إِلَى جميع الثقلين، فتخصيص العرب ها هنا لِقَصْدِ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي عُمُومَ الرِّسَالَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآخَرِينَ الْعَجَمُ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْعَرَبِ، فَقَدْ صَارُوا بِالْإِسْلَامِ مِنْهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ: بَلِيغُ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْإِسْلَامَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْوَحْيَ وَالنُّبُوَّةَ. وَقِيلَ: إِلْحَاقُ الْعَجَمِ بِالْعَرَبِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يُسَاوِيهِ فَضْلٌ وَلَا يُدَانِيهِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ضَرَبَ سُبْحَانَهُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِالتَّوْرَاةِ مَثَلًا فَقَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أَيْ: كُلِّفُوا الْقِيَامَ بِهَا والعمل بها فِيهَا ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أَيْ: لَمْ يَعْمَلُوا بِمُوجِبِهَا، وَلَا أَطَاعُوا مَا أُمِرُوا بِهِ فِيهَا كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً هِيَ جَمْعُ سِفْرٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْكَبِيرُ، لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عَنِ الْمَعْنَى إِذَا قُرِئَ. قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: الْحِمَارُ لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل «2» فَهَكَذَا الْيَهُودُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ يَعْنِي حُمِّلُوا مِنَ الْحَمَالَةِ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ، أَيْ: ضَمِنُوا أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ، وَقَوْلُهُ: يَحْمِلُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ صِفَةٍ لِلْحِمَارِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ به حِمَارًا مُعَيَّنًا، فَهُوَ فِي حُكْمِ النَّكِرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يسبّني ... فمضيت ثمّ قلت: لا يعنيني

_ (1) . في تفسير القرطبي (18/ 92) : أن تفسير الكتاب بالخط بالقلم هو قول ابن عباس، وأن تفسير الحكمة بالفقه في الدّين من قول مالك بن أنس. (2) . «الزبيل» : الزّبل والقفّة.

بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أَيْ: بِئْسَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، عَلَى أَنَّ التَّمْيِيزَ مَحْذُوفٌ، وَالْفَاعِلُ المفسّر به مضمر، ومثل الْقَوْمِ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ، أَوْ مَثَلُ الْقَوْمِ فَاعِلُ بِئْسَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ الْمَوْصُولُ بَعْدَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مَثَلُ الَّذِينَ كَذَّبُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ صِفَةً لِلْقَوْمِ، فَيَكُونَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الْمُكَذِّبِينَ مَثَلُ هَؤُلَاءِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يَعْنِي عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فيهم اليهود دخولا أوّليا قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ الْمُرَادُ بالذين هادوا الذين تَهَوَّدُوا، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ ادَّعَوُا الْفَضِيلَةَ عَلَى النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «1» وَقَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «2» فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ لَمَّا ادَّعَوْا هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لِتَصِيرُوا إِلَى مَا تَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْكَرَامَةِ فِي زَعْمِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي هَذَا الزَّعْمِ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَحَبَّ الْخُلُوصَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ. قَرَأَ الجمهور: فَتَمَنَّوُا بضم الواو، وقرأ ابن السميقع بِفَتْحِهَا تَخْفِيفًا، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ إِبْدَالَ الْوَاوِ هَمْزَةً. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَبَدًا بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، فَقَالَ: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَيْ: بِسَبَبِ مَا عَمِلُوا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ يَعْنِي عَلَى الْعُمُومِ، وَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ دَاخِلُونَ فِيهِمْ دُخُولًا أَوَلِيًّا. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بِأَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الْمَوْتِ لَا يُنْجِيهِمْ وَأَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ، فَقَالَ: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لَا مَحَالَةَ، وَنَازِلٌ بِكُمْ بِلَا شَكٍّ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ دَاخِلَةٌ لِتَضَمُّنِ الِاسْمِ مَعْنَى الشَّرْطِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يُقَالُ إن زيدا فمنطلق، وها هنا قَالَ: «فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ» لِمَا فِي مَعْنَى «الَّذِي» مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ: إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ، وَيَكُونُ مُبَالَغَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْفِرَارُ مِنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا مَزِيدَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: تَفِرُّونَ مِنْهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ. ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ مَيْسَرَةَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكْتُوبَةٌ فِي التَّوْرَاةِ بِسَبْعِمِائَةِ آيَةٍ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أَوَّلُ سُورَةِ الْجُمُعَةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ فَتَلَاهَا، فَلَمَّا بَلَغَ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِنَا؟ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ» . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ بِهِ رجال

_ (1) . المائدة: 18. (2) . البقرة: 111.

[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 إلى 11]

مِنْ فَارِسَ، أَوْ قَالَ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي أَصْلَابِ أَصْلَابِ أَصْلَابِ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي رِجَالًا وَنِسَاءً مِنْ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ثُمَّ قَرَأَ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ قَالَ: الدِّينُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها قَالَ: الْيَهُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَسْفاراً قال: كتبا. [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أَيْ: وَقَعَ النِّدَاءُ لَهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَذَانُ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِدَاءٌ سِوَاهُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بيان لإذا وَتَفْسِيرٌ لَهَا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّ «مِنْ» بِمَعْنَى «فِي» ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ «1» أَيْ فِي الْأَرْضِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «الْجُمُعَةِ» بِضَمِّ الْمِيمِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالْأَعْمَشُ بِإِسْكَانِهَا تَخْفِيفًا. وَهُمَا لُغَتَانِ، وَجَمْعُهَا جُمَعٌ وَجُمُعَاتٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ الْجُمْعَةُ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَبِفَتْحِهَا وَبِضَمِّهَا. وَهِيَ صِفَةٌ لِلْيَوْمِ، أَيْ: يَوْمَ يُجْمَعُ النَّاسُ، قَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا وَأَبُو عُبَيْدٍ: وَالتَّخْفِيفُ أَخَفُّ وَأَقْيَسُ، نَحْوَ: غُرْفَةٌ وَغُرَفٌ، وَطُرْفَةٌ وَطُرَفٌ، وَحُجْرَةٌ وَحُجَرٌ. وَفَتْحُ الْمِيمِ لُغَةُ عَقِيلٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ جُمَعَةً لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهَا خَلْقَ آدَمَ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ فَرَغَ فِيهَا مِنْ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ فَاجْتَمَعَتْ فِيهَا جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقِيلَ: لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا لِلصَّلَاةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ عَطَاءُ: يَعْنِي الذَّهَابَ وَالْمَشْيَ إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُضِيُّ وَالسَّعْيُ وَالذَّهَابُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْقَصْدُ. قَالَ الحسن: والله ما هو بسعي عَلَى الْأَقْدَامِ، وَلَكِنَّهُ قَصْدٌ بِالْقُلُوبِ وَالنِّيَّاتِ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَمَلُ كَقَوْلِهِ: مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ «2» وقوله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى «3» وَقَوْلُهُ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى «4» قال القرطبي: وهذا قول

_ (1) . فاطر: 40 والأحقاف: 4. [.....] (2) . الإسراء: 19. (3) . الليل: 84. (4) . النجم: 39.

سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمٌ لِكَيْ يُدْرِكُوهُمْ «1» وَقَالَ أَيْضًا: سَعَى سَاعِيَا غَيْظِ بْنِ مُرَّةَ بَعْدَ مَا ... تبزّل مَا بَيْنَ الْعَشِيرَةِ بِالدَّمِ «2» أَيْ فَاعْمَلُوا عَلَى الْمُضِيِّ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَاشْتَغِلُوا بِأَسْبَابِهِ مِنَ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَسْعَى عَلَى جُلِّ بَنِي مَالِكٍ ... كلّ امرئ في شأنه ساعي وَذَرُوا الْبَيْعَ أَيِ: اتْرُكُوا الْمُعَامَلَةَ بِهِ وَيَلْحَقُ بِهِ سَائِرُ الْمُعَامَلَاتِ. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةَ لَمْ يَحِلَّ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى السَّعْيِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَتَرْكِ الْبَيْعِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ فِعْلِ الْبَيْعِ وَتَرْكِ السَّعْيِ، لِمَا فِي الِامْتِثَالِ مِنَ الْأَجْرِ وَالْجَزَاءِ. وَفِي عَدَمِهِ مِنْ عَدَمِ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أَيْ: إِذَا فَعَلْتُمُ الصَّلَاةَ وَأَدَّيْتُمُوهَا وَفَرَغْتُمْ مِنْهَا فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيمَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ مَعَاشِكُمْ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَيْ: مِنْ رِزْقِهِ الَّذِي يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الْأَرْبَاحِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْمَكَاسِبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ ابْتِغَاءُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَجْرِ بِعَمَلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ مَا لَا يَحِلُّ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أَيْ: ذِكْرًا كَثِيرًا بِالشُّكْرِ لَهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ الْأُخْرَوِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ، وَكَذَا اذْكُرُوهُ بِمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَذْكَارِ، كَالْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ: كَيْ تَفُوزُوا بِخَيْرِ الدَّارَيْنِ وَتَظْفَرُوا بِهِ وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ كَانَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ، فَأَقْبَلَتْ عِيرٌ «3» مِنَ الشَّامِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَانْفَتَلَ الناس إليها حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فِي الْمَسْجِدِ. وَمَعْنَى: «انْفَضُّوا إِلَيْهَا» تَفَرَّقُوا خَارِجِينَ إِلَيْهَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَالُوا إِلَيْهَا، وَالضَّمِيرُ لِلتِّجَارَةِ، وَخُصَّتْ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَيْهَا دُونَ اللَّهْوِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَهَمَّ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً انْفَضُّوا إِلَيْهَا، أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهِ، فَحُذِفَ الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وَقِيلَ: إِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى ضَمِيرِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ الِانْفِضَاضَ إِلَيْهَا إِذَا كان مذموما مع الحاجة إليها فكيف

_ (1) . وعجزه: فلم يفعلوا ولم يلاموا ولم يألوا. (2) . «غيظ بن مرة» : حيّ من غطفان بن سعد. «تبزّل بالدم» : أي تشقّق. (3) . «العير» : الإبل تحمل الطعام، ثم غلب على كل قافلة.

بِالِانْفِضَاضِ إِلَى اللَّهْوِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ: وَتَرَكُوكَ قائِماً أَيْ: عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّ الْعَمَلَ لِلْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ لِلدُّنْيَا، فَقَالَ: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ يَعْنِي مِنَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ وَهُوَ الْجَنَّةُ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ اللَّذَيْنِ ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِمَا وَتَرَكْتُمُ الْبَقَاءَ فِي الْمَسْجِدِ وَسَمَاعَ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِهَا وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فَمِنْهُ اطْلُبُوا الرِّزْقَ، وَإِلَيْهِ تَوَسَّلُوا بِعَمَلِ الطَّاعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ الرِّزْقِ وَأَعْظَمُ مَا يَجْلِبُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ جُمِعَتْ طِينَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ وَالْبَعْثَةُ، وَفِي آخِرِهِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ مِنْهَا سَاعَةٌ مَنْ دَعَا اللَّهَ فِيهَا بِدَعْوَةٍ اسْتَجَابَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَدْرِي مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ أَبَاكُمْ آدَمَ، أَفَلَا أُحَدِّثْكُمْ عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهُ خُلِقَ فِيهِ آدَمُ. وَوَرَدَ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي فَضْلِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَعَظِيمِ أَجْرِهَا، وَفِي السَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا، وَأَنَّهُ يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ فِيهَا، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي شَرْحِي لِلْمُنْتَقَى بِمَا لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ قَالَ: رَأَى مَعِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَوْحًا مَكْتُوبًا فِيهِ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فَقَالَ: مَنْ أَمْلَى عَلَيْكَ هَذَا؟ قُلْتُ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: إِنَّ أُبَيًّا أَقْرَأُنَا لِلْمَنْسُوخِ اقْرَأْهَا: «فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» وَرَوَى هَؤُلَاءِ مَا عَدَا أَبَا عَبِيدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ إِلَّا «فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» ، وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ أَيْضًا الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجُوا كُلُّهُمْ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: «فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» قَالَ: وَلَوْ كَانَ فَاسْعَوْا لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ: فامضوا. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ عَنْهُ أَنَّ السَّعْيَ: الْعَمَلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَا يَخْتَلِفَانِ فِي تِجَارَتِهِمَا إِلَى الشَّامِ، فَرُبَّمَا قَدِمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَيَدْعُونَهُ وَيَقُومُونَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ: وَذَرُوا الْبَيْعَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قَالَ: لَيْسَ لِطَلَبِ دُنْيَا، وَلَكِنْ عِيَادَةِ مَرِيضٍ، وَحُضُورِ جِنَازَةٍ، وَزِيَارَةِ أَخٍ فِي اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَمْ تُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ عِيَادَةُ مَرِيضٍ وَحُضُورُ جِنَازَةٍ وَزِيَارَةُ أَخٍ فِي اللَّهِ. وَأَخْرَجَ

الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا إِذْ قَدِمَتْ عِيرٌ الْمَدِينَةَ، فَابْتَدَرَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا أَنَا فِيهِمْ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: جَاءَتْ عِيرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تَحْمِلُ الطَّعَامَ، فَخَرَجُوا مِنَ الْجُمُعَةِ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ، وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى دَحْيَةَ، وَتَرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ، وَبَقِيَ فِي الْمَسْجِدِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَسَبْعُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ خَرَجُوا كُلُّهُمْ لَاضْطَرَمَ الْمَسْجِدُ عَلَيْهِمْ نَارًا. وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى عَنْ جماعة من الصحابة وغيرهم.

سورة المنافقون

سورة المنافقون وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الجمعة فيحرّض بها الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ الْمُنَافِقِينَ فَيُقَرِّعُ بِهَا الْمُنَافِقِينَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) قَوْلُهُ: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ أَيْ: إِذَا وَصَلُوا إِلَيْكَ وَحَضَرُوا مَجْلِسَكَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَالُوا، وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ، وقالوا: حَالٌ، وَالتَّقْدِيرُ: جَاءُوكَ قَائِلِينَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَلَا تَقْبَلُ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: الْجَوَابُ: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً وَهُوَ بَعِيدٌ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ أَكَّدُوا شَهَادَتَهُمْ بِإِنَّ، وَاللَّامِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهَا صَادِرَةٌ مِنْ صَمِيمِ قُلُوبِهِمْ مَعَ خُلُوصِ اعْتِقَادِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ، وَمَعْنَى نَشْهَدُ: نَحْلِفُ، فَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ، وَلِذَلِكَ يُتَلَقَّى بِمَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ قَيْسِ بْنِ ذُرَيْحٍ: وَأَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أُحِبُّهَا ... فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدَهَا لِيَا وَمِثْلُ نَشْهَدُ نَعْلَمُ، فَإِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتِي ... إِنَّ الْمَنَايَا لَا تَطِيشُ سِهَامُهَا

وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ مُعْتَرِضَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَوَاطِنُهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ أَيْ فِي شَهَادَتِهِمُ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ وَخُلُوصِ الِاعْتِقَادِ لَا إِلَى مَنْطُوقِ كَلَامِهِمْ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِالرِّسَالَةِ، فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِيمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُمْ مِنَ التَّأْكِيدِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُمْ بِذَلِكَ صَادِرَةٌ عَنْ خُلُوصِ اعْتِقَادٍ وَطُمَأْنِينَةِ قَلْبٍ وَمُوَافَقَةِ بَاطِنٍ لِظَاهِرٍ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أَيْ: جَعَلُوا حَلِفَهُمُ الَّذِي حَلَفُوا لَكُمْ بِهِ إِنَّهُمْ لِمِنْكُمْ وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَرَسُولُ اللَّهِ وِقَايَةً تَقِيهِمْ مِنْكُمْ، وَسُتْرَةً يَسْتَتِرُونَ بِهَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ كَذِبِهِمْ وَحَلِفِهِمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا جَوَابُ الشَّرْطِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَيْمَانَهُمْ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِكَسْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: مَنَعُوا النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ وَأَعْمَالِ الطَّاعَةِ بِسَبَبِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ من التشكيك والقدح في النبوّة. هذا مَعْنَى الصَّدِّ الَّذِي بِمَعْنَى الصَّرْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصُّدُودِ، أَيْ: أَعْرَضُوا عَنِ الدُّخُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِقَامَةِ أَحْكَامِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ النِّفَاقِ وَالصَّدِّ، وَفِي سَاءَ مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالصَّدِّ وَقُبْحِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبُرُهُ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا أَيْ: بِسَبَبِ أَنَّهُمْ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ نِفَاقًا ثُمَّ كَفَرُوا فِي الْبَاطِنِ، أَوْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَظْهَرُوا الْكُفْرَ لِلْكَافِرِينَ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي كُفْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى كَمَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أَيْ: خَتَمَ عَلَيْهَا بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَطُبِعَ «» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورِ بَعْدَهُ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هذه قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ «فَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ» فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَرَشَادِهِمْ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ أَيْ: هَيْئَاتِهِمْ وَمَنَاظِرِهِمْ، يَعْنِي أَنَّ لَهُمْ أَجْسَامًا تُعْجِبُ مَنْ يَرَاهَا لِمَا فِيهَا مِنَ النَّضَارَةِ وَالرَّوْنَقِ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ فَتَحْسَبُ أَنَّ قَوْلَهُمْ حَقٌّ وَصِدْقٌ لِفَصَاحَتِهِمْ وَذَلَاقَةِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ فَصِيحًا جَسِيمًا جَمِيلًا، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَجَدُّ بْنُ قيس، ومعتّب ابن قشير، كَانَتْ لَهُمْ أَجْسَامٌ وَمَنْظَرٌ وَفَصَاحَةٌ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ «يُسْمَعْ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَجُمْلَةُ: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ أَجْسَامَهُمْ تُعْجِبُ الرَّائِيَ وَتَرُوقُ النَّاظِرَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، شُبِّهُوا فِي جُلُوسِهِمْ فِي مَجَالِسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَنِدِينَ بِهَا بِالْخُشُبِ الْمَنْصُوبَةِ الْمُسْنَدَةِ إِلَى الْحَائِطِ الَّتِي لَا تَفْهَمُ وَلَا تَعْلَمُ، وَهُمْ كَذَلِكَ لِخُلُوِّهِمْ عَنِ الْفَهْمِ النَّافِعِ وَالْعِلْمِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَصَفَهُمْ بِتَمَامِ الصُّوَرِ، ثُمَّ أَعْلَمَ أَنَّهُمْ فِي تَرْكِ الْفَهْمِ وَالِاسْتِبْصَارِ بِمَنْزِلَةِ الْخُشُبِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «خُشُبٌ» بِضَمَّتَيْنِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَقُنْبُلٌ بِإِسْكَانِ الشِّينِ، وَبِهَا قَرَأَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ لِأَنَّ وَاحِدَتَهَا خَشَبَةٌ كَبَدَنَةٍ وَبُدُنٍ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَمَعْنَى مُسَنَّدَةٌ

أَنَّهَا أُسْنِدَتْ إِلَى غَيْرِهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَسْنَدْتُ كَذَا إِلَى كَذَا، وَالتَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ. ثُمَّ عَابَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْجُبْنِ فَقَالَ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أَيْ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ يَسْمَعُونَهَا وَاقِعَةً عَلَيْهِمْ، نَازِلَةً بِهِمْ، لِفَرْطِ جُبْنِهِمْ وَرُعْبِ قُلُوبِهِمْ، وَفِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِلْحُسْبَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: هُمُ الْعَدُوُّ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ أَنَّهُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْعَدَاوَةِ لِكَوْنِهِمْ يُظْهِرُونَ غَيْرَ مَا يُبْطِنُونَ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلْحُسْبَانِ هُوَ قَوْلُهُ: هُمُ الْعَدُوُّ، وَيَكُونُ قوله: عَلَيْهِمْ متعلقا بصيحة، وَإِنَّمَا جَاءَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ الْعَدُوُّ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: أَيْ: إِذَا نَادَى مُنَادٍ فِي الْعَسْكَرِ، أَوِ انْفَلَتَتْ دَابَّةٌ، أَوْ أُنْشِدَتْ ضَالَّةٌ، ظَنُّوا أَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ ... خَيْلًا تَكُرُّ عَلَيْهِمُ وَرِجَالًا وَقِيلَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى وَجَلٍ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ مَا يَهْتِكُ أَسْتَارَهُمْ، وَيُبِيحُ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ حَذَرَهُ مِنْهُمْ فَقَالَ: فَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ فُرْصَةٍ مِنْكَ، أَوْ يَطَّلِعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَسْرَارِكَ لِأَنَّهُمْ عُيُونٌ لِأَعْدَائِكَ مِنَ الْكُفَّارِ. ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أَيْ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعَجُّبِ، كَقَوْلِهِمْ: قَاتَلَهُ اللَّهُ مِنْ شَاعِرٍ، أَوْ مَا أَشْعَرَهُ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا، بَلِ الْمُرَادُ ذَمُّهُمْ وَتَوْبِيخُهُمْ، وَهُوَ طَلَبٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ طَلَبَهُ مِنْ ذَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَلْعَنَهُمْ وَيُخْزِيَهُمْ، أَوْ هُوَ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَمَعْنَى أَنَّى يُؤْفَكُونَ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ وَيَمِيلُونَ عَنْهُ إِلَى الْكُفْرِ. قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ يُصْرَفُونَ عَنِ الرُّشْدِ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ أَيْ: إِذَا قَالَ لَهُمُ الْقَائِلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: قَدْ نَزَلَ فِيكُمْ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أَيْ: حَرَّكُوهَا اسْتِهْزَاءً بِذَلِكَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَطَفُوا رؤوسهم رَغْبَةً عَنِ الِاسْتِغْفَارِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «لَوَّوْا» بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عَبِيدٍ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ أَيْ: يُعْرِضُونَ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَهُمْ: تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ يُعْرِضُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجُمْلَةُ: وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ الْحَالِ الأولى، ويه يصدّون لأن الرؤية بصرية فيصدّون فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: وَرَأَيْتَهُمْ صَادِّينَ مُسْتَكْبِرِينَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَيِ: الِاسْتِغْفَارُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَسْتَغْفَرْتَ» بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ، وَحَذَفَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ ثِقَةً بِدَلَالَةِ أَمْ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ بِهَمْزَةٍ ثُمَّ أَلِفٍ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ أَيْ: مَا دَامُوا عَلَى النِّفَاقِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أَيِ: الْكَامِلِينَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الطَّاعَةِ وَالِانْهِمَاكِ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ دُخُولًا أَوَلِيًّا. ثُمَّ ذَكَرَ سبحانه بعض قبائحهم فقال:

_ (1) . هو الأخطل.

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا أَيْ: حَتَّى يَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، يَعْنُونَ بِذَلِكَ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِفِسْقِهِمْ، أَوْ لِعَدَمِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يَنْفَضُّوا» مِنَ الِانْفِضَاضِ، وَهُوَ التَّفَرُّقُ، وَقَرَأَ الْفَضْلُ بْنُ عِيسَى الرَّقَاشِيُّ «يُنْفِضُوا» مِنْ أَنْفَضَ الْقَوْمُ إِذَا فَنِيَتْ أَزْوَادُهُمْ، يُقَالُ: نَفَضَ الرَّجُلُ وِعَاءَهُ مِنَ الزَّادِ فَانْفَضَّ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِسَعَةِ مُلْكِهِ فَقَالَ: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: إِنَّهُ هُوَ الرَّزَّاقُ لِهَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرِينَ لِأَنَّ خَزَائِنَ الرِّزْقِ لَهُ فَيُعْطِي مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ وَيَمْنَعُ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ذَلِكَ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ خَزَائِنَ الْأَرْزَاقِ بِيَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ الْبَاسِطُ الْقَابِضُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَقَالَةً شَنْعَاءَ قَالُوهَا فَقَالَ: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ الْقَائِلُ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ رَأَسُ الْمُنَافِقِينَ، وَعَنَى بِالْأَعَزِّ نَفْسَهَ وَمَنْ مَعَهُ، وَبِالْأَذَلِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ، وَمُرَادُهُ بِالرُّجُوعِ رُجُوعُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الْقَوْلُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ مَعَ كَوْنِ الْقَائِلِ هُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِمْ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، لِكَوْنِهِ كَانَ رَئِيسَهُمْ وَصَاحِبَ أَمْرِهِمْ، وَهُمْ رَاضُونَ بِمَا يَقُولُهُ سَامِعُونَ لَهُ مُطِيعُونَ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى قَائِلِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ فَقَالَ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَيِ: الْقُوَّةُ وَالْغَلَبَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَلِمَنْ أَفَاضَهَا عَلَيْهِ مِنْ رُسُلِهِ وَصَالِحِي عِبَادِهِ لَا لِغَيْرِهِمْ. اللَّهُمَّ كَمَا جَعَلْتَ الْعِزَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَاجْعَلِ الْعِزَّةَ لِلْعَادِلِينَ مِنْ عِبَادِكَ، وَأَنْزِلِ الذِّلَّةَ عَلَى الْجَائِرِينَ الظَّالِمِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ بِمَا فِيهِ النَّفْعُ فَيَفْعَلُونَهُ، وَبِمَا فِيهِ الضُّرُّ فَيَجْتَنِبُونَهُ، بَلْ هُمْ كَالْأَنْعَامِ لِفَرْطِ جَهْلِهِمْ وَمَزِيدِ حَيْرَتِهِمْ وَالطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سَفَرٍ فَأَصَابَ النَّاسَ شِدَّةٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأَصْحَابِهِ: لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا من حوله، وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ، فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ، فَقَالُوا: كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوا شِدَّةٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِي فِي إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ، فَدَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رؤوسهم، وَهُوَ قَوْلُهُ: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ قَالَ: كَانُوا رِجَالًا أَجْمَلَ شَيْءٍ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا ابْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ مُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كَتَمُوا الشِّرْكَ وَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً قَالَ: حَلِفُهُمْ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمُ اجْتَنَوْا بِأَيْمَانِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْحَرْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ قَالَ: نَخْلٌ قِيَامٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا فِي عَسِيفٍ «1» لِعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَابْنِ مسعود أنهما قرءا:

_ (1) . «العسيف» : الأجير المستهان به.

[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 إلى 11]

لا تنفقوا على من عند رسول الله حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وغيرهما عن جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ، قَالَ سُفْيَانُ: يَرَوْنَ أَنَّهَا غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَكَسَعَ «1» رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يا للمهاجرين، وقال الأنصاريّ: يا للأنصار، فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ما بال دعوى الْجَاهِلِيَّةِ» ؟ قَالُوا: رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» ، فَسَمِعَ ذَلِكَ عَبْدُ الله بن أبيّ فقال: وقد فَعَلُوهَا، وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثِ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» زَادَ التِّرْمِذِيُّ: «فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا تَنْفَلِتُ «2» حَتَّى تُقِرَّ أَنَّكَ الذَّلِيلُ، ورسول الله العزيز، ففعل» . [سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ قَبَائِحَ الْمُنَافِقِينَ رَجَعَ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ مُرَغِّبًا لَهُمْ فِي ذِكْرِهِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَحَذَّرَهُمْ عَنْ أَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَلْهَتْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَعْنَى لَا تُلْهِكُمْ: لَا تَشْغَلْكُمْ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ فَرَائِضُ الْإِسْلَامِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَقِيلَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ، وَوَصْفُهُمْ بِالْإِيمَانِ لِكَوْنِهِمْ آمَنُوا ظَاهِرًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أَيْ: يَلْتَهِي بِالدُّنْيَا عَنِ الدِّينِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي: الكاملون في الخسران وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْإِنْفَاقُ فِي الْخَيْرِ على عمومه، ومن لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: أَنْفِقُوا بَعْضَ مَا رَزَقْنَاكُمْ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بِأَنْ تَنْزِلَ بِهِ أَسْبَابُهُ وَيُشَاهِدَ حُضُورَ عَلَامَاتِهِ، وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ عَلَى الْفَاعِلِ لِلِاهْتِمَامِ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أَيْ: يَقُولُ عِنْدَ نُزُولِ مَا نَزَلَ بِهِ مُنَادِيًا لِرَبِّهِ هَلَّا أَمْهَلْتَنِي وَأَخَّرْتَ مَوْتِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، أَيْ: أَمَدٍ قَصِيرٍ فَأَصَّدَّقَ أَيْ: فَأَتَصَدَّقَ بِمَالِي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَأَصَّدَّقَ» بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الصَّادِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ التَّمَنِّي، وَقِيلَ: إِنَّ «لَا» فِي لَوْلَا زَائِدَةٌ، وَالْأَصْلُ: لَوْ أَخَّرْتَنِي. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «فَأَتَصَدَّقَ» بِدُونِ إِدْغَامٍ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَأَكُنْ» بِالْجَزْمِ عَلَى مَحَلِّ فَأَتَصَدَّقَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ أَخَّرْتَنِي أَتَصَدَّقْ وَأَكُنْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: معناه هلا أخّرتني، وجزم

_ (1) . «كسع» : ضرب عجيزته ودبره، بيد أو رجل أو سيف، أو غيره. (2) . «تنفلت» : أي لا ترجع.

«أَكُنْ» عَلَى مَوْضِعِ فَأَصَّدَّقَ لِأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى إن أخرتني أصدّق وأكن. وَكَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ حَاكِيًا عَنِ الْخَلِيلِ: إِنَّهُ جُزِمَ عَلَى تَوَهُّمِ الشَّرْطِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّمَنِّي، وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ هَذَا نَظِيرَ قَوْلِ زُهَيْرٍ: بَدَا لِي أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ... وَلَا سَابِقَ شَيْئًا «1» إِذَا كَانَ جَائِيًا فَخَفَضَ «وَلَا سَابِقَ» عَطْفًا عَلَى «مُدْرِكَ» الَّذِي هُوَ خَبَرُ لَيْسَ عَلَى تَوَهُّمِ زِيَادَةِ الْبَاءِ فِيهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ «وَأَكُونَ» بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى «فَأَصَّدَّقَّ» ، وَوَجْهُهَا وَاضِحٌ. وَلَكِنْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: رَأَيْتُ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ «وَأَكُنْ» بِغَيْرِ وَاوٍ، وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: «وَأَكُونُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ: وَأَنَا أَكُونُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَنْزِلُ بِأَحَدٍ الْمَوْتُ لَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاةً إِلَّا سَأَلَ الرَّجْعَةَ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذَا الْمُتَمَنِّي فَقَالَ: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها أَيْ: إِذَا حَضَرَ أَجَلُهَا وَانْقَضَى عُمُرُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تَعْمَلُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَالسُّلَمِيِّ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ الْآيَةَ قَالَ: هُمْ عِبَادٌ مِنْ أُمَّتِي الصَّالِحُونَ مِنْهُمْ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنِ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ اللَّهِ، أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَلَمْ يَفْعَلْ سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّمَا يسأل الرجعة الكافر، فقال: سأتلوا عليكم بذلك قرآنا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ قال: أحجّ.

_ (1) . في الديوان ص (287) : ولا سابقي شيء.

سورة التغابن

سورة التغابن وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ وَمَكِّيَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ التَّغَابُنِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ التَّغَابُنِ بِمَكَّةَ إِلَّا آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَفَاءَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَأَنْزَلَ الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي «الضُّعَفَاءِ» ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُوَلَدُ إِلَّا مَكْتُوبٌ فِي تَشْبِيكِ رَأْسِهِ خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ التَّغَابُنِ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، بَلْ مُنْكَرٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُوَلَدُ إِلَّا مَكْتُوبٌ فِي تَشْبِيكِ رَأْسِهِ خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ التَّغَابُنِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) قَوْلُهُ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ: يُنَزِّهُهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعُ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يَخْتَصَّانِ بِهِ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْهُمَا شَيْءٌ، وَمَا كَانَ لِعِبَادِهِ مِنْهُمَا فَهُوَ مِنْ فَيْضِهِ وَرَاجِعٌ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أَيْ: فَبَعْضُكُمْ كَافِرٌ وَبَعْضُكُمْ مُؤْمِنٌ. قَالَ الضَّحَّاكُ: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ فِي السِّرِّ مُؤْمِنٌ فِي الْعَلَانِيَةِ كَالْمُنَافِقِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ فِي السِّرِّ كَافِرٌ فِي الْعَلَانِيَةِ كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْكَافِرَ، وَكُفْرُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ الْكُفْرَ. وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَ وَإِيمَانُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ، مع أن

_ (1) . التغابن: 14- 18.

اللَّهَ خَالِقٌ الْإِيمَانَ. وَالْكَافِرُ يَكْفُرُ وَيَخْتَارُ الْكُفْرَ بَعْدَ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ لِأَنَّ وُجُودَ خلاف المقدور عَجْزٌ، وَوُجُودَ خِلَافِ الْمَعْلُومِ جَهْلٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ، وَقَدَّمَ الْكَافِرَ عَلَى الْمُؤْمِنِ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ الْعَالَمِ الصَّغِيرِ أَتْبَعَهُ بِخَلْقِ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ فَقَالَ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ. وَقِيلَ: خَلَقَ ذَلِكَ خَلْقًا يَقِينًا لَا رَيْبَ فِيهِ، وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: خَلَقَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَنْ يَجْزِيَ الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى خَلْقِ الْعَالَمِ الصَّغِيرِ فَقَالَ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ قِيلَ: الْمُرَادُ آدَمُ، خَلَقَهُ بِيَدِهِ كَرَامَةً لَهُ، كَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَيْ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُمْ فِي أَكْمَلِ صُورَةٍ وَأَحْسَنَ تَقْوِيمٍ وَأَجْمَلَ شَكْلٍ. وَالتَّصْوِيرُ: التَّخْطِيطُ وَالتَّشْكِيلُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بِضَمِّ الصَّادِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو زَيْدٍ بِكَسْرِهَا. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، لَا إِلَى غَيْرِهِ. يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ أَيْ: مَا تُخْفُونَهُ وَمَا تُظْهِرُونَهُ، وَالتَّصْرِيحُ بِهِ مَعَ انْدِرَاجِهِ فِيمَا قَبْلَهُ لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ شُمُولِ عِلْمِهِ لِكُلِّ مَعْلُومٍ، وَهِيَ تَذْيِيلِيَّةٌ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ وَهُمْ كَفَّارُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَالْخِطَابُ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَالْوَبَالُ: الثِّقَلُ وَالشِّدَّةُ، وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِمْ هُنَا مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَبِالْوَبَالِ مَا أُصِيبُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدَّارَيْنِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ: بِسَبَبِ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْتِيهِمُ الرُّسُلُ الْمُرْسَلَةُ إِلَيْهِمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا أَيْ: قَالَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْهُمْ لِرَسُولِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ مُنْكِرِينَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ، مُتَعَجِّبِينَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَرَادَ بِالْبَشَرِ الْجِنْسَ، وَلِهَذَا قَالَ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا أَيْ: كَفَرُوا بِالرُّسُلِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُمْ، وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا فِيمَا جَاءُوا بِهِ، وَقِيلَ: كَفَرُوا بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي قَالُوهُ لِلرُّسُلِ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَغْنَى اللَّهُ بِمَا أَظْهَرَهُ لَهُمْ مِنَ الْبُرْهَانِ، وَأَوْضَحَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَقِيلَ: اسْتَغْنَى بِسُلْطَانِهِ عَنْ طَاعَةِ عِبَادِهِ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أَيْ: غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْعَالَمِ وَلَا إِلَى عِبَادَتِهِمْ لَهُ، مَحْمُودٌ مِنْ كُلِّ مَخْلُوقَاتِهِ بِلِسَانِ الْمَقَالِ وَالْحَالِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَكَثَ الْمَنِيُّ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أَتَاهُ مَلَكُ النُّفُوسِ، فَعَرَجَ بِهِ إِلَى الرَّبِّ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي اللَّهُ مَا هُوَ قَاضٍ، فَيَقُولُ: أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَكْتُبُ مَا هُوَ لَاقٍ، وَقَرَأَ أَبُو ذَرٍّ مِنْ فَاتِحَةِ التَّغَابُنِ خَمْسَ آيَاتٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَبْدُ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَعِيشُ مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَالْعَبْدُ يُولَدُ كَافِرًا

[سورة التغابن (64) : الآيات 7 إلى 13]

وَيَعِيشُ كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ بِالسَّعَادَةِ ثُمَّ يُدْرِكُهُ مَا كُتِبَ لَهُ فَيَمُوتُ شَقِيًّا، وَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ بِالشَّقَاءِ ثُمَّ يُدْرِكُهُ مَا كتب له فيموت سعيدا» . [سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 13] زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) قَوْلُهُ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا الزَّعْمُ: هُوَ الْقَوْلُ بِالظَّنِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ. قَالَ شُرَيْحٌ: لِكُلِّ شيء كنية، وكنية الكذب زعموا، وأَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قَائِمٌ مَقَامَ مَفْعُولِ زَعَمَ، وَ «أَنْ» هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ لَا الْمَصْدَرِيَّةُ لِئَلَّا يَدْخُلَ نَاصِبٌ عَلَى نَاصِبٍ، وَالْمُرَادُ بِالْكُفَّارِ كُفَّارُ الْعَرَبِ وَالْمَعْنَى: زَعَمَ كُفَّارُ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّأْنَ لَنْ يُبْعَثُوا أَبَدًا. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ وَيُبْطِلَ زَعْمَهُمْ فَقَالَ: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ «بَلْ» هِيَ الَّتِي لِإِيجَابِ النَّفْيِ، فَالْمَعْنَى: بَلْ تُبْعَثُونَ. ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ لَتُبْعَثُنَّ، أَيْ: لَتَخْرُجُنَّ مِنْ قُبُورِكُمْ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أَيْ: لَتُخْبَرُنَّ بِذَلِكَ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ تُجْزَوْنَ بِهِ وَذلِكَ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إِذِ الْإِعَادَةُ أَيْسَرُ مِنَ الِابْتِدَاءِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الْفَاءُ هِيَ الْفَصِيحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا فَصَدِّقُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَهُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ نُورٌ يُهْتَدَى بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الضَّلَالِ. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ «لَتُنَبَّؤُنَّ» ، قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَامِلُ فِيهِ خَبِيرٌ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ هُوَ اذْكُرْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْعَامِلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ: تَتَفَاوَتُونَ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَجْمَعُكُمْ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو إِسْكَانُهَا، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ إِلَّا التَّخْفِيفُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَوْضِعًا لَهُ، كَمَا قُرِئَ فِي وَما يُشْعِرُكُمْ «1» بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا «2» مِنَ الله ولا واغل «3»

_ (1) . الأنعام: 109. (2) . «استحقب الإثم» : ارتكبه. [.....] (3) . «واغل» : وغل في الشيء: أمعن فيه وذهب وأبعد.

بِإِسْكَانِ بَاءِ أَشْرَبْ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالشَّعْبِيُّ وَيَعْقُوبُ وَنَصْرٌ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْجَحْدَرِيُّ: «نَجْمَعُكُمْ» بِالنُّونِ، وَمَعْنَى لِيَوْمِ الْجَمْعِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ أَهْلُ الْمَحْشَرِ لِلْجَزَاءِ، وَيُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ كُلِّ عَامِلٍ وَعَمَلِهِ، وَبَيْنَ كُلِّ نَبِيٍّ وَأُمَّتِهِ، وَبَيْنَ كُلِّ مَظْلُومٍ وَظَالِمِهِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ يَعْنِي أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ يَوْمُ التَّغَابُنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَغِبْنُ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْمَحْشَرِ بَعْضًا، فَيَغِبْنُ فِيهِ أَهْلُ الْحَقِّ أَهْلَ الْبَاطِلِ، وَيَغِبْنُ فِيهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ أَهْلَ الْكُفْرِ، وَأَهْلُ الطَّاعَةِ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا غَبْنَ أَعْظَمُ مِنْ غَبْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ عِنْدَ دُخُولِ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ وَهَؤُلَاءِ النَّارَ، فَنَزَلُوا مَنَازِلَهُمُ الَّتِي كَانُوا سَيَنْزِلُونَهَا لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا يُوجِبُ النَّارَ، فَكَأَنَّ أَهْلَ النَّارِ اسْتَبْدَلُوا الْخَيْرَ بِالشَّرِّ، وَالْجَيِّدَ بِالرَّدِيءِ، وَالنَّعِيمَ بِالْعَذَابِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ. يُقَالُ: غَبَنْتُ فُلَانًا إِذَا بَايَعْتُهُ أَوْ شَارَيْتُهُ فَكَانَ النَّقْصُ عَلَيْهِ وَالْغَلَبَةُ، كَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، فَالْمَغْبُونُ مَنْ غُبِنَ أَهْلَهُ وَمَنَازِلَهُ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أَيْ: مَنْ وَقَعَ مِنْهُ التَّصْدِيقُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ اسْتَحَقَّ تَكْفِيرَ سَيِّئَاتِهِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يُكَفِّرْ» «وَيُدْخِلْهُ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ فِيهِمَا، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ التَّكْفِيرِ وَالْإِدْخَالِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيِ: الظَّفَرُ الَّذِي لَا يُسَاوِيهِ ظَفَرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ إِمَّا التَّنْزِيلِيَّةُ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا. ذَكَرَ سبحانه حال السعداء وحال الأشقياء ها هنا لِبَيَانِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّغَابُنِ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ بِسَبَبِ التَّكْفِيرِ وَإِدْخَالِ الْجَنَّةِ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَبِسَبَبِ إِدْخَالِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ النَّارَ وَخُلُودِهِمْ فِيهَا مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: مَا أَصَابَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ مُصِيبَةٍ مِنَ الْمَصَائِبِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ: بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ: بِأَمْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ. قِيلَ: وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: لَوْ كَانَ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ حَقًّا لَصَانَهُمُ اللَّهُ عَنِ الْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ أَيْ: مَنْ يُصَدِّقُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ يَهْدِ قَلْبَهُ لِلصَّبْرِ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَهْدِ قَلْبَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ فَيُسَلِّمُ لِقَضَائِهِ وَيَسْتَرْجِعُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَهْدِ قَلْبَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «1» وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ إِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ شَكَرَ، وَإِذَا ظَلَمَ غَفَرَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يَهْدِ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ: يَهْدِهِ اللَّهُ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالسُّلَمِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْرَجُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ هُرْمُزَ وَالْأَزْرَقُ «نَهْدِ» بِالنُّونِ، وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَعِكْرِمَةُ «يَهْدَأْ» بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَرَفْعِ قَلْبُهُ، أَيْ: يَطْمَئِنُّ وَيَسْكُنُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَيْ: بَلِيغُ الْعِلْمِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أَيْ: هَوِّنُوا عَلَى أَنْفُسِكُمُ الْمَصَائِبَ، وَاشْتَغِلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ: أَعْرَضْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ فَعَلَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ

_ (1) . البقرة: 156.

[سورة التغابن (64) : الآيات 14 إلى 18]

مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ فَلَا بَأْسَ عَلَى الرَّسُولِ، وَجُمْلَةُ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا تَعْلِيلٌ لِلْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ فَقَالَ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيْ: هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعُبُودِيَّةِ دون غيره، فوحّده وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ: يُفَوِّضُوا أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ وَيَعْتَمِدُوا عَلَيْهِ، لَا عَلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي زَعَمُوا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: أَنَّهُ كَرِهَ زَعَمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَوْمُ التَّغَابُنِ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ قَالَ: غَبَنَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ قَالَ: هِيَ الْمُصِيبَاتُ تُصِيبُ الرَّجُلَ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُسَلِّمُ لَهَا وَيَرْضَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَهْدِ قَلْبَهُ قَالَ: يَعْنِي يَهْدِ قَلْبَهُ لِلْيَقِينِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أخطأه لم يكن ليصيبه. [سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 18] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ يُعَادُونَكُمْ وَيَشْغَلُونَكُمْ عَنِ الْخَيْرِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ سَبَبُ النُّزُولِ دُخُولًا أَوَلِيًّا، وَهُوَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَأَرَادُوا أَنْ يُهَاجِرُوا، فَلَمْ يَدَعْهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَحْذَرُوهُمْ فَلَا يُطِيعُوهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُرِيدُونَهُ مِنْهُمْ مِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، وَالضَّمِيرُ فِي فَاحْذَرُوهُمْ يَعُودُ إِلَى الْعَدُوِّ، أَوْ إِلَى الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ، لَكِنْ لَا عَلَى الْعُمُومِ، بَلْ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِالْعَدَاوَةِ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا جَازَ جَمْعُ الضَّمِيرِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ. ثُمَّ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَى التَّجَاوُزِ فَقَالَ: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا أَيْ: تَعْفُوا عَنْ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا، وَتَتْرُكُوا التَّثْرِيبَ عَلَيْهَا، وَتَسْتُرُوهَا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالغ المغفرة والرحمة لكم ولهم، قيل: كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي ثَبَّطَهُ أَزْوَاجُهُ وَأَوْلَادُهُ عَنِ الْهِجْرَةِ إِذَا رَأَى النَّاسَ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَيْهَا، وَفَقِهُوا فِي الدِّينِ، هَمَّ أَنْ يُعَاقِبَ أَزْوَاجَهُ وَأَوْلَادَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِنْ تَعْفُوا الْآيَةَ، وَالْآيَةُ تَعُمُّ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا كَمَا عَرَّفْنَاكَ غَيْرَ مَرَّةٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَاللَّهِ مَا عَادَوْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ حَمَلَتْهُمْ مَوَدَّتُهُمْ عَلَى أَنِ أخذوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَأَعْطَوْهُمْ إِيَّاهُ.

ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ فتنة فقال: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أَيْ: بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ وَمِحْنَةٌ، يَحْمِلُونَكُمْ عَلَى كَسْبِ الْحَرَامِ وَمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ، فلا تطيعوهم في معصية الله اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لِمَنْ آثَرَ طَاعَةَ اللَّهِ وَتَرْكَ مَعْصِيَتِهِ فِي مَحَبَّةِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فَقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أَيْ: مَا أَطَقْتُمْ، وَبَلَغَ إِلَيْهِ جُهْدُكُمْ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «1» وَمِنْهُمْ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ فِي قَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ «2» وَمَعْنَى وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا أَيِ: اسْمَعُوا مَا تُؤْمَرُونَ به، وأطيعوا الأوامر. قال مقاتل: «اسمعوا» أي: اصغوا إلى ما ينزل عليكم وأطيعوا لرسوله فيما يأمركم وينهاكم. وقيل: معنى «اسْمَعُوا» : اقْبَلُوا مَا تَسْمَعُونَ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي مُجَرَّدِ السَّمَاعِ وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أَيْ: أَنْفِقُوا مِنْ أَمْوَالِكُمُ الَّتِي رَزَقَكُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَلَا تَبْخَلُوا بِهَا، وَقَوْلُهُ: خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ منتصب بفعل دَلَّ عَلَيْهِ أَنْفِقُوا، كَأَنَّهُ قَالَ: ائْتُوا فِي الْإِنْفَاقِ خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ، أَوْ قَدِّمُوا خَيْرًا لَهَا، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْفَاقًا خَيْرًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ خَبَرٌ لَكَانَ الْمُقَدَّرَةِ، أَيْ: يَكُنِ الْإِنْفَاقُ خَيْرًا لَكُمْ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ لأنفقوا، أي: فأنفقوا، أَيْ: فَأَنْفِقُوا خَيْرًا. وَالظَّاهِرُ فِي الْآيَةِ الْإِنْفَاقُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ زَكَاةُ الْفَرِيضَةِ، وَقِيلَ: النَّافِلَةُ، وَقِيلَ: النَّفَقَةُ فِي الْجِهَادِ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ، فَيَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّافِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، الْفَائِزُونَ بِكُلِّ مَطْلَبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَتَصْرِفُونَ أَمْوَالَكُمْ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ بِإِخْلَاصِ نِيَّةٍ وطيب نفس يُضاعِفْهُ لَكُمْ فيجعل الحسنة بعشر أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَتِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْحَدِيدِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ أَيْ: يَضُمَّ لَكُمْ إِلَى تِلْكَ الْمُضَاعَفَةِ غُفْرَانَ ذُنُوبِكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ يُثِيبُ مَنْ أَطَاعَهُ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَلَا يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ بِالْعُقُوبَةِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيْ: مَا غَابَ وَمَا حَضَرَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: الْغَالِبُ الْقَاهِرُ، ذُو الْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْحَكِيمُ: هُوَ الْمُحْكِمُ لِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدَعُوهُمْ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوُا النَّاسَ قَدْ فَقِهُوا فِي الدِّينِ هَمُّوا أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ، فَنَزَلَتْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وابن ماجة،

_ (1) . آل عمران: 102. (2) . آل عمران: 102.

وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَاحِدًا مِنْ ذَا الشِّقِّ وَوَاحِدًا مِنْ ذَا الشِّقِّ، ثُمَّ صَعِدَ المنبر فقال: «صدق الله: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ، إِنِّي لَمَّا نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ لَمْ أَصْبِرْ أَنْ قَطَعْتُ كَلَامِي وَنَزَلْتُ إِلَيْهِمَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ: اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي، فَأَبَى أَنْ يُقْرِضَنِي، وَشَتَمَنِي عبدي وهو لا يدري، يقول: وا دهراه وا دهراه وَأَنَا الدَّهْرُ، ثُمَّ تَلَا أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ» .

سورة الطلاق

سورة الطّلاق وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ النَّحَّاسِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الطلاق بالمدينة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) قَوْلُهُ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ نَادَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا تَشْرِيفًا لَهُ، ثُمَّ خَاطَبَهُ مَعَ أُمَّتِهِ، أَوِ الْخِطَابُ لَهُ خَاصَّةً، وَالْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ، وَأُمَّتُهُ أُسْوَتُهُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: إِذَا أَرَدْتُمْ تَطْلِيقَهُنَّ وَعَزَمْتُمْ عَلَيْهِ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أَيْ: مُسْتَقْبِلَاتٍ لِعِدَّتِهِنَّ، أَوْ فِي قِبَلِ عِدَّتِهِنَّ، أَوْ لِقِبَلِ عِدَّتِهِنَّ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: إِنَّ اللَّامَ فِي «لِعِدَّتِهِنَّ» بِمَعْنَى فِي، أَيْ: فِي عِدَّتِهِنَّ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: لِاسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِنَّ، وَاللَّامُ لِلتَّوْقِيتِ، نَحْوَ: لَقِيتُهُ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ شَهْرِ كَذَا. وَالْمُرَادُ أَنْ يُطَلِّقُوهُنَّ فِي طُهْرٍ لَمْ يَقَعْ فِيهِ جِمَاعٌ ثُمَّ يُتْرَكْنَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ، فَإِذَا طَلَّقُوهُنَّ هَكَذَا فَقَدْ طَلَّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا مِنَ السُّنَّةِ فِي آخِرِ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أَيِ: احْفَظُوهَا، وَاحْفَظُوا الْوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ حَتَّى تَتِمَّ الْعِدَّةُ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَالْخِطَابُ لِلْأَزْوَاجِ، وَقِيلَ: لِلزَّوْجَاتِ، وَقِيلَ: لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا لَهُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ فَلَا تَعْصُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ أَيِ: الَّتِي كُنَّ فِيهَا عِنْدَ الطَّلَاقِ مَا دُمْنَ فِي الْعِدَّةِ، وَأَضَافَ الْبُيُوتَ إِلَيْهِنَّ وَهِيَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ، وَبَيَانِ

كَمَالِ اسْتِحْقَاقِهِنَّ لِلسُّكْنَى فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَمَثَلُهُ قوله: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ «1» وقوله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ «2» ثُمَّ لَمَّا نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ إِخْرَاجِهِنَّ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي وَقَعَ الطَّلَاقُ وَهُنَّ فِيهَا نَهَى الزَّوْجَاتِ عَنِ الْخُرُوجِ أَيْضًا، فَقَالَ: وَلا يَخْرُجْنَ أَيْ: لَا يَخْرُجْنَ مِنْ تِلْكَ الْبُيُوتِ مَا دُمْنَ فِي الْعِدَّةِ إِلَّا لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا يَخْرُجْنَ مِنْ أَنْفُسِهِنَّ إِلَّا إِذَا أَذِنَ لَهُنَّ الْأَزْوَاجُ فَلَا بَأْسَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَيْ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، لَا مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَاحِشَةِ هُنَا الزِّنَا، وَذَلِكَ أَنْ تَزْنِيَ فَتُخْرَجَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: هِيَ الْبَذَاءُ فِي اللِّسَانِ وَالِاسْتِطَالَةُ بِهَا عَلَى مَنْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهَا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «إِلَّا أَنْ يُفْحِشْنَ عَلَيْكُمْ» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَخْرُجْنَ تَعَدِّيًا، فَإِنَّ خُرُوجَهُنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَاحِشَةٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ حُدُودُ اللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الَّتِي بَيَّنَهَا لِعِبَادِهِ هِيَ حُدُودُهُ الَّتِي حَدَّهَا لَهُمْ، لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَتَجَاوَزُوهَا إِلَى غَيْرِهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ أَيْ: يَتَجَاوَزُهَا إِلَى غَيْرِهَا، أَوْ يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِإِيرَادِهَا مَوْرِدَ الْهَلَاكِ، وَأَوْقَعَهَا فِي مَوَاقِعِ الضَّرَرِ بِعُقُوبَةِ اللَّهِ لَهُ عَلَى مُجَاوَزَتِهِ لِحُدُودِهِ وَتَعَدِّيهِ لِرَسْمِهِ، وَجُمْلَةُ: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا وَتَعْلِيلِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ: أَرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا الرَّغْبَةَ فِي الرَّجْعَةِ وَالْمَعْنَى: التَّحْرِيضُ عَلَى طَلَاقِ الْوَاحِدَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّهُ إِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا أَضَرَّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ النَّدَمِ عَلَى الْفِرَاقِ وَالرَّغْبَةِ فِي الِارْتِجَاعِ، فَلَا يَجِدُ إِلَى الْمُرَاجَعَةِ سَبِيلًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ: أَيْ بَعْدَ طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ أَمْرًا بِالْمُرَاجَعَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَمْرُ الَّذِي يَحْدُثُ أَنْ يُوقَعَ فِي قَلْبِ الرَّجُلِ الْمَحَبَّةُ لَرَجْعَتِهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أَيْ: قَارَبْنَ انْقِضَاءَ أَجَلِ الْعِدَّةِ، وَشَارَفْنَ آخِرَهَا فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَيْ: رَاجِعُوهُنَّ بِحُسْنِ مُعَاشَرَةٍ وَرَغْبَةٍ فِيهِنَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى مُضَارَّةٍ لَهُنَّ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَيِ: اتْرُكُوهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ، فَيَمْلِكْنَ نُفُوسَهُنَّ مَعَ إِيفَائِهِنَّ بِمَا هُوَ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْحُقُوقِ وَتَرْكِ الْمُضَارَّةِ لَهُنَّ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ عَلَى الرَّجْعَةِ، وَقِيلَ: على الطلاق، وقيل: عليهما قَطْعًا لِلتَّنَازُعِ وَحَسْمًا لِمَادَّةِ الْخُصُومَةِ، وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، قَالَ: الْإِشْهَادُ وَاجِبٌ فِي الرَّجْعَةِ، مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي الْفُرْقَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ: إِنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى الْإِشْهَادِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ هَذَا أَمْرٌ لِلشُّهُودِ بِأَنْ يَأْتُوا بِمَا شَاهَدُوا بِهِ تَقُرُّبًا إِلَى اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقِيلَ: الْأَمْرُ لِلْأَزْوَاجِ بِأَنْ يُقِيمُوا الشَّهَادَةَ، أَيِ: الشُّهُودَ عِنْدَ الرَّجْعَةِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أَمْرًا بِنَفْسِ الْإِشْهَادِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ أَمْرًا بِأَنْ تَكُونَ خالصة لله، والإشارة بقوله: ذلِكُمْ

_ (1) . الأحزاب: 33. (2) . الأحزاب: 34.

إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ وَإِقَامَةِ الشهادة لله، وهو مبتدأ وخبره يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَخُصَّ الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِأَنَّهُ الْمُنْتَفِعُ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً أَيْ: مَنْ يَتَّقِ عَذَابَ اللَّهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى حُدُودِهِ الَّتِي حَدَّهَا لِعِبَادِهِ وَعَدَمِ مُجَاوَزَتِهَا يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ أَيْ: مِنْ وَجْهٍ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ وَلَا يَكُونُ فِي حِسَابِهِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: هَذَا فِي الطَّلَاقِ خَاصَّةً، أَيْ: مَنْ طَلَّقَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ فِي الرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ كَأَحَدِ الْخُطَّابِ بَعْدَ الْعِدَّةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَخْرَجًا مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضَاقَ عَلَى النَّاسِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنَ الْعُقُوبَةِ وَيَرْزُقْهُ الثَّوَابَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، أَيْ: يُبَارِكُ لَهُ فِيمَا آتَاهُ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ عُقُوبَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَيَرْزُقْهُ الْجَنَّةَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ، وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ بِنَوْعٍ خَاصٍّ وَيَدْخُلُ مَا فِيهِ السِّيَاقُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أَيْ: وَمَنْ وَثِقَ بِاللَّهِ فِيمَا نَابَهُ كَفَاهُ مَا أَهَمَّهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «بَالِغٌ أَمْرَهُ» بِتَنْوِينِ بَالِغٌ وَنَصْبِ أَمْرَهُ، وَقَرَأَ حَفَصٌ بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِتَنْوِينِ بَالِغٌ وَرَفْعِ أَمْرُهُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ بَالِغٌ، أَوْ عَلَى أَنَّ أَمْرُهُ مبتدأ مؤخر، وبالغ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَيْ أَمْرُهُ بَالِغٌ وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَالِغٌ مَا يُرِيدُهُ مِنَ الْأَمْرِ، لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَلَا يعجزه مطلوب، وعلى القراءة الثالثة: أَنَّ اللَّهَ نَافِذٌ أَمْرُهُ لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ. وَقَرَأَ الْمُفَضَّلُ: «بَالِغًا» بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ خَبَرُ إِنَّ قَوْلَهُ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أَيْ: تَقْدِيرًا وَتَوْقِيتًا، أَوْ مِقْدَارًا. فَقَدْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ لِلشِّدَّةِ أَجَلًا تَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلِلرَّخَاءِ أَجَلًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ قَدْرُ الْحَيْضِ وَالْعِدَّةِ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ وَهُنَّ الْكِبَارُ اللَّاتِي قَدِ انْقَطَعَ حَيْضُهُنَّ وَأَيِسْنَ مِنْهُ إِنِ ارْتَبْتُمْ أَيْ: شَكَكْتُمْ وَجَهِلْتُمْ كَيْفَ عِدَّتُهُنَّ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ لِصِغَرِهِنَّ وَعَدَمِ بُلُوغِهِنَّ سِنَّ الْمَحِيضِ، أَيْ: فَعُدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَحُذِفَ هَذَا لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أَيِ: انْتِهَاءُ عِدَّتِهِنَّ وَضْعُ الْحَمْلِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ عِدَّةَ الْحَوَامِلِ بِالْوَضْعِ، سَوَاءٌ كُنَّ مُطَلَّقَاتٍ أَوْ مُتَوَفًّى عَنْهُنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى، وَحَقَّقْنَا الْبَحْثَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً «1» وَقِيلَ: مَعْنَى إِنِ ارْتَبْتُمْ إِنْ تَيَقَّنْتُمْ، وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ بِمَعْنَى الشَّكِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي حَيْضِهَا وَقَدِ انْقَطَعَ عَنْهَا الْحَيْضُ وَكَانَتْ مِمَّنْ يَحِيضُ مِثْلُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنِ ارْتَبْتُمْ يَعْنِي لَمْ تَعْلَمُوا عِدَّةَ الْآيِسَةِ وَالَّتِي لَمْ تَحِضْ فَالْعِدَّةُ هَذِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي الدَّمِ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهَا هَلْ هُوَ حَيْضٌ أَمْ لَا بَلِ اسْتِحَاضَةٌ فَالْعِدَّةُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أَيْ: مَنْ يَتَّقِهِ فِي امتثال

_ (1) . البقرة: 234.

أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ يُسَهِّلْ عَلَيْهِ أَمْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فَلْيُطَلِّقْ لِلسُّنَّةِ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا فِي الرَّجْعَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فِي اجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا فِي تَوْفِيقِهِ لِلطَّاعَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَيْ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْأَحْكَامِ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ أَيْ: حُكْمُهُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَشَرْعُهُ الَّذِي شَرَعَهُ لَهُمْ، وَمَعْنَى أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى رَسُولِهِ وَبَيَّنَهُ لَكُمْ وَفَصَّلَ أَحْكَامَهُ وَأَوْضَحَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بِتَرْكِ مَا لَا يَرْضَاهُ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ الَّتِي اقْتَرَفَهَا، لِأَنَّ التَّقْوَى مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ لِلذُّنُوبِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أَيْ: يُعْطِهِ مِنَ الْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا عَظِيمًا وَهُوَ الْجَنَّةُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ فَأَتَتْ أَهْلَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ فَقِيلَ لَهُ: رَاجِعْهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ مِنْ أَزْوَاجِكَ فِي الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَلَّقَ عَبْدُ يَزِيدَ أَبُو رَكَانَةَ أُمَّ رُكَانَةَ، ثُمَّ نَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُغْنِي عَنِّي إِلَّا مَا تُغْنِي عَنِّي هَذِهِ الشَّعْرَةُ، لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَأْسِهَا، فَأَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِيَّةٌ عِنْدَ ذَلِكَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكَانَةَ وَإِخْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ لِجُلَسَائِهِ: أَتَرَوْنَ كَذَا مِنْ كَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ يَزِيدَ: طَلِّقْهَا، فَفَعَلَ، فَقَالَ لِأَبِي رُكَانَةَ: ارْتَجِعْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي طَلَّقْتُهَا، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ ذَلِكَ فارتجعها، فنزلت: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ وَاهٍ، وَالْخَبَرُ خَطَأٌ، فَإِنَّ عَبْدَ يَزِيدَ لَمْ يُدْرِكِ الْإِسْلَامَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ، وَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قِبَلِ عِدَّتِهِنَّ» » . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: «فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قِبَلِ عِدَّتِهِنَّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَرَأَ: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِقِبَلِ عِدَّتِهِنَّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ لِلسُّنَّةِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا فِي غَيْرِ جِمَاعٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قَالَ: طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ قَالَ: الطَّلَاقُ طَاهِرًا فِي غَيْرِ جِمَاعٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عن ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قَالَ: خُرُوجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ بَيْتِهَا هِيَ

الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قَالَ: الزِّنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ رَاهَوَيْهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ أَنْ تَبْذُوَ «1» الْمَرْأَةُ عَلَى أَهْلِ الرَّجُلِ، فَإِذَا بَذَتْ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِهَا فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ إِخْرَاجُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً قَالَتْ: هِيَ الرَّجْعَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ وَلَمْ يشهد، وأرجع وَلَمْ يُشْهِدْ. قَالَ: بِئْسَ مَا صَنَعَ، طَلَّقَ فِي بِدْعَةٍ، وَارْتَجَعَ فِي غَيْرِ سُنَّةٍ، فَلْيُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهِ وَعَلَى مُرَاجَعَتِهِ وَيَسْتَغْفِرِ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً قَالَ: مخرجه أن يعلم أنه قبل أمر اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ وَهُوَ يَمْنَعُهُ، وَهُوَ يَبْتَلِيهِ وَهُوَ يُعَافِيهِ، وَهُوَ يَدْفَعُ عَنْهُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ قَالَ: مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً قَالَ: يُنْجِيهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَضَعَّفَهُ الذَّهَبِيُّ، مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً فِي رَجُلٍ مِنْ أَشْجَعَ كَانَ فَقِيرًا، خَفِيفَ ذَاتِ الْيَدِ، كَثِيرَ الْعِيَالِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ ابْنٌ لَهُ بِغَنَمٍ كَانَ الْعَدُوُّ أَصَابُوهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا، فَقَالَ: كُلْهَا، فَنَزَلَتْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي أَسَرَهُ الْعَدُوُّ وَجَزِعَتْ أُمُّهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: آمُرُكَ وَإِيَّاهَا أَنْ تَسْتَكْثِرَا مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: نِعْمَ مَا أَمَرَكَ، فَجَعَلَا يُكْثِرَانِ مِنْهَا، فَتَغَفَّلَ عَنْهُ الْعَدُوُّ، فَاسْتَاقَ غَنَمَهُمْ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى أَبِيهِ، فَنَزَلَتْ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» الْآيَةَ. وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ تَشْهَدُ لِهَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي الْآيَةِ قَالَتْ: يَكْفِيهِ هَمَّ الدُّنْيَا وَغَمَّهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ فَجَعَلَ يُرَدِّدُهَا حَتَّى نَعَسْتُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قَالَ: لَيْسَ الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي يَقُولُ: تُقْضَى حَاجَتِي، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ مَا أَهَمَّهُ، وَدَفَعَ عَنْهُ مَا يَكْرَهُ، وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَ فَضْلَ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَوَكَّلْ أَنْ يُكَفِّرَ عنه سيئاته، ويعظم له أجرا، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَالَ: يَقُولُ قَاضِي أَمْرِهِ عَلَى مَنْ تَوَكَّلَ وَعَلَى مَنْ لَمْ يَتَوَكَّلْ، وَلَكِنَّ الْمُتَوَكِّلَ يُكَفِّرُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمُ لَهُ أَجْرًا، وَفِي قَوْلِهِ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً قَالَ: يَعْنِي أَجَلًا وَمُنْتَهًى ينتهي إليه. وأخرج ابن المبارك والطيالسي وأحمد وعبد بن حميد

_ (1) . تبذو: تفحش في القول.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 6 إلى 7]

وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» . وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْبَقَرَةِ فِي عِدَّةِ النِّسَاءِ قَالُوا: لَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ النساء عددا لم تذكر فِي الْقُرْآنِ: الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ اللَّاتِي قَدِ انْقَطَعَ حَيْضُهُنَّ وَذَوَاتُ الْحَمْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا، أَوِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا؟ قَالَ: هِيَ الْمُطْلَقَةُ ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: تَعْتَدُّ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ، فَقَالَ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ، إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْقُصْرَى «1» نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ بِكَذَا وَكَذَا أَشْهُرًا، وَكُلُّ مُطَلَّقَةٍ أَوْ مُتَوَفًّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَأَجَلُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ وَبَعْضُهَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ سَبِيعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حُبْلَى، فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَخُطِبَتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الْبَابِ أحاديث. [سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7] أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) قَوْلُهُ: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَا يَجِبُ لِلنِّسَاءِ من السكنى، ومن لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: بَعْضَ مَكَانِ سُكْنَاكُمْ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ مِنْ وُجْدِكُمْ أَيْ: مِنْ سَعَتِكُمْ وَطَاقَتِكُمْ، وَالْوِجْدُ: الْقُدْرَةُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ: عَلَى مَا يَجِدُ، فَإِنْ كَانَ مُوسَعًا عَلَيْهِ وَسَّعَ عَلَيْهَا فِي الْمَسْكَنِ وَالنَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَعَلَى قَدَرِ ذَلِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: إِنْ لَمْ تَجِدْ إِلَّا نَاحِيَةَ بَيْتِكَ فَأَسْكِنْهَا فِيهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، هَلْ لَهَا سُكْنَى وَنَفَقَةٌ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ

_ (1) . أي سورة الطلاق.

لَهَا وَلَا سُكْنَى، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَقَدْ قَرَّرْتُهُ فِي شَرْحِي لِلْمُنْتَقَى بِمَا لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ مُضَارَّتِهِنَّ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِنَّ فِي الْمَسْكَنِ وَالنَّفَقَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي الْمَسْكَنِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي النَّفَقَةِ. وَقَالَ أَبُو الضُّحَى: هُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَإِذَا بَقِيَ يَوْمَانِ مِنْ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا. وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أَيْ: إِلَى غَايَةٍ هِيَ وَضْعُهُنَّ لِلْحَمْلِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِلْحَامِلِ الْمُطَلَّقَةِ فَأَمَّا الْحَامِلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَقَالَ عَلِيُّ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَحَمَّادُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانُ وَأَصْحَابُهُ: يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ حَتَّى تَضَعَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُنْفَقُ عَلَيْهَا إِلَّا مِنْ نَصِيبِهَا، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِلْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أَوْلَادَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أَيْ: أُجُورَ إِرْضَاعِهِنَّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُطَلَّقَاتِ إِذَا أَرْضَعْنَ أَوْلَادَ الْأَزْوَاجِ الْمُطَلِّقِينَ لَهُنَّ مِنْهُنَّ فَلَهُنَّ أُجُورُهُنَّ عَلَى ذَلِكَ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ هُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ، أَيْ: تَشَاوَرُوا بَيْنَكُمْ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ غَيْرُ مُنْكَرٍ، وَلِيَقْبَلْ بعضكم من بعض [ما أمره به] «1» من المعروف الجميل، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ لِيَأْمُرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ غَيْرُ مُنْكَرٍ عِنْدَهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى لِيَتَرَاضَ الْأَبُ وَالْأُمُّ عَلَى أَجْرٍ مُسَمًّى، قِيلَ: وَالْمَعْرُوفُ الْجَمِيلُ مِنَ الزَّوْجِ أَنْ يوفّر لها الأجر، والمعروف الجميل منها أن لا تَطْلُبَ مَا يَتَعَاسَرَهُ الزَّوْجُ مِنَ الْأَجْرِ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أَيْ: فِي أَجْرِ الرِّضَاعِ فَأَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُعْطِيَ الْأُمَّ الْأَجْرَ، وَأَبَتِ الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ إِلَّا بِمَا تُرِيدُ مِنَ الْأَجْرِ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى أَيْ: يَسْتَأْجِرُ مُرْضِعَةً أُخْرَى تُرْضِعُ وَلَدَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ مَا تَطْلُبُهُ الزَّوْجَةُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى الْإِرْضَاعِ بِمَا يُرِيدُ مِنَ الْأَجْرِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنْ أَبَتِ الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَ اسْتَأْجَرَ لِوَلَدِهِ أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ أُجْبِرَتْ أُمُّهُ عَلَى الرِّضَاعِ بِالْأَجْرِ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ فِيهِ الْأَمْرُ لِأَهْلِ السَّعَةِ بِأَنْ يُوَسِّعُوا عَلَى الْمُرْضِعَاتِ مِنْ نِسَائِهِمْ عَلَى قَدَرِ سَعَتِهِمْ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أَيْ: كَانَ رِزْقُهُ بِمِقْدَارِ الْقُوتِ، أَوْ مُضَيَّقٌ لَيْسَ بِمُوَسَّعٍ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ أَيْ: مِمَّا أَعْطَاهُ مِنَ الرِّزْقِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا أَيْ: مَا أَعْطَاهَا مِنَ الرِّزْقِ، فَلَا يُكَلَّفُ الْفَقِيرُ بِأَنْ يُنْفِقَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، بَلْ عَلَيْهِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَتَبْلُغُ إِلَيْهِ طَاقَتُهُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أَيْ: بَعْدَ ضِيقٍ وَشِدَّةِ سَعَةً وَغِنًى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ وُجْدِكُمْ قَالَ: مِنْ سَعَتِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ قَالَ: فِي الْمَسْكَنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ الْآيَةَ، قَالَ: فَهَذِهِ فِي الْمَرْأَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُسْكِنَهَا وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا حَتَّى تَضَعَ، وَإِنْ أَرْضَعَتْ حَتَّى تَفْطِمَ، فَإِنْ أَبَانَ طَلَاقَهَا وَلَيْسَ بِهَا حَمْلٌ فَلَهَا السُّكْنَى حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يلبس الغليظ من الثياب ويأكل

_ (1) . من تفسير القرطبي (18/ 169) .

[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 إلى 12]

أَخْشَنَ الطَّعَامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: انْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ بِهَا إِذَا أَخَذَهَا؟ فَمَا لَبِثَ أَنْ لَبِسَ أَلْيَنَ الثِّيَابِ، وَأَكَلَ أَطْيَبَ الطَّعَامِ، فَجَاءَ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ. [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ، حَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَتِهَا، وَذَكَرَ عُتُوَّ قَوْمٍ خَالَفُوا أَوَامِرَهُ، فَحَلَّ بِهِمْ عَذَابُهُ، فَقَالَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ يَعْنِي عَصَتْ، وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، وَالْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ عَصَوْا أَمْرَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، أَوْ أَعْرَضُوا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ عَلَى تَضْمِينِ عَتَتْ مَعْنَى أَعْرَضَتْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي كَأَيِّنْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَغَيْرِهَا فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً أَيْ: شَدَّدْنَا عَلَى أَهْلِهَا فِي الْحِسَابِ بِمَا عَمِلُوا. قَالَ مُقَاتِلٌ: حَاسَبَهَا اللَّهُ بِعَمَلِهَا فِي الدُّنْيَا فَجَازَاهَا بِالْعَذَابِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أَيْ: عَذَّبْنَا أَهْلَهَا عَذَابًا عَظِيمًا مُنْكَرًا فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: عَذَّبْنَا أَهْلَهَا عَذَابًا نُكْرًا فِي الدُّنْيَا بِالْجُوعِ وَالْقَحْطِ وَالسَّيْفِ وَالْخَسْفِ وَالْمَسْخِ، وَحَاسَبْنَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ حِسَابًا شَدِيدًا. وَالنُّكْرُ الْمُنْكَرُ فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها أَيْ: عَاقِبَةَ كُفْرِهَا وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أَيْ: هَلَاكًا فِي الدُّنْيَا وَعَذَابًا فِي الْآخِرَةِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ، والتكرير للتأكيد فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أَيْ: يَا أُولِي الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ آمَنُوا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ، أَعْنِي بيانا للمنادى بقوله: يا أُولِي الْأَلْبابِ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ، أَوْ نَعْتٌ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً- رَسُولًا قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنْزَالُ الذِّكْرِ دَلِيلٌ عَلَى إِضْمَارِ أَرْسَلَ، أَيْ: أَنْزَلَ إِلَيْكُمْ قُرْآنًا، وَأَرْسَلَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ رَسُولًا مَنْصُوبٌ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ ذِكْرًا لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنَوَّنَ يَعْمَلُ. وَالْمَعْنَى: أَنْزَلَ إِلَيْكُمْ ذِكْرَ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: إِنَّ رَسُولًا بَدَلٌ مِنْ ذِكْرًا، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ الرَّسُولَ نَفْسَ الذِّكْرِ مُبَالَغَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ الْأَوَّلِ تَقْدِيرُهُ: أَنْزَلَ ذَا ذِكْرٍ رَسُولًا، أَوْ صَاحِبَ ذِكْرٍ رَسُولًا. وَقِيلَ: إِنَّ رَسُولًا نَعَتٌ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذِكْرًا ذَا رَسُولٍ، فَذَا رَسُولٍ نَعْتٌ للذكر. وقيل: إن «رسولا» بمعنى رسالة، فيكون «رسولا» بدلا صريحا من غير تأويل، أو بيانا. وَقِيلَ: إِنَّ رَسُولًا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، كَأَنَّهُ قال: الزموا رسولا. وقيل: إن الذكر ها هنا بمعنى الشرف

كَقَوْلِهِ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ «1» وقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «2» . ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الشَّرَفَ فَقَالَ: رَسُولًا وَقَدْ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ جِبْرِيلُ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْقُرْآنُ، وَيَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ السَّابِقَةِ كَمَا لَا يَخْفَى. ثم نعت سبحانه الرسول المذكور بقوله: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا مُبَيِّنَاتٍ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «مُبَيِّنَاتٍ» عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: بَيَّنْهَا اللَّهُ وَأَوْضَحَهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيِ: الْآيَاتُ تُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَرَجَّحَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ. لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ اللام متعلقة بيتلو، أَيْ: لِيُخْرِجَ الرَّسُولُ الَّذِي يَتْلُو الْآيَاتِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالَةِ إِلَى نور الهداية، ويجوز أن تتعلق اللام بأنزل، فَيَكُونَ الْمُخْرِجُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً أَيْ: يَجْمَعُ بَيْنَ التَّصْدِيقِ، وَالْعَمَلِ بِمَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، مَعَ اجْتِنَابِ ما نهاه عَنْهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يُدْخِلْهُ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ فِي خالِدِينَ فِيها أَبَداً بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ، وَوَحَّدَهُ فِي «يُدْخِلْهُ» بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا، وَجُمْلَةُ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ في خالدين على التدخل، أَوْ مِنْ مَفْعُولِ يُدْخِلْهُ عَلَى التَّرَادُفِ وَمَعْنَى قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً أَيْ: وَسَّعَ لَهُ رِزْقَهُ فِي الْجَنَّةِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ الِاسْمُ الشَّرِيفُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أَيْ: وَخَلَقَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَعْنِي سَبْعًا. وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَاخْتُلِفَ فِيهِنَّ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا سَبْعُ أَرَضِينَ طِبَاقًا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، بَيْنَ كُلِّ أَرْضٍ وَأَرْضٍ مَسَافَةٌ كَمَا بين السماء والسماء، وَفِي كُلِّ أَرْضٍ سُكَّانٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّهَا مُطْبِقَةٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ من غير فتوق بخلاف السموات. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ «3» لِأَنَّ الْأَخْبَارَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي الْبَقَرَةِ قَالَ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا يُقَوِّي قَوْلَ الْجُمْهُورِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «مِثْلَهُنَّ» بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى «سَبْعَ سموات» أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ، أَيْ: وَخَلَقَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ خَبَرُهُ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَالْأَمْرُ الْوَحْيُ. قَالَ مجاهد: يتنزل الأمر من السموات السبع إلى الأرضين السبع. وقال الحسن: بين كل سماءين أرض وأمر. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي كُلِّ أَرْضٍ مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَاءٍ مِنْ سَمَائِهِ خَلْقٌ مَنْ خَلْقِهِ، وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِهِ، وَقَضَاءٌ مِنْ قَضَائِهِ، وَقِيلَ: بَيْنَهُنَّ إِشَارَةٌ إِلَى مَا بَيْنَ الْأَرْضِ السُّفْلَى الَّتِي هِيَ أَدْنَاهَا، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الَّتِي هِيَ أعلاها، وقيل: هو ما يدبّر فيهن

_ (1) . الأنبياء: 10. (2) . الزخرف: 44. (3) . هذا الكلام لا يعتمد على قرآن أو سنّة، وقد أثبت العلم خلافه.

مِنْ عَجِيبِ تَدْبِيرِهِ، فَيُنْزِلُ الْمَطَرَ وَيُخْرِجُ النَّبَاتَ، وَيَأْتِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، وَيَخْلُقُ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَهَيْئَاتِهَا فَيَنْقُلُهُمْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: وَهَذَا هُوَ مَجَالُ اللُّغَةِ وَاتِّسَاعِهَا، كَمَا يُقَالُ لِلْمَوْتِ: أَمْرُ اللَّهِ، وَلِلرِّيحِ وَالسَّحَابِ وَنَحْوِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ» مِنَ التَّنَزُّلِ وَرَفْعُ الْأَمْرِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ «يُنَزِّلُ» مِنَ الْإِنْزَالِ، وَنَصَبَ الْأَمْرَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَالْفَاعِلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَاللَّامُ فِي لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ متعلق بخلق، أو بيتنزل أَوْ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ: فَعَلَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِالْأَشْيَاءِ، وَهُوَ مَعْنَى وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً فَلَا يَخْرُجُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنْهَا كَائِنًا مَا كَانَ، وَانْتِصَابُ عِلْمًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، لِأَنَّ أَحَاطَ بِمَعْنَى عَلِمَ، أَوْ هُوَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَحَاطَ إِحَاطَةً عِلْمًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً يَقُولُ: لَمْ تُرْحَمْ وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً يَقُولُ: عَظِيمًا مُنْكَرًا. وأخرج ابن مردويه قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً- رَسُولًا قَالَ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ أُخْبِرَكَ بِهَا فَتَكْفُرَ؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ قَالَ: سَبْعُ أَرَضِينَ فِي كُلِّ أَرْضٍ نَبِيٌّ كَنَبِيِّكُمْ، وَآدَمُ كَآدَمَ، وَنُوحٌ كَنُوحٍ، وَإِبْرَاهِيمُ كَإِبْرَاهِيمَ، وَعِيسَى كَعِيسَى. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إسناده صَحِيحٌ، وَهُوَ شَاذٌّ بِمَرَّةٍ، لَا أَعْلَمُ لِأَبِي الضُّحَى عَلَيْهِ مُتَابِعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن الْأَرَضِينَ بَيْنَ كُلِّ أَرْضٍ وَالَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَالْعُلْيَا مِنْهَا عَلَى ظَهْرِ حُوتٍ قَدِ الْتَقَى طَرَفَاهُ فِي السَّمَاءِ، وَالْحُوتُ عَلَى صخرة، والصخرة بيد ملك. والثانية مسخر الرِّيحِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ عَادًا أَمَرَ خَازِنَ الرِّيحِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا يَهْلِكُ عَادًا، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَرْسِلْ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ قَدْرَ مَنْخَرِ الثَّوْرِ؟ فَقَالَ لَهُ الجبار: إذن تُكَفَّأُ «1» الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَرْسِلْ عَلَيْهِمْ بِقَدَرِ خَاتَمٍ، فَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ «2» . وَالثَّالِثَةُ فِيهَا حِجَارَةُ جَهَنَّمَ، وَالرَّابِعَةُ فِيهَا كِبْرِيتُ جهنم، فقالوا: يا رسول الله أللنار كِبْرِيتٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ فِيهَا لَأَوْدِيَةً مِنْ كِبْرِيتٍ، لَوْ أُرْسِلَ فِيهَا الْجِبَالُ الرَّوَاسِي لَمَاعَتْ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. قَالَ الذَّهَبِيُّ مُتَعَقِّبًا لِلْحَاكِمِ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَأَخْرَجَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: سيد السموات السَّمَاءُ الَّتِي فِيهَا الْعَرْشُ، وَسَيِّدُ الْأَرَضِينَ الْأَرْضُ التي نحن فيها.

_ (1) . في المستدرك للحاكم: تكفي. [.....] (2) . الذاريات: 42.

سورة التحريم

سورة التّحريم وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَتُسَمَّى سُورَةَ النَّبِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ التَّحْرِيمِ بِالْمَدِينَةِ، وَلَفْظُ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ سُورَةُ الْمُحَرَّمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أنزلت بالمدينة سورة النساء يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فَزَارَتْ أَبَاهَا، فَلَمَّا رَجَعَتْ أَبْصَرَتْ مَارِيَةَ فِي بَيْتِهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ تَدْخُلْ حَتَّى خَرَجَتْ مَارِيَةُ ثُمَّ دَخَلَتْ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِ حَفْصَةَ الْغَيْرَةَ وَالْكَآبَةَ قَالَ لَهَا: لَا تُخْبِرِي عَائِشَةَ وَلَكِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقَرَبُهَا أَبَدًا، فَأَخْبَرَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ وَكَانَتَا مُتَصَافِيَتَيْنِ، فَغَضِبَتْ عَائِشَةُ وَلَمْ تَزَلْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرُبُ مَارِيَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَفْصَةَ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَقِيلَ: السَّبَبُ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَتَوَاطَأَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ أَنْ تَقُولَا لَهُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمَا: إِنَّا نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ. وَقِيلَ: السَّبَبُ الْمَرْأَةُ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَيَأْتِي دَلِيلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ آخِرَ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَسَتَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ الجمع بينهما، وجملة تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: «تُحَرِّمُ» ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تُحَرِّمُ، أَيْ: مُبْتَغِيًا بِهِ مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ، وَمَرْضَاةُ اسم مصدر، وهو الرضى، وَأَصْلُهُ مَرْضُوَةُ، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ: أَنْ تُرْضِيَ أَزْوَاجَكَ، أَوْ إِلَى الْفَاعِلِ، أَيْ: أَنْ يَرْضَيْنَ هُنَّ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: بَلِيغُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِمَا فَرَطَ مِنْكَ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ،

قيل: وكان لك ذَنْبًا مِنَ الصَّغَائِرِ، فَلِذَا عَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُعَاتَبَةٌ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى «1» قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أَيْ: شَرَعَ لَكُمْ تَحْلِيلَ أَيْمَانِكُمْ، وَبَيَّنَ لَكُمْ ذَلِكَ، وَتَحِلَّةُ أَصْلُهَا تَحْلِلَةٌ، فَأُدْغِمَتْ. وَهِيَ مِنْ مَصَادِرِ التَّفْعِيلِ كَالتَّوْصِيَةِ وَالتَّسْمِيَةِ، فَكَأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ، وَالْكَفَّارَةُ حِلٌّ، لِأَنَّهَا تُحِلُّ لِلْحَالِفِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ كَفَّارَةَ أَيْمَانِكُمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَيُرَاجِعَ وَلِيدَتَهُ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ أَنَّ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَا يَنْعَقِدُ وَلَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ. فَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ هُوَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَمُعَاتَبَتُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَبْلَغُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ، وَالْبَحْثُ طَوِيلٌ وَالْمَذَاهِبُ فِيهِ كَثِيرَةٌ وَالْمَقَالَاتُ فِيهِ طَوِيلَةٌ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي مُؤَلَّفَاتِنَا بِمَا يَشْفِي. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ مُجَرَّدُ التَّحْرِيمِ يَمِينٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ أَمْ لَا؟ وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَاتَبَهُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقِصَّةِ التي ذهب أكثر المفسرين إلى أنها سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّهُ حَرَّمَ أَوَّلًا ثُمَّ حَلَفَ ثَانِيًا كَمَا قَدَّمْنَا وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ أَيْ: وَلِيُّكُمْ وَنَاصِرُكُمْ وَالْمُتَوَلِّي لِأُمُورِكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ وَفَلَاحُكُمُ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ. وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ حَفْصَةُ كَمَا سَبَقَ، وَالْحَدِيثُ هُوَ تَحْرِيمُ مَارِيَةَ، أَوِ الْعَسَلَ، أَوْ تَحْرِيُمُ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ، أَيْ: وَاذْكُرْ إِذْ أَسَرَّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسَرَّ إِلَيْهَا أَنَّ أَبَاكِ وَأَبَا عَائِشَةَ يَكُونَانِ خَلِيفَتَيْ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أَيْ أَخْبَرَتْ بِهِ غَيْرَهَا وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَيْ: أَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَاقِعِ مِنْهَا مِنَ الْإِخْبَارِ لِغَيْرِهَا عَرَّفَ بَعْضَهُ أَيْ: عَرَّفَ حَفْصَةَ بَعْضَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «عَرَّفَ» مُشَدَّدًا مِنَ التَّعْرِيفِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى لِقَوْلِهِ: وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أَيْ: لَمْ يُعَرِّفْهَا إِيَّاهُ، وَلَوْ كَانَ مُخَفَّفًا لَقَالَ فِي ضِدِّهِ: وَأَنْكَرَ بَعْضًا وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أَيْ وَأَعْرَضَ عَنْ تَعْرِيفِ بَعْضِ ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ يَنْتَشِرَ فِي النَّاسِ، وَقِيلَ: الَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ هُوَ حديث مارية. وللمفسرين ها هنا خَبْطٌ وَخَلْطٌ، وَكُلُّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ذَهَبُوا إِلَى تَفْسِيرِ التَّعْرِيفِ وَالْإِعْرَاضِ بِمَا يُطَابِقُ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَسَنُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ أَيْ: أَخْبَرَهَا بِمَا أَفْشَتْ مِنَ الْحَدِيثِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا أَيْ: مَنْ أَخْبَرَكَ بِهِ قالَ: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ أَيْ: أَخْبَرَنِي الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما الْخِطَابُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، أَيْ: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْكُمَا مَا يُوجِبُ التَّوْبَةَ، وَمَعْنَى صَغَتْ عَدَلَتْ وَمَالَتْ عن الحق، وهو

_ (1) . قال القرطبي (18/ 184) : والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنّه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.

أَنَّهُمَا أَحَبَّتَا مَا كَرِهَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ إِفْشَاءُ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ مَالَتْ قلوبكما إلى التوبة، وقال قلوبكما ولم يقل قلبا كما لِأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَكْرِهُ الْجَمْعَ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ فِي لفظ واحد وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ أي: تتظاهروا، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تَظَاهَرَا» بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ «تَتَظَاهَرَا» عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وأبو رجاء ونافع وعاصم في رواية عنهم «تَظَّهَّرَا» بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَالْهَاءِ بِدُونِ أَلِفٍ، وَالْمُرَادُ بِالتَّظَاهُرِ: التَّعَاضُدُ وَالتَّعَاوُنُ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَعَاضَدَا وَتَعَاوَنَا فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ مِنْكُمَا وَإِفْشَاءِ سِرِّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: فَإِنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى نَصْرَهُ، وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَنْ يَعْدَمَ نَاصِرًا يَنْصُرُهُ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ أَيْ: بَعْدَ نَصْرِ الله وَنَصْرِ جِبْرِيلَ وَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ ظَهِيرٌ أَيْ: أَعْوَانٌ يُظَاهِرُونَهُ، وَالْمَلَائِكَةُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ ظَهِيرٌ. قَالَ أَبُو عَلِيِّ الْفَارِسِيُّ: قَدْ جَاءَ فَعِيلٌ لِلْكَثْرَةِ، كَقَوْلِهِ: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً «1» قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا مِنَ الْوَاحِدِ الَّذِي يُؤَدَّى عن الجمع كقوله: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «2» وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ مِثْلَ جَرِيحٍ وَصَبُورٍ وَظَهِيرٍ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْمُثَنَّى وَالْجُمَعُ. وَقِيلَ: كَانَ التَّظَاهُرُ بَيْنَ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فِي التَّحَكُّمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّفَقَةِ عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ أَيْ: يُعْطِيهِ بَدَلَكُنَّ أَزْوَاجًا أَفْضَلَ مِنْكُنَّ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهُنَّ، وَلَكِنْ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ مِنْهُ الطَّلَاقُ أَبْدَلَهُ خَيْرًا مِنْهُنَّ تَخْوِيفًا لَهُنَّ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ «3» فَإِنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْقُدْرَةِ وَتَخْوِيفٌ لَهُمْ. ثُمَّ نَعَتَ سُبْحَانَهُ الْأَزْوَاجَ بِقَوْلِهِ: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ أَيْ: قَائِمَاتٍ بِفَرَائِضِ الْإِسْلَامِ، مُصَدِّقَاتٍ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُسْلِماتٍ أَيْ: مُخْلِصَاتٍ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: مُسَلِّمَاتٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قانِتاتٍ مُطِيعَاتٍ لِلَّهِ. وَالْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ، وَقِيلَ: مُصَلِّيَاتٍ تائِباتٍ يَعْنِي مِنَ الذُّنُوبِ عابِداتٍ لِلَّهِ مُتَذَلِّلَاتٍ لَهُ. قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَثِيرَاتُ الْعِبَادَةِ. سائِحاتٍ أَيْ: صَائِمَاتٍ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: مُهَاجِرَاتٍ، وَلَيْسَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِيَاحَةٌ إِلَّا الْهِجْرَةَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا: وَسُمِّيَ الصِّيَامُ سِيَاحَةً لِأَنَّ السَّائِحَ لَا زَادَ مَعَهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: ذَاهِبَاتٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، مِنْ سَاحَ الْمَاءُ إِذَا ذَهَبَ، وَأَصْلُ السِّيَاحَةِ: الْجَوَلَانُ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى السِّيَاحَةِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ. ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً وَسَّطَ بَيْنَهُمَا الْعَاطِفَ لِتَنَافِيهِمَا، وَالثَّيِّبَاتُ: جُمَعُ ثَيِّبٍ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي قَدْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ ثَابَتْ عَنْ زَوْجِهَا فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ. وَالْأَبْكَارُ: جَمْعُ بِكْرٍ، وَهِيَ الْعَذْرَاءُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا عَلَى أَوَّلِ حَالِهَا الَّتِي خُلِقَتْ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا لَبَنًا أَوْ عَسَلًا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جحش، ولن أعود، فنزلت:

_ (1) . المعارج: 10. (2) . النساء: 69. (3) . محمد: 38.

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ شَرَابٍ عِنْدَ سَوْدَةَ مِنَ الْعَسَلِ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحًا، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحًا، فَقَالَ: أَرَاهُ مِنْ شَرَابٍ شَرِبْتُهُ عِنْدَ سَوْدَةَ، وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُهُ أَبَدًا، فأنزل الله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: سَأَلْتُ أم سلمة عن هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدِي عُكَّةٌ «1» مِنْ عَسَلٍ أَبْيَضَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْعَقُ مِنْهَا وَكَانَ يُحِبُّهُ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: نَحْلُهَا تَجْرِسُ عُرْفُطًا «2» ، فَحَرَّمَهَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا، فَلَمْ تَزَلْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حَتَّى جَعَلَهَا عَلَى نَفْسِهِ حراما، فأنزل الله هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ: مَنِ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا؟ قَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، وَكَانَ بَدْوُ الْحَدِيثِ فِي شَأْنِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ أَصَابَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فِي يَوْمِهَا، فَوَجَدَتْ حَفْصَةُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ جِئْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ مَا جِئْتَهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَزْوَاجِكَ فِي يَوْمِي وَفِي دَوْرِي عَلَى فِرَاشِي، قَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أُحَرِّمَهَا فَلَا أَقْرَبَهَا أَبَدًا؟ قَالَتْ: بَلَى، فَحَرَّمَهَا وَقَالَ: لَا تَذْكُرِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ، فَذَكَرَتْهُ لعائشة فأظهره الله عليه، فأنزل الله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ الْآيَاتِ كُلَّهَا، فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَصَابَ مَارِيَةَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ بِأَخْصَرَ مِنْهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مُخْتَصَرًا بِلَفْظِ قَالَ: حَرَّمَ سُرِّيَّتَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ سَبَبَ النُّزُولِ فِي جَمِيعِ مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ، وَأَخْرَجَ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ، مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَفْصَةَ: لَا تُحَدِّثِي أَحَدًا، وَإِنَّ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَقَالَتْ: أَتُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لك؟ قال: فو الله لَا أَقْرَبُهَا. فَلَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ مَارِيَةَ كَمَا سَلَفَ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. فَهَذَانَ سَبَبَانِ صَحِيحَانِ لِنُزُولِ الْآيَةِ، وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ بِوُقُوعِ الْقِصَّتَيْنِ: قِصَّةِ الْعَسَلِ، وَقِصَّةِ مَارِيَةَ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَسَرَّ الْحَدِيثَ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ فِي الْمَرَأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَيَرُدُّ هَذَا أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم لم

_ (1) . «العكة» : زقّ صغير للسمن. (2) . «تجرس» : تأكل. و «العرفط» : شجر.

يَقْبَلْ تِلْكَ الْوَاهِبَةَ لِنَفْسِهَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ أن يقال إنه نزل في شأنها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ فَإِنَّ مَنْ رَدَّ مَا وُهِبَ لَهُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَيْضًا لَا يَنْطَبِقُ عَلَى هَذَا السَّبَبِ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً إِلَى آخِرِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ. وَأَمَّا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمَا عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ الْإِيلَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا نَفْيٌ لِكَوْنِ السَّبَبِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ قِصَّةِ الْعَسَلِ وَقِصَّةِ السُّرِّيَّةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَهُ بِالْمُتَظَاهِرَتَيْنِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ، وَأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ الاعتزال لا سبب نزول: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: مَنِ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا؟ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُمَا حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ السَّبَبَ قِصَّةُ مَارِيَةَ. هَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ تَلْخِيصِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَدَفْعِ الِاخْتِلَافِ فِي شَأْنِهِ، فَاشْدُدْ عَلَيْهِ يَدَيْكَ لِتَنْجُوَ بِهِ مِنَ الْخَبْطِ وَالْخَلْطِ الَّذِي وَقَعَ لِلْمُفَسِّرِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي الْحَرَامِ يُكَفِّرُ، وَقَالَ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي جَعَلْتُ امْرَأَتِي عَلَيَّ حَرَامًا، فَقَالَ: كَذَبْتَ لَيْسَتْ عَلَيْكَ بِحَرَامٍ، ثُمَّ تَلَا: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ قَالَ: عَلَيْكَ أَغْلَظُ الْكَفَّارَاتِ عِتْقُ رَقَبَةٍ. وأخرج الحارث ابن أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «لَمَّا حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ فَأَحَلَّ يَمِينَهُ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عُدَيٍّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيْهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَالْعُشَارِيُّ فِي فَضَائِلِ الصِّدِّيقِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ إِمَارَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ لَفِي الْكِتَابِ: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قَالَ لِحَفْصَةَ: «أَبُوكِ وَأَبُو عَائِشَةَ وَالِيَا النَّاسِ بَعْدِي، فَإِيَّاكِ أَنْ تُخْبِرِي أَحَدًا بِهَذَا» . قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ أنه سبب نزول قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ بل فيه أن الحديث الّذي أسره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ هَذَا، فَعَلَى فَرْضِ أَنَّ لَهُ إِسْنَادًا يَصْلُحُ لِلِاعْتِبَارِ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ وَمُرَجَّحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما قَالَ: زَاغَتْ وأثمت. وأخرج ابن المنذر عنه قال: مالك. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا قَالَ: «هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ

_ (1) . الأحزاب: 21.

[سورة التحريم (66) : الآيات 6 إلى 8]

عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِالثَّيِّبِ آسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، وَبِالْبِكْرِ مَرْيَمَ بنت عمران. [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 8] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ وَأَهْلِيكُمْ بِأَمْرِهِمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَنَهْيِهِمْ عَنْ مَعَاصِيهِ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أَيْ: نَارًا عَظِيمَةً تَتَوَقَّدُ بِالنَّاسِ وَبِالْحِجَارَةِ كَمَا يَتَوَقَّدُ غَيْرُهَا بِالْحَطَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: الْمَعْنَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ، بِالْأَدَبِ الصَّالِحِ، النَّارَ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: قُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَفْعَالِكُمْ، وَقَوْا أَهْلِيكُمْ بِوَصِيَّتِكُمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَعَلَيْنَا أَنْ نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الدِّينَ وَالْخَيْرَ وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنَ الْأَدَبِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «1» وقوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «2» . عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ أَيْ: عَلَى النَّارِ خَزَنَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَلُونَ أَمْرَهَا وَتَعْذِيبَ أَهْلِهَا، غِلَاظٌ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، شِدَادٌ عَلَيْهِمْ، لَا يَرْحَمُونَهُمْ إِذَا اسْتَرْحَمُوهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُمْ مِنْ غَضَبِهِ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ تَعْذِيبَ خَلْقِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ غِلَاظُ الْقُلُوبِ شِدَادُ الْأَبْدَانِ، وَقِيلَ: غِلَاظُ الْأَقْوَالِ شِدَادُ الْأَفْعَالِ، وَقِيلَ: الْغِلَاظُ ضِخَامُ الْأَجْسَامِ، وَالشِّدَادُ: الْأَقْوِيَاءُ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ أَيْ: لَا يُخَالِفُونَهُ فِي أَمْرِهِ، وَ «مَا» فِي مَا أَمَرَهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ أَمْرَهُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا أَمَرَهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الِاسْمِ الشَّرِيفِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ أَيْ: يُؤَدُّونَهُ فِي وَقْتِهِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، لا يؤخّرونه عنه ولا يقدّمونه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَ إِدْخَالِهِمُ النَّارَ تَأْيِيسًا لَهُمْ وَقَطْعًا لِأَطْمَاعِهِمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ «3» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أَيْ: تَنْصَحُ صَاحِبَهَا بِتَرْكِ الْعَوْدِ إِلَى مَا تَابَ عَنْهُ، وُصِفَتْ بِذَلِكَ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ لِلتَّائِبِينَ أَنْ يَنْصَحُوا بِالتَّوْبَةِ أَنْفُسَهُمْ بِالْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ للذنب وترك المعاودة له.

_ (1) . طه: 132. (2) . الشعراء: 214. (3) . الروم: 57.

وَالتَّوْبَةُ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ. قَالَ قَتَادَةُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ: الصَّادِقَةُ، وَقِيلَ: الْخَالِصَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ: أَنْ يَبْغَضَ الذَّنْبَ الَّذِي أَحَبَّهُ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْهُ إِذَا ذَكَرَهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ النَّدَمُ بِالْقَلْبِ، وَالِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْإِقْلَاعُ بِالْبَدَنِ، وَالِاطْمِئْنَانُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ التَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «نَصُوحًا» بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى الْوَصْفِ لِلتَّوْبَةِ، أَيْ: تَوْبَةً بَالِغَةً فِي النُّصْحِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَخَارِجَةُ وَأَبُو بكر عن عاصم بضمها، أي: توبة نصح لِأَنْفُسِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَاصِحٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، يُقَالُ: نَصَحَ نَصَاحَةً وَنُصُوحًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَرَادَ تَوْبَةً ذَاتَ نُصْحٍ. عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بسبب تلك التوبة، وعسى وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا لِلْإِطْمَاعِ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، لِأَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ له، ويدخلكم مَعْطُوفٌ عَلَى يُكَفِّرَ مَنْصُوبٌ بِنَاصِبِهِ وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ الجمهور، وقرئ بالجزم عطفا على محل عيسى، كَأَنَّهُ قَالَ: تُوبُوا يُوجِبْ تَكْفِيرَ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بيدخلكم، أَيْ: يُدْخِلَكُمْ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَالْمَوْصُولُ مَعْطُوفٌ عَلَى النَّبِيِّ، وَقِيلَ: الْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَتَكُونُ جُمْلَةُ نُورُهُمْ يَسْعى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ أَنَّ النُّورَ يَكُونُ مَعَهُمْ حَالَ مَشْيِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ، وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ تَكُونُ خَبَرًا آخَرَ، وَهَذَا دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ أَطْفَأَ اللَّهُ نُورَ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا قَالَ: عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمُ الْخَيْرَ وَأَدِّبُوهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: اعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَاتَّقُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ، وَأْمُرُوا أَهْلَكُمْ بِالذِّكْرِ يُنْجِكُمُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَدِّبُوا أَهْلِيكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ، ما بين منكبي أَحَدِهِمْ مَسِيرَةُ مِائَةِ خَرِيفٍ، لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ رَحْمَةٌ، إِنَّمَا خُلِقُوا لِلْعَذَابِ، يَضْرِبُ الْمَلَكُ مِنْهُمُ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الضَّرْبَةَ فَيَتْرُكُهُ طَحْنًا مِنْ لَدُنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادُ وَابْنُ مَنِيعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخطاب سئل عن التوبة النصوح، فقال: أَنْ يَتُوبَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَمَلِ السَّيِّئِ ثُمَّ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّوْبَةُ مِنَ الذَّنْبِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ، ثُمَّ لَا يعود إليه أبدا» وفي إسناده إبراهيم ابن مُسْلِمٍ الْهَجَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَوْقُوفُ. كَمَا أَخْرَجَهُ مَوْقُوفًا عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ تُكَفِّرُ كُلَّ سَيِّئَةٍ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: يَوْمَ

[سورة التحريم (66) : الآيات 9 إلى 12]

لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى الْآيَةَ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الموحّدين إلا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَيُطْفَأُ نُورُهُ، وَالْمُؤْمِنُ مُشْفِقٌ مِمَّا رَأَى مِنْ إِطْفَاءِ نُورِ الْمُنَافِقِ، فَهُوَ يَقُولُ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا. [سورة التحريم (66) : الآيات 9 الى 12] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ أَيْ: بِالسَّيْفِ وَالْحُجَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أَيْ: شَدِّدْ عَلَيْهِمْ فِي الدَّعْوَةِ، وَاسْتَعْمِلِ الْخُشُونَةَ فِي أَمْرِهِمْ بِالشَّرَائِعِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ: جَاهِدْهُمْ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْتَكِبُونَ مُوجِبَاتِ الْحُدُودِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أَيْ: مَصِيرُهُمْ إِلَيْهَا، يَعْنِي الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَيِ: الْمَرْجِعُ الَّذِي يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا قَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ أَنَّ الْمَثَلَ قَدْ يُرَادُ بِهِ إِيرَادُ حَالَةٍ غَرِيبَةٍ يُعْرَفُ بِهَا حَالَةٌ أُخْرَى مُمَاثِلَةٌ لَهَا فِي الْغَرَابَةِ، أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ مَثَلًا لِحَالِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُغْنِي أَحَدٌ عن أحد امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ هَذَا هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَ «مَثَلًا» المفعول الثاني حسبما قَدَّمْنَا تَحْقِيقَهُ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِيَتَّصِلَ بِهِ مَا هُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ وَإِيضَاحٌ لَمَعْنَاهُ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ وَهَمَا نُوحٌ وَلُوطٌ، أَيْ: كَانَتَا فِي عِصْمَةِ نِكَاحِهِمَا فَخانَتاهُما أَيْ: فَوَقَعَتْ مِنْهُمَا الْخِيَانَةُ لَهُمَا. قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: بِالْكُفْرِ، وَقِيلَ: كَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ تَقُولُ لِلنَّاسِ إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَكَانَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ تُخْبِرُ قَوْمَهُ بِأَضْيَافِهِ، وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ مَا زَنَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ. وَقِيلَ: كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا النِّفَاقُ، وَقِيلَ: خَانَتَاهُمَا بِالنَّمِيمَةِ فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: فَلَمْ يَنْفَعْهُمَا نُوحٌ وَلُوطٌ بِسَبَبِ كَوْنِهِمَا زَوْجَتَيْنِ لَهُمَا شَيْئًا مِنَ النَّفْعِ، وَلَا دَفْعًا عَنْهُمَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مع كَرَامَتِهِمَا عَلَى اللَّهِ شَيْئًا مِنَ الدَّفْعِ وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ أَيْ: وَقِيلَ لَهُمَا فِي الْآخِرَةِ، أَوْ عِنْدَ مَوْتِهِمَا ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينِ كَفَرُوا يُحَذِّرُ بِهِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تظاهرتا عليه. وما أحسن ما قَالَ فَإِنَّ ذِكْرَ امْرَأَتَيِ النَّبِيَّيْنِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِمَا وَمُظَاهَرَتِهِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْشِدُ أَتَمَّ إِرْشَادٍ، وَيُلَوِّحُ أَبْلَغَ تَلْوِيحٍ، إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَخْوِيفُهُمَا مَعَ سَائِرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَيَانُ أَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَتَا تَحْتَ عِصْمَةِ خَيْرِ خَلْقِ اللَّهِ وَخَاتَمِ رُسُلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَقَدْ عَصَمَهُمَا اللَّهُ عَنْ ذَنْبِ تِلْكَ الْمُظَاهَرَةِ بِمَا وَقَعَ مِنْهُمَا مِنَ التَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ

الخالصة وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ الْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي الْمَثَلِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ حَالَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ مَثَلًا لِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ، وَالصَّبْرِ فِي الشِّدَّةِ، وَأَنَّ صَوْلَةَ الْكُفْرِ لَا تَضُرُّهُمْ، كَمَا لَمْ تَضُرَّ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَ أَكْفَرِ الْكَافِرِينَ، وَصَارَتْ بِإِيمَانِهَا بِاللَّهِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِضَرَبَ أَوْ بِمَثَلًا، أَيِ: ابْنِ لِي بَيْتًا قَرِيبًا مِنْ رَحْمَتِكَ، أَوْ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمُقَرَّبِينَ مِنْكَ، أَوْ فِي مَكَانٍ لَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِكَ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ أَيْ: مِنْ ذَاتِهِ، وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَعْمَالِ الشَّرِّ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ أَهْلُ مِصْرَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الْقِبْطُ. قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: نَجَّاهَا اللَّهُ أَكْرَمَ نَجَاةٍ، وَرَفَعَهَا إِلَى الْجَنَّةِ فَهِيَ تَأْكُلُ وتشرب وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها مَعْطُوفٌ عَلَى امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، أَيْ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينِ آمَنُوا مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ، أَيْ: حَالَهَا وَصِفَتَهَا، وَقِيلَ: إِنَّ النَّاصِبَ لَمَرْيَمَ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ، أَيْ: وَاذْكُرْ مَرْيَمَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَمَعَ لَهَا بَيْنَ كَرَامَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاصْطَفَاهَا عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَعَ كَوْنِهَا بَيْنَ قَوْمٍ كَافِرِينَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أَيْ: عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِالْفَرْجِ هُنَا الْجَيْبُ لِقَوْلِهِ: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا «1» وَذَلِكَ أَنْ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا فَحَبِلَتْ بِعِيسَى وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها يَعْنِي شَرَائِعَهُ الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ هُنَا هُوَ قَوْلُ جِبْرِيلَ لها: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ «2» الْآيَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْكَلِمَاتِ عِيسَى. قَرَأَ الجمهور: «وصدقت» بالتشديد، وقرأ حميد والأموي وَيَعْقُوبُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «بِكَلِمَاتٍ» بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ «بِكَلِمَةٍ» بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وكتابه» بالإفراد، وقرأ أهل البصرة وحفص «كتبه» بِالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ الْجِنْسُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهِيَ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ قَالَ قَتَادَةُ: مِنَ الْقَوْمِ الْمُطِيعِينَ لِرَبِّهِمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مِنَ الْمُصَلِّينَ، كَانَتْ تُصَلِّي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَانِتِينَ رَهْطُهَا وَعَشِيرَتُهَا الَّذِينَ كَانَتْ مِنْهُمْ، وَكَانُوا مُطِيعِينَ أَهْلَ بَيْتِ صَلَاحٍ وَطَاعَةٍ، وَقَالَ: مِنَ الْقَانِتِينَ، وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْقَانِتَاتِ لِتَغْلِيبِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَخانَتاهُما قَالَ: مَا زَنَتَا، أَمَّا خِيَانَةُ امْرَأَةِ نُوحٍ فَكَانَتْ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ وَأَمَّا خِيَانَةُ امْرَأَةِ لُوطٍ فَكَانَتْ تَدُلُّ عَلَى الضَّيْفِ، فَتِلْكَ خِيَانَتُهُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ بِالشَّمْسِ، فَإِذَا انْصَرَفُوا عَنْهَا أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، وَكَانَتْ تَرَى بَيْتَهَا فِي الجنة.

_ (1) . الأنبياء: 91. (2) . مريم: 19.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: إنّ فرعون أوتد لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، وَأَضْجَعَهَا عَلَى صَدْرِهَا «1» ، وَجَعَلَ عَلَى صَدْرِهَا رَحًى وَاسْتَقْبَلَ بِهَا عَيْنَ الشَّمْسِ، فَرَفَعَتْ رَأْسُهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فَفَرَّجَ اللَّهُ لَهَا عَنْ بَيْتِهَا فِي الْجَنَّةِ فَرَأَتْهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ مَعَ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهَا فِي الْقُرْآنِ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً» الْآيَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» . وَأَخْرَجَ وَكِيعٍ فِي «الْغُرَرِ» ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ قال: من جماعته.

_ (1) . لعلّه: على ظهرها بدليل قوله بعد: وجعل على صدرها. [.....]

سورة الملك

سورة الملك وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ سُورَةُ تَبَارَكَ الْمُلْكِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ خَاصَمَتْ عَنْ صَاحِبِهَا حَتَّى أَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ نَصْرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ، وَهُوَ لَا يَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَإِذَا قَبْرُ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ سُورَةَ المُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ الْمَانِعَةُ، هِيَ الْمُنْجِيَةُ، تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَبَارَكَ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالْحَاكِمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ تَبَارَكَ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الْمَانِعَةُ فِي الْقُبُورِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: أَلَا أُتْحِفُكَ بِحَدِيثٍ تَفْرَحُ بِهِ؟ قَالَ بَلَى: قَالَ: اقْرَأْ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَعَلِّمْهَا أَهْلَكَ وَجَمِيعَ وَلَدِكَ وَصِبْيَانِ بَيْتِكَ وَجِيرَانِكَ، فَإِنَّهَا الْمُنْجِيَةُ، وَالْمُجَادِلَةُ تُجَادِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّهَا لِقَارِئِهَا، وَتَطْلُبُ لَهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَيَنْجُو بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِي» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)

قَوْلُهُ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ تَبَارَكَ: تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَالْبَرَكَةُ: النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، وَقِيلَ: تَعَالَى وَتَعَاظَمَ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقِيلَ: دَامَ فَهُوَ الدَّائِمُ الَّذِي لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ وَلَا آخِرَ لِدَوَامِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَبَارَكَ: تَقَدَّسَ، وَصِيغَةُ التَّفَاعُلِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْيَدُ مَجَازٌ عَنِ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَالْمُلْكُ: هُوَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُوَ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ وَيَضَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُلْكِ مُلْكُ النُّبُوَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْعُمُومِ أَكْثَرُ مَدْحًا وَأَبْلَغُ ثَنَاءً، وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ: بَلِيغُ الْقُدْرَةِ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ يُرِيدُ مِنْ إِنْعَامٍ وَانْتِقَامٍ، وَرَفْعٍ وَوَضْعٍ، وَإِعْطَاءٍ وَمَنْعٍ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ الْمَوْتُ: انْقِطَاعُ تَعَلُّقِ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ وَمُفَارَقَتُهُ لَهُ، وَالْحَيَاةُ: تَعَلُّقُ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ وَاتِّصَالُهُ بِهِ، وَقِيلَ: هِيَ مَا يَصِحُّ بِوُجُودِهِ الْإِحْسَاسُ، وَقِيلَ: مَا يُوجِبُ كَوْنَ الشَّيْءِ حَيًّا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَوْتُ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ لِأَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ عَدَمُ الْحَيَاةِ، وَالْحَيَاةُ عَارِضَةٌ لَهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَوْتَ أَقْرَبُ إِلَى الْقَهْرِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَلَقَ الْمَوْتَ يَعْنِي النُّطْفَةَ وَالْمُضْغَةَ وَالْعَلَقَةَ، وَالْحَياةَ يَعْنِي خَلَقَهُ إِنْسَانًا وَخَلَقَ الرُّوحَ فِيهِ، وَقِيلَ: خَلَقَ الْمَوْتَ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ لَا يَمُرُّ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا مَاتَ، وَخَلَقَ الْحَيَاةَ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلَّا حَيِيَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «1» وَقَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ «2» وَقَوْلُهُ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا «3» وَقَوْلُهُ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «4» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَقَ، أَيْ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيُعَامِلَكُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَخْتَبِرُكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فَيُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَكْثَرُ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَشَدُّ مِنْهُ خَوْفًا، وَقِيلَ: أَيُّكُمْ أَسْرَعُ إِلَى طاعة الله، وأورع عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِخَلْقِ الْحَيَاةِ، لَا بِخَلْقِ الْمَوْتِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ قَوْلَهُ: «لِيَبْلُوَكُمْ» لَمْ يَقَعْ على أيّ لأن فيما بين البلوى وأيّ إِضْمَارَ فِعْلٍ، كَمَا تَقُولُ: بَلَوْتُكُمْ لِأَنْظُرَ أَيُّكُمْ أَطْوَعُ، وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ «5» أَيْ: سَلْهُمْ ثُمَّ انْظُرْ أَيُّهُمْ، فَأَيُّكُمْ فِي الْآيَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَحْسَنُ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، وَإِيرَادُ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ مَعَ أَنَّ الِابْتِلَاءَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمُ الْمُنْقَسِمَةِ إِلَى الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ لَا إِلَى الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ فَقَطْ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذَّاتِ وَالْمَقْصِدَ الْأَصْلِيَّ مِنَ الِابْتِلَاءِ هُوَ ظُهُورُ كَمَالِ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ الْعَزِيزُ أَيِ: الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ الْغَفُورُ لِمَنْ تَابَ وَأَنَابَ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً الْمَوْصُولُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْعَزِيزِ الْغَفُورِ نَعْتًا أَوْ بَيَانًا أَوْ بَدَلًا، وَأَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مبتدأ

_ (1) . السجدة: 11. (2) . الأنفال: 50. (3) . الأنعام: 61. (4) . الزمر: 42. (5) . القلم: 40.

محذوف، أو منصوب على المدح، وطباقا صِفَةٌ لِسَبْعِ سَمَاوَاتٍ، أَيْ: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَهُوَ جَمْعُ طَبَقٍ، نَحْوَ جَبَلٍ وَجِبَالٍ، أَوْ جَمْعُ طَبَقَةٍ، نَحْوَ رَحْبَةٍ وَرِحَابٍ، أَوْ مَصْدَرُ طَابَقَ، يُقَالُ: طَابَقَ مُطَابَقَةً وَطِبَاقًا، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَاتِ طِبَاقٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: طُوبِقَتْ طِبَاقًا مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِسَبْعِ سَمَاوَاتٍ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَمَنْ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «مِنْ تَفَاوُتٍ» ، وَقَرَأَ ابْنُ مسعود وأصحابه وَالْكِسَائِيُّ «تَفَوُّتٍ» مُشَدَّدًا بِدُونِ أَلْفٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ، كَالتَّعَاهُدِ وَالتَّعَهُّدِ، وَالتَّحَامُلِ وَالتَّحَمُّلِ وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَنَاقُضٍ وَلَا تَبَايُنٍ وَلَا اعْوِجَاجٍ وَلَا تَخَالُفٍ، بَلْ هِيَ مُسْتَوِيَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى خَالِقِهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صُوَرُهَا وَصِفَاتُهَا فَقَدِ اتَّفَقَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ الْفُطُورُ: الشُّقُوقُ وَالصُّدُوعُ وَالْخُرُوقُ، أَيِ: ارْدُدْ طَرَفَكَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَكَ ذَلِكَ بِالْمُعَايَنَةِ. أَخْبَرَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي خَلْقِهِ، ثُمَّ أَمَرَ ثَانِيًا بِتَرْدِيدِ الْبَصَرِ فِي ذَلِكَ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وحصول الطمأنينة. قال مجاهد والضحاك: الفطور والشقوق جَمْعُ فَطْرٍ، وَهُوَ الشَّقُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَلْ تَرَى مِنْ خَلَلٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَلْ تَرَى مِنْ خُرُوقٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّفَطُّرِ وَالِانْفِطَارِ، وَهُوَ التَّشَقُّقُ وَالِانْشِقَاقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بَنَى لَكُمْ بِلَا عَمَدٍ سَمَاءً ... وَزَيَّنَهَا فَمَا فِيهَا فُطُورُ وقول الآخر شققت القلب ثم ذررت فِيهِ ... هَوَاكِ فَلِيمَ فَالْتَأَمَ الْفُطُورُ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أَيْ: رَجْعَتَيْنِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ التَّكْثِيرُ، كَمَا فِي لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، أَيْ: رَجْعَةً بَعْدَ رَجْعَةٍ وَإِنْ كَثُرَتْ. وَوَجْهُ الْأَمْرِ بِتَكْرِيرِ النَّظَرِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّهُ قَدْ لَا يَرَى مَا يَظُنُّهُ مِنَ الْعَيْبِ فِي النَّظْرَةِ الْأُولَى وَلَا فِي الثَّانِيَةِ. وَلِهَذَا قَالَ أَوَّلًا: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا: فَارْجِعِ الْبَصَرَ ثُمَّ قَالَ ثَالِثًا: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَأَقْطَعَ لِلْمَعْذِرَةِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً أَيْ: يَرْجِعْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ ذَلِيلًا صَاغِرًا عن أَنْ يَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: مَعْنَى خَاسِئًا: مُبْعَدًا مَطْرُودًا عَنْ أَنْ يُبْصِرَ مَا الْتَمَسَهُ مِنَ الْعَيْبِ، يُقَالُ: خَسَأْتُ الْكَلْبَ، أَيْ: أَبْعَدْتُهُ وَطَرَدْتُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يَنْقَلِبْ» بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِلْأَمْرِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَهُوَ حَسِيرٌ أَيْ: كَلِيلٌ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: وَقَدْ أَعْيَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرَى فِي السَّمَاءِ خَلَلًا، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنَ الْحُسُورِ، وَهُوَ الْإِعْيَاءُ، يُقَالُ: حَسُرَ بَصُرُهُ يَحْسُرُ حُسُورًا، أَيْ: كُلَّ وَانْقَطَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى ... فَعَادَ إِلَيَّ الطَّرْفُ وَهُوَ حَسِيرُ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، وَخُلُوِّهَا مِنَ الْعَيْبِ وَالْخَلَلِ

أَنَّهُ زَيَّنَهَا بِهَذِهِ الزِّينَةِ، فَصَارَتْ فِي أَحْسَنِ خَلْقٍ، وَأَكْمَلِ صُورَةٍ، وَأَبْهَجِ شَكْلٍ، وَالْمَجِيءُ بِالْقَسَمِ لِإِبْرَازِ كَمَالِ الْعِنَايَةِ، وَالْمَصَابِيحُ: جَمْعُ مِصْبَاحٍ، وَهُوَ السِّرَاجُ، وَسُمِّيَتِ الْكَوَاكِبُ مَصَابِيحَ لِأَنَّهَا تُضِيءُ كَإِضَاءَةِ السِّرَاجِ وَبَعْضُ الْكَوَاكِبِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ سَمَاءِ الدُّنْيَا مِنَ السَّمَاوَاتِ الَّتِي فَوْقَهَا، فَهِيَ تَتَرَاءَى كَأَنَّهَا كُلَّهَا فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا لِأَنَّ أَجْرَامَ السَّمَاوَاتِ لَا تَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ مَا فَوْقَهَا مِمَّا لَهُ إِضَاءَةٌ لِكَوْنِهَا أَجْرَامًا صَقِيلَةً شَفَّافَةً وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ أَيْ: وَجَعَلْنَا الْمَصَابِيحَ رُجُومًا يُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْفَائِدَةِ الْأُولَى وَهِيَ كَوْنُهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالْمَعْنَى أَنَّهَا يُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ يَسْتَرِقُّونَ السَّمْعَ، وَالرُّجُومُ: جَمْعُ رَجْمٍ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الْمَرْجُومِ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: الدِّرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، أَيْ: مَضْرُوبُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى مَصْدَرِيَّتِهِ، وَيُقَدَّرُ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: ذَاتَ رَجْمٍ، وَجُمِعَ الْمَصْدَرُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناها رَاجِعٌ إِلَى الْمَصَابِيحِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: شُهُبَهَا، وَهِيَ نَارُهَا الْمُقْتَبَسَةُ مِنْهَا، لَا هِيَ أَنْفُسُهَا لِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ «1» وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْمَصَابِيحَ الَّتِي زَيَّنَ اللَّهُ بِهَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا لَا تَزُولُ وَلَا يُرْجَمُ بِهَا، كَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَهُ: كَيْفَ تَكُونُ الْمَصَابِيحُ زِينَةً وَهِيَ رُجُومٌ؟ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَأَمْثَلُ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا أَنْ نَقُولَ: هِيَ زِينَةٌ قَبْلَ أَنْ يُرْجَمَ بِهَا الشَّيَاطِينُ. قَالَ قَتَادَةُ: خَلَقَ اللَّهُ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ: زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْلَمُ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَجَعَلْنَاهَا ظُنُونًا لِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ، وَهُمُ الْمُنَجِّمُونَ. وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ أَيْ: وَأَعْتَدْنَا لِلشَّيَاطِينِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الْإِحْرَاقِ فِي الدُّنْيَا بِالشُّهُبِ عَذَابَ السَّعِيرِ، أَيْ: عَذَابَ النَّارِ، وَالسَّعِيرُ: أَشَدُّ الْحَرِيقِ، يُقَالُ: سُعِّرَتِ النَّارُ فَهِيَ مَسْعُورَةٌ. وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ مِنْ كُفَّارِ بَنِي آدَمَ، أَوْ مِنْ كُفَّارِ الْفَرِيقَيْنِ عَذابُ جَهَنَّمَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ «عَذَابٌ» عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ «لِلَّذِينَ كَفَرُوا» . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَعْرَجُ بِنَصْبِهِ عَطْفًا عَلَى «عَذَابَ السَّعِيرِ» وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ جَهَنَّمُ إِذا أُلْقُوا فِيها أَيْ: طُرِحُوا فِيهَا كَمَا يُطْرَحُ الْحَطَبُ فِي النَّارِ سَمِعُوا لَها شَهِيقاً أَيْ: صَوْتًا كَصَوْتِ الْحَمِيرِ عِنْدَ أَوَّلِ نَهِيقِهَا، وَهُوَ أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ، وَقَوْلُهُ: لَها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَائِنًا لَهَا لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ، فَلَمَّا قُدِّمَتْ صَارَتْ حَالًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: الشَّهِيقُ هُوَ مِنَ الْكُفَّارِ عِنْدَ إِلْقَائِهِمْ فِي النَّارِ، وَجُمْلَةُ وَهِيَ تَفُورُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهَا تَغْلِي بِهِمْ غَلَيَانَ الْمِرْجَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ: تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر الغير «2» حَامِيَةٌ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أَيْ: تَكَادُ تَتَقَطَّعُ وَيَنْفَصِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ مِنْ تَغَيُّظِهَا عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَكَادُ تَنْشَقُّ غَيْظًا عَلَى الْكُفَّارِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تَمَيَّزُ» بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَالْأَصْلُ تَتَمَيَّزُ بِتَاءَيْنِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بِتَاءَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِهَا بِإِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى. وقرأ الضحاك:

_ (1) . الصافات: 10. (2) . في تفسير القرطبي: القوم.

«تَمَايَزَ» بِالْأَلْفِ وَتَاءٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَصْلُ تَتَمَايَزُ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «تَمِيزَ» مِنْ مَازَ يَمِيزُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ آخَرُ لِمُبْتَدَأٍ، وَجُمْلَةُ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِ أَهْلِهَا، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تَمَيَّزُ، وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، أَيْ: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ أَلَمْ يَأْتِكُمْ فِي الدُّنْيَا نَذِيرٌ يُنْذِرُكُمْ هَذَا الْيَوْمَ وَيُحَذِّرُكُمْ مِنْهُ؟ وَجُمْلَةُ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالُوا بَعْدَ هَذَا السُّؤَالِ؟ فَقَالَ: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَأَنْذَرَنَا وَخَوَّفَنَا وَأَخْبَرَنَا بِهَذَا الْيَوْمِ فَكَذَّبْنا ذَلِكَ النَّذِيرَ وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ أَيْ: فِي ذَهَابٍ عَنِ الْحَقِّ وَبُعْدٍ عَنِ الصَّوَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ: قَالَ كُلُّ فَوْجٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْوَاجِ حَاكِيًا لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ مَا قَالَهُ لِمَنْ أرسل إليه: ما أنتم أيها الرسل فيم تَدَّعُونَ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ آيَاتٍ تُنْذِرُونَا بِهَا إِلَّا فِي ذَهَابٍ عَنِ الْحَقِّ وَبُعْدٍ عَنِ الصَّوَابِ كَبِيرٍ لَا يُقَادَرُ قَدَرُهُ. ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ مَقَالَةً أُخْرَى قَالُوهَا بَعْدَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ فَقَالَ: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ أَيْ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ مَا خَاطَبَنَا بِهِ الرُّسُلُ، أَوْ نَعْقِلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَا كُنَّا فِي عِدَادِ أَهْلِ النَّارِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُعَذَّبُ بِالسَّعِيرِ، وَهُمُ الشَّيَاطِينُ كَمَا سَلَفَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ سَمْعَ مَنْ يَعِي، أَوْ نَعْقِلُ عَقْلَ مَنْ يُمَيِّزُ، وَيَنْظُرُ، مَا كُنَّا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا اعْتَرَفُوا هَذَا الِاعْتِرَافَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ عَذَابَ النَّارِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَتَكْذِيبُ الْأَنْبِيَاءِ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أَيْ: فَبُعْدًا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ رَحْمَتِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو صَالِحٍ: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ السُّحْقُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَسُحْقًا» بِإِسْكَانِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلُ السُّحْتِ وَالرُّعْبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: فَسُحْقًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: أَسْحَقَهُمُ اللَّهُ سُحْقًا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَكَانَ الْقِيَاسُ إِسْحَاقًا فَجَاءَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْحَذْفِ، وَاللَّامُ فِي لِأَصْحابِ السَّعِيرِ لِلْبَيَانِ كَمَا فِي: هَيْتَ لَكَ «1» . وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً قَالَ: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ قَالَ: مَا تَفَوَّتَّ بَعْضُهُ بَعْضًا تَفَاوُتًا مُفَرِّقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مِنْ تَفاوُتٍ قَالَ: مِنْ تَشَقُّقٍ، وَفِي قَوْلِهِ: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ قَالَ: شُقُوقٍ، وَفِي قَوْلِهِ: خاسِئاً قَالَ: ذَلِيلًا وَهُوَ حَسِيرٌ كَلِيلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا. قَالَ: الْفُطُورُ: الْوَهْيُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا: مِنْ فُطُورٍ قَالَ: مِنْ تَشَقُّقٍ أَوْ خَلَلٍ، وَفِي قَوْلِهِ: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ قال: يرجع إليك خاسِئاً صاغرا وَهُوَ حَسِيرٌ قال: يعيى وَلَا يَرَى شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا خاسِئاً قَالَ: ذَلِيلًا وَهُوَ حَسِيرٌ قَالَ: عَيِيٌّ مُرْتَجَعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس

_ (1) . يوسف: 23.

[سورة الملك (67) : الآيات 12 إلى 21]

تَكادُ تَمَيَّزُ قَالَ: تَتَفَرَّقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا تَكادُ تَمَيَّزُ قَالَ: يُفَارِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: فَسُحْقاً قال: بعدا. [سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 21] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ أَهْلِ النَّارِ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَ «بِالْغَيْبِ» حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: غَائِبِينَ عَنْهُ، أَوْ غَائِبًا عَنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ عَذَابَهُ وَلَمْ يَرَوْهُ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ خَوْفًا مِنْ عَذَابِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ غَائِبِينَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَذَلِكَ فِي خَلَوَاتِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْغَيْبِ كَوْنُ الْعَذَابِ غَائِبًا عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَكُونُ الْبَاءُ عَلَى هَذَا سَبَبِيَّةً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عَظِيمَةٌ يَغْفِرُ اللَّهُ بِهَا ذُنُوبَهُمْ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ «1» . ثُمَّ عَادَ سُبْحَانَهُ إِلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ تَسَاوِي الْإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمَعْنَى: إِنْ أَخْفَيْتُمْ كَلَامَكُمْ أَوْ جَهَرْتُمْ بِهِ فِي أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيلٌ لِلِاسْتِوَاءِ الْمَذْكُورِ، وَذَاتُ الصُّدُورِ هِيَ مُضْمَرَاتُ الْقُلُوبِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ لِلْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى: أَلَا يَعْلَمُ السِّرَّ وَمُضْمَرَاتُ الْقُلُوبِ مِنْ خَلَقَ ذَلِكَ وَأَوْجَدَهُ، فَالْمَوْصُولُ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَالِقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْمَخْلُوقِ، وَفِي «يَعْلَمُ» ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: أَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ الْمَخْلُوقَ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِهِ، فَإِنَّ الْإِسْرَارَ وَالْجَهْرَ وَمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِهِ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَعْلَمُ، أَيِ: الَّذِي لَطُفَ عِلْمُهُ بِمَا فِي الْقُلُوبِ، الْخَبِيرُ بِمَا تُسِرُّهُ وَتُضْمِرُهُ مِنَ الْأُمُورِ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ. ثُمَّ امْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا أَيْ: سَهْلَةً لَيِّنَةً تَسْتَقِرُّونَ عليها، ولم يَجْعَلْهَا خَشِنَةً بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ عَلَيْكُمُ السُّكُونُ فِيهَا وَالْمَشْيُ عَلَيْهَا، وَالذَّلُولُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ الْمُنْقَادُ الَّذِي يَذِلُّ لَكَ وَلَا يَسْتَصْعِبُ عَلَيْكَ، وَالْمَصْدَرُ الذُّلُّ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْمَشْيِ عَلَى الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ، وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: مَنَاكِبُهَا: طُرُقُهَا وأطرافها وجوانبها. وقال قتادة وشهر بن

_ (1) . ق: 33.

حَوْشَبٍ: مَنَاكِبُهَا: جِبَالُهَا، وَأَصْلُ الْمَنْكِبِ الْجَانِبُ، وَمِنْهُ مَنْكِبُ الرَّجُلِ، وَمِنْهُ الرِّيحُ النَّكْبَاءُ، لِأَنَّهَا تَأْتِي مِنْ جَانِبٍ دُونَ جَانِبٍ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أَيْ: مِمَّا رَزَقَكُمْ وَخَلَقَهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَيْ: وَإِلَيْهِ الْبَعْثُ مِنْ قُبُورِكُمْ، لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ. ثُمَّ خَوَّفَ سُبْحَانَهُ الْكُفَّارَ. فَقَالَ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي عُقُوبَةَ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَقِيلَ «مَنْ فِي السَّمَاءِ» : قُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ وَعَرْشُهُ وَمَلَائِكَتُهُ، وَقِيلَ: مَنْ فِي السَّمَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ جِبْرِيلُ، وَمَعْنَى أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ يَقْلِعَهَا مُلْتَبِسَةً بِكُمْ كَمَا فَعَلَ بِقَارُونَ بَعْدَ مَا جَعَلَهَا لَكُمْ ذَلُولًا تَمْشُونَ فِي مَنَاكِبِهَا، وَقَوْلُهُ: أَنْ يَخْسِفَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْمَوْصُولِ، أَيْ: أَأَمِنْتُمْ خَسْفَهُ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مِنْ، أَيْ: مِنْ أَنْ يَخْسِفَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ أَيْ: تَضْطَرِبُ وَتَتَحَرَّكُ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ السُّكُونِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «ء أمنتم» بِهَمْزَتَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَصْرِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِقَلْبِ الْأُولَى وَاوًا. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ التَّهْدِيدَ لَهُمْ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أَيْ: حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ كَمَا أَرْسَلَهَا عَلَى قوم لوط وأصحاب الفيل، وقيل: سحاب فيه حِجَارَةٌ، وَقِيلَ: رِيحٌ فِيهَا حِجَارَةٌ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أَيْ: إِنْذَارِي إِذَا عَايَنْتُمُ الْعَذَابَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ هَذَا الْعِلْمُ، وَقِيلَ: النَّذِيرُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ عَطَاءُ وَالضَّحَّاكُ. وَالْمَعْنَى: سَتَعْلَمُونَ رَسُولِي وَصِدْقَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْكَلَامُ فِي أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً كَالْكَلَامِ فِي أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَهُوَ إِمَّا بَدَلُ اشْتِمَالٍ، أَوْ بِتَقْدِيرِ مِنْ. وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيِ: الَّذِينَ قَبْلَ كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَيْ: فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ بِمَا أَصَبْتُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْفَظِيعِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أي: أغفلوا ولم يَنْظُرُوا، وَمَعْنَى صافَّاتٍ أَنَّهَا صَافَّةٌ لِأَجْنِحَتِهَا فِي الهواء وتبسيطها عِنْدَ طَيَرَانِهَا وَيَقْبِضْنَ أَيْ: يَضْمُمْنَ أَجْنِحَتَهُنَّ. قَالَ النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحيه: صافّ، وإذا ضمّهما: قابض لأنه يقبضهما، وَهَذَا مَعْنَى الطَّيَرَانِ، وَهُوَ بَسْطُ الْجَنَاحِ وَقَبْضُهُ بَعْدَ الْبَسْطِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي خِرَاشٍ: يُبَادِرُ جنح اللّيل فهو موائل «1» ... يحث الْجَنَاحِ بِالتَّبَسُّطِ وَالْقَبْضِ وَإِنَّمَا قَالَ: وَيَقْبِضْنَ وَلَمْ يَقُلْ قَابِضَاتٍ كَمَا قَالَ صَافَّاتٍ، لِأَنَّ الْقَبْضَ يَتَجَدَّدُ تَارَةً فَتَارَةً، وَأَمَّا الْبَسْطُ فَهُوَ الْأَصْلُ، كَذَا قِيلَ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى وَيَقْبِضْنَ قَبْضُهُنَّ لِأَجْنِحَتِهِنَّ عِنْدَ الْوُقُوفِ مِنَ الطَّيَرَانِ، لَا قَبْضُهَا فِي حَالِ الطَّيَرَانِ، وَجُمْلَةُ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَقْبِضْنَ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَا يُمْسِكُهُنَّ فِي الْهَوَاءِ عِنْدَ الطَّيَرَانِ إِلَّا الرَّحْمَنُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ كَائِنًا مَا كَانَ أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ

_ (1) . «واءل الطير» : لجأ. وفي اللسان: مهابذ، والمهابذة: الإسراع.

[سورة الملك (67) : الآيات 22 إلى 30]

الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا جُنْدَ لَكُمْ يَمْنَعُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَالْجُنْدُ: الْحِزْبُ وَالْمَنَعَةُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَمَّنْ» هَذَا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى إِدْغَامِ مِيمِ أَمْ فِي مِيمِ مَنْ، وأم بِمَعْنَى بَلْ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَقْدِيرِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي تَقْدِيرِ أَمِ الْمُنْقَطِعَةِ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، لِأَنَّ بَعْدَهَا هُنَا مَنْ الاستفهامية فأغنت عن ذلك التقدير، ومن الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مُبْتَدَأٌ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ خَبَرُهُ، وَالْمَوْصُولُ مَعَ صلته صفة اسم الإشارة، وينصركم صفة لجند، ومن دُونِ الرَّحْمَنِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَنْصُرُكُمْ، وَالْمَعْنَى: بَلْ مَنْ هَذَا الْحَقِيرُ الَّذِي هُوَ فِي زَعْمِكُمْ جُنْدٌ لَكُمْ مُتَجَاوِزًا نَصْرَ الرَّحْمَنِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِتَخْفِيفِ الْأُولَى وَتَثْقِيلِ الثَّانِيَةِ، وَجُمْلَةُ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ مُعْتَرِضَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، نَاعِيَةٌ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَالْمَعْنَى: مَا الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ عَظِيمٍ مِنْ جِهَةِ الشَّيْطَانِ يَغُرُّهُمْ بِهِ أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ الْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ قِرَاءَةً وَإِعْرَابًا، أَيْ: مَنِ الَّذِي يَدِرُّ عَلَيْكُمُ الْأَرْزَاقَ مِنَ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ إِنْ أَمْسَكَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْكُمْ وَمَنَعَهُ عَلَيْكُمْ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أَيْ: لَمْ يَتَأَثَّرُوا لِذَلِكَ، بَلْ تَمَادَوْا فِي عناد واستكبار عن الحقّ ونفور عنه، ولم يَعْتَبِرُوا، وَلَا تَفَكَّرُوا، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ: إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ فَمَنْ يَرْزُقُكُمْ غَيْرُهُ، وَالْعُتُوُّ: الْعِنَادُ وَالطُّغْيَانُ، وَالنُّفُورُ: الشُّرُودُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فِي مَناكِبِها قَالَ: جِبَالُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَطْرَافُهَا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ قَالَ: فِي ضَلَالٍ. [سورة الملك (67) : الآيات 22 الى 30] أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) ضَرَبَ سُبْحَانَهُ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِ وَالْمُوَحِّدِ لِإِيضَاحِ حَالِهِمَا وَبَيَانِ مَآلِهِمَا، فَقَالَ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى وَالْمُكِبُّ وَالْمُنْكَبُّ: السَّاقِطُ عَلَى وَجْهِهِ، يُقَالُ: كَبَبْتُهُ فَأَكَبَّ وَانْكَبَّ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَكُبُّ رَأْسَهُ فَلَا يَنْظُرُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا أَمَامًا، فَهُوَ لَا يَأْمَنُ الْعُثُورَ وَالِانْكِبَابَ عَلَى وَجْهِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ فَلَا يَزَالُ مَشْيُهُ يُنَكِّسُهُ عَلَى وَجْهِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْكَافِرُ يَكُبُّ عَلَى مَعَاصِي

اللَّهِ فِي الدُّنْيَا فَيَحْشُرُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجْهِهِ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، أَيْ: هَلْ هَذَا الَّذِي يَمْشِي عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى إِلَى الْمَقْصِدِ الَّذِي يُرِيدُهُ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا مُعْتَدِلًا نَاظِرًا إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَوٍ لَا اعْوِجَاجَ بِهِ وَلَا انْحِرَافَ فِيهِ، وَخَبَرُ «مَنْ» مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ خَبَرِ «مَنِ» الْأُولَى وَهُوَ «أَهْدَى» عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ «مَنِ» الثَّانِيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «مَنِ» الْأُولَى عَطْفَ الْمُفْرَدِ، كَقَوْلِكَ: أَزْيَدٌ قَائِمٌ أَمْ عَمْرٌو؟ وَقِيلَ: أَرَادَ بِمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ مَنْ يُحْشَرُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى النَّارِ، وَمَنْ يَمْشِي سَوِيًّا مَنْ يُحْشَرُ عَلَى قَدَمَيْهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهُوَ كَقَوْلِ قَتَادَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ «1» . قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى وَجَعَلَ لَهُمُ السَّمْعَ لِيَسْمَعُوا بِهِ وَالْأَبْصارَ لِيُبْصِرُوا بِهَا، وَوَجْهُ إِفْرَادِ السَّمْعِ مَعَ جَمْعِ الْأَبْصَارِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ مَعَ زِيَادَةٍ فِي الْبَيَانِ وَالْأَفْئِدَةَ الْقُلُوبُ الَّتِي يَتَفَكَّرُونَ بِهَا فِي مخلوقات الله، فذكر سبحانه ها هنا أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهُمْ مَا يُدْرِكُونَ بِهِ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ إِيضَاحًا لِلْحُجَّةِ، وَقَطْعًا لِلْمَعْذِرَةِ، وَذَمًّا لَهُمْ عَلَى عَدَمِ شُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ وَانْتِصَابُ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَ «مَا» مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ: شُكْرًا قَلِيلًا أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا، وَقِيلَ: أَرَادَ بِقِلَّةِ الشُّكْرِ عَدَمَ وُجُودِهِ مِنْهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَنَّكُمْ لَا تَشْكُرُونَ رَبَّ هَذِهِ النِّعَمِ فَتُوَحِّدُونَهُ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنَشَرَهُمْ فِيهَا، وَفَرَّقَهُمْ عَلَى ظَهْرِهَا، وَأَنَّ حَشْرَهُمْ لِلْجَزَاءِ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ فَقَالَ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ الَّذِي تَذْكُرُونَهُ لَنَا مِنَ الْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ وَالنَّارِ وَالْعَذَابِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي ذَلِكَ، وَالْخِطَابُ مِنْهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَخْبِرُونَا بِهِ أَوْ فَبَيِّنُوهُ لَنَا، وَهَذَا مِنْهُمُ اسْتِهْزَاءٌ وَسُخْرِيَةٌ. ثُمَّ لَمَّا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: إِنَّ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ عِلْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ لِلْإِنْذَارِ لَا لِلْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، فَقَالَ: وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أُنْذِرُكُمْ وَأُخَوِّفُكُمْ عَاقِبَةَ كُفْرِكُمْ، وَأُبَيِّنُ لَكُمْ مَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِبَيَانِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَالَهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ فَقَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً يَعْنِي رَأَوُا الْعَذَابَ قَرِيبًا، وَزُلْفَةٌ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ: مُزْدَلِفًا، أَوْ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ رَأَوْا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَا زُلْفَةٍ وَقُرْبٍ، أَوْ ظَرْفٌ، أَيْ: رَأَوْهُ فِي مَكَانٍ ذِي زُلْفَةٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ قَرِيبًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَيَانًا. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ عَذَابُ بَدْرٍ، وَقِيلَ: رَأَوْا مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْحَشْرِ قَرِيبًا مِنْهُمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَقِيلَ: لَمَّا رَأَوْا عَمَلَهُمُ السَّيِّئَ قَرِيبًا سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: اسودّت، وعلتها

_ (1) . الإسراء: 97.

الْكَآبَةُ، وَغَشِيَتْهَا الذِّلَّةُ، يُقَالُ: سَاءَ الشَّيْءُ يَسُوءُ فهم سَيِّئٌ إِذَا قَبُحَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى تَبَيَّنَ فِيهَا السُّوءُ، أَيْ: سَاءَهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِهِ فِي وُجُوهِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «1» . قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ السِّينِ بِدُونِ إِشْمَامٍ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالْإِشْمَامِ وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أَيْ: قِيلَ لَهُمْ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا هَذَا الْمُشَاهَدُ الْحَاضِرُ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ فِي الدُّنْيَا: أَيْ تَطْلُبُونَهُ وَتَسْتَعْجِلُونَ بِهِ اسْتِهْزَاءً، عَلَى أَنَّ مَعْنَى تَدَّعُونَ الدُّعَاءُ. قَالَ الفراء: تفتعلون مِنَ الدُّعَاءِ، أَيْ: تَتَمَنَّوْنَ وَتَسْأَلُونَ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ الْأَبَاطِيلَ وَالْأَحَادِيثَ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَدَّعُونَ: تَكْذِبُونَ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: «تَدَّعُونَ» بِالتَّشْدِيدِ، فَهُوَ إِمَّا مِنَ الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ الْأَكْثَرُ، أَوْ مِنَ الدَّعْوَى كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا حَشْرَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ والضحاك: تدعون مخففا، ومعناها ظاهر. وقال قَتَادَةَ: هُوَ قَوْلُهُمْ: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا «2» وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ قَوْلُهُمُ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «3» الآية. قال النحاس: تدّعون تدعون بمعنى واحد، كما تقول: قدر واقتدر، وعدى واعتدى، إلا أنّ افتعل مَعْنَاهُ مَضَى شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَفِعْلٌ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ أَهْلَكَنِي الله بموت أو قتل، ومن معي من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا بتأخير ذلك إلى أجل، وقيل المعنى: إِنْ أَهْلَكَنِي اللَّهُ وَمَنْ مَعِي بِالْعَذَابِ، أَوْ رَحِمَنَا، فَلَمْ يُعَذِّبْنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أَيْ: فَمَنْ يَمْنَعُهُمْ وَيُؤَمِّنُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ أحد سواء أهلك الله الرسول وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ كَمَا كَانَ الْكُفَّارُ يَتَمَنَّوْنَهُ، أَوْ أَمْهَلَهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنَّا مَعَ إِيمَانِنَا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَمَنْ يُجِيرُكُمْ مَعَ كُفْرِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ السَّبَبُ فِي عَدَمِ نَجَاتِهِمْ قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَحْدَهُ، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَالتَّوَكُّلُ: تَفْوِيضُ الْأُمُورِ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ مَعَ إِخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْإِنْصَافِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «سَتَعْلَمُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ، ثُمَّ احْتَجَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِبَعْضِ نِعَمِهِ، وَخَوَّفَهُمْ بِسَلْبِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُمْ فَقَالَ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ صَارَ مَاؤُكُمْ غَائِرًا فِي الْأَرْضِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ وُجُودٌ فِيهَا أَصْلًا، أَوْ صَارَ ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ بِحَيْثُ لَا تَنَالُهُ الدِّلَاءُ. يُقَالُ: غَارَ الْمَاءُ غَوْرًا، أَيْ: نَضَبَ، وَالْغَوْرُ: الْغَائِرُ، وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَدْلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أَيْ: ظَاهِرٍ تَرَاهُ الْعُيُونُ، وَتَنَالُهُ الدِّلَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ مَعَنَ الْمَاءُ، أَيْ: كَثُرَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَيْ جَارَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْمَعِينِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ. وَقَرَأَ ابْنُ عباس: «فمن يأتيكم بماء عذب» .

_ (1) . آل عمران: 106. (2) . ص: 16. (3) . الأنفال: 32. [.....]

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا قَالَ: فِي الضَّلَالَةِ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا قَالَ: مُهْتَدِيًا. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ النَّجَّارِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اشْتَكَى ضِرْسَهُ فَلْيَضَعْ أُصْبُعَهُ عَلَيْهِ، وَلِيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ» . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اشْتَكَى ضِرْسَهُ فَلْيَضَعْ أُصْبُعَهُ عَلَيْهِ، وَلْيَقْرَأْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ إِلَى يَفْقَهُونَ «1» وهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً قَالَ: دَاخِلًا فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ قَالَ: الْجَارِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً قَالَ: يَرْجِعُ فِي الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا بِماءٍ مَعِينٍ قَالَ: ظَاهِرٌ. وَأَخْرُجُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَيْضًا بِماءٍ مَعِينٍ قال: عذب.

_ (1) . الأنعام: 98.

سورة القلم

سورة القلم وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ من أوّلها إِلَى قَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ مَكِّيٌّ، وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الصَّالِحِينَ مَدَنِيٌّ، وَبَاقِيهَا مَكِّيٌّ، كَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ إِذَا نَزَلَتْ فَاتِحَةُ سُورَةٍ بِمَكَّةَ كُتِبَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ يَزِيدُ اللَّهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثُمَّ نُونُ، ثُمَّ الْمُزَّمِّلُ، ثُمَّ الْمُدَّثِّرُ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ ن بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) قَوْلُهُ: ن قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَوَرْشٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وابن محيصن وهبيرة بِإِدْغَامِ النُّونِ الثَّانِيَةِ مِنْ هِجَائِهَا فِي الْوَاوِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالْفَتْحِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ. وَقَرَأَ ابن عامر «1» ونصر وابن أبي إِسْحَاقَ بِكَسْرِهَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَسَمِ، أَوْ لِأَجْلِ التقاء الساكنين، وقرأ محمد بن السّميقع وَهَارُونُ بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْحُوتُ الَّذِي يَحْمِلُ الْأَرْضَ، وَبِهِ قال مرّة الهمداني وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّ نُونَ آخِرُ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ فَاتِحَةُ السُّورَةِ. وَقَالَ عَطَاءُ وَأَبُو العالية: هي النون من نصير وَنَاصِرٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَقْسَمَ اللَّهُ تعالى بنصره للمؤمنين، وَقِيلَ: هُوَ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ، كَالْفَوَاتِحِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِذَلِكَ، وَقَدْ عَرَّفْنَاكَ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالْقَلَمِ وَاوُ الْقَسَمِ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِالْقَلَمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ وَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ قَلَمٍ يُكْتَبُ بِهِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِهِ الْقَلَمُ الَّذِي كُتِبَ بِهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ تَعْظِيمًا لَهُ.

_ (1) . في تفسير القرطبي: ابن عباس.

قَالَ قَتَادَةُ: الْقَلَمُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَما يَسْطُرُونَ «مَا» مَوْصُولَةٌ، أَيْ: وَالَّذِي يَسْطُرُونَ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَصْحَابِ الْقَلَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِهِ لِأَنَّ ذِكْرَ آلَةِ الْكِتَابَةِ تَدُلُّ عَلَى الْكَاتِبِ. وَالْمَعْنَى: وَالَّذِي يَسْطُرُونَ، أَيْ: يَكْتُبُونَ كُلَّ مَا يُكْتَبُ، أَوِ الْحَفَظَةُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: وَسَطْرُهُمْ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَلَمِ خَاصَّةً مِنْ بَابِ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْآلَةِ وَإِجْرَائِهَا مَجْرَى الْعُقَلَاءِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ما نافية، وأنت اسمها، وبمجنون خَبَرُهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْتَ هُوَ اسْمُ مَا، وبمجنون خَبَرُهَا، وَقَوْلُهُ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ كَلَامٌ وَقَعَ فِي الْوَسَطِ، أَيِ: انْتَفَى عَنْكَ الْجُنُونُ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ، كَمَا يُقَالُ: أَنْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ عَاقِلٌ، قِيلَ: الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُضْمَرٍ هُوَ حَالٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أنت بريء من الجنون متلبسا بِنِعْمَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ النُّبُوَّةُ وَالرِّيَاسَةُ الْعَامَّةُ. وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلْقَسَمِ، أَيْ: وَمَا أَنْتَ وَنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَقِيلَ: النِّعْمَةُ هُنَا الرَّحْمَةُ، وَالْآيَةُ ردّ على الكفار حيث قالوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «1» وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً أَيْ: ثَوَابًا عَلَى مَا تَحَمَّلْتَ مِنْ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ، وَقَاسَيْتَ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ غَيْرَ مَمْنُونٍ أَيْ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ، يُقَالُ: مَنَنْتُ الْحَبْلَ إِذَا قَطَعْتُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْرَ مَمْنُونٍ: غَيْرَ مَحْسُوبٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: غَيْرَ مَمْنُونٍ: غَيْرَ مُكَدَّرٍ بِالْمَنِّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَجْرًا بِغَيْرِ عَمَلٍ. وَقِيلَ: غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَقِيلَ: غَيْرَ مَمْنُونٍ بِهِ عَلَيْكَ مِنْ جِهَةِ النَّاسِ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قِيلَ: هُوَ الْإِسْلَامُ وَالدِّينُ، حَكَى هَذَا الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ. وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ وَالْعَوْفِيِّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَيَنْتَهِي عَنْهُ مِنْ نَهْيِ اللَّهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِنَّكَ عَلَى الْخُلُقِ الَّذِي أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: هُوَ رِفْقُهُ بِأُمَّتِهِ وَإِكْرَامُهُ إِيَّاهُمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّكَ عَلَى طَبْعٍ كَرِيمٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَحَقِيقَةُ الْخُلُقِ فِي اللُّغَةِ مَا يَأْخُذُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِهِ مِنَ الْأَدَبِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ خُلِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كَانَ خَلُقُهُ الْقُرْآنَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا مَعْطُوفَتَانِ عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ. فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ أَيْ: سَتُبْصِرُ يَا مُحَمَّدُ وَيُبْصِرُ الْكُفَّارُ إِذَا تَبَيَّنَ الْحَقُّ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ: أَيُّكُمُ الْمَفْتُونُ بِالْجُنُونِ، كَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الْفَلَجِ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ وَقِيلَ: لَيْسَتِ الْبَاءُ زَائِدَةً، وَالْمَفْتُونُ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى مَفْعُولٍ، كَالْمَعْقُولِ وَالْمَيْسُورِ، وَالتَّقْدِيرُ: بِأَيِّكُمُ الْفُتُونُ أَوِ الْفِتْنَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ الرَّاعِي: حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكُوا لِعِظَامِهِ ... لَحْمًا وَلَا لِفُؤَادِهِ مَعْقُولَا أَيْ: عَقْلًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى فِي، أَيْ: فِي الْفَرِيقِ الْآخَرِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ «فِي أَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» وَقِيلَ: الْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: بِأَيِّكُمْ فُتِنَ الْمَفْتُونُ، فحذف المضاف وأقيم المضاف

_ (1) . الحجر: 6.

إِلَيْهِ مَقَامَهُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ الْأَخْفَشِ أَيْضًا. وَقِيلَ: الْمَفْتُونُ: الْمُعَذَّبُ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ فَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ إِذَا أَحْمَيْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «1» وَقِيلَ: الْمَفْتُونُ هُوَ الشَّيْطَانُ لِأَنَّهُ مَفْتُونٌ فِي دِينِهِ، وَالْمَعْنَى: بِأَيِّكُمُ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِعَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ، وَالْمَعْنَى: سَتَرَى وَيَرَى أَهْلُ مَكَّةَ إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ بِبَدْرٍ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ تَعْلِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ عَلَيْهِمْ بِالْجُنُونِ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِمَا فِيهِ نَفْعُهُمْ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَاخْتِيَارِهِمْ مَا فِيهِ ضَرُّهُمْ فِيهِمَا، وَالْمَعْنَى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الْمُوَصِّلِ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إِلَى سَبِيلِهِ الْمُوَصِّلِ إِلَى تِلْكَ السَّعَادَةِ الْآجِلَةِ وَالْعَاجِلَةِ، فَهُوَ مُجَازٍ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ نَهَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْ مُمَايَلَةِ «2» الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ رُؤَسَاءُ كُفَّارِ مَكَّةَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَهُ إِلَى دِينِ آبَائِهِ، فنهاه عَنْ طَاعَتِهِمْ أَوْ هُوَ تَعْرِيضٌ بِغَيْرِهِ عَنْ أَنْ يُطِيعَ الْكُفَّارَ، أَوِ الْمُرَادُ بِالطَّاعَةِ مُجَرَّدُ الْمُدَارَاةِ بِإِظْهَارِ خِلَافِ مَا فِي الضَّمِيرِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ فَإِنَّ الْإِدْهَانَ: هُوَ الْمُلَايَنَةُ وَالْمُسَامَحَةُ وَالْمُدَارَاةُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى لَوْ تَلِينُ فَيَلِينُوا لَكَ، وَكَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُ فَيَتَمَادَوْا عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: وَدُّوا لَوْ تَكْذِبُ فَيَكْذِبُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَدُّوا لَوْ تَذْهَبُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ فَيَذْهَبُونَ مَعَكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَدُّوا لَوْ تُصَانِعُهُمْ فِي دِينِكَ فَيُصَانِعُونَكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَدُّوا لَوْ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ وَتَتْرُكُ مَا أنت عليه من الحق فيما يلونك. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَانُوا أَرَادُوهُ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ مُدَّةً، وَيَعْبُدُوا اللَّهَ مُدَّةً. وَقَوْلُهُ: فَيُدْهِنُونَ عَطْفٌ عَلَى تُدْهِنُ، دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ «لَوْ» ، أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَهُمْ يُدْهِنُونَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَزَعَمَ قَالُونُ أَنَّهَا فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُوا» بِدُونِ نُونٍ، وَالنَّصْبُ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي الْمَفْهُومِ مَنْ وَدُّوا، وَالظَّاهِرُ مِنَ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْإِدْهَانِ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ أَيْ: كَثِيرِ الْحَلِفِ بِالْبَاطِلِ مَهِينٍ فَعِيلٌ مِنَ الْمَهَانَةِ، وَهِيَ الْقِلَّةُ فِي الرَّأْيِ وَالتَّمْيِيزِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْكَذَّابُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمِكْثَارُ فِي الشَّرِّ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: هُوَ الْفَاجِرُ الْعَاجِزُ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَقِيرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ الذَّلِيلُ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَضِيعُ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ الْهَمَّازُ الْمُغْتَابُ لِلنَّاسِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الَّذِي يَهْمِزُ بِأَخِيهِ، وَقِيلَ: الْهَمَّازُ: الَّذِي يَذْكُرُ النَّاسَ فِي وُجُوهِهِمْ، وَاللَّمَّازُ: الَّذِي يَذْكُرُهُمْ فِي مَغِيِبِهِمْ، كَذَا قَالَ أَبُو العالية والحسن وعطاء ابن أَبِي رَبَاحٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ عَكْسَ هَذَا. وَالْمَشَّاءُ بِنَمِيمٍ: الَّذِي يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ لِيُفْسِدَ بَيْنَهُمْ، يُقَالُ: نَمَّ يَنِمُّ إِذَا سَعَى بِالْفَسَادِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَوْلًى كَبَيْتِ النَّمْلِ لَا خَيْرَ عِنْدَهُ ... لِمَوْلَاهُ إِلَّا سَعْيُهُ بِنَمِيمِ وَقِيلَ: النَّمِيمُ: جَمْعُ نَمِيمَةِ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أَيْ: بَخِيلٍ بِالْمَالِ لَا يُنْفِقُهُ فِي وَجْهِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَعَشِيرَتَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ. قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ لَهُمْ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ لَا أَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ أبدا مُعْتَدٍ أَثِيمٍ

_ (1) . الذاريات: 13. (2) . «مايله» : مالأه.

أَيْ: مُتَجَاوِزِ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ، كَثِيرِ الْإِثْمِ عُتُلٍّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ هُوَ الشَّدِيدُ الْخَلْقِ الْفَاحِشُ الْخُلُقِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ فِي الْبَاطِلِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الْغَلِيظُ الْجَافِي. وَقَالَ اللَّيْثُ: هُوَ الْأَكُولُ الْمَنُوعُ، يُقَالُ: عَتَلْتُ الرَّجُلَ أَعْتِلُهُ إِذَا جَذَبْتُهُ جَذْبًا عَنِيفًا، ومنه قول الشاعر «1» : نفرعه فرعا وَلَسْنَا نَعْتِلُهُ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ أَيْ: هُوَ بَعْدَ مَا عَدَّ مِنْ مَعَايِبِهِ زَنِيمٌ، وَالزَّنِيمُ والدّعيّ: الْمُلْصَقُ بِالْقَوْمِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّنَمَةِ الْمُتَدَلِّيَةِ فِي حَلْقِ الشَّاةِ، أَوِ الْمَاعِزِ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ: زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَالُ زِيَادَةً ... كَمَا زِيدَ فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ الْأَكَارِعُ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الزَّنِيمُ: الْمَعْرُوفُ بِالشَّرِّ، وَقِيلَ: هو رجل مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ لَهُ زَنَمَةٌ كَزَنَمَةِ الشَّاةِ، وَقِيلَ: هُوَ الظَّلُومُ. أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا تُطِعْ أَيْ: لَا تُطِعْ مَنْ هَذِهِ مَثَالِبُهُ لِكَوْنِهِ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: أَيْ لِأَنْ كَانَ، وَالْمَعْنَى: لَا تُطِعْهُ لِمَالِهِ وَبَنِيهِ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْمُغِيرَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ أَنْ كانَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَمْدُودَةٍ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ أَأَنْ كَانَ بِهَمْزَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْخَبَرِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الِاسْتِفْهَامِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ حَيْثُ جَعَلَ مُجَازَاةَ النِّعَمِ الَّتِي خَوَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ أَنْ كَفَرَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِكَسْرِ الهمزة على الشرط، وجملة إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أَيْ: سَنَسِمُهُ بِالْكَيِّ عَلَى خُرْطُومِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو زَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ: الْخُرْطُومُ: الْأَنْفُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: سَنَسِمُهُ بِالسَّوَادِ عَلَى الْأَنْفِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَسْوَدُّ وَجْهُهُ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْخُرْطُومُ وَإِنْ كَانَ قَدْ خُصَّ بِالسِّمَةِ فَإِنَّهُ فِي مَذْهَبِ «2» الْوَجْهِ، لِأَنَّ بَعْضَ الوجه يؤدي عن بعض. قال الزَّجَّاجُ: سَيُجْعَلُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ مِنِ اسْوِدَادِ وُجُوهِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: سَنُلْحِقُ بِهِ شَيْئًا لَا يُفَارِقُهُ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ وَسَمَهُ مِيسَمُ سُوءٍ يُرِيدُونَ أَلْصَقَ بِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَلْحَقَ بِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ، كَالْوَسْمِ عَلَى الْخُرْطُومِ، وَقِيلَ: مَعْنَى سَنَسِمُهُ: سَنُحَطِّمُهُ بِالسَّيْفِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْمَعْنَى سَنَحُدُّهُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْخَمْرُ بِالْخُرْطُومِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَظَلُّ يَوْمَكَ فِي لَهْوٍ وَفِي طَرَبٍ ... وَأَنْتَ بِاللَّيْلِ شَرَّابُ الْخَرَاطِيمِ وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَالْخَطِيبُ فِي

_ (1) . هو أبو النجم الرّاجز. (2) . في تفسير القرطبي: معنى.

تَارِيخِهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: يَا رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ، فَجَرَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، ثُمَّ طُوِيَ الْكِتَابُ وَرُفِعَ الْقَلَمُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، فَارْتَفَعَ بُخَارُ الْمَاءِ فَفُتِقَتْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ، ثُمَّ خُلِقَ النُّونُ فَبُسِطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِ، وَالْأَرْضُ عَلَى ظَهْرِ النُّونِ «1» ، فَاضْطَرَبَ النون فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال، فَإِنَّ الْجِبَالَ لَتَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ النُّونَ، وَهِيَ الدَّوَاةُ، وَخَلَقَ الْقَلَمَ، فَقَالَ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ن الدَّوَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النُّونُ: السَّمَكَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قَرَارُ الْأَرَضِينَ، وَالْقَلَمُ الَّذِي خَطَّ بِهِ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ الْقَدَرَ خَيْرَهُ وَشَرَّهُ وَضُرَّهُ وَنَفْعَهُ، وَما يَسْطُرُونَ قَالَ: الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما يَسْطُرُونَ قَالَ: مَا يَكْتُبُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَما يَسْطُرُونَ قَالَ: وَمَا يَعْلَمُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ الله، قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَالْوَاحِدِيُّ عَنْهَا قَالَتْ: «مَا كَانَ أَحَدٌ أَحْسَنَ خُلُقًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا دَعَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا قَالَ: لَبَّيْكَ، فَلِذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كان خلقه القرآن، يَرْضَى لِرِضَاهُ وَيَسْخَطُ لِسُخْطِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَاحِشًا، وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ قَالَ: تَعْلَمُ وَيَعْلَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ قَالَ: الشَّيْطَانُ، كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ شَيْطَانٌ وَإِنَّهُ مَجْنُونٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: بِأَيِّكُمُ الْمَجْنُونُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ يَقُولُ: لَوْ تُرَخِّصُ لَهُمْ فَيُرَخِّصُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ الْآيَةَ قَالَ: يَعْنِي الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: «قَالَ مَرْوَانُ لما بايع الناس ليزيد:

_ (1) . «النون» : الحوت.

[سورة القلم (68) : الآيات 17 إلى 33]

سُنَّةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِسَنَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَكِنَّهَا سَنَةُ هِرَقْلَ، فَقَالَ مَرْوَانُ: هَذَا الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما «1» الْآيَةَ، قَالَ: فَسَمِعَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَقَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلَكِنْ نَزَلَ فِي أَبِيكَ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ- هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ- هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ فلم نعرفه حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ، فَعَرَفْنَاهُ لَهُ زَنَمَةٌ كَزَنَمَةِ الشَّاةِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْعُتُلُّ: هُوَ الدَّعِيُّ، وَالزَّنِيمُ: هُوَ الْمُرِيبُ الَّذِي يُعْرَفُ بِالشَّرِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: الزَّنِيمُ: هُوَ الدَّعِيُّ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الزَّنِيمُ: الَّذِي يُعْرَفُ بِالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَمُرُّ عَلَى الْقَوْمِ، فَيَقُولُونَ: رَجُلُ سُوءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: زَنِيمٍ قَالَ: ظَلُومٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، وَقِيلَ: فِي الْوَلِيدِ بْنِ المغيرة. [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) قَوْلُهُ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، فَإِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاهُمْ بِالْجُوعِ وَالْقَحْطِ بِدَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَالْمَعْنَى: أَعْطَيْنَاهُمُ الْأَمْوَالَ لِيَشْكُرُوا لَا لِيَبْطَرُوا، فَلَمَّا بَطِرُوا ابْتَلَيْنَاهُمْ بِالْجُوعِ وَالْقَحْطِ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْمَعْرُوفُ خَبَرُهُمْ عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ صَنْعَاءَ لِرَجُلٍ يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ مِنْهَا، فَمَاتَ وَصَارَتْ إِلَى أَوْلَادِهِ، فَمَنَعُوا النَّاسَ خَيْرَهَا، وَبَخِلُوا بِحَقِّ اللَّهِ فِيهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ ثَقِيفٍ كَانُوا بِالْيَمَنِ مُسْلِمِينَ، وَرِثُوا مِنْ أَبِيهِمْ ضَيْعَةً فِيهَا جَنَّاتٌ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ، وَكَانَ أَبُوهُمْ يَجْعَلُ مِمَّا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَظًّا لِلْمَسَاكِينِ عِنْدَ الْحَصَادِ وَالصِّرَامِ، فَقَالَتْ بَنُوهُ: الْمَالُ قَلِيلٌ، وَالْعِيَالُ كَثِيرٌ، وَلَا يَسَعُنَا أَنْ نَفْعَلَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ أَبُونَا، وَعَزَمُوا عَلَى حِرْمَانِ الْمَسَاكِينِ، فَصَارَتْ عَاقِبَتُهُمْ إِلَى مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَنْعَاءَ فَرْسَخَانِ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِأَنْ حَرَّقَ جنتهم. وقيل: هي جنة كانت بضوران، وضوران عَلَى فَرَاسِخَ مِنْ صَنْعَاءَ، وَكَانَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْجَنَّةِ بَعْدَ رَفْعِ عِيسَى بِيَسِيرٍ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ أَيْ: حَلَفُوا لَيَقْطَعُنَّهَا دَاخِلِينَ فِي وقت الصباح، والصرم: القطع للثمر

_ (1) . الأحقاف: 17.

وَالزَّرْعِ، وَانْتِصَابُ مُصْبِحِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ لِيَصْرِمُنَّهَا، وَالْكَافُ فِي كَما بَلَوْنا نَعْتُ مَصْدَرٍ محذوف، أي: بلوناهم ابتلاء كما بلونا، وما مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَ «إِذْ» ظَرْفٌ لبلونا منتصب به، وليصرمنها جَوَابُ الْقَسَمِ وَلا يَسْتَثْنُونَ يَعْنِي: وَلَا يَقُولُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ، أَوْ حَالٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا يَسْتَثْنُونَ لِلْمَسَاكِينِ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ يَدْفَعُهُ أَبُوهُمْ إِلَيْهِمْ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ أَيْ: طَافَ عَلَى تِلْكَ الْجَنَّةِ طَائِفٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالطَّائِفُ قِيلَ: هُوَ نَارٌ أَحْرَقَتْهَا حَتَّى صَارَتْ سَوْدَاءَ، كَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الطَّائِفُ جِبْرِيلُ اقْتَلَعَهَا، وَجُمْلَةُ وَهُمْ نائِمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أَيْ: كَالشَّيْءِ الَّذِي صُرِمَتْ ثِمَارُهُ، أَيْ: قُطِعَتْ، فعيل بمعنى مفعول، وقال الفرّاء: كالصريم الْمُظْلِمِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَطَاوَلَ لَيْلُكَ الْجَوْنُ الصَّرِيمُ ... فَمَا يَنْجَابُ عَنْ صُبْحٍ بَهِيمِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا حُرِقَتْ فَصَارَتْ كَاللَّيْلِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: وَالصَّرِيمُ: الرَّمَادُ الْأَسْوَدُ بِلُغَةِ خُزَيْمَةَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ كَالصُّبْحِ انْصَرَمَ مِنَ اللَّيْلِ، يَعْنِي أَنَّهَا يَبِسَتْ وَابْيَضَّتْ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الصَّرِيمُ: اللَّيْلُ، وَالصَّرِيمُ: النَّهَارُ، أَيْ: يَنْصَرِمُ هَذَا عَنْ هَذَا، وَذَاكَ عَنْ هَذَا، وَقِيلَ: سُمِّيَ اللَّيْلُ صَرِيمًا لِأَنَّهُ يَقْطَعُ بِظُلْمَتِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: الصَّرِيمُ: الرَّمْلَةُ لِأَنَّهَا لَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا شَيْءٌ يُنْتَفَعُ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: صُرِمَ مِنْهَا الْخَيْرُ، أَيْ: قُطِعَ فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَيْ: نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا دَاخِلِينَ فِي الصَّبَاحِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ بعضهم لبعض أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ وأَنِ فِي قَوْلِهِ: أَنِ اغْدُوا هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِأَنَّ فِي التَّنَادِي مَعْنَى الْقَوْلِ، أَوْ هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ، أَيْ: بِأَنْ اغْدُوا، وَالْمُرَادُ اخْرُجُوا غُدْوَةً، وَالْمُرَادُ بِالْحَرْثِ: الثِّمَارُ وَالزَّرْعُ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أَيْ: قَاصِدِينَ لِلصَّرْمِ، وَالْغُدُوِّ يَتَعَدَّى بِإِلَى وَعَلَى، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِقْبَالِ كَمَا قِيلَ: وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَاغْدُوا، وَقِيلَ، مَعْنَى صَارِمِينَ مَاضِينَ فِي الْعَزْمِ، مِنْ قَوْلِكَ سَيْفٌ صَارِمٌ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَيْ: ذَهَبُوا إِلَى جَنَّتِهِمْ وَهُمْ يُسِرُّونَ الْكَلَامَ بَيْنَهُمْ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَحَدٌ بِهِمْ، يُقَالُ: خَفَتَ يخفت إذا سكن ولم يبين، وَمِنْهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةَ: وَإِنِّي لَمْ أهلك سلالا ولم أمت ... خفاتا وكلّا ظنّه بي عوّدي وَقِيلَ: الْمَعْنَى: يُخْفُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يَرَوْهُمْ، فَيَقْصِدُوهُمْ كَمَا كَانُوا يَقْصِدُونَ أَبَاهُمْ وَقْتَ الْحَصَادِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ فَإِنَّ «أَنْ» هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِلتَّخَافُتِ الْمَذْكُورِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَالْمَعْنَى: يُسِرُّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَذَا الْقَوْلَ، وَهُوَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الْجَنَّةَ الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، فَيَطْلُبُ مِنْكُمْ أَنْ تُعْطُوهُ مِنْهَا مَا كَانَ يُعْطِيهِ أَبُوكُمْ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ الْحَرْدُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَنْعِ وَالْقَصْدِ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: الْحَرْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْقَصْدِ لِأَنَّ الْقَاصِدَ إِلَى الشَّيْءِ حَارِدٌ، يُقَالُ: حَرَدَ يَحْرِدُ إِذَا قَصَدَ، تَقُولُ: حَرَدْتُ حَرْدَكَ، أَيْ: قَصَدْتُ قَصْدَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:

أَقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... يَحْرِدُ حرد الجنّة المغلّة وقال أبو عبيد وَالْمُبَرِّدُ وَالْقُتَيْبِيُّ: عَلَى حَرْدٍ عَلَى مَنْعٍ، مِنْ قولهم حاردت الْإِبِلُ حَرْدًا إِذَا قَلَّتْ أَلْبَانُهَا، وَالْحَرُودُ مِنَ النُّوقِ هِيَ الْقَلِيلَةُ اللَّبَنِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَسُفْيَانُ وَالشَّعْبِيُّ عَلى حَرْدٍ عَلَى غَضَبٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا جِيَادُ الْخَيْلِ جَاءَتْ تَرْدَى ... مَمْلُوءَةً مِنْ غَضَبٍ وَحَرْدِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: تَسَاقَوْا عَلَى حَرْدٍ دِمَاءَ الْأَسَاوِدِ وَمِنْهُ قِيلَ: أَسَدٌ حَارِدٌ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ أَيْضًا أَنَّهُمَا قَالَا: عَلى حَرْدٍ أَيْ: عَلَى حَسَدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: عَلَى حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ. وَقِيلَ: عَلى حَرْدٍ: عَلَى انْفِرَادٍ، يُقَالُ: حَرَدَ يَحْرِدُ حَرْدًا أَوْ حُرُودًا إِذَا تَنَحَّى عَنْ قَوْمِهِ وَنَزَلَ مُنْفَرِدًا عَنْهُمْ وَلَمْ يُخَالِطْهُمْ، وَبِهِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: حَرْدٌ اسْمُ قَرْيَتِهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: اسْمُ جَنَّتِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ حَرْدٍ بِسُكُونِ الرَّاءِ. وقرأ أبو العالية وابن السّميقع بِفَتْحِهَا، وَانْتِصَابُ قادِرِينَ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: ومعنى قادرين: قد قدّروا أمرهم وَبَنَوْا عَلَيْهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَادِرِينَ عَلَى جَنَّتِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَعْنِي قَادِرِينَ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَلَمَّا رَأَوْها أَيْ: لَمَّا رَأَوْا جَنَّتَهُمْ وَشَاهَدُوا مَا قَدْ حَلَّ بِهَا مِنَ الْآفَةِ الَّتِي أَذْهَبَتْ مَا فِيهَا قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ أي: قال بعضهم لبعض: قد ضللنا جَنَّتِنَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ، ثُمَّ لَمَّا تَأَمَّلُوا وَعَلِمُوا أَنَّهَا جَنَّتُهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَاقَبَهُمْ بِإِذْهَابِ مَا فِيهَا مِنَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ قَالُوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَيْ حُرِمْنَا جَنَّتَنَا بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنَّا مِنَ الْعَزْمِ عَلَى مَنْعِ الْمَسَاكِينِ مِنْ خَيْرِهَا، فَأَضْرَبُوا عَنْ قَوْلِهِمُ الْأَوَّلِ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّا لَضَالُّونَ أَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنِ الصَّوَابِ بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ قالَ أَوْسَطُهُمْ أَيْ: أَمْثَلُهُمْ وَأَعْقَلُهُمْ وَخَيْرُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أَيْ: هَلَّا تُسَبِّحُونَ، يَعْنِي تَسْتَثْنُونَ، وَسُمِّيَ الِاسْتِثْنَاءُ تَسْبِيحًا لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَإِقْرَارٌ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوْسَطَهُمْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَلَمْ يُطِيعُوهُ، وقال مجاهد وأبو صالح وغير هما: كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ تَسْبِيحًا. قَالَ النَّحَّاسُ: أَصْلُ التَّسْبِيحِ التَّنْزِيهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَعَلَ التَّسْبِيحَ فِي مَوْضِعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: هَلَّا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنْ فِعْلِكُمْ وَتَتُوبُونَ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ النِّيَّةِ الَّتِي عَزَمْتُمْ عَلَيْهَا، وَكَانَ أَوْسَطُهُمْ قد قال لهم ذلك بعد مشاهدتهم للجنة عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا فِيمَا صَنَعَ بِجَنَّتِنَا، فَإِنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذَنْبِنَا الَّذِي فَعَلْنَاهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى تَسْبِيحِهِمْ الِاسْتِغْفَارُ، أَيْ نَسْتَغْفِرُ رَبَّنَا مِنْ ذَنْبِنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِنَا فِي مَنْعِنَا لِلْمَسَاكِينِ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أَيْ: يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي مَنْعِهِمْ لِلْمَسَاكِينِ وَعَزْمِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَادَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْوَيْلِ حَيْثُ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ أَيْ: عَاصِينَ مُتَجَاوِزِينَ حُدُودَ اللَّهِ بِمَنْعِ الْفُقَرَاءِ وَتَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَيْ: طَغَيْنَا نِعَمَ اللَّهِ فَلَمْ نَشْكُرْهَا كَمَا شَكَرَهَا أَبُونَا مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى اللَّهِ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ بخير منها،

[سورة القلم (68) : الآيات 34 إلى 52]

فَقَالُوا: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها لَمَّا اعْتَرَفُوا بِالْخَطِيئَةِ رَجَوْا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُبْدِلَهُمْ جَنَّةً خَيْرًا مِنْ جَنَّتِهِمْ، قِيلَ: إِنَّهُمْ تَعَاقَدُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَالُوا: إِنْ أَبْدَلَنَا اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا لَنَصْنَعَنَّ كَمَا صَنَعَ أَبُونَا، فَدَعَوُا اللَّهَ وَتَضَرَّعُوا فَأَبْدَلَهُمْ مِنْ لَيْلَتِهِمْ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُبْدِلَنا بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالتَّبْدِيلُ: تَغْيِيرُ ذَاتِ الشَّيْءِ، أَوْ تَغْيِيرُ صِفَتِهِ، وَالْإِبْدَالُ: رَفْعُ الشَّيْءِ جُمْلَةً وَوَضْعُ آخَرَ مَكَانَهُ، كَمَا مَضَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ أَيْ: طَالِبُونَ مِنْهُ الْخَيْرَ، رَاجُونَ لِعَفْوِهِ، رَاجِعُونَ إِلَيْهِ. وَعُدِّيَ بِإِلَى وَهُوَ إِنَّمَا يَتَعَدَّى بِعْنَ أَوْ فِي لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ كَذلِكَ الْعَذابُ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي بَلَوْنَاهُمْ بِهِ وَبَلَوْنَا أَهْلَ مَكَّةَ بعذاب الدنيا، والعذاب مبتدأ مؤخر، وكذلك خَبَرُهُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أَيْ: أَشَدُّ وَأَعْظَمُ لَوْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ قَالَ: هُمْ نَاسٌ مِنَ الْحَبَشَةِ كَانَ لِأَبِيهِمْ جَنَّةٌ وَكَانَ يُطْعِمُ مِنْهَا الْمَسَاكِينَ، فَمَاتَ أَبُوهُمْ، فَقَالَ بَنُوهُ: إِنْ كَانَ أَبُونَا لَأَحْمَقَ، كَانَ يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَأَنْ لَا يُطْعِمُوا مِسْكِينًا. وَأَخْرَجَ ابن جرير عنه فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ قَالَ: أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْمَعْصِيَةَ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ الْوَاحِدَ فَيَنْسَى بِهِ الْبَابَ مِنَ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ فيحرم به قيام الليل، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحْرَمَ بِهِ رِزْقًا قَدْ كَانَ هُيِّئَ لَهُ. ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ قَدْ حُرِمُوا خَيْرَ جَنَّتِهِمْ بِذَنْبِهِمْ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَالصَّرِيمِ قَالَ: مِثْلُ اللَّيْلِ الْأَسْوَدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَهُمْ يَتَخافَتُونَ قَالَ: الْإِسْرَارُ وَالْكَلَامُ الْخَفِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ يَقُولُ: ذوي قُدْرَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لَضَالُّونَ قَالَ: أُضْلِلْنَا مَكَانَ جَنَّتِنَا. وَأَخْرَجَا عَنْهُ أَيْضًا قالَ أَوْسَطُهُمْ قال: أعدلهم. [سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 52] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)

لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ حَالِ الْكُفَّارِ، وَتَشْبِيهِ ابْتِلَائِهِمْ بِابْتِلَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ ذَكَرَ حَالَ الْمُتَّقِينَ، وَمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، فَقَالَ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَيْ: لِلْمُتَّقِينَ مَا يُوجِبُ سُخْطَهُ- مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي- عِنْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ جَنَّاتُ النَّعِيمِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ كَدَرٌ وَلَا يُنَغِّصُهُ خَوْفُ زَوَالٍ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. وَكَانَ صَنَادِيدُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَرَوْنَ وُفُورَ حَظِّهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِلَّةَ حُظُوظِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، فَلَمَّا سَمِعُوا بِذِكْرِ الْآخِرَةِ، وَمَا يُعْطِي اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا قَالُوا: إِنْ صَحَّ مَا يَزْعُمُهُ مُحَمَّدٌ لَمْ يَكُنْ حَالُنَا وَحَالُهُمْ إِلَّا مِثْلَ مَا هِيَ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ اللَّهُ مُكَذِّبًا لَهُمْ رَادًّا عَلَيْهِمْ: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ الْآيَةَ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَنَظَائِرِهِ. ثُمَّ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هَذَا الْحُكْمَ الْأَعْوَجَ كَأَنَّ أَمْرَ الْجَزَاءِ مُفَوَّضٌ إِلَيْكُمْ تَحْكُمُونَ فِيهِ بِمَا شِئْتُمْ أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ أي: تقرؤون فِيهِ فَتَجِدُونَ الْمُطِيعَ كَالْعَاصِي، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ- فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ «1» ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى أَنَّهَا مَعْمُولَةٌ لِتَدْرُسُونَ، أَيْ: تَدْرُسُونَ فِي الْكِتَابِ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ فَلَمَّا دَخَلَتِ اللَّامُ كُسِرَتِ الْهَمْزَةُ، كَقَوْلِهِ: عَلِمْتُ إِنَّكَ لَعَاقِلٌ بِالْكَسْرِ، أَوْ عَلَى الْحِكَايَةِ لِلْمَدْرُوسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ- سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ «2» وَقِيلَ: قَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: تَدْرُسُونَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ ذَلِكَ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالضَّحَّاكُ إِنَّ لَكُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ تَدْرُسُونَ مَعَ زِيَادَةِ لَامِ التَّأْكِيدِ، وَمَعْنَى تَخَيَّرُونَ: تَخْتَارُونَ وَتَشْتَهُونَ. ثُمَّ زَادَ سُبْحَانَهُ فِي التَّوْبِيخِ فَقَالَ: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ أَيْ: عُهُودٌ مُؤَكَّدَةٌ مُوَثَّقَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَى اللَّهِ اسْتَوْثَقْتُمْ بِهَا فِي أَنْ يُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ، وَقَوْلُهُ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُقَدَّرِ فِي لَكُمْ، ثَابِتَةٌ لَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا نَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا حَتَّى يَحْكُمَكُمْ يَوْمَئِذٍ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ لِأَنَّ مَعْنَى أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ أَيْ: أَمْ أَقْسَمْنَا لَكُمْ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَالْمَعْنَى أَمْ ضَمِنَّا لَكُمْ، وَأَقْسَمْنَا لَكُمْ بِأَيْمَانٍ مُغَلَّظَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ فِي التَّوْكِيدِ. وَقِيلَ: قَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بالِغَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى النَّعْتِ لِأَيْمَانٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَصْبِهَا عَلَى الْحَالِ مِنْ أَيْمَانٍ لِأَنَّهَا قَدْ تَخَصَّصَتْ بِالْوَصْفِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَكُمْ أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْنَا سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أَيْ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ الْكُفَّارَ، مُوَبِخًا لَهُمْ وَمُقَرِّعًا، أَيُّهُمُّ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْخَارِجِ عَنِ الصَّوَابِ، كَفِيلٌ لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الزَّعِيمُ هُنَا الْقَائِمُ بِالْحُجَّةِ وَالدَّعْوَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: الزَّعِيمُ: الرَّسُولُ أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم فيه فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ

_ (1) . الصافات: 156- 157. (2) . الصافات: 78- 79.

فيما يقولون، وهو أمر تعجيز. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ يَجْعَلُونَهُمْ مِثْلَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ يَوْمَ ظَرْفٌ، لِقَوْلِهِ فَلْيَأْتُوا، أَيْ: فَلْيَأْتُوا بِهَا يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ يَوْمَ يُكْشَفُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: عَنْ ساقٍ عَنْ شِدَّةٍ مِنَ الْأَمْرِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَصْلُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ يَحْتَاجُ إِلَى الْجِدِّ فِيهِ شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ، فَيُسْتَعَارُ الْكَشْفُ عَنِ السَّاقِ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ، وَأَنْشَدَ لِدُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةَ: كَمِيشُ الْإِزَارِ خَارِجٌ نِصْفُ سَاقِهِ ... صَبُورٌ عَلَى الْجَلَاءِ طَلَّاعُ أَنْجُدِ وَقَالَ: وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ يَوْمَ يَشْتَدُّ الْأَمْرُ كَمَا يَشْتَدُّ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى أَنْ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِذَا اشْتَدَّ الْحَرْبُ وَالْأَمْرُ قِيلَ: كَشَفَ الْأَمْرُ عَنْ سَاقِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ: مَنْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْجِدِّ شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ، فَاسْتُعِيرَ السَّاقُ وَالْكَشْفُ عَنْ مَوْضِعِ الشِّدَّةِ، وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَتْ ذَلِكَ الْعَرَبُ فِي أَشْعَارِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الحرب شمّرا وقول آخر: وَالْخَيْلُ تَعْدُو عِنْدَ وَقْتِ الْإِشْرَاقِ ... وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقِ وَقَوْلُ آخَرَ أَيْضًا: قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا فَشُدُّوا ... وَجَدَّتِ الْحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا وَقَوْلُ آخَرَ أَيْضًا: فِي سَنَةٍ قَدْ كشفت عن ساقها ... حمراء تُبْرِي اللَّحْمَ عَنْ عُرَاقِهَا «2» . وَقِيلَ: سَاقُ الشَّيْءِ: أَصْلُهُ وَقِوَامُهُ كَسَاقِ الشَّجَرَةِ، وَسَاقِ الْإِنْسَانِ، أَيْ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقِ الْأَمْرِ فَتَظْهَرُ حَقَائِقُهُ، وَقِيلَ: يُكْشَفُ عَنْ سَاقِ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: عَنْ سَاقِ الْعَرْشِ، وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُرْبِ، وَقِيلَ: يَكْشِفُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ عَنْ نُورِهِ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا هُوَ الْحَقُّ، وَإِذَا جَاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُكْشَفُ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ تَكْشِفُ بِالْفَوْقِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيِ: الشِّدَّةُ أَوِ السَّاعَةُ، وَقُرِئَ بِالْفَوْقِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقُرِئَ بِالنُّونِ، وَقُرِئَ بِالْفَوْقِيَّةِ الْمَضْمُومَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ مِنْ أُكْشِفَ الْأَمْرُ، أَيْ: دَخْلَ فِي الْكَشْفِ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَسْجُدُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ لِلَّهِ سَجْدَةً وَاحِدَةً، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْجُدُوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ لِأَنَّ أَصْلَابَهُمْ تَيْبَسُ فَلَا تَلِينُ لِلسُّجُودِ. قَالَ الرَّبِيعُ بن أنس: يكشف

_ (1) . هو حاتم الطائي. (2) . «العراق» : العظم بغير لحم.

عَنِ الْغِطَاءِ فَيَقَعُ مَنْ كَانَ آمَنَ بِاللَّهِ فِي الدُّنْيَا فَيَسْجُدُونَ لَهُ، وَيُدْعَى الْآخَرُونَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا آمَنُوا بِاللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَانْتِصَابُ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ «يُدْعَوْنَ» ، وَ «أَبْصَارُهُمْ» مُرْتَفِعٌ بِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَنِسْبَةُ الْخُشُوعِ إِلَى الْأَبْصَارِ، وَهُوَ الْخُضُوعُ وَالذِّلَّةُ لِظُهُورِ أَثَرِهِ فِيهَا تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أَيْ: تَغْشَاهُمْ ذِلَّةٌ شَدِيدَةٌ وَحَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَهُمْ سالِمُونَ أَيْ: مُعَافَوْنَ عَنِ الْعِلَلِ متمكّنون من الفعل. قال إبراهيم التّيمي: يُدْعُونَ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَيَأْبَوْنَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَسْمَعُونَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَلَا يُجِيبُونَ. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا فِي الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ. وَقِيلَ: يُدْعُونَ بِالتَّكْلِيفِ الْمُتَوَجِّهِ عَلَيْهِمْ بِالشَّرْعِ فَلَا يُجِيبُونَ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ سالِمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُدْعُونَ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي: حل بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَكِلْ أَمْرَهُ إِلَيَّ فَأَنَا أَكْفِيكَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَا يَشْتَغِلُ بِهِ قَلْبُكَ، كله إليّ أكفك أَمْرَهُ. وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْأَمْرِ على ما قبلها، ومَنْ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْقُرْآنُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْلَةُ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّعْذِيبِ لَهُمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى «مَنْ» بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَالْمَعْنَى: سَنَأْخُذُهُمْ بِالْعَذَابِ عَلَى غَفْلَةٍ، وَنَسُوقُهُمْ إِلَيْهِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً حَتَّى نُوقِعَهُمْ فِيهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَهُ إِنْعَامًا وَلَا يُفَكِّرُونَ فِي عَاقِبَتِهِ وَمَا سَيَلْقَوْنَ فِي نِهَايَتِهِ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُسْبِغُ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ وَيُنْسِيهِمُ الشُّكْرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ! وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ! وَكَمْ مِنْ مَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ! وَالِاسْتِدْرَاجُ: تَرْكُ الْمُعَاجَلَةِ، وَأَصْلُهُ النَّقْلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَيُقَالُ: اسْتَدْرَجَ فُلَانٌ فُلَانًا، أَيِ: اسْتَخْرَجَ مَا عِنْدَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا، ويقال: درّجه إلى كذا واستدرجه، بمعنى، أي «1» أَدْنَاهُ إِلَى التَّدْرِيجِ فَتَدَرَّجَ هُوَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُمْهِلُ الظَّالِمِينَ، فَقَالَ: وَأُمْلِي لَهُمْ أَيْ: أَمْهِلُهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالطُّورِ، وَأَصْلُ الْمَلَاوَةِ: الْمُدَّةُ مِنَ الدَّهْرِ، يُقَالُ: أَمْلَى اللَّهُ لَهُ، أَيْ: أَطَالَ لَهُ الْمُدَّةَ، وَالْمَلَا، مَقْصُورٌ: الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ، سُمِّيَتْ بِهِ لِامْتِدَادِهَا إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَيْ: قَوِيٌّ شَدِيدٌ فَلَا يَفُوتُنِي شَيْءٌ، وَسَمَّى سُبْحَانَهُ إِحْسَانَهُ كَيْدًا، كَمَا سَمَّاهُ اسْتِدْرَاجًا لِكَوْنِهِ فِي صُورَةِ الْكَيْدِ بِاعْتِبَارِ عَاقِبَتِهِ وَوَصَفَهُ بِالْمَتَانَةِ لقوّة أثره في التسبب للهلاك أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أَعَادَ سُبْحَانَهُ الْكَلَامَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أَيْ: أَمْ تَلْتَمِسُ مِنْهُمْ ثَوَابًا عَلَى مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ الْمَغْرَمُ: الْغَرَامَةُ، أَيْ: فَهُمْ مِنْ غَرَامَةِ ذَلِكَ الأجر، و «مثقلون» أَيْ: يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ حَمْلُهُ لِشُحِّهِمْ بِبَذْلِ الْمَالِ، فَأَعْرَضُوا عَنْ إِجَابَتِكَ بِهَذَا السَّبَبِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ لَهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ لَمْ تَسْأَلْهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ تَطْلُبْهُ مِنْهُمْ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَيِ: اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، أَوْ كُلَّ مَا غَابَ عنهم، فهم

_ (1) . من تفسير القرطبي (18/ 252) . [.....]

مِنْ ذَلِكَ الْغَيْبِ يَكْتُبُونَ مَا يُرِيدُونَ مِنَ الْحُجَجِ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَيُخَاصِمُونَكَ بِمَا يَكْتُبُونَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَحْكُمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا يُرِيدُونَ وَيَسْتَغْنُونَ بِذَلِكَ عَنِ الْإِجَابَةِ لَكَ وَالِامْتِثَالِ لِمَا تَقُولُهُ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أَيْ: لِقَضَائِهِ الَّذِي قَدْ قَضَاهُ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، قِيلَ: وَالْحُكْمُ هُنَا هُوَ إِمْهَالُهُمْ وَتَأْخِيرُ نُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، قِيلَ: وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ يَعْنِي يُونُسَ عَلَيْهِ السلام، أي: لَا تَكُنْ مِثْلَهُ فِي الْغَضَبِ وَالضَّجَرِ وَالْعَجَلَةِ. وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ نَادَى مَنْصُوبٌ بِمُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لَا تَكُنْ حَالُكَ كَحَالِهِ وَقْتَ نِدَائِهِ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ مَكْظُومٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ نَادَى، وَالْمَكْظُومُ: الْمَمْلُوءُ غَيْظًا وَكَرْبًا. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرُهُ بِالصَّبْرِ وَلَا يَعْجَلُ كَمَا عَجَلَ صَاحِبُ الْحُوتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَيُونُسَ وَالصَّافَّاتِ، وَكَانَ النِّدَاءُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «1» وَقِيلَ: إِنَّ الْمَكْظُومَ: الْمَأْخُوذُ بِكَظْمِهِ وَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ. قَالَهُ الْمُبَرِّدُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَحْبُوسُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: وَأَنْتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حُزْنًا ... عَانِي الْفُؤَادِ قَرِيحُ الْقَلْبِ مَكْظُومُ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَ صَاحِبَ الْحُوتِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ تَوْفِيقُهُ لِلتَّوْبَةِ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ أَيْ: لَأُلْقِيَ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْخَالِيَةِ مِنَ النَّبَاتِ وَهُوَ مَذْمُومٌ أَيْ: يُذَمُّ وَيُلَامُ بِالذَّنْبِ الَّذِي أَذْنَبَهُ وَيُطْرَدُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ نُبِذَ. قال الضحاك: النعمة هنا للنبوّة. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: عِبَادَتُهُ الَّتِي سَلَفَتْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ نِدَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وَقِيلَ: مَذْمُومٌ: مُبْعَدٌ. وَقِيلَ: مُذْنِبٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَدارَكَهُ عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ هُرْمُزَ وَالْأَعْمَشُ بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ، وَالْأَصْلُ تَتَدَارَكُهُ بِتَاءَيْنِ مُضَارَعًا فَأُدْغِمَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودِ وَابْنُ عَبَّاسٍ تَدَارَكَتْهُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ أَيِ: اسْتَخْلَصَهُ وَاصْطَفَاهُ وَاخْتَارَهُ لِلنُّبُوَّةِ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيِ: الْكَامِلِينَ فِي الصَّلَاحِ وَعَصَمَهُ مِنَ الذَّنْبِ، وَقِيلَ: رَدَّ إِلَيْهِ النُّبُوَّةَ وَشَفَّعَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي قَوْمِهِ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيُزْلِقُونَكَ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَزْلَقَهُ، أَيْ: أَزَلَّ رِجْلَهُ، يُقَالُ: أَزْلَقَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ إِذَا نَحَّاهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ بِفَتْحِهَا من زلق عن موضعه وإذا تَنَحَّى. قَالَ الْهَرَوِيُّ: أَيْ: فَيَغْتَالُونَكَ بِعُيُونِهِمْ فَيُزْلِقُونَكَ عَنْ مَقَامِكَ الَّذِي أَقَامَكَ اللَّهُ فِيهِ عَدَاوَةً لَكَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو وَائِلٍ لَيُرْهِقُونَكَ أَيْ: يُهْلِكُونَكَ. وَقَالَ الكلبي: لَيُزْلِقُونَكَ أَيْ: يَصْرِفُونَكَ عَمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَالْأَخْفَشُ: يَفْتِنُونَكَ. وَقَالَ

_ (1) . الأنبياء: 87.

الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: لَيَقْتُلُونَكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ فِي الْآيَةِ: مَذْهَبُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّأْوِيلُ أَنَّهُمْ مِنْ شِدَّةِ إِبْغَاضِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ يَكَادُونَ بِنَظَرِهِمْ نَظَرَ الْبَغْضَاءِ أَنْ يَصْرَعُوكَ، وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَلَامِ، يَقُولُ الْقَائِلُ نَظَرَ إِلَيَّ نَظَرًا يَكَادُ يَصْرَعُنِي، وَنَظَرًا يَكَادُ يَأْكُلُنِي. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَيْسَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُصِيبُونَكَ بِأَعْيُنِهِمْ كَمَا يُصِيبُ الْعَائِنُ بِعَيْنِهِ مَا يُعْجِبُهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ نَظَرًا شَدِيدًا بِالْعَدَاوَةِ والبغضاء يكاد يسقطك، كما قال الشاعر: يتقارضون إِذَا الْتَقَوْا فِي مَجْلِسٍ ... نَظَرًا يُزِيلُ مَوَاطِئَ الْأَقْدَامِ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أَيْ: وَقْتَ سَمَاعِهِمْ للقرآن لكراهتهم لذلك أشدّ كراهة، ولما: ظرفية منصوبة بيزلقونك، وَقِيلَ: هِيَ حَرْفٌ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ أَيْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ كَادُوا يُزْلِقُونَكَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أَيْ: يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْجُنُونِ إِذَا سَمِعُوهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَقُولُونَ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ تَذْكِيرٌ وَبَيَانٌ لِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، أَوْ شَرَفٌ لَهُمْ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وإنه مُذَكِّرٌ لِلْعَالَمِينَ أَوْ شَرَفٌ لَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودَ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا» وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَهُ أَلْفَاظٌ فِي بَعْضِهَا طُولٌ، وَهُوَ حَدِيثُ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَكْشِفُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ سَاقِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَنْدَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وابن مردويه فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَضَعَّفَهُ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: «عَنْ نُورٍ عَظِيمٍ فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ مَنْدَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُكْشَفُ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَقْسُو ظَهْرَ الْكَافِرِ فَيَصِيرُ عَظْمًا وَاحِدًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قَالَ: إِذَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَابْتَغُوهُ فِي الشِّعْرِ فَإِنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَبِ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقٍ «1» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هذ يَوْمُ كَرْبٍ شَدِيدٍ، رُوِيَ عَنْهُ نَحْوُ هَذَا مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، وَقَدْ أَغْنَانَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ في

_ (1) . جاء هذا القول على المثل. كما في اللسان (مادة سوق) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (481) .

تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا عَرَفْتَ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ تَجْسِيمًا وَلَا تَشْبِيهًا فَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. دَعُوا كُلَّ قَوْلٍ عِنْدَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ... فَمَا آمَنَ فِي دِينِهِ كَمُخَاطِرِ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ قَالَ: هُمُ الْكُفَّارُ يُدْعُونَ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ آمِنُونَ فَالْيَوْمَ يُدْعُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: الرَّجُلُ يَسْمَعُ الْأَذَانَ فَلَا يُجِيبُ الصَّلَاةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ قَالَ: يُنْفِذُونَكَ بأبصارهم.

سورة الحاقة

سورة الحاقّة هي إحدى وخمسون آية، وقيل: اثنتان وخمسون وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْحَاقَّةِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مثله. وأخرج الطبراني عن أبي برزة قال: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِالْحَاقَّةِ وَنَحْوِهَا» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) قَوْلُهُ: الْحَاقَّةُ هِيَ الْقِيَامَةُ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَحِقُّ فِيهَا، وَهِيَ تَحِقُّ فِي نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ: حَاقَقْتُهُ فَحَقَقْتُهُ أَحِقُّهُ: غالبته فغلبته أغلبه، فالقيامة حاقة لأنها تحقّ كُلَّ مُحَاقٍّ فِي دِينِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ وَتَخْصِمُ كُلَّ مُخَاصِمٍ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: حَاقَّهُ أَيْ خَاصَمَهُ فِي صِغَارِ الْأَشْيَاءِ، وَيُقَالُ: مَا لَهُ فيها حقّ ولا حقاق، أي: خُصُومَةٌ، وَالتَّحَاقُّ: التَّخَاصُمُ، وَالْحَاقَّةُ وَالْحَقَّةُ وَالْحَقُّ ثَلَاثُ لُغَاتٍ بِمَعْنًى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هِيَ الْقِيَامَةُ فِي قَوْلِ كُلِّ الْمُفَسِّرِينَ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا ذَاتُ الْحَوَاقِّ مِنَ الْأُمُورِ، وَهِيَ الصَّادِقَةُ الْوَاجِبَةُ الصِّدْقِ، وَجَمِيعُ أَحْكَامِ الْقِيَامَةِ صَادِقَةٌ وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ وَالْوُجُودِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْمُؤَرِّجُ: الْحَاقَّةُ يَوْمُ الْحَقِّ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ فِيهَا حَقِيقٌ بِأَنْ يُجْزَى بِعَمَلِهِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا أَحَقَّتْ لِقَوْمٍ النَّارَ، وَأَحَقَّتْ لِقَوْمٍ الْجَنَّةِ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهَا قَوْلُهُ: مَا الْحَاقَّةُ عَلَى أَنَّ «مَا» الِاسْتِفْهَامِيَّةَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ وَخَبَرُهُ «الْحَاقَّةُ» ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ هِيَ فِي حَالِهَا أَوْ صِفَاتِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ «مَا» الِاسْتِفْهَامِيَّةَ خَبَرٌ لِمَا بَعْدَهَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهَا لَفْظَ الِاسْتِفْهَامِ فَمَعْنَاهَا التَّعْظِيمُ وَالتَّفْخِيمُ لِشَأْنِهَا، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ مَا زِيدٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ. ثم زاد سبحانه في تفخيم أمرها وتفظيع شَأْنِهَا وَتَهْوِيلِ حَالِهَا فَقَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ مَا هِيَ؟ أي: كأنك لست تعلمها إذ لم

تُعَايِنْهَا وَتُشَاهِدْ مَا فِيهَا مِنَ الْأَهْوَالِ فَكَأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ دَائِرَةِ عِلْمِ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: بَلَغَنِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ وَما أَدْراكَ فَقَدْ أَدْرَاهُ إِيَّاهُ وَعَلَّمَهُ، وكلّ شيء قال فيه: وَما يُدْرِيكَ [فهو مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: وَما أَدْراكَ] «1» فَإِنَّهُ أَخْبَرَهُ بِهِ، وَ «مَا» مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ «أَدْرَاكَ» ، وَ «مَا الْحَاقَّةُ» جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ مَحَلُّهَا النَّصْبُ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ لِأَنَّ أَدْرَى يتعدّى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله: وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَلَمَّا وَقَعَتْ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُعَلِّقَةً لَهُ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَبِدُونِ الْهَمْزَةِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ بِالْبَاءِ نَحْوَ: دَرَيْتُ بِكَذَا، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَجُمْلَةُ «وَمَا أَدْرَاكَ» مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ «مَا الْحَاقَّةُ» . كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ أَيْ: بِالْقِيَامَةِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْرَعُ النَّاسَ بِأَهْوَالِهَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: عَنَى بِالْقَارِعَةِ الْقُرْآنَ الَّذِي نَزَلَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَكَانُوا يُخَوِّفُونَهُمْ بِذَلِكَ فَيُكَذِّبُونَهُمْ، وَقِيلَ: الْقَارِعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْقُرْعَةِ لِأَنَّهَا تَرْفَعُ أَقْوَامًا وَتَحُطُّ آخَرِينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَكُونُ وَضْعُ الْقَارِعَةِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْحَاقَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ هَوْلِهَا وَفَظَاعَةِ حَالِهَا، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ بَعْضِ أَحْوَالِ الْحَاقَّةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ثَمُودُ: هُمْ قَوْمُ صَالِحٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَبَيَانُ مَنَازِلِهِمْ وَأَيْنَ كَانَتْ، وَالطَّاغِيَةُ الصَّيْحَةُ الَّتِي جَاوَزَتِ الْحَدَّ، وَقِيلَ: بِطُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَأَصْلُ الطُّغْيَانِ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَادٌ: هُمْ قَوْمُ هُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا، وَذِكْرُ مَنَازِلِهِمْ وَأَيْنَ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ، وَالرِّيحُ الصَّرْصَرُ: هِيَ الشَّدِيدَةُ الْبَرْدِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الصِّرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ، وَقِيلَ: هِيَ الشَّدِيدَةُ الصَّوْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشَّدِيدَةُ السَّمُومِ، وَالْعَاتِيَةُ: الَّتِي عَتَتْ عَنِ الطَّاعَةِ فَكَأَنَّهَا عَتَتْ عَلَى خُزَّانِهَا فَلَمْ تُطِعْهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى رَدِّهَا لِشِدَّةِ هُبُوبِهَا، أَوْ عَتَتْ عَلَى عَادٍ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى رَدِّهَا، بَلْ أَهْلَكَتْهُمْ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ إِهْلَاكِهِمْ، وَمَعْنَى سَخَّرَهَا: سَلَّطَهَا، كَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ، وَقِيلَ: أَرْسَلَهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَقَامَهَا عَلَيْهِمْ كَمَا شَاءَ، وَالتَّسْخِيرُ: اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ بِالِاقْتِدَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةً لِرِيحٍ، وَأَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْهَا لِتَخْصِيصِهَا بِالصِّفَةِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَاتِيَةٍ، وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ مَعْطُوفٌ عَلَى سَبْعِ لَيَالٍ، وَانْتِصَابُ حُسُوماً عَلَى الْحَالِ، أَيْ: ذَاتَ حُسُومٍ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: تَحْسِمُهُمْ حُسُومًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْحُسُومُ: التَّتَابُعُ، فَإِذَا تَتَابَعَ الشَّيْءُ وَلَمْ يَنْقَطِعْ أَوَّلُهُ عَنْ آخِرِهِ قِيلَ لَهُ: الْحُسُومُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي تُوجِبُهُ اللُّغَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ حُسُومًا، أَيْ: تَحْسِمُهُمْ حُسُومًا: تُفْنِيهِمْ وَتُذْهِبُهُمْ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: حَسَمَتْهُمْ: قَطَعَتْهُمْ وأهلكتهم. وقال الفراء: الحسوم: التّباع، مِنْ حَسْمِ الدَّاءِ وَهُوَ الْكَيُّ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُكْوَى بِالْمِكْوَاةِ، ثُمَّ يُتَابَعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قول أبي داود «2» : يُفَرَّقُ بَيْنَهُمْ زَمَنٌ طَوِيلٌ ... تَتَابَعَ فِيهِ أَعْوَامًا حسوما «3»

_ (1) . من تفسير القرطبي (18/ 257) . (2) . في تفسير القرطبي: عبد العزيز بن زرارة الكلابي. (3) . في تفسير القرطبي: ففرّق بين بينهم زمان ... تتابع فيه أعوام حسوم

وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مِنْ قَوْلِكِ: حَسَمْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعْتُهُ وَفَصَلْتُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْحَسْمُ: الِاسْتِئْصَالُ، وَيُقَالُ لِلسَّيْفِ حُسَامٌ لِأَنَّهُ يَحْسِمُ الْعَدُوَّ عَمَّا يُرِيدُهُ مِنْ بُلُوغِ عَدَاوَتِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا حَسَمَتْهُمْ، أَيْ: قَطَعَتْهُمْ وَأَذْهَبَتْهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَأَرْسَلَتْ رِيحًا دَبُورًا عَقِيمًا ... فَدَارَتْ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ حُسُومًا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ حَسَمَتْهُمْ فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: حَسَمَتِ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ حَتَّى اسْتَوْفَتْهَا، لِأَنَّهَا بَدَأَتْ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ وَانْقَطَعَتْ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْحُسُومُ هِيَ الشُّؤْمُ، أَيْ: تَحْسِمُ الْخَيْرَ عَنْ أَهْلِهَا، كقوله: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ «1» . وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِهَا، فَقِيلَ: غَدَاةَ الْأَحَدِ، وَقِيلَ: غَدَاةَ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: غَدَاةَ الْأَرْبِعَاءِ. قَالَ وَهْبٌ: وَهَذِهِ الْأَيَّامُ هِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ أَيَّامَ الْعَجُوزِ، كَانَ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ وَرِيحٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَوَّلُهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ، وَآخِرُهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا حِينَئِذٍ لَرَأَى ذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ فِي فِيهَا يَعُودُ إِلَى اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَقِيلَ: إِلَى مَهَابِّ الريح، والأوّل أَوْلَى. وَصَرْعَى: جَمْعُ صَرِيعٍ، يَعْنِي: مَوْتَى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ أَيْ: أُصُولُ نَخْلٍ سَاقِطَةٍ، أَوْ بَالِيَةٍ، وَقِيلَ: خَالِيَةٌ لَا جَوْفَ فِيهَا، وَالنَّخْلُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «2» وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ عِظَمِ أَجْسَامِهِمْ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: إِنَّمَا قَالَ خاوية لأن أبدانهم خوت مِنْ أَرْوَاحِهِمْ مِثْلَ النَّخْلِ الْخَاوِيَةِ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ أَيْ: مِنْ فِرْقَةٍ بَاقِيَةٍ، أَوْ مِنْ نَفْسٍ بَاقِيَةٍ، أَوْ مِنْ بَقِيَّةٍ، عَلَى أَنَّ بَاقِيَةٍ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَقَامُوا سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ أَحْيَاءً فِي عَذَابِ الرِّيحِ، فَلَمَّا أَمْسَوْا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مَاتُوا، فَاحْتَمَلَتْهُمُ الرِّيحُ فَأَلْقَتْهُمْ فِي الْبَحْرِ وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ قَبْلَهُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، أَيْ: وَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ: وَمَنْ هُوَ فِي جِهَتِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ لِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ «وَمَنْ مَعَهُ» ، وَلِقِرَاءَةِ أَبِي مُوسَى «وَمَنْ تلقاءه» وَالْمُؤْتَفِكاتُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُؤْتَفِكاتُ بِالْجَمْعِ وَهِيَ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ: الْمُؤْتَفِكَةُ بِالْإِفْرَادِ، وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى: وَجَاءَتِ الْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخاطِئَةِ أَيْ: بِالْفِعْلَةِ الْخَاطِئَةِ، أَوِ الْخَطَأِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ. وَالْمُرَادُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي. قَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْخَطَايَا. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: بِالْخَطَأِ الْعَظِيمِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أَيْ: فَعَصَتْ كُلُّ أُمَّةٍ رَسُولَهَا الْمُرْسَلَ إِلَيْهَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: هو موسى: وقيل: لوط لأنه أقرب، وقيل: وَرَسُولٌ هُنَا بِمَعْنَى رِسَالَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «3» : لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ ولا أرسلتهم برسول

_ (1) . فصلت: 16. (2) . القمر: 20. (3) . هو كثيّر عزّة.

أَيْ: بِرِسَالَةٍ. فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً أَيْ: أَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَةً نَامِيَةً زَائِدَةً عَلَى أَخَذَاتِ الْأُمَمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا بَالِغَةٌ فِي الشِّدَّةِ إِلَى الْغَايَةِ، يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ وَتَضَاعَفَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَزِيدُ عَلَى الْأَخَذَاتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: شَدِيدَةٌ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أَيْ: تَجَاوَزَ فِي الِارْتِفَاعِ وَالْعُلُوِّ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ نُوحٍ لَمَّا أَصَرَّ قَوْمُهُ عَلَى الْكُفْرِ وَكَذَّبُوهُ، وَقِيلَ: طَغَى عَلَى خُزَّانِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ غَضَبًا لِرَبِّهِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى حَبْسِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: زَادَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ أَيْ: فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ، أَوْ حَمَلْنَاهُمْ وَحَمَلْنَاكُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ تَغْلِيبًا لِلْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْغَائِبِينَ. وَالْجَارِيَةُ: سَفِينَةُ نُوحٍ، وَسُمِّيَتْ جَارِيَةً لِأَنَّهَا تَجْرِي فِي الْمَاءِ، وَمَحَلُّ «فِي الْجَارِيَةِ» النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: رَفَعْنَاكُمْ فَوْقَ الْمَاءِ حَالَ كَوْنِكُمْ فِي السَّفِينَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذكر قصص هذه الْأُمَمِ، وَذِكْرِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، زَجْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، قَالَ: لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً أَيْ: لِنَجْعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ لَكُمْ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً تَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، أَوْ لِنَجْعَلَ هَذِهِ الْفِعْلَةَ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِغْرَاقِ الْكَافِرِينَ لَكُمْ تَذْكِرَةً، وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ أَيْ: تَحَفَظُهَا بَعْدَ سَمَاعِهَا أُذُنٌ حَافِظَةٌ لِمَا سمعت. قال الزجاج: يقال وعيت كَذَا، أَيْ: حَفِظْتُهُ فِي نَفْسِي، أَعِيهِ وَعْيًا، وَوَعَيْتُ الْعِلْمَ، وَوَعَيْتُ مَا قُلْتُهُ كُلَّهُ بِمَعْنًى، وَأَوْعَيْتُ الْمَتَاعَ فِي الْوِعَاءِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا وَعَيْتَهُ فِي غَيْرِ نَفْسِكَ: أَوْعَيْتَهُ بِالْأَلْفِ، وَلِمَا حَفِظْتَهُ فِي نَفْسِكَ: وَعَيْتَهُ بِغَيْرِ أَلْفٍ. قَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أُذُنٌ سَمِعْتُ وَعَقَلَتْ مَا سَمِعَتْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى لِتَحْفَظَهَا كُلُّ أُذُنٍ عِظَةً لِمَنْ يَأْتِي بَعْدُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَعِيَها بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَحُمِيدٌ الْأَعْرَجُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ، تَشْبِيهًا لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بِرَحِمٍ وَشَهِدٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ إِسْكَانُ الْعَيْنِ، جَعَلَ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ مَعَ مَا بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَخَفَّفَ وَأَسْكَنَ، كَمَا أَسْكَنَ الْحَرْفَ الْمُتَوَسِّطَ مِنْ فَخْذٍ وَكَبْدٍ وَكَتْفٍ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَابِ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، كَمَا فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَما يُشْعِرُكُمْ «1» بِسُكُونِ الرَّاءِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتَلَفَتِ الْقِرَاءَةُ فِيهَا عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ كَثِيرٍ، يَعْنِي تَعِيَهَا فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ الْحَاقَّةِ، وَكَيْفَ وُقُوعُهَا، بَعْدَ بَيَانِ شَأْنِهَا بِإِهْلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ النَّفْخَةَ الْأُولَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: يُرِيدُ النَّفْخَةَ الْأَخِيرَةَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَفْخَةٌ واحِدَةٌ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ نَفْخَةً مُرْتَفِعَةً عَلَى النِّيَابَةِ، وَوَاحِدَةً تَأْكِيدٌ لَهَا، وَحَسُنَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ، وَقَرَأَ أبو السّمّال بِنَصْبِهِمَا عَلَى أَنَّ النَّائِبَ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ: فِي الصُّورِ يَقُومُ مَقَامَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أَيْ: رُفِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَقُلِعَتْ عَنْ مَقَارِّهَا بِالْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُمِلَتِ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِتَشْدِيدِهَا لِلتَّكْثِيرِ أَوْ لِلتَّعْدِيَةِ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً أَيْ: فَكُسِرَتَا كَسْرَةً وَاحِدَةً لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا، أَوْ ضُرِبَتَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً بَعْضُهُمَا بِبَعْضٍ حَتَّى صَارَتَا كَثِيبًا مهيلا وهباء منبثا. قال الفراء: ولم

_ (1) . الأنعام: 109.

يَقُلْ فَدُكَّكْنَ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجِبَالَ كُلَّهَا كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما «1» وَقِيلَ: دُكَّتَا: بُسِطَتَا بَسْطَةً وَاحِدَةً، وَمِنْهُ انْدَكَّ سَنَامُ الْبَعِيرِ إِذَا انْفَرَشَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أَيْ: قَامَتِ الْقِيَامَةُ وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ أَيِ: انْشَقَّتْ بِنُزُولِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ضَعِيفَةٌ مُسْتَرْخِيَةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ: لِكُلِّ مَا ضَعُفَ جِدًّا قَدْ وَهِيَ فَهُوَ وَاهٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَهْيُهَا: تَشَقُّقُهَا وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أَيْ: جِنْسُ الْمَلَكِ عَلَى أَطْرَافِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَهِيَ جَمْعُ رجا مقصور، وتثنيته رَجَوَانِ، مِثْلَ قَفَا وَقَفَوَانِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَمَّا تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ، وَهِيَ مَسَاكِنُهُمْ، لَجَئُوا إِلَى أَطْرَافِهَا. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَتَشَقَّقَتْ، وَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى حافاتها حيث يَأْمُرَهُمُ الرَّبُّ فَيَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ، وَيُحِيطُونَ بِالْأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمَعْنَى: وَالْمَلَكُ عَلَى حَافَّاتِ الدُّنْيَا، أَيْ: يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ، وَقِيلَ: إِذَا صَارَتِ السَّمَاءُ قِطَعًا يَقِفُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى تِلْكَ الْقِطَعِ الَّتِي لَيْسَتْ مُتَشَقِّقَةً فِي أَنْفُسِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ أي: يحمله فوق رؤوسهم يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَمَانِيَةُ أَمْلَاكٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةِ أَجْزَاءٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ أَيْ: تُعْرَضُ الْعِبَادُ عَلَى اللَّهِ لِحِسَابِهِمْ، ومثله: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا «2» ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْعَرْضُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ لِيَعْلَمَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ. وَإِنَّمَا هُوَ عَرْضُ الِاخْتِبَارِ وَالتَّوْبِيخِ بِالْأَعْمَالِ، وَجُمْلَةُ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُعْرَضُونَ، أَيْ: تُعْرَضُونَ حَالَ كَوْنِهِ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَوَاتِكُمْ أَوْ أَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ خَافِيَةٌ كَائِنَةٌ مَا كَانَتْ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ نَفْسٍ خَافِيَةٍ، أَوْ فِعْلَةٍ خَافِيَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْحَاقَّةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: مَا أَرْسَلَ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ رِيحٍ إِلَّا بِمِكْيَالٍ، وَلَا قَطْرَةٍ مِنْ مَاءٍ إِلَّا بِمِكْيَالٍ إِلَّا يَوْمَ نُوحٍ وَيَوْمَ عَادٍ. فَأَمَّا يَوْمُ نُوحٍ فَإِنَّ الْمَاءَ طَغَى عَلَى خُزَّانِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ وَأَمَّا يَوْمُ عَادٍ فَإِنَّ الرِّيحَ عَتَتْ عَلَى خُزَّانِهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهَا سَبِيلٌ، ثُمَّ قَرَأَ: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «قَالَ مَا أُمِرَ الخزّان أن يرسلوا عَلَى عَادٍ إِلَّا مِثْلَ مَوْضِعِ الْخَاتَمِ مِنَ الرِّيحِ، فَعَتَتْ عَلَى الْخُزَّانِ فَخَرَجَتْ مِنْ نَوَاحِي الْأَبْوَابِ» فَذَلِكَ قَوْلُهُ: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ قَالَ: عُتُوُّهَا: عَتَتْ عَلَى الْخُزَّانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ قَالَ: الْغَالِبَةُ. وَأَخْرَجَ عبد الرزاق والفريابي وسعيد ابن مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: حُسُوماً قَالَ: مُتَتَابِعَاتٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:

_ (1) . الأنبياء: 30. (2) . الكهف: 48.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 19 إلى 52]

حُسُوماً قَالَ: تِبَاعًا، وَفِي لَفْظِ: مُتَتَابِعَاتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ قَالَ: هِيَ أُصُولُهَا، وَفِي قَوْلِهِ: خاوِيَةٍ قَالَ: خَرِبَةٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ قَالَ: طَغَى عَلَى خُزَّانِهِ فَنَزَلَ، وَلَمْ يَنْزِلْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءٌ إِلَّا بِمِكْيَالٍ أَوْ مِيزَانٍ إِلَّا زَمَنَ نُوحٍ فَإِنَّهُ طَغَى عَلَى خُزَّانِهِ فَنَزَلَ بِغَيْرِ كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، مِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَكَ يَا عَلِيُّ» فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَنَسِيتُهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْوَاحِدِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُدْنِيَكَ وَلَا أُقْصِيَكَ، وَأَنْ أُعَلِّمَكَ، وَأَنْ تَعِيَ، وَحَقٌّ لَكَ أَنْ تَعِيَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ فأنت أذن واعية، لعليّ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَلَا يَصِحُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: أُذُنٌ واعِيَةٌ قَالَ: أُذُنٌ عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً قَالَ: تَصِيرَانِ غبرة على وجوه الكافرين لَا عَلَى وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ- تَرْهَقُها قَتَرَةٌ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ قَالَ: مُتَخَرِّقَةٌ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها قَالَ: على حافاتها على ما لم يهيئ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَالِي التَّلْخِيصِ، عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ قَالَ: ثَمَانِيَةُ أَمْلَاكٍ عَلَى صُورَةِ الْأَوْعَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُقَالُ ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَيُقَالُ: ثَمَانِيَةُ أملاك رؤوسهم عِنْدَ الْعَرْشِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَأَقْدَامُهُمْ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، وَلَهُمْ قُرُونٌ كَقُرُونِ الْوَعْلَةِ، مَا بَيْنَ أَصْلِ قَرْنِ أَحَدَهِمْ إِلَى مُنْتَهَاهُ خَمْسُمِائَةُ عَامٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطَايُرُ الصُّحُفِ فِي الْأَيْدِي فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نحوه. [سورة الحاقة (69) : الآيات 19 الى 52] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (26) يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

_ (1) . عبس: 40- 41.

لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْعَرْضَ ذَكَرَ مَا يَكُونُ فِيهِ، فَقَالَ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أَيْ: أُعْطِيَ كِتَابَهُ الَّذِي كَتَبَتْهُ الْحَفَظَةُ عَلَيْهِ من أعماله فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ يَقُولُ ذَلِكَ سُرُورًا وَابْتِهَاجًا. قَالَ ابْنُ السكيت والكسائي: العرب تقول: هاء يَا رَجُلُ، وَلِلِاثْنَيْنِ هَاؤُمَا يَا رَجُلَانِ، وَلِلْجَمْعِ هاؤم يا رجال، وقيل: والأصل هاكم، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ مِنَ الْكَافِ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَمَعْنَى هَاؤُمُ: تَعَالَوْا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هَلُمَّ، وَقِيلَ: خُذُوا، فَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ، وَقَدْ يَكُونُ فِعْلًا صَرِيحًا لِاتِّصَالِ الضَّمَائِرِ الْبَارِزَةِ الْمَرْفُوعَةِ بِهَا، وَفِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي عِلْمِ الإعراب، وقوله: كِتابِيَهْ معمول لقوله: اقْرَؤُا لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْفِعْلَيْنِ، وَمَعْمُولُ هاؤُمُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عليه معمول اقْرَؤُا وَالتَّقْدِيرُ: هَاؤُمُ كِتَابِيَهْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، وَالْهَاءُ فِي كِتَابِيَهْ وَحِسَابِيَهْ وَسُلْطَانِيَهْ وَمَالِيَهْ هِيَ هَاءُ السَّكْتِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي هَذِهِ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ وَقْفًا وَوَصْلًا مُطَابَقَةً لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَحُذِفَتْ فِي الْوَصْلِ كَمَا هُوَ شَأْنُ هَاءِ السَّكْتِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنْ يَتَعَمَّدَ الْوَقْفَ عَلَيْهَا لِيُوَافِقَ اللُّغَةَ فِي إِلْحَاقِ الْهَاءِ فِي السَّكْتِ وَيُوَافِقَ الْخَطَّ، يَعْنِي خَطَّ الْمُصْحَفِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ وَيَعْقُوبَ بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَإِثْبَاتِهَا وَقْفًا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ حَمْزَةَ، وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ اتْبَاعًا لِلُّغَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أَيْ: عَلِمْتُ وَأَيْقَنْتُ فِي الدُّنْيَا أَنِّي أُحَاسَبُ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنْ يَأْخُذَنِي اللَّهُ بِسَيِّئَاتِي فَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيَّ بِعَفْوِهِ وَلَمْ يُؤَاخِذْنِي. قَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ ظَنٍّ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُؤْمِنِ فَهُوَ يَقِينٌ، وَمِنَ الْكَافِرِ فَهُوَ شَكٌّ. قَالَ مُجَاهِدٌ: ظَنُّ الْآخِرَةِ يَقِينٌ، وَظَنُّ الدُّنْيَا شَكٌّ. قَالَ الْحَسَنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ، فَأَحْسَنَ الْعَمَلَ لِلْآخِرَةِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ أَسَاءَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَسَاءَ الْعَمَلَ. قِيلَ: وَالتَّعْبِيرُ بِالظَّنِّ هُنَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الِاعْتِقَادِ مَا يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ مِنَ الْخَطْرَاتِ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ غَالِبًا فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أَيْ: فِي عِيشَةٍ مَرْضِيَّةٍ لَا مَكْرُوهَةٍ، أو ذات رضى، أَيْ: يَرْضَى بِهَا صَاحِبُهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: رَاضِيَةٍ أَيْ مَرَضِيَّةٍ، كَقَوْلِهِ: ماءٍ دافِقٍ «1» أَيْ: مَدْفُوقٍ، فَقَدْ أَسْنَدَ إِلَى الْعِيشَةِ مَا هُوَ لِصَاحِبِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَجَازِ فِي الْإِسْنَادِ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أَيْ: مُرْتَفِعَةِ الْمَكَانِ لِأَنَّهَا فِي السَّمَاءِ، أَوْ مُرْتَفِعَةِ الْمَنَازِلِ، أَوْ عَظِيمَةٍ فِي النُّفُوسِ قُطُوفُها دانِيَةٌ الْقُطُوفُ: جَمْعُ قطف بكسر

_ (1) . الطارق: 6.

مَا يُقْطَفُ مِنَ الثِّمَارِ، وَالْقَطْفُ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، وَالْقَطَافُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَقْتَ الْقَطْفِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ثِمَارَهَا قَرِيبَةٌ مِمَّنْ يَتَنَاوَلَهَا مِنْ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ أَوْ مُضْطَجِعٍ كُلُوا وَاشْرَبُوا أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا فِي الْجَنَّةِ هَنِيئاً أَيْ: أَكْلًا وَشُرْبًا هَنِيئًا لَا تَكْدِيرَ فِيهِ وَلَا تَنْغِيصَ بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أَيْ: بِسَبَبِ مَا قَدَّمْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ أَيَّامُ الصِّيَامِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ حُزْنًا وَكَرْبًا لما رأى فيه من سيئاته: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ أَيْ: لَمْ أُعْطَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ أَيْ: لَمْ أَدْرِ أَيَّ شَيْءٍ حِسَابِي لِأَنَّ كُلَّهُ عَلَيْهِ يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ أَيْ: لَيْتَ الْمَوْتَةَ الَّتِي مُتُّهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ وَلَمْ أَحْيَ بَعْدَهَا، وَمَعْنَى: الْقَاضِيَةَ: الْقَاطِعَةُ لِلْحَيَاةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَمَنَّى دَوَامَ الْمَوْتِ وَعَدَمَ الْبَعْثِ لَمَّا شَاهَدَ مِنْ سُوءِ عَمَلِهِ وَمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَالضَّمِيرُ فِي لَيْتَهَا يَعُودُ إِلَى الْمَوْتَةِ الَّتِي قَدْ كَانَ مَاتَهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً لِأَنَّهَا لِظُهُورِهَا كَانَتْ كَالْمَذْكُورَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: تَمَنَّى الْمَوْتَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ عِنْدَهُ أَكْرَهَ مِنْهُ، وَشَرٌّ مِنَ الْمَوْتِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ الْمَوْتُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي شَاهَدَهَا عِنْدَ مُطَالَعَةِ الْكِتَابِ، وَالْمَعْنَى: يَا لَيْتَ هَذِهِ الْحَالَةَ كَانَتِ الْمَوْتَةَ الَّتِي قَضِيَتْ عَلَيَّ مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أَيْ: لَمْ يَدْفَعْ عَنِّي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا، عَلَى أَنَّ مَا نَافِيَةٌ أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَيَّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنِّي مَالِي هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أَيْ: هَلَكَتْ عَنِّي حُجَّتِي وَضَلَّتْ عَنِّي، كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي سُلْطَانَيِ الَّذِي فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْمُلْكُ، وَقِيلَ: تَسَلُّطِي عَلَى جَوَارِحِي. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي حِينَ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ بِالشِّرْكِ، وَحِينَئِذٍ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ أَيِ: اجْمَعُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ بِالْأَغْلَالِ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أَيْ: أَدْخِلُوهُ الْجَحِيمَ، وَالْمَعْنَى: لَا تُصَلُّوهُ إِلَّا الْجَحِيمَ، وَهِيَ النَّارُ الْعَظِيمَةُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ السِّلْسِلَةُ: حِلَقٌ مُنْتَظِمَةٌ، وَذَرْعُهَا: طُولُهَا. قَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَيِّ ذِرَاعٍ هُوَ. قَالَ نَوْفٌ الشَّامِيُّ: كُلُّ ذِرَاعٍ سبعون باعا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَكَّةَ، وَكَانَ نَوْفٌ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَوْ أَنَّ حَلْقَةً مِنْهَا وُضِعَتْ عَلَى ذُرْوَةِ جَبَلٍ لَذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ، وَمَعْنَى فَاسْلُكُوهُ فَاجْعَلُوهُ فِيهَا، يُقَالُ: سَلَكْتُهُ الطَّرِيقَ إِذَا أَدْخَلْتُهُ فِيهِ. قَالَ سُفْيَانُ: بَلَغَنَا أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي دُبُرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ فِيهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: تَسْلُكُ سَلْكَ الْخَيْطِ فِي اللُّؤْلُؤِ. وَقَالَ سُوِيدُ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ: بَلَغَنِي أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ فِي تِلْكَ السِّلْسِلَةِ. وَتَقْدِيمُ السِّلْسِلَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ كَتَقْدِيمِ الْجَحِيمِ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أَيْ: لَا يَحُثُّ عَلَى إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ لَا يَحُثُّ الْغَيْرَ عَلَى إِطْعَامِهِ، وَوَضَعَ الطَّعَامَ مَوْضِعَ الْإِطْعَامِ كَمَا يُوضَعُ الْعَطَاءُ مَوْضِعَ الْإِعْطَاءِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «1» : أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ مَوْتِي عَنِّي ... وَبَعْدَ عطائك المائة الرّتاعا «2»

_ (1) . هو القطامي. [.....] (2) . «الرتاع» : التي ترتع.

أَيْ: بَعْدَ إِعْطَائِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ عَلَى مَعْنَاهُ غَيْرَ مَوْضُوعٍ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَحُثُّ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ عَلَى بَذْلِ نَفْسِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَفِي جَعْلِ هَذَا قَرِينًا لِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي التَّصَدُّقِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَسَدِّ فَاقَتِهِمْ، وَحَثِّ النَّفْسِ وَالنَّاسِ عَلَى ذَلِكَ مَا يَدُلُّ أَبْلَغَ دَلَالَةٍ، وَيُفِيدُ أَكْمَلَ فَائِدَةٍ، عَلَى أَنَّ مَنْعَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَائِمِ وَأَشَدِّ الْمَآثِمِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أَيْ: لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْآخِرَةِ قَرِيبٌ يَنْفَعُهُ، أَوْ يَشْفَعُ لَهُ لِأَنَّهُ يَوْمُ يَفِرُّ فِيهِ الْقَرِيبُ مِنْ قَرِيبِهِ، وَيَهْرُبُ عِنْدَهُ الْحَبِيبُ مِنْ حَبِيبِهِ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ أَيْ: وَلَيْسَ لَهُ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ إِلَّا مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ، وَمَا يَنْغَسِلُ مِنْ أَبْدَانِهِمْ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، وَغِسْلِينٌ: فِعِلِينٌ، مِنَ الْغَسْلِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ شَجَرٌ يَأْكُلُهُ أَهْلُ النَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ شَرُّ الطَّعَامِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا يَعْلَمُ مَا هُوَ وَلَا مَا الزَّقُّومَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّرِيعُ هُوَ الْغِسْلِينُ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى فَلَيْسَ لَهُ اليوم ها هنا حميم مِنْ غِسْلِينٍ عَلَى أَنَّ الْحَمِيمَ هُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ وَلا طَعامٌ أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ يَأْكُلُونَهُ. وَلَا مُلْجِئَ لِهَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَجُمْلَةُ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ صِفَةٌ لِغِسِلِينٍ، وَالْمُرَادُ أَصْحَابُ الْخَطَايَا وَأَرْبَابُ الذُّنُوبِ. قال الكلبي: المراد: الشرك. قرأ الجمهور: الْخاطِؤُنَ مهموزا، وهو اسم فاعل من خطىء إِذَا فَعَلَ غَيْرَ الصَّوَابِ مُتَعَمِّدًا، وَالْمُخْطِئُ: مَنْ يَفْعَلُهُ غَيْرَ مُتَعَمَّدٍ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْحَسَنُ «الْخَاطِيُونَ» بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِضَمِّ الطَّاءِ بِدُونِ هَمْزَةٍ. فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ- وَما لَا تُبْصِرُونَ هَذَا رَدٌّ لِكَلَامِ الْمُشْرِكِينَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ، وَ «لَا» زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأُقْسِمُ بِمَا تُشَاهِدُونَهُ وَمَا لَا تُشَاهِدُونَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: أَقْسَمَ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مَا يُبْصَرُ مِنْهَا وَمَا لَا يُبْصَرُ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّ «لَا» لَيْسَتْ زَائِدَةً، بَلْ هِيَ لِنَفْيِ الْقَسَمِ، أَيْ: لَا أَحْتَاجُ إِلَى قَسَمٍ لِوُضُوحِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أَيْ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَتِلَاوَةُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، عَلَى أَنَّ المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَنَّهُ لَقَوْلٌ يُبَلِّغُهُ رَسُولٌ كَرِيمٌ. قَالَ الحسن والكلبي ومقاتل: يريد به جبريل، دليله قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ- ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «1» وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْقُرْآنُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مِنْ قَوْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ التِّلَاوَةِ أَوِ التَّبْلِيغِ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ كَمَا تَزْعُمُونَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَصْنَافِ الشِّعْرِ وَلَا مُشَابِهَ لها قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ أَيْ: إِيمَانًا قَلِيلًا تُؤْمِنُونَ، وَتَصْدِيقًا يَسِيرًا تُصَدِّقُونَ، وَ «مَا» زَائِدَةٌ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ كَمَا تَزْعُمُونَ، فَإِنَّ الْكِهَانَةَ أَمْرٌ آخَرُ لَا جَامِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَيْ: تَذَكُّرًا قَلِيلًا، أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا تَتَذَكَّرُونَ، وَ «مَا» زَائِدَةٌ، وَالْقِلَّةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ: لَا تُؤْمِنُونَ وَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَصْلًا تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هو تنزيل. وقرأ أبو السّمّال بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: نُزِّلَ تنزيلا،

_ (1) . التكوير: 19- 20.

وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَهُوَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى لِسَانِهِ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ أَيْ: وَلَوْ تَقَوَّلَ ذَلِكَ الرَّسُولُ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ، أَوْ جِبْرِيلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّقَوُّلُ: تَكَلُّفُ الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى: لَوْ تَكَلَّفَ ذَلِكَ وَجَاءَ بِهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَسُمِّي الِافْتِرَاءُ تَقَوُّلًا لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُتَكَلَّفٌ، وَكُلُّ كَاذِبٍ يَتَكَلَّفُ مَا يَكْذِبُ بِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَقَوَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقُرِئَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مَعَ رَفْعِ بَعْضٍ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ وَلَوْ يَقُولُ عَلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَالْأَقَاوِيلُ: جَمْعُ أَقْوَالٍ، وَالْأَقْوَالُ: جَمْعُ قَوْلٍ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أَيْ: بِيَدِهِ الْيَمِينِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِذْلَالِ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ فِي الْأَخْذِ بِيَدِ مَنْ يُعَاقَبُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أَيْ: بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَإِنَّمَا أَقَامَ الْيَمِينَ مَقَامَ الْقُوَّةِ لِأَنَّ قُوَّةَ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَيَامِنِهِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : إِذَا مَا رَايَةٌ نُصِبَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ «2» بِالْيَمِينِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَلَمَّا رَأَيْتُ الشَّمْسَ أَشْرَقَ نُورُهَا ... تَنَاوَلْتُ مِنْهَا حَاجَتِي بِيَمِينِي ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ الوتين: عرق يجري في الظهر حتى يتّصل بِالْقَلْبِ، وَهُوَ تَصْوِيرٌ لِإِهْلَاكِهِ بِأَفْظَعَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُلُوكُ بِمَنْ يَغْضَبُونَ عَلَيْهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ نِيَاطُ الْقَلْبِ انْتَهَى. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا بَلَّغْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... عَرَابَةَ فَاشْرَقِي «3» بِدَمِ الْوَتِينِ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ أَيْ: لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ يَحْجُزُنَا عَنْهُ وَيَدْفَعُنَا مِنْهُ، فَكَيْفَ يَتَكَلَّفُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ لِأَجْلِكُمْ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَ ذَلِكَ لَعَاقَبْنَاهُ، وَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى الدَّفْعِ مِنْهُ، والحجز: المنع، وحاجِزِينَ صِفَةٌ لِأَحَدٍ، أَوْ خَبَرٌ لِمَا الْحِجَازِيَّةِ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ أَيْ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَتَذْكِرَةٌ لِأَهْلِ التَّقْوَى لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ أَيْ: أَنَّ بَعْضَكُمْ يَكْذِبُ بِالْقُرْآنِ فَنَحْنُ نُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ أَيْ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَحَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِمْ لِثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: هِيَ حَسْرَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا حِينَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مُعَارَضَتِهِ عِنْدَ تَحَدِّيهِمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ أَيْ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ لِكَوْنِهِ من عند الله حقّ فلا يحوم حَوْلَهُ رَيْبٌ، وَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شَكٌّ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أَيْ: نَزِّهْهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَقِيلَ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

_ (1) . هو الشّماخ. (2) . هو عرابة بن أوس الأوسي الأنصاري، من سادات المدينة الأجواد، أدرك حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأسلم، وتوفي بالمدينة. (3) . «شرق» : غصّ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي ظَنَنْتُ قَالَ: أَيْقَنْتُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ قَالَ: قَرِيبَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْبَرَاءِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَتَنَاوَلُ الرَّجُلُ مِنْ فَوَاكِهِهَا وَهُوَ قَائِمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاسْلُكُوهُ قَالَ: السِّلْسِلَةُ تَدْخُلُ فِي اسْتِهِ ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، ثم ينظمون فيها كَمَا يُنْظَمُ الْجَرَادُ فِي الْعُودِ، ثُمَّ يُشْوَى. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ سِلْسِلَةً لَمْ تَزَلْ تَغْلِي مِنْهَا مَرَاجِلُ النَّارِ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ جَهَنَّمَ إِلَى يَوْمِ تُلْقَى فِي أَعْنَاقِ النَّاسِ، وَقَدْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْ نِصْفِهَا بِإِيمَانِنَا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، فَحُضِّي عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْغِسْلِينُ: الدَّمُ وَالْمَاءُ وَالصَّدِيدُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ لُحُومِهِمْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غِسْلِينٍ يُهْرَاقُ فِي الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْلَ الدُّنْيَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْغِسْلِينُ: اسْمُ طَعَامٍ مِنْ أَطْعِمَةِ أَهْلِ النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ- وَما لَا تُبْصِرُونَ يَقُولُ: بِمَا تَرَوْنَ وَمَا لَا تَرَوْنَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ قَالَ: بِقُدْرَةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ الْوَتِينَ: عِرْقُ الْقَلْبِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْوَتِينَ: نِيَاطُ الْقَلْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ أَيْضًا قال: قَالَ: هُوَ حَبْلُ الْقَلْبِ الَّذِي فِي الظَّهْرِ.

سورة المعارج

سورة المعارج وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِاتِّفَاقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ سَأَلَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) قَوْلُهُ: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَأَلَ بِالْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، فَمَنْ هَمَزَ فَهُوَ مِنَ السُّؤَالِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفَاشِيَةُ، وَهُوَ إِمَّا مُضَمَّنٌ مَعْنَى الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِالْبَاءِ، كَمَا تَقُولُ: دَعَوْتُ لِكَذَا، وَالْمَعْنَى: دَعَا دَاعٍ عَلَى نَفْسِهِ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِهِ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ، كَقَوْلِهِ: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً «1» وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ، فَهُوَ إِمَّا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا مَعْنَى قِرَاءَةِ مَنْ هَمَزَ، أَوْ يَكُونُ مِنَ السَّيَلَانِ، وَالْمَعْنَى: سَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ سَائِلٌ، كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَالَ سَيْلٌ وَقِيلَ: إِنَّ سَالَ بِمَعْنَى الْتَمَسَ، وَالْمَعْنَى: الْتَمَسَ مُلْتَمِسٌ عَذَابًا لِلْكُفَّارِ، فَتَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً، كَقَوْلِهِ: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ خَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ فُلَانٍ وَبِفُلَانٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَإِذَا كَانَ مِنَ السُّؤَالِ فَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَيَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهَذَا السَّائِلُ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حِينَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2» وَهُوَ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا، وَقِيلَ: هُوَ أَبُو جَهْلٍ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ النُّعْمَانِ الْفِهْرِيُّ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا سَيَأْتِي. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ سَالَ سَالٌ مِثْلَ مَالَ مَالٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ سَائِلٌ، فَحُذِفَتِ الْعَيْنُ تَخْفِيفًا، كَمَا قِيلَ: شَاكٌ فِي: شَائِكِ السِّلَاحِ. وَقِيلَ: السَّائِلُ هُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السلام، سأل العذاب للكافرين، وقيل:

_ (1) . الفرقان: 59. (2) . الأنفال: 32.

هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا بِالْعِقَابِ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: بِعَذابٍ واقِعٍ يَعْنِي إِمَّا فِي الدُّنْيَا كَيَوْمِ بَدْرٍ، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: لِلْكافِرينَ صِفَةٌ أُخْرَى لِعَذَابٍ، أَيْ: كَائِنٌ لِلْكَافِرِينَ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِوَاقِعٍ، وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَوْ بِسَأَلَ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى دَعَا، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى تَقْدِيرٍ: هُوَ لِلْكَافِرِينَ، أَوْ تَكُونُ اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى: وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ عَلَى الْكَافِرِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ بِعَذَابٍ لِلْكَافِرِينَ وَاقِعٌ بِهِمْ، فَالْوَاقِعُ مِنْ نَعْتِ الْعَذَابِ، وَجُمْلَةُ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ صِفَةٌ أُخْرَى لِعَذَابٍ، أَوْ حَالٌ مِنْهُ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْوَاقِعُ بِهِ أَحَدٌ، وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِوَاقِعٍ، أَيْ: وَاقِعٍ مِنْ جِهَتِهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ بِدَافِعٍ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى ذِي الْمَعارِجِ أَيْ: ذِي الدَّرَجَاتِ الَّتِي تَصْعَدُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ السَّمَاوَاتُ، وَسَمَّاهَا مَعَارِجَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ فِيهَا، وَقِيلَ: الْمَعَارِجُ مَرَاتِبُ نِعَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الْخَلْقِ، وَقِيلَ: الْمَعَارِجُ: الْعَظَمَةُ، وَقِيلَ: هِيَ الْغُرَفُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «ذِي الْمَعَارِيجِ» بِزِيَادَةِ الْيَاءِ، يُقَالُ: مَعَارِجُ وَمَعَارِيجُ مِثْلُ مِفَاتِحَ وَمَفَاتِيحَ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ أَيْ: تَصَعَدُ فِي تِلْكَ الْمَعَارِجِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْرُجُ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ وَالْكِسَائِيُّ وَالسُّلَمِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ، والروح: جبريل، أفراد بِالذِّكْرِ بَعْدَ الْمَلَائِكَةِ لِشَرَفِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، وَقِيلَ: الرُّوحُ هُنَا مَلَكٌ آخَرُ عَظِيمٌ غَيْرُ جبريل. وقال أبو صالح: إنّه خلق مِنْ خَلْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَهَيْئَةِ النَّاسِ وَلَيْسُوا مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: إِنَّهُ رُوحُ الْمَيِّتِ حِينَ تُقْبَضُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَعْنَى إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِلَى عَرْشِهِ، وَقِيلَ: هُوَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي: حَيْثُ أَمَرَنِي رَبِّي فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيُّ ووهب ابن منبه: أي: عروج الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّهَا فِي وَقْتٍ كَانَ مِقْدَارُهُ عَلَى غَيْرِهِمْ لَوْ صَعِدَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ مُدَّةَ عُمُرِ الدُّنْيَا هَذَا الْمِقْدَارُ لَا يَدْرِي أَحَدٌ كَمْ مَضَى وَلَا كَمْ بَقِيَ، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ الْمُرَادَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَعْنِي أَنَّ مِقْدَارَ الْأَمْرِ فِيهِ لَوْ تَوَلَّاهُ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَفْرَغُ مِنْهُ فِي سَاعَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّ مُدَّةَ مَوْقِفِ الْعِبَادِ لِلْحِسَابِ هِيَ هَذَا الْمِقْدَارُ، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: إِنَّ مِقْدَارَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى الْكَافِرِينَ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِقْدَارُ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَقِيلَ: ذُكِرَ هَذَا الْمِقْدَارُ لِمُجَرَّدِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ لِغَايَةِ ارْتِفَاعِ تِلْكَ الْمَعَارِجِ وَبُعْدِ مَدَاهَا، أَوْ لِطُولِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْمَكَارِهِ، كَمَا تَصِفُ الْعَرَبُ أَيَّامَ الشِّدَّةِ بِالطُّولِ وَأَيَّامَ الْفَرَحِ بِالْقِصَرِ، وَيُشَبِّهُونَ الْيَوْمَ الْقَصِيرَ بِإِبْهَامِ الْقَطَاةِ، وَالطَّوِيلَ بِظِلِّ الرُّمْحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ «1» : وَيَوْمٌ كَظِلِّ الرُّمْحِ قَصَّرَ طُولَهُ ... دَمُ الزِّقِّ عَنَّا واصطفاق المزاهر»

_ (1) . هو شبرمة بن الطفيل. (2) . «الزق» : وعاء من جلد. ودم الزق: الخمر. «المزاهر» : العيدان. واصطفاق المزاهر: تجاوب بعضها بعضا.

وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ «1» فَارْجِعْ إِلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَمْعِ: إِنَّ مِنْ أَسْفَلِ الْعَالَمِ إِلَى الْعَرْشِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَمِنْ أَعْلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ أَلْفَ سَنَةٍ، لِأَنَّ غِلَظَ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ أَسْفَلِ السَّمَاءِ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ خَمْسُمَائَةِ عَامٍ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا عَرَجَتْ مِنْ أَسْفَلِ الْعَالَمِ إِلَى الْعَرْشِ كَانَ مَسَافَةُ ذَلِكَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنْ عَرَجُوا مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا إِلَى بَاطِنِ هَذِهِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ سَمَاءُ الدُّنْيَا كَانَ مَسَافَةُ ذَلِكَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ فَقَالَ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا أَيِ: اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ لَكَ وَكُفْرِهِمْ بِمَا جِئْتَ بِهِ صَبْرًا جَمِيلًا، لَا جَزَعَ فِيهِ وَلَا شَكْوَى إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى الصَّبْرِ الْجَمِيلِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمُصِيبَةِ فِي الْقَوْمِ لَا يُدْرَى بِأَنَّهُ مُصَابٌ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً أَيْ: يَرَوْنَ الْعَذَابَ الْوَاقِعَ بِهِمْ، أَوْ يَرَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعِيدًا، أَيْ: غَيْرَ كَائِنٍ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَمَعْنَى بَعِيداً أَيْ: مُسْتَبْعَدًا مُحَالًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا غَيْرَ قَرِيبٍ. قَالَ الْأَعْمَشُ: يَرَوْنَ الْبَعْثَ بَعِيدًا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، كَأَنَّهُمْ يَسْتَبْعِدُونَهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحَالَةِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُنَاظِرُهُ: هَذَا بَعِيدٌ، أَيْ: لَا يَكُونُ وَنَراهُ قَرِيباً أَيْ: نَعْلَمُهُ كَائِنًا قَرِيبًا لِأَنَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَنَرَاهُ هَيِّنًا فِي قُدْرَتِنَا غَيْرَ مُتَعَسِّرٍ وَلَا مُتَعَذِّرٍ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ مَتَى يَقَعُ بِهِمُ الْعَذَابُ، فَقَالَ: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ وَاقِعٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ قوله: فِي يَوْمٍ على تقدير تعلّقه بواقع، أو متعلّق بقريبا، أَوْ مُقَدَّرٌ بَعْدَهُ: أَيْ يَوْمَ تَكُونُ إِلَخْ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي نَرَاهُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالتَّقْدِيرُ يَقَعُ بِهِمُ الْعَذَابُ يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَالْمُهْلُ: مَا أُذِيبُ مِنَ النُّحَّاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْفِضَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقَيْحُ مِنَ الصَّدِيدِ وَالدَّمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: هُوَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَالدُّخَانِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أَيْ: كَالصُّوفِ الْمَصْبُوغِ، وَلَا يُقَالُ لِلصُّوفِ عِهْنٌ إِلَّا إِذَا كَانَ مَصْبُوغًا. قَالَ الْحَسَنُ: تَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ، وَهُوَ الصُّوفُ الْأَحْمَرُ، وَهُوَ أَضْعَفُ الصُّوفِ، وَقِيلَ: الْعِهْنُ: الصُّوفُ ذُو الْأَلْوَانِ، فَشَبَّهَ الْجِبَالَ بِهِ فِي تَكَوُّنِهَا أَلْوَانًا كَمَا فِي قوله: جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ وَغَرابِيبُ سُودٌ «2» فَإِذَا بُسَّتْ وَطُيِّرَتْ فِي الْهَوَاءِ أَشْبَهَتِ الْعِهْنَ المنقوض إذا طيّرته الريح. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أَيْ: لَا يَسْأَلُ قَرِيبٌ قَرِيبَهُ عَنْ شَأْنِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْأَهْوَالِ الَّتِي أَذْهَلَتِ الْقَرِيبَ عَنْ قَرِيبِهِ، وَالْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ عَنْ حَمِيمٍ، فَحُذِفَ الْحَرْفُ وَوُصِلَ الْفِعْلُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَسْئَلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، قِيلَ: وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَسْأَلُهُ نَصْرَهُ وَلَا شَفَاعَتَهُ، وَقَرَأَ أَبُو جعفر وأبو حيوة وشيبة وابن كثير

_ (1) . السجدة: 5. (2) . فاطر: 27.

فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَرَوَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْبَزِّيُّ عَنْ عَاصِمٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ إِحْضَارَ حَمِيمِهِ، وَقِيلَ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ: لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ عَنْ حَمِيمٍ، بَلْ كُلُّ إِنْسَانٍ يَسْأَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ عَمَلِهِ، وَجُمْلَةُ يُبَصَّرُونَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: حَمِيماً أَيْ: يُبَصَّرُ كُلُّ حَمِيمٍ حَمِيمَهُ، لَا يَخْفَى مِنْهُمْ أَحَدٌ عَنْ أحد. وليس في القيامة مخلوق إلا وَهُوَ نُصْبُ عَيْنِ صَاحِبِهِ، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ وَلَا يُكَلِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِاشْتِغَالِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُبَصِّرُ اللَّهُ الْكُفَّارَ فِي النَّارِ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُمُ الرؤساء المتبوعون. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: يُبَصَّرُونَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، أَيْ: يَعْرِفُونَ أَحْوَالَ النَّاسِ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا جُمِعَ الضَّمِيرُ فِي يُبَصَّرُونَهُمْ، وَهُمَا لِلْحَمِيمَيْنِ، حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ لِأَنَّهُمَا نَكِرَتَانِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُبَصَّرُونَهُمْ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ بِالتَّخْفِيفِ. ثُمَّ ابْتَدَأَ سُبْحَانَهُ الْكَلَامَ فَقَالَ: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ الْمُرَادُ بِالْمُجْرِمِ الْكَافِرُ، أَوْ كُلُّ مُذْنِبٍ ذَنْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّارَ، لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ بِبَنِيهِ- وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيْهِ وَأَكْرَمُهُمْ لَدَيْهِ، فَلَوْ قُبِلَ مِنْهُ الْفِدَاءُ لَفَدَى بِهِمْ نَفْسَهَ، وَخَلَصَ مِمَّا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ اشْتِغَالَ كُلِّ مُجْرِمٍ بِنَفْسِهِ بَلَغَ إِلَى حَدٍّ يُوَدُّ الِافْتِدَاءَ مِنَ الْعَذَابِ بِمَنْ ذُكِرَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِإِضَافَةِ عَذَابِ إِلَى يَوْمِئِذٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِتَنْوِينِ عَذَابٍ وَقَطْعِ الْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَوْمِئِذٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو حَيْوَةَ بِفَتْحِهَا وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ أَيْ: عَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ يَضُمُّونَهُ فِي النَّسَبِ أَوْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَيَأْوِي إِلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْفَصِيلَةُ: دُونَ الْقَبِيلَةِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُمْ آبَاؤُهُمُ الْأَدْنَوْنَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْفَصِيلَةُ: الْقِطْعَةُ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ. وَسُمِّيَتْ عَشِيرَةُ الرَّجُلِ فَصِيلَةً تَشْبِيهًا لَهَا بِالْبَعْضِ مِنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْفَصِيلَةَ هِيَ الَّتِي تُرَبِّيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أَيْ: وَيَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوِ افْتَدَى بِمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنَ الثَّقَلَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْخَلَائِقِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنْجِيهِ مَعْطُوفٌ عَلَى يَفْتَدِي، أَيْ: يَوَدُّ لَوْ يَفْتَدِي ثُمَّ يُنْجِيهِ الِافْتِدَاءُ، وَكَانَ الْعَطْفُ بِثُمَّ لِدَلَالَتِهَا عَلَى اسْتِبْعَادِ النَّجَاةِ، وَقِيلَ: إِنَّ يَوَدُّ تَقْتَضِي جَوَابًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَالْجَوَابُ «ثُمَّ يُنْجِيهِ» ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ: كَلَّا رَدْعٌ لِلْمُجْرِمِ عَنْ تِلْكَ الْوَدَادَةِ، وَبَيَانُ امْتِنَاعِ ما ودّه من الافتداء، وكَلَّا يَأْتِي بِمَعْنَى حَقًّا، وَبِمَعْنَى لَا مَعَ تَضَمُّنِهَا لِمَعْنَى الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّها لَظى عائد إلى النار المدلول عليها لذكر العذاب، أو هو ضمير مبهم يفسره ما بعده، و «لظى» علم لِجَهَنَّمَ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ التَّلَظِّي فِي النَّارِ وَهُوَ التَّلَهُّبُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ لَظَظٌ بِمَعْنَى دَوَامِ الْعَذَابِ، فَقُلِبَتْ إِحْدَى الظَّاءَيْنِ أَلِفًا، وَقِيلَ: لَظَى: هِيَ الدَّرَكَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ طِبَاقِ جَهَنَّمَ نَزَّاعَةً لِلشَّوى قَرَأَ الْجُمْهُورُ نَزَّاعَةً بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثان لإنّ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ تَكُونُ «لَظَى» بدلا من الضمير المنصوب، و «نزاعة» خَبَرُ إِنَّ، أَوْ عَلَى أَنَّ «نَزَّاعَةً» صِفَةٌ لِلَظَى عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ كَوْنِهَا عَلَمًا، أَوْ يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي أَنَّهَا لِلْقِصَّةِ، وَيَكُونُ «لَظًى» مبتدأ، و «نزاعة» خَبَرَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ «نَزَّاعَةً» بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: حَمْلُهُ على الحال بعيد لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا

يَعْمَلُ فِي الْحَالِ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ مَعْنَى التَّلَظِّي، أَوِ النَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَالشَّوَى: الْأَطْرَافُ، أَوْ جَمْعُ شَوَاةٍ، وَهِيَ جِلْدَةُ الرَّأْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: قالت قتيلة ماله ... قَدْ جُلِّلَتْ شَيْبًا شَوَاتُهُ وَقَالَ الْحَسَنُ وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: نَزَّاعَةً لِلشَّوى: أَيْ: لِمْكَارِمِ الْوَجْهِ وَحُسْنِهِ، وكذا قال أبو العالية وقتادة. وقال قتادة: تَبْرِي اللَّحْمَ وَالْجِلْدَ عَنِ الْعَظْمِ حَتَّى لَا تَتْرُكَ فِيهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ الْمَفَاصِلُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: هِيَ أَطْرَافُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ أَيْ: تَدْعُو لَظَى مَنْ أَدْبَرَ عَنِ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَتَوَلَّى أَيْ: أَعْرَضَ عَنْهُ وَجَمَعَ فَأَوْعى أَيْ: جَمَعَ الْمَالَ فَجَعَلَهُ في وعاء، وقيل: إِنَّهَا تَقُولُ إِلَيَّ يَا مُشْرِكُ، إِلَيَّ يَا مُنَافِقُ، وَقِيلَ: مَعْنَى تَدْعُو: تُهْلِكُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: دَعَاكَ اللَّهُ، أَيْ: أَهْلَكَكَ، وَقِيلَ: لَيْسَ هُوَ الدُّعَاءُ بِاللِّسَانِ، وَلَكِنْ دُعَاؤُهَا إِيَّاهُمْ تَمَكُّنُهَا مِنْ عَذَابِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ تَدْعُو الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَأَسْنَدَ الدُّعَاءَ إِلَى النَّارِ مِنْ بَابِ إِسْنَادِ مَا هُوَ لِلْحَالِ إِلَى الْمَحَلِّ، وَقِيلَ: هُوَ تَمْثِيلٌ وَتَخْيِيلٌ، وَلَا دُعَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ الشاعر: ولقد هبطنا الواديين فواديا ... يدعو الأنيس به العضيض الأبكم والعضيض الأبكم: الذباب، وهو لا يدعو «1» . وَفِي هَذَا ذَمٌّ لِمَنْ جَمَعَ الْمَالَ فَأَوْعَاهُ، وَكَنَزَهُ وَلَمْ يُنْفِقْهُ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ، أَوْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَأَلَ سائِلٌ قَالَ: هُوَ النَّضْرُ بْنُ الحارث قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «2» وَفِي قَوْلِهِ: بِعَذابٍ واقِعٍ قَالَ: كَائِنٌ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ- مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ قَالَ: ذِي الدَّرَجَاتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: سَأَلَ سائِلٌ قَالَ: سَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: ذِي الْمَعارِجِ قَالَ: ذِي الْعُلُوِّ وَالْفَوَاضِلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: مُنْتَهَى أَمْرِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْأَرَضِينَ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِ مِنْ فَوْقِ سبع سموات مِقْدَارُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَ «يَوْمٍ كَانَ مقداره ألف سنة» قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ يَنْزِلُ الْأَمْرُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَمِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَذَلِكَ مِقْدَارُ أَلْفَ سَنَةٍ لَأَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: غِلَظُ كُلِّ أَرْضٍ خَمْسُمِائَةُ عَامٍ، وَغِلَظُ كُلِّ سماء خمسمائة عام، وبين كل أرض إلى أَرْضٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَمِنَ السَّمَاءِ إِلَى السَّمَاءِ خمسمائة عام، فذلك أربعة عشر ألف عام، وبين السماء

_ (1) . في القرطبي (18/ 289) : وإنما طنينه نبّه عليه فدعا إليه. (2) . الأنفال: 32.

[سورة المعارج (70) : الآيات 19 إلى 39]

السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عَامٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «1» قَالَ: هَذَا فِي الدُّنْيَا تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، وَفِي قَوْلِهِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَهَذَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَى الْكَافِرِ مِقْدَارَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: لَوْ قَدَّرْتُمُوهُ لَكَانَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِكُمْ. قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْوَقْفُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ! فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لِيُخَفَّفُ عَنِ الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا» . وَفِي إِسْنَادِهِ دَرَّاجٌ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: «مَا قَدْرُ طُولِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إلا كقدر ما بين الظهر والعصر» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي «نَوَادِرِ الْأُصُولِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا قال: لا تشك إِلَى أَحَدٍ غَيْرِي. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْخَطِيبُ فِي الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ قَالَ: كَدُرْدِيِّ الزَّيْتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: يُبَصَّرُونَهُمْ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَعَارَفُونَ، ثُمَّ يَفِرُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: نَزَّاعَةً لِلشَّوى قَالَ: تَنْزِعُ أُمَّ الرأس. [سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 39] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) قَوْلُهُ: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْهَلَعُ فِي اللُّغَةِ: أَشَدُّ الْحِرْصِ وَأَسْوَأُ الْجَزَعِ وَأَفْحَشُهُ، يُقَالُ: هَلِعَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ هَلِعٌ وَهَلُوعٌ، عَلَى التَّكْثِيرِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الضَّجُورُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ تَفْسِيرُ الْهَلَعِ مَا بَعْدَهُ يَعْنِي قَوْلَهُ: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً- وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً

_ (1) . السجدة: 5. [.....]

أَيْ: إِذَا أَصَابَهُ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ أَوِ الْمَرَضُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ جَزُوعٌ، أَيْ: كَثِيرُ الْجَزَعِ، وَإِذَا أَصَابَهُ الْخَيْرُ مِنَ الْغِنَى وَالْخِصْبِ وَالسَّعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ كَثِيرُ الْمَنْعِ وَالْإِمْسَاكِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْهَلُوعُ: هُوَ الَّذِي إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ لَمْ يَشْكُرْ، وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ لَمْ يَصْبِرْ. قَالَ ثَعْلَبٌ: قَدْ فَسَّرَ اللَّهُ الْهَلُوعَ هُوَ الَّذِي إِذَا أَصَابَهُ الشَّرُّ أَظْهَرَ شِدَّةَ الْجَزَعِ، وَإِذَا أَصَابَهُ الْخَيْرُ بَخِلَ بِهِ ومنعه الناس، والعرب تقول: ناقة هلواعة وَهِلْوَاعٌ إِذَا كَانَتْ سَرِيعَةَ السَّيْرِ خَفِيفَتَهُ، وَمِنْهُ قول الشاعر «1» : صكّاء «2» ذِعْلِبَةً إِذَا اسْتَدْبَرْتَهَا ... حَرَجٌ إِذَا اسْتَقْبَلْتَهَا هِلْوَاعُ وَالذِّعْلِبَةُ: النَّاقَةُ السَّرِيعَةُ، وَانْتِصَابُ هَلُوعًا وَجَزُوعًا وَمَنُوعًا عَلَى أَنَّهَا أَحْوَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَوْ مُحَقَّقَةٌ لِكَوْنِهَا طبائع جبل الإنسان عليها، والظرفان معمولان لجزوعا ومنوعا إِلَّا الْمُصَلِّينَ أَيِ: الْمُقِيمِينَ لِلصَّلَاةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنَ الْهَلَعِ، وَالْجَزَعِ، وَالْمَنْعِ، وَأَنَّهُمْ عَلَى صِفَاتٍ مَحْمُودَةٍ وَخِلَالٍ مَرْضِيَّةٍ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ وَمَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَدِينِ الْحَقِّ يَزْجُرُهُمْ عَنِ الِاتِّصَافِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْخَيْرِ. ثُمَّ بَيَّنَهُمْ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ: الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أَيْ: لَا يَشْغَلُهُمْ عَنْهَا شَاغِلٌ، وَلَا يَصْرِفُهُمْ عَنْهَا صَارِفٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالدَّوَامِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ أَبَدًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُمُ الَّذِينَ لَا يُزِيلُونَ وُجُوهَهُمْ عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ التَّطَوُّعُ مِنْهَا. قَالَ النَّخَعِيُّ: الْمُرَادُ بِالْمُصَلِّينَ الَّذِينَ يُؤَدُّونَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَقِيلَ: الَّذِينَ يُصَلُّونَهَا لِوَقْتِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: الصَّحَابَةُ خَاصَّةً، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ لِاتِّصَافِ كُلِّ مُؤْمِنٍ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ قَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: الْمُرَادُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سِوَى الزَّكَاةِ، وَقِيلَ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الزَّكَاةُ لِوَصْفِهِ بِكَوْنِهِ مَعْلُومًا وَلِجَعْلِهِ قَرِينًا لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ مُسْتَوْفًى وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أَيْ: بِيَوْمِ الْجَزَاءِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَا يَشُكُّونَ فِيهِ وَلَا يَجْحَدُونَهُ، وَقِيلَ: يُصَدُّقُونَهُ بِأَعْمَالِهِمْ فَيُتْعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الطَّاعَاتِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أَيْ: خَائِفُونَ وَجِلُونَ مَعَ مَا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِ الطَّاعَةِ اسْتِحْقَارًا لِأَعْمَالِهِمْ، وَاعْتِرَافًا بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، مُبَيِّنَةٌ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْمَنَهُ أَحَدٌ، وَأَنَّ حَقَّ كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَخَافَهُ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَى قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَوْفًى وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ أَيْ: لَا يُخِلُّونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَمَانَاتِ الَّتِي يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهَا، وَلَا يَنْقُضُونَ شَيْئًا مِنَ الْعُهُودِ الَّتِي يَعْقِدُونَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِأَماناتِهِمْ بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ لِأَمَانَتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ، وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ أَيْ: يُقِيمُونَهَا عَلَى مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، أَوْ رَفِيعٍ أَوْ وَضِيعٍ، وَلَا يَكْتُمُونَهَا وَلَا يُغَيِّرُونَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الشهادة في سورة البقرة، قرأ الجمهور: بشهادتهم

_ (1) . هو المسيب بن علس. (2) . «صكاء» : شبيهة بالنعامة.

بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ وَيَعْقُوبَ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِالْجَمْعِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْإِفْرَادُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَمَنْ جَمَعَ ذَهَبَ إِلَى اخْتِلَافِ الشَّهَادَاتِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَدُلُّ عَلَى قِرَاءَةِ التَّوْحِيدِ قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ «1» . وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أَيْ: عَلَى أَذْكَارِهَا وَأَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا لَا يُخِلُّونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: عَلَى وُضُوئِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُرَادُ التَّطَوُّعُ، وَكَرَّرَ ذِكْرَ الصَّلَاةِ لِاخْتِلَافِ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ أَوَّلًا، وَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ ثَانِيًا، فَإِنَّ مَعْنَى الدَّوَامِ: هُوَ أَنْ لَا يَشْتَغِلُ عَنْهَا بِشَيْءٍ مِنَ الشَّوَاغِلِ كَمَا سَلَفَ وَمَعْنَى الْمُحَافَظَةِ: أَنْ يُرَاعِيَ الْأُمُورَ الَّتِي لَا تَكُونُ صَلَاةٌ بِدُونِهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا بَعْدَ فِعْلِهَا مِنْ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُحْبِطُهَا وَيُبْطِلُ ثَوَابَهَا، وَكَرَّرَ الْمَوْصُولَاتِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ لِجَلَالَتِهِ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِمَوْصُوفٍ مُنْفَرِدٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ أَيْ: مُسْتَقِرُّونَ فِيهَا مُكْرَمُونَ بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ قَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ وَقَوْلُهُ: مُكْرَمُونَ خَبَرٌ آخَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مكرمون، وفي جَنَّاتٍ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَهُمْ حَوَالَيْكَ مُسْرِعِينَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: مُهْطِعِينَ: مُسْرِعِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بمكّة أهلها ولقد أراهم ... إليه مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَا بَالُهُمْ يُسْرِعُونَ إِلَيْكَ يَجْلِسُونَ حَوَالَيْكَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا تَأْمُرُهُمْ، وَقِيلَ: مَا بَالُهُمْ مُسْرِعِينَ إِلَى التَّكْذِيبِ، وَقِيلَ: مَا بَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا يُسْرِعُونَ إِلَى السَّمَاعِ إِلَيْكَ فَيُكَذِّبُونَكَ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إن معنى: مُهْطِعِينَ نَاظِرِينَ إِلَيْكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَامِدِينَ، وَقِيلَ: مُسْرِعِينَ إِلَيْكَ، مَادِّي أَعْنَاقِهِمْ، مُدِيمِي النَّظَرِ إِلَيْكَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ أَيْ: عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ شماله جماعات متفرقة، وعزين: جَمْعُ عِزَةٍ، وَهِيَ الْعُصْبَةُ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَرَانَا عِنْدَهُ وَاللَّيْلُ دَاجٍ ... عَلَى أَبْوَابِهِ حِلَقًا عِزِينَا وَقَالَ الرَّاعِي: أَخَلِيفَةُ الرَّحْمَنِ إنّ عشيرتي ... أمسى سراتهم إليك عزينا وقول عَنْتَرَةُ: وَقِرْنٍ قَدْ تَرَكْتُ لَدَى وَلِيٍّ ... عَلَيْهِ الطّير كالعصب العزين وَقِيلَ: أَصْلُهَا عِزْوَةٌ مِنَ الْعَزْوِ، كَأَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ تَعْتَزِي إِلَى غَيْرِ مَنْ تَعْتَزِي إِلَيْهِ الْأُخْرَى. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالْعِزَةُ: الْفِرْقَةُ مِنَ النَّاسِ، وَالْهَاءُ عِوَضٌ مِنَ التَّاءِ، وَالْجَمْعُ عِزِيٌّ وَعِزُونَ، وَقَوْلُهُ: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ مُتَعَلِّقٌ بِعِزِينَ، أَوْ بِمُهْطِعِينَ. أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ قال المفسرون:

_ (1) . الطلاق: 2.

[سورة المعارج (70) : الآيات 40 إلى 44]

كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ دَخَلَ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ لَنَدْخُلُنَّ قَبْلَهُمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يُدْخَلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْرَجُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَأَبُو رَجَاءٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أَيْ: مِنَ الْقَذَرِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ بِهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ هَذَا التَّكَبُّرُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ أَجْلِ مَا يَعْلَمُونَ، وَهُوَ امْتِثَالُ الأمر والنهي وتعرّضهم لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كَمَا فِي قَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: أَأَزْمَعْتَ مِنْ آلِ لَيْلَى ابتكارا ... وشطّت على ذي هوى أن تزارا وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْهَلُوعِ فَقَالَ: هُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً- وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ هَلُوعاً قَالَ: الشَّرِهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ قَالَ: عَلَى مَوَاقِيتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ قَالَ: الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ فِي صلاته. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ إِذَا صَلَّوْا لَمْ يَلْتَفِتُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ قَالَ: يَنْظُرُونَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ قَالَ: [العزين] «2» : الْعُصَبُ مِنَ النَّاسِ، عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، مُعْرِضِينَ، يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَنَحْنُ حِلَقٌ مُتَفَرِّقُونَ فَقَالَ: «مالي أَرَاكُمْ عِزِينَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَالْبَاوَرْدِيُّ وَابْنُ قَانِعٍ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالضِّيَاءُ عَنْ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ إِلَى قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ثُمَّ بَزَقَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَفِّهِ وَوَضَعَ عَلَيْهَا أُصْبُعَهُ وَقَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ: ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ؟ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ، وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قلت: [أتصدّق] «3» ، وأنّى أوان الصدقة» . [سورة المعارج (70) : الآيات 40 الى 44] فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)

_ (1) . الذاريات: 56. (2) . من تفسير الطبري (29/ 85) . (3) . من سنن ابن ماجة (2707) .

قَوْلُهُ: فَلا أُقْسِمُ «لَا» زَائِدَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَالْمَعْنَى: فَأُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ يَعْنِي: مَشْرِقَ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ وَمَغْرِبَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ بِالْجَمْعِ وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٍ بِالْإِفْرَادِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أَيْ: عَلَى أَنْ نَخْلُقَ أَمْثَلَ مِنْهُمْ، وَأَطْوَعَ لِلَّهِ، حِينَ عَصَوْهُ، وَنُهْلِكَ هَؤُلَاءِ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أَيْ: بِمَغْلُوبِينَ إِنْ أَرَدْنَا ذَلِكَ، بَلْ نَفْعَلُ مَا أَرَدْنَا لَا يَفُوتُنَا شَيْءٌ وَلَا يُعْجِزُنَا أَمْرٌ، وَلَكِنَّ مَشِيئَتَنَا وَسَابِقَ عِلْمِنَا اقْتَضَيَا تَأْخِيرَ عُقُوبَةِ هَؤُلَاءِ، وَعَدَمَ تَبْدِيلِهِمْ بِخَلْقٍ آخَرَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا أَيِ: اتْرُكْهُمْ يَخُوضُوا فِي بَاطِلِهِمْ، وَيَلْعَبُوا فِي دُنْيَاهُمْ، وَاشْتَغِلْ بِمَا أُمِرْتَ بِهِ، وَلَا يَعْظُمَنَّ عَلَيْكَ مَا هُمْ فِيهِ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يُلَاقُوا» ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ «حَتَّى يَلْقَوْا» يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً «يَوْمَ» بَدَلٌ مِنْ «يَوْمَهُمْ» ، وَ «سِرَاعًا» مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ «يَخْرُجُونَ» ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَخْرُجُونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَالْمُغِيرَةُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْأَجْدَاثُ: جَمْعُ جَدَثٍ، وَهُوَ الْقَبْرُ كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَصْبٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ، وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَأَبُو رَجَاءٍ بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالنُّصْبُ: مَا نُصِبَ فَعُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَذَا النُّصُبُ بِالضَّمِّ، وَقَدْ يُحَرَّكُ. قَالَ الْأَعْشَى: وَذَا النُّصُبِ الْمَنْصُوبِ لَا تَعْبُدَنَّهُ ... وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا «1» وَالْجَمْعُ: الْأَنْصَابُ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: النُّصُبُ جَمْعُ النَّصْبِ، مِثْلُ رَهْنٍ وَرُهُنٍ، وَالْأَنْصَابُ: جَمْعُ النُّصُبِ، فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: النُّصُبُ جَمْعُ نِصَابٍ، وَهُوَ حَجَرٌ أَوْ صَنَمٌ يُذْبَحُ عَلَيْهِ، ومنه قوله: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وقال النحاس: نصب ونصب [وَنَصْبٌ] «2» بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقِيلَ: مَعْنَى إِلى نُصُبٍ إِلَى غَايَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَنْصِبُ إِلَيْهَا بَصَرَكَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ عَلَمٍ أَوْ رَايَةٍ، أَيْ: كَأَنَّهُمْ إِلَى عَلَمٍ يَدْعُونَ إِلَيْهِ، أَوْ رَايَةٍ تُنْصَبُ لَهُمْ يُوفِضُونَ، قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَبْتَدِرُونَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَى نُصُبِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَلْوِي أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: النُّصُبُ: شَبَكَةُ الصَّائِدِ يُسْرِعُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُقُوعِ الصَّيْدِ فِيهَا مَخَافَةَ انْفِلَاتِهِ. وَمَعْنَى يُوفِضُونَ: يُسْرِعُونَ، وَالْإِيفَاضُ: الْإِسْرَاعُ. يُقَالُ: أَوْفَضَ إِيفَاضًا: أَيْ أَسْرَعَ إِسْرَاعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَوَارِسُ ذُبْيَانَ تَحْتَ الحدي ... د كالجنّ يوفضن من عبقر

_ (1) . الّذي في تفسير القرطبي (18/ 296) : وذا النّصب المنصوب لا تنسكنّه ... لعافية والله ربّك فاعبدا (2) . من تفسير القرطبي (18/ 297) .

وَعَبْقَرٌ: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْجِنِّ كَمَا تَزْعُمُ الْعَرَبُ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: كُهُولٌ وَشُبَّانٌ كَجَنَّةِ عَبْقَرِ «1» وَانْتِصَابُ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضمير يوفضون، وأبصارهم مُرْتَفِعَةٌ بِهِ، وَالْخُشُوعُ: الذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ، أَيْ: لَا يَرْفَعُونَهَا لِمَا يَتَوَقَّعُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أَيْ: تَغْشَاهُمْ ذِلَّةٌ شَدِيدَةٌ. قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ سَوَادُ الْوُجُوهِ، وَمِنْهُ غُلَامٌ مُرَاهِقٌ إِذَا غَشِيَهُ الِاحْتِلَامُ، يُقَالُ: رَهِقَهُ بِالْكَسْرِ يَرْهَقُهُ رَهَقًا، أَيْ: غَشِيَهُ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ «2» وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ: الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أَيِ: الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ قَدْ حَاقَ بِهِمْ وَحَضَرَ، وَوَقَعَ بِهِمْ مِنْ عَذَابِهِ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا، فَهُوَ فِي حُكْمِ الَّذِي قَدْ وَقَعَ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ قَالَ: لِلشَّمْسِ كُلُّ يَوْمٍ مَطْلِعٌ تَطْلُعُ فِيهِ، وَمَغْرِبٌ تَغْرُبُ فِيهِ غَيْرُ مَطْلِعِهَا بِالْأَمْسِ وَغَيْرُ مَغْرِبِهَا بِالْأَمْسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ قَالَ: إلى علم يستبقون «3» .

_ (1) . وصدره: ومن فاد من إخوانهم وبنيهم. (2) . يونس: 26. (3) . الّذي في تفسير الطبري والدر المنثور: يسعون.

سورة نوح

سورة نوح هي تسع وعشرون آية، أو ثمان وعشرون آية وهي مكية، وأخرج ابن الضريس والنحاس وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً بِمَكَّةَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قَوْلُهُ: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وهو نوح بن لامك ابن متوشلخ بن أخنوخ «1» بْنِ قَيْنَانَ بْنِ شَيْثَ بْنِ آدَمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُدَّةُ لُبْثِهِ فِي قَوْمِهِ، وَبَيَانُ جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَبَيَانُ السِّنِّ الَّتِي أُرْسِلَ وَهُوَ فِيهَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أَيْ: بِأَنْ أَنْذِرْ، عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِأَنَّ فِي الْإِرْسَالِ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْذِرْ بِدُونِ أَنْ، وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: فَقُلْنَا لَهُ أَنْذِرْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: عَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ، وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الطوفان، وجملة قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ نُوحٌ؟ فَقَالَ: قَالَ لَهُمْ ... إِلَخْ. وَالْمَعْنَى: إِنِّي لَكُمْ مُنْذِرٌ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، وَمُخَوِّفٌ لَكُمْ، وَمُبَيِّنٌ لِمَا فِيهِ نَجَاتُكُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ «أَنْ» هِيَ التَّفْسِيرِيَّةُ لِنَذِيرٍ، أَوْ هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ، أَيْ: بِأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ غَيْرَهُ وَاتَّقُوهُ، أي: اجتنبوا ما يوقعكم في عذابه،

_ (1) . في تفسير القرطبي: وهو إدريس بن يردين مهلايل بن أنوش.

وَأَطِيعُونِ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ فَإِنِّي رَسُولٌ إِلَيْكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ هذا جواب الأمر، و «من» لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: بَعْضَ ذُنُوبِكُمْ، وَهُوَ مَا سَلَفَ مِنْهَا قَبْلَ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَعْنَى يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، فَتَكُونُ «مِنْ» عَلَى هَذَا زَائِدَةً، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَقِيلَ: هِيَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَقِيلَ: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ مَا اسْتَغْفَرْتُمُوهُ مِنْهَا وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ: يُؤَخِّرْ مَوْتَكُمْ إِلَى الْأَمَدِ الْأَقْصَى الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لَكُمْ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فَوْقَ مَا قَدَّرَهُ لَكُمْ، عَلَى تَقْدِيرِ بَقَائِكُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَقِيلَ: التَّأْخِيرُ بِمَعْنَى الْبَرَكَةِ فِي أَعْمَارِهِمْ إِنْ آمَنُوا، وَعَدَمِ الْبَرَكَةِ فِيهَا إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. قَالَ مُقَاتِلٌ: يُؤَخِّرْكُمْ إِلَى مُنْتَهَى آجَالِكُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ يُؤَخِّرْكُمْ عَنِ الْعَذَابِ فَتَمُوتُوا غَيْرَ مَيْتَةِ الْمُسْتَأْصِلِينَ بِالْعَذَابِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى لَا يُمِيتُكُمْ غَرَقًا وَلَا حَرْقًا وَلَا قَتْلًا إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ أَيْ: مَا قَدَّرَهُ لَكُمْ عَلَى تَقْدِيرِ بَقَائِكُمْ عَلَى الْكُفْرِ مِنَ الْعَذَابِ إِذَا جَاءَ، وَأَنْتُمْ بَاقُونَ عَلَى الْكُفْرِ، لَا يُؤَخَّرُ، بَلْ يَقَعُ لَا مَحَالَةَ، فَبَادِرُوا إِلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ وَهُوَ الْمَوْتُ إِذَا جَاءَ لَا يُمْكِنُكُمُ الْإِيمَانُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِذَا جَاءَ الْمَوْتُ لَا يُؤَخَّرُ سَوَاءً كَانَ بِعَذَابٍ أَوْ بِغَيْرِ عَذَابٍ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ لَسَارَعْتُمْ إِلَى مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، أَوْ لَعَلِمْتُمْ أَنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً أَيْ: قَالَ نُوحٌ مُنَادِيًا لِرَبِّهِ وَحَاكِيًا لَهُ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ: إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إِلَى مَا أَمَرْتَنِي بِأَنْ أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ دُعَاءً دَائِمًا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً عَمَّا دَعَوْتُهُمْ إِلَيْهِ وَبُعْدًا عَنْهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي تَبَاعُدًا مِنَ الْإِيمَانِ، وَإِسْنَادُ الزِّيَادَةِ إِلَى الدُّعَاءِ لِكَوْنِهِ سَبَبَهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: زادَتْهُمْ إِيماناً. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: دُعَائِي بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَيَعْقُوبُ وَالدُّورِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِإِسْكَانِهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ أَيْ: كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ إِلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِكَ، وَالطَّاعَةُ لَكَ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا صَوْتِي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أَيْ: غَطَّوْا بِهَا وُجُوهَهُمْ لِئَلَّا يَرَوْنِي، وَقِيلَ: جَعَلُوا ثِيَابَهُمْ على رؤوسهم لِئَلَّا يَسْمَعُوا كَلَامِي، فَيَكُونُ اسْتِغْشَاءُ الثِّيَابِ عَلَى هَذَا زِيَادَةً فِي سَدِّ الْآذَانِ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدَاوَةِ، يُقَالُ: لَبِسَ فُلَانٌ ثِيَابَ الْعَدَاوَةِ، وَقِيلَ: اسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ لِئَلَّا يَعْرِفَهُمْ فَيَدْعُوهُمْ وَأَصَرُّوا أَيِ: اسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، وَلَمْ يُقْلِعُوا عنه، ولا تابوا منه وَاسْتَكْبَرُوا عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَعَنِ امْتِثَالِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ اسْتِكْباراً شَدِيدًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً أَيْ: مُظْهِرًا لَهُمُ الدَّعْوَةَ، مُجَاهِرًا لَهُمْ بِهَا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ أَيْ: دَعَوْتُهُمْ مُعْلِنًا لَهُمْ بِالدُّعَاءِ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أَيْ: وَأَسْرَرْتُ لَهُمُ الدَّعْوَةَ إِسْرَارًا كَثِيرًا، قِيلَ: الْمَعْنَى: أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلَ بَعْدَ الرَّجُلِ يُكَلِّمُهُ سِرًّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ دَعَاهُمْ عَلَى وُجُوهٍ مُتَخَالِفَةٍ وَأَسَالِيبَ مُتَفَاوِتَةٍ، فَلَمْ يَنْجَعْ ذَلِكَ فِيهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى أَعْلَنْتُ: صِحْتُ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَسْرَرْتُ: أَتَيْتُهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ فَدَعَوْتُهُمْ فِيهَا. وَانْتِصَابُ جِهَارًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ جِهَارًا وَيَكُونُ غَيْرَ جِهَارٍ، فَالْجِهَارُ نَوْعٌ مِنَ الدُّعَاءِ، كَقَوْلِهِمْ: قَعَدَ الْقُرْفُصَاءَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: دُعَاءً جِهَارًا، وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مُجَاهِرًا، وَمَعْنَى ثُمَّ الدَّلَالَةُ

عَلَى تَبَاعُدِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ الْجِهَارَ أَغْلَظُ مِنَ الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ مِنْ أَحَدِهِمَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنِّي بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْحَرَمِيُّونَ بِفَتْحِهَا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أَيْ: سَلُوهُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ ذُنُوبِكُمُ السَّابِقَةِ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أَيْ: كَثِيرَ الْمَغْفِرَةِ لِلْمُذْنِبِينَ، وَقِيلَ: مَعْنَى اسْتَغْفِرُوا: تُوبُوا عَنِ الْكُفْرِ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا لِلتَّائِبِينَ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أَيْ: يُرْسِلْ مَاءَ السَّمَاءِ عَلَيْكُمْ، فَفِيهِ إِضْمَارٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ الْمَطَرُ، كَمَا فِي قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غضابا والمدرارا: الدُّرُورُ، وَهُوَ التَّحَلُّبُ بِالْمَطَرِ، وَانْتِصَابُهُ إِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَمْ يُؤَنَّثْ لِأَنَّ مِفْعَالًا لَا يُؤَنَّثُ تَقُولُ: امْرَأَةٌ مِئْنَاثٌ وَمِذْكَارٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِرْسَالًا مِدْرَارًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَجُزِمَ يُرْسِلْ لِكَوْنِهِ جَوَابَ الْأَمْرِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَطَرِ وَحُصُولِ أَنْوَاعِ الْأَرْزَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ يَعْنِي بَسَاتِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً جَارِيَةً. قَالَ عَطَاءٌ: الْمَعْنَى يُكْثِرُ أَمْوَالَكُمْ وَأَوَّلَادَكُمْ. أَعْلَمَهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ يَجْمَعُ لَهُمْ مَعَ الْحَظِّ الْوَافِرِ فِي الْآخِرَةِ الْخِصْبَ وَالْغِنَى فِي الدُّنْيَا. مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أَيْ: أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ فِي تَرْكِ الرجاء، والرجاء هنا بمعنى الخوف، أي: مالكم لَا تَخَافُونَ اللَّهَ، وَالْوَقَارُ: الْعَظَمَةُ مِنَ التَّوْقِيرِ وَهُوَ التَّعْظِيمُ، وَالْمَعْنَى لَا تَخَافُونَ حَقَّ عَظَمَتِهِ فتوحّدونه وتطيعونه، ولا تَرْجُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِي «لَكُمْ» ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ: إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةَ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَا لَكَمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ ثَوَابًا، وَلَا تَخَافُونَ مِنْهُ عِقَابًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مَا لَكَمْ لَا تُبَالُونَ لِلَّهِ عظمته. قَالَ قُطْرُبٌ: هَذِهِ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ، وَهُذَيْلٌ وَخُزَاعَةُ ومضر يقولون: لم أرج: لم أبال. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا لَكَمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ عَاقِبَةَ الْإِيمَانِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَا لَكَمْ لَا تَرْجُونَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ أَنْ يُثِيبَكُمْ عَلَى تَوْقِيرِكُمْ خَيْرًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَا لَكَمْ لَا تُؤَدُّونَ لِلَّهِ طَاعَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا لَكَمْ لَا تَعْرِفُونَ لِلَّهِ حَقًّا وَلَا تَشْكُرُونَ لَهُ نِعْمَةً. وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَكُمْ عَلَى أَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ: نُطْفَةٍ، ثُمَّ مُضْغَةٍ، ثُمَّ عَلَقَةٍ إِلَى تَمَامِ الْخَلْقِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالطَّوْرُ فِي اللُّغَةِ: الْمَرَّةُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الطَّوْرُ الْحَالُ، وَجَمْعُهُ أَطْوَارٌ، وَقِيلَ: أَطْوَارًا صِبْيَانًا ثُمَّ شُبَّانًا ثُمَّ شُيُوخًا، وَقِيلَ: الْأَطْوَارُ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ تُقَصِّرُونَ فِي تَوْقِيرِ مَنْ خَلَقَكُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَطْوَارِ الْبَدِيعَةِ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً الْخِطَابُ لِمَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَالْمُرَادُ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وبديع

_ (1) . هو معاوية بن مالك، معوّد الحكماء.

صُنْعِهِ، وَأَنَّهُ الْحَقِيقُ بِالْعِبَادَةِ. وَالطِّبَاقُ: الْمُتَطَابِقَةُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، كُلُّ سَمَاءٍ مُطْبِقَةٌ عَلَى الْأُخْرَى كَالْقِبَابِ. قَالَ الْحَسَنُ: خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ عَلَى سَبْعِ أَرَضِينَ، بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ، وَأَرْضٍ وَأَرْضٍ، خَلْقٌ وَأَمْرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هذا في قوله: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ «1» وَانْتِصَابُ طِبَاقًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، تَقُولُ طَابَقَهُ مُطَابَقَةً وطباقا، أو حال بمعنى ذات طباق، فحذف ذَاتُ وَأَقَامَ طِبَاقًا مَقَامَهُ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ جَرَّ «طِبَاقًا» عَلَى النَّعْتِ. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً أَيْ: مُنَوِّرًا لِوَجْهِ الْأَرْضِ، وجعل القمر في السماوات على كَوْنِهَا فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِي إِحْدَاهِنَّ، فَهِيَ فِيهِنَّ، كَذَا قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: كَمَا تَقُولُ أَتَانِي بَنُو تَمِيمٍ، وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: فِيهِنَّ بِمَعْنَى مَعَهُنَّ، أَيْ: خَلَقَ الْقَمَرَ وَالشَّمْسَ مَعَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَهَلْ يَنْعَمَنَّ مَنْ كَانَ آخِرُ عَهْدِهِ ... ثَلَاثِينَ شَهْرًا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ أَيْ: مَعَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ. وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أَيْ: كَالْمِصْبَاحِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ لِيَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى التَّصَرُّفِ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعَاشِ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً يَعْنِي آدَمَ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، وَالْمَعْنَى: أَنْشَأَكُمْ مِنْهَا إِنْشَاءً، فَاسْتُعِيرَ الْإِنْبَاتُ للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكوين، و «نباتا» إِمَّا مَصْدَرٌ لِأَنْبَتَ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ، أَوْ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَالزَّجَّاجُ: هُوَ مَصْدَرٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ مَعْنَى أَنْبَتَكُمْ: جَعَلَكُمْ تَنْبُتُونَ نَبَاتًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَ لَكُمْ من الأرض النبات، فنباتا عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ بِهِ. قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: أَنْبَتَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِالْكِبَرِ بَعْدَ الصِّغَرِ وَبِالطُّولِ بَعْدَ الْقِصَرِ. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أَيْ فِي الْأَرْضِ وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً يَعْنِي يُخْرِجُكُمْ مِنْهَا بِالْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً أَيْ: فَرَشَهَا وَبَسَطَهَا لَكُمْ، تَتَقَلَّبُونَ عَلَيْهَا تَقَلُّبَكُمْ عَلَى بُسُطِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً أَيْ: طُرُقًا وَاسِعَةً، وَالْفِجَاجُ: جَمْعُ فَجٍّ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: الْفَجُّ: الْمَسْلَكُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ مُسْتَوْفًى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ قَالَ: لِئَلَّا يَسْمَعُوا مَا يَقُولُ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ قَالَ: لِيَتَنَكَّرُوا فَلَا يَعْرِفُهُمْ وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً قَالَ: تَرَكُوا التَّوْبَةَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ قَالَ: غَطَّوْا وُجُوهَهُمْ لِئَلَّا يَرَوْا نُوحًا وَلَا يَسْمَعُوا كَلَامَهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً قَالَ: لَا تَعْلَمُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَيْضًا وَقاراً قَالَ عَظَمَةً. وَفِي قَوْلِهِ: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً قَالَ: نُطْفَةً ثُمَّ علقة ثم مضغة. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: لا تخافون لله عظمة. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لا

_ (1) . الطلاق: 12. [.....]

[سورة نوح (71) : الآيات 21 إلى 28]

تَخْشَوْنَ لَهُ عِقَابًا وَلَا تَرْجُونَ لَهُ ثَوَابًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نَاسًا يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً لَيْسَ عَلَيْهِمْ أُزُرٌ، فَوَقَفَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وُجُوهُهُمَا قِبَلَ السَّمَاءِ وَأَقْفِيَتُهُمَا قِبَلَ الْأَرْضِ، وَأَنَا أَقْرَأُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ آية مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ عبد الله ابن عُمَرَ قَالَ: تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ كَمَا تُضِيءُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: اجْتَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَقَدْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْعَتَبِ فَتَعَاتَبَا فَذَهَبَ ذَلِكَ، فقال عبد الله بن عمرة لِكَعْبٍ: سَلْنِي عَمَّا شِئْتَ، فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكَ بِتَصْدِيقِ قَوْلِي مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ ضَوْءَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَهُوَ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ كَمَا هُوَ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى قَوْلِ اللَّهِ: خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ ابن حُمَيْدٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً قَالَ: وَجْهُهُ فِي السَّمَاءِ إِلَى الْعَرْشِ وَقَفَاهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً قال: خلق فيهنّ خَلَقَهُنَّ ضِيَاءً لِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ مِنْ ضَوْئِهِ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا سُبُلًا فِجاجاً قَالَ: طُرُقًا مختلفة. [سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 28] قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) قَوْلُهُ: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي أَيِ: استمرّوا على عصياني ولم يُجِيبُوا دَعْوَتِي، شَكَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وأخبره بأنهم عصوه ولم يَتَّبِعُوهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً أَيِ: اتَّبَعَ الْأَصَاغِرُ رُؤَسَاءَهُمْ، وَأَهْلَ الثَّرْوَةِ مِنْهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَزِدْهُمْ كَثْرَةُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ إِلَّا ضَلَالًا فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَةً فِي الْآخِرَةِ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَعَاصِمٌ «وَوَلَدُهُ» بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْوَلَدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَمَعْنَى «وَاتَّبَعُوا» : أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى اتِّبَاعِهِمْ لَا أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا الِاتِّبَاعَ وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً أَيْ: مَكْرًا كِبِيرًا عَظِيمًا، يُقَالُ: كَبِيرٌ وَكُبَارٌ وَكُبَّارٌ، مِثْلُ عَجِيبٍ وَعُجَابٍ وَعُجَّابٍ، وَجَمِيلٍ وَجُمَالٍ وَجُمَّالٍ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كُبَّارًا بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَمِثْلُ كُبَّارًا: قُرَّاءٌ لِكَثِيرِ الْقِرَاءَةِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ السِّكِّيتِ:

بَيْضَاءُ تَصْطَادُ الْقُلُوبَ وَتَسْتَبِي ... بِالْحُسْنِ قَلْبَ الْمُسْلِمِ الْقُرَّاءِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُبَّاراً بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ جَمْعُ كَبِيرٍ كَأَنَّهُ جَعَلَ مَكْرًا مَكَانَ ذُنُوبٍ أَوْ أَفَاعِيلَ، فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِالْجَمْعِ. وَقَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: هِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي مَكْرِهِمْ هَذَا مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ تَحْرِيشُهُمْ سَفَلَتَهُمْ عَلَى قَتْلِ نُوحٍ، وَقِيلَ: هُوَ تَغْرِيرُهُمْ عَلَى النَّاسِ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، حَتَّى قَالَ الضَّعَفَةُ: لَوْلَا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ لَمَا أُوتُوا هَذِهِ النِّعَمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ قَوْلُ كُبَرَائِهِمْ لِأَتْبَاعِهِمْ: لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَقِيلَ: مَكْرُهُمْ: كُفْرُهُمْ وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أَيْ: لَا تَتْرُكُوا عِبَادَةَ آلِهَتِكُمْ، وَهِيَ الْأَصْنَامُ وَالصُّوَرُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ، ثُمَّ عَبَدَتْهَا الْعَرَبُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً أَيْ: لَا تَتْرُكُوا عِبَادَةَ هَذِهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، فَنَشَأَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: لَوْ صَوَّرْتُمْ صُوَرَهُمْ كَانَ أَنْشَطَ لَكُمْ وَأَسْوَقَ إِلَى الْعِبَادَةِ، فَفَعَلُوا، ثُمَّ نَشَأَ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: إِنَّ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فَاعْبُدُوهُمْ، فَابْتِدَاءُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّهُمْ صَوَّرُوهَا عَلَى صُورَةِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُ: إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ أَسْمَاءً لِأَوْلَادِ آدَمَ، وَكَانَ وَدٌّ أَكْبَرَهُمْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا وَدٌّ فَهُوَ أَوَّلُ صَنَمٍ مَعْبُودٍ، سُمِّيَ وَدًّا لِوُدِّهِمْ لَهُ، وَكَانَ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ، وَفِيهِ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ: حَيَّاكَ وَدُّ فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لنا ... لهو النّساء وإنّ الدّين قد عزما وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَ لِهُذَيْلٍ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، وَأَمَّا يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف مِنْ سَبَأٍ، فِي قَوْلِ قَتَادَةَ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: لِمُرَادٍ ثُمَّ لِغَطَفَانَ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَ لِهَمْدَانَ، فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: كَانَ لِكَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، ثُمَّ تَوَارَثُوهُ حَتَّى صَارَ فِي هَمْدَانَ، وَفِيهِ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ الْهَمْدَانِيُّ: يَرِيشُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَيَبْرِي ... وَلَا يَبْرِي يَعُوقُ وَلَا يَرِيشُ وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَ لِذِي الْكَلَاعِ مِنْ حِمْيَرَ، فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَدًّا بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِضَمِّهَا. قَالَ اللَّيْثُ: وُدٌّ بِضَمِّ الْوَاوِ صَنَمٌ لِقُرَيْشٍ، وَبِفَتْحِهَا صَنَمٌ كَانَ لِقَوْمِ نوح، وبه سمي عمور ابن وُدٍّ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ، وَالْوَدُّ بِالْفَتْحِ: الْوَتَدُ فِي لُغَةِ أَهْلِ نَجْدٍ، كَأَنَّهُمْ سَكَّنُوا التَّاءَ وَأَدْغَمُوهَا فِي الدَّالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَإِنْ كَانَا عَرَبِيَّيْنِ فَالْمَنْعُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَا أعجميين فَلِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَلَا يَغُوثًا وَيَعُوقًا بِالصَّرْفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ وَهْمٌ. وُوَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهَا تَحْتَ الْآلِهَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَكْبَرَ أَصْنَامِهِمْ وَأَعْظَمَهَا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً أَيْ: أَضَلَّ كُبَرَاؤُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصْنَامِ،

أَيْ: ضَلَّ بِسَبَبِهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «1» وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ ضَمِيرَ مَنْ يَعْقِلُ لِاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهَا أَنَّهَا تَعْقِلُ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا مَعْطُوفٌ عَلَى رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى «قَدْ أَضَلُّوا» ، وَمَعْنَى «إِلَّا ضَلَالًا» : إِلَّا عَذَابًا، كَذَا قَالَ ابْنُ بَحْرٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ «2» ، وَقِيلَ: إِلَّا خُسْرَانًا، وَقِيلَ: إِلَّا فِتْنَةً بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَقِيلَ: الضَّيَاعُ، وَقِيلَ: ضَلَالًا فِي مَكْرِهِمْ. مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا «مَا» مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى: مِنْ خَطِيئَاتِهِمْ، أَيْ: مِنْ أَجْلِهَا وَبِسَبَبِهَا أُغْرِقُوا بِالطُّوفَانِ فَأُدْخِلُوا نَارًا عَقِبَ ذَلِكَ، وَهِيَ نَارُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: عَذَابُ الْقَبْرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَطِيئاتِهِمْ عَلَى جَمْعِ السَّلَامَةِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: خَطاياهُمْ عَلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ «خَطِيئَتِهِمْ» عَلَى الْإِفْرَادِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: عُذِّبُوا بِالنَّارِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْغَرَقِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، كَانُوا يَغْرَقُونَ فِي جَانَبٍ وَيَحْتَرِقُونَ فِي جَانِبٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُغْرِقُوا مِنْ أَغْرَقَ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ غُرِّقُوا بِالتَّشْدِيدِ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أَيْ: لَمْ يَجِدُوا أَحَدًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَيَدْفَعُهُ عَنْهُمْ وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً مَعْطُوفٌ عَلَى قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي لَمَّا أَيِسَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ إِيمَانِهِمْ وَإِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ دَعَا عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ. قَالَ قَتَادَةُ: دَعَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَأَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ وَأَغْرَقَهُمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُقَاتِلٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَطِيَّةُ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ أَخْرَجَ اللَّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَصْلَابِهِمْ وَأَرْحَامِ نِسَائِهِمْ، وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ النِّسَاءِ وَأَصْلَابَ الْآبَاءِ قَبْلَ الْعَذَابِ بِسَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: بِأَرْبَعِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ صَبِيٌّ وَقْتَ الْعَذَابِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيةَ: لَوْ أَهْلَكَ اللَّهُ أَطْفَالَهُمْ مَعَهُمْ كَانَ عَذَابًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ وَعَدْلًا فِيهِمْ، وَلَكِنْ أَهْلَكَ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ بِغَيْرِ عَذَابٍ، ثُمَّ أَهْلَكَهُمْ بِالْعَذَابِ، وَمَعْنَى «دَيَّارًا» : مَنْ يَسْكُنُ الدِّيَارَ، وَأَصْلُهُ دَيْوَارٌ عَلَى فَيْعَالٍ، مِنْ دَارَ يَدُورُ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، مِثْلَ القيّام أصله قيوام، وقال القتبيّ: أَصْلُهُ مِنَ الدَّارِ أَيْ نَازِلٌ بِالدَّارِ، يُقَالُ: مَا بِالدَّارِ دَيَّارٌ، أَيْ: أَحَدٌ، وَقِيلَ: الدَّيَّارُ: صَاحِبُ الدِّيَارِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَدَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا أَهْلَكْتَهُ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ إِنْ تَتْرُكْهُمْ عَلَى الْأَرْضِ يُضِلُّوا عِبَادَكَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً أَيْ: إِلَّا فَاجِرًا بِتَرْكِ طَاعَتِكَ كَفَّارًا لِنِعْمَتِكَ، أَيْ: كَثِيرَ الْكُفْرَانِ لَهَا، وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ سَيَفْجُرُ وَيَكْفُرُ. ثُمَّ لَمَّا دَعَا عَلَى الْكَافِرِينَ أَتْبَعَهُ بِالدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَوَالِدَيْهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَكَانَا مُؤْمِنَيْنِ، وَأَبُوهُ: لَامَكُ بن متوشلخ كما تقدّم، وأمه شمخى بِنْتُ أَنُوَشَ، وَقِيلَ: أَرَادَ آدَمَ وَحَوَّاءَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَرَادَ بِوَالِدَيْهِ أَبَاهُ وَجَدَّهُ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَلِوالِدَيَّ بِكَسْرِ الدَّالِّ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ قَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: يَعْنِي مَسْجِدَهُ، وَقِيلَ: مَنْزِلَهُ الَّذِي هُوَ

_ (1) . إبراهيم: 36. (2) . القمر: 47.

سَاكِنٌ فِيهِ، وَقِيلَ: سَفِينَتَهُ، وَقِيلَ: لِمَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ، وَانْتِصَابُ مُؤْمِناً عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْإِيمَانِ، فَيَخْرُجُ من دخله غير متصف بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَامْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ الَّذِي قَالَ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ. ثُمَّ عَمَّمَ الدَّعْوَةَ، فَقَالَ: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أَيْ: وَاغْفِرْ لِكُلِّ مُتَّصِفٍ بِالْإِيمَانِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الدُّعَاءِ عَلَى الْكَافِرِينَ، فَقَالَ: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أَيْ: لَا تَزِدِ الْمُتَّصِفِينَ بِالظُّلْمِ إِلَّا هَلَاكًا وَخُسْرَانًا وَدَمَارًا، وَقَدْ شَمِلَ دُعَاؤُهُ هَذَا كُلَّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا شَمِلَ دُعَاؤُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كُلَّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قَالَ: هَذِهِ الْأَصْنَامُ كَانَتْ تُعْبَدُ فِي زَمَنِ نُوحٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ. أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لَبَنِي غُطَيْفٍ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ، أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجْلِسِهِمُ الَّذِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهِ أَنْصَابًا، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى هَلَكَ أُولَئِكَ، وَنُسِخَ الْعِلْمُ فَعُبِدَتْ.

سورة الجن

سورة الجنّ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْجِنِّ بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مثله. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) قَوْلُهُ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُوحِيَ رباعيا. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو إياس والعتكي عن أبي عمرو أحي ثُلَاثِيًّا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَاخْتُلِفَ هَلْ رَآهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَمْ يَرَهُمْ؟ فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ لِأَنَّ الْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِأُمَّتِكَ أُوحِيَ إِلَيَّ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «1» وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ، وَمَا رَآهُمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: وَالسُّورَةُ الَّتِي كَانَ يَقْرَؤُهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «2» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ ذِكْرُ مَا يُفِيدُ زِيَادَةً فِي هَذَا. قَوْلُهُ: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ هَذَا هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَلِهَذَا فُتِحَتْ أَنَّ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ. وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَالنَّفَرُ: اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَالْجِنُّ وَلَدُ الْجَانِّ وَلَيْسُوا شَيَاطِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُمْ وَلَدُ إِبْلِيسَ. قِيلَ: هُمْ أَجْسَامٌ عَاقِلَةٌ خَفِيَّةٌ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ النَّارِيَّةُ وَالْهَوَائِيَّةُ، وَقِيلَ: نَوْعٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُجَرَّدَةِ، وَقِيلَ: هِيَ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ الْمُفَارِقَةُ لأبدانها.

_ (1) . الأحقاف: 29. (2) . العلق: 1.

وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي دُخُولِ مُؤْمِنِي الْجِنِّ الْجَنَّةَ كَمَا يَدْخُلُ عُصَاتُهُمُ النَّارَ لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ تَبَارَكَ: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ «1» وَقَوْلُ الْجِنِّ فِيمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَدْخُلُونَهَا وَإِنْ صُرِفُوا عَنِ النَّارِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ «2» وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ آيَاتٌ غَيْرُ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَرَاجِعْهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا مِنْهُمْ، بَلِ الرُّسُلُ جَمِيعًا من الإنس، وإن أشعر قوله: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ بِخِلَافِ هَذَا، فَهُوَ مَدْفُوعُ الظَّاهِرِ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرْسِلِ الرُّسُلَ إِلَّا مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهَذِهِ الْأَبْحَاثُ الْكَلَامُ فِيهَا يَطُولُ، وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ. فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً أَيْ: قَالُوا لِقَوْمِهِمْ لَمَّا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، أَيْ: سَمِعْنَا كَلَامًا مَقْرُوءًا عَجَبًا فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَقِيلَ: عَجَبًا فِي مَوَاعِظِهِ، وَقِيلَ: فِي بَرَكَتِهِ، وَعَجَبًا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: ذَا عَجَبٍ، أَوِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ: مُعْجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أَيْ: إِلَى مَرَاشِدِ الْأُمُورِ، وَهِيَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، وَقِيلَ: إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ أُخْرَى لِلْقُرْآنِ فَآمَنَّا بِهِ أَيْ: صَدَّقْنَا بِهِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً مِنْ خَلْقِهُ، وَلَا نَتَّخِذُ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ لِأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَفِي هَذَا تَوْبِيخٌ لِلْكُفَّارِ مِنْ بَنِي آدَمَ حَيْثُ آمَنَتِ الْجِنُّ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَانْتَفَعُوا بِسَمَاعِ آيَاتٍ يَسِيرَةٍ مِنْهُ، وَأَدْرَكُوا بِعُقُولِهِمْ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَآمَنُوا بِهِ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ كُفَّارُ الْإِنْسِ لَا سِيَّمَا رُؤَسَاؤُهُمْ وَعُظَمَاؤُهُمْ بِسَمَاعِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَتِلَاوَتِهِ عَلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ كَوْنِ الرَّسُولِ مِنْهُمْ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِهِمْ، لَا جَرَمَ صَرَعَهُمُ اللَّهُ أَذَلَّ مَصْرَعٍ، وَقَتَلَهُمْ أَقْبَحَ مَقْتَلٍ، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا قرأ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَعَلْقَمَةُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَخَلَفٌ وَالسُّلَمِيُّ وَأَنَّهُ تَعالى بِفَتْحِ أَنَّ، وَكَذَا قَرَءُوا فِيمَا بَعْدَهَا مِمَّا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا إِلَّا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى الْفَتْحِ، أَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، فَعَلَى الْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي فَآمَنَّا بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَصَدَّقْنَاهُ وَصَدَّقْنَا أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا إِلَخْ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فعلى العطف على إنا سمعنا، أي: فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا إِلَى آخِرِهِ. وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ الْكَسْرِ لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ، وَمِمَّا هُوَ مَحْكِيٌّ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: «فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا» . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشُعْبَةُ بِالْفَتْحِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَهِيَ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ قَالَا: لِأَنَّهُ مِنَ الْوَحْيِ، وَكَسَرَا مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ بِالْفَتْحِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: «أَنَّهُ اسْتَمَعَ» . وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَشَيْبَةُ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ بالكسر

_ (1) . الملك: 5. (2) . الرّحمن: 56.

فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَطْفًا عَلَى «فَآمَنَّا بِهِ» بِذَلِكَ التَّقْدِيرِ السَّابِقِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْفَتْحِ فِي أَنَّهُ اسْتَمَعَ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى الْفَتْحِ فِي أَنَّ الْمَساجِدَ وفي وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى الْكَسْرِ فِي فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا وقُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وقُلْ إِنْ أَدْرِي وقُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ. وَالْجَدُّ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْعَظَمَةُ وَالْجَلَالُ، يُقَالُ: جَدَّ فِي عَيْنِي: أي عظم، فالمعنى: ارتفعت عَظَمَةُ رَبِّنَا وَجَلَالُهُ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ تَعَالَى غِنَاهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَظِّ: جَدٌّ، وَرَجُلٌ مَجْدُودٌ، أَيْ: مَحْظُوظٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: «وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْخَلِيلُ: أَيْ لَا يَنْفَعُ ذَا الْغِنَى مِنْكَ الْغِنَى، أَيْ: إِنَّمَا تَنْفَعُهُ الطاعة، وقال القرظيّ وَالضَّحَّاكُ: جَدُّهُ: آلَاؤُهُ وَنِعَمُهُ عَلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: مُلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمْرُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أَيْ: تَعَالَى رَبُّنَا، وَقِيلَ: جَدُّهُ قُدْرَتُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: لَيْسَ لِلَّهِ جَدٌّ، وَإِنَّمَا قَالَتْهُ الْجِنُّ لِلْجَهَالَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَدُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو حيوة ومحمد بن السّميقع بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَهُوَ ضِدُّ الْهَزْلِ، وَقَرَأَ أَبُو الأشهب: جدا رَبِّنَا أَيْ: جَدْوَاهُ وَمَنْفَعَتُهُ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ بِتَنْوِينِ جَدُّ وَرَفْعِ رَبِّنَا عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ جَدُّ. مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً هَذَا بَيَانٌ لِتَعَالِي جَدِّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَعَالَى جَلَالُ رَبِّنَا وَعَظَمَتُهُ عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا، وَكَأَنَّ الْجِنَّ نَبَّهُوا بِهَذَا عَلَى خَطَأِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَنْسُبُونَ إِلَى اللَّهِ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، وَنَزَّهُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمَا وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً الضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ لِلْحَدِيثِ أَوِ الْأَمْرِ، وَ «سَفِيهُنَا» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ كَانَ، وَ «يَقُولُ» الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «سَفِيهُنَا» فَاعِلَ يَقُولُ: وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهَا ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى الْحَدِيثِ أَوِ الْأَمْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَانَ زَائِدَةً، وَمُرَادُهُمْ بِسَفِيهِهِمْ: عُصَاتُهُمْ وَمُشْرِكُوهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَقَتَادَةُ: أَرَادُوا بِهِ إِبْلِيسَ، وَالشَّطَطُ: الْغُلُوُّ فِي الْكُفْرِ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: الْجَوْرُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْكَذِبُ، وَأَصْلُهُ الْبُعْدُ عَنِ الْقَصْدِ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بِأَيَّةِ حَالٍ حُكِّمُوا فِيكَ فَاشْتَطُّوا ... وَمَا ذَاكَ إِلَّا حَيْثُ يَمَّمَكَ الْوَخْطُ «1» وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَيْ: إِنَّا حَسِبْنَا أَنَّ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ كَانُوا لَا يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّ لَهُ شَرِيكًا وَصَاحِبَةً وَوَلَدًا، فَلِذَلِكَ صَدَّقْنَاهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى سَمِعْنَا الْقُرْآنَ فَعَلِمْنَا بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ، وَبُطْلَانَ مَا كُنَّا نَظُنُّهُ بِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ، وَانْتِصَابُ كذبا على أنه مصدر مؤكد ليقول لِأَنَّ الْكَذِبَ نَوْعٌ مِنَ الْقَوْلِ، أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: قَوْلًا كَذِبًا. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَنْ لَنْ تَقُولَ مِنَ التَّقَوُّلِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَذِبًا مَفْعُولٌ بِهِ وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ الْعَرَبُ إِذَا نَزَلَ الرَّجُلُ بِوَادٍ قَالَ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي مِنْ شَرِّ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، فَيَبِيتُ فِي جِوَارِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ أوّل من تعوّذ بالجنّ

_ (1) . «يممك» : قصدك. «الوخط» : الطعن بالرمح، والشيب.

قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ فَشَا ذَلِكَ فِي الْعَرَبِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ عَاذُوا بِاللَّهِ وَتَرَكُوهُمْ فَزادُوهُمْ رَهَقاً أَيْ: زَادَ رِجَالُ الْجِنِّ مَنْ تَعَوَّذَ بِهِمْ مِنْ رِجَالِ الْإِنْسِ رَهَقًا، أَيْ: سَفَهًا وَطُغْيَانًا، أو تَكَبُّرًا وَعُتُوًّا، أَوْ: زَادَ الْمُسْتَعِيذُونَ مِنْ رِجَالِ الْإِنْسِ مَنِ اسْتَعَاذُوا بِهِمْ مِنْ رِجَالِ الْجِنِّ رَهَقًا لِأَنَّ الْمُسْتَعَاذَ بِهِمْ كَانُوا يَقُولُونَ: سُدْنَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَبِالثَّانِي قال أبو العالية وقتادة والربيع ابن أَنَسٍ وَابْنُ زَيْدٍ. وَالرَّهَقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْإِثْمُ وَغَشِيَانُ الْمَحَارِمِ، وَرَجُلٌ رَهِقٌ إِذَا كَانَ كذلك، ومنه قوله: تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ «1» أَيْ: تَغْشَاهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: لَا شَيْءَ يَنْفَعُنِي مِنْ دُونِ رُؤْيَتِهَا ... هَلْ يَشْتَفِي عَاشِقٌ مَا لَمْ يُصِبْ رَهَقَا يَعْنِي إِثْمًا. وَقِيلَ الرَّهَقُ: الْخَوْفُ، أَيْ: أَنَّ الْجِنَّ زَادَتِ الْإِنْسَ بِهَذَا التَّعَوُّذِ بِهِمْ خَوْفًا مِنْهُمْ، وَقِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْإِنْسِ يَقُولُ: أَعُوذُ بِفُلَانٍ مِنْ سَادَاتِ الْعَرَبِ مِنْ جِنِّ هَذَا الْوَادِي، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ لَفْظَ رِجَالٍ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِنِّ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ «بِرِجَالٍ» وَصْفًا لِمَنْ يَسْتَعِيذُونَ بِهِ مِنْ رِجَالِ الْإِنْسِ، أَيْ: يَعُوذُونَ بِهِمْ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ رِجَالٍ عَلَى الْجِنِّ، عَلَى تَسْلِيمِ عَدَمِ صِحَّتِهِ لُغَةً، لَا مَانِعَ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهِمْ هُنَا مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً هَذَا مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ لِلْإِنْسِ، أَيْ: وَإِنَّ الْجِنَّ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَيُّهَا الْإِنْسُ أَنَّهُ لَا بَعْثَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِنَّ الْإِنْسَ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَيُّهَا الْجِنُّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ كَمَا أَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ هَذَا مِنْ قَوْلِ الجنّ أيضا، أي: طلبنا خبرها كَمَا بِهِ جَرَتْ عَادَتُنَا فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْرُسُونَهَا عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَالْحَرَسُ: جمع حارس، وشَدِيداً صفة لحرسا، أَيْ: قَوِيًّا وَشُهُباً جَمْعُ: شِهَابٍ، وَهُوَ الشُّعْلَةُ الْمُقْتَبَسَةُ مِنْ نَارِ الْكَوْكَبِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في تفسير قوله: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ ثَانِي مَفْعُولَيْ وَجَدْنَا لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ مَحَلُّ الْجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ قَدْ، وَحَرَسًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَوَصْفُهُ بِالْمُفْرِدِ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ، كَمَا يُقَالُ السَّلَفُ الصَّالِحُ، أَيِ: الصَّالِحِينَ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أَيْ: وَأَنَّا كُنَّا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَبْلَ هَذَا نَقْعُدُ مِنَ السَّمَاءِ مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ، أَيْ: مَوَاضِعَ نَقْعُدُ فِي مِثْلِهَا لِاسْتِمَاعِ الْأَخْبَارِ مِنَ السماء، و «للسمع» متعلق بنقعد، أي: لأجل السمع، أو بمضمر هو صفة لمقاعد، أَيْ: مَقَاعِدَ كَائِنَةً لِلسَّمْعِ، وَالْمَقَاعِدُ: جَمْعُ مَقْعَدٍ، اسم كان، وَذَلِكَ أَنَّ مَرَدَةَ الْجِنِّ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِيَسْمَعُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَخْبَارَ السَّمَاءِ فَيُلْقُونَهَا إِلَى الْكَهَنَةِ، فَحَرَسَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِبَعْثِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُبِ الْمُحْرِقَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أَيْ: أُرْصِدَ لَهُ لِيُرْمَى بِهِ، أَوْ لِأَجْلِهِ لِمَنْعِهِ مِنَ السَّمَاعِ، وَقَوْلُهُ: الْآنَ هُوَ ظَرْفٌ لِلْحَالِ، وَاسْتُعِيرَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَانْتِصَابُ «رَصَدًا» عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِ «شِهَابًا» ، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ، وَهُوَ مُفْرَدٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جَمْعٍ كالحرس.

_ (1) . يونس: 27.

وقد اختلفوا هل كانت الشياطين ترمى بالشهب قَبْلَ الْمَبْعَثِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: أَكَانَ يُرْمَى بِالنُّجُومِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها الْآيَةَ، قَالَ: غُلِّظَتْ وَشُدِّدَ أَمْرُهَا حِينَ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّ الرَّجْمَ قَدْ كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي شِدَّةِ الْحِرَاسَةِ بَعْدَ مَبْعَثِهِ، وَكَانُوا يَسْتَرِقُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَابُورَ: لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ تُحْرَسُ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرِسَتِ السَّمَاءُ، وَرُمِيَتِ الشَّيَاطِينُ بِالشُّهُبِ، وَمُنِعَتْ مِنَ الدُّنُوِّ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ فِي الْفَتْرَةِ تَسْمَعُ فَلَا تُرْمَى، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُمِيَتْ بِالشُّهُبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ عَنْ هَذَا وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أَيْ: لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِأَهْلِ الْأَرْضِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحِرَاسَةِ لِلسَّمَاءِ، أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا، أَيْ: خَيْرًا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَالَ إِبْلِيسُ: لَا نَدْرِي أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْمَنْعِ أَنْ يُنْزِلَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ عَذَابًا، أَوْ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَارْتِفَاعُ أَشَرٌّ عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْجُمْلَةُ سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ نَدْرِي، وَالْأَوْلَى أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ مِنْ قَوْلِ إِبْلِيسَ كَمَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أَيْ: قَالَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ لَمَّا دَعَوْا أَصْحَابَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَّا كُنَّا قَبْلَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ مِنَّا الْمَوْصُوفُونَ بِالصَّلَاحِ، وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أَيْ: قَوْمٌ دُونَ ذَلِكَ، أَيْ: دُونَ الْمَوْصُوفِينَ بِالصَّلَاحِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِ «الصَّالِحُونَ» الْمُؤْمِنِينَ، وَبِمَنْ هُمْ دُونَ ذَلِكَ الْكَافِرِينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمَعْنَى كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أَيْ: جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةً وَأَصْنَافًا مُخْتَلِفَةً، وَالْقِدَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، وَصَارَ الْقَوْمُ قِدَدًا إِذَا تَفَرَّقَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْهَادِي لِطَاعَتِهِ ... فِي فِتْنَةِ النَّاسِ إِذْ أَهْوَاؤُهُمْ قِدَدُ وَالْمَعْنَى: كنا ذوي طرائق قددا، أَوْ كَانَتْ طَرَائِقُنَا طَرَائِقَ قِدَدًا، أَوْ كُنَّا مِثْلَ طَرَائِقَ قِدَدًا، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ لَبِيدٍ: لَمْ تَبْلُغِ الْعَيْنُ كُلَّ نَهْمَتِهَا ... يَوْمَ تَمْشِي الْجِيَادُ بِالْقِدَدِ وَقَوْلُهُ أَيْضًا: وَلَقَدْ قُلْتُ وَزَيْدٌ حَاسِرٌ ... يَوْمَ وَلَّتْ خَيْلُ عَمْرٍو قِدَدًا قَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: أَدْيَانًا مُخْتَلِفَةً، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَهْوَاءً مُتَبَايِنَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانُوا مُسْلِمِينَ ويهود ونصارى ومجوس، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ. قَالَ الْحَسَنُ: الْجِنُّ أَمْثَالُكُمْ قَدَرِيَّةٌ وَمُرْجِئَةٌ وَرَافِضَةٌ وَشِيعَةٌ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ، أَيْ: وَإِنَّا عَلِمْنَا أَنَّ الشَّأْنَ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أَيْنَمَا كُنَّا فِيهَا، وَلَنْ نَفُوتَهُ إِنْ أَرَادَ بِنَا أَمْرًا وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أَيْ: هَارِبِينَ مِنْهَا، فَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى يَعْنُونَ الْقُرْآنَ آمَنَّا بِهِ وَصَدَّقْنَا أَنَّهُ مِنْ

عِنْدِ اللَّهِ، وَلَمْ نُكَذِّبْ بِهِ كَمَا كَذَّبَتْ بِهِ كَفَرَةُ الْإِنْسِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً أَيْ: لَا يَخَافُ نَقْصًا فِي عَمَلِهِ وَثَوَابِهِ، وَلَا ظُلْمًا وَمَكْرُوهًا يغشاه، والبخس: النقصان، والرهق: العدوان والطغيان، وَالْمَعْنَى: لَا يَخَافُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَلَا أَنْ يُزَادَ فِي سَيِّئَاتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الرَّهَقِ قَرِيبًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَخْساً بِسُكُونِ الْخَاءِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ فَلَا يَخَفْ جَزْمًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا بَعْدَ دُخُولِ الْفَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ لَا يَخَافُ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا لِتَعْرِفُوا مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السماء، فهنالك رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ قَالَ: كَانُوا مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا قَالَ: آلَاؤُهُ وَعَظَمَتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ وَاهٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا قَالَ: إِبْلِيسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عساكر عن كردم بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي إِلَى الْمَدِينَةِ فِي حَاجَةٍ، وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَآوَانَا الْمَبِيتُ إِلَى رَاعِي غَنَمٍ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ جَاءَ ذِئْبٌ فَأَخَذَ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ، فَوَثَبَ الرَّاعِي فَقَالَ: يَا عَامِرَ الْوَادِي أَنَا جَارُكَ، فَنَادَى مُنَادٍ: يَا سَرْحَانُ أَرْسِلْهُ، فَأَتَى الْحَمَلُ يَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَ فِي الْغَنَمِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ بِمَكَّةَ: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً قَالَ: إِثْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: كَانَ الْقَوْمُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا نَزَلُوا بِالْوَادِي قَالُوا: نَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ، فَلَا يَكُونُ بِشَيْءٍ أَشَدَّ وَلَعًا منهم بهم، فذلك قَوْلُهُ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وأحمد وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَهُمْ مَقَاعِدُ فِي السَّمَاءِ يَسْمَعُونَ فِيهَا الْوَحْيَ، فَإِذَا سَمِعُوا الْكَلِمَةَ زَادُوا فِيهَا تِسْعًا، فَأَمَّا

[سورة الجن (72) : الآيات 14 إلى 28]

الْكَلِمَةُ فَتَكُونُ حَقًّا، وَأَمَّا مَا زَادُوا فَيَكُونُ بَاطِلًا، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعُوا مَقَاعِدَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِإِبْلِيسَ، وَلَمْ تَكُنِ النُّجُومُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذَا إِلَّا مِنْ أَمْرٍ قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ، فَبَعَثَ جُنُودَهُ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْنِ بِمَكَّةَ، فَأَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدَثُ الَّذِي حَدَثَ فِي الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ يقول: منّا المسلم، ومنّا المشرك، وكُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أَهْوَاءً شَتَّى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً قَالَ: لَا يَخَافُ نَقْصًا من حسناته، ولا زيادة في سيئاته. [سورة الجن (72) : الآيات 14 الى 28] وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) قَوْلُهُ: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أَيِ: الْجَائِرُونَ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ حَادُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَمَالُوا إِلَى طَرِيقِ الْبَاطِلِ، يُقَالُ: قَسَطَ إِذَا جَارَ، وَأَقْسَطَ إِذَا عَدَلَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أَيْ: قَصَدُوا طَرِيقَ الْحَقِّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أمّوا الهدى أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً أَيْ: وَقُودًا لِلنَّارِ توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ بَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وَالْمَعْنَى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّ الشَّأْنَ لَوِ اسْتَقَامَ الْجِنُّ أَوِ الْإِنْسُ أَوْ كِلَاهُمَا عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرَّاءَ اتَّفَقُوا عَلَى فَتْحِ «أَنَّ» هاهنا. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالْفَتْحُ هُنَا عَلَى إِضْمَارِ يَمِينٍ تَأْوِيلُهَا: وَاللَّهِ أَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطريقة كما يقال في الكلام: والله أن قمت لقمت، وو الله لَوْ قُمْتَ لَقُمْتُ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: أما والله أن لو كنت حرّا ... وما بِالْحُرِّ أَنْتَ وَلَا الْعَتِيقِ قَالَ: أَوْ عَلَيَّ «أوحي إليّ أنه استمع» ، «وأن لَوِ اسْتَقَامُوا» ، أَوْ عَلَى «آمَنَّا بِهِ» : أَيْ آمَنَّا بِهِ، وَبِأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْوَاوِ مِنْ «لَوِ» لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ بِضَمِّهَا

لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً أَيْ: كَثِيرًا وَاسِعًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: مَاءً كَثِيرًا مِنَ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا رُفِعَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ سَبْعَ سِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَعْنَى لَوْ آمَنُوا جَمِيعًا لَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَضُرِبَ الْمَاءُ الْغَدَقُ مَثَلًا لَأَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَالرِّزْقَ بِالْمَطَرِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا «1» الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً- وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «2» وَقَوْلُهُ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً- يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً- وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «3» الْآيَةَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامَ أَبُوهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِ، وَسَجَدَ لِآدَمَ، وَلَمْ يَكْفُرْ، وَتَبِعَهُ وَلَدُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ لَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ، وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ. وَالْمَاءُ الْغَدَقُ: هُوَ الْكَثِيرُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أَيْ: لِنَخْتَبِرَهُمْ فَنَعْلَمَ كَيْفَ شُكْرُهُمْ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مِنَ الْكُفْرِ فَكَانُوا كُلُّهُمْ كُفَّارًا لَأَوْسَعْنَا أَرْزَاقَهُمْ مَكْرًا بِهِمْ وَاسْتِدْرَاجًا حَتَّى يُفْتَنُوا بِهَا فَنُعَذِّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَبِهِ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ عَبْدُ الرّحمن والثّمالي ويمان بن رباب وَابْنُ كَيْسَانَ وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ «4» وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ «5» الْآيَةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً أَيْ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنِ الْقُرْآنِ، أَوْ عَنِ الْعِبَادَةِ، أَوْ عَنِ الْمَوْعِظَةِ، أَوْ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ يَسْلُكْهُ، أَيْ: يُدْخِلْهُ عَذَابًا صَعَدًا، أَيْ: شَاقًّا صَعْبًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ نَسْلُكُهُ بِالنُّونِ مَفْتُوحَةً. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ: عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَلَمْ يَقُلْ عَنْ ذِكْرِنَا. وَقَرَأَ مُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْرَجُ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ اللَّامِ، مِنْ أَسْلَكَهُ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مِنْ سَلَكَهُ. وَالصَّعَدُ فِي اللغة: المشقة، تقول: تصعّدني الْأَمْرُ: إِذَا شَقَّ عَلَيْكَ، وَهُوَ مَصْدَرُ صَعِدَ، يُقَالُ: صَعِدَ صَعْدًا وَصُعُودًا، فَوَصَفَ بِهِ الْعَذَابَ مُبَالَغَةً لِأَنَّهُ يَتَصَعَّدُ الْمُعَذَّبَ، أَيْ: يَعْلُوهُ وَيَغْلِبُهُ فَلَا يُطِيقُهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الصَّعَدُ مَصْدَرٌ، أَيْ: عَذَابًا ذَا صَعَدٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الصَّعَدُ: هُوَ صَخْرَةٌ مَلْسَاءُ فِي جَهَنَّمَ يُكَلَّفُ صُعُودَهَا، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى أَعْلَاهَا حَدَرَ إِلَى جَهَنَّمَ، كما في قوله: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً «6» والصعود: العقبة الكؤود وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ قَدْ قَدَّمَنَا اتِّفَاقَ الْقُرَّاءِ هُنَا عَلَى الْفَتْحِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَمَعَ، أَيْ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّ الْمَسَاجِدَ مُخْتَصَّةٌ بِاللَّهِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: التَّقْدِيرُ وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ. وَالْمَسَاجِدُ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ فِيهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَالَتِ الْجِنَّ: كَيْفَ لَنَا أَنْ نأتي المساجد، ونشهد معك الصلاة، ونحن ناؤون عَنْكَ؟ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ بِهَا كُلَّ الْبِقَاعِ لِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسْجِدٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَطَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: أَرَادَ بِالْمَسَاجِدِ الْأَعْضَاءَ الَّتِي يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ، وَهِيَ الْقَدَمَانِ والركبتان واليدان والجبهة،

_ (1) . المائدة: 65. (2) . الطلاق: 2- 3. (3) . نوح: 10- 12. (4) . الأنعام: 44. (5) . الزخرف: 33. (6) . المدثر: 17. [.....]

ويقول: هَذِهِ أَعْضَاءٌ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكَ فَلَا تَسْجُدْ بِهَا لِغَيْرِهِ فَتَجْحَدُ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ. وَقِيلَ: الْمَسَاجِدُ هِيَ الصَّلَاةُ لِأَنَّ السُّجُودَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْكَانِهَا، قَالَهُ الْحَسَنُ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ كَائِنًا مَا كَانَ وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْجُمْهُورَ قَرَءُوا هُنَا بِفَتْحِ أَنَّ، عَطْفًا عَلَى أَنَّهُ اسْتَمَعَ: أَيْ وَأَوْحِيَ إِلَيَّ أَنَّ الشَّأْنَ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ أَيْ: يَدْعُو اللَّهَ وَيَعْبُدُهُ، وَذَلِكَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ «1» كَمَا تَقَدَّمَ حِينَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَيَتْلُو الْقُرْآنَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ «إِنَّ» هناك، وَفِيهَا غُمُوضٌ وَبُعْدٌ عَنِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أَيْ: كَادَ الْجِنُّ يَكُونُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ لِبَدًا، أَيْ: مُتَرَاكِمِينَ مِنِ ازْدِحَامِهِمْ عَلَيْهِ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى لِبَدًا: يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمِنْ هَذَا اشْتِقَاقُ هَذِهِ اللُّبُودِ الَّتِي تُفْرَشُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ لِبَداً بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَهِشَامٌ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السّميقع وَالْعُقَيْلِيُّ وَالْجَحْدَرِيُّ بِضَمِّ الْبَاءِ وَاللَّامِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالْأَعْرَجُ بِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ مَفْتُوحَةً. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى الْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وعلى قراءة اللَّامِ يَكُونُ الْمَعْنَى كَثِيرًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً «2» وَقِيلَ الْمَعْنَى: كَادَ الْمُشْرِكُونَ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَرْدًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ بِالدَّعْوَةِ، تَلَبَّدَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ لِيُطْفِئُوهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَنْصُرَهُ، وَيُتِمَّ نُورَهُ. وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لِبَداً أَيْ: جَمَاعَاتٍ، وَهُوَ مَنْ تَلَبَّدَ الشَّيْءُ عَلَى الشَّيْءِ، أَيِ: اجْتَمَعَ، وَمِنْهُ اللَّبَدُ: الَّذِي يُفْرَشُ لِتَرَاكُمِ صُوفِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَلْصَقْتَهُ إِلْصَاقًا شَدِيدًا فَقَدْ لَبَّدْتَهُ، وَيُقَالُ لِلشَّعَرِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الْأَسَدِ: لُبْدَةٌ، وَجَمْعُهَا لُبَدٌ، وَيُقَالُ لِلْجَرَادِ الْكَثِيرِ: لُبَدٌ وَيُطْلَقُ اللُّبَدُ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى الشَّيْءِ الدَّائِمِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِنَسْرِ لُقْمَانَ لُبَدٌ لِطُولِ بَقَائِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ: أَخْنَى عَلَيْهَا الَّذِي أخنى على لبد «3» قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي أَيْ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَأَعْبُدُهُ وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَالَ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ «قُلْ» عَلَى الْأَمْرِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ جِئْتَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ عَادَيْتَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، فَارْجِعْ عَنْ هَذَا فَنَحْنُ نُجِيرُكَ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أَيْ: لَا أَقْدِرُ أَنْ أَدْفَعَ عَنْكُمْ ضَرًّا، وَلَا أَسُوقُ إِلَيْكُمْ خَيْرًا، وَقِيلَ: الضُّرُّ: الْكُفْرُ، وَالرَّشَدُ: الْهُدَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُقُوعِ النَّكِرَتَيْنِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَهُمَا يَعُمَّانِ كُلَّ ضَرَرٍ وَكُلَّ رَشَدٍ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أَيْ: لَا يَدْفَعُ عَنِّي أَحَدٌ عَذَابَهُ إِنْ أَنْزَلَهُ بِي وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أَيْ: مَلْجَأً وَمَعْدِلًا وحرزا، والملتحد معناه في اللغة: الممال أي: موضعا أميل إليه. قال قتادة: مولى. وقال السدّي: حرزا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَدْخَلًا فِي الْأَرْضِ مِثْلَ السِّرْبِ، وقيل: مذهبا ومسلكا،

_ (1) . «بطن نخلة» : موضع بين مكة والطائف. (2) . البلد: 6. (3) . وصدره: أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا.

وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا لَهَفَ نفسي ولهفي غَيْرَ مُجْدِيَةٍ ... عَنِّي وَمَا مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ مُلْتَحَدُ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ لَا أَمْلِكُ، أَيْ: لَا أَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا إِلَّا التَّبْلِيغَ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّ فِيهِ أَعْظَمَ الرَّشَدِ، أَوْ مِنْ مُلْتَحَدًا، أَيْ: لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا التَّبْلِيغَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: ذَلِكَ الَّذِي يُجِيرُنِي مِنْ عَذَابِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ، فَذَلِكَ الَّذِي أَمْلِكُهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، فَأَمَّا الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ فَلَا أَمْلِكُهُمَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَكِنْ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: مُلْتَحَداً أَيْ: وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا أَنْ أُبَلِّغَ مَا يَأْتِي مِنَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَرِسالاتِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى بَلَاغًا، أَيْ: إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَإِلَّا رِسَالَاتِهِ الَّتِي أَرْسَلَنِي بِهَا إِلَيْكُمْ، أَوْ إِلَّا أَنْ أُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ وَأَعْمَلَ بِرِسَالَاتِهِ، فَآخُذَ نَفْسِي بِمَا آمُرُ بِهِ غَيْرِي. وَقِيلَ: الرِّسَالَاتُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ، أَيْ: إِلَّا بَلَاغًا عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رِسَالَاتِهِ، كَذَا قَالَ أَبُو حَيَّانَ وَرَجَّحَهُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِيهِ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ مَوْضِعُ ابْتِدَاءٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاؤُهُ أَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ، أَوْ: فَحُكْمُهُ أَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فِي النَّارِ أَوْ فِي جَهَنَّمَ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مِنْ كَمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَهُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا، وَقَوْلُهُ: أَبَداً تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْخُلُودِ، أَيْ: خَالِدِينَ فِيهَا بِلَا نِهَايَةٍ حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ يَعْنِي مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَزَالُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَتَّى إِذَا رَأَوُا الَّذِي يُوعَدُونَ بِهِ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أَيْ: مَنْ هُوَ أَضْعَفُ جُنْدًا يَنْتَصِرُ بِهِ وَأَقَلُّ عَدَدًا، أَهُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ؟ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَيْ: مَا أَدْرِي أَقَرِيبٌ حُصُولُ مَا تُوعَدُونَ مِنَ الْعَذَابِ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أَيْ: غَايَةً وَمُدَّةً، أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ لِمَا قَالُوا لَهُ: مَتَى يَكُونُ هَذَا الَّذِي تُوعِدُنَا بِهِ؟ قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ عِلْمَ وَقْتِ الْعَذَابِ عِلْمُ غَيْبٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ رَبِّي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وأبو عمرو بفتحها. ومَنْ في مَنْ أَضْعَفُ موصولة، وأضعف خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ أَضْعَفُ، وَالْجُمْلَةُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً مُرْتَفِعَةً على الابتداء، وأضعف: خَبَرُهَا. وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ «أَدْرِي» ، وَقَوْلُهُ: أَقَرِيبٌ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَما تُوعَدُونَ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ عالِمُ الْغَيْبِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ «رَبِّي» ، أَوْ بَيَانٌ لَهُ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ عَدَمِ الدِّرَايَةِ. وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ السَّرِيُّ «عَلِمَ الْغَيْبَ» بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَنَصْبِ الْغَيْبِ، وَالْفَاءُ فِي فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً لِتَرْتِيبِ عَدَمِ الْإِظْهَارِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، أَيْ: لَا يُطْلِعُ عَلَى الْغَيْبِ الَّذِي يَعْلَمُهُ، وَهُوَ مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ، أَحَدًا مِنْهُمْ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ أَيْ: إِلَّا مَنِ اصْطَفَاهُ مِنَ الرُّسُلِ، أَوْ مَنِ ارْتَضَاهُ مِنْهُمْ لِإِظْهَارِهِ عَلَى بَعْضِ غَيْبِهِ لِيَكُونَ ذلك دالّا

عَلَى نُبُوَّتِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمَّا تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَاسْتَأْثَرَ بِهِ دُونَ خَلْقِهِ، كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ أَحَدٌ سِوَاهُ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مَنِ ارْتَضَى مِنَ الرُّسُلِ، فَأَوْدَعَهُمْ مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَهُ مُعْجِزَةً لَهُمْ، وَدَلَالَةً صَادِقَةً عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُنَجِّمُ وَمَنْ ضَاهَاهُ ممّن يضرب بالحصى، وينظر في الكتب، ويزجر بالطير، مِمَّنِ ارْتَضَاهُ مِنْ رَسُولٍ فَيُطْلِعُهُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْبِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ، مُفْتَرٍ عَلَيْهِ بِحَدَسِهِ وَتَخْمِينِهِ وَكَذِبِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ هُوَ جِبْرِيلُ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يُطْلِعُهُ عَلَى بَعْضِ غَيْبِهِ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِرِسَالَتِهِ كَالْمُعْجِزَةِ وَأَحْكَامِ التَّكَالِيفِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ وَمَا يُبَيِّنُهُ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، لَا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِرِسَالَتِهِ مِنَ الْغُيُوبِ، كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ النُّجُومَ تَدُلُّهُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ حَادِثٍ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِلْكَرَامَاتِ لِأَنَّ الَّذِينَ تُضَافُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ مُرْتَضِينَ فَلَيْسُوا بِرُسُلٍ، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الرُّسُلَ مِنْ بَيْنِ الْمُرْتَضِينَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ، وَإِبْطَالٍ لِلْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمِ لِأَنَّ أَصْحَابَهُمَا أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ الِارْتِضَاءِ، وَأَدْخَلُهُ فِي السُّخْطِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَعِنْدِي لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قَالُوهُ إِذْ لَا صِيغَةَ عُمُومٍ فِي غَيْبِهِ، فَتُحْمَلُ عَلَى غَيْبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ وَقْتُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ بَعْدِ قَوْلِهِ: أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ الْآيَةَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ حِينَئِذٍ؟ قُلْنَا: لَعَلَّهُ إِذَا قَرُبَتِ الْقِيَامَةُ يُظْهِرُهُ، وَكَيْفَ لا؟ وقد قال: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا «1» فَتَعْلَمُ الْمَلَائِكَةُ حِينَئِذٍ قِيَامَ الْقِيَامَةِ، أَوْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: مَنِ ارْتَضَاهُ مِنْ رَسُولٍ يَجْعَلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَمَنْ خَلْفِهِ حَفَظَةً يَحْفَظُونَهُ مِنْ شَرِّ مَرَدَةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ لَا يُطْلِعُ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ أَنَّهُ ثَبَتَ كَمَا يُقَارِبُ التَّوَاتُرَ أَنَّ شِقًّا وَسَطِيحًا كَانَا كَاهِنَيْنِ، وَقَدْ عَرَفَا بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ظُهُورِهِ، وَكَانَا مَشْهُورَيْنِ بِهَذَا الْعِلْمِ عِنْدَ الْعَرَبِ حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِمَا كِسْرَى. فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُطْلِعُ غَيْرَ الرُّسُلِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَأَيْضًا أَطْبَقَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ مُعَبِّرَ الرُّؤْيَا يُخْبِرُ عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، وَيَكُونُ صَادِقًا فِيهَا، وَأَيْضًا قَدْ نَقَلَ السُّلْطَانُ سِنْجَرُ بْنُ مَلِكِ شَاهْ كَاهِنَةً مِنْ بَغْدَادَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَسَأَلَهَا عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، فَأَخْبَرَتْهُ بِهَا، فَوَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ كَلَامِهَا. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي نَاسٌ مُحَقِّقُونَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَالْحِكْمَةِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ أُمُورٍ غَائِبَةٍ بِالتَّفْصِيلِ، فَكَانَتْ عَلَى وَفْقِ خَبَرِهَا. وَبَالَغَ أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي كِتَابِ «التَّعْبِيرِ» فِي شَرْحِ حَالِهَا وَقَالَ: فَحَصَّتَ عَنْ حَالِهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَتَحَقَّقَتْ أَنَّهَا كَانَتْ تُخْبِرُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ إِخْبَارًا مُطَابِقًا. وَأَيْضًا فَإِنَّا نُشَاهِدُ ذَلِكَ فِي أَصْحَابِ الْإِلْهَامَاتِ الصَّادِقَةِ، وَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ فِي السَّحَرَةِ أَيْضًا، وَقَدْ نَرَى الْأَحْكَامَ النُّجُومِيَّةَ مُطَابَقَةً وَإِنْ كَانَتْ قد تتخلف، وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ لِتَطَرَّقَ الطَّعْنُ إِلَى الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ مَا ذَكَرْنَا، انْتَهَى كَلَامُهُ. قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ لَا صِيغَةَ عُمُومٍ فِي غَيْبِهِ، فَبَاطِلٌ، فَإِنَّ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْجِنْسِ من صيغ العموم

_ (1) . الفرقان: 25.

كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ فَمُجَرَّدُ دَعْوَى يَأْبَاهُ النَّظْمُ الْقُرْآنِيُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ شَقًّا وَسَطِيحًا إِلَخْ، فَقَدْ كَانَا فِي زَمَنٍ تَسْتَرِقُ فِيهِ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ، وَيُلْقُونَ مَا يَسْمَعُونَهُ إِلَى الْكُهَّانِ، فَيَخْلِطُونَ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ «1» وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، فَبَابُ الْكِهَانَةِ قَدْ وَرَدَ بَيَانُهُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ طَرِيقًا لِبَعْضِ الْغَيْبِ بِوَاسِطَةِ اسْتِرَاقِ الشَّيَاطِينِ حَتَّى مُنِعُوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا: أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً- وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً «2» فَبَابُ الْكِهَانَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ مَخْصُوصٌ بِأَدِلَّتِهِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُخَصَّصُ بِهِ هَذَا الْعُمُومُ، فَلَا يَرُدُّ مَا زَعَمَهُ مِنْ إِيرَادِ الْكِهَانَةِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فَحَدِيثُ خُرَافَةٍ، وَلَوْ سَلَّمَ وُقُوعَ شَيْءٍ مِمَّا حَكَاهُ عَنْهَا مِنَ الْأَخْبَارِ لَكَانَ مِنْ بَابِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مُحَدَّثِينَ وَإِنَّ مِنْهُمْ عُمَرَ» ، فَيَكُونُ كَالتَّخْصِيصِ لِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ لا انقضاء لَهَا، وَأَمَّا مَا اجْتَرَأَ بِهِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ لِتَطَرَّقَ الطَّعْنُ إِلَى الْقُرْآنِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذِهِ بِأَوَّلِ زَلَّةٍ مِنْ زَلَّاتِكَ، وَسَقْطَةٍ مِنْ سَقَطَاتِكَ، وَكَمْ لَهَا لَدَيْكَ مِنْ أَشْبَاهٍ وَنَظَائِرَ، نَبَضَ بِهَا عِرْقُ فَلْسَفَتِكَ، وَرَكَضَ بِهَا الشَّيْطَانُ الَّذِي صَارَ يَتَخَبَّطُكَ فِي مَبَاحِثِ تَفْسِيرِكَ، يَا عَجَبًا لَكَ أَيَكُونُ مَا بَلَغَكَ مِنْ خَبَرِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَنَحْوِهِ مُوجِبًا لِتَطَرُّقِ الطَّعْنِ إِلَى الْقُرْآنِ؟! وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ أُدَبَاءِ عَصْرِنَا: وَإِذَا رَامَتِ الذُّبَابَةُ لِلشَّمْ ... سِ غِطَاءً مَدَّتْ عَلَيْهَا جَنَاحًا وَقُلْتُ مِنْ أَبْيَاتٍ: مَهَبُّ رِيَاحٍ سَدَّهُ بِجَنَاحِ ... وَقَابَلَ بِالْمِصْبَاحِ ضَوْءَ صَبَاحِ فَإِنْ قُلْتَ: إِذَنْ قَدْ تَقَرَّرَ بِهَذَا الدَّلِيلِ الْقُرْآنِيِّ أَنَّ اللَّهَ يُظْهِرُ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رُسُلِهِ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ، فَهَلْ لِلرَّسُولِ الَّذِي أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ بَعْضَ أُمَّتِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَارِفٍ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا صَحَّ أَنَّهُ قَامَ مَقَامًا أَخْبَرَ فِيهِ بِمَا سَيَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْفِتَنِ وَنَحْوِهَا، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ كَانَ قَدْ أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَحْدُثُ مِنَ الْفِتَنِ بَعْدَهُ، حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَرَجَعُوا إِلَيْهِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَهُ عَنِ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، فَقَالَ: إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ يُفْتَحُ أَوْ يُكْسَرُ؟ فَقَالَ: بَلْ يُكْسَرُ، فَعَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ الْبَابُ، وَأَنَّ كَسْرَهُ قَتْلُهُ» كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ قِيلَ لِحُذَيْفَةَ: هَلْ كَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ ذلك؟ فقال: نعم كان يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ. وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنْ إِخْبَارِهِ لِأَبِي ذَرٍّ بِمَا يَحْدُثُ

_ (1) . الصافات: 10. (2) . الجن: 8- 9.

لَهُ، وَإِخْبَارُهُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِخَبَرِ ذِي الثُّدَيَّةِ، وَنَحْوِ هَذَا مِمَّا يَكْثُرُ تَعَدُّدُهُ، وَلَوْ جَمْعٌ لَجَاءَ مِنْهُ مُصَنَّفٌ مُسْتَقِلٌّ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنَّ يَخْتَصَّ بَعْضُ صُلَحَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي أَظْهَرُهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ، وَأَظْهَرَهَا رَسُولُهُ لِبَعْضِ أُمَّتِهِ وَأَظْهَرَهَا هَذَا الْبَعْضُ مِنَ الْأُمَّةِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، فَتَكُونُ كَرَامَاتُ الصَّالِحِينَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَالْكُلُّ مِنَ الْفَيْضِ الرَّبَّانِيِّ بِوَاسِطَةِ الْجَنَابِ النَّبَوِيِّ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَحْفَظُ ذَلِكَ الْغَيْبَ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَالَ: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً وَالْجُمْلَةُ تَقْرِيرٌ لِلْإِظْهَارِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجْعَلُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ وَمِنْ خَلْفِهِ حَرَسًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْرُسُونَهُ مِنْ تَعَرُّضِ الشَّيَاطِينِ لِمَا أَظْهَرُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَيْبِ، أَوْ يَجْعَلُ بَيْنَ يَدَيِ الْوَحْيِ وَخَلْفَهُ حَرَسًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحُوطُونَهُ مِنْ أَنْ تَسْتَرِقَهُ الشَّيَاطِينُ، فَتُلْقِيَهُ إِلَى الْكَهَنَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا وَمَعَهُ مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِصُورَةِ الْمَلَكِ، فَإِذَا جَاءَهُ شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ الْمَلَكِ قَالُوا: هَذَا شَيْطَانٌ فَاحْذَرْهُ، وَإِنَّ جَاءَهُ الْمَلَكُ قَالُوا: هَذَا رَسُولُ رَبِّكَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَصَداً أَيْ: حَفَظَةً يَحْفَظُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمَامِهِ وَوَرَائِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ. قَالَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: هُمْ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَفَظَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ جِبْرِيلُ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الرَّصَدُ: الْقَوْمُ يَرْصُدُونَ كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر وَالْمُؤَنَّثُ، وَالرَّصَدُ لِلشَّيْءِ: الرَّاقِبُ لَهُ، يُقَالُ: رَصَدَهُ يَرْصُدُهُ رَصَدًا وَرَصْدًا وَالتَّرَصُّدُ: التَّرَقُّبُ، وَالْمَرْصَدُ: مَوْضِعُ الرَّصْدِ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ اللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِيَسْلُكُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بالإبلاغ الموجود بالفعل، وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ، وَالرِّسَالَاتُ: عِبَارَةٌ عَنِ الْغَيْبِ الَّذِي أُرِيدَ إِظْهَارُهُ لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ، وَضَمِيرُ «أَبْلَغُوا» يَعُودُ إِلَى الرَّصْدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الرُّسُلَ قَبْلَهُ قَدْ أَبْلَغُوا الرِّسَالَةَ كَمَا بَلَّغَ هُوَ الرِّسَالَةَ، وَفِيهِ حَذْفٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ، أَيْ: أَخْبَرْنَاهُ بِحِفْظِنَا الْوَحْيَ لِيَعْلَمَ أَنَّ الرُّسُلَ قَبْلَهُ كَانُوا عَلَى حَالَتِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّ جِبْرِيلَ وَمَنْ مَعَهُ قَدْ أَبْلَغُوا إِلَيْهِ رِسَالَاتِ رَبِّهِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ الرُّسُلُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ إِبْلِيسُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ مِنْ غَيْرِ تَخْلِيطٍ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ لِيَعْلَمَ الْجِنُّ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا هُمُ الْمُبْلِغِينَ بِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِيَعْلَمَ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لِيَعْلَمَ» بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَحَمِيدٌ وَيَعْقُوبُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ رُسُلَهُ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِهِ، أَيْ: لِيَعْلَمَ ذَلِكَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ كَمَا عَلِمَهُ غَيْبًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالزُّهْرِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أَيْ: بِمَا عِنْدَهُ الرَّصْدُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِمَا عِنْدَ الرُّسُلِ الْمُبَلِّغِينَ لِرِسَالَاتِهِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَسْلُكُ بِإِضْمَارِ قَدْ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ من الأحوال. قال سعيد ابن جُبَيْرٍ: لِيَعْلَمَ أَنَّ رَبَّهُمْ قَدْ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ فَبَلَّغُوا رِسَالَاتِهِ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ وَالَّتِي سَتَكُونُ، وهو معطوف على أحاط، وعددا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى التَّمْيِيزِ مُحَوَّلًا من المفعول

بِهِ، أَيْ: وَأَحْصَى عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ: مَعْدُودًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ بِالْأَشْيَاءِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ، بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، أَيْ: أَحْصَى كُلَّ فَرْدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى حِدَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقاسِطُونَ الْعَادِلُونَ عَنِ الْحَقِّ. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ قَالَ: أَقَامُوا مَا أَمَرُوا بِهِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً قَالَ: مَعِينًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ السدّي قال: قال عمر: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قَالَ: حَيْثُمَا كَانَ الْمَاءُ كَانَ الْمَالُ، وَحَيْثُمَا كَانَ الْمَالُ كَانَتِ الْفِتْنَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قَالَ: لِنَبْتَلِيَهُمْ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً قال: مشقّة مِنَ الْعَذَابِ يُصَعَّدُ فِيهَا. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً قَالَ: جَبَلًا فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا عَذاباً صَعَداً قَالَ: لَا رَاحَةَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ إِلَّا مَسْجِدَ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدُ إِيلِيَّاءَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى نَوَاحِي مَكَّةَ فَخَطَّ لِي خَطًّا، وَقَالَ: لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى آتِيَكَ» ثُمَّ قَالَ: «لَا يَهُولَنَّكَ شيء تَرَاهُ» فَتَقَدَّمَ شَيْئًا ثُمَّ جَلَسَ فَإِذَا رِجَالٌ سُودٌ كَأَنَّهُمْ رِجَالُ الزُّطِّ، وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: «لَمَّا سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ كَادُوا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْحِرْصِ لِمَا سَمِعُوهُ، وَدَنَوْا مِنْهُ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ حَتَّى أَتَاهُ الرَّسُولُ، فَجَعَلَ يُقْرِئُهُ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: «لَمَّا أَتَى الجنّ إلى رسول الله وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ يَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ، فَعَجِبُوا مِنْ طَوَاعِيَةِ أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا لِقَوْمِهِمْ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ أَيْ: يَدْعُو اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قَالَ: أَعْوَانًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً- إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ قال: أعلم الله الرسل من الغيب الوحي، وأظهرهم عليه، ممّا أوحى إليهم مِنْ غَيْبِهِ، وَمَا يَحْكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ غَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا رَصَداً قَالَ: هِيَ مُعَقِّبَاتٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَ رَسُولَ اللَّهِ مِنَ الشياطين حتى يبيّن الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بِهِ، وَذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ أَهْلُ الشِّرْكِ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ. وَأَخْرَجَ ابن مردويه عنه أيضا قال: ما أنزل اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا وَمَعَهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهَا حَتَّى يُؤَدُّوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَرَأَ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً- إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الْأَرْبَعَةَ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ.

سورة المزمل

سورة المزّمّل هي تسع عشرة آية، وقيل عشرون آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرٍ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ «1» وَالَّتِي تَلِيهَا. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ «2» إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَإِنَّهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ بِمَكَّةَ إِلَّا آيَتَيْنِ «3» إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى «4» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، فَقَالُوا: سَمُّوا هَذَا الرَّجُلَ اسْمًا تَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهُ، فَقَالُوا: كَاهِنٌ، قَالُوا: لَيْسَ بِكَاهِنٍ قَالُوا: مَجْنُونٌ، قَالُوا: لَيْسَ بِمَجْنُونٍ قَالُوا: سَاحِرٌ، قَالُوا: لَيْسَ بِسَاحِرٍ، فَتَفَرَّقَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَبَلَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَمَّلَ فِي ثِيَابِهِ وَتَدَثَّرَ فِيهَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فقال: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «5» يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «6» قَالَ الْبَزَّارُ: بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْ طَرِيقِ مُعَلَّى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّ مُعَلَّى قَدْ حَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاحْتَمَلُوا حَدِيثَهُ، لَكِنَّهُ إِذَا تَفَرَّدَ بِالْأَحَادِيثِ لَا يُتَابِعُ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَصَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةَ مِنْهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ، فَحَزَّرْتُ قِيَامَهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِقَدْرِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)

_ (1) . المزمل: 10. (2) . المزمل: 20. (3) . كذا في الأصل، والصواب: آية. (4) . المزمل: 20. (5) . المزمل: 1. (6) . المدثر: 1.

قوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أَصْلُهُ الْمُتَزَمِّلُ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ، وَالتَّزَمُّلُ: التَّلَفُّفُ فِي الثَّوْبِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «الْمُزَّمِّلُ» بِالْإِدْغَامِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: «الْمُتَزَمِّلُ» عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنَّ ثَبِيرًا فِي أَفَانِينَ وَبْلِهِ ... كبير أناس في بجاد مُزَّمِّلِ وَهَذَا الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّهُ كَانَ يَتَزَمَّلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثِيَابِهِ فِي أَوَّلِ مَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ فِرَقًا مِنْهُ حَتَّى أَنِسَ بِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بِالنُّبُوَّةِ وَالْمُلْتَزِمُ لِلرِّسَالَةِ. وَبِهَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَكَانَ يَقْرَأُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً اسْمُ مَفْعُولٍ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَزَمَّلَ بِثِيَابِهِ لِمَنَامِهِ، وَقِيلَ: بَلَغَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سُوءُ قَوْلٍ، فَتَزَمَّلَ فِي ثِيَابِهِ وَتَدَثَّرَ، فنزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ صَوْتَ الْمَلِكَ وَنَظَرَ إِلَيْهِ أَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ، فَأَتَى أَهْلَهُ وَقَالَ: زَمَّلُونِي دَثِّرُونِي، وَكَانَ خِطَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْخِطَابِ فِي أَوَّلِ نُزُولِ الْوَحْيِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ خُوطِبَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: قُمْ لِلصَّلَاةِ فِي اللَّيْلِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُمِ بِكَسْرِ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وقرأ أبو السّمّال بِضَمِّهَا اتِّبَاعًا لِضَمَّةِ الْقَافِ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّي: الْغَرَضُ بِهَذِهِ الْحَرَكَةِ الْهَرَبُ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَبِأَيِّ حَرَكَةٍ تُحَرِّكُ فَقَدْ وَقَعَ الْغَرَضُ. وَانْتِصَابُ اللَّيْلِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قُمْ: صِلِّ، عَبَّرَ بِهِ عَنْهُ وَاسْتُعِيرَ لَهُ. وَاخْتُلِفَ: هَلْ كَانَ هَذَا الْقِيَامُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ فَرْضًا عَلَيْهِ أَوْ نَفْلًا؟ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ: صَلِّ اللَّيْلَ كُلَّهُ إِلَّا يَسِيرًا مِنْهُ، وَالْقَلِيلُ مِنَ الشَّيْءِ: هُوَ مَا دُونَ النِّصْفِ، وَقِيلَ: مَا دُونَ السُّدْسِ. وَقِيلَ: مَا دُونَ الْعُشْرِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ هُنَا الثُّلْثُ، وَقَدْ أَغْنَانَا عَنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ قَوْلُهُ: نِصْفَهُ إِلَخْ، وَانْتِصَابُ «نِصْفَهُ» عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّيْلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «نِصْفَهُ» بَدَلٌ مِنَ اللَّيْلِ، وَ «إِلَّا قَلِيلًا» اسْتِثْنَاءٌ مِنَ النِّصْفِ، وَالضَّمِيرُ فِي «منه» و «عليه» عَائِدٌ إِلَى النِّصْفِ. وَالْمَعْنَى: قُمْ نِصْفَ اللَّيْلِ، أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ قَلِيلًا إِلَى الثُّلْثَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُمْ ثُلْثَيِ اللَّيْلِ، أَوْ نِصْفَهُ، أَوْ ثُلْثَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ «نِصْفَهُ» بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ «قَلِيلًا» ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا نِصْفَهُ، أَوْ أَقَلَّ مَنْ نِصْفِهِ، أَوْ أَكْثَرَ مَنْ نِصْفِهِ، قَالَ الْأَخْفَشُ: نِصْفَهُ أَيْ: أَوْ نِصْفَهُ، كَمَا يُقَالُ: أَعْطِهِ دِرْهَمًا، دِرْهَمَيْنِ، ثَلَاثَةً، يُرِيدُ أَوْ دِرْهَمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَوِ انْقُصْ مِنَ النِّصْفِ قَلِيلًا إِلَى الثُّلُثِ، أَوْ زِدْ عَلَى النِّصْفِ إِلَى الثُّلُثَيْنِ، جُعِلَ لَهُ سَعَةٌ فِي مُدَّةِ قِيَامِهِ فِي اللَّيْلِ، وَخَيَّرَهُ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ لِلْقِيَامِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ يَقُومُونَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَادِيرِ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، أَوْ كَمْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ، فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ في «منه» و «عليه» رَاجِعَانِ لِلْأَقَلِّ مِنَ النِّصْفِ، كَأَنَّهُ قَالَ: قُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِهِ، أَوْ قُمْ أَنْقَصَ مِنْ ذَلِكَ الْأَقَلِّ، أَوْ أَزْيَدَ مِنْهُ قَلِيلًا، وَهُوَ بِعِيدٌ جِدًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ «نِصْفَهُ» بَدَلٌ مِنْ «قَلِيلًا» ، وَالضَّمِيرَانِ رَاجِعَانِ إِلَى النِّصْفِ الْمُبْدَلِ مِنْ «قليلا» .

وَاخْتُلِفَ فِي النَّاسِخِ لِهَذَا الْأَمْرِ، فَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ «1» إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ «2» وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى «3» وَقِيلَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَبِهَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ كَيْسَانَ، وَقِيلَ: هو قوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ «4» وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَلَوْ قَدْرَ حَلْبِ شَاةٍ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أَيِ: اقْرَأْهُ عَلَى مَهْلٍ مَعَ تَدَبُّرٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: اقْرَأْهُ حَرْفًا حَرْفًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ أَنْ يُبَيِّنَ جَمِيعَ الْحُرُوفِ، وَيُوَفِّيَ حَقَّهَا مِنَ الْإِشْبَاعِ. وَأَصْلُ التَّرْتِيلِ: التَّنْضِيدُ وَالتَّنْسِيقُ وَحُسْنُ النِّظَامِ، وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْتَبِسُ فِيهِ بَعْضُ الْحُرُوفِ بِبَعْضٍ، وَلَا يَنْقُصُ مِنَ النُّطْقِ بِالْحَرْفِ مِنْ مخرجه المعلوم من اسْتِيفَاءِ حَرَكَتِهِ الْمُعْتَبَرَةِ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا أَيْ: سَنُوحِي إِلَيْكَ الْقُرْآنَ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَقِيلٌ. قَالَ قَتَادَةُ: ثَقِيلٌ وَاللَّهِ فَرَائِضُهُ وَحُدُودُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ. قَالَ الْحَسَنُ: الْعَمَلُ بِهِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: ثَقِيلًا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ثَقِيلٌ على المنافقين والكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم، والبيان لضلالهم، وسبّ آلهتهم. وقال السدّي: ثقيل بمعنى: كريم، ومن قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ ثَقِيلٌ عَلَيَّ، أَيْ: يَكْرُمُ عَلَيَّ، قَالَ الْفَرَّاءُ: ثَقِيلًا: رَزِينًا لَيْسَ بِالْخَفِيفِ السَّفْسَافِ لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّنَا. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: ثَقِيلًا لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا قَلْبٌ مُؤَيَّدٌ بِالتَّوْفِيقِ، وَنَفْسٌ مُزَيَّنَةٌ بِالتَّوْحِيدِ. وَقِيلَ: وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ ثَقِيلًا حَقِيقَةً لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَضَعَتْ جِرَانَهَا «5» عَلَى الْأَرْضِ، فَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَحَرَّكَ حَتَّى يُسَرِّيَ «6» عَنْهُ إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أَيْ: سَاعَاتُهُ وَأَوْقَاتُهُ، لِأَنَّهَا تَنْشَأُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا، يُقَالُ: نَشَأَ الشَّيْءُ يَنْشَأُ إِذَا ابْتَدَأَ وَأَقْبَلَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَهُوَ نَاشِئٌ، وَأَنْشَأَهُ اللَّهُ فَنَشَأَ، وَمِنْهُ نَشَأَتِ السَّحَابُ إِذَا بدأت، فناشئة فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة. قال الزجاج: ناشئة اللَّيْلِ كُلُّ مَا نَشَأَ مِنْهُ أَيْ حَدَثَ، فَهُوَ نَاشِئَةٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اللَّيْلُ كُلُّهُ نَاشِئَةٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّ سَاعَاتِ اللَّيْلِ النَّاشِئَةُ، فَاكْتَفَى بِالْوَصْفِ عَنِ الِاسْمِ الْمَوْصُوفِ. وَقِيلَ: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ النَّفْسُ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِهَا لِلْعِبَادَةِ: أَيْ تَنْهَضُ، مِنْ نَشَأَ مِنْ مَكَانِهِ: إِذَا نَهَضَ. وَقِيلَ: النَّاشِئَةُ بِالْحَبَشِيَّةِ قِيَامُ الليل، وقيل: إنما يقال لقيام الليل ناشئة إِذَا كَانَ بَعْدَ نَوْمٍ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: إِذَا نِمْتَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ ثُمَّ قُمْتَ فتلك المنشأة والنشأة، ومنه: ناشئة الليل. قيل: وَنَاشِئَةُ اللَّيْلِ هِيَ: مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، لِأَنَّ مَعْنَى نَشَأَ ابْتَدَأَ، وَمِنْهُ قَوْلُ نُصَيْبٍ: وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ صِبَا نُصَيْبُ ... لَقُلْتُ بِنَفْسِيَ النّشأ الصّغار قَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ: بُدُوُّ اللَّيْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: هِيَ فِي اللَّيْلِ كُلِّهِ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ بَعْدَ النَّهَارِ، وَاخْتَارَ هَذَا مَالِكٌ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هِيَ الْقِيَامُ مِنْ آخر الليل. قال في الصحاح: ناشئة الليل أوّل

_ (1) . المزمل: 20. (2) . المزمل: 20. [.....] (3) . المزمل: 20. (4) . المزمل: 20. (5) . «جرانها» : أي صدرها. (6) . أي الوحي.

سَاعَاتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ مَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى الصُّبْحِ. هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَطْئاً بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، مَقْصُورَةٌ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْمُغِيرَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الطَّاءِ مَمْدُودَةٌ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، فَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: أَنَّ الصَّلَاةَ فِي نَاشِئَةِ اللَّيْلِ أَثْقَلُ عَلَى الْمُصَلِّي مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ لِأَنَّ اللَّيْلَ لِلنَّوْمِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَعْنَى أَنَّهَا أَثْقَلُ عَلَى الْمُصَلِّي مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ، مِنْ قَوْلِ العرب: اشتدّت على القوم وطأة السُّلْطَانِ إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرٍ» . وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا أَشَدُّ مُوَاطَأَةً، أَيْ: مُوَافَقَةً، مِنْ قَوْلِهِمْ: وَاطَأْتُ فُلَانًا عَلَى كَذَا مُوَاطَأَةً وَوَطَاءً إِذَا وَافَقْتُهُ عَلَيْهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَيْ أَشَدُّ مُوَافَقَةً بَيْنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لِانْقِطَاعِ الْأَصْوَاتِ وَالْحَرَكَاتِ فِيهَا، وَمِنْهُ: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ «1» أَيْ: لِيُوَافِقُوا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَشَدُّ قِيَامًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ أَثْبَتُ لِلْعَمَلِ، وَأَدُومُ لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَاللَّيْلُ وَقْتُ الْفَرَاغِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْمَعَاشِ، فَعِبَادَتُهُ تَدُومُ وَلَا تَنْقَطِعُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَشَدُّ نَشَاطًا. وَأَقْوَمُ قِيلًا أَيْ: وَأَشَدُّ مَقَالًا وَأَثْبَتُ قِرَاءَةً لِحُضُورِ الْقَلْبِ فِيهَا وَهُدُوءِ الْأَصْوَاتِ، وَأَشَدُّ اسْتِقَامَةً وَاسْتِمْرَارًا عَلَى الصَّوَابِ لِأَنَّ الْأَصْوَاتَ فِيهَا هَادِئَةٌ، وَالدُّنْيَا سَاكِنَةٌ، فَلَا يَضْطَرِبُ عَلَى الْمُصَلِّي مَا يَقْرَؤُهُ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ أَصْوَبُ لِلْقِرَاءَةِ وَأَثْبَتُ لِلْقَوْلِ لِأَنَّهُ زَمَانُ التَّفَهُّمِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أَقْوَمُ قِيلًا أَيْ: أَشَدُّ اسْتِقَامَةً لِفَرَاغِ الْبَالِ بِاللَّيْلِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ: أَبْيَنُ قَوْلًا بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَيْ: أَتَمُّ نَشَاطًا وَإِخْلَاصًا، وَأَكْثَرَ بَرَكَةً. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَجْدَرُ أَنْ يَتَفَقَّهَ فِي الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: أَعْجَلُ إِجَابَةً لِلدُّعَاءِ. إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا قَرَأَ الْجُمْهُورُ سَبْحاً بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: تَصَرُّفًا فِي حَوَائِجِكَ وَإِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وذهابا ومجيئا، والسبح: الجري والدوران، ومنه السابح فِي الْمَاءِ لِتَقَلُّبِهِ بِبَدَنِهِ وَرِجْلَيْهِ، وَفَرَسٌ سَابِحٌ: أَيُّ: شَدِيدُ الْجَرْيِ. وَقِيلَ: السَّبْحُ: الْفَرَاغُ، أَيْ: إِنَّ لَكَ فَرَاغًا بِالنَّهَارِ لِلْحَاجَاتِ فَصَلِّ بِاللَّيْلِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ تَصَرُّفًا وَإِقْبَالًا وَإِدْبَارًا فِي حَوَائِجِكَ وَأَشْغَالِكَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً أَيْ: نَوْمًا، وَالتَّسَبُّحُ: التَّمَدُّدُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: إِنْ فَاتَكَ فِي اللَّيْلِ شَيْءٌ فَلَكَ فِي النَّهَارِ فَرَاغٌ لِلِاسْتِدْرَاكِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَأَبُو وَائِلٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ سَبْخًا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، قِيلَ: وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: الْخِفَّةُ وَالسَّعَةُ وَالِاسْتِرَاحَةُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ: سَبَّخَ اللَّهُ عَنْكَ الْحُمَّى، أَيْ: خَفَّفَهَا، وَسَبَّخَ الْحُرُّ: فَتَرَ وَخَفَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَسَبِّخْ عَلَيْكَ الْهَمَّ وَاعْلَمْ بِأَنَّهُ ... إِذَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ شَيْئًا فَكَائِنُ أَيْ: خَفِّفْ عَنْكَ الْهَمَّ. وَالتَّسْبِيخُ من القطن ما يسبّخ بَعْدَ النَّدْفِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ: فَأَرْسَلُوهُنَّ يُذْرِينَ التراب كما ... يذري سَبَائِخَ قُطْنٍ نَدْفُ أَوْتَارِ قَالَ ثَعْلَبٌ: السَّبْخُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ: التَّرَدُّدُ وَالِاضْطِرَابُ، وَالسَّبْخُ: السُّكُونُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: السَّبْخُ: النَّوْمُ وَالْفَرَاغُ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أَيِ: ادْعُهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَقِيلَ: اقْرَأْ باسم ربك في ابتداء صلاتك،

_ (1) . التوبة: 37.

وَقِيلَ: اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ لِتُوَفِّرَ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَبْعُدَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: دُمْ عَلَى ذِكْرِ رَبِّكَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَاسْتَكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى صَلِّ لِرَبِّكَ. وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أَيِ: انْقَطِعْ إِلَيْهِ انْقِطَاعًا بِالِاشْتِغَالِ بِعِبَادَتِهِ، وَالتَّبَتُّلُ: الِانْقِطَاعُ، يُقَالُ: بَتَّلْتُ الشَّيْءَ: أَيْ قَطَعْتُهُ وَمَيَّزْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَصَدَقَةٌ بَتْلَةٌ، أَيْ: مُنْقَطِعَةٌ مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا، وَيُقَالُ لِلرَّاهِبِ: مُتَبَتِّلٌ لِانْقِطَاعِهِ عَنِ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : تُضِيءُ الظَّلَامَ بِالْعَشَاءِ كَأَنَّهَا ... مَنَارَةُ مَمْسَى رَاهِبٍ «2» مُتَبَتِّلٍ. وَوَضَعَ تَبْتِيلًا مَكَانَ تَبَتُّلًا لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالتَّبَتُّلُ: رَفْضُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَالْتِمَاسُ مَا عِنْدَ اللَّهِ. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَامِرٍ بِجَرِّ «رَبِّ» عَلَى النَّعْتِ «لِرَبِّكَ» أَوِ الْبَدَلِ مِنْهُ، أَوِ الْبَيَانِ لَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرَهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ رَبُّ الْمَشْرِقِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَصْبِهِ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُفْرَدَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ «الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ» عَلَى الْجَمْعِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَالْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ، وَالْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أَيْ: إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بالربوبية فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، أَيْ: قَائِمًا بِأُمُورِكَ، وَعَوِّلْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِهَا، وَقِيلَ: كَفِيلًا بِمَا وَعَدَكَ مِنَ الْجَزَاءِ وَالنَّصْرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَذَى وَالسَّبِّ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَلَا تَجْزَعْ مِنْ ذَلِكَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أَيْ: لَا تَتَعَرَّضْ لَهُمْ، وَلَا تَشْتَغِلْ بِمُكَافَأَتِهِمْ، وَقِيلَ: الْهَجْرُ الْجَمِيلُ: الَّذِي لَا جَزَعَ فِيهِ، وَهَذَا كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أَيْ: دَعْنِي وَإِيَّاهُمْ، وَلَا تَهْتَمَّ بِهِمْ، فَإِنِّي أَكْفِيكَ أَمْرَهُمْ، وَأَنْتَقِمُ لَكَ مِنْهُمْ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ عَشَرَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: هُمْ بَنُو الْمُغِيرَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَخْبَرْتُ أَنَّهُمِ اثْنَا عَشَرَ. أُولِي النَّعْمَةِ أَيْ: أَرْبَابُ الْغِنَى وَالسَّعَةِ وَالتَّرَفُّهِ وَاللَّذَّةِ فِي الدُّنْيَا وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أَيْ: تَمْهِيلًا قَلَيِلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى: أَمْهِلْهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ، وَقِيلَ: إِلَى نُزُولِ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا بِهِمْ كَيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَمَا بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ وَعِيدٌ لَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَالْأَنْكَالُ: جَمْعُ نَكْلٍ، وَهُوَ الْقَيْدُ، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا، وقال الكلبي: الأنكال: والأغلال، وَالْأَوَّلُ أَعْرَفُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: أَتَوْكَ فَقُطِّعَتْ أَنْكَالُهُمْ «3» ... وَقَدْ كُنَّ قَبْلَكَ لَا تُقْطَعُ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ أَنْوَاعُ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ. وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: هِيَ قُيُودٌ لَا تحلّ وَجَحِيماً أي: نارا مُؤَجَّجَةٌ وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ أَيْ: لَا يَسُوغُ فِي الْحَلْقِ، بَلْ يَنْشُبُ فِيهِ، فَلَا يَنْزِلُ ولا يخرج.

_ (1) . هو امرؤ القيس. (2) . «ممسى راهب» : أي إمساؤه. (3) . في تفسير القرطبي (19/ 46) : دعاك فقطّعت أنكاله.

قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الزَّقُّومُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الضَّرِيعُ كَمَا قَالَ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ «1» قَالَ: وَهُوَ شَوْكُ الْعَوْسَجِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ شَوْكٌ يَأْخُذُ بِالْحَلْقِ لَا يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ، وَالْغُصَّةُ: الشَّجَا فِي الْحَلْقِ، وَهُوَ مَا يَنْشِبُ فِيهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَجَمْعُهَا: غُصَصٌ وَعَذاباً أَلِيماً أَيْ: وَنَوْعًا آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ غَيْرَ مَا ذُكِرَ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ انتصاب الظرف إما بذرني، أَوْ بِالِاسْتِقْرَارِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ لَدَيْنَا، أَوْ هُوَ صفة لعذاب فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: عَذَابًا وَاقِعًا يَوْمَ تَرْجُفُ، أو متعلّق بأليما. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَرْجُفُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، مَأْخُوذٌ مَنْ أَرْجَفَهَا، وَالْمَعْنَى: تَتَحَرَّكُ وَتَضْطَرِبُ بِمَنْ عَلَيْهَا، وَالرَّجْفَةُ: الزَّلْزَلَةُ وَالرِّعْدَةُ الشَّدِيدَةُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا أَيْ: وَتَكُونُ الْجِبَالُ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَالْكَثِيبُ: الرَّمْلُ الْمُجْتَمِعُ، وَالْمَهِيلُ: الَّذِي يَمُرُّ تَحْتَ الْأَرْجُلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَيْ رَمْلًا سَائِلًا، يُقَالُ لِكُلِّ شَيْءٍ أَرْسَلْتُهُ إِرْسَالًا مِنْ تُرَابٍ أَوْ طَعَامٍ: أَهَلْتُهُ هَيْلًا. قَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: الْمَهِيلُ: الَّذِي إِذَا وَطِئْتَهُ بِالْقَدَمِ زَلَّ مِنْ تَحْتِهَا، وَإِذَا أَخَذْتَ أَسْفَلَهُ انْهَالَ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ: عَرَفْتُ دِيَارَ زَيْنَبَ بِالْكَثِيبِ ... كَخَطِّ الْوَحْيِ فِي الْوَرَقِ الْقَشِيبِ «2» إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ الْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، أَوْ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ، أَوْ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَالرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يَعْنِي مُوسَى فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ الَّذِي أَرْسَلْنَاهُ إِلَيْهِ، وَكَذَّبَهُ، وَلَمْ يُؤْمَنْ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَمَحَلُّ الْكَافِ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى: إِنَّا أَرْسَلَنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا فَعَصَيْتُمُوهُ، كَمَا أَرْسَلَنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَاهُ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أَيْ: شَدِيدًا ثَقِيلًا غَلِيظًا، وَالْمَعْنَى: عَاقَبْنَا فِرْعَوْنَ عُقُوبَةً شَدِيدَةً غَلِيظَةً بِالْغَرَقِ وَفِيهِ تَخْوِيفٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ نَوْعُ الْعُقُوبَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ ثَقِيلًا غَلِيظًا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَطَرِ: وَابِلٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: شَدِيدًا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَمِنْهُ طَعَامٌ وَبِيلٌ إِذَا كَانَ لَا يُسْتَمْرَأُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: لَقَدْ أَكَلَتْ بَجِيلَةُ يَوْمَ لَاقَتْ ... فَوَارِسَ مَالِكٍ أَكْلًا وَبِيلَا فَكَيْفَ تَتَّقُونَ أَيْ: كَيْفَ تَقُونَ أَنْفُسَكُمْ إِنْ كَفَرْتُمْ أَيْ: إِنْ بَقِيتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ يَوْماً أَيْ: عَذَابَ يَوْمٍ يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً لِشِدَّةِ هَوْلِهِ، أَيْ: يَصِيرُ الْوِلْدَانُ شُيُوخًا، وَالشَّيْبُ: جَمْعُ أَشْيَبَ، وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ كَذَلِكَ، أَوْ تَمْثِيلًا لِأَنَّ مَنْ شَاهَدَ الْهَوْلَ الْعَظِيمَ تَقَاصَرَتْ قُوَاهُ، وَضَعُفَتْ أَعْضَاؤُهُ، وَصَارَ كَالشَّيْخِ فِي الضَّعْفِ وَسُقُوطِ الْقُوَّةِ، وَفِي هَذَا تَقْرِيعٌ لَهُمْ شَدِيدٌ وَتَوْبِيخٌ عَظِيمٌ. قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ كَيْفَ تَتَّقُونَ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوَلَدَانَ شِيبًا إِنْ كَفَرْتُمْ، وكذا قرأ ابن مسعود وعطية، و «يوما» مَفْعُولٌ بِهِ لِتَتَّقُونِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَمِنْهُمْ مَنْ نَصَبَ الْيَوْمَ بِكَفَرْتُمْ، وَهَذَا قَبِيحٌ. وَالْوَلَدَانُ: الصبيان. ثم زاد في

_ (1) . الغاشية: 6. (2) . «الوحي» : - هنا- الكتابة. «القشيب» : الجديد.

وَصْفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالشِّدَّةِ فَقَالَ: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ أي: متشققة به بشدّته وَعَظِيمِ هَوْلِهِ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ أُخْرَى لِيَوْمٍ، وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى فِي، أَيْ: مُنْفَطِرٌ فِيهِ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: مُنْفَطِرٌ لَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ مُنْفَطِرٌ وَلَمْ يَقُلْ مُنْفَطِرَةٌ لِتَنْزِيلِ السَّمَاءِ مُنْزِلَةَ شَيْءٍ لِكَوْنِهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالشَّيْءِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: لَمْ يَقُلْ مُنْفَطِرَةٌ لِأَنَّ مَجَازَهَا «1» السَّقْفُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءَ إِلَيْهِ قَوْمًا ... لَحِقْنَا بِالسَّمَاءِ وَبِالسَّحَابِ فَيَكُونُ هَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَقَالَ الْفَرَّاءُ: السَّمَاءُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ الجراد المنتشر، والشجر الأخضر، وأَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «2» قَالَ أَيْضًا: أَيِ السَّمَاءُ ذَاتُ انْفِطَارٍ كَقَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ، أَيْ: ذَاتُ إِرْضَاعٍ عَلَى طَرِيقِ النَّسَبِ، وَانْفِطَارُهَا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ «3» وَقَوْلُهُ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ «4» وَقِيلَ: مُنْفَطِرٌ بِهِ، أَيْ: بِاللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أَيْ: وَكَانَ وَعْدُ اللَّهِ بِمَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، أَوْ: وَكَانَ وَعْدُ الْيَوْمِ مَفْعُولًا، فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ وَعْدُهُ أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، قالت: ألست تقرأ هذه السورة يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «5» قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا فِي السَّمَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ أَنْزَلَ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا مِنْ بَعْدِ فَرْضِهِ» وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ أَوَّلُ الْمُزَّمِّلِ كَانُوا يَقُومُونَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَزَلَ آخِرُهَا، وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا نَحْوٌ مَنْ سُنَّةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ نَصْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قَامُوا حَوْلًا حَتَّى وَرِمَتْ أقدامهم وسوقهم حتى نزلت: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ «6» فَاسْتَرَاحَ النَّاسُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ نَصْرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي الْمُزَّمِّلِ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا- نِصْفَهُ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِيهَا عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَنَاشِئَةُ اللَّيْلِ أَوَّلُهُ. كانت صَلَاتُهُمْ أَوَّلَ اللَّيْلِ. يَقُولُ: هَذَا أَجْدَرُ أَنْ تُحْصُوا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ قِيَامِ الليل، وذلك أن الإنسان

_ (1) . «مجازها» : معناها. (2) . القمر: 20. (3) . الانفطار: 1. (4) . الشورى: 5. [.....] (5) . المزمل: 1. (6) . المزمل: 20.

إِذَا نَامَ لَمْ يَدْرِ مَتَى يَسْتَيْقِظُ. وَقَوْلُهُ: أَقْوَمُ قِيلًا هُوَ أَجْدَرُ أَنْ يَفْقَهَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا يَقُولُ: فَرَاغًا طَوِيلًا. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عنه في قوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قَالَ: زَمَّلْتُ هَذَا الْأَمْرَ فَقُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ أَيْضًا قَالَ: يَتَزَمَّلُ «1» بِالثِّيَابِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ أَيْضًا وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قَالَ: تَقْرَأُ آيَتَيْنِ ثَلَاثًا ثُمَّ تَقْطَعُ لَا تُهْدِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْهُ أَيْضًا وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قَالَ: بَيَّنَهُ تَبْيِّينًا. وَأَخْرَجَ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْمَوَاعِظِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ نَصْرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَضَعَتْ جُرَانَهَا، فَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَحَرَّكَ حَتَّى يُسَرِّيَ عَنْهُ، وَتَلَتْ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ نَصْرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ قَالَ: قِيَامُ اللَّيْلِ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، إِذَا قَامَ الرَّجُلُ قَالُوا: نَشَأَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أَوَّلُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ نَصْرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: اللَّيْلُ كُلُّهُ نَاشِئَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ناشِئَةَ اللَّيْلِ بِالْحَبَشَةِ قِيَامُ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ نَصْرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: ناشِئَةَ اللَّيْلِ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ نَصْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا قَالَ: السَّبْحُ: الْفَرَاغُ لِلْحَاجَةِ وَالنَّوْمِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا لَمْ يَكُنْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا قَالَ: قُيُودًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ قَالَ: شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كَثِيباً مَهِيلًا قَالَ: الْمَهِيلُ الَّذِي إِذَا أَخَذْتَ مِنْهُ شَيْئًا تَبِعَكَ آخِرُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا كَثِيباً مَهِيلًا قَالَ: الرَّمْلُ السَّائِلُ، وَفِي قَوْلِهِ: أَخْذاً وَبِيلًا قَالَ: شَدِيدًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: قُمْ فَابْعَثْ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ، قَالَ: مِنْ كَمْ يَا رَبِّ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَيَنْجُو وَاحِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ حِينَ أَبْصَرَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ: إِنَّ بَنِي آدَمَ كَثِيرٌ، وَإِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، إِنَّهُ لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَرِثَهُ لِصُلْبِهِ أَلْفُ رَجُلٍ، فَفِيهِمْ وَفِي أَشْبَاهِهِمْ جُنَّةٌ لَكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ بِأَخْصَرَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ

_ (1) . في الدر المنثور (8/ 312) : يتدثر.

[سورة المزمل (73) : الآيات 19 إلى 20]

ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ قَالَ: مُمْتَلِئَةٌ، بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: مُثْقَلَةٌ مُوَقَّرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الآية قال: يعني تشقق السماء. [سورة المزمل (73) : الآيات 19 الى 20] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هذِهِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالتَّذْكِرَةِ: الْمَوْعِظَةِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى جميع آيات القرآن، لا إِلَى مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَطْ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أَيِ: اتَّخَذَ بِالطَّاعَةِ الَّتِي أَهَمُّ أَنْوَاعِهَا التَّوْحِيدُ إِلَى رَبِّهِ طَرِيقًا تُوَصِّلُهُ إِلَى الْجَنَّةِ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ مَعْنَى أَدْنَى: أَقَلُّ، اسْتُعِيرَ لَهُ الْأَدْنَى لِأَنَّ الْمَسَافَةَ بين الشّيئين إِذَا دَنَتْ قَلَّ مَا بَيْنَهُمَا وَنِصْفَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى أَدْنَى وَثُلُثَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى نِصْفِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ أَقَلَّ مِنْ ثُلْثَيِ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ نِصْفَهُ، وَيَقُومُ ثُلْثَهُ، وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكُوفِيُّونَ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بِالْجَرِّ، عَطْفًا عَلَى ثُلْثَيِ اللَّيْلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ أَقَلَّ مِنْ ثُلْثَيِ اللَّيْلِ، وَأَقَلَّ مِنْ نِصْفِهِ، وَأَقَلَّ مِنْ ثُلْثِهِ، وَاخْتَارَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَكَيْفَ يَقُومُونَ نِصْفَهُ وَثُلْثَهُ وَهُمْ لَا يُحْصُونَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْقِرَاءَةُ الْأَوْلَى أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ لِأَنَّهُ قَالَ: أَقَلُّ مِنْ ثُلْثَيِ اللَّيْلِ، ثم فسر الْقِلَّةِ. وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي تَقُومُ، أَيْ: وَتَقُومُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مَعَكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أَيْ: يَعْلَمُ مَقَادِيرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى حَقَائِقِهَا، وَيَخْتَصُّ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ لَا يَفُوتُهُ عِلْمُ مَا تَفْعَلُونَ، أَيْ: أَنَّهُ يَعْلَمُ مَقَادِيرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَيَعْلَمُ قَدْرَ الَّذِي تَقُومُونَهُ مِنَ اللَّيْلِ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أَنْ لَنْ تُطِيقُوا عِلْمَ مَقَادِيرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَفِي «أَنَّ» ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَنْ تُطِيقُوا قِيَامَ اللَّيْلِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ مَا فُرِضَ كُلُّهُ قَطُّ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: لَمَّا نَزَلَ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا- نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا- أَوْ زِدْ عَلَيْهِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي مَتَى نِصْفُ اللَّيْلِ مِنْ ثُلْثِهِ فَيَقُومُ حَتَّى يُصْبِحَ مَخَافَةَ أَنْ يُخْطِئَ، فَانْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ وَانْتَقَعَتْ أَلْوَانُهُمْ، فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَخَفَّفَ عَنْهُمْ، فَقَالَ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أَيْ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ لِأَنَّكُمْ إِنْ زِدْتُمْ ثَقُلَ عَلَيْكُمْ، وَاحْتَجْتُمْ إِلَى تَكَلُّفِ مَا لَيْسَ فَرْضًا، وَإِنْ نَقَصْتُمْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ أَيْ: فَعَادَ عَلَيْكُمْ بِالْعَفْوِ، وَرَخَّصَ لَكُمْ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ. وَقِيلَ: فَتَابَ عَلَيْكُمْ مِنْ فَرْضِ الْقِيَامِ إِذْ عَجَزْتُمْ، وَأَصْلُ التَّوْبَةِ: الرُّجُوعُ، كَمَا تَقَدَّمَ فَالْمَعْنَى: رَجَعَ بِكُمْ مِنَ التَّثْقِيلِ إِلَى التَّخْفِيفِ، وَمِنَ الْعُسْرِ إلى اليسر فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي: فاقرؤوا فِي الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ مَا خَفَّ عَلَيْكُمْ وَتَيَسَّرَ لكم منه

مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْقُبُوا وَقْتًا. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ مَا نَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قال السدّي: ما تيسّر منه هو مائة آية. قال الحسن: أَيْضًا مَنْ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يُحَاجَّهُ الْقُرْآنُ: وَقَالَ كَعْبٌ: مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ مِائَةَ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وقال سعيد: خمسون آية، وقيل: معنى فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَالصَّلَاةُ تُسَمَّى قُرْآنًا كَقَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ «1» قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ قِيَامَ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ، وَالنُّقْصَانُ مِنَ النِّصْفِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَرْضًا ثَابِتًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا لِقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «2» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ طَلَبُ الِاسْتِدْلَالِ بِالسُّنَّةِ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَوَجَدْنَا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا وَاجِبَ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا الْخَمْسَ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ نَسْخٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَقِّ أُمَّتِهِ. وَقِيلَ: نُسِخَ التَّقْدِيرُ بِمِقْدَارٍ، وَبَقِيَ أَصْلُ الْوُجُوبِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ نَسْخٌ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، وَبَقِيَ فَرْضًا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَوْلَى الْقَوْلُ بِنَسْخِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي حق أمته، وليس في قوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةُ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَدْ وُجِدَتْ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنَ النَّوَافِلِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ مِنَ اللَّيْلِ فَقَدْ وُجِدَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنَ التَّطَوُّعِ. وَأَيْضًا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِقَوْلِ السَّائِلِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَالَ: «لَا، إِلَّا أَنَّ تَطَّوَّعَ» تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ غَيْرِهَا، فَارْتَفَعَ بِهَذَا وُجُوبُ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاتِهِ عَلَى الْأُمَّةِ، كَمَا ارْتَفَعَ وُجُوبُ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «3» قال الواحدي: قال المفسرون في قوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ كَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَثَبَتَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عُذْرَهُمْ فَقَالَ: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى فَلَا يُطِيقُونَ قِيَامَ اللَّيْلِ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَيْ: يُسَافِرُونَ فِيهَا لِلتِّجَارَةِ وَالْأَرْبَاحِ يَطْلُبُونَ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي مَعَاشِهِمْ، فَلَا يُطِيقُونَ قِيَامَ اللَّيْلِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَعْنِي الْمُجَاهِدِينَ فَلَا يُطِيقُونَ قِيَامَ اللَّيْلِ. ذكر سبحانه ها هنا ثَلَاثَةَ أَسْبَابٍ مُقْتَضِيَةٍ لِلتَّرْخِيصِ، وَرَفَعَ وُجُوبُ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَرَفَعَهُ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ الَّتِي تَنُوبُ بَعْضَهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ قَرِيبًا، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يَعْنِي الْمَفْرُوضَةَ، وَهِيَ الخمس لوقتها وَآتُوا الزَّكاةَ يَعْنِي الْوَاجِبَةَ فِي الْأَمْوَالِ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ: هِيَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لِأَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ وَجَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَقِيلَ: كُلُّ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أَيْ: أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ إِنْفَاقًا حَسَنًا. وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْقَرْضُ الْحَسَنُ: النَّفَقَةُ عَلَى الْأَهْلِ، وَقِيلَ: النَّفَقَةُ فِي الجهاد، وقيل: هو إخراج الزكاة

_ (1) . الإسراء: 78. (2) . الإسراء: 79. (3) . الإسراء: 79.

الْمُفْتَرَضَةِ عَلَى وَجْهٍ حَسَنٍ، فَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: وَآتُوا الزَّكاةَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ الْعُمُومَ، أَيْ: أَيُّ خَيْرٍ كَانَ مِمَّا ذُكِرَ وَمِمَّا لَمْ يُذْكَرْ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّا تُؤَخِّرُونَهُ إِلَى عِنْدِ الْمَوْتِ، أَوْ تُوصُونَ بِهِ لِيَخْرُجَ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَانْتِصَابُ خَيْرًا عَلَى أَنَّهُ ثَانِي مَفْعُولَيْ تَجِدُوهُ، وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ أَبُو السّمّال وابن السّميقع بالرفع على أن يكون هو مبتدأ، وخير خَبَرَهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا ثَانِي مَفْعُولَيْ تَجِدُوهُ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ يَرْفَعُونَ مَا بَعْدَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: تَحِنُّ إِلَى لَيْلَى وَأَنْتَ تَرَكْتَهَا ... وَكُنْتَ عَلَيْهَا بِالْمُلَاءِ أَنْتَ أَقْدَرُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا: وَأَعْظَمَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى خَيْرًا: وَقَرَأَ أبو السّمّال وابن السّميقع بِالرَّفْعِ، كَمَا قَرَأَ بِرَفْعِ خَيْرٍ وَانْتِصَابِ أَجْراً عَلَى التَّمْيِيزِ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أَيِ: اطْلُبُوا مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَخْلُونَ مِنْ ذُنُوبٍ تَقْتَرِفُونَهَا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ لِمَنِ اسْتَغْفَرَهُ، كَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِمَنِ اسْتَرْحَمَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ قَالَ: مِائَةَ آيَةٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَحَسَّنَاهُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَرَأَ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَوَّلِ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: إِنَّ الله يقول: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، لَمْ أَرَهُ إِلَّا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ» . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْبَحْثِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ هُنَا هِيَ النَّاسِخَةُ لِوُجُوبِ قيام الليل، فارجع إليه.

سورة المدثر

سورة المدّثّر وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ، وَسَيَأْتِي أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 30] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا بُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَرَآهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَرِيرٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَالنُّورِ الْمُتَلَأْلِئِ، فَفَزِعَ وَوَقَعَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ وَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي» فَدَثَّرُوهُ بِقَطِيفَةٍ، فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- قُمْ فَأَنْذِرْ ومعنى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِي قَدْ تَدَثَّرَ بِثِيَابِهِ، أَيْ: تَغَشَّى بِهَا، وَأَصْلُهُ الْمُتَدَثِّرُ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ لِتَجَانُسِهِمَا. وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ «الْمُتَدَثِّرُ» عَلَى الْأَصْلِ، وَالدِّثَارِ: هُوَ مَا يُلْبَسُ فَوْقَ الشِّعَارِ، وَالشِّعَارُ: هُوَ الَّذِي علي الْجَسَدَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمَعْنَى يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ بِالنُّبُوَّةِ وَأَثْقَالِهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مَجَازٌ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا إِذْ ذَاكَ. قُمْ فَأَنْذِرْ أَيِ: انْهَضْ فَخَوِّفَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَحَذِّرْهُمُ الْعَذَابَ إِنْ لَمْ يُسْلِمُوا، أَوْ قُمْ مِنْ مَضْجَعِكَ، أَوْ قُمْ قِيَامَ عَزْمٍ وَتَصْمِيمٍ. وَقِيلَ: الْإِنْذَارُ هُنَا هُوَ إِعْلَامُهُمْ بِنُبُوَّتِهِ، وَقِيلَ: إِعْلَامُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى قُمْ فَصَلِّ وَأْمُرْ بِالصَّلَاةِ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أَيْ: وَاخْتَصَّ سَيِّدَكَ ومالك وَمُصْلِحَ أُمُورِكَ بِالتَّكْبِيرِ، وَهُوَ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ بِالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، وَأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ كَمَا يَعْتَقِدُهُ الْكُفَّارُ، وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَاحِبَةٌ، أَوْ وَلَدٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمُرَادُ بِهِ تَكْبِيرُ التَّقْدِيسِ وَالتَّنْزِيهُ بِخَلْعِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ، وَلَا يَتَّخِذُ وَلِيًّا غَيْرَهُ، وَلَا يَعْبُدُ سِوَاهُ، وَلَا يَرَى لِغَيْرِهِ فِعْلًا إِلَّا لَهُ، وَلَا نِعْمَةً إِلَّا مِنْهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْفَاءَ فِي «فَكَبِّرْ» دَخَلَتْ عَلَى مَعْنَى الْجَزَاءِ كَمَا دَخَلَتْ فِي «فَأَنْذِرْ» . وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: هُوَ كَقَوْلِكَ زَيْدًا فَاضْرِبْ، أَيْ: زَيْدًا اضْرِبْ، فَالْفَاءُ زَائِدَةٌ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ الْمُرَادُ بها الثياب

الْمَلْبُوسَةُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَطْهِيرِ ثِيَابِهِ وَحِفْظِهَا عَنِ النَّجَاسَاتِ، وَإِزَالَةِ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالثِّيَابِ الْعَمَلُ، وَقِيلَ: الْقَلْبُ، وَقِيلَ: النَّفْسُ، وَقِيلَ: الْجِسْمُ، وَقِيلَ: الْأَهْلُ، وَقِيلَ: الدِّينُ، وَقِيلَ: الْأَخْلَاقُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَأَبُو رَزِينٍ: أَيْ عَمَلَكَ فَأَصْلِحْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَفْسَكَ فَطَهِّرْ مِنَ الذَّنَبِ، وَالثِّيَابُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّفْسِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَلْبَكَ فَطَهِّرْ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ «1» وقال عكرمة: المعنى البسها على غير غدرة وَغَيْرِ فَجْرَةٍ «2» . وَقَالَ: أَمَا سَمِعْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فإنّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ وَالشَّاعِرُ هُوَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الثِّيَابِ عَلَى النَّفْسِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ ثِيَابَهُ ... لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا بِمُحَرَّمِ وَقَوْلُ الْآخَرِ «3» : ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ «4» وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْقُرَظِيُّ: إِنَّ الْمَعْنَى: وَأَخْلَاقَكَ فَطَهِّرْ لِأَنَّ خُلُقَ الْإِنْسَانِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَحْوَالِهِ اشْتِمَالَ ثِيَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَيَحْيَى لَا يُلَامُ بِسُوءِ خُلْقٍ ... وَيَحْيَى طَاهِرُ الْأَثْوَابِ حُرُّ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَثِيَابَكَ فَقَصِّرْ لِأَنَّ تَقْصِيرَ الثَّوْبِ أَبْعَدُ مِنَ النَّجَاسَاتِ إِذَا انْجَرَّ عَلَى الْأَرْضِ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ. وَلَيْسَ فِي اسْتِعْمَالِ الثِّيَابِ مَجَازٌ عَنْ غَيْرِهَا لِعَلَاقَةٍ مَعَ قَرِينَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَيْسَ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ، أَعْنِي: الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ خِلَافٌ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ طَهَارَةِ الثِّيَابِ فِي الصَّلَاةِ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ الرُّجْزَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْعَذَابُ، وَفِيهِ لُغَتَانِ كَسْرُ الرَّاءَ وَضَمُّهَا، وَسُمِّيَ الشِّرْكُ وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ رِجْزًا لِأَنَّهَا سَبَبُ الرِّجْزِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرِّجْزُ بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَحَفْصٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: الرُّجْزُ الْأَوْثَانُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: الرِّجْزُ: الْمَأْثَمُ، وَالْهَجْرُ: التَّرْكُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الرِّجْزُ: إِسَافٌ وَنَائِلَةُ، وَهُمَا صَنَمَانِ كَانَا عِنْدَ الْبَيْتِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَالْكِسَائِيُّ: الرُّجْزُ بِالضَّمِّ الْوَثَنُ وَبِالْكَسْرِ الْعَذَابُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الرِّجْزُ بِضَمِّ الرَّاءِ الْوَعِيدُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَمْنُنْ بِفَكِّ الْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ الحسن

_ (1) . وصدر البيت: وإن كنت قد ساءتك منّي خليقة. (2) . «الفجرة» : الكذبة العظيمة. (3) . هو ابن أبي كبشة، وينسب لامرئ القيس. (4) . وعجز البيت: وأوجههم بيض المسافر غرّان.

وَأَبُو الْيَمَانِ «1» وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ بِالْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَسْتَكْثِرُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، أَيْ: وَلَا تَمْنُنْ حَالَ كَوْنِكَ مُسْتَكْثِرًا، وَقِيلَ: عَلَى حَذْفِ أَنْ، وَالْأَصْلُ: وَلَا تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ، فَلَمَّا حذفت رفع. قال الكسائي: فإذا حذف أَنْ رُفِعَ الْفِعْلُ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ والأعمش تَسْتَكْثِرُ بالنصب على تقدير أن وبقاء عملها، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود «ولا تمنن أن تَسْتَكْثِرْ» بِزِيَادَةِ أَنْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ تَسْتَكْثِرُ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ تَمْنُنْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَلْقَ أَثاماً- يُضاعَفْ لَهُ «2» ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا أَوِ الْجَزْمُ لِإِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا «3» مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ بِتَسْكِينِ أَشْرَبْ. وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ «تَسْتَكْثِرُ» لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ «تَمْنُنْ» ، لِأَنَّ الْمَنَّ غَيْرُ الِاسْتِكْثَارِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلنَّهْيِ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَمْنُنْ عَلَى رَبِّكَ بِمَا تَتَحَمَّلُهُ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ كَالَّذِي يَسْتَكْثِرُ مَا يَتَحَمَّلُهُ بِسَبَبِ الْغَيْرِ، وَقِيلَ: لَا تُعْطِ عَطِيَّةً تَلْتَمِسُ فِيهَا أَفْضَلَ مِنْهَا، قَالَهُ عكرمة وقتادة. قال الضحاك: هذا ما حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَشْرَفِ الْآدَابِ وَأَجَلِّ الْأَخْلَاقِ، وَأَبَاحَهُ لِأُمَّتِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنَ الْخَيْرِ، مِنْ قَوْلِكَ: «حَبْلٌ مَتِينٌ» إِذَا كَانَ ضَعِيفًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: لَا تُعَظِّمُ عَمَلَكَ فِي عَيْنِكِ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَالَ ابْنُ كيسان: لا تستكثر عملك فَتَرَاهُ مِنْ نَفْسِكَ، إِنَّمَا عَمَلُكَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكَ إِذْ جَعَلَ لَكَ سَبِيلًا إِلَى عِبَادَتِهِ. وَقِيلَ: لَا تَمْنُنْ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ عَلَى الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَا تُعْطِ مَالَكَ مُصَانَعَةً. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِذَا أَعْطَيْتَ عَطِيَّةً فَأَعْطِهَا لِرَبِّكَ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أَيْ: لِوَجْهِ رَبِّكَ فَاصْبِرْ عَلَى طَاعَتِهِ وَفَرَائِضِهِ، وَالْمَعْنَى: لِأَجْلِ رَبِّكَ وَثَوَابِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ: اصْبِرْ عَلَى الْأَذَى وَالتَّكْذِيبِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَمَلْتَ أَمْرًا عَظِيمًا فَحَارَبَتْكَ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ فَاصْبِرْ عَلَيْهِ لِلَّهِ. وَقِيلَ: اصْبِرْ تَحْتَ مَوَارِدِ الْقَضَاءِ لِلَّهِ، وَقِيلَ: فَاصْبِرْ عَلَى الْبَلْوَى، وَقِيلَ: عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ النَّاقُورُ: فَاعُولٌ مِنَ النَّقْرِ، كَأَنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنْقَرَ فِيهِ لِلتَّصْوِيتِ، وَالنَّقْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الصَّوْتُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أُخَفِّضُهُ بِالنَّقْرِ لَمَّا عَلَوْتُهُ «4»

_ (1) . في تفسير القرطبي: أبو السّمّال. (2) . الفرقان: 68- 69. (3) . «استحقب الإثم» : ارتكبه. (4) . وعجز البيت: ويرفع طرفا غير خاف غضيض. [.....]

وَيَقُولُونَ: نَقَرَ بِاسْمِ الرَّجُلِ إِذَا دَعَاهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا النَّفْخُ فِي الصُّورِ، وَالْمُرَادُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ، وَقِيلَ: الْأُولَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ النَّحْلِ، وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ، فَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَوْمٌ هَائِلٌ يَلْقَوْنَ فِيهِ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ، وَالْعَامِلُ فِي «إِذًا» مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ- عَلَى الْكافِرِينَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ عَسُرَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَا دلّ علي فَذلِكَ لأنه إشارة إلى النقر، و «يومئذ» بَدَلٌ مَنْ «إِذَا» ، أَوْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ «يَوْمٌ عَسِيرٌ» ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ فَذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ ظَرْفٌ لِلْخَبَرِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وُقُوعُ يَوْمٍ عَسِيرٍ، وَقَوْلُهُ: غَيْرُ يَسِيرٍ تَأْكِيدٌ لِعُسْرِهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ كَوْنَهُ غَيْرَ يَسِيرٍ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: «يَوْمٌ عَسِيرٌ» . ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أَيْ: دَعْنِي، وَهِيَ كَلِمَةُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ، وَالْمَعْنَى: دَعْنِي وَالَّذِي خَلَقْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ وَحِيدًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، هَذَا عَلَى أَنَّ «وَحِيدًا» مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَوْصُولِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْيَاءِ فِي «ذَرْنِي» ، أَيْ: دَعْنِي وَحْدِي مَعَهُ، فَإِنِّي أَكْفِيكَ فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ: خَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأَنَا أَنْفَرِدُ بِهَلَكَتِهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِمَزِيدِ كُفْرِهِ وَعَظِيمِ جُحُودِهِ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْوَحِيدِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَبُوهُ، وَكَانَ يُقَالُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّهُ دُعِيَ. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً أَيْ: كَثِيرًا، أَوْ يَمُدُّ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَالًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَشْهُورًا بِكَثْرَةِ الْمَالِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، قِيلَ: كَانَ يُحَصَّلُ لَهُ مِنْ غَلَّةِ أَمْوَالِهِ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَقِيلَ: أَلْفُ دِينَارٍ. وَبَنِينَ شُهُوداً أَيْ: وَجَعَلْتُ لَهُ بَنَيْنَ حُضُورًا بِمَكَّةَ مَعَهُ لَا يُسَافِرُونَ وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّفَرُّقِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ لِكَثْرَةِ مَالِ أَبِيهِمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانُوا سَبْعَةً وُلِدُوا بِمَكَّةَ. وَخَمْسَةً وُلِدُوا بِالطَّائِفِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَلَدًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا سَبْعَةً كُلُّهُمْ رِجَالٌ، أَسْلَمَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ خَالِدٌ وَهُشَامٌ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَمَا زَالَ الْوَلِيدُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي نُقْصَانٍ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى هَلَكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى شُهُودًا أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ ذُكِرُوا مَعَهُ، وَقِيلَ: كَانُوا يَشْهَدُونَ مَعَهُ مَا كَانَ يَشْهَدُهُ، وَيَقُومُونَ بِمَا كَانَ يُبَاشِرُهُ. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أَيْ: بَسَطْتُ لَهُ فِي الْعَيْشِ وَطُولَ الْعُمْرِ وَالرِّيَاسَةَ فِي قُرَيْشٍ، وَالتَّمْهِيدُ عِنْدَ الْعَرَبِ: التَّوْطِئَةُ، وَمِنْهُ: مَهْدُ الصَّبِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُ الْمَالُ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ كَمَا يُمَهَّدُ الْفِرَاشُ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ أَيْ: يَطْمَعُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فِي الزِّيَادَةِ لِكَثْرَةِ حِرْصِهِ وَشِدَّةِ طَمَعِهِ مَعَ كُفْرَانِهِ لِلنِّعَمِ وَإِشْرَاكِهِ بِاللَّهِ. قَالَ الْحَسَنُ: ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فَمَا خُلِقَتِ الْجَنَّةُ إِلَّا لِي. ثُمَّ رَدَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَزَجَرَهُ فَقَالَ: كَلَّا أَيْ: لَسْتُ أَزِيدُهُ. ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أَيْ: مُعَانِدًا لَهَا كَافِرًا بِمَا أَنْزَلْنَاهُ مِنْهَا عَلَى رَسُولِنَا. يُقَالُ: عَنَدَ يَعْنِدُ بِالْكَسْرِ إِذَا خَالَفَ الْحَقَّ وَرَدَّهُ، وَهُوَ يعرفه، فهو عنيد وعاند، والعاند: البعير الَّذِي يَجُورُ عَنِ الطَّرِيقِ وَيَعْدِلُ عَنِ الْقَصْدِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِيِّ: إِذَا رَكِبْتُ فَاجْعَلَانِي وَسَطًا ... إِنِّي كَبِيرٌ لَا أُطِيقُ الْعِنْدَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ: «عَنِيدًا» مَعْنَاهُ مُبَاعِدًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَاحِدًا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مُعْرِضًا. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً

أَيْ: سَأُكَلِّفُهُ مَشَقَّةً مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ مَثَلٌ لِمَا يَلْقَاهُ مِنَ الْعَذَابِ الصَّعْبِ الَّذِي لَا يطاق، وقيل: المعنى: إنه يكلف أن يَصْعَدُ جَبَلًا مِنْ نَارٍ، وَالْإِرْهَاقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: أَنْ يَحْمِلَ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ الثَّقِيلَ. وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعِيدِ، أَيْ: إِنَّهُ فَكَّرَ فِي شَأْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدَّرَ فِي نَفْسِهِ، أَيْ: هَيَّأَ الْكَلَامَ فِي نَفْسِهِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هَيَّأْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرْتُهُ، وَقَدَّرْتُ الشَّيْءَ إِذَا هَيَّأْتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ الْقُرْآنَ لَمْ يَزَلْ يُفَكِّرُ مَاذَا يَقُولُ فِيهِ، وَقَدَّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يَقُولُ، فَذَمَّهُ اللَّهُ وَقَالَ: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أَيْ: لُعِنَ وَعُذِّبَ كَيْفَ قَدَّرَ، أَيْ: عَلَى أَيِّ حَالٍ قَدَّرَ مَا قَدَّرَ مِنَ الْكَلَامِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: لِأَضْرِبَنَّهُ كَيْفَ صَنَعَ، أَيْ: عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَتْ مِنْهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: قُهِرَ وَغُلِبَ كَيْفَ قَدَّرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إِلَّا لِتَضْرِبِي ... بِسَهْمَيْكِ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: عُذِّبَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ. وَالتَّكْرِيرُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ ثُمَّ نَظَرَ أَيْ: بِأَيِّ شَيْءٍ يَدْفَعُ الْقُرْآنَ وَيَقْدَحُ فِيهِ، أَوْ فَكَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَتَدَبَّرَ مَا هُوَ ثُمَّ عَبَسَ أَيْ: قَطَّبَ وَجْهَهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ مَطْعَنًا يَطْعَنُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْعَبْسُ: مَصْدَرُ عَبَسَ مُخَفَّفًا يَعْبِسُ عَبْسًا وَعُبُوسًا إِذَا قَطَّبَ، وَقِيلَ: عَبَسَ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: عَبَسَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَسَرَ أَيْ: كَلَّحَ وَجْهَهُ وَتَغَيَّرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : صَبَّحْنَا تَمِيمًا غَدَاةَ الجفار ... بشهباء ملمومة بَاسِرَهْ «3» وَقَوْلُ الْآخَرِ «4» : وَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا صُدُودٌ رَأَيْتُهُ ... وَإِعْرَاضُهَا عَنْ حَاجَتِي وَبُسُورُهَا وَقِيلَ: إِنَّ ظُهُورَ الْعُبُوسِ فِي الْوَجْهِ يَكُونُ بَعْدَ الْمُحَاوَرَةِ، وَظُهُورَ الْبُسُورِ فِي الْوَجْهِ قَبْلَهَا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: وَجْهٌ بَاسِرٌ إِذَا تَغَيَّرَ وَاسْوَدَّ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْبُسْرُ: اسْتِعْجَالُ الشَّرِّ قَبْلَ أَوَانِهِ، نَحْوَ بَسَرَ الرَّجُلُ حَاجَتَهُ، أَيْ: طَلَبَهَا فِي غَيْرِ أَوَانِهَا. قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ: عَبَسَ وَبَسَرَ أَيْ: أَظْهَرَ الْعُبُوسَ قَبْلَ أَوَانِهِ وَقَبْلَ وَقْتِهِ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ يَقُولُونَ: بَسَرَ الْمَرْكَبُ وَأَبْسَرَ، أَيْ: وَقَفَ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَقَدْ أُبْسِرْنَا، أَيْ: صِرْنَا إِلَى الْبُسُورِ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ أَيْ: أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ، وَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ، وَتَعَظَّمَ عَنْ أَنْ يُؤْمِنَ، فَقالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي: يأثره عن غيره ويرويه عَنْهُ. وَالسِّحْرُ: إِظْهَارُ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، أو

_ (1) . هو امرؤ القيس. (2) . هو بشر بن أبي خازم. (3) . «الجفار» : اسم موضع. «ملمومة» : مجتمعة. (4) . هو توبة بن الحمير.

الْخَدِيعَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ البقرة، يقال: أثرت الحديث آثره إِذَا ذَكَرْتُهُ عَنْ غَيْرِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: إنّ الّذي فيه تماريتما ... بَيِّنٌ لِلسَّامِعِ وَالْأَثَرْ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ يَعْنِي أَنَّهُ كَلَامُ الْإِنْسِ، وَلَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ إِرْضَاءً لِقَوْمِهِ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ أَنَّ لَهُ حَلَاوَةً، وَأَنَّ عَلَيْهِ طَلَاوَةً إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَلَمَّا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ أَيْ: سَأُدْخِلُهُ النَّارَ، وَسَقَرُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، وَمِنْ دِرْكَاتِ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ثُمَّ بَالَغَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ النَّارِ وَشِدَّةِ أَمْرِهَا فَقَالَ: وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ أَيْ: وَمَا أَعْلَمَكَ أَيُّ شَيْءٍ هِيَ؟ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا كَذَا إِذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي أَمْرِهِ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ وَتَهْوِيلِ خَطْبِهِ، وَ «مَا» الْأُولَى مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ «مَا سَقَرُ» خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. ثُمَّ فَسَّرَ حَالَهَا فَقَالَ: لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالَ سَقَرَ، وَالْكَشْفِ عَنْ وَصْفِهَا، وَقِيلَ: هِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى التَّعْظِيمُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اسْتَعْظِمُوا سَقَرَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمَفْعُولُ الْفِعْلَيْنِ مَحْذُوفٌ. قَالَ السُّدِّيُّ: لَا تُبْقِي لَهُمْ لَحْمًا وَلَا تَذْرُ لَهُمْ عَظْمًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا تُبْقِي مَنْ فِيهَا حَيًّا وَلَا تَذْرُهُ مَيْتًا، وَقِيلَ: هُمَا لَفْظَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كُرِّرَا لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِكَ: صَدَّ عَنِّي، وَأَعْرَضَ عَنِّي. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَوَّاحَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِسَقَرَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل، لاح يلوح، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَظْهَرُ لِلْبَشَرِ. قَالَ الْحَسَنُ: تَلُوحُ لَهُمْ جَهَنَّمُ حَتَّى يَرَوْنَهَا عَيَانًا كَقَوْلِهِ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى «1» وَقِيلَ: مَعْنَى لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ أَيْ: مُغَيِّرَةٌ لَهُمْ وَمُسَوِّدَةٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَاحَهُ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ وَالسَّقَمُ وَالْحُزْنُ إِذَا غَيَّرَهُ، وَهَذَا أَرْجَحُ مِنَ الْأَوَّلِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَتَعْجَبُ هِنْدٌ أَنْ رَأَتْنِي شَاحِبًا ... تقول لشيء لوّحته السّمائم «2» أَيْ: غَيَّرَتْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ: لوّح منه بعد بدن وسنق ... تلويحك الضّامر يطوى للسّبق «3»

_ (1) . النازعات: 36. (2) . «السمائم» : جمع سموم، وهي الريح الحارّة. (3) . «البدن» : السمن واكتناز اللحم. «السنق» : الشبع حتى يكون كالتخمة. «الضامر» : الفرس. «يطوى» : يجوع.

وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى أَنَّهَا مُعَطِّشَةٌ لِلْبَشَرِ، وَأَنْشَدَ: سَقَتْنِي عَلَى لَوْحٍ مِنَ الْمَاءِ شَرْبَةً ... سَقَاهَا به الله الرّهام الغواديا «1» والمراد بالبشر إِمَّا جِلْدَةُ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرَةُ كَمَا قَالَهُ الْأَكْثَرُ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْإِنْسِ كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ، عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَقُولُ: عَلَى النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُمْ خَزَنَتُهَا، وَقِيلَ: تِسْعَةَ عَشَرَ صِنْفًا مِنْ أَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: تِسْعَةَ عَشَرَ صَفًّا مِنْ صُفُوفِهِمْ، وَقِيلَ: تِسْعَةَ عَشَرَ نَقِيبًا، مَعَ كُلِّ نَقِيبٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَلَا يُنْكَرُ هَذَا، فَإِذَا كَانَ مَلَكٌ وَاحِدٌ يَقْبِضُ أَرْوَاحَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ كَانَ أَحْرَى أَنْ يَكُونُوا تِسْعَةَ عَشَرَ عَلَى عَذَابِ بَعْضِ الْخَلْقِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تِسْعَةَ عَشَرَ بِفَتْحِ الشِّينِ مِنْ عَشَرَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِإِسْكَانِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فَقَالَ لَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: يَقُولُونَ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «2» فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، قُلْتُ لَهُ مِثْلَ مَا قُلْتُ، فَقَالَ جَابِرٌ: لَا أُحَدِّثُنَّكَ إِلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالَسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بين السماء والأرض، فجثيت مِنْهُ رُعْبًا، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي فَدَثَّرُونِي، فَنَزَلَتْ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ إِلَى قَوْلِهِ: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ اقْرَأْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ، وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ. وَأَخْرَجَ الحاكم وصحّحه عن ابن عباس يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فَقَالَ: دَثِّرْ هَذَا الْأَمْرَ، فَقُمْ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم وابن مردويه عنه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فقال: النَّائِمُ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ: لَا تَكُنْ ثِيَابَكَ الَّتِي تَلْبَسُ مِنْ مَكْسَبٍ بَاطِلٍ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قَالَ: الْأَصْنَامُ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قَالَ: لَا تُعْطِ تَلْتَمِسُ بِهَا أَفْضَلَ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ أَيْضًا وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ: مِنَ الْإِثْمِ. قَالَ: وَهِيَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَقِيُّ الثِّيَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ: مِنَ الْغَدْرِ، لَا تَكُنْ غَدَّارًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قَالَ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى غَدْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَسْمَعُونَ قَوْلَ غَيْلَانَ بْنِ سلمة: فإنّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلَا من غدرة أتقنّع

_ (1) . «اللوح» : شدة العطش. «الرهام» : جمع رهمة وهي المطرة الضعيفة. (2) . العلق: 1.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْهُ أَيْضًا: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قَالَ: لَا تُعْطِ الرَّجُلَ عَطَاءَ رَجَاءٍ أَنْ يُعْطِيَكَ أَكْثَرَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ قَالَ: الصُّورِ يَوْمٌ عَسِيرٌ قَالَ: شَدِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْهُ أَيْضًا: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمُّ إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا لِيُعْطُوكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قَبِلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمُكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، وَأَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ، قال: وماذا أقول؟ فو الله مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالشِّعْرِ مِنِّي لَا بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ هَذَا الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هذا، والله إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ، قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثِرُ، يَأْثَرُهُ عَنْ غَيْرِهِ، فنزلت: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وقد أخرج هَذَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ قَوْلِهِ: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً قَالَ: غَلَّةُ شَهْرٍ بِشَهْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً قَالَ: أَلْفَ دِينَارٍ. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قَالَ: هُوَ جَبَلٌ فِي النَّارِ يُكَلِّفُونَ أَنْ يَصْعَدُوا فِيهِ، فَكُلَّمَا وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ ذَابَتْ، فَإِذَا رَفَعُوهَا عَادَتْ كَمَا كَانَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِيداً قَالَ: جَحُودًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُبَيِّ سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّعُودُ جَبَلٌ فِي النَّارِ يَصْعَدُ فِيهِ الْكَافِرُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، ثُمَّ يَهْوِي وَهُوَ كَذَلِكَ فِيهِ أَبَدًا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِيهِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ، انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَعُوداً صَخْرَةٌ فِي جَهَنَّمَ يُسْحَبُ عَلَيْهَا الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: جَبَلٌ فِي النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ قَالَ: لَا تُبْقِي مِنْهُمْ شَيْئًا، وَإِذَا بَدَّلُوا خَلْقًا آخَرَ لَمْ تَذَرْ أَنْ تُعَاوِدَهُمْ سَبِيلَ الْعَذَابِ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَيْضًا لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ قَالَ: تَلُوحُ الْجِلْدَ فَتُحْرِقَهُ وَتُغَيِّرَ لَوْنَهُ، فَيَصِيرُ أَسْوَدَ مِنَ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: لَوَّاحَةٌ قَالَ: مُحْرِقَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ الْبَرَاءِ: أَنَّ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أعلم، فجاء جبريل، فأخبر النبيّ، فنزلت عليه ساعتئذ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ.

[سورة المدثر (74) : الآيات 31 إلى 37]

[سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 37] وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَمَا لِمُحَمَّدٍ مِنَ الْأَعْوَانِ إِلَّا تِسْعَةَ عَشَرَ يُخَوِّفُكُمْ مُحَمَّدٌ بِتِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمُ الدُّهْمُ «1» ، أَفَيُعْجِزُ كُلُّ مِائَةِ رَجُلٍ مِنْكُمْ أَنْ يَبْطِشُوا بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ؟ فَقَالَ أَبُو الْأَشَدِّ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُمَحَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَأَنَا أَمْشِي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، فَأَدْفَعُ عَشَرَةً بِمَنْكِبِي الْأَيْمَنِ وَتِسْعَةً بِمَنْكِبِي الْأَيْسَرِ وَنَمْضِي نَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً يَعْنِي: مَا جَعَلْنَا الْمُدَبِّرِينَ لِأَمْرِ النَّارِ الْقَائِمِينَ بِعَذَابِ مَنْ فِيهَا إِلَّا مَلَائِكَةً، فَمَنْ يُطِيقُ الْمَلَائِكَةَ؟ وَمَنْ يَغْلِبُهُمْ؟ فَكَيْفَ تَتَعَاطَوْنَ أَيُّهَا الْكُفَّارُ مُغَالَبَتَهُمْ؟ وَقِيلَ: جَعَلَهُمْ مَلَائِكَةً لِأَنَّهُمْ خِلَافُ جِنْسِ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَلَا يَأْخُذُهُمْ مَا يَأْخُذُ الْمَجَالِسَ مِنَ الرِّقَّةِ وَالرَّأْفَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ أَقْوَمُ خَلْقِ اللَّهِ بِحَقِّهِ وَالْغَضَبِ لَهُ، وَأَشُدِّهِمْ بَأْسًا وَأَقْوَاهُمْ بَطْشًا وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً أَيْ: ضَلَالَةً لِلَّذِينَ اسْتَقَلُّوا عَدَدَهُمْ، وَمِحْنَةً لَهُمْ، وَالْمَعْنَى: مَا جَعَلْنَا عَدَدَهُمْ هَذَا الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا ضَلَالَةً وَمِحْنَةً لَهُمْ، حَتَّى قَالُوا مَا قَالُوا لِيَتَضَاعَفَ عَذَابُهُمْ، وَيَكْثُرَ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: مَعْنَى إِلَّا فِتْنَةً إِلَّا عَذَابًا كَمَا فِي قوله: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «2» أَيْ: يُعَذَّبُونَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ متعلّق بجعلنا، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِمُوَافَقَةِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِأَنَّ عِدَّةَ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ تِسْعَةَ عَشَرَ لِمَا عِنْدَهُمْ. قَالَهُ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عِدَّةَ الْخَزَنَةِ هَذِهِ الْعِدَّةَ لِيَحْصُلَ الْيَقِينُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُوَافَقَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ لِمَا فِي كُتُبِهِمْ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَقِيلَ: الْمُرَادُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالَّذِينِ آمَنُوا: الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: لِيَزْدَادُوا يَقِينًا إِلَى يَقِينِهِمْ لَمَّا رَأَوْا مِنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُمْ، وَجُمْلَةُ: وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ مُقَرِّرَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِيقَانِ وَازْدِيَادِ الْإِيمَانِ، وَالْمَعْنَى: نَفْيُ الِارْتِيَابِ عَنْهُمْ فِي الدِّينِ، أَوْ: فِي أَنَّ عِدَّةَ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَلَا ارْتِيَابَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّعْرِيضِ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ شَكٌّ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا الْمُرَادُ بِالَّذِينِ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالسُّورَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَكِّيَّةً وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ نِفَاقٌ، فَهُوَ إِخْبَارٌ بِمَا سَيَكُونُ فِي الْمَدِينَةِ، أَوِ الْمُرَادِ بِالْمَرَضِ مُجَرَّدُ حُصُولِ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، وَهُوَ كَائِنٌ فِي الْكُفَّارِ. قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ نِفَاقٌ، فَالْمَرَضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْخِلَافُ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالْكافِرُونَ كُفَّارُ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ

_ (1) . «الدهم» : العدد الكثير. (2) . الذاريات: 13.

مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، وَمَعْنَى مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أَيْ شَيْءٌ أَرَادَ بِهَذَا الْعَدَدِ الْمُسْتَغْرَبِ اسْتِغْرَابَ الْمَثَلِ. قَالَ اللَّيْثُ: الْمَثَلُ: الْحَدِيثُ، وَمِنْهُ قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ «1» أي: حديثها والخبر عَنْهَا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِضْلَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْكَافُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْمَعْنَى: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِضْلَالِ لِلْكَافِرِينَ وَالْهِدَايَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ إِضْلَالَهُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ عَنِ الْجَنَّةِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهَا مَنْ يَشَاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أي: ما يَعْلَمُ عَدَدَ خَلْقِهِ وَمِقْدَارَ جُمُوعِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى عِلْمِ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ خَلَقَهُمْ لِتَعْذِيبِ أَهْلِ النَّارِ لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ وَإِنْ كَانُوا تِسْعَةَ عَشَرَ فَلَهُمْ مِنَ الْأَعْوَانِ وَالْجُنُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى ذِكْرِ سَقَرَ فَقَالَ: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أَيْ: وَمَا سَقَرُ وَمَا ذُكِرَ مِنْ عَدَدِ خَزَنَتِهَا إِلَّا تَذْكِرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلْعَالَمِ، وَقِيلَ: وَما هِيَ أَيِ: الدَّلَائِلُ وَالْحُجَجُ وَالْقُرْآنُ إِلَّا تَذْكِرَةٌ لِلْبَشَرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نَارُ الدُّنْيَا تَذْكِرَةٌ لِنَارِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ بِعِيدٌ. وَقِيلَ: مَا هِيَ أَيْ عِدَّةُ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ إِلَّا تَذْكِرَةٌ لِلْبَشَرِ لِيَعْلَمُوا كَمَالَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَعْوَانٍ وَأَنْصَارٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَما هِيَ يَرْجِعُ إِلَى الْجُنُودِ. ثُمَّ رَدَعَ سُبْحَانَهُ الْمُكَذِّبِينَ وَزَجَرَهُمْ فَقَالَ: كَلَّا وَالْقَمَرِ قَالَ الْفَرَّاءُ: كَلَّا صِلَةٌ لِلْقِسْمِ. التَّقْدِيرُ: أَيْ وَالْقَمَرِ، وَقِيلَ: المعنى: حقا والقمر. قال ابن جرير: والمعنى رَدُّ زَعْمِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُقَاوِمُ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ، ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَمَرِ وَبِمَا بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أَيْ وَلَّى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِذَا بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ، دَبَرَ بِزِنَةِ ضَرَبَ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ: إِذْ بِدُونِ أَلِفِ، أَدْبَرَ بِزِنَةِ أَكْرَمَ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، وَدَبَرَ وَأَدْبَرَ لغتان، كما يقال: أقبل، وَقَبَلَ الزَّمَانُ، يُقَالُ: دَبَرَ اللَّيْلُ وَأَدْبَرَ إِذَا تَوَلَّى ذَاهِبًا وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أَيْ: أَضَاءَ وَتَبَيَّنَ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ هَذَا جَوَابُ الْقِسْمِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى سَقَرَ، أَيْ: إِنَّ سَقَرَ لإحدى الدواهي أو البلايا الكبر، وَالْكِبَرُ: جَمْعُ كُبْرَى، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْكُبَرَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا: أَيْ: تَكْذِيبُهُمْ لِمُحَمَّدٍ لَإِحْدَى الْكُبَرُ، وَقِيلَ: إِنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ لَإِحْدَى الْكُبَرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا ابْنَ الْمُعَلَّى نَزَلَتْ إِحْدَى الْكُبَرْ ... دَاهِيَةُ الدَّهْرِ وَصَمَّاءُ الْغِيَرْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَإِحْدَى بِالْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ في رواية عنه: إنها لحدي بِدُونِ هَمْزَةٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَرَادَ بِالْكُبَرِ دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ وَأَبْوَابَهَا نَذِيراً لِلْبَشَرِ انْتِصَابُ نَذِيرًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي إِنَّهَا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَرُوِيَ عَنْهُ وَعَنِ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: قُمْ فَأَنْذِرْ أَيْ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ فَأَنْذِرْ حَالَ كَوْنِكَ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ

_ (1) . الرعد: 35.

مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى التمييز لإحدى لتضمنها معنى التعظم كَأَنَّهُ قِيلَ: أَعْظَمُ الْكِبَرِ إِنْذَارًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِأَنْذَرَ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ: ادْعُ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ: نَادِ أَوْ بَلِّغْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّهَا لِإِحْدَى الْكُبَرُ لِأَجْلِ إِنْذَارِ الْبَشَرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ نَذِيرٌ، أَوْ هُوَ نَذِيرٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي النَّذِيرِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ النَّارُ، وَقِيلَ: محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أبو رَزِينٍ: الْمَعْنَى أَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ مِنْهَا، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ نَذِيرٌ لِلْبَشَرِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِلْبَشَرِ، أَيْ: نَذِيرًا لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الطَّاعَةِ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْذَارَ قَدْ حَصَلَ لِكُلِّ مِنْ آمَنَ وَكَفَرَ، وَقِيلَ: فَاعِلُ الْمَشِيئَةِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، أَيْ: لِمَنْ شاء أَنْ يَتَقَدَّمَ مِنْكُمْ بِالْإِيمَانِ أَوْ يَتَأَخَّرَ بِالْكُفْرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى النَّارِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، أَوْ يَتَأَخَّرَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا سَمِعَ أَبُو جَهْلٍ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ. قَالَ لِقُرَيْشٍ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، أَسْمَعُ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمُ الدُّهْمُ «1» ، أَفَيَعْجَزُ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْكُمْ أَنْ يَبْطِشُوا بِرَجُلٍ مِنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: قَالَ أَبُو الْأَشَدِّ: خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ أَنَا أَكْفِيكُمْ مؤونتهم، قال: وحدّثت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ خُزَّانَ جَهَنَّمَ فَقَالَ: «كَأَنَّ أَعْيُنَهُمُ الْبَرْقُ، وَكَأَنَّ أَفْوَاهَهُمُ الصَّيَاصِيُّ، يَجُرُّونَ أَشْعَارَهُمْ، لَهُمْ مِثْلُ قُوَّةِ الثَّقَلَيْنِ، يُقْبِلُ أَحَدُهُمْ بِالْأُمَّةِ مِنَ النَّاسِ يَسُوقُهُمْ وعلى رَقَبَتِهِ جَبَلٍ حَتَّى يَرْمِيَ بِهِمْ فِي النَّارِ فيرمي بالجبل عليهم» . وأخرج الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسَرِيَ بِهِ قَالَ: «فَصَعِدْتُ أَنَا وَجِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا أَنَا بِمَلَكٍ يُقَالُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ صَاحِبُ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ يَدَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مَعَ كُلِّ مَلَكٍ جُنْدُهُ مِائَةُ أَلْفٍ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أُصْبُعٍ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ» . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذْ أَدْبَرَ قَالَ: دُبُورُ ظَلَامِهِ. وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ في مسنده وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ فَسَكَتَ عَنِّي حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَسَمِعَ الْأَذَانَ نَادَانِي: يَا مُجَاهِدُ هَذَا حِينَ دَبَرَ اللَّيْلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ قَالَ: مَنْ شَاءَ اتَّبَعَ طَاعَةَ اللَّهِ، وَمَنْ شَاءَ تَأَخَّرَ عنها.

_ (1) . «الدهم» : أي العدد الكثير والشجعان.

[سورة المدثر (74) : الآيات 38 إلى 56]

[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 56] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) قَوْلُهُ: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ أَيْ: مَأْخُوذَةٌ بِعَمَلِهَا وَمُرْتَهِنَةٌ بِهِ، إِمَّا خَلَّصَهَا وَإِمَّا أَوْبَقَهَا، والرهينة: اسم بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، وَلَيْسَتْ صِفَةً، وَلَوْ كَانَتْ صِفَةً لَقِيلَ: رَهِينٌ لِأَنَّ فَعِيلًا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَالْمَعْنَى: كُلُّ نَفْسِ رَهْنٌ بِكَسْبِهَا غَيْرُ مَفْكُوكَةٍ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فَإِنَّهُمْ لَا يَرْتَهِنُونَ بِذُنُوبِهِمْ، بَلْ يَفُكُّونَ بِمَا أَحْسَنُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهِمْ، فَقِيلَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: الَّذِينَ كَانُوا عَنْ يَمِينِ آدَمَ، وَقِيلَ: أَصْحَابُ الْحَقِّ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُعْتَمِدُونَ عَلَى الْفَضْلِ دُونَ الْعَمَلِ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِخِدْمَتِهِ، فِي جَنَّاتٍ هُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف، والجملة استئناف جوابا عن سُؤَالٍ نَشَأَ مِمَّا قَبْلَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي جَنَّاتٍ حَالًا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ يَتَسَاءَلُونَ، وَأَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَيَتَسَاءَلُونَ، وَقَوْلُهُ: يَتَساءَلُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ، أَيْ: يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يَسْأَلُونَ، أَيْ: يَسْأَلُونَ غَيْرَهُمْ، نَحْوَ دَعِيَّتِهِ وَتَدَاعِيَتِهِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مُتَعَلِّقًا بِيَتَسَاءَلُونَ، أَيْ: يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ أَحْوَالِ الْمُجْرِمِينَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ عَنْ زَائِدَةً، أَيْ: يَسْأَلُونَ الْمُجْرِمِينَ، وَقَوْلُهُ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ يَقُولُونَ لَهُمْ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، أَوْ يَسْأَلُونَهُمْ قَائِلِينَ لَهُمْ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: مَا أَدْخَلَكُمْ فِي سَقَرَ، تَقُولُ: سَلَكْتُ الْخَيْطَ فِي كَذَا إِذَا دَخَّلْتَهُ فِيهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَسْأَلُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِاسْمِهِ، فَيَقُولُ لَهُ: يَا فلان ما سلكك في النار؟ وقيل: إن المؤمنين يَسْأَلُونَ الْمَلَائِكَةَ عَنْ أَقْرِبَائِهِمْ، فَتَسْأَلُ الْمَلَائِكَةُ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ لَهُمْ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي هَذَا مَا يُقَوِّي أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ هُمُ الْوِلْدَانُ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الذُّنُوبَ. ثم ذكر سبحانه ما أجاب به أهل النار عليهم فقال: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أَيْ: لَمْ نَتَصَدَّقْ عَلَى الْمَسَاكِينِ، قِيلَ: وَهَذَانَ مَحْمُولَانِ عَلَى الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ لِأَنَّهُ لَا تَعْذِيبَ عَلَى غَيْرِ الْوَاجِبِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرْعِيَّاتِ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أَيْ: نُخَالِطُ أَهْلَ الْبَاطِلِ فِي بَاطِلِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: كُلَّمَا غَوَى غَاوٍ غَوَيْنَا مَعَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كُنَّا نُكَذِّبُ مَعَ الْمُكَذِّبِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَخُوضُ مع الخائصين فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: كَاذِبٌ، مَجْنُونٌ، سَاحِرٌ، شَاعِرٌ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أَيْ: بِيَوْمِ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ

حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ وَهُوَ الْمَوْتُ، كَمَا فِي قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «1» . فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ أَيْ: شَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ كَمَا تَنْفَعُ الصَّالِحِينَ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ التَّذْكِرَةُ: التَّذْكِيرُ بِمَوَاعِظِ الْقُرْآنِ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ إِنْكَارِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا، وَانْتِصَابُ مَعْرَضَيْنِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُتَعَلِّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ حَصَلَ لَهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُعْرِضِينَ عَنِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مُشْتَمِلٌ على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى. ثم شبّههم فِي نُفُورِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ بِالْحُمُرِ فَقَالَ: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُعْرِضِينِ عَلَى التَّدَاخُلِ، وَمَعْنَى مُسْتَنْفِرَةٌ: نَافِرَةٌ، يُقَالُ: نَفَرَ وَاسْتَنْفَرَ، مِثْلَ عَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ، وَالْمُرَادُ: الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُسْتَنْفِرَةٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ: نَافِرَةٌ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِهَا، أَيْ: مُنَفَّرَةٌ مَذْعُورَةٌ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْمُسْتَنْفِرَةُ: الشَّدِيدَةُ النِّفَارِ كَأَنَّهَا تَطْلُبُ النِّفَارِ مِنْ نُفُوسِهَا فِي جَمْعِهَا لَهُ، وَحَمْلِهَا عَلَيْهِ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أَيْ: مِنْ رُمَاةٍ يَرْمُونَهَا، وَالْقَسْوَرُ: الرَّامِي، وَجَمْعُهُ قَسْوَرَةٌ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ كَيْسَانَ، وَقِيلَ: هُوَ الْأَسَدُ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْقَسْرِ بِمَعْنَى الْقَهْرِ لِأَنَّهُ يَقْهَرُ السِّبَاعَ، وَقِيلَ: الْقَسْوَرَةُ: أَصْوَاتُ النَّاسِ، وَقِيلَ: الْقَسْوَرَةُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ: الْأَسَدُ، وَبِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الرُّمَاةُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْقَسْوَرَةُ: أَوَّلُ اللَّيْلِ، أَيْ: فَرَّتْ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَكُلُّ شَدِيدٍ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ قَسْوَرَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يا بنت كوني خيرة لخيّره ... أخوالها الجنّ وَأَهْلُ الْقَسْوَرَةْ وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: إِذَا مَا هَتَفْنَا هَتْفَةً فِي نَدِيِّنَا ... أَتَانَا الرِّجَالُ الْعَابِدُونَ الْقَسَاوِرُ وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْأَسَدِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مُضْمَرٌ تَحْذَرُهُ الْأَبْطَالُ ... كَأَنَّهُ الْقَسْوَرُ الْرَّهَّالُ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَكْتَفُونَ بِتِلْكَ التَّذْكِرَةِ بَلْ يُرِيدُ ... قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيُصْبِحْ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا كِتَابٌ مَنْشُورٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. وَالصُّحُفُ: الْكُتُبُ، وَاحِدَتُهَا صَحِيفَةٌ، وَالْمُنَشَّرَةُ: الْمَنْشُورَةُ الْمَفْتُوحَةُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سبحانه: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «2» قَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُنَشَّرَةً بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَيْضًا بِضَمِّ الْحَاءِ مِنْ صُحُفٍ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِإِسْكَانِهَا. ثُمَّ رَدَعَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَزَجَرَهُمْ فَقَالَ: كَلَّا بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ

_ (1) . الحجر: 99. [.....] (2) . الإسراء: 93.

يَعْنِي عَذَابَ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَوْ خَافُوا النَّارَ لَمَا اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ، وَقِيلَ: كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا. ثُمَّ كَرَّرَ الرَّدْعَ وَالزَّجْرَ لَهُمْ فَقَالَ: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ يَعْنِي الْقُرْآنَ أَوْ حَقًّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُتَذَكَّرُ بِهِ وَيُتَّعَظُ بِمَوَاعِظِهِ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أَيْ: فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّعِظَ بِهِ اتَّعَظَ، ثُمَّ رَدَّ سُبْحَانَهُ الْمَشِيئَةَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَذْكُرُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى التَّخْفِيفِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ لَهُمُ الْهُدَى هُوَ أَهْلُ التَّقْوى أَيْ: هُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يَتَّقِيَهُ الْمُتَّقُونَ بِتَرْكِ مَعَاصِيهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَاتِهِ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أَيْ: هُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا فَرَطَ مِنْهُمْ مَنِ الذُّنُوبِ، وَالْحَقِيقُ بِأَنْ يَقْبَلَ تَوْبَةَ التَّائِبِينَ مِنَ الْعُصَاةِ فَيَغْفِرَ ذُنُوبَهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ قَالَ: مَأْخُوذَةٌ بِعَمَلِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ قَالَ: هُمُ الْمُسْلِمُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ قَالَ: هُمْ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ قَالَ: الْمَوْتُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قَالَ: هُمُ الرُّمَاةُ رِجَالُ الْقِسِيِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقَسْوَرَةُ: الرِّجَالُ الرماة رجال الْقُنَّصُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي حمزة قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَسْوَرَةُ الْأَسَدُ؟ فَقَالَ: مَا أَعْلَمُهُ بِلُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ الْأَسَدُ! هم عصبة الرجال. وأخرج سفيان ابن عُيَيْنَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَسْوَرَةٍ قَالَ: هُوَ رَكْزُ النَّاسِ، يَعْنِي أَصْوَاتَهَمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَدِيٍّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فَقَالَ: قَالَ رَبُّكُمْ أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى فَلَا يُجْعَلُ مَعِي إِلَهٌ، فَمَنِ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إِلَهًا فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وابن عمر وابن عباس مرفوعا نحوه.

سورة القيمة

سورة القيمة وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْقِيَامَةِ، وَفِي لَفْظٍ: سُورَةُ لَا أُقْسِمُ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ لَا أُقْسِمُ بِمَكَّةَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 25] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لَا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) قَوْلُهُ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ لَا زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أُقْسِمُ. قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ مَعْنَى لَا أُقْسِمُ: أُقْسِمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ لَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ زَائِدَةٌ، وَزِيَادَتُهَا جَارِيَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا فِي قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «1» يعني أن تسجد، ولِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صبابة ... فكاد صَمِيمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ رَدٌّ لِكَلَامِهِمْ حَيْثُ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، كَقَوْلِ القائل: لَا، وَاللَّهِ، فَ: لَا: رَدٌّ لِكَلَامٍ قَدْ تَقَدَّمَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ العامريّ (م) «3» ... لا يدّعي القوم أنّي أفرّ

_ (1) . الأعراف: 12. (2) . هو امرؤ القيس. (3) . يشير هذا الحرف إلى أن البيت مدور، يعني: أن آخر الصدر وأول العجز مشتركان في الحرف المشدد.

وَقِيلَ: هِيَ لِلنَّفْيِ، لَكِنْ لَا لِنَفْيِ الْإِقْسَامِ، بَلْ لِنَفْيِ مَا يُنَبِّئُ عَنْهُ مِنْ إِعْظَامِ الْمُقْسَمِ بِهِ وَتَفْخِيمِهِ، كَأَنَّ مَعْنَى لَا أُقْسِمُ بِكَذَا: لَا أُعَظِّمُهُ بِإِقْسَامِي بِهِ حَقَّ إِعْظَامِهِ، فَإِنَّهُ حَقِيقٌ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ: إِنَّهَا لِنَفْيِ الْإِقْسَامِ لِوُضُوحِ الْأَمْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «1» وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ هُرْمُزَ لَأُقْسِمُ بِدُونِ أَلِفٍ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ الرَّازِيُّ بِمَا لَا يُقْدَحُ فِي قُوَّتِهِ وَلَا يُفَتُّ فِي عَضُدِ رُجْحَانِهِ، وَإِقْسَامُهُ سُبْحَانَهُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِتَعْظِيمِهِ وَتَفْخِيمِهِ، وَلِلَّهِ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْسَمَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ كَمَا أَقْسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي «لَا» هَذِهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأُولَى، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَقْسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُقْسِمْ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَقْسَمَ بِهِمَا جَمِيعًا، وَمَعْنَى النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ: النَّفْسُ الَّتِي تَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَى تَقْصِيرِهِ، أَوْ تَلُومُ جَمِيعَ النُّفُوسِ عَلَى تَقْصِيرِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ وَاللَّهِ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ، لَا يُرَى الْمُؤْمِنَ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ مَا أَرَدْتُ بِكَذَا؟ مَا أَرَدْتُ بِكَذَا؟ وَالْفَاجِرُ لَا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الَّتِي تَلُومُ عَلَى مَا فَاتَ وَتَنَدَمُ، فَتَلُومُ نَفْسَهَا عَلَى الشَّرِّ لِمَ تَعْمَلُهُ؟ وَعَلَى الْخَيْرِ لِمَ لَمْ تَسْتَكْثِرُ مِنْهُ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَهِيَ تَلُومُ نَفْسَهَا، إِنْ كَانَتْ عَمِلَتْ خَيْرًا قَالَتْ: هَلَّا ازْدَدْتُ! وَإِنْ كَانَتْ عَمِلَتْ سُوءًا قَالَتْ: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ. وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْمَدْحِ لِلنَّفْسِ، فَيَكُونُ الْإِقْسَامُ بِهَا حَسَنًا سَائِغًا. وَقِيلَ: اللَّوَّامَةُ هِيَ الْمَلُومَةُ الْمَذْمُومَةُ، فَهِيَ صِفَةُ ذَمٍّ، وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَسَمًا، إِذْ لَيْسَ لِنَفْسِ الْعَاصِي خطر يقسم له. قَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ نَفْسُ الْكَافِرِ يَلُومُ نَفْسَهُ وَيَتَحَسَّرُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا فَرَّطَ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ، وَقِيلَ: الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنَّ الشَّأْنَ أَنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ رُفَاتًا، فَنُعِيدُهَا خَلْقًا جَدِيدًا، وَذَلِكَ حُسْبَانٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّا نَجْمَعُهَا، وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ لَيَجْمَعَنَّ الْعِظَامَ لِلْبَعْثِ، فَهَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: جَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَيَبْعَثَنَّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْعَثُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعِظَامَ لِأَنَّهَا قَالَبُ الْخَلْقِ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ بَلَى إِيجَابٌ لِمَا بَعْدَ النَّفْيِ الْمُنْسَحِبُ إِلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ، وَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ وَقْفٌ حَسَنٌ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: قادِرِينَ وَانْتِصَابُ قَادِرِينَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: بَلَى نَجْمَعُهَا قَادِرِينَ، فَالْحَالُ مِنْ ضَمِيرِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: بَلَى نَجْمَعُهَا نُقَدِّرُ قَادِرِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ نَقْدِرُ، وَنَقْوَى، قَادِرِينَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّهُ يَصْلُحُ نَصْبُهُ عَلَى التَّكْرِيرِ، أَيْ: بَلَى فَلْيَحْسَبْنَا قَادِرِينَ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: بَلَى كُنَّا قَادِرِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ أبي عبلة وابن السّميقع بَلى قادِرِينَ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: بَلَى نَحْنُ قَادِرُونَ، ومعنى عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ

_ (1) . الواقعة: 75.

عَلَى أَنْ نَجْمَعَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، فَنَرُدَّهَا كَمَا كَانَتْ مَعَ لَطَافَتِهَا وَصِغَرِهَا، فَكَيْفَ بِكِبَارِ الْأَعْضَاءِ، فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ بِالْبَنَانِ، وَهِيَ الْأَصَابِعُ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ، وَأَنَّ الِاقْتِدَارَ عَلَى بَعْثِهَا وَإِرْجَاعِهَا كَمَا كَانَتْ أَوْلَى فِي الْقُدْرَةِ مِنْ إِرْجَاعِ الْأَصَابِعِ الصَّغِيرَةِ اللَّطِيفَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَفَاصِلِ وَالْأَظَافِرِ وَالْعُرُوقِ اللِّطَافِ وَالْعِظَامِ الدِّقَاقِ، فَهَذَا وَجْهُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ، وَبِهَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنْ نَجْعَلَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَرَجْلَيْهِ شَيْئًا وَاحِدًا، كَخُفِّ الْبَعِيرِ وَحَافِرِ الْحِمَارِ صَفِيحَةً وَاحِدَةً لَا شُقُوقَ فِيهَا، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا فِي الأعمال كَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَلَكِنَّا فَرَّقْنَا أَصَابِعَهُ لِيَنْتَفِعَ بِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: بَلْ نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُعِيدَ الْإِنْسَانَ فِي هَيْئَةِ الْبَهَائِمِ، فَكَيْفَ فِي صورته التي كانت عَلَيْهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَإِنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا مَا ... وَصَلْتُ بَنَانَهَا بالهندواني فَنَبَّهَ بِالْبَنَانِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ هُوَ عَطْفٌ عَلَى أَيَحْسَبُ، إِمَّا عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ مِثْلُهُ، وَأَضْرَبَ عَنِ التَّوْبِيخِ بِذَلِكَ إِلَى التَّوْبِيخِ بِهَذَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ إِيجَابٌ انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ. وَالْمَعْنَى: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُقَدِّمَ فَجَوْرَهُ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنَ الزَّمَانِ، فَيُقَدِّمُ الذَّنْبَ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُرِيدُ أَنْ يَفْجُرَ مَا امْتَدَّ عُمْرُهُ، وَلَيْسَ فِي نِيَّتِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَنْبٍ يَرْتَكِبُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَقُولُ سَوْفَ أَتُوبُ وَلَا يَتُوبُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ. وَهُوَ عَلَى أَشَرِّ أَحْوَالِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْأَمَلُ، يَقُولُ سَوْفَ أَعِيشُ وَأُصِيبُ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا يَذْكُرُ الْمَوْتَ. وَالْفُجُورُ: أَصْلُهُ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، فَيُصَدِّقُ عَلَى كُلِّ مَنْ مَالَ عَنِ الْحَقِّ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَقْسَمَ بِاللَّهِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرْ ... مَا مَسَّهَا مِنْ نَقَبٍ وَلَا دَبَرْ فاغفر له اللهمّ إن كان فجر وجملة يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَعْنَى يَفْجُرُ، وَالْمَعْنَى: يَسْأَلُ مَتَى يَوْمُ الْقِيَامَةِ سُؤَالَ اسْتِبْعَادٍ وَاسْتِهْزَاءٍ فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ أَيْ: فَزِعَ وَتَحَيَّرَ، مَنْ بَرَقَ الرَّجُلُ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَرْقِ فَدُهِشَ بَصَرُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَرِقَ بِكَسْرِ الرَّاءِ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا: الْمَعْنَى تَحَيَّرَ فَلَمْ يَطْرِفْ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: وَلَوْ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ تَعَرَّضَتْ ... لِعَيْنَيْهِ مَيٌّ سَافِرًا كَادَ يَبْرَقُ وَقَالَ الْخَلِيلُ وَالْفَرَّاءُ: بَرِقَ بِالْكَسْرِ: فَزِعَ وَبَهِتَ وَتَحَيَّرَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ للإنسان المبهوت: قد برق فهو برق، وأنشد الفرّاء: فنفسك فَانْعَ وَلَا تَنْعَنِي ... وَدَاوِ الْكُلُومَ وَلَا تَبْرَقِ «1» أَيْ: لَا تَفْزَعْ مِنْ كَثْرَةِ الْكُلُومِ الَّتِي بِكَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ بَرِقَ بفتح الراء، أي: لمع

_ (1) . البيت لطرفة.

بَصَرُهُ مِنْ شِدَّةِ شُخُوصِهِ لِلْمَوْتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: بَرَقَ يَبْرَقُ: شَقَّ عَيْنَيْهِ وَفَتْحَهُمَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَتْحُ الرَّاءِ وَكَسْرُهَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى. وَخَسَفَ الْقَمَرُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَسَفَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالسِّينِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِ السِّينِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَمَعْنَى خَسَفَ الْقَمَرُ: ذَهَبَ ضؤوه وَلَا يَعُودُ كَمَا يَعُودُ إِذَا خَسَفَ فِي الدُّنْيَا، وَيُقَالُ: خَسَفَ إِذَا ذَهَبَ جَمِيعُ ضَوْئِهِ، وَكَسَفَ: إِذَا ذَهَبَ بَعْضُ ضَوْئِهِ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَيْ: ذَهَبَ ضَوْؤُهُمَا جَمِيعًا، وَلَمْ يَقُلْ جُمِعَتْ لِأَنَّ التَّأْنِيثَ مَجَازِيٌّ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ لِتَغْلِيبِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: حُمِلَ عَلَى مَعْنَى جَمْعِ النَّيِّرَانَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَقُلْ جُمِعَتْ لِأَنَّ المعنى جمع بَيْنَهُمَا فِي ذَهَابِ نُورِهِمَا، وَقِيلَ: جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي طُلُوعِهِمَا مِنَ الْغَرْبِ أَسْوَدَيْنِ مُكَوَّرَيْنِ مُظْلِمَيْنِ. قَالَ عَطَاءٌ: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُقْذَفَانِ فِي الْبَحْرِ فَيُكَوِّنَانِ نَارَ اللَّهِ الْكُبْرَى. وَقِيلَ: تُجْمَعُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ تَعَاقُبُ لَيْلٍ وَنَهَارٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «وَجُمِعَ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ» . يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أَيْ: يَقُولُ عِنْدَ وُقُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ أَيِ: الْفِرَارُ، وَالْمَفَرُّ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفِرَارِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْفِرَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْكِبَاشُ تَنْتَطِحُ ... وَكُلُّ كَبْشٍ فَرَّ مِنْهَا يَفْتَضِحُ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَيْنَ الْمَفَرُّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَيْنَ الْمَفَرُّ مِنْ جَهَنَّمَ حَذَرًا مِنْهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَيْنَ الْمَفَرُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْفَاءِ مَصْدَرًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ: أَيْ: أَيْنَ مَكَانُ الْفِرَارِ؟ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ مَدَبٌّ وَمِدَبٌّ وَمَصَحٌّ وَمِصَحٌّ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِنْسَانُ الْجَيِّدُ الْفِرَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: مِكَرٌّ مِفَرٌّ مُقْبِلٌ مُدْبِرٌ مَعًا ... كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ أَيْ: جَيِّدُ الْفَرِّ وَالْكَرِّ. كَلَّا لَا وَزَرَ أَيْ: لَا جَبَلَ وَلَا حِصْنَ وَلَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَا مَحِيصَ وَلَا مَنَعَةَ. وَالْوَزَرُ فِي اللُّغَةِ: مَا يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ حِصْنٍ، أَوْ جَبَلٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ: وَلَقَدْ تَعْلَمُ بَكْرٌ أَنَّنَا ... فاضلو الرَّأْيِ وَفِي الرَّوْعِ وَزَرْ وَقَالَ آخَرُ: لَعَمْرِي ما للفتى من وزر ... من الموت يدركه وَالْكِبَرْ قَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا إِذَا فَزِعُوا فِي الدنيا تحصنوا بالجبال، فقال لهم الله: ولا وزر يعصمكم مني يومئذ، وكلّا: لِلرَّدْعِ، أَوْ لِنَفْيِ مَا قَبْلَهَا، أَوْ بِمَعْنَى حَقًّا إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ أَيِ: الْمَرْجِعُ وَالْمُنْتَهَى وَالْمَصِيرُ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَ الْعِبَادِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: المستقر: الاستقرار حيث يقرّه الله يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ أَيْ: يُخْبِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِمَا عَمِلَ مِنْ طَاعَةٍ،

وَمَا أَخَّرَ مِنْ طَاعَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: بِمَا قَدَّمَ مِنْ أَمْوَالِهِ وَمَا خَلَّفَ لِلْوَرَثَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِأَوَّلِ عَمَلِهِ وَآخِرِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِمَا قَدَّمَ مِنْ فَرْضٍ وَأَخَّرَ مِنْ فَرْضٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: هَذَا الْإِنْبَاءُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ وَزْنِ الْأَعْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرَ بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ارْتِفَاعُ بَصِيرَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ الْإِنْسَانِ، «عَلَى نفسه» متعلق ببصيرة. قَالَ الْأَخْفَشُ: جَعَلَهُ هُوَ الْبَصِيرَةُ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَنْتَ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِكَ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ جَوَارِحَهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا عَمِلَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «1» ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّ عَلَى ذِي الْعَقْلِ عَيْنًا بصيرة ... بمقعده أو منظر هو ناظره فَيَكُونُ الْمَعْنَى: بَلْ جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ عَلَيْهِ شَاهِدَةٌ. قال أبو عبيدة والقتبي: إِنَّ هَذِهِ الْهَاءَ فِي بَصِيرَةٍ هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْإِعْرَابِ هَاءَ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: عَلَّامَةٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَصِيرَةِ الْكَاتِبَانِ اللَّذَانِ يَكْتُبَانِ مَا يَكُونُ مِنْهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَالتَّاءُ عَلَى هَذَا لِلتَّأْنِيثِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ بَصِيرٌ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أَيْ: وَلَوِ اعْتَذَرَ وَجَادَلَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ. يُقَالُ: مَعْذِرَةٌ وَمَعَاذِيرٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: وَإِنِ اعْتَذَرَ فَعَلَيْهِ مَنْ يُكَذِّبُ عُذْرَهُ «2» . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعَاذِيرُ: السُّتُورُ، وَالْوَاحِدُ مِعْذَارٌ، أَيْ: وَإِنْ أَرْخَى السُّتُورَ يُرِيدُ أَنْ يُخْفِيَ نَفْسَهُ فَنَفْسُهُ شَاهِدَةٌ عَلَيْهِ، كَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: وَالسِّتْرُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ مِعْذَارٌ. كَذَا قَالَ الْمُبَرِّدُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَكِنَّهَا ضَنَّتْ بِمَنْزِلٍ سَاعَةً ... عَلَيْنَا وَأَطَّتْ يَوْمَهَا بِالْمَعَاذِرِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ «3» وقوله: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «4» وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَا حَسَنٌ أَنْ يَعْذِرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... وَلَيْسَ لَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ عَاذِرُ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ وَلِسَانَهُ بِالْقُرْآنِ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ قَبْلَ فَرَاغِ جِبْرِيلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْوَحْيِ حِرْصًا عَلَى أَنْ يَحْفَظَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيْ: لَا تُحَرِّكْ بِالْقُرْآنِ لِسَانَكَ عِنْدَ إِلْقَاءِ الْوَحْيِ لِتَأْخُذَهُ عَلَى عَجَلٍ مَخَافَةَ أَنْ يَتَفَلَّتَ مِنْكَ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «5» الْآيَةَ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ حَتَّى لَا يَذْهَبَ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ وَقُرْآنَهُ أَيْ: إِثْبَاتُ قِرَاءَتِهِ فِي لِسَانِكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقِرَاءَةُ والقرآن مصدران. وقال قتادة فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ

_ (1) . النور: 24. (2) . في القرطبي [19/ 100] : أي ولو اعتذر فقال لم أفعل شيئا لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه. (3) . غافر: 52. (4) . المرسلات: 36. (5) . طه: 114.

أَيْ: شَرَائِعَهُ وَأَحْكَامَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ أَيْ: أَتْمَمْنَا قِرَاءَتَهُ عَلَيْكَ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أَيْ: قِرَاءَتَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أَيْ: تَفْسِيرَ مَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَبَيَانَ مَا أَشْكَلَ مِنْهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى عَلَيْنَا أَنْ نُنْزِلَهُ عَلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا فِيهِ بَيَانٌ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ كَلَّا لِلرَّدْعِ عَنِ الْعَجَلَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْأَنَاةِ، وَقِيلَ: هِيَ رَدْعٌ لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ وَبِكَوْنِهِ بَيِّنًا مِنَ الْكُفَّارِ. قَالَ عَطَاءٌ: أَيْ: لَا يُؤْمِنُ أَبُو جَهْلٍ بِالْقُرْآنِ وَبَيَانِهِ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفِيُّونَ: بَلْ تُحِبُّونَ وَتَذَرُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ فِي الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ فِيهِمَا، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْخِطَابُ لَهُمْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ الْكَلَامُ عَائِدًا إِلَى الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى النَّاسِ، وَالْمَعْنَى: تُحِبُّونَ الدُّنْيَا وَتَتْرُكُونَ الْآخِرَةَ فَلَا تَعْمَلُونَ لَهَا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أَيْ: نَاعِمَةٌ غَضَّةٌ حَسَنَةٌ، يُقَالُ: شَجَرٌ نَاضِرٌ وَرَوْضٌ نَاضِرٌ، أَيْ: حَسَنٌ نَاعِمٌ، وَنَضَارَةُ الْعَيْشِ: حُسْنُهُ وبهجته. قال الواحدي والمفسرون: يقولون مضيئة مسفرة مُشْرِقَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ هَذَا مِنَ النَّظَرِ، أَيْ: إِلَى خَالِقِهَا وَمَالِكِ أَمْرِهَا ناظِرَةٌ أَيْ: تَنْظُرُ إِلَيْهِ، هَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْ أَنَّ الْعِبَادَ يَنْظُرُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَسَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَهُدَاةِ الْأَنَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ النَّظَرَ هُنَا انْتِظَارُ مَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ هَذَا إلا عن مجاهد وحده. قال الأزهري: وقول مجاهد خطأ لأنه لا يقال: نظر إلى كذا بمعنى الانتظار. وَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: نَظَرْتُ إِلَى فُلَانٍ لَيْسَ إِلَّا رُؤْيَةَ عَيْنٍ، إِذَا أَرَادُوا الِانْتِظَارَ قَالُوا: نَظَرْتُهُ، كَمَا فِي قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَإِنَّكُمَا إِنْ تُنْظِرَانِي سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ فَإِذَا أَرَادُوا نَظَرَ الْعَيْنِ قَالُوا: نَظَرْتُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «1» : نَظَرْتُ إِلَيْهَا وَالنُّجُومُ كأنّها ... مصابيح رهبان تشبّ لقفّال «2» وَقَوْلُ الْآخَرِ: إِنِّي إِلَيْكِ لَمَّا وَعَدْتِ لَنَاظِرُ ... نَظَرَ الْفَقِيرِ إِلَى الْغَنِيِّ الْمُوسِرِ أَيْ: أَنْظُرُ إِلَيْكَ نَظَرَ ذُلٍّ كَمَا يَنْظُرُ الْفَقِيرُ إِلَى الغنيّ. وأشعار العرب وكلماتهم في هذه كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَ «وُجُوهٌ» مُبْتَدَأٌ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ نَكِرَةً، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَفْصِيلٍ، وَ «نَاضِرَةٌ» صِفَةٌ لِوُجُوهٍ، وَ «يَوْمَئِذٍ» ظَرْفٌ لِنَاضِرَةٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَقَامُ مَقَامُ تَفْصِيلٍ لَكَانَ وَصْفُ النَّكِرَةِ بِقَوْلِهِ: ناضِرَةٌ مُسَوِّغًا لِلِابْتِدَاءِ بِهَا، وَلَكِنْ مَقَامُ التَّفْصِيلِ بِمَجَرَّدِهِ مُسَوِّغٌ لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ أَيْ: كَالِحَةٌ

_ (1) . هو امرؤ القيس. (2) . «تشب» : توقد. «القفال» : جمع قافل، وهو الراجع من السفر.

عَابِسَةٌ كَئِيبَةٌ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: بَسَرَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ بُسُورًا، أَيْ: كَلَحَ. قَالَ السُّدِّيُّ: باسِرَةٌ أَيْ: مُتَغَيِّرَةٌ، وَقِيلَ: مُصْفَرَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ هُنَا وَجُوهُ الْكُفَّارِ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ الْفَاقِرَةُ: الدَّاهِيَةُ الْعَظِيمَةُ، يُقَالُ: فَقَرْتُهُ الْفَاقِرَةُ، أَيْ: كَسَرَتْ فَقَارَ ظَهْرِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: الْفَاقِرَةُ: الشَّرُّ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْهَلَاكُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: دُخُولُ النار. وأصل الفاقرة: الوسم عَلَى أَنْفِ الْبَعِيرِ بِحَدِيدَةٍ أَوْ نَارٍ حَتَّى يخلص إِلَى الْعَظْمِ، كَذَا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ: قَدْ عَمِلَ بِهِ الْفَاقِرَةَ. قَالَ النَّابِغَةُ: أبى لِي قَبْرٌ لَا يَزَالُ مُقَابِلِي ... وَضَرْبَةُ فَأْسٍ فَوْقَ رَأْسِي فَاقِرَهْ وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سألت ابن عباس عن قوله: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ قَالَ: يُقْسِمُ رَبُّكَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، قُلْتُ: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قَالَ: النَّفْسُ اللَّؤُومُ «1» ، قُلْتُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ- بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ قَالَ: لَوْ شَاءَ لِجَعَلَهُ خُفًّا أَوْ حَافِرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ اللَّوَّامَةِ قَالَ: الْمَذْمُومَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الَّتِي تَلُومُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، تَقُولُ: لَوْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: تَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ وَتَلُومُ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ قَالَ: يَمْضِي قُدُمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ الْكَافِرُ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالْحِسَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي الْأَمَلَ، يَقُولُ: أَعْمَلُ ثُمَّ أَتُوبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْأَمَلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: يُقَدِّمُ الذَّنْبَ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ أَيْضًا بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يَقُولُ: سَوْفَ أتوب يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ قَالَ: يَقُولُ مَتَى يَوْمَ القيامة، قال: فبين له فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ يَعْنِي الْمَوْتُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: لَا وَزَرَ قَالَ: لَا حِصْنَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا وَزَرَ قَالَ: لَا حِصْنَ وَلَا مَلْجَأَ، وَفِي لَفْظٍ: لَا حِرْزَ، وَفِي لَفْظٍ: لَا جَبَلَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ قَالَ: بِمَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ، وَأَخَّرَ مِنْ سُنَّةٍ عَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِمَا قَدَّمَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَأَخَّرَ مِنَ الطَّاعَةِ فَيُنَبَّأُ بِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ قَالَ: شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ وَحْدَهُ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ قَالَ: وَلَوِ اعْتَذَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي

_ (1) . في الدر المنثور (8/ 342) : الملومة. [.....]

حَاتِمٍ عَنْهُ بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ قَالَ: سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدَيْهِ وَرَجْلَيْهِ وَجَوَارِحِهِ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ قَالَ: وَلَوْ تَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، فَكَانَ يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ مَخَافَةَ أَنْ يَتَفَلَّتَ مِنْهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ قَالَ: يَقُولُ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَأَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ يَقُولُ: إِذَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ فَاسْتَمَعْ لَهُ وأنصت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أن نبيّه بِلِسَانِكَ، وَفِي لَفْظٍ: عَلَيْنَا أَنْ نَقْرَأَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ. وَفِي لَفْظٍ: اسْتَمِعْ، فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فَإِذا قَرَأْناهُ قَالَ: بَيَّنَّاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ يَقُولُ: اعْمَلْ بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ قَالَ: عُجِّلَتْ لَهُمُ الدُّنْيَا شَرُّهَا وَخَيْرُهَا، وَغُيِّبَتِ الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ قَالَ: نَاعِمَةٌ. وَأَخْرَجَ ابن المنذر، والآجري في الشريعة، واللالكائي فِي السُّنَّةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الرُّؤْيَةِ، عَنْهُ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ قَالَ: يَعْنِي حُسْنَهَا إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قَالَ: نَظَرَتْ إِلَى الْخَالِقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قَالَ: تَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ- إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قَالَ: يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ بِلَا كَيْفِيَّةٍ وَلَا حَدٍّ مَحْدُودٍ وَلَا صِفَةٍ مَعْلُومَةً» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَحَادِيثَ الرُّؤْيَةِ مُتَوَاتِرَةٌ فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا، وَهِيَ تَأْتِي فِي مُصَنَّفٍ مُسْتَقِلٍّ، وَلَمْ يَتَمَسَّكْ مَنْ نَفَاهَا وَاسْتَبْعَدَهَا بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ لَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يُنْظَرُ إِلَى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ- إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» . وأخرجه أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِهِ بِلَفْظِ: «إِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لَيَنْظُرُ فِي وَجْهِ اللَّهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا، قَالَ: هَلْ تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي يَوْمٍ لَا غَيْمَ فِيهِ، وَتَرَوْنَ الْقَمَرَ فِي لَيْلَةٍ لَا غَيْمَ فِيهَا؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَزَّ وجلّ، حتى إن أحدكم

[سورة القيامة (75) : الآيات 26 إلى 40]

ليحاضره رَبَّهُ مُحَاضَرَةً، فَيَقُولُ: عَبْدِي هَلْ تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: أَلَمْ تَغْفِرْ لِي؟ فَيَقُولُ: بمغفرتي صرت إلى هذا» . [سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40] كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) قَوْلُهُ: كَلَّا رَدْعٌ وَزَجْرٌ، أَيْ: بَعِيدٌ أَنْ يُؤْمِنَ الْكَافِرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ، فَقَالَ: إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ أَيْ: بَلَغَتِ النَّفْسُ أَوِ الرُّوحُ التَّرَاقِيَ، وَهِيَ جَمْعُ تَرْقُوَةٍ، وَهِيَ عظم بين نقرة النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ، وَيُكَنَّى بِبُلُوغِ النَّفْسِ التَّرَاقِي عَنِ الْإِشْفَاءِ عَلَى الْمَوْتِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ «1» وَقِيلَ: مَعْنَى كَلَّا حَقًّا، أَيْ: حَقًّا أَنَّ الْمَسَاقَ إِلَى اللَّهِ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ، وَالْمَقْصُودُ تَذْكِيرُهُمْ شِدَّةَ الْحَالِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ. قَالَ دريد بن الصّمّة: وربّ كريهة دافعت عنهم ... وَقَدْ بَلَغَتْ نُفُوسُهُمُ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ أَيْ: قَالَ مَنْ حَضَرَ صَاحِبُهَا: مَنْ يَرْقِيهِ وَيَشْتَفِي بَرُقْيَتِهِ؟ .. قَالَ قَتَادَةُ: الْتَمَسُوا لَهُ الْأَطِبَّاءَ فَلَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ شَيْئًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: هل للفتى من بنات الدّهر من واق ... أَمْ هَلْ لَهُ مِنْ حِمَامِ الْمَوْتِ مِنْ راق وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: هُوَ مِنْ رَقَى يَرْقَى إِذَا صَعِدَ، وَالْمَعْنَى: مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ أَمَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ؟ وَقِيلَ: إِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الْكَافِرِ تَكْرَهُ الْمَلَائِكَةُ قُرْبَهَا وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أَيْ: وَأَيْقَنَ الَّذِي بَلَغَتْ رُوحُهُ التَّرَاقِي أَنَّهُ الْفِرَاقُ مِنَ الدُّنْيَا وَمِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أَيِ: الْتَفَّتْ سَاقُهُ بِسَاقِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ بِهِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى تَتَابَعَتْ عَلَيْهِ الشَّدَائِدُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمَا سَاقَاهُ إِذَا الْتَفَّتَا فِي الْكَفَنِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْتَفَّتْ سَاقُ الْكَفَنِ بِسَاقِ الميت، وقيل: ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تَحْمِلَاهُ، وَقَدْ كَانَ جَوَّالًا عَلَيْهِمَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ شَدِيدَانِ: النَّاسُ يُجَهِّزُونَ جَسَدَهُ، وَالْمَلَائِكَةُ يُجَهِّزُونَ رُوحَهُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَالْعَرَبُ لَا تَذْكُرُ السَّاقَ إِلَّا فِي الشَّدَائِدِ الْكِبَارِ، وَالْمِحَنِ الْعِظَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ. وَقِيلَ: السَّاقُ الْأَوَّلُ تَعْذِيبُ رُوحِهِ عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِهِ، وَالسَّاقُ الْآخِرُ شِدَّةُ الْبَعْثِ وَمَا بَعْدَهُ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أَيْ: إِلَى خَالِقِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَرْجِعُ، وَذَلِكَ جَمْعُ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ يُسَاقُونَ إِلَيْهِ فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى أي: لم يصدّق بالرسالة

_ (1) . الواقعة: 83.

وَلَا بِالْقُرْآنِ، وَلَا صَلَّى لِرَبِّهِ، وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: فَلَا صَدَّقَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا صَلَّى لِلَّهِ، وَقِيلَ: فَلَا آمَنَ بِقَلْبِهِ وَلَا عَمِلَ بِبَدَنِهِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ لَا بِمَعْنَى لَمْ، وَكَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَا ذَهَبَ، أَيْ: لَمْ يَذْهَبْ، وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ: إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا ... وأيّ عبد لك لا أَلَمَّا وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَيْ: كَذَّبَ بِالرَّسُولِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَتَوَلَّى عَنِ الطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَيْ: يَتَبَخْتَرُ وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ افْتِخَارًا بِذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَطِيِّ وَهُوَ الظَّهْرُ، وَالْمَعْنَى: يَلْوِي مَطَاهُ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ يَتَمَطَّطُ، وَهُوَ التَّمَدُّدُ وَالتَّثَاقُلُ، أَيْ: يَتَثَاقَلُ وَيَتَكَاسَلُ عَنِ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى - ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أَيْ: وَلِيَكَ الْوَيْلَ، وَأَصْلُهُ أَوْلَاكَ اللَّهُ مَا تَكْرَهُهُ، وَاللَّامُ مَزِيدَةٌ كَمَا فِي رَدِفَ لَكُمْ «1» وهذا تهديد شديد، والتكرير للتأكيد، أي: يتكرر عَلَيْكَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ أَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ قَالَ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: بِأَيِّ شَيْءٍ تُهَدِّدُنِي لَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلَا رَبُّكَ أَنْ تَفْعَلَا بِي شَيْئًا، وَإِنِّي لَأَعَزُّ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: الْوَيْلُ لَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: هَمَمْتُ بِنَفْسِي كل الهموم ... فَأَوْلَى لِنَفْسِي أَوْلَى لَهَا وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ الْوَيْلُ، قِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوَيْلٌ لَكَ، ثُمَّ أَخَّرَ الْحَرْفَ الْمُعْتَلَّ. قِيلَ: وَمَعْنَى التَّكْرِيرِ لِهَذَا اللَّفْظِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَالْوَيْلُ لَكَ حَيًّا، وَالْوَيْلُ لَكَ مَيْتًا، وَالْوَيْلُ لَكَ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَالْوَيْلُ لَكَ يَوْمَ تَدْخُلُ النَّارَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ الذَّمَّ لَكَ أَوْلَى لَكَ مِنْ تَرْكِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنْتَ أَوْلَى وَأَجْدَرُ بِهَذَا الْعَذَابِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَوْلَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ مُقَارَبَةُ الْهَلَاكِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ وَلِيتُ الْهَلَاكَ وَقَدْ دَانَيْتَهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَكَ الْوَلَاءُ «2» أَيْ: قَارِبَ أَنْ يَكُونَ لَكَ، وَأَنْشَدَ أَيْضًا: أَوْلَى لِمَنْ هَاجَتْ لَهُ أَنْ يُكَمَّدَا أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَيْ: هَمَلًا، لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَلَا يُحَاسَبُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ الْمُهْمَلُ، وَمِنْهُ إِبِلٌ سُدًى، أَيْ: تَرْعَى بِلَا رَاعٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَيَحْسَبُ أَنْ يُتْرَكَ فِي قَبْرِهِ كَذَلِكَ أَبَدًا لَا يُبْعَثُ. وَجُمْلَةُ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ: أَلَمْ يَكُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَطْرَةً مِنْ مَنِيٍّ يُرَاقُ فِي الرَّحِمِ، وَسْمِي الْمَنِيُّ مَنِيًّا لِإِرَاقَتِهِ، وَالنُّطْفَةُ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ، يُقَالُ: نَطَفَ الماء إذا قطر.

_ (1) . النمل: 72. (2) . في القرطبي قاله الأصمعي هكذا: وأولى أن يكون له الولاء.

قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلَمْ يَكُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى إِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى الْإِنْسَانِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ تَوْبِيخًا لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا: تُمْنَى بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنُّطْفَةِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمَنِيِّ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِمٍ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أَيْ: كَانَ بَعْدَ النُّطْفَةِ عَلَقَةً، أَيْ: دَمًا فَخَلَقَ أَيْ: فَقَدَّرَ بِأَنْ جَعَلَهَا مُضْغَةً مُخَلَّقَةً فَسَوَّى أَيْ: فَعَدَّلَهُ وَكَمَّلَ نَشْأَتَهُ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَجَعَلَ مِنْهُ أَيْ: حَصَّلَ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: مِنَ الْمَنِيِّ الزَّوْجَيْنِ أَيِ: الصِّنْفَيْنِ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَيِ: الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ أَلَيْسَ ذلِكَ أي: أليس ذَلِكَ الَّذِي أَنْشَأَ هَذَا الْخَلْقَ الْبَدِيعَ وَقَدَرَ عَلَيْهِ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أَيْ: يُعِيدُ الْأَجْسَامَ بِالْبَعْثِ كَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْإِعَادَةَ أَهْوَنُ مِنَ الِابْتِدَاءِ، وَأَيْسَرُ مُؤْنَةً مِنْهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِقادِرٍ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَقْدِرُ فِعْلًا مُضَارِعًا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُحْيِيَ بِنَصْبِهِ بِأَنْ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَالْفَيَّاضُ بْنُ غَزَوَانَ بِسُكُونِهَا تَخْفِيفًا، أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ كَمَا مَرَّ فِي مَوَاضِعَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ مَنْ راقٍ قَالَ: تَنْتَزِعُ نَفْسُهُ حَتَّى إِذَا كَانَتْ فِي تَرَاقِيهِ، قِيلَ: مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ أَوْ مَلَائِكَةَ الْعَذَابِ؟ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ قَالَ: التفت عليه الدنيا والآخرة وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ أَيُّهُمْ يَرْقَى بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ ابن حميد عنه وَقِيلَ مَنْ راقٍ قال: مَنْ رَاقٍ يَرْقِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ يَقُولُ: آخِرُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدنيا وأوّل يوم من أيام الآخرة، فتلتقي الشِّدَّةُ بِالشِّدَّةِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا يَتَمَطَّى قَالَ: يَخْتَالُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سألت ابن عباس عن قوله: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أَشَيْءٌ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جَهْلٍ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، أَمْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ؟ قَالَ: بَلْ قَالَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، ثُمَّ أَنْزَلَهُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً قَالَ: هَمَلًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ صَالِحِ أَبِي الْخَلِيلِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبَلَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَكَ رَبِّي وَبَلَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ: «بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا» : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ «1» فَلْيَقُلْ: بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَمَنْ قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى

_ (1) . التين: 8.

إِلَى قَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَبَلَغَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ «1» فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ» وَفِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَرَأْتَ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَبَلَغْتَ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى فقل: بلى» .

_ (1) . سورة المرسلات بتمامها.

سورة الإنسان

سورة الإنسان قَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ، وَقِيلَ: فِيهَا مَكِّيٌّ مِنْ قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا «1» إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَمَا قَبْلَهُ مَدَنِيٌّ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلْ وَاسْتَفْهِمْ» ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلْتُمْ عَلَيْنَا بِالْأَلْوَانِ وَالصُّوَرِ وَالنُّبُوَّةِ، أَفَرَأَيْتَ إِنْ آمَنْتُ بِمَا آمَنْتَ بِهِ وَعَمِلْتُ بِمَا عَمِلْتَ بِهِ أَنِّي كَائِنٌ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لِيُرَى بَيَاضُ الْأَسْوَدِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَسَنَةً» وَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ إلى قوله: مُلْكاً كَبِيراً فَقَالَ الْحَبَشِيُّ: وَإِنَّ عَيْنِي لِتَرَى مَا تَرَى عَيْنَاكَ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، فَاشْتَكَى حَتَّى فَاضَتْ نَفْسُهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْلِيهِ فِي حُفْرَتِهِ بِيَدِهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ: أَنَّ رَجُلًا أَسْوَدَ كَانَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَكْثَرْتَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَهْ يَا عُمَرُ. وَأُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى ذِكْرِ الْجَنَّةِ زَفَرَ الْأَسْوَدُ زَفْرَةً خَرَجَتْ نَفْسُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَاتَ شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَه وَابْنُ مُنَيْعٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظْمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالضِّيَاءُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصَّعِدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)

_ (1) . الإنسان: 23.

حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ الْمَعَانِي أَنَّ هَلْ هُنَا بِمَعْنَى قَدْ، وَلَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «هَلْ» تَكُونُ جَحْدًا، وَتَكُونُ خَبَرًا، فَهَذَا مِنَ الْخَبَرِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: هَلْ أَعْطَيْتُكَ؟ تُقَرِّرُهُ بِأَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ، وَالْجَحْدُ أَنْ تَقُولَ: هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا؟ وَقِيلَ: هِيَ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى قَدْ فَفِيهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَالْأَصْلُ: أَهَلْ أَتَى، فَالْمَعْنَى: أَقَدْ أَتَى، وَالِاسْتِفْهَامُ للتقرير والتقريب، والمراد بالإنسان هنا آدم، قاله قَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ قِيلَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خُلِقَ مِنْ طِينِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ صَلْصَالٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَمَّ خَلْقُهُ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: الْحِينُ الْمَذْكُورُ هُنَا لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ بَنُو آدَمَ، وَالْحِينُ مُدَّةُ الْحَمْلِ، وَجُمْلَةُ: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْإِنْسَانِ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعِ صِفَةٍ لِحِينٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ وَثَعْلَبٌ: الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ جَسَدًا مُصَوَّرًا تُرَابًا وَطِينًا لَا يُذْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ وَلَا يُدْرَى مَا اسْمُهُ وَلَا مَا يُرَادُ بِهِ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَصَارَ مَذْكُورًا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا فِي الْخَلْقِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الْإِخْبَارُ، فَإِنَّ إِخْبَارَ الرَّبِّ عَنِ الْكَائِنَاتِ قَدِيمٌ، بَلْ هُوَ الذِّكْرُ بِمَعْنَى الْخَطَرِ وَالشَّرَفِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَا كَانَ مَذْكُورًا لِلْخَلْقِ وَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا. فَجُعِلَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقَيْدِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: قَدْ مَضَتْ أَزْمِنَةٌ وَمَا كَانَ آدَمُ شَيْئًا وَلَا مَخْلُوقًا وَلَا مَذْكُورًا لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلِيقَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: هَلْ أَتَى حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، لِأَنَّهُ خَلَقَهُ بَعْدَ خَلْقِ الْحَيَوَانِ كله، ولم يخلق بعده حيوان إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا ابْنُ آدَمَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَالنُّطْفَةُ: الْمَاءُ الَّذِي يُقَطَّرُ، وَهُوَ الْمَنِيُّ، وَكُلُّ مَاءٍ قَلِيلٌ فِي وِعَاءٍ فَهُوَ نُطْفَةٌ، وجمعها نطف، وأَمْشاجٍ صِفَةٌ لِنُطْفَةٍ، وَهِيَ جَمْعُ مُشُجٍ، أَوْ مَشِيجٍ، وَهِيَ الْأَخْلَاطُ، وَالْمُرَادُ نُطْفَةُ الرَّجُلِ وَنُطْفَةُ الْمَرْأَةِ وَاخْتِلَاطُهُمَا. يُقَالُ: مَشَجَ هَذَا بِهَذَا فَهُوَ مَمْشُوجٌ، أَيْ: خَلَطَ هَذَا بِهَذَا فَهُوَ مَخْلُوطٌ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: مَشَجَ يَمْشُجُ إِذَا اخْتَلَطَ، وَهُوَ هُنَا اخْتِلَاطُ النُّطْفَةِ بِالدَّمِ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ: يطرحن كلّ معجل نشّاج ... لم يكس جلدا في دم أمشاج

_ (1) . الزخرف: 44.

قَالَ الْفَرَّاءُ: أَمْشَاجٌ: اخْتِلَاطُ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ وَالدَّمِ وَالْعَلَقَةِ، وَيُقَالُ: مَشَجَ هَذَا إِذَا خَلَطَ، وَقِيلَ: الْأَمْشَاجُ: الْحُمْرَةُ فِي الْبَيَاضِ وَالْبَيَاضُ فِي الْحُمْرَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ يَخْتَارُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. قَالَ الْهُذَلِيُّ: كَأَنَّ الرّيش والفوقين منه ... خلاف النّصل سيط بِهِ «1» مَشِيجُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ فَيُخْلَقُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْأَمْشَاجُ: الْأَخْلَاطُ لِأَنَّهَا ممتزجة من أنواع يخلق الإنسان منها ذا طباع مُخْتَلِفَةٌ. وَقِيلَ: الْأَمْشَاجُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ كَبِرْمَةِ أَعْشَارٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا وُقُوعُهُ نَعْتًا لِنُطْفَةٍ، وَجُمْلَةُ: نَبْتَلِيهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ خَلَقْنَا، أَيْ: مُرِيدِينَ ابْتِلَاءَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْنَى: نَبْتَلِيهِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَبِالتَّكَالِيفِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً لنبتليه وَهِيَ مُقَدِّمَةٌ مَعْنَاهَا التَّأْخِيرُ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْحَالُ مُقَدَّرَةً، وَقِيلَ: مُقَارَنَةً. وَقِيلَ: مَعْنَى الِابْتِلَاءِ: نَقْلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مَا يَصِحُّ مَعَهُ الِابْتِلَاءُ فَقَالَ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً أَيْ: بَيَّنَّا لَهُ، وَعَرَّفْنَاهُ طَرِيقَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «2» قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ بَيَّنَّا السَّبِيلَ إِلَى الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ: السَّبِيلُ هُنَا خُرُوجُهُ مِنَ الرَّحِمِ، وَقِيلَ: مَنَافِعُهُ وَمَضَارُّهُ الَّتِي يَهْتَدِي إِلَيْهَا بِطَبْعِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ، وَانْتِصَابُ شَاكِرًا وَكَفُورًا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ هَدَيْناهُ أَيْ: مَكَّنَّاهُ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ فِي حَالَتَيْهِ جَمِيعًا، وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ مِنْ سَبِيلٍ عَلَى الْمَجَازِ، أَيْ: عَرَّفْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا سَبِيلًا شَاكِرًا وَإِمَّا سَبِيلًا كَفُورًا. وَحَكَى مَكِّيٌّ عَنِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِمَّا: هِيَ إِنْ شُرْطِيَّةٌ زِيدَتْ بَعْدَهَا مَا، أَيْ: بَيَّنَّا لَهُ الطَّرِيقَ إِنْ شَكَرَ وَإِنْ كَفَرَ. وَاخْتَارَ هَذَا الْفَرَّاءُ، وَلَا يُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ لِأَنَّ إِنِ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ إِلَّا أَنْ يُضْمَرَ بَعْدَهَا فِعْلٌ، وَلَا يَصِحُّ هُنَا إِضْمَارُ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ رَفْعُ شَاكِرًا وَكَفُورًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُضْمَرَ فعل ينصب شاكرا وكفورا، وَتَقْدِيرُهُ: إِنْ خَلَقْنَاهُ شَاكِرًا فَشَكُورٌ وَإِنْ خَلَقْنَاهُ كَافِرًا فَكَفُورٌ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِمَّا. وَقَرَأَ ابن السّمّال وَأَبُو الْعَجَّاجِ بِفَتْحِهَا، وَهِيَ عَلَى الْفَتْحِ إِمَّا الْعَاطِفَةُ فِي لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ، أَوْ هِيَ التفصيلية وجوابها مقدّر، وقيل: انتصب شاكرا وكفورا بِإِضْمَارِ كَانَ، وَالتَّقْدِيرُ: سَوَاءٌ كَانَ شَاكِرًا أَوْ كَانَ كَفُورًا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ فَقَالَ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عاصم وهشام عن ابن عامر سلاسلا بالتنوين، ووقف قنبل وابن كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ وَقَفُوا بِالْأَلِفِ. وَوَجْهُ مَنْ قَرَأَ بِالتَّنْوِينِ فِي سَلَاسِلَ مَعَ كَوْنِ فِيهِ صِيغَةُ مُنْتَهَى الْجُمُوعِ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ التَّنَاسُبَ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً، وَمَا بَعْدَهُ وَهُوَ أَغْلالًا وَسَعِيراً

_ (1) . «سيط به» : أي خرج شيء من الريش مختلط من الدم والماء. (2) . البلد: 10.

مُنَوَّنٌ أَوْ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَصْرِفُ جَمِيعَ مَا لَا يَنْصَرِفُ كَمَا حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: سَمِعْنَا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَصْرِفُ كُلَّ مَا لَا يَنْصَرِفُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ الصَّرْفُ وَتَرَكَ الصَّرْفَ لِعَارِضٍ فِيهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَجُرُّ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا إِلَّا قَوْلُهُمْ: هُوَ أَظْرَفُ مِنْكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَجُرُّونَهُ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: كَأَنَّ سُيُوفَنَا فِينَا وَفِيهِمْ ... مَخَارِيقٌ بِأَيْدِي لَاعِبِينَا وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِذَا الرِّجَالُ رَأَوْا يَزِيدَ رَأَيْتَهُمْ ... خُضُعَ الرِّقَابِ نَوَاكِسِ الْأَبْصَارِ بِكَسْرِ السِّينِ مِنْ نَوَاكِسِ، وَقَوْلُ لَبِيَدٍ: وجزور أستار دعوت لحتفها ... بمغالق مُتَشَابِهٌ أَعْلَاقُهَا وَقَوْلُهُ أَيْضًا: فَضْلًا وَذُو كَرَمٍ يعين على النّدى ... سمح كسوب رَغَائِبٍ غَنَّامُهَا وَقِيلَ: إِنَّ التَّنْوِينَ لِمُوَافَقَةِ رَسْمِ الْمَصَاحِفِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْكُوفِيَّةِ فَإِنَّهَا فِيهَا بِالْأَلِفِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّنْوِينَ بَدَلٌ مِنْ حَرْفِ الْإِطْلَاقِ، وَيَجْرِي الْوَصْلُ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَالسَّلَاسِلُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَالْخِلَافُ فِيهَا هَلْ هِيَ الْقُيُودُ، أَوْ مَا يُجْعَلُ فِي الْأَعْنَاقِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: ... وَلَكِنْ ... أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ وَالْأَغْلَالُ جَمْعُ غُلٍّ تُغَلُّ بِهِ الْأَيْدِي إِلَى الْأَعْنَاقِ، وَالسَّعِيرُ: الْوَقُودُ الشَّدِيدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ السَّعِيرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَعَدَّهُ لِلشَّاكِرِينَ فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ الْأَبْرَارُ: أَهْلُ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقُ، جَمْعُ بَرٍّ أَوْ: بَارٍّ. قَالَ فِي الصَّحَّاحِ: جَمْعُ الْبَرِّ الْأَبْرَارُ، وَجَمْعُ الْبَارِّ الْبَرَرَةُ، وَفُلَانٌ يَبَرُّ خَالِقَهُ وَيَبْرُرُهُ، أَيْ: يُطِيعُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْبَرُّ الَّذِي لَا يُؤْذِي الذَّرَّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَبْرَارُ الَّذِينَ يُؤَدُّونَ حَقَّ اللَّهِ وَيُوفُونَ بِالنَّذْرِ. وَالْكَأْسُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِنَاءُ الَّذِي فِيهِ الشَّرَابُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ الشَّرَابُ لَمْ يُسَمَّ كَأْسًا، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِالزُّجَاجَةِ، بَلْ يَكُونُ مِنَ الزُّجَاجِ وَمِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالصِّينِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَتْ كَاسَاتُ الْعَرَبِ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْكَأْسُ عَلَى نَفْسِ الْخَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَكَأْسٌ شُرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا كانَ مِزاجُها كافُوراً أَيْ: يُخَالِطُهَا وَتُمْزَجُ بِهِ، يُقَالُ مَزَجَهُ يَمْزُجُهُ مَزْجًا، أَيْ: خلطه يخلطه خلطا، ومنه قول الشاعر «1» :

_ (1) . هو حسان.

كأنّ سبيئة مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... كَأَنَّ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ وَقَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: صَدَدْتِ الْكَأْسَ عَنَّا أُمَّ عَمْرٍو ... وَكَانَ الْكَأْسُ مَجْرَاهَا الْيَمِينَا مُعَتَّقَةً «1» كَأَنَّ الحُصَّ «2» فِيهَا ... إِذَا مَا الْمَاءُ خَالَطَهَا سَخِينَا وَمِنْهُ مِزَاجُ الْبَدَنِ، وَهُوَ مَا يُمَازِجُهُ من الأخلاط، وكافُوراً قِيلَ: هُوَ اسْمُ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ يُقَالُ لها الكافور تُمْزَجُ خَمْرُ الْجَنَّةِ بِمَاءِ هَذِهِ الْعَيْنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: تُمْزَجُ لَهُمْ بِالْكَافُورِ وَتُخْتَمُ لَهُمْ بِالْمِسْكِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مِزَاجُهَا طَعْمُهَا، وَقِيلَ: إِنَّمَا الْكَافُورُ فِي رِيحِهَا لَا فِي طَعْمِهَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ الْكَافُورَ فِي بَيَاضِهِ وَطِيبِ رَائِحَتِهِ وَبَرْدِهِ، لِأَنَّ الْكَافُورَ لَا يُشْرَبُ كَمَا فِي قوله: حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً «3» أي ك: نار. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: طَيَّبَهَا الْمِسْكُ وَالْكَافُورُ وَالزَّنْجَبِيلُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَيْسَ هُوَ كَافُورُ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ مَا عِنْدَهُ بِمَا عِنْدَكُمْ حَتَّى تَهْتَدِيَ لَهُ الْقُلُوبُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ جَرِّ صِفَةٍ لِكَأْسٍ. وَقِيلَ: إِنَّ كَانَ هُنَا زَائِدَةٌ، أي: من كأس مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ انْتِصَابُ عَيْنًا عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ كافُوراً، لِأَنَّ مَاءَهَا فِي بَيَاضِ الْكَافُورِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّهَا بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّ مِنْ كَأْسٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَشْرَبُونَ خَمْرًا خَمْرُ عَيْنٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُنْتَصِبَةٌ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولُ يَشْرَبُونَ، أَيْ: عَيْنًا مِنْ كَأْسٍ، وَقِيلَ: هِيَ مُنْتَصِبَةٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَقِيلَ: مُنْتَصِبَةٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: يَشْرَبُونَ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وتكون وجملة يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ صفة لعينا. وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ فِي يَشْرَبُ بِها زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى مَنْ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَيَعْضُدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ «يَشْرَبُهَا عِبَادُ اللَّهِ» . وَقِيلَ: إِنَّ يَشْرَبُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى يَلْتَذُّ، وَقِيلَ: هِيَ متعلقة بيشرب، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْكَأْسِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَشْرَبُهَا وَيَشْرَبُ بِهَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى، وَكَأَنَّ يَشْرَبُ بِهَا يُرْوَى بِهَا وَيُنْتَفَعُ بِهَا، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْهُذَلِيِّ: شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ «4» قَالَ: وَمِثْلُهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ حَسَنٍ، وَتَكَلَّمَ كَلَامًا حَسَنًا يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أَيْ: يَجُرُّونَهَا إِلَى حَيْثُ يُرِيدُونَ وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا كَمَا يَشَاءُونَ، وَيَتْبَعُهُمْ مَاؤُهَا إِلَى كُلِّ مَكَانٍ يُرِيدُونَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ، فَهُمْ يَشُقُّونَهَا شَقًّا كَمَا يُشَقُّ النَّهْرُ وَيُفَجَّرُ إِلَى هُنَا وهنا. قال مجاهد: يقودونها حيث شاؤوا، وَتَتْبَعُهُمْ حَيْثُ مَالُوا مَالَتْ مَعَهُمْ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ أخرى لعينا، وَجُمْلَةُ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ مُسْتَأْنَفَةٌ مُسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَا لِأَجْلِهِ رُزِقُوا مَا ذَكَرَ. وَكَذَا مَا عُطِفَ عَلَيْهَا، وَمَعْنَى النَّذْرِ فِي اللُّغَةِ الْإِيجَابُ، وَالْمَعْنَى: يُوفُونَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّاعَاتِ. قال قتادة ومجاهد: ويوفون بطاعة الله

_ (1) . في شرح المعلقات السبع: مشعشعة. (2) . «الحص» : الورس، وهو نبت له نوار أحمر يشبه الزعفران. (3) . الكهف: 96. (4) . وعجز البيت: متى لجج خضر لهنّ نئيج. و «نئيج» : أي: مرّ سريع مع صوت. [.....]

مِنَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِمَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يُوفُونَ إِذَا نَذَرُوا فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالنَّذْرُ فِي الشَّرْعِ: مَا أَوْجَبَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَالْمَعْنَى: يُوفُونَ بِمَا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ: كَانُوا يُوفُونَ بالنذر في الدنيا. وقال الكلبي: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أَيْ: يُتَمِّمُونَ الْعَهْدَ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ النَّذْرِ هُنَا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً الْمُرَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَعْنَى اسْتِطَارَةُ شَرِّهِ: فَشُوُّهَ وَانْتِشَارُهُ، يُقَالُ: اسْتَطَارَ يَسْتَطِيرُ اسْتِطَارَةً فَهُوَ مُسْتَطِيرٌ، وَهُوَ اسْتَفْعَلَ مِنَ الطَّيَرَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: فبانت وقد أسأرت فِي الْفُؤَا ... دِ صَدْعًا عَلَى نَأْيِهَا مُسْتَطِيرَا وَالْعَرَبُ تَقُولُ: اسْتَطَارَ الصَّدْعُ فِي الْقَارُورَةِ وَالزُّجَاجَةِ إذا امتدّ، ويقال: استطار الحرق إِذَا انْتَشَرَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُسْتَطِيرُ: الْمُسْتَطِيلُ. قَالَ قَتَادَةُ: اسْتَطَارَ شَرُّ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى مَلَأَ السموات وَالْأَرْضَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ شَرُّهُ فَاشِيًا فِي السموات فَانْشَقَّتْ وَتَنَاثَرَتِ الْكَوَاكِبُ وَفَزِعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَفِي الْأَرْضِ نُسِفَتِ الْجِبَالُ وَغَارَتِ الْمِيَاهُ. وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً أَيْ: يُطْعِمُونَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ الْأَصْنَافِ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ لَدَيْهِمْ وَقِلَّتِهِ عِنْدَهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى قِلَّتِهِ وَحُبِّهِمْ إِيَّاهُ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ فَقَوْلُهُ عَلى حُبِّهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَائِنَيْنِ عَلَى حُبِّهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «1» وَقِيلَ: عَلَى حُبِّ الْإِطْعَامِ لِرَغْبَتِهِمْ فِي الْخَيْرِ. قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: عَلَى حُبِّ إِطْعَامِ الطَّعَامِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي حُبِّهِ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّ اللَّهِ، أَيْ: يُطْعِمُونَ إِطْعَامًا كَائِنًا عَلَى حُبِّ اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ وَالْمِسْكِينُ: ذُو الْمَسْكَنَةِ، وَهُوَ الْفَقِيرُ، أَوْ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ مِنَ الْفَقِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالْيَتِيمِ يَتَامَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَسِيرُ: الَّذِي يُؤْسَرُ فَيُحْبَسُ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: الْأَسِيرُ: الْمَحْبُوسُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْأَسِيرُ: الْعَبْدُ. وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ: الْأَسِيرُ: الْمَرْأَةُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَسَخَ هَذَا الْإِطْعَامَ آيَةُ الصَّدَقَاتِ وَآيَةُ السَّيْفِ فِي حَقِّ الْأَسِيرِ الْكَافِرِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَإِطْعَامُ الْمِسْكِينِ وَالْيَتِيمِ عَلَى التَّطَوُّعِ، وَإِطْعَامُ الْأَسِيرِ لِحِفْظِ نَفْسِهِ إلّا أَنْ يَتَخَيَّرَ فِيهِ الْإِمَامُ، وَجُمْلَةُ إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يَقُولُونَ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ، أَوْ قَائِلِينَ: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّعُونَ الْمُكَافَأَةَ وَلَا يُرِيدُونَ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. قال الواحدي: قال المفسرون: لم يَسْتَكْمِلُوا بِهَذَا، وَلَكِنْ عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَعَلِمَ مِنْ ثَنَائِهِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً أَيْ: لَا نَطْلُبُ مِنْكُمُ الْمُجَازَاةَ عَلَى هَذَا الْإِطْعَامِ وَلَا نُرِيدُ مِنْكُمُ الشُّكْرَ لَنَا، بَلْ هُوَ خَالِصٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَنْ أَطْعَمَ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا يُرِيدُ الْمُكَافَأَةَ وَلَا يَطْلُبُ الشُّكْرَ لَهُ مِمَّنْ أَطْعَمَهُ إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً أَيْ: نَخَافُ عَذَابَ يَوْمٍ مُتَّصِفٍ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ. وَمَعْنَى عَبُوسًا: أَنَّهُ يَوْمٌ تَعْبِسُ فِيهِ الْوُجُوهُ مِنْ هَوْلِهِ وَشِدَّتِهِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ذُو عَبُوسٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ

_ (1) . آل عمران: 92.

وَقُمَاطِرٌ إِذَا كَانَ صَعْبًا شَدِيدًا، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: بَنِي عَمِّنَا هَلْ تَذْكُرُونَ بَلَاءَنَا ... عَلَيْكُمْ إِذَا مَا كَانَ يَوْمَ قُمَاطِرَ قَالَ الْأَخْفَشُ: الْقَمْطَرِيرُ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَيَّامِ وَأَطْوَلُهُ فِي الْبَلَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَفِرُّوا إِذَا مَا الْحَرْبُ ثَارَ غُبَارُهَا ... وَلَجَّ بِهَا الْيَوْمُ الْعَبُوسُ الْقُمَاطِرُ قَالَ الْكِسَائِيُّ: اقْمَطَرَّ الْيَوْمَ وَازْمَهَرَّ إِذَا كَانَ صَعْبًا شَدِيدًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : بَنُو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة ... وَمَنْ يَلْقَ مِنَّا ذَلِكَ الْيَوْمَ يَهْرُبِ وَقَالَ مجاهد: إن العبوس بالشفتين، والقمطرير بِالْجَبْهَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ، فَجَعَلَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْمُتَغَيِّرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِمَا يَرَاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَأَنْشَدَ ابن الأعرابي: يغدو على الصّيد يعود مُنْكَسِرْ ... وَيُقَمْطِرُ سَاعَةً وَيَكْفَهِرْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يقال قمطرير، أي: متقبض مَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ اقْمَطَرَّتِ النَّاقَةُ إِذَا رَفَعَتْ ذَنَبَهَا وَجَمَعَتْ قُطْرَيْهَا وزمّت بأنفها، فاشتقّه مِنَ الْقَطْرِ، وَجَعَلَ الْمِيمَ مَزِيدَةً. فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي: دفع عنهم شرّه بسبب خوفهم منه وإطعامهم لوجهه وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً أَيْ: أَعْطَاهُمْ بَدَلَ الْعُبُوسِ فِي الْكُفَّارِ نَضْرَةً فِي الْوُجُوهِ وَسُرُورًا فِي الْقُلُوبِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَالنَّضْرَةُ: الْبَيَاضُ وَالنَّقَاءُ فِي وُجُوهِهِمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْحُسْنُ وَالْبَهَاءُ، وَقِيلَ: النَّضْرَةُ أَثَرُ النِّعْمَةِ. وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أَيْ: بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى التَّكَالِيفِ، وَقِيلَ: عَلَى الْفَقْرِ، وَقِيلَ: عَلَى الْجُوعِ، وَقِيلَ: عَلَى الصَّوْمِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ الصَّبْرُ عليه طاعة لله سبحانه، و «ما» مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بِصَبْرِهِمْ جَنَّةً وَحَرِيراً أَيْ: أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ وَأَلْبَسَهُمُ الْحَرِيرَ، وَهُوَ لِبَاسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عِوَضًا عَنْ تَرْكِهِ فِي الدُّنْيَا امْتِثَالًا لِمَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِنْ تَحْرِيمِهِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَنْ خَافَ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَطْعَمَ لِوَجْهِ اللَّهِ وَخَافَ مِنْ عَذَابِهِ، وَالسَّبَبُ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا كَمَا سَيَأْتِي فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَيَدْخُلُ سَبَبُ التَّنْزِيلِ تَحْتَ عُمُومِهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ قَالَ: كُلِّ إِنْسَانٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْشاجٍ قَالَ: أمشاجها: عروقها. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَمْشاجٍ قَالَ: الْعُرُوقُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ قَالَ: مَاءُ الرَّجُلِ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ حِينَ يَخْتَلِطَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: أَمْشاجٍ أَلْوَانٍ نُطْفَةُ الرَّجُلِ بَيْضَاءُ وَحَمْرَاءُ، وَنُطْفَةُ الْمَرْأَةِ خَضْرَاءُ وَحَمْرَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عنه

_ (1) . حذيفة بن أنس الهذلي.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 13 إلى 22]

أَيْضًا قَالَ: الْأَمْشَاجُ: الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى أَثَرِ الْبَوْلِ كَقِطَعِ الْأَوْتَارِ، وَمِنْهُ يَكُونُ الْوَلَدِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً قال: فاشيا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَأَسِيراً قَالَ: هُوَ الْمُشْرِكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِسْكِيناً قَالَ: فَقِيرًا وَيَتِيماً قَالَ: لَا أَبَ لَهُ وَأَسِيراً قَالَ: الْمَمْلُوكُ وَالْمَسْجُونُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ الْآيَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَفَاطِمَةَ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَوْماً عَبُوساً قَالَ: ضَيِّقًا قَمْطَرِيراً قَالَ: طَوِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً قَالَ: يَقْبِضُ مَا بَيْنَ الْأَبْصَارِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقَمْطَرِيرُ الرَّجُلُ الْمُنْقَبِضُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَوَجْهِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً قَالَ: نَضْرَةً في وجوههم وسرورا في صدورهم. [سورة الإنسان (76) : الآيات 13 الى 22] مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) قَوْلُهُ: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ جَزَاهُمْ، وَالْعَامِلُ فِيهَا جَزَى، وَلَا يَعْمَلُ فِيهَا صَبَرُوا لِأَنَّ الصَّبْرَ إِنَّمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَجَوَّزَ أَبُو البقاء أن يكون صفة لجنة. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ مُتَّكِئِينَ تَابِعًا، كَأَنَّهُ قَالَ: جَزَاهُمْ جَنَّةً مُتَّكِئِينَ فِيهَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَالضَّمِيرُ مِنْ فِيها يَعُودُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْأَرَائِكُ: السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ مَفْعُولِ «جَزَاهُمْ» ، فَتَكُونُ مِنَ الْحَالِ الْمُتَرَادِفَةِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُتَّكِئِينَ، فَتَكُونُ مِنَ الْحَالِ الْمُتَدَاخِلَةِ، أَوْ صِفَةً أُخْرَى لِلْجَنَّةِ، وَالزَّمْهَرِيرُ: أَشَدُّ الْبَرْدِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِي الْجَنَّةِ حَرَّ الشَّمْسِ وَلَا بَرْدَ الزَّمْهَرِيرِ، وَمِنْهُ قول الأعشى: منعّمة طفلة كالمها ... ة لَمْ تَرَ شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرَا وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الزّمهرير: القمر بلغة طيّئ، وَأَنْشَدَ لِشَاعِرِهِمْ: وَلَيْلَةً ظَلَامُهَا قَدِ اعْتَكَرْ ... قَطَعْتُهَا والزّمهرير ما زهر

_ (1) . هذان الأثران لا يستندان إلى دليل شرعي فلا يعتد بهما.

وَيُرْوَى: مَا ظَهَرَ، أَيْ: لَمْ يَطْلُعِ الْقَمَرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ. وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها قَرَأَ الْجُمْهُورُ «دَانِيَةً» بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ «لَا يَرَوْنَ» ، أَوْ عَلَى «مُتَّكِئِينَ» ، أَوْ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَجَنَّةٍ دَانِيَةٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَجَزَاهُمْ جَنَّةً دَانِيَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ صِفَةٌ لِجَنَّةٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ «وَدَانِيَةٌ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَظِلَالُهَا مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ظِلَالَ الْأَشْجَارِ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ، مُظِلَّةٌ عَلَيْهِمْ، زِيَادَةً فِي نَعِيمِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَا شَمْسَ هُنَالِكَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي شَجَرُهَا قَرِيبٌ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «وَدَانِيًا عَلَيْهِمْ» . وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا مَعْطُوفٌ عَلَى دَانِيَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمُذَلَّلَةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَالْقُطُوفُ: الثِّمَارُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا سُخِّرَتْ ثِمَارُهَا لِمُتَنَاوِلِيهَا تَسْخِيرًا كَثِيرًا، بِحَيْثُ يَتَنَاوَلُهَا الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ وَالْمُضْطَجِعُ، لَا يَرُدُّ أَيْدِيَهُمْ عَنْهَا بُعْدٌ وَلَا شَوْكٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْمُذَلَّلُ: الْقَرِيبُ الْمُتَنَاوَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَائِطٌ ذَلِيلٌ، أَيْ: قَصِيرٌ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ذُلِّلَتْ: أُدْنِيَتْ، مِنْ قَوْلِهِمْ حَائِطٌ ذَلِيلٌ، أَيْ: كَانَ قَصِيرَ السُّمْكِ. وَقِيلَ: ذُلِّلَتْ أَيْ: جُعِلَتْ مُنْقَادَةً، لَا تَمْتَنِعُ على قطّافها كيف شاؤوا وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ أَيْ: يدور عَلَيْهِمُ الْخَدَمُ إِذَا أَرَادُوا الشَّرَابَ بِآنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَالْأَكْوَابُ: جَمْعُ كُوبٍ، وَهُوَ الْكُوزُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أُذُنَ لَهُ وَلَا عُرْوَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عديّ: متّكئا تُقْرَعُ أَبْوَابُهُ ... يَسْعَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ بِالْكُوبِ وَقَدْ مضى تفسيره في سورة الزخرف كانَتْ قَوارِيرَا- قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ أي: في صفاء القوارير وَفِي بَيَاضِ الْفِضَّةِ، فَصَفَاؤُهَا صَفَاءُ الزُّجَاجِ وَلَوْنُهَا لَوْنُ الْفِضَّةِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ قَوارِيرَا- قَوارِيرَا بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا مَعَ الْوَصْلِ، وَبِالْوَقْفِ عَلَيْهِمَا بِالْأَلِفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ في تفسير قوله: سلاسلا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ وَجْهَ صَرْفِ مَا فِيهِ صِيغَةُ مُنْتَهَى الْجُمُوعِ فَارْجِعْ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِعَدَمِ التَّنْوِينِ فِيهِمَا وَعَدَمِ الْوَقْفِ بِالْأَلِفِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُمَا مُمْتَنِعَانِ لِصِيغَةِ مُنْتَهَى الْجُمُوعِ. وَقَرَأَ هِشَامٌ بِعَدَمِ التَّنْوِينِ فِيهِمَا مَعَ الْوَقْفِ عَلَيْهِمَا بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَنْوِينِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَالْوَقْفِ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْأَلِفِ دُونِ الثَّانِي. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ بِعَدَمِ التَّنْوِينِ فِيهِمَا، وَالْوَقْفِ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْأَلِفِ دُونِ الثَّانِي، وَالْجُمْلَةُ فِي محل جرّ صفة لأكواب. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَحُسْنُ التَّكْرِيرِ لِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ بَيَانِ أَصْلِهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: جَعَلَ اللَّهُ قَوَارِيرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ فِضَّةٍ، فَاجْتَمَعَ لَهَا بَيَاضُ الْفِضَّةِ وَصَفَاءُ الْقَوَارِيرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَوَارِيرُ الَّتِي فِي الدُّنْيَا مِنَ الرَّمْلِ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ فَضْلَ تِلْكَ الْقَوَارِيرِ أَنَّ أَصْلَهَا مِنْ فِضَّةٍ يُرَى مِنْ خَارِجِهَا مَا فِي دَاخِلِهَا، وَجُمْلَةُ قَدَّرُوها تَقْدِيراً صِفَةً لِقَوَارِيرَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «قَدَّرُوهَا» بِفَتْحِ الْقَافِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ: قَدَّرَهَا السُّقَاةُ مِنَ الْخَدَمِ الَّذِينَ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الشَّارِبُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ دُونِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: أَتَوْا بِهَا عَلَى قَدْرِ رَيِّهِمْ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَذَلِكَ أَلَذُّ وَأَشْهَى، وَقِيلَ: قَدَّرَهَا الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: قَدَّرَهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ الشَّارِبُونَ عَلَى مقدار شهواتهم

وحاجتهم فَجَاءَتْ كَمَا يُرِيدُونَ فِي الشَّكْلِ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ والشّعبي وزيد ابن عليّ وعبيد بن عمير وأبو عمرو، وفي رِوَايَةٍ عَنْهُ «قُدِّرُوهَا» بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: جُعِلَتْ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ إِرَادَتِهِمْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، قَالَ: لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ: قُدِّرَتْ عَلَيْهِمْ لَا قَدَّرُوهَا، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قُدِّرُوا عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: التَّقْدِيرُ: قُدِّرَتِ الْأَوَانِي عَلَى قَدْرِ رَيِّهِمْ، فَمَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مَحْذُوفٌ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالْأَقْرَبُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَنْ يُقَالَ: قُدِّرَ رَيُّهُمْ مِنْهَا تَقْدِيرًا، فَحُذِفَ الْمُضَافُ فَصَارَ: قُدِّرُوهَا. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأَخِيرَةَ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَكَأَنَّ الْأَصْلَ قَدَرُوا عَلَيْهَا فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: آلَيْتُ حُبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرُ آكُلُهُ ... وَالْحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ أَيْ: آلَيْتُ عَلَى حُبِّ الْعِرَاقِ وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَأْسَ هُوَ الْإِنَاءُ فِيهِ الْخَمْرُ، وَإِذَا كَانَ خَالِيًا عَنِ الْخَمْرِ فَلَا يُقَالُ لَهُ كَأْسٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُسْقَوْنَ فِي الْجَنَّةِ كَأْسًا مِنَ الْخَمْرِ، مَمْزُوجَةٌ بِالزَّنْجَبِيلِ. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَلِذُّ مَزْجَ الشَّرَابِ بِالزَّنْجَبِيلِ لِطِيبِ رَائِحَتِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الزَّنْجَبِيلُ: اسْمٌ لِلْعَيْنِ الَّتِي يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ زَنْجَبِيلٌ لَا يُشْبِهُ زَنْجَبِيلَ الدُّنْيَا عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا انْتِصَابُ عَيْنًا عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ كَأْسًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يُسْقَوْنَ عَيْنًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنْ عَيْنٍ، وَالسَّلْسَبِيلُ: الشَّرَابُ اللَّذِيذُ، مَأْخُوذٌ مِنَ السَّلَاسَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا شَرَابٌ سَلِسٌ، وَسَلْسَالٌ، وَسَلْسَبِيلٌ، أَيْ: طَيِّبٌ لَذِيذٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: السَّلْسَبِيلُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَاءٍ فِي غَايَةِ السَّلَاسَةِ حَدِيدُ الْجَرْيَةِ يَسُوغُ فِي حُلُوقِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: يُسْقَوْنَ مِنْ وَرْدِ الْبَرِيصِ عَلَيْهِمُ ... كَأْسًا «1» يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ «2» وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ وَصْفِ شَرَابِهِمْ، وَوَصْفِ آنِيَتِهِمْ، وَوَصْفِ السُّقَاةِ الَّذِينَ يَسْقُونَهُمْ ذَلِكَ الشَّرَابَ. وَمَعْنَى: مُخَلَّدُونَ بَاقُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّبَابِ وَالطَّرَاوَةِ وَالنَّضَارَةِ، لَا يَهْرَمُونَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ، وَقِيلَ: مَعْنَى مُخَلَّدُونَ لَا يَمُوتُونَ، وَقِيلَ: التَّخْلِيدُ: التَّحْلِيَةُ، أَيْ مُحَلَّوْنَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ ظَنَنْتَهُمْ لِمَزِيدِ حُسْنِهِمْ وَصَفَاءِ أَلْوَانِهِمْ وَنَضَارَةِ وُجُوهِهِمْ لُؤْلُؤًا مُفَرَّقًا. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ فِي بَيَاضِ اللَّوْنِ وَحُسْنِهِ، وَاللُّؤْلُؤُ إِذَا نُثِرَ مِنَ الْخَيْطِ عَلَى الْبِسَاطِ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ مَنْظُومًا. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّمَا شُبِّهُوا بِالْمَنْثُورِ لِانْتِثَارِهِمْ فِي الْخِدْمَةِ، وَلَوْ كَانُوا صَفًّا لَشُبِّهُوا بِالْمَنْظُومِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا شَبَّهَهُمْ بِالْمَنْثُورِ لِأَنَّهُمْ سِرَاعٌ فِي الْخِدْمَةِ بِخِلَافِ الْحُورِ الْعِينِ فَإِنَّهُ شَبَّهَهُنَّ بِاللُّؤْلُؤِ المكنون لأنهنّ لا يمتهنّ بالخدمة.

_ (1) . في تفسير القرطبي: بردى. وهو نهر بدمشق. (2) . «البريص» : نهر بدمشق. «يصفق» : يمزج. «الرحيق» : الخمر البيضاء.

وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً أَيْ: وَإِذَا رَمَيْتَ بِبَصَرِكَ هُنَاكَ، يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ رَأَيْتَ نَعِيمًا لَا يُوصَفُ، وَمُلْكًا كَبِيرًا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَ «ثَمَّ» ظَرْفُ مَكَانٍ، وَالْعَامِلُ فِيهَا «رَأَيْتَ» . قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ «مَا» مُضْمَرَةٌ، أَيْ: وَإِذَا رَأَيْتَ مَا ثَمَّ، كقوله: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «1» أَيْ: مَا بَيْنَكُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ مُعْتَرِضًا عَلَى الْفَرَّاءِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْمَوْصُولِ وَتَرْكُ الصِّلَةِ، وَلَكِنْ «رَأَيْتَ» يَتَعَدَّى فِي الْمَعْنَى إِلَى «ثَمَّ» . وَالْمَعْنَى: إِذَا رَأَيْتَ بِبَصَرِكَ ثَمَّ، وَيَعْنِي بِثَمَّ الْجَنَّةَ، قَالَ السُّدِّيُّ: النَّعِيمُ: مَا يُتَنَعَّمُ بِهِ، وَالْمُلْكُ الْكَبِيرُ: اسْتِئْذَانُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّ «رَأَيْتَ» لَيْسَ لَهُ مَفْعُولٌ مَلْفُوظٌ وَلَا مُقَدَّرٌ وَلَا مَنْوِيٌّ، بَلْ مَعْنَاهُ: أَنَّ بَصَرَكَ أَيْنَمَا وَقَعَ فِي الْجَنَّةِ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «عَالِيهِمْ» بِسُكُونِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَثِيَابٌ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، أَوْ عَلَى أَنَّ عاليهم مبتدأ، وثياب مُرْتَفِعٌ بِالْفَاعِلِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَمِدِ الْوَصْفَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: ثِيَابُ سُنْدُسٍ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مُرَادٌ بِهِ الْجَمْعُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَثِيَابٌ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَوْقَهُمْ ثِيَابٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ عَالِيَهُمْ بِمَعْنَى فَوْقَهُمْ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: عَالٍ وَعَالِيَةٌ اسْمُ فَاعِلٍ، فَيَحْتَاجُ فِي كَوْنِهِمَا ظَرْفَيْنِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَى هَذَا الزَّجَّاجُ وَقَالَ: هَذَا مِمَّا لَا نَعْرِفُهُ في الظروف، ولو كان ظرفا لَمْ يَجُزْ إِسْكَانُ الْيَاءِ، وَلَكِنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أَيْ: عَلَى الْأَبْرَارِ وِلْدانٌ، عَالِيًا الْأَبْرَارَ ثِيابُ سُندُسٍ، أَيْ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْوِلْدَانِ، أَيْ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا فِي حَالِ عُلُوِّ الثِّيَابِ أَبْدَانِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْعَامِلُ فِي الْحَالِ إِمَّا «لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا» ، وَإِمَّا «جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا» . قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: «عَلَيْهِمْ» ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ وَاضِحَةُ الْمَعْنَى ظَاهِرَةُ الدَّلَالَةِ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى لِقِرَاءَةِ ابْنِ مسعود: «عاليتهم» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ ثِيَابٍ إِلَى سُنْدُسٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِتَنْوِينِ ثِيَابٌ وقطعها عن الإضافة ورفع سندس، وخُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ عَلَى أَنَّ السُّنْدُسَ نَعْتٌ لِلثِّيَابِ لِأَنَّ السُّنْدُسَ نَوْعٌ مِنَ الثِّيَابِ، وَعَلَى أَنَّ خُضْرٍ نَعْتٌ لِسُنْدُسٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَخْضَرُ وَغَيْرُ أَخْضَرٍ، وَعَلَى أَنَّ إِسْتَبْرَقٍ مَعْطُوفٌ عَلَى سُنْدُسٍ، أَيْ: وَثِيَابُ إِسْتَبْرَقٍ، وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْقُرَّاءِ اخْتَلَفُوا فِي خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَرِّ سُنْدُسٍ بِإِضَافَةِ ثِيَابُ إِلَيْهِ فَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِجَرِّ خُضْرٍ نعتا لسندس، وَرَفْعِ إِسْتَبْرَقُ عَطْفًا عَلَى ثِيَابُ، أَيْ: عَلَيْهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ وَعَلَيْهِمْ إِسْتَبْرَقٌ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وابن عامر برفع خضر نعتا لثياب، وَجَرِّ إِسْتَبْرَقٍ نَعْتٌ لِسُنْدُسٍ. وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ لِأَنَّ الْخُضْرَ أَحْسَنُ مَا كَانَتْ نَعْتًا لِلثِّيَابِ فَهِيَ مَرْفُوعَةٌ، وَالْإِسْتَبْرَقُ مِنْ جِنْسِ السُّنْدُسِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ بِرَفْعِ: «خضر وإستبرق» لأن خضر نعت للثياب، وإستبرق عطف على

_ (1) . الأنعام: 94.

الثِّيَابِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِجَرِّ: «خُضْرٍ وإستبرق» على أن خضر نعت للسندس، وإستبرق مَعْطُوفٌ عَلَى سُنْدُسٍ. وَقَرَءُوا كُلُّهُمْ بِصَرْفِ إِسْتَبْرَقٍ إِلَّا ابْنُ مُحَيْصِنٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَصْرِفْهُ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ إِلَّا أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ عَلَمٌ لِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الثِّيَابِ. وَالسُّنْدُسُ: مَا رَقَّ مِنَ الدِّيبَاجِ. وَالْإِسْتَبْرَقُ: مَا غَلُظَ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ عَطْفٌ عَلَى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ. ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هُنَا أَنَّهُمْ يُحَلَّوْنَ بِأَسَاوِرِ الْفِضَّةِ وَفِي سُورَةِ فَاطِرٍ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ «1» وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً «2» وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ سِوَارَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَلُؤْلُؤٍ، أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَلْبَسُونَ سِوَارَاتِ الذَّهَبِ تَارَةً، وَسِوَارَاتِ الْفِضَّةِ تَارَةً، وَسِوَارَاتِ اللُّؤْلُؤِ تَارَةً، أَوْ أَنَّهُ يَلْبَسُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ عَالِيَهُمْ بِتَقْدِيرِ قَدْ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الشَّرَابِ الَّذِي يَمُنُّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ: هُوَ طَهُورٌ لَيْسَ بِنَجِسٍ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مَوْصُوفًا بِالنَّجَاسَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ طَاهِرٌ لَيْسَ كَخَمْرِ الدُّنْيَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ عَيْنُ مَاءٍ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا نَزَعَ اللَّهُ مَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مَنْ غَشٍّ وَغِلٍّ وَحَسَدٍ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُؤْتُونَ بِالطَّعَامِ، فَإِذَا كَانَ آخِرُهُ أَتَوْا بِالشَّرَابِ الطَّهُورِ، فَيَشْرَبُونَ فَتَضْمُرُ بُطُونُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَيَفِيضُ عَرَقٌ مِنْ أَبْدَانِهِمْ مِثْلَ رِيحِ الْمِسْكِ إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ كَانَ لَكُمْ جَزَاءً بِأَعْمَالِكُمْ، أَيْ: ثَوَابًا لَهَا وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أَيْ: كَانَ عَمَلُكُمْ فِي الدُّنْيَا بِطَاعَةِ اللَّهِ مَرْضِيًّا مَقْبُولًا، وَشُكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعَمَلِ عَبْدِهِ هُوَ قَبُولُهُ لِطَاعَتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الزَّمْهَرِيرُ هُوَ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَجَعَلَ لَهَا نَفَسَيْنِ: نَفَسًا فِي الصَّيْفِ، وَنَفَسًا فِي الشِّتَاءِ، فَشِدَّةُ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا، وَشِدَّةُ مَا تَجِدُونَ فِي الصَّيْفِ مِنَ الْحَرِّ مِنْ سَمُومِهَا» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وهناد ابن السَّرِيِّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها قَالَ: قَرِيبَةٌ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ قِيَامًا وَقُعُودًا ومضطجعين وعلى أيّ حال شاؤوا. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: ذُلِّلَتْ فَيَتَنَاوَلُونَ مِنْهَا كَيْفَ شاؤوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وُصَفَاؤُهَا كَصَفَاءِ الْقَوَارِيرِ قَدَّرُوها تَقْدِيراً قَالَ: قُدِّرَتْ لِلْكَفِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: لَوْ أَخَذْتَ فضة من فضة

_ (1) . فاطر: 33. (2) . الحج: 23.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 إلى 31]

الدُّنْيَا فَضَرَبْتَهَا حَتَّى جَعَلْتَهَا مِثْلَ جَنَاحِ الذُّبَابِ لَمْ يُرَ الْمَاءُ مِنْ وَرَائِهَا، وَلَكِنْ قَوَارِيرَ الجنة ببياض الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الْقَوَارِيرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ أَعْطَيْتُمْ فِي الدُّنْيَا شِبْهَهُ إِلَّا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: قَدَّرُوها تَقْدِيراً قَالَ: أَتَوْا بِهَا عَلَى قَدْرِ الْفَمِ لَا يُفَضِّلُونَ شَيْئًا وَلَا يَشْتَهُونَ بَعْدَهَا شَيْئًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَدَّرُوها تَقْدِيراً قَالَ: قَدَّرَتْهَا السُّقَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا مَنْ يَسْعَى عَلَيْهِ أَلْفُ خَادِمٍ كُلُّ خَادِمٍ عَلَى عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً. [سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) قَوْلُهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أَيْ: فَرَّقْنَاهُ فِي الْإِنْزَالِ وَلَمْ نُنْزِلْهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: نَزَّلْنَاهُ عَلَيْكَ وَلَمْ تَأْتِ بِهِ مِنْ عِنْدِكَ كَمَا يَدَّعِيهِ الْمُشْرِكُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أَيْ: لِقَضَائِهِ، وَمِنْ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ تَأْخِيرُ نَصْرِكَ إِلَى أَجَلٍ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ. قِيلَ: وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أَيْ: لَا تُطِعْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مُرْتَكِبٍ لِإِثْمٍ وَغَالٍ فِي كُفْرٍ، فَنَهَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْأَلِفَ هُنَا آكُدُ مِنَ الْوَاوِ وَحْدَهَا لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا تُطِعْ زَيْدًا وَعَمْرًا، فَأَطَاعَ أَحَدَهُمَا كَانَ غَيْرَ عَاصٍ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ لَا يُطِيعَ الِاثْنَيْنِ، فَإِذَا قَالَ: لَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلٌ أَنْ يُعْصَى، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا تُخَالِفِ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ، فَقَدْ قُلْتَ إِنَّهُمَا أَهْلٌ أَنْ يُتَّبَعَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلٌ أَنْ يُتَّبَعَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: «أَوْ» هُنَا بِمَنْزِلَةِ لَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا كَفُورًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: آثِماً عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَبِقَوْلِهِ: أَوْ كَفُوراً الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِأَنَّهُمَا قَالَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَنَحْنُ نُرْضِيكَ بِالْمَالِ وَالتَّزْوِيجِ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أَيْ: دُمْ عَلَى ذِكْرِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: صَلِّ لِرَبِّكَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، فَأَوَّلُ النَّهَارِ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَآخِرُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أَيْ: صَلِّ الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الصَّلَاةُ فِي بَعْضِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا أَيْ: نَزِّهْهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ الذِّكْرُ بِالتَّسْبِيحِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ التَّطَوُّعُ فِي اللَّيْلِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقِيلَ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ. وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ

يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ وَمَنْ هُوَ مُوَافِقٌ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ الدَّارَ الْعَاجِلَةَ، وَهِيَ دَارُ الدُّنْيَا وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا أَيْ: يَتْرُكُونَ وَيَدَعُونَ وَرَاءَهُمْ، أَيْ: خَلْفَهُمْ أَوْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَمَامَهُمْ يَوْمًا شَدِيدًا عَسِيرًا، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَسُمِّيَ ثَقِيلًا لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ. ومعنى كونه يَذَرُونَهُ وَرَاءَهُمْ: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعِدُّونَ لَهُ وَلَا يَعْبَئُونَ بِهِ، فَهُمْ كَمَنَ يَنْبِذُ الشَّيْءَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ تَهَاوُنًا بِهِ وَاسْتِخْفَافًا بِشَأْنِهِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْحَقِيقَةِ مُسْتَقْبِلِينَ لَهُ وَهُوَ أَمَامَهُمْ نَحْنُ خَلَقْناهُمْ أَيِ: ابْتَدَأْنَا خَلْقَهُمْ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ إِلَى أَنْ كَمُلَ خَلْقَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِنَا فِي ذَلِكَ عَمَلٌ وَلَا سَعْيٌ لَا اشْتِرَاكًا وَلَا اسْتِقْلَالًا وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ الْأَسْرُ: شِدَّةُ الْخَلْقِ، يُقَالُ: شَدَّ اللَّهُ أَسْرَ فُلَانٍ: أَيْ قَوَّى خَلْقَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُمْ: شَدَدْنَا خَلْقَهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: شَدَدْنَا أَوْصَالَهُمْ بَعْضًا إِلَى بَعْضٍ بِالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ فَرَسٌ شَدِيدُ الْأَسْرِ، أَيِ: الْخَلْقِ. قَالَ لَبِيدٌ: سَاهِمُ الْوَجْهِ شَدِيدٌ أَسْرُهُ ... مُشْرِفُ الْحَارِكِ محبوك الكتد وَقَالَ الْأَخْطَلُ: مِنْ كُلِّ مُجْتَنِبٍ شَدِيدٍ أَسْرُهُ ... سَلِسِ الْقِيَادِ تَخَالُهُ مُخْتَالَا وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأُسَرُ الْقُوَّةُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْإِسَارِ، وَهُوَ الْقَدُّ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ الْأَقْتَابُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنُ أحمر يصف فرسا: يمشي بأوظفة شداد أسرها ... صمّ السّنابك لا تقي بِالْجُدْجُدِ «1» وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أَيْ: لَوْ شِئْنَا لَأَهْلَكْنَاهُمْ وَجِئْنَا بِأَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَسَخْنَاهُمْ إِلَى أَسْمَجِ صُورَةٍ وَأَقْبَحِ خِلْقَةٍ إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ يَعْنِي إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تَذْكِيرٌ وَمَوْعِظَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي: طريقا يتوصّل بِهِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ: إِلَى ثوابه أو إلى جنّته وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي: وما تشاؤون أَنْ تَتَّخِذُوا إِلَى اللَّهِ سَبِيلًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَالْأَمْرُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ إِلَيْهِمْ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ بِيَدِهِ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، فَمَشِيئَةُ الْعَبْدِ مُجَرَّدَةٌ لَا تَأْتِي بِخَيْرٍ وَلَا تَدْفَعُ شَرًّا، وَإِنْ كَانَ يُثَابُ عَلَى الْمَشِيئَةِ الصَّالِحَةِ، وَيُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِ الْخَيْرِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . قَالَ الزجاج: أي لستم تشاؤون إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، أَيْ: بَلِيغُ الْعَلَمِ وَالْحِكْمَةِ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أَيْ: يُدْخِلُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُدْخِلَهُ فِيهَا، أَوْ يُدْخِلُ فِي جَنَّتِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ عَطَاءٌ: مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ أَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً انْتِصَابُ الظَّالِمِينَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ: يُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ، نُصِبَ الظَّالِمِينَ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مَنْصُوبٌ، أَيْ: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ في رحمته ويعذب الظالمين، أي: المشركين،

_ (1) . «الجدجد» : الأرض الصلبة.

وَيَكُونُ «أَعَدَّ لَهُمْ» تَفْسِيرًا لِهَذَا الْمُضْمَرِ، وَالِاخْتِيَارُ النَّصْبُ وَإِنَّ جَازَ الرَّفْعُ، وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ فِعْلٌ يَقَعُ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ قَالَ: خَلَقَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ قَالَ: هي المفاصل.

سورة المرسلات

سورة المرسلات وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. قَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا آيَةً مِنْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ «1» فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غار بمنى إذا نَزَلَتْ سُورَةُ: الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، فَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لَأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا، إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْتُلُوهَا، فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إِنَّهَا آخَرُ مَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 28] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) قَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ الرِّيَاحُ، وَقِيلَ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالْكَلْبِيُّ، وَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِالرِّيَاحِ الْمُرْسَلَةِ لِمَا يَأْمُرُهَا بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ «2» وَقَوْلِهِ: يُرْسِلُ الرِّياحَ «3» وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَعَلَى الثَّانِي أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُرْسَلَةِ بِوَحْيِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَعَلَى الثَّالِثِ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِرُسُلِهِ الْمُرْسَلَةِ إِلَى عِبَادِهِ لِتَبْلِيغِ شَرَائِعِهِ، وَانْتِصَابُ عُرْفاً إِمَّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ: الْمُرْسَلَاتُ لِأَجْلِ الْعُرْفِ وهو ضدّ النكر، ومنه قول الشاعر:

_ (1) . المرسلات: 48. (2) . الحجر: 22. (3) . النمل: 63.

مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازَيْهِ ... لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ أَوْ عَلَى أنه حال بمعنى متابعة ويتبع بَعْضُهَا بَعْضًا كَعُرْفِ الْفَرَسِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: سَارَ النَّاسُ إِلَى فُلَانٍ عُرْفًا وَاحِدًا إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ، وَهُمْ عَلَى فُلَانٍ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِذَا تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْمُرْسَلَاتُ إِرْسَالًا، أَيْ: مُتَتَابِعَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: وَالْمُرْسَلَاتُ بِالْعُرْفِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «عُرْفًا» بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِضَمِّهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُرْسَلَاتِ السَّحَابُ لِمَا فِيهَا مِنْ نِعْمَةٍ وَنِقْمَةٍ فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَهِيَ الرِّيَاحُ الشَّدِيدَةُ الْهُبُوبِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ، يُقَالُ: عَصَفَ بِالشَّيْءِ إِذَا أَبَادَهُ وَأَهْلَكَهُ، وَنَاقَةٌ عُصُوفٌ، أَيْ: تَعْصِفُ بِرَاكِبِهَا فَتَمْضِي كَأَنَّهَا رِيحٌ فِي السُّرْعَةِ، وَيُقَالُ: عَصَفَتِ الْحَرْبُ بِالْقَوْمِ إِذَا ذَهَبَتْ بِهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالرِّيَاحِ يَعْصِفُونَ بِهَا، وَقِيلَ: يَعْصِفُونَ بِرُوحِ الْكَافِرِ، وَقِيلَ: هِيَ الْآيَاتُ الْمُهْلِكَةُ كَالزَّلَازِلِ وَنَحْوِهَا وَالنَّاشِراتِ نَشْراً يَعْنِي الرِّيَاحَ تَأْتِي بِالْمَطَرِ وَهِيَ تَنْشُرُ السَّحَابَ نَشْرًا، أَوِ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالسَّحَابِ يَنْشُرُونَهَا، أَوْ يَنْشُرُونَ أَجْنِحَتَهُمْ فِي الْجَوِّ عِنْدَ النُّزُولِ بِالْوَحْيِ، أَوْ هِيَ الْأَمْطَارُ لِأَنَّهَا تَنْشُرُ النَّبَاتَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُرِيدُ مَا يُنْشَرُ مِنَ الْكُتُبِ وَأَعْمَالِ بَنِي آدَمَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: إِنَّهُ الْبَعْثُ لِلْقِيَامَةِ بِنَشْرِ الْأَرْوَاحِ، وَجَاءَ بِالْوَاوِ هُنَا لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافُ قَسَمٍ آخَرَ فَالْفارِقاتِ فَرْقاً يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَأْتِي بِمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الرِّيحُ تُفَرِّقُ بَيْنَ السَّحَابِ فَتُبَدِّدُهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ تَفْرُقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقِيلَ: هِيَ الرُّسُلُ فَرَقُوا مَا بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً هِيَ الْمَلَائِكَةُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِإِجْمَاعٍ، أَيْ: تُلْقِي الْوَحْيَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ، وَسُمِّيَ بِاسْمِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَقِيلَ: هِيَ الرُّسُلُ يُلْقُونَ إِلَى أُمَمِهِمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قاله قُطْرُبٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَالْمُلْقِيَاتِ» بِسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ اسْمُ فَاعِلٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مِنَ التَّلْقِيَةِ وَهِيَ إِيصَالُ الْكَلَامِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ لِلرِّيَاحِ، وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا عُذْراً أَوْ نُذْراً انْتِصَابُهُمَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ذِكْرًا، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا الْمَصْدَرُ الْمُنَوَّنُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ- يَتِيماً «1» أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ: أَيْ لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ بِالتَّأْوِيلِ الْمَعْرُوفِ، أَيْ: مُعَذِّرِينَ أَوْ مُنْذِرِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِسْكَانِ الذَّالِ فِيهِمَا. وقرأ زيد بن ثابت وابنه خارجة ابن زَيْدٍ وَطَلْحَةُ بِضَمِّهِمَا. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِسُكُونِهَا فِي عُذْراً وَضَمِّهَا فِي نُذْراً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «عُذْرًا أَوْ نُذْرًا» عَلَى الْعَطْفِ بِأَوْ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَقَتَادَةُ عَلَى الْعَطْفِ بِالْوَاوِ بِدُونِ أَلِفٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تلقي الوحي عذرا إِلَى خَلْقِهِ وَإِنْذَارًا مِنْ عَذَابِهِ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقِيلَ: عُذْرًا لِلْمُحِقِّينَ وَنُذْرًا لِلْمُبْطِلِينَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعُذُرُ وَالنُّذُرُ بِالتَّثْقِيلِ جَمْعُ عَاذِرٍ وَنَاذِرٍ كَقَوْلِهِ: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى «2» فَيَكُونُ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْإِلْقَاءِ، أَيْ: يلقون الذكر في حال العذر والإنذار،

_ (1) . البلد: 14- 15. (2) . النجم: 56. [.....]

أو مفعولا لذكرا، أَيْ: تَذَكَّرْ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُمَا بِالتَّثْقِيلِ جَمْعٌ، وَالْوَاحِدُ عَذِيرٌ وَنَذِيرٌ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ جَوَابَ الْقَسَمِ فَقَالَ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ أَيْ: إِنَّ الَّذِي تُوعَدُونَهُ مِنْ مَجِيءِ السَّاعَةِ وَالْبَعْثِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَتَى يَقَعُ ذَلِكَ فَقَالَ: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي محي نورها وذهب ضوءها، يُقَالُ: طُمِسَ الشَّيْءُ إِذَا دَرَسَ وَذَهَبَ أَثَرُهُ وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أَيْ: فُتِحَتْ وَشُقَّتْ، وَمِثْلُهُ قوله: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً «1» وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أَيْ قُلِعَتْ مِنْ مَكَانِهَا بِسُرْعَةٍ، يُقَالُ نَسَفْتُ الشَّيْءَ وَأَنْسَفْتُهُ إِذَا أَخَذْتَهُ بِسُرْعَةٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: سُوِّيَتْ بِالْأَرْضِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: نَسَفَتِ النَّاقَةُ الْكَلَأَ إِذَا رَعَتْهُ، وَقِيلَ: جُعِلَتْ كَالْحَبِّ الَّذِي يُنْسَفُ بِالْمَنْسَفِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا «2» وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الْمُبَرِّدُ: نُسِفَتْ: قُلِعَتْ مِنْ مَوَاضِعِهَا وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ الْهَمْزَةُ فِي أُقِّتَتْ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ، وَكُلُّ وَاوٍ انْضَمَّتْ وَكَانَتْ ضَمَّتُهَا لَازِمَةً يَجُوزُ إِبْدَالُهَا بِالْهَمْزَةِ، وَقَدْ قَرَأَ بِالْوَاوِ أَبُو عَمْرٍو وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ، وَالْوَقْتُ: الْأَجَلُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَهُ الشيء المؤخر إليه، والمعنى: جعل لها وقت لِلْفَصْلِ وَالْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأُمَمِ كَمَا فِي قوله سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ «3» وَقِيلَ: هَذَا فِي الدُّنْيَا، أَيْ: جُمِعَتِ الرُّسُلُ لِمِيقَاتِهَا الَّذِي ضُرِبَ لَهَا فِي إِنْزَالِ الْعَذَابِ بِمَنْ كَذَّبَهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أَيْ جَعَلَ يَوْمَ الدِّينِ وَالْفَصْلِ لَهَا وَقْتًا، وَقِيلَ: أُقِّتَتْ: أُرْسِلَتْ لِأَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى مَا عَلِمَ اللَّهُ بِهِ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّعْجِيبِ، أَيْ: لِأَيِّ يَوْمٍ عَظِيمٍ يَعْجَبُ الْعِبَادُ مِنْهُ لِشَدَّتِهِ وَمَزِيدِ أَهْوَالِهِ ضُرِبَ لَهُمُ الْأَجَلُ لِجَمْعِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ مَقُولُ قَوْلٍ مقدر هو جواب لإذا، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «أُقِّتَتْ» . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْتَّأْقِيتِ تَبْيِينُ الْوَقْتِ الَّذِي يَحْضُرُونَ فِيهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَالَ: لِيَوْمِ الْفَصْلِ قَالَ قَتَادَةُ: يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ عَظَّمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقَالَ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ أَيْ: وَمَا أَعْلَمَكَ بِيَوْمِ الْفَصْلِ يَعْنِي أَنَّهُ أَمْرٌ بَدِيعٌ هَائِلٌ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَ «مَا» مُبْتَدَأٌ وَ «أَدْرَاكَ» خَبَرُهُ، أَوِ الْعَكْسُ كَمَا اخْتَارَهُ سِيبَوَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيْ: وَيْلٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْهَائِلِ، وَوَيْلٌ: أَصْلُ مَصْدَرٍ سَادٌّ مَسَدَّ فِعْلِهِ، وَعَدَلَ بِهِ إِلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ، وَالْوَيْلُ: الْهَلَاكُ أَوْ هُوَ: اسْمُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَكَرَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ قَسَّمَ الْوَيْلَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ تَكْذِيبِهِمْ، فَإِنَّ لِكُلِّ مُكَذِّبٍ بِشَيْءٍ عَذَابًا سِوَى تَكْذِيبِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَرُبَّ شَيْءٍ كُذِّبَ بِهِ هُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنَ التَّكْذِيبِ بِغَيْرِهِ، فَيَقْسِمُ لَهُ مِنَ الْوَيْلِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا فَعَلَ بِالْكُفَّارِ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فَقَالَ: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِإِهْلَاكِ الْكُفَّارِ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا حِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ يَعْنِي كُفَّارَ مكة، ومن وافقهم حين كذبوا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «نُتْبِعُهُمُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ: ثُمَّ نَحْنُ نُتْبِعُهُمُ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ لَيْسَ بِمَعْطُوفٍ لِأَنَّ الْعَطْفَ

_ (1) . النبأ: 19. (2) . الواقعة: 5. (3) . المائدة: 9.

يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَهْلَكْنَا الْأَوَّلِينَ ثُمَّ أَتْبَعْنَاهُمُ الْآخَرِينَ فِي الْإِهْلَاكِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ إِهْلَاكَ الْآخَرِينَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ. وَيَدُلُّ عَلَى الرفع قراءة ابن مسعود «ثم سنتبعهم الآخرين» . وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو و «نُتْبِعْهُمْ» بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى «نُهْلِكْ» . قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: عَلَى جَعْلِ الْفِعْلِ مَعْطُوفًا عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: «أَلَمْ نُهْلِكِ» . كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْفَظِيعِ نَفْعَلُ بِهِمْ، يُرِيدُ مَنْ يُهْلِكُهُ فِيمَا بَعْدُ، وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِهْلَاكِ نَفْعَلُ بِكُلِّ مُشْرِكٍ إِمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيْ: وَيْلٌ يَوْمَ ذَلِكَ الْإِهْلَاكِ لِلْمُكَذِّبِينَ بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، قِيلَ: الْوَيْلُ الْأَوَّلُ لِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَهَذَا لِعَذَابِ الدُّنْيَا أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أَيْ: ضَعِيفٍ حَقِيرٍ، وَهُوَ النُّطْفَةُ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ أَيْ: مَكَانٍ حَرِيزٍ، وَهُوَ الرَّحِمُ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أَيْ: إِلَى مِقْدَارٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ مُدَّةُ الْحَمْلِ، وَقِيلَ: إِلَى أَنْ يُصَوَّرَ فَقَدَرْنا قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَقَدَرْنَا» بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّقْدِيرِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى، تَقُولُ: قَدَرْتُ كَذَا، وَقَدَّرْتُهُ فَنِعْمَ الْقادِرُونَ أَيْ: نِعْمَ الْمُقَدِّرُونَ نَحْنُ، قِيلَ: الْمَعْنَى: قَدَرْنَاهُ قَصِيرًا أَوْ طَوِيلًا، وَقِيلَ: مَعْنَى قَدَرْنَا مُلْكَنَا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بِقُدْرَتِنَا عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ بَدِيعَ صُنْعِهِ وَعَظِيمَ قُدْرَتِهِ لِيَعْتَبِرُوا، فَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً مَعْنَى الْكَفْتُ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، يُقَالُ: كَفَتَ الشَّيْءَ إِذَا ضَمَّهُ وَجَمَعَهُ، وَمِنْ هَذَا يُقَالُ لِلْجِرَابِ وَالْقِدْرِ: كَفْتٌ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ ضَامَّةً لِلْأَحْيَاءِ عَلَى ظَهْرِهَا وَالْأَمْوَاتِ فِي بَاطِنِهَا تَضُمُّهُمْ وَتَجْمَعُهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ تَكْفِتُهُمْ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا فِي دُورِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَتَكْفِتُهُمْ أَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا، أَيْ: تَحُوزُهُمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَحْياءً وَأَمْواتاً وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: كِرَامٌ حِينَ تَنْكَفِتُ الْأَفَاعِي ... إِلَى أَجْحَارِهِنَّ مِنَ الصَّقِيعِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كِفاتاً أَوْعِيَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَأَنْتَ الْيَوْمَ فَوْقَ الْأَرْضِ حيّا ... وأنت غدا تضمّك فِي كِفَاتِ أَيْ: فِي قَبْرٍ، وَقِيلَ: مَعْنَى جَعْلِهَا كِفَاتًا أَنَّهُ يُدْفَنُ فِيهَا مَا يَخْرُجُ من الإنسان من الفضلات. قال الْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ وَصْفَانِ لِلْأَرْضِ، أَيِ: الْأَرْضُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى حَيٍّ وَهُوَ الَّذِي يَنْبُتُ، وَإِلَى مَيِّتٍ وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْبُتُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: انْتِصَابُ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا بِوُقُوعِ الْكِفَاتِ عَلَيْهِ، أَيْ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتَ أَحْيَاءٍ وَأَمْوَاتٍ، فَإِذَا نُوِّنَ نُصِبَ مَا بَعْدَهُ، وَقِيلَ: نصبا على الحال من الأرض، أي: وَمِنْهَا كَذَا، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: كِفَاتًا جَمْعُ كَافِتَةٍ، وَالْأَرْضُ يُرَادُ بِهَا الْجَمْعُ فَنُعِتَتْ بِالْجَمْعِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: التكفيت: تَقْلِيبُ الشَّيْءِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ أَوْ بَطْنًا لِظَهْرٍ، وَيُقَالُ: انْكَفَتَ الْقَوْمُ إِلَى مَنَازِلَهُمْ، أَيْ: ذَهَبُوا وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ أَيْ: جِبَالًا طُوَالًا، وَالرَّوَاسِي: الثَّوَابِتُ، وَالشَّامِخَاتُ: الطُّوَالُ، وَكُلُّ عَالٍ فَهُوَ شَامِخٌ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً أَيْ: عَذْبًا، وَالْفُرَاتُ: الْمَاءُ الْعَذْبُ يُشْرَبُ مِنْهُ وَيُسْقَى بِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَهَذَا كُلُّهُ أَعْجَبُ مِنَ الْبَعْثِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بِمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ مَنْ نِعَمِنَا الَّتِي هَذِهِ مِنْ جُمْلَتِهَا.

[سورة المرسلات (77) : الآيات 29 إلى 50]

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً قَالَ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ أُرْسِلَتْ بِالْعُرْفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً قَالَ: الرِّيحُ فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً قَالَ: الرِّيحُ وَالنَّاشِراتِ نَشْراً قَالَ: الرِّيحُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَا الْعَاصِفَاتُ عَصْفًا؟ قَالَ: الرِّيَاحَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً قَالَ: الرِّيحُ فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً قَالَ: الرِّيحُ فَالْفارِقاتِ فَرْقاً قَالَ: الْمَلَائِكَةُ فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً قَالَ: الْمَلَائِكَةُ فَالْفارِقاتِ فَرْقاً قَالَ: الْمَلَائِكَةُ، فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً بِالتَّنْزِيلِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: وَيْلٌ: وَادٍ فِي جهنم يَسِيلُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، فَجُعِلَ لِلْمُكَذِّبِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ قَالَ: ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ كِفاتاً قَالَ: كِنًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا رَواسِيَ شامِخاتٍ قَالَ: جِبَالًا مشرفات، وفي قوله: فُراتاً قال: عذبا. [سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 50] انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ هُوَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا، تَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، أَيْ: سِيرُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ أَيْ: إِلَى ظِلٍّ مِنْ دُخَانِ جَهَنَّمَ قَدْ سَطَعَ، ثُمَّ افْتَرَقَ ثَلَاثَ فِرَقٍ تَكُونُونَ فِيهِ حَتَّى يَفْرُغَ الْحِسَابُ، وَهَذَا شَأْنُ الدُّخَّانِ الْعَظِيمِ إِذَا ارْتَفَعَ تَشَعَّبَ شُعَبًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «انْطَلِقُوا» فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ عَلَى التَّأْكِيدِ. وَقَرَأَ رُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي الثَّانِي: أَيْ لَمَّا أُمِرُوا بِالِانْطِلَاقِ امْتَثَلُوا ذَلِكَ فَانْطَلَقُوا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالظِّلِّ هُنَا هُوَ السُّرَادِقُ، وَهُوَ لِسَانٌ مِنَ النَّارِ يُحِيطُ بِهِمْ. ثُمَّ يَتَشَعَّبُ ثَلَاثَ شُعَبٍ فَيُظِلُّهُمْ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ حِسَابِهِمْ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ الظِّلُّ مِنْ يَحْمُومٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ- وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ «1» عَلَى مَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَذَا الظِّلَّ

_ (1) . الواقعة: 42- 43.

تَهَكُّمًا بِهِمْ فَقَالَ: لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أَيْ: لَا يُظِلُّ مِنَ الْحَرِّ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا يَرُدُّ حَرَّ جَهَنَّمَ عَنْكُمْ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ النَّارَ فَقَالَ: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ أَيْ: كُلُّ شَرَرَةٍ مِنْ شَرَرِهَا الَّتِي تَرْمِي بِهَا كَالْقَصْرِ مِنَ الْقُصُورِ فِي عِظَمِهَا، وَالشَّرَرُ: مَا تَطَايَرَ مِنَ النَّارِ مُتَفَرِّقًا، وَالْقَصْرُ: الْبِنَاءُ الْعَظِيمُ. وَقِيلَ: الْقَصْرُ جَمْعُ قَصْرَةٍ سَاكِنَةِ الصَّادِ، مِثْلَ جمر وجمرة، وَتَمْرٌ وَتَمْرَةٌ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ مِنْ جَزْلِ الْحَطَبِ الْغَلِيظِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: وَهِيَ أُصُولُ الشَّجَرِ الْعِظَامُ، وَقِيلَ: أَعْنَاقُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «كَالْقَصْرِ» بِإِسْكَانِ الصَّادِ، وَهُوَ وَاحِدُ الْقُصُورِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَالسُّلَمِيُّ بِفَتْحِ الصَّادِ، أَيْ: أَعْنَاقُ النَّخْلِ، وَالْقَصَرَةُ: الْعُنُقُ، جَمْعُهُ قَصْرٌ وَقَصَرَاتٌ. وَقَالَ قَتَادَةٌ: أَعْنَاقُ الْإِبِلِ. وقرأ سعيد ابن جُبَيْرٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الصَّادِ، وَهِيَ أَيْضًا جَمْعُ قَصْرَةٍ مِثْلَ بَدْرٍ وَبَدْرَةٍ، وَقَصْعٍ وَقَصْعَةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «بِشَرَرٍ» بِفَتْحِ الشِّينِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مِقْسَمٍ بِكَسْرِهَا مَعَ أَلِفٍ بَيْنَ الراءين. وقرأ عيسى كذلك إلا أنه يفتح الشِّينِ، وَهِيَ لُغَاتٌ، ثُمَّ شَبَّهَ الشَّرَرَ بِاعْتِبَارِ لونه فقال: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وَهِيَ جَمْعُ جِمَالٍ، وَهِيَ الْإِبِلُ، أَوْ جَمْعُ جَمَّالَةٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «جِمَالَاتٌ» بِكَسْرِ الْجِيمِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ «جِمَالَةٌ» جَمْعُ جَمَلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو رَجَاءَ «جُمَالَاتٌ» بِضَمِّ الْجِيمِ، وَهِيَ حِبَالُ السُّفُنِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالصُّفْرُ مَعْنَاهَا السُّودُ فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الصُّفْرُ: سَوَادُ الْإِبِلِ، لَا يُرَى أَسْوَدُ مِنَ الْإِبِلِ إِلَّا وَهُوَ مُشْرَبٌ صُفْرَةً، لِذَلِكَ سَمَّتِ الْعَرَبُ سُودَ الْإِبِلِ صُفْرًا. قِيلَ: وَالشَّرَرُ إِذَا تَطَايَرَ وَسَقَطَ وَفِيهِ بقية من لون النار أشبه بِالْإِبِلِ السُّودِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تِلْكَ خَيْلِي منه وَتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلَادُهَا كَالزَّبِيبِ أَيْ: هُنَّ سُودٌ، قِيلَ: وَهَذَا الْقَوْلُ مُحَالٌ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ يَشُوبُهُ شَيْءٌ قَلِيلٌ، فَيُنْسَبُ كُلُّهُ إِلَى ذَلِكَ الشَّائِبِ، فَالْعَجَبُ لِمَنْ قال بهذا، وقد قال تعالى: جِمالَتٌ صُفْرٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَهُ: أَنَّ النَّارَ خُلِقَتْ مِنَ النُّورِ فَهِيَ مُضِيئَةٌ، فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ جَهَنَّمَ، وَهِيَ مَوْضِعُ النَّارِ حُشِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِتِلْكَ النَّارِ، وَبَعَثَ إِلَيْهَا سُلْطَانَهُ وَغَضَبَهُ فَاسْوَدَّتْ مِنْ سُلْطَانِهِ وَازْدَادَتْ سَوَادًا، وَصَارَتْ أَشَدَّ سَوَادًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَيَكُونُ شَرَرُهَا أَسْوَدَ لِأَنَّهُ مِنْ نَارٍ سَوْدَاءَ. قُلْتُ: وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَدْفَعُ مَا قَالَهُ الْقَائِلُ لِأَنَّ كَلَامَهُ بِاعْتِبَارِ مَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ هُنَا مِنْ وَصْفِهَا بِكَوْنِهَا صَفْرَاءَ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ مِنِ اسْوِدَادِ النَّارِ، وَاسْوِدَادِ شَرَرِهَا، لَقَالَ اللَّهُ: كَأَنَّهَا جِمَالَاتٌ سُودٌ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَسْوَدَ أَصْفَرَ لَمْ يَبْقَ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وَقَدْ نَقَلَ الثِّقَاتُ عَنْهُمْ ذَلِكَ، فَكَانَ مَا فِي الْقُرْآنِ هُنَا وَارِدًا عَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ أَيْ: لَا يَتَكَلَّمُونَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَوَاقِفُ، فَفِي بَعْضِهَا يَتَكَلَّمُونَ، وَفِي بَعْضِهَا يُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَمْعَ بِهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى وَقْتِ دُخُولِهِمُ النَّارَ وَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَنْطِقُونَ لِأَنَّ مَوَاقِفَ السُّؤَالِ وَالْحِسَابِ قَدِ انْقَضَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ وَإِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ «يَوْمٌ» عَلَى أَنَّهُ خبر لاسم

الْإِشَارَةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْرَجُ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالْفَتْحِ عَلَى الْبِنَاءِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْفِعْلِ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعِيدِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا الْعِقَابُ الْمَذْكُورُ كَائِنٌ يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يُؤْذَنُ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: «وَلَا يَأْذَنُ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ: لَا يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُمْ، أَيْ: لَا يَكُونُ لَهُمْ إِذْنٌ مِنَ اللَّهِ فَيَكُونُ لَهُمُ اعْتِذَارٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلَ الِاعْتِذَارَ مُسَبَّبًا عَنِ الْإِذْنِ كَمَا لَوْ نُصِبَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْفَاءُ فِي فَيَعْتَذِرُونَ نَسَقٌ عَلَى يُؤْذَنُ وَأُجِيزَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَوَاخِرَ الْكَلَامِ بِالنُّونِ، وَلَوْ قَالَ فَيَعْتَذِرُوا لَمْ يُوَافِقِ الْآيَاتِ، وَقَدْ قَالَ: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا «1» بِالنُّصْبِ، وَالْكُلُّ صَوَابٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بِمَا دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ وَأَنْذَرَتْهُمْ عَاقِبَتُهُ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ أَيْ: وَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ وَيَتَمَيَّزُ فِيهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْخِطَابُ فِي جَمَعْنَاكُمْ لِلْكَفَّارِ فِي زَمَنِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ كُفَّارُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ أَيْ: إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى كَيْدٍ الْآنَ فَكِيدُونِ وَهَذَا تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ إِنْ كَانَ لَكُمْ حِيلَةٌ فَاحْتَالُوا لِأَنْفُسِكُمْ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَإِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى حَرْبٍ فَحَارِبُونِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ هُودٍ: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ «2» . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لأنه قد ظَهَرَ لَهُمْ عَجُزُهُمْ وَبُطْلَانُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ أَيْ: فِي ظِلَالِ الْأَشْجَارِ وَظِلَالِ الْقُصُورِ، لَا كَالظِّلِّ الَّذِي لِلْكُفَّارِ مِنَ الدُّخَانِ، أَوْ مِنَ النَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ لِأَنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فِي تَقْرِيعِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ. قَالَ الرَّازِّيُّ: فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مَذْكُورَةً لِهَذَا الْغَرَضِ وَإِلَّا لَتَفَكَّكَتِ السُّورَةُ فِي نَظْمِهَا وَتَرْتِيبِهَا وَإِنَّمَا يَتِمُّ النَّظْمُ بِأَنْ يَكُونَ الْوَعْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، فَأَمَّا جَعْلُهُ سَبَبًا لِلطَّاعَةِ فَلَا يَلِيقُ بِالنَّظْمِ كَذَا قَالَ. وَالْمُرَادُ بِالْعُيُونِ الْأَنْهَارُ، وَبِالْفَوَاكِهِ مَا يَتَفَكَّهُ بِهِ مِمَّا تَطْلُبُهُ أَنْفُسُهُمْ وَتَسْتَدْعِيهِ شَهَوَاتُهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، فَالْجُمْلَةُ مُقَدَّرَةٌ بِالْقَوْلِ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَّقِينَ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ بِسَبَبِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فِي ظِلَالٍ» . وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالزُّهْرِيُّ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْرَجُ «فِي ظُلُلٍ» جَمْعُ ظُلَّةٍ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حَيْثُ صَارُوا فِي شَقَاءٍ عَظِيمٍ، وَصَارَ الْمُؤْمِنُونَ فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ الْجُمْلَةُ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ: أَيِ الْوَيْلُ ثَابِتٌ لَهُمْ فِي حَالِ ما يقال لهم ذلك تذكيرا لَهُمْ بِحَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ يُقَالُ لَهُمْ هَذَا فِي الدُّنْيَا، وَالْمُجْرِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ أَمْرًا فَهُوَ فِي الْمَعْنَى تَهْدِيدٌ وَزَجْرٌ عَظِيمٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كَرَّرَهُ لِزِيَادَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ أَيْ: وَإِذَا أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ لا يصلون.

_ (1) . فاطر: 36. (2) . هود: 55.

قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي ثَقِيفٍ امْتَنَعُوا مِنَ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فَقَالُوا: لَا نَنْحَنِي فَإِنَّهَا مَسَبَّةٌ عَلَيْنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَيْسَ فِيهِ رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ» . وَقِيلَ: إِنَّمَا يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ حِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ. وَقِيلَ: الْمَعْنِيُّ بِالرُّكُوعِ: الطَّاعَةُ وَالْخُشُوعُ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بِأَوَامِرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَنَوَاهِيهِ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أَيْ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ يُصَدِّقُونَ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يُؤْمِنُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَيَعْقُوبُ: بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قَالَ: كَالْقَصْرِ الْعَظِيمِ، وقوله: جِمالَتٌ صُفْرٌ قَالَ: قِطَعُ النُّحَاسِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طريق عبد الرّحمن بن عباس قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قَالَ: كُنَّا نَرْفَعُ الْخَشَبَ بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ أَوْ أَقَلَّ، فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ الْقَصْرَ. قَالَ: وَسَمِعَتْهُ يَسْأَلُ عَنْ قوله: جِمالَتٌ صُفْرٌ قَالَ: حِبَالُ السُّفُنِ يُجْمَعُ بَعْضُهَا إِلَى بعض حتى يكون كَأَوْسَاطِ الرِّجَالِ. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: كُنَّا نَعْمِدُ إِلَى الْخَشَبَةِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ وَفَوْقَ ذَلِكَ فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ فنسميه القصر كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ حِبَالُ السُّفُنِ تُجْمَعُ حَتَّى تَكُونَ كَأَوْسَاطِ الرِّجَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ: «كَالْقَصَرِ» بِفَتْحِ الْقَافِ وَالصَّادِ. وَقَالَ: قَصَرُ النَّخْلِ: يَعْنِي الْأَعْنَاقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَقُولُ: أَقْصِرُوا لَنَا الْحَطَبَ، فَيُقْطَعُ عَلَى قَدْرِ الذِّرَاعِ وَالذِّرَاعَيْنَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ كَالشَّجَرِ وَالْجِبَالِ، وَلَكِنَّهَا مِثْلُ الْمَدَائِنِ وَالْحُصُونِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَالْقَصْرِ قَالَ: هُوَ الْقَصْرُ، وفي قوله: جِمالَتٌ صُفْرٌ قَالَ: الْإِبِلُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طريق عكرمة قال: سأل نافع ابن الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً «1» وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «2» وهاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ «3» فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ هَلْ سَأَلْتَ عَنْ هذا أحد قَبْلِي؟ قَالَ لَا، قَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ سَأَلْتَ هَلَكْتَ، أَلَيْسَ قَالَ اللَّهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «4» قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ لِكُلِّ مِقْدَارِ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ لَوْنًا مِنَ الْأَلْوَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ يَقُولُ: يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا.

_ (1) . طه: 108. (2) . الصافات: 27. (3) . الحاقة: 19. (4) . الحج: 47.

سورة النبأ

سورة النّبأ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ عَمَّ يَتَساءَلُونَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 30] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) قَوْلُهُ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ أَصْلُهُ عَنْ مَا فَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي الْمِيمِ لِأَنَّ الْمِيمَ تَشَارِكُهَا فِي الْغُنَّةِ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ، وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ لِيَتَمَيَّزَ الْخَبَرُ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ، وَكَذَلِكَ فِيمَ وَمِمَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: عَنْ أَيٍّ شَيْءٍ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «عَمَّ» بِحَذْفِ الْأَلِفِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعِكْرِمَةُ وَعِيسَى بِإِثْبَاتِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر: علام قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي دَمَانِ؟! وَلَكِنَّهُ قَلِيلٌ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ، وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ بِهَاءِ السَّكْتِ عِوَضًا عَنِ الْأَلِفِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّفْظُ لَفْظُ اسْتِفْهَامٍ، وَالْمَعْنَى تَفْخِيمُ الْقِصَّةِ، كَمَا تَقُولُ: أَيْ شَيْءٌ تُرِيدُ إِذَا عَظَّمَتْ شَأْنَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُمْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ يَقُولُونَ: مَاذَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَمَا الَّذِي أَتَى بِهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّسَاؤُلُ هُوَ أَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَالتَّقَابُلِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي أَنْ يَتَحَدَّثُوا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ

بَيْنَهُمْ سُؤَالٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ- قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ «1» الْآيَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ التَّحَدُّثُ، وَلَفْظُ «مَا» مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَطْلُوبِ مَجْهُولًا، فَجَعَلَ الشَّيْءَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَعْجَزُ الْعَقْلُ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِكُنْهِهِ كَأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَلِهَذَا جَاءَ سُبْحَانَهُ بِلَفْظِ مَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَسَاؤُلَهُمْ عَنْ مَاذَا وَبَيَّنَهُ فَقَالَ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ فَأَوْرَدَهُ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ، مُبْهَمًا لِتَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ أَذْهَانُهُمْ، وَتَلْتَفِتَ إِلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِمَا يُفِيدُ تَعْظِيمَهُ وَتَفْخِيمَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَتَسَاءَلُونَ هَلْ أَخْبَرَكُمْ بِهِ؟ ثُمَّ قِيلَ: بِطَرِيقِ الْجَوَابِ: «عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ» عَلَى مِنْهَاجِ قَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ «2» فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَوْ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ أَكْثَرُ النُّحَاةِ: عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ مُتَعَلِّقٌ بِيَتَسَاءَلُونَ الظَّاهِرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لِمَ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِمُتَعَلِّقٍ بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ دُخُولُ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَعَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ؟ فَلَزِمَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيَتَسَاءَلُونَ آخَرُ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ النَّبَأُ، أَيِ: الْقُرْآنُ، عَظِيمًا لِأَنَّهُ يُنَبِّئُ عَنِ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَوُقُوعِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي نَبَأَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ النَّبَأَ الْعَظِيمَ هُوَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْقُرْآنِ، فَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ سِحْرًا، وَبَعْضُهُمْ شِعْرًا، وَبَعْضُهُمْ كِهَانَةً، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَأَمَّا الْبَعْثُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْكُفَّارُ إِذْ ذَاكَ عَلَى إِنْكَارِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْبَعْثِ فِي الْجُمْلَةِ، فَصَدَّقَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَكَذَّبَ بِهِ الْكَافِرُونَ، فَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الِاخْتِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْكُفَّارِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّنَزُّلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْقُرْآنُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ- أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ «3» وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْبَعْثُ أَنَّهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَسْتَنْكِرُهُ الْمُشْرِكُونَ وَتَأْبَاهُ عقولهم السخفية. وَأَيْضًا فَطَوَائِفُ الْكُفَّارِ قَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْبَعْثِ فَأَثْبَتَ النَّصَارَى الْمَعَادَ الرُّوحَانِيَّ، وَأَثْبَتَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ، وَفِي التَّوْرَاةِ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْجَنَّةِ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ بِلَفْظِ «جَنْعِيْذَا» بِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ عَيْنٍ مَكْسُورَةٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ تَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ. وَفِي الْإِنْجِيلِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةِ التَّصْرِيحُ بِالْمَعَادِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ النَّعِيمُ لِلْمُطِيعِينَ وَالْعَذَابُ لِلْعَاصِينَ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ طَوَائِفِ كُفَّارِ الْعَرَبِ يُنْكِرُ الْمَعَادَ كَمَا حَكَى اللَّهُ عنهم بقوله: مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «4» وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ جَازِمَةٍ بِنَفْيِهِ، بَلْ شَاكَّةٌ فِيهِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ «5» وَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «6» فَقَدْ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ طَوَائِفِ الْكُفْرِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يَتَسَاءَلُونَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَيَزْدَادُ يقينا واستعدادا وبصيرة في دينه، وأما

_ (1) . الصافات: 50- 51. (2) . غافر: 16. (3) . ص: 67- 68. (4) . الجاثية: 24. [.....] (5) . الجاثية: 32. (6) . فصلت: 50.

الْكَافِرُ فَاسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً. قَالَ الرَّازِّيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ وَيَقُولُونَ: مَا هَذَا الَّذِي يَعِدُنَا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جَرِّ صِفَةٍ لِلنَّبَإِ بَعْدَ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ عَظِيمًا، فهو متّصف بِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ رَدْعٌ لَهُمْ وَزَجْرٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ هُمُ الْكُفَّارُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ إِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ الرَّدْعُ وَالْوَعِيدُ إِلَى الْكُفَّارِ فَقَطْ، وَقِيلَ: «كَلَّا» بِمَعْنَى حَقًّا، ثُمَّ كَرَّرَ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ فَقَالَ: ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ فِي الْوَعِيدِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِي الْفِعْلَيْنِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ دِينَارٍ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ الْأَوَّلُ بِالْفَوْقِيَّةِ وَالثَّانِي بِالتَّحْتِيَّةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْضًا كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يَعْنِي الْكَافِرِينَ عَاقِبَةَ تَكْذِيبِهِمْ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ عَاقِبَةَ تَصْدِيقِهِمْ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ: هُوَ وَعِيدٌ بَعْدَهُ وَعِيدٌ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَلَّا سَيَعْلَمُونَ عِنْدَ النَّزْعِ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ عِنْدَ الْبَعْثِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَدِيعَ صُنْعِهِ وَعَظِيمَ قُدْرَتِهِ لِيَعْرِفُوا تَوْحِيدَهُ وَيُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ فَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً- وَالْجِبالَ أَوْتاداً أي: قدرتنا على هذا الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ أَعْظَمُ مِنْ قُدْرَتِنَا عَلَى الْإِعَادَةِ بِالْبَعْثِ. وَالْمِهَادُ: الْوِطَاءُ وَالْفِرَاشُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً «1» قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «مِهَادًا» وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَعِيسَى وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ «مَهْدًا» وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا كَالْمَهْدِ لِلصَّبِيِّ وَهُوَ مَا يُمَهَّدُ لَهُ فَيُنَوَّمُ عَلَيْهِ. وَالْأَوْتَادُ جَمْعُ وَتَدٍ، أَيْ: جَعَلْنَا الْجِبَالَ أَوْتَادًا لِلْأَرْضِ لِتَسْكُنَ وَلَا تَتَحَرَّكَ كما ترسى الْخِيَامَ بِالْأَوْتَادِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّسَاؤُلَ الْكَائِنَ بَيْنَهُمْ هُوَ عَنْ أَمْرِ الْبَعْثِ، لَا عَنِ الْقُرْآنِ، وَلَا عَنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قِيلَ لِأَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ إِنَّمَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْبَعْثِ وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُضَارِعِ الْمَنْفِيِّ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهِ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ: أَمَّا خَلَقْنَاكُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ هُنَا الْأَصْنَافُ، أَيِ: الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ الْأَلْوَانُ، وَقِيلَ: يَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ زَوْجٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ قَبِيحٍ وَحَسَنٍ وَطَوِيلٍ وَقَصِيرٍ وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أَيْ: رَاحَةً لِأَبْدَانِكُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: السُّبَاتُ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالرُّوحُ فِي بَدَنِهِ، أَيْ: جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ رَاحَةً لَكُمْ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ قَطْعًا لِأَعْمَالِكُمْ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبْتِ الْقَطْعَ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ التَّمَدُّدُ، يُقَالُ: سَبَتَتِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا إِذَا حَلَّتْهُ وَأَرْسَلَتْهُ، وَرَجُلٌ مَسْبُوتُ الْخَلْقِ: أَيْ مَمْدُودُهُ، وَالرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِيحَ تَمَدَّدَ، فَسُمِّيَ النَّوْمُ سُبَاتًا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ مَوْتًا، وَالنَّوْمُ أَحَدُ الْمَوْتَتَيْنِ، فَالْمَسْبُوتُ يُشْبِهُ الْمَيِّتَ وَلَكِنَّهُ لَمْ تُفَارِقْهُ الرُّوحُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : وَمَطْوِيَّةُ الْأَقْرَابِ أَمَّا نَهَارُهَا ... فَسَبَتٌ وَأَمَّا ليلها فذميل «3»

_ (1) . البقرة: 22. (2) . هو حميد بن ثور. (3) . «السبت» : السير السريع. «الذميل» : السير اللين. استشهد القرطبي بهذا البيت بعد أن قال: سير سبت: أي سهل لين.

وَمِنْ هَذَا قَوْلِهِ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها «1» الآية، وقوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «2» وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً أَيْ: نُلْبِسُكُمْ ظُلْمَتَهُ وَنُغَشِّيكُمْ بِهَا كَمَا يُغَشِّيكُمُ اللِّبَاسُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ: أَيْ سَكَنًا لَكُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَا يَسْتُرُهُ عِنْدَ النَّوْمِ مِنَ اللِّحَافِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْجَعْلَ وَقَعَ عَلَى اللَّيْلِ، لَا عَلَى مَا يَسْتَتِرُ بِهِ النَّائِمُ عِنْدَ نَوْمِهِ وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أَيْ: وَقْتَ مَعَاشٍ، وَالْمَعَاشُ: الْعَيْشُ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُعَاشُ بِهِ فَهُوَ مَعَاشٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمُ النَّهَارَ مُضِيئًا لِيَسْعَوْا فِيمَا يَقُومُ بِهِ مَعَاشُهُمْ وَمَا قَسَمَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً يريد سبع سماوات قَوِيَّةَ الْخَلْقِ مَحْكَمَةَ الْبِنَاءِ، وَلِهَذَا وَصَفَهَا بِالشِّدَّةِ وَغِلْظِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً الْمُرَادُ بِهِ الشَّمْسُ، وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَمَا بَعْدَهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ قَدْ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَضْمِينِهَا مَعْنَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى إِلَيْهِمَا كَالْخَلْقِ وَالتَّصْيِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْجَعْلَ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَالْإِبْدَاعِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءُ التَّكْوِينِيُّ الَّذِي بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَهَّاجُ: الْوَقَّادُ، وَهُوَ الَّذِي وَهَجَ، يُقَالُ: وَهَجَتِ النَّارُ تَهِجُ وَهْجًا وَوَهَجَانًا. قال مقاتل: جعل فيه نورا وحرّا، وَالْوَهَجُ يَجْمَعُ النُّورَ وَالْحَرَارَةَ وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً الْمُعْصِرَاتُ: هِيَ السَّحَابُ الَّتِي تَنْعَصِرُ بِالْمَاءِ وَلَمْ تُمْطِرْ بَعْدُ، كَالْمَرْأَةِ الْمُعْتَصِرَةِ الَّتِي قَدْ دَنَا حَيْضُهَا، كَذَا قَالَ سُفْيَانُ وَالرَّبِيعُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ الرِّيَاحُ، وَالرِّيَاحُ تُسَمَّى مُعْصِرَاتٍ، يُقَالُ: أَعْصَرَتِ الرِّيحُ تَعْصِرُ إِعْصَارًا إِذَا أَثَارَتِ الْعَجَاجَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هِيَ الرِّيَاحُ ذَوَاتُ الْأَعَاصِيرِ وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيَاحَ تَسْتَدِرُّ الْمَطَرَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُعْصِرَاتُ: السحائب الَّتِي يَتَحَلَّبُ مِنْهَا الْمَطَرُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ صِحَاحٌ، يُقَالُ لِلرِّيحِ الَّتِي تَأْتِي بِالْمَطَرِ مُعْصِرَاتٍ، وَالرِّيَاحُ تُلْقِحُ السَّحَابَ فَيَكُونُ الْمَطَرُ. وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَأَنْزَلْنَا مِنْ ذَوَاتِ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا. قال في الصحاح: والمعصرات السحائب تَعْتَصِرُ بِالْمَطَرِ وَعُصِرَ الْقَوْمُ أَيْ مُطِرُوا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ سَحَابٌ مُعْصِرٌ، أَيْ: مُمْسِكٍ لِلْمَاءِ يعتصر منه شيء بَعْدَ شَيْءٍ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْحَسَنُ وابن جبير وزيد ابن أَسْلَمَ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الْمُعْصِرَاتُ: السَّمَاوَاتُ، وَالثَّجَّاجُ: الْمُنْصَبُّ بِكَثْرَةٍ عَلَى جِهَةِ التَّتَابُعِ، يُقَالُ: ثَجَّ الْمَاءُ، أَيْ: سَالَ بِكَثْرَةٍ، وَثَجَّهُ، أَيْ: أَسَالَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الثَّجَّاجُ: الصَّبَّابُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ثَجَّاجًا: كَثِيرًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً أَيْ: لِنَخْرُجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ حَبًّا يَقْتَاتُ، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِمَا، وَالنَّبَاتُ: مَا تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ مِنَ الْحَشِيشِ وَسَائِرِ النَّبَاتِ وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أَيْ: بَسَاتِينٌ مُلْتَفٌّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لِتَشَعُّبِ أَغْصَانِهَا، وَلَا وَاحِدَ لِلْأَلْفَافِ، كَالْأَوْزَاعِ وَالْأَخْيَافِ، وَقِيلَ: وَاحِدُهَا لِفٌّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّهَا، ذَكَرَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَاحِدُهَا لَفِيفٌ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ، وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهَا جَمْعُ الْجَمْعِ يُقَالُ جَنَّةٌ لِفَاءُ وَنَبْتٌ لَفٌّ، وَالْجَمْعُ لَفٌّ بِضَمِّ اللَّامِ مِثْلَ حُمْرٍ، ثُمَّ يُجْمَعُ هَذَا الْجَمْعُ عَلَى أَلْفَافٍ، وَقِيلَ: هُوَ جمع

_ (1) . الزمر: 42. (2) . الأنعام: 60.

مُلْتَفَّةٍ بِحَذْفِ الزَّوَائِدِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَنَّةُ: مَا فِيهِ النَّخِيلُ، وَالْفِرْدَوْسُ: مَا فِيهِ الْكَرْمُ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً أَيْ: وَقْتًا وَمَجْمَعًا وَمِيعَادًا لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَصِلُونَ فِيهِ إِلَى مَا وَعَدُوا بِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَسُمِّيَ يَوْمَ الْفَصْلِ لِأَنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ فِيهِ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَهَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ مِنَ الْبَعْثِ، وَقِيلَ: مَعْنَى مِيقَاتًا أَنَّهُ حَدٌّ تُوَقَّتُ بِهِ الدُّنْيَا وَتَنْتَهِي عِنْدَهُ، وَقِيلَ: حَدٌّ لِلْخَلَائِقِ يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً أَيْ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَهُوَ الْقَرْنُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ، وَالْمُرَادُ هُنَا النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَكُونُ لِلْبَعْثِ فَتَأْتُونَ أَيْ: إِلَى مَوْضِعِ الْعَرْضِ أَفْواجاً أَيْ: زُمَرًا زُمَرًا، وَجَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ، وَهِيَ جَمْعُ فَوْجٍ، وَانْتِصَابُ يَوْمَ يُنْفَخُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ يَوْمِ الْفَصْلِ، أَوْ بَيَانٌ لَهُ مُفِيدٌ لِزِيَادَةِ تَفْخِيمِهِ وَتَهْوِيلِهِ وَإِنْ كَانَ الْفَصْلُ مُتَأَخِّرًا عَنِ النَّفْخِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَانْتِصَابُ أَفْوَاجًا عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ «تَأْتُونَ» ، وَالْفَاءُ فِي «فَتَأْتُونَ» فَصِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَتَأْتُونَ إِلَى مَوْضِعِ الْعَرْضِ عَقِيبَ ذَلِكَ أَفْوَاجًا وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً مَعْطُوفٌ عَلَى «يُنْفَخُ» ، وَصِيغَةُ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ أَيْ فُتِحَتْ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ فَكانَتْ أَبْواباً كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا «1» وَقِيلَ: مَعْنَى فُتِحَتْ قُطِعَتْ فَصَارَتْ قِطَعًا كَالْأَبْوَابِ، وَقِيلَ: أَبْوَابُهَا: طُرُقُهَا، وَقِيلَ: تَنْحَلُّ وَتَتَنَاثَرُ حَتَّى تَصِيرَ فِيهَا أَبْوَابٌ، وَقِيلَ: إِنَّ لِكُلِّ عَبْدٍ بَابَيْنِ فِي السَّمَاءِ بَابٌ لِرِزْقِهِ وَبَابٌ لِعَمَلِهِ، فَإِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ انْفَتَحَتِ الْأَبْوَابُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَكانَتْ أَبْواباً أَنَّهَا صَارَتْ كُلُّهَا أَبْوَابًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهَا صَارَتْ ذَاتَ أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «فُتِحَتْ» مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً أَيْ: سُيِّرَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا فِي الْهَوَاءِ، وَقُلِعَتْ عَنْ مَقَارِّهَا، فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا يَظُنُّ النَّاظِرُ أَنَّهَا سَرَابٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجِبَالَ صَارَتْ كَلَا شَيْءٍ كَمَا أَنَّ السَّرَابَ يَظُنُّ النَّاظِرُ أَنَّهُ مَاءٌ، وَلَيْسَ بِمَاءٍ، وَقِيلَ: مَعْنَى سُيِّرَتْ: أَنَّهَا نُسِفَتْ مِنْ أُصُولِهَا، وَمِثْلُ هَذَا قوله: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «2» وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ الْجِبَالِ بوجوه مختلفة، ولكن الجمع بينها أن نقول: أَوَّلُ أَحْوَالِهَا الِانْدِكَاكُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً «3» وَثَانِي أَحْوَالِهَا أَنْ تَصِيرَ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ كَمَا في قوله: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ «4» وَثَالِثُ أَحْوَالِهَا أَنْ تَصِيرَ كَالْهَبَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا- فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا «5» وَرَابِعُ أَحْوَالِهَا: أَنْ تُنْسَفَ وَتَحْمِلَهَا الرِّيَاحُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ وَخَامِسُ أَحْوَالِهَا أَنْ تَصِيرَ سَرَابًا، أَيْ: لَا شَيْءَ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي تَفْصِيلِ أَحْكَامِ الْفَصْلِ فَقَالَ: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمِرْصَادُ: الْمَكَانُ الَّذِي يَرْصُدُ الرَّاصِدُ فِيهِ الْعَدُوَّ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: مِرْصَادًا يَرْصُدُونَ بِهِ، أَيْ: هُوَ مُعَدٌّ لَهُمْ يَرْصُدُ بِهِ خَزَنَتُهَا الْكُفَّارَ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ عَلَى الْبَابِ رَصْدًا لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ حتى يجتاز عليهم، فمن جاء بجواز

_ (1) . الفرقان: 25. (2) . النمل: 88. (3) . الحاقة: 14. (4) . القارعة: 5. (5) . الواقعة: 5- 6.

جاز، ومن لم يجيء بِجَوَازٍ حُبِسَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَحْبَسًا، وَقِيلَ: طَرِيقًا وَمَمَرًّا، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الرَّاصِدُ لِلشَّيْءِ الرَّاقِبُ له، يقال: رصده يرصده رصدا، والترصّد: التَّرَقُّبُ، وَالْمَرْصَدُ: مَوْضِعُ الرَّصْدِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: رَصَدْتُهُ أَرْصُدُهُ: تَرَقَّبْتُهُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ مَوْضِعَ رَصْدٍ يَرْصُدُ فِيهِ خَزَنَةُ النَّارِ الْكُفَّارَ لِيُعَذِّبُوهُمْ فِيهَا، أَوْ هِيَ فِي نَفْسُهَا مُتَطَلِّعَةٌ لِمَنْ يَأْتِي إِلَيْهَا مِنَ الْكُفَّارِ كَمَا يَتَطَلَّعُ الرَّصْدُ لِمَنْ يَمُرُّ بِهِ وَيَأْتِي إِلَيْهِمْ، وَالْمِرْصَادُ مُفْعَالٌ مِنْ أَبْنِيَةِ المبالغة كالمعطار والمغيار، فَكَأَنَّهُ يَكْثُرُ مِنْ جَهَنَّمَ انْتِظَارُ الْكُفَّارِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ هِيَ مَرْصَدٌ لَهُ فَقَالَ: لِلطَّاغِينَ مَآباً أَيْ: مَرْجِعًا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَالْمَآبُ: الْمَرْجِعُ، يقال: آب يؤوب إِذَا رَجَعَ، وَالطَّاغِي: هُوَ مَنْ طَغَى بِالْكُفْرِ، و «للطاغين» نعت «لمرصادا» مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ، وَ «مَآبًا» بَدَلٌ مِنْ «مِرْصَادًا» ، ويجوز أن يَكُونُ لِلطَّاغِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ «مَآبًا» قُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً، وَانْتِصَابُ لابِثِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي الطَّاغِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لابِثِينَ بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «لَبِثِينَ» بِدُونِ أَلِفٍ، وَانْتِصَابُ أَحْقاباً عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: مَاكِثِينَ فِي النَّارِ مَا دَامَتِ الْأَحْقَابُ، وَهِيَ لَا تَنْقَطِعُ، وَكُلَّمَا مَضَى حُقْبٌ جَاءَ حُقْبٌ، وَهِيَ جَمْعُ حُقُبٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ الدَّهْرُ، وَالْأَحْقَابُ: الدُّهُورُ، وَالْحُقْبُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ: قِيلَ: هُوَ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، السَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا، الْيَوْمُ أَلْفُ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْأَحْقَابُ: وَقْتٌ لِشُرْبِهِمُ الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ، فَإِذَا انْقَضَتْ فَيَكُونُ لَهُمْ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْحُقْبُ سَبْعُونَ سَنَةً. وَقَالَ بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ: ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثُونَ أَلْفَ سَنَةٍ. قَالَ الْحَسَنُ: الْأَحْقَابُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ هِيَ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا أَنَّهَا مِائَةُ حُقْبٍ، وَالْحُقْبُ الْوَاحِدُ مِنْهَا سَبْعُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، الْيَوْمُ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: الْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعُصَاةِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ التَّأْبِيدُ لَا التَّقْيِيدُ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ: عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا أَنَّهُ إذا مضى حقب دخل آخَرُ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى الْأَبَدِ، وَجُمْلَةُ لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً- إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ فِي جَهَنَّمَ أَوْ فِي الْأَحْقَابِ بَرْدًا يَنْفَعُهُمْ مِنْ حَرِّهَا وَلَا شَرَابًا يَنْفَعُهُمْ مِنْ عَطَشِهَا إِلَّا حَمِيمًا، وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ، وَغَسَّاقًا وَهُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الطَّاغِينَ، أَوْ صِفَةٌ لِلْأَحْقَابِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ عِنْدَ مَنْ جَعَلَ الْبَرْدَ النَّوْمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا مِنْ قَوْلِهِ: شَراباً وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَضْلُ بْنُ خَالِدٍ وَأَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ: الْبَرْدُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ النَّوْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكِنْدِيِّ: بَرَدَتْ مَرَاشِفُهَا عَلَيَّ فَصَدَّنِي عَنْهَا وَعَنْ تَقْبِيلِهَا الْبَرْدُ أَيِ: النَّوْمُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدَ رِيحٍ وَلَا ظِلٍّ وَلَا نَوْمٍ، فَجُعِلَ الْبَرْدُ يَشْمَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَابْنُ زَيْدٍ: بَرْدًا، أَيْ: رَوْحًا وراحة. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: غَسَّاقاً بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَتَفْسِيرُ الْحَمِيمِ وَالْخِلَافُ فِيهِمَا فِي سُورَةِ ص جَزاءً وِفاقاً أي: موافقا لأعمالهم، وجزاء منتصب على المصدر، ووفاقا نَعْتٌ لَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: جَازَيْنَاهُمْ جَزَاءً

وَافَقَ أَعْمَالَهُمْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: جُوزُوا جَزَاءً وَافَقَ أَعْمَالَهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْوِفَاقُ: جَمْعُ الْوَفْقِ، وَالْوَفْقُ وَالْمُوَافِقُ «1» وَاحِدٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَافَقَ الْعَذَابُ الذَّنْبَ فلا ذنب أعظم من الشرك وَلَا عَذَابَ أَعْظَمُ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ سَيِّئَةً، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ بِمَا يُسُوءُهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً أَيْ: لَا يَرْجُونَ ثَوَابَ حِسَابٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَيَرْجُونَ حِسَابَهُمْ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الْجَزَاءَ الْمَذْكُورَ وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً أَيْ: كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، أَوْ كَذَّبُوا بِمَا هُوَ أعم منها تكذيبا شديدا، وفعال مِنْ مَصَادِرِ التَّفَعُّلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ يَمَانِيَّةٌ، تَقُولُ: كَذَّبْتُ كِذَّابًا، وَخَرَّقْتُ الْقَمِيصَ خِرَّاقًا. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا هُوَ أَحَدُ مَصَادِرِ الْمُشَدَّدِ لِأَنَّ مَصْدَرَهُ قَدْ يَجِيءُ عَلَى تَفْعِيلٍ مِثْلَ التَّكْلِيمِ، وَعَلَى فِعَّالٍ مِثْلَ كِذَّابٍ، وَعَلَى تَفْعِلَةٍ مِثْلَ تَوْصِيَةٍ، وَعَلَى مفعّل مثل وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: كِذَّاباً بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ التَّخْفِيفُ وَالتَّشْدِيدُ جَمِيعًا مَصْدَرُ الْمُكَاذَبَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عُمَرَ «كِذَّابًا» بِضَمِّ الْكَافِ وَالتَّشْدِيدِ، جَمْعَ كَاذِبٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ يَكُونُ يَعْنِي عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ الْبَلِيغِ فِي الْكَذِبِ، تَقُولُ: رَجُلٌ كَذَّابٌ كَقَوْلِكَ حَسَّانٌ وَبَخَّالٌ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكُلَّ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَيْ: وَأَحْصَيْنَا كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ. وَقَرَأَ أَبُو السّمّال بِرَفْعِهِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، وَانْتِصَابُ «كِتَابًا» عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لَأَحْصَيْنَاهُ لِأَنَّ أَحْصَيْنَاهُ فِي مَعْنَى كَتَبْنَاهُ، وَقِيلَ: هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَكْتُوبًا، قِيلَ: الْمُرَادُ كَتَبْنَاهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِتَعْرِفَهُ الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: أَرَادَ مَا كَتَبَهُ الْحَفَظَةُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ لِأَنَّ مَا كُتِبَ كَانَ أَبْعَدَ مِنَ النِّسْيَانِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «2» فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسَبِّبَةٌ عَنْ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ بِالْآيَاتِ. قَالَ الرَّازِّيُّ: هَذِهِ الْفَاءُ لِلْجَزَاءِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّوْقِ مُعَلَّلٌ بِمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ وَمِنَ الزِّيَادَةِ فِي عَذَابِهِمْ أَنَّهَا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلَهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا. وَكُلَّمَا خَبَتِ النَّارُ زَادَهُمُ اللَّهُ سَعِيرًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ قَالَ: الْقُرْآنِ: وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً قَالَ: مُضِيئًا وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ قَالَ: السَّحَابُ مَاءً ثَجَّاجاً قَالَ: مُنْصَبًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا ثَجَّاجاً قَالَ: مُنْصَبًّا. وَأَخْرَجَ الشافعي وسعيد بن منصور وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً قَالَ: يَبْعَثُ اللَّهُ الرِّيحَ، فَتَحْمِلُ الْمَاءَ فَيَمُرُّ بِهِ السَّحَابُ، فَتُدِرُّ كَمَا تُدِرُّ اللِّقْحَةُ، والثجاج ينزل من السماء أمثال

_ (1) . في تفسير القرطبي (19/ 181) : اللفق. (2) . يس: 12. [.....]

العزالى «1» فَتَصْرِفُهُ الرِّيَاحُ فَيَنْزِلُ مُتَفَرِّقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ بِالرِّيَاحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً قَالَ: مُلْتَفَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ: الْتَفَّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً قَالَ: سَرَابُ الشَّمْسِ: الْآلُ «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً قَالَ: سِنِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: سَأَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ هِلَالَ الْهِجْرِيَّ: مَا تَجِدُونَ الْحُقْبَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَجِدُهُ ثَمَانِينَ سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا كُلُّ شَهْرٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا كُلُّ يَوْمٍ أَلْفُ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْحُقْبُ الْوَاحِدُ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ قَالَ: «الْحُقُبُ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَالسَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا، وَالْيَوْمُ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: الْحُقْبُ ثَمَانُونَ عَامًا الْيَوْمُ مِنْهَا كَسُدُسِ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ- قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً قَالَ: الْحُقْبُ أَلْفُ شَهْرٍ، وَالشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فَالْحُقْبُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ لَا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مِنْ دَخَلَهَا حَتَّى يَمْكُثَ فِيهَا أَحْقَابًا، وَالْحُقْبُ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا، وَالْيَوْمُ أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَا يَتَّكِلْنَ أَحَدٌ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: الْحُقْبُ الْوَاحِدُ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحُقْبُ أَرْبَعُونَ سَنَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ فِي قَوْلِهِ: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّهُمَا فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: زَمْهَرِيرُ جَهَنَّمَ يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي قَوْلِهِ: لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً قَالَ: قد انتهى حرّه وَغَسَّاقاً قد انتهى برده، وَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَدْنَى الْإِنَاءَ مِنْ فِيهِ سَقَطَ فَرْوَةُ وَجْهِهِ، حَتَّى يَبْقَى عِظَامًا تُقَعْقِعُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَزاءً وِفاقاً قَالَ: وَافَقَ أَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المنذر عن عبد الله ابن عَمْرٍو قَالَ: مَا أُنْزِلَتْ عَلَى أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ قَطُّ أَشَدُّ مِنْهَا فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً فَهُمْ فِي مَزِيدٍ مِنْ عَذَابِ الله أبدا.

_ (1) . العزالى: جمع عزلاء، وهي مصب الماء من الراوية ونحوها. (2) . في لسان العرب: الآل: هو الّذي يكون ضحى كالماء بين السماء والأرض.

[سورة النبإ (78) : الآيات 31 إلى 40]

[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 40] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) قَوْلُهُ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ الْكَافِرِينَ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الشَّرِّ، وَالْمَفَازُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَوْزِ وَالظَّفَرِ بِالنِّعْمَةِ وَالْمَطْلُوبِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلْفَلَاةِ مَفَازَةٌ تَفَاؤُلًا بِالْخَلَاصِ مِنْهَا. ثُمَّ فَسَّرَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَفَازَ فَقَالَ: حَدائِقَ وَأَعْناباً وَانْتِصَابُهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا بَدَلٌ مِنْ «مَفَازًا» بَدَلُ اشْتِمَالٍ، أَوْ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ بِجَعْلِ نَفْسِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَفَازَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَإِذَا كَانَ مَفَازًا بِمَعْنَى الْفَوْزِ، فَيُقَدَّرُ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَوْزُ حَدَائِقَ، وَهِيَ جَمْعُ حَدِيقَةٍ، وَهِيَ الْبُسْتَانُ الْمَحُوطُ عَلَيْهِ، وَالْأَعْنَابُ: جَمْعُ عِنَبٍ، أَيْ: كُرُومُ أَعْنَابٍ وَكَواعِبَ أَتْراباً الْكَوَاعِبُ: جَمْعُ كَاعِبَةٍ، وَهِيَ النَّاهِدَةُ، يُقَالُ: كَعَبَتِ الْجَارِيَةُ تَكْعَبُ تَكْعِيبًا وَكُعُوبًا، وَنَهَدَتْ تَنْهَدُ نُهُودًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ نِسَاءٌ كَوَاعِبُ تَكَعَّبَتْ ثَدْيُهُنَّ وَتَفَلَّكَتْ، أَيْ: صَارَتْ ثَدْيُهُنَّ كَالْكَعْبِ فِي صُدُورِهِنَّ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الْكَوَاعِبُ: الْعَذَارَى. قَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ: وَكَمْ مِنْ حَصَانٍ قَدْ حَوَيْنَا كَرِيمَةً ... ومن كَاعِبٍ لَمْ تَدْرِ مَا الْبُؤْسُ مُعْصِرِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: وَكَانَ مِجَنِّي دُونَ ما كنت أتّقي ... ثلاث شخوص كاعبان وَمُعْصِرُ وَالْأَتْرَابُ: الْأَقْرَانُ فِي السِّنِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَكَأْساً دِهاقاً أَيْ: مُمْتَلِئَةً. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: أَيْ مُتْرَعَةٌ مَمْلُوءَةٌ، يُقَالُ: أَدْهَقْتُ الْكَأْسَ، أَيْ: مَلَأْتُهَا، ومنه قول الشاعر: ألا فاسقني صرفا سقاني السَّاقِي ... مِنْ مَائِهَا بِكَأْسِكَ الدِّهَاقِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: دِهاقاً مُتَتَابِعَةً يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: دِهاقاً صَافِيَةً، وَالْمُرَادُ بِالْكَأْسِ الْإِنَاءُ الْمَعْرُوفُ، وَلَا يُقَالُ لَهُ الْكَأْسُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ الشَّرَابُ لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً أَيْ: لَا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ لَغْواً وَهُوَ الْبَاطِلُ مِنَ الْكَلَامِ، وَلا كِذَّاباً أَيْ: وَلَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: كِذَّاباً بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ هُنَا بِالتَّخْفِيفِ، وَوَافَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً الْمُتَقَدِّمِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِلتَّصْرِيحِ بِفِعْلِهِ هُنَاكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْخِلَافَ فِي كِذَّابًا هَلْ هُوَ مِنْ مَصَادِرِ التَّفْعِيلِ أَوْ مِنْ مَصَادِرِ الْمُفَاعَلَةِ. جَزاءً مِنْ رَبِّكَ أَيْ: جَازَاهُمْ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ جَزَاءً. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى جَزَاهُمْ جَزَاءً، وَكَذَا عَطاءً أَيْ: وَأَعْطَاهُمْ عَطَاءً حِساباً قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَافِيًا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَثِيرًا، يُقَالُ: أَحَسَبْتُ فلانا، أي:

أكثرت له العطاء، ومنه قول الشاعر «1» : ونقفي «2» وَلِيدَ الْحَيِّ إِنْ كَانَ جَائِعًا ... وَنُحْسِبُهُ إِنْ كَانَ لَيْسَ بِجَائِعِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ: نُعْطِيهِ حَتَّى يَقُولَ حَسْبِي. قَالَ الزَّجَّاجُ: حِساباً أَيْ: مَا يَكْفِيهِمْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ: أَحْسَبَنِي كَذَا، أَيْ: كَفَانِي. قَالَ الْكَلْبِيُّ: حَاسَبَهُمْ فَأَعْطَاهُمْ بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حِسَابًا لِمَا عَمِلُوهُ، فَالْحِسَابُ بِمَعْنَى الْقَدْرِ، أَيْ: يُقَدِّرُ مَا وَجَبَ لَهُ فِي وَعْدِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ وَعَدَ لِلْحَسَنَةِ عَشْرًا، وَوَعَدَ لِقَوْمٍ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ، وَقَدْ وَعَدَ لِقَوْمٍ جَزَاءً لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا مِقْدَارَ كَقَوْلِهِ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «3» وَقَرَأَ أَبُو هَاشِمٍ «حَسَّابًا» بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، أَيْ: كَفَافًا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: حَسَّبْتُ الرَّجُلَ بِالتَّشْدِيدِ إِذَا أَكْرَمْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا أَتَاهُ ضَيْفُهُ يُحْسِبُهُ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «حِسَانًا» بِالنُّونِ. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ. قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَزَيْدٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَالْمُفَضَّلِ عن عاصم برفع رب والرحمن على أن ربّ مبتدأ والرّحمن خَبَرُهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ رَبُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مقدّر: أي: هو ربّ، والرّحمن صفته، ولا يَمْلِكُونَ خَبَرُ رَبُّ، أَوْ عَلَى أَنَّ رَبُّ مبتدأ، والرّحمن مبتدأ ثان، ولا يَمْلِكُونَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِخَفْضِهِمَا عَلَى أن ربّ بدل من ربك، والرّحمن صِفَةٌ لَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِخَفْضِ الْأَوَّلِ عَلَى الْبَدَلِ، وَرَفْعِ الثَّانِي عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ الرَّحْمَنُ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وَقَالَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَعْدَلُهَا، فَخَفَضَ رَبِّ لِقُرْبِهِ مِنْ رَبِّكَ، فَيَكُونُ نَعْتًا لَهُ وَرَفَعَ الرَّحْمَنُ لِبَعْدِهِ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَخَبَرُهُ: لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَسْأَلُوا إِلَّا فِيمَا أَذِنَ لَهُمْ فِيهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا بِالشَّفَاعَةِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ الْكَلَامُ، أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يُخَاطِبُوا الرَّبَّ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، دَلِيلُهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ «4» . وَقِيلَ: أَرَادَ الْكُفَّارَ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَشْفَعُونَ. وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً مُقَرِّرَةً لِمَا تُفِيدُهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا الظرف منتصب بلا يتكلمون، أو بلا يَمْلِكُونَ، وَ «صَفًّا» مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُصْطَفِينَ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: يَصُفُّونَ صَفًّا، وَقَوْلُهُ: لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفٌ لتقرير ما قبله.

_ (1) . القائل: امرأة من بني قشير. (2) . «نقفيه» : أي نؤثره بالتقفية، وهي ما يؤثر به الضيف والصبي. (3) . الزمر: 10. (4) . هود: 105.

وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ فَقِيلَ: إِنَّهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَمِنَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمِنَ الْجِبَالِ، وَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: الرَّوْحُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ لَيْسُوا مَلَائِكَةً، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ وَمُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: هُمْ أَشْرَافُ الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ. وَقِيلَ: هُمْ حَفَظَةٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ. وَقِيلَ: هُمْ بَنُو آدَمَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: هُمْ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ تَقُومُ صَفًّا وَتَقُومُ الْمَلَائِكَةُ صَفًّا، وَذَلِكَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تُرَدَّ إِلَى الْأَجْسَامِ، قَالَهُ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْقُرْآنُ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ يَتَكَلَّمُونَ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَشْفَعُونَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ بِالشَّفَاعَةِ، أَوْ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ أذن له الرّحمن وَكان ذَلِكَ الشَّخْصُ مِمَّنْ قالَ صَواباً قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ: صَواباً يَعْنِي حَقًّا. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَصِلُ الصَّوَابِ السَّدَادُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. قِيلَ: لَا يَتَكَلَّمُونَ يَعْنِي الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ الَّذِينَ قَامُوا صَفًّا هَيْبَةً وَإِجْلَالًا إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ مِنْهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ، وَهُمْ قَدْ قَالُوا صَوَابًا. قَالَ الْحَسَنُ: إن الروح يقول يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا بالرحمة، وَلَا النَّارَ إِلَّا بِالْعَمَلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ يَعْنِي الْخَلْقَ كُلُّهُمْ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمَلَائِكَةُ، وَقالَ فِي الدُّنْيَا صَواباً أَيْ: شَهِدَ بِالتَّوْحِيدِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى يَوْمِ قِيَامِهِمْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْيَوْمُ الْحَقُّ أَيِ الْكَائِنُ الْوَاقِعِ الْمُتَحَقَّقُ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أَيْ: مَرْجِعًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِأَنَّهُ إِذَا عَمِلَ خَيْرًا قَرَّبَهُ إِلَى اللَّهِ، وَإِذَا عَمِلَ شَرًّا بَاعَدَهُ مِنْهُ، وَمَعْنَى إِلى رَبِّهِ إِلَى ثَوَابِ رَبِّهِ، قَالَ قَتَادَةُ: مَآباً: سَبِيلًا. ثُمَّ زَادَ سُبْحَانَهُ فِي تَخْوِيفِ الكفار فقال: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَعْنِي الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ قَرِيبُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها «1» كَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْعَذَابَيْنِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ قَتْلُ قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ فَإِنَّ الظَّرْفَ إِمَّا بَدَلٌ مِنْ عَذَابٍ، أَوْ ظَرْفٌ لِمُضْمَرٍ هو صفة له، أي: عذابا كائناوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ أَيْ: يُشَاهَدُ مَا قَدَّمَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَ «مَا» مَوْصُولَةٌ أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ. قَالَ الْحَسَنُ: وَالْمَرْءُ هُنَا هُوَ الْمُؤْمِنُ، أَيْ: يَجِدُ لِنَفْسِهِ عَمَلًا، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يَجِدُ لِنَفْسِهِ عَمَلًا فَيَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ تُرَابًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَعَقَبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، والأوّل أولى لقوله: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً فَإِنَّ الْكَافِرَ وَاقِعٌ فِي مُقَابَلَةِ الْمَرْءِ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكَافِرِ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ تُرَابًا لِمَا يُشَاهِدُهُ مِمَّا قَدْ أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتَمَنَّى أَنَّهُ كَانَ تُرَابًا فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يُخْلَقْ، أَوْ تُرَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَافِرِ أَبُو جَهْلٍ، وَقِيلَ: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، وَقِيلَ: إِبْلِيسُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَلَا يُنَافِيهِ خُصُوصُ السَّبَبِ كَمَا تقدّم غير مرّة.

_ (1) . النازعات: 46.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً قَالَ: مُنْتَزَهًا وَكَواعِبَ قَالَ: نَوَاهِدَ أَتْراباً قَالَ: مُسْتَوِيَاتٍ وَكَأْساً دِهاقاً قَالَ: مُمْتَلِئًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَكَأْساً دِهاقاً قَالَ: هِيَ الْمُمْتَلِئَةُ الْمُتْرَعَةُ الْمُتَتَابِعَةُ، وَرُبَّمَا سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ: يَا غُلَامُ اسْقِنَا وَادْهَقْ لَنَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: دِهاقاً قَالَ: دِرَاكًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِذَا كَانَ فِيهَا خَمْرٌ فَهِيَ كَأْسٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا خَمْرٌ فَلَيْسَ بِكَأْسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرُّوحُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ، لَيْسُوا بملائكة، لهم رؤوس وَأَيْدٍ وَأَرْجُلٌ» ثُمَّ قَرَأَ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قَالَ: هَؤُلَاءِ جُنْدٌ وَهَؤُلَاءِ جُنْدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ قَالَ: هُوَ مَلَكٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ خَلْقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «الرُّوحُ في السماء الرابعة، وهو أعظم من السموات وَالْجِبَالِ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ، يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ تَسْبِيحَةٍ، يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صفا وحده» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقَائِمٌ بَيْنَ يَدَيِ الْجَبَّارِ تَرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَرَقًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، يَقُولُ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ قَالَ: يَعْنِي حِينَ تَقُومُ أَرْوَاحُ الناس مع الْمَلَائِكَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تُرَدُّ الأرواح إِلَى الْأَجْسَادِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْهُ أَيْضًا وَقالَ صَواباً قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يُحْشَرُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْبَهَائِمُ وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَكُلُّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ من عدل اللَّهِ أَنْ يُؤْخَذَ لِلْجَمَّاءِ «1» مِنَ الْقُرَنَاءِ، ثُمَّ يقول: كوني ترابا، فذلك حين يقول الكافرا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً.

_ (1) . «الجماء» : التي لا قرون لها.

سورة النازعات

سورة النّازعات وتسمى سورة الساهرة، هي خمس وأربعون آية، وقيل: ست وأربعون آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النَّازِعَاتِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 26] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَنْزِعُ أَرْوَاحَ الْعِبَادِ عَنْ أَجْسَادِهِمْ كَمَا يَنْزِعُ النَّازِعُ فِي الْقَوْسِ فَيَبْلُغُ بِهَا غَايَةَ الْمَدِّ، وَكَذَا الْمُرَادُ بِالنَّاشِطَاتِ وَالسَّابِحَاتِ وَالسَّابِقَاتِ وَالْمُدَبِّرَاتِ، يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ، وَالْعَطْفُ مَعَ اتِّحَادِ الْكُلِّ لِتَنْزِيلِ التَّغَايُرِ الْوَصْفِيِّ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ الذَّاتِيِّ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَمِنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: النَّازِعاتِ هِيَ النُّفُوسُ حِينَ تَغْرَقُ فِي الصُّدُورِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْمَوْتُ يَنْزِعُ النَّفْسَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ تَنْزِعُ مِنْ أُفُقٍ إلى أفق، من قولهم: نزع إليهم إِذَا ذَهَبَ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ نَزَعَتْ بِالْحَبْلِ، أَيْ: أَنَّهَا تَغْرُبُ وَتَغِيبُ وَتَطْلُعُ مِنْ أُفُقٍ آخَرَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ وَابْنُ كيسان. وقال عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ: النَّازِعَاتُ: الْقِسِيُّ تَنْزِعُ بِالسِّهَامِ، وَإِغْرَاقُ النَّازِعِ فِي الْقَوْسِ أَنْ يَمُدَّهُ غَايَةَ الْمَدِّ حتى ينتهي به إلى النصب. وقال يحيى بن سلام: تنزع من الْكَلَأِ وَتَنْفِرُ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالنَّازِعَاتِ: الْغُزَاةَ الرُّمَاةَ، وَانْتِصَابُ غَرْقاً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ بِحَذْفِ الزَّوَائِدِ، أَيْ: إِغْرَاقًا، وَالنَّاصِبُ لَهُ مَا قَبْلَهُ لِمُلَاقَاتِهِ له في المعنى، أي: إغراقا في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجسام، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: ذَوَاتِ إِغْرَاقٍ، يُقَالُ: أَغْرَقَ فِي الشَّيْءِ يُغْرِقُ فِيهِ إِذَا أَوْغَلَ فيه وبلغ غايته وَمعنى النَّاشِطاتِ أَنَّهَا تَنْشِطُ النُّفُوسَ، أَيْ: تُخْرِجُهَا مِنَ الْأَجْسَادِ كَمَا يَنْشِطُ الْعِقَالُ مِنْ يَدِ الْبَعِيرِ إِذَا

حُلَّ عَنْهُ، وَنَشَطَ الرَّجُلُ الدَّلْوَ مِنَ الْبِئْرِ إذا أخرجها، والنّشط: الْجَذْبُ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْهُ الْأُنْشُوطَةُ لِلْعُقْدَةِ الَّتِي يَسْهُلُ حَلُّهَا. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: نَشِطْتُ الْحَبْلَ أَنْشُطُهُ عَقَدْتُهُ، وَأَنْشَطْتُهُ، أَيْ: حَلَلْتُهُ، وَأَنْشَطْتُ الْحَبْلَ، أَيْ: مَدَدْتُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْشَطَ الْعِقَالَ، أَيْ: حَلَّ، وَنَشِطَ، أَيْ: رَبَطَ الْحَبْلَ فِي يَدَيْهِ. قَالَ الأصمعي: بئر أنشاط، أي: قريبة القعر، تخرج الدَّلْوُ مِنْهَا بِجَذْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبِئْرٌ نَشُوطٌ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَخْرُجُ مِنْهَا الدَّلْوُ حَتَّى يَنْشِطَ كثيرا. وقال مجاهد: هي الْمَوْتُ يَنْشِطُ نَفْسَ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ النفوس حين تنشط من القدمين. وقال عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ: هِيَ الْأَوْهَاقُ «1» الَّتِي تَنْشُطُ السِّهَامَ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالْأَخْفَشُ: هِيَ النُّجُومُ تَنْشِطُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ، أَيْ: تَذْهَبُ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً يَعْنِي النُّجُومُ مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ كَالثَّوْرِ النَّاشِطِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. وَالْهُمُومُ تَنْشِطُ بِصَاحِبِهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَتَادَةُ: هِيَ الْوُحُوشُ حِينَ تَنْشِطُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. وَقِيلَ: النَّاشِطَاتُ لِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالنَّازِعَاتُ لِأَرْوَاحِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّهَا تَجْذِبُ رُوحَ الْمُؤْمِنِ بِرِفْقٍ وَتَجْذِبُ رُوحَ الْكَافِرِ بِعُنْفٍ، وَقَوْلُهُ: نَشْطاً مَصْدَرٌ، وَكَذَا سَبْحًا وَسَبْقًا. وَالسَّابِحاتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْبَحُ فِي الْأَبْدَانِ لِإِخْرَاجِ الرُّوحِ كَمَا يَسْبَحُ الْغَوَّاصُ فِي الْبَحْرِ لِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ يَنْزِلُونَ مِنَ السَّمَاءِ مُسْرِعِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ، كَمَا يُقَالُ لِلْفَرَسِ الْجَوَادِ سَابِحٌ إِذَا أَسْرَعَ فِي جَرْيِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: السَّابِحَاتُ: الْمَوْتُ يَسْبَحُ فِي نُفُوسِ بَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: هِيَ الْخَيْلُ السَّابِحَةُ فِي الْغَزْوِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَالْخَيْلُ تَعْلَمُ حِينَ تَسْ ... بَحُ فِي حِيَاضِ الْمَوْتِ سَبْحَا وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: هِيَ النُّجُومُ تَسْبَحُ فِي أَفْلَاكِهَا، كَمَا في قوله: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «2» وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ السُّفُنُ تَسْبَحُ فِي الْمَاءِ، وَقِيلَ: هِيَ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ تَسْبَحُ شَوْقًا إِلَى اللَّهِ فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً هُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا سَلَفَ. قَالَ مَسْرُوقٌ وَمُجَاهِدٌ: تَسْبِقُ الْمَلَائِكَةُ الشَّيَاطِينَ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ سَبَقَتِ ابْنَ آدَمَ بِالْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ مقاتل: هي الملائكة تَسْبِقُ بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: هِيَ أَنْفُسُ الْمُؤْمِنِينَ تَسْبِقُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ شَوْقًا إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُوَ الْمَوْتُ يَسْبِقُ الْإِنْسَانَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَمَعْمَرٌ: هِيَ النُّجُومُ يَسْبِقُ بَعْضُهَا فِي السَّيْرِ بَعْضًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْخَيْلُ الَّتِي تَسْبِقُ إِلَى الْجِهَادِ. وَقِيلَ: هِيَ الْأَرْوَاحُ الَّتِي تَسْبِقُ الْأَجْسَادَ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: عَطَفَ السَّابِقَاتِ بِالْفَاءِ لِأَنَّهَا مُسَبِّبَةٌ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: واللاتي يسبحن فيسبقن، تقول: قام فذهب، فهذا يوجب أن يكون القيام سببا للذهاب، وَلَوْ قُلْتَ قَامَ وَذَهَبَ بِالْوَاوِ لَمْ يَكُنِ الْقِيَامُ سَبَبًا لِلذَّهَابِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَجْعَلَ السَّبْقَ سَبَبًا لِلتَّدَبُّرِ، قَالَ الرَّازِّيُّ: وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ: بِأَنَّهَا لَمَّا أمرت سبحت فسبقت

_ (1) . «الأوهاق» : جمع وهق، الحبل تشدّ به الإبل والخيل لئلا تندّ. (2) . يس: 40.

فَدَبَّرَتْ مَا أُمِرَتْ بِتَدْبِيرِهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ أَفْعَالًا يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: قَامَ زَيْدٌ فَذَهَبَ. وَلَمَّا سَبَقُوا فِي الطَّاعَاتِ وَسَارَعُوا إِلَيْهَا ظَهَرَتْ أَمَانَتُهُمْ فَفَوَّضَ إِلَيْهِمُ التَّدْبِيرَ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ السَّبْقَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّدْبِيرِ كَسَبَبِيَّةِ السَّبْحِ لِلسَّبْقِ وَالْقِيَامِ لِلذَّهَابِ، وَمُجَرَّدُ الِاتِّصَالِ لَا يُوجِبُ السَّبَبِيَّةَ وَالْمُسَبَّبِيَّةَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ فِي الْمُدَبِّرَاتِ طُوبِقَ بِهِ مَا قَبْلُهُ مِنْ عَطْفِ السَّابِقَاتِ بِالْفَاءِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نُكْتَةٍ كَمَا احْتَاجَ إِلَيْهَا مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ النُّكْتَةَ إِنَّمَا تُطْلَبُ لِمُخَالَفَةِ اللَّاحِقِ لِلسَّابِقِ لَا لِمُطَابَقَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْكَوَاكِبُ السَّبْعُ، حَكَاهُ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَفِي تَدْبِيرِهَا الْأَمْرَ وجهان: أحدهما: تدبّر طلوعها وأفولها. الثاني: تدبّر ما قضاه الله فِيهَا مِنَ الْأَحْوَالِ. وَمَعْنَى تَدْبِيرِ الْمَلَائِكَةِ لِلْأَمْرِ نُزُولُهَا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَتَفْصِيلُهُمَا وَالْفَاعِلُ لِلتَّدْبِيرِ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، لَكِنْ لَمَّا نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بِهِ وُصِفَتْ بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا أُمِرَتْ بِتَدْبِيرِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي الرِّيَاحِ وَالْأَمْطَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قِيلَ لها: مدبرات. قال عبد الرّحمن ابن سَابَاطٍ: تَدْبِيرُ أَمْرِ الدُّنْيَا إِلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَعِزْرَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ، فَأَمَّا جِبْرِيلُ فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فمو كل بالقطر والنبات، وأما عزرائيل فمو كل بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ، وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ فَهُوَ يَنْزِلُ بِالْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَالنَّازِعَاتِ، وَكَذَا وَكَذَا لَتُبْعَثُنَّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَحُذِفَ لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِهِ، ويدل عليه قوله: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً «1» وَقِيلَ: إِنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى «2» أي: إن في يوم القيامة ذكر وموسى وَفِرْعَوْنَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا قَبِيحٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ طَالَ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: جَوَابُ الْقَسَمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى «3» لِأَنَّ الْمَعْنَى: قَدْ أَتَاكَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَقِيلَ: الْجَوَابُ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ عَلَى تَقْدِيرٍ: ليوم تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. وَقَالَ السِّجِسْتَانِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ وَالنَّازِعَاتِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْفَاءَ لَا يُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ انْتِصَابُ هَذَا الظَّرْفِ بِالْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ لِلْقَسَمِ، أَوْ بِإِضْمَارِ: اذْكُرْ، وَالرَّاجِفَةُ: الْمُضْطَرِبَةُ، يُقَالُ: رَجَفَ يَرْجُفُ إِذَا اضْطَرَبَ، وَالْمُرَادُ هُنَا الصَّيْحَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي فِيهَا تَرَدُّدٌ وَاضْطِرَابٌ كَالرَّعْدِ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَوْلَى الَّتِي يَمُوتُ بِهَا جَمِيعُ الْخَلَائِقِ، وَالرَّادِفَةُ: النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَسُمِّيَتْ رَادِفَةً لِأَنَّهَا رَدَفَتِ النَّفْخَةَ الْأُولَى، كَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّاجِفَةُ: الْأَرْضُ، وَالرَّادِفَةُ: السَّاعَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّادِفَةُ: الزَّلْزَلَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ الصَّيْحَةُ، وَقِيلَ: الرَّاجِفَةُ: اضْطِرَابُ الْأَرْضِ، وَالرَّادِفَةُ: الزَّلْزَلَةُ، وَأَصْلُ الرَّجْفَةِ: الْحَرَكَةُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ التَّحَرُّكُ هُنَا فَقَطْ بَلِ الرَّاجِفَةُ هُنَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجَفَ الرَّعْدُ يَرْجُفُ رَجْفًا وَرَجِيفًا إِذَا ظَهَرَ صَوْتُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْأَرَاجِيفُ لِاضْطِرَابِ الْأَصْوَاتِ بِهَا وظهور الأصوات فيها، ومنه قول الشاعر «4» :

_ (1) . النازعات: 11. (2) . النازعات: 26. (3) . طه: 9. (4) . هو منازل بن ربيعة المنقري. [.....]

أَبِالْأَرَاجِيفِ يَا ابْنَ اللُّؤْمِ تُوعِدُنِي ... وَفِي الْأَرَاجِيفِ خِلْتُ اللُّؤْمَ وَالْخَوَرَا وَمَحَلُّ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الرَّاجِفَةِ، وَالْمَعْنَى: لَتُبْعَثُنَّ يَوْمَ النَّفْخَةِ الْأُولَى حَالَ كَوْنِ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ تَابِعَةً لَهَا قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ قُلُوبٌ مُبْتَدَأٌ، وَيَوْمَئِذٍ مَنْصُوبٌ بِوَاجِفَةٍ، وَوَاجِفَةٌ صِفَةُ قُلُوبٍ، وَجُمْلَةُ أَبْصارُها خاشِعَةٌ خبر قلوب، والواجفة: الْمُضْطَرِبَةُ الْقَلِقَةُ لِمَا عَايَنَتْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: أَيْ خَائِفَةٌ وَجِلَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: زَائِلَةٌ عَنْ أَمَاكِنِهَا، نَظِيرَةُ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ «1» وَقَالَ الْمُؤَرَّجُ: قَلِقَةٌ مُسْتَوْفِزَةٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مُضْطَرِبَةٌ، يُقَالُ: وَجَفَ الْقَلْبُ يَجِفُ وَجِيفًا إِذَا خَفَقَ، كَمَا يُقَالُ: وَجَبَ يَجِبُ وَجِيبًا، وَالْإِيجَافُ: السَّيْرُ السَّرِيعُ، فَأَصْلُ الْوَجِيفِ اضْطِرَابُ الْقَلْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخُطَيْمِ: إِنَّ بَنِي جَحْجَبِي وَقَوْمَهُمْ ... أَكْبَادُنَا مِنْ وَرَائِهِمْ تَجِفُ أَبْصارُها خاشِعَةٌ أَيْ: أَبْصَارُ أَصْحَابِهَا، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَالْخَاشِعَةُ: الذَّلِيلَةُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَظْهَرُ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ: خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ «2» قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ أَبْصَارَ مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ السِّيَاقَ في منكري البعث يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ هَذَا حِكَايَةٌ لِمَا يَقُولُهُ الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ إِذَا قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ تُبْعَثُونَ، أَيْ: أَنُرَدُّ إِلَى أَوَّلِ حَالِنَا وَابْتِدَاءِ أَمْرِنَا فَنَصِيرُ أَحْيَاءً بَعْدَ مَوْتِنَا، يُقَالُ: رَجَعَ فُلَانٌ فِي حَافِرَتِهِ، أَيْ: رَجَعَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، وَالْحَافِرَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ اسْمٌ لِأَوَّلِ الشَّيْءِ وَابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَجَعَ فُلَانٌ عَلَى حَافِرَتِهِ، أَيْ: عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَيُقَالُ: اقْتَتَلَ الْقَوْمُ عِنْدَ الْحَافِرَةِ، أَيْ: عِنْدِ أَوَّلِ مَا الْتَقَوْا وَسُمِّيَتِ الطَّرِيقُ الَّتِي جَاءَ مِنْهَا حَافِرَةً لِتَأْثِيرِهِ فِيهَا بِمَشْيِهِ فِيهَا فَهِيَ حَافِرَةٌ بِمَعْنَى مَحْفُورَةٌ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَحَافِرَةً عَلَى صَلَعٍ وَشَيْبٍ ... مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وَعَارِ أَيْ: أَأَرْجِعُ إِلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فِي شَبَابِي مِنَ الْغَزَلِ بَعْدَ الشَّيْبِ وَالصَّلَعِ. وَقِيلَ: الْحَافِرَةُ: الْعَاجِلَةُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّا لَمَرْدُودُونَ إِلَى الدُّنْيَا، وَقِيلَ: الْحَافِرَةُ: الْأَرْضُ الَّتِي تُحْفَرُ فِيهَا قُبُورُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: آلَيْتُ لَا أَنْسَاكُمُ فَاعْلَمُوا ... حَتَّى يُرَدَّ النَّاسُ فِي الْحَافِرَةْ وَالْمَعْنَى: إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي قُبُورِنَا أَحْيَاءً، كَذَا قَالَ الْخَلِيلُ وَالْفَرَّاءُ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْحَافِرَةُ: النَّارُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي الْحافِرَةِ وَقَرَأَ أبو حيوة «في الحفرة» . أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً أَيْ: بَالِيَةً مُتَفَتِّتَةً. يُقَالُ: نَخِرَ الْعَظْمُ بِالْكَسْرِ إِذَا بَلِيَ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِإِنْكَارِ الْبَعْثِ، أَيْ: كَيْفَ نُرَدُّ أَحْيَاءً وَنُبْعَثُ إِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً، وَالْعَامِلُ فِي «إِذَا» مضمر يدلّ عليه مردودون، أي: أإذا كُنَّا عِظَامًا بَالِيَةً نُرَدُّ وَنُبْعَثُ مَعَ كَوْنِهَا أَبْعَدَ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَاةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَخِرَةً

_ (1) . غافر: 18. (2) . الشورى: 45.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ «نَاخِرَةً» وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: النَّاخِرَةُ الَّتِي لَمْ تُنْخَرْ بَعْدُ، أَيْ: لَمْ تُبْلَ وَلَا بُدَّ أَنْ تُنْخَرَ. وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَخِرَ الشَّيْءُ فَهُوَ نَاخِرٌ وَنَخِرٌ، وَطَمِعَ فَهُوَ طَامِعٌ وَطَمِعٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُمَا جَمِيعًا لُغَتَانِ أَيُّهُمَا قَرَأْتَ فَحَسَنٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: يَظَلُّ بِهَا الشَّيْخُ الَّذِي كَانَ بَادِنًا ... يَدُبُّ عَلَى عِوَجٍ لَهُ نَخِرَاتُ يَعْنِي عَلَى قَوَائِمَ عِوَجٍ، وَقِيلَ: النَّاخِرَةُ الَّتِي أُكِلَتْ أَطْرَافُهَا وَبَقِيَتْ أَوْسَاطُهَا، وَالنَّخِرَةُ: الَّتِي فَسَدَتْ كُلُّهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ نَخِرَةً أَيْ: مَرْفُوتَةٌ، كَمَا فِي قوله: رُفاتاً «1» ، وقرئ إِذا كُنَّا وأَ إِذا كُنَّا بِالِاسْتِفْهَامِ وَبِعَدَمِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ قَوْلًا آخَرَ قَالُوهُ فَقَالَ: قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أَيْ: رَجْعَةٌ ذَاتُ خُسْرَانٍ لِمَا يَقَعُ عَلَى أَصْحَابِهَا مِنَ الْخُسْرَانِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ رُدِدْنَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَنَخْسَرَنَّ بِمَا يُصِيبُنَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِمَّا يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ. وَقِيلَ: معنى خاسرة كاذبة، أي: ليست بِكَائِنَةٍ، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: خَاسِرَةٌ عَلَى مَنْ كَذَّبَ بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَيْ لَئِنْ رجعنا بَعْدَ الْمَوْتِ لَنَخْسَرَنَّ بِالنَّارِ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا لِأَنَّهُمْ أُوعِدُوا بِالنَّارِ، وَالْكَرَّةُ: الرَّجْعَةُ، وَالْجَمْعُ كَرَّاتٌ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ تَعْلِيلٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اسْتِبْعَادِهِمْ لِبَعْثِ الْعِظَامِ النَّخِرَةِ وَإِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَسْتَبْعِدُوا ذَلِكَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَانَ ذَلِكَ الْإِحْيَاءُ وَالْبَعْثُ، وَالْمُرَادُ بِالزَّجْرَةِ الصَّيْحَةُ وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي يَكُونُ الْبَعْثُ بِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الضمير في قوله: فَإِنَّما هِيَ رَاجِعٌ إِلَى الرَّادِفَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ أَيْ: فَإِذَا الْخَلَائِقُ الَّذِينَ قَدْ مَاتُوا وَدُفِنُوا أَحْيَاءً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمُرَادُ بِالسَّاهِرَةِ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَظَاهِرُهَا فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم، وقيل: لأن يَسْهَرُ فِي فَلَاتِهَا خَوْفًا مِنْهَا، فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ، ومنه قول أبي كبير الهذليّ: يرتدن ساهرة كأنّ جميمها ... وعميمها أَسْدَافُ لَيْلٍ مُظْلِمِ «2» وَقَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: وَفِيهَا لَحْمُ سَاهِرَةٍ وَبَحْرٌ ... وَمَا فَاهُوا بِهِ لَهُمُ مُقِيمُ يُرِيدُ لَحْمَ حَيَوَانِ أَرْضٍ سَاهِرَةٍ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: السَّاهِرَةُ: وَجْهُ الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ. وَقَالَ: السَّاهِرَةُ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ، وَقِيلَ: أَرْضٌ مِنْ فِضَّةٍ لَمْ يُعْصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا، وَقِيلَ: السَّاهِرَةُ: الْأَرْضُ السَّابِعَةُ يَأْتِي بِهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَيُحَاسِبُ عَلَيْهَا الخلائق. وقال سفيان الثوري: الساهرة: أرض

_ (1) . الإسراء: 49. (2) . «الجميم» : النبت الّذي قد نبت وارتفع قليلا ولم يتم كل التمام. «العميم» : المكتمل التام من النبت. «الأسداف» : جمع سدف، وهو ظلمة الليل.

الشَّامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ جَهَنَّمُ، أَيْ: فَإِذَا هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ فِي جَهَنَّمَ، وَإِنَّمَا قِيلَ: لَهَا سَاهِرَةٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَنَامُونَ فِيهَا لِاسْتِمْرَارِ عَذَابِهِمْ. وَجُمْلَةُ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَسْلِيَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ، وَأَنَّهُ يُصِيبُهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُمْ، وَمَعْنَى هَلْ أَتاكَ: قَدْ جَاءَكَ وَبَلَغَكَ، هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ قَدْ سَمِعَ مِنْ قِصَصِ فِرْعَوْنَ وَمُوسَى مَا يَعْرِفُ بِهِ حَدِيثَهُمَا، وعلى تقدير أن هذا مَا نَزَلْ عَلَيْهِ فِي شَأْنِهِمَا فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُهُ أَنَا أخبرك به إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً الظرف متعلق بحديث لا بأتاك لِاخْتِلَافِ وَقْتَيْهِمَا، وَقَدْ مَضَى مِنْ خَبَرِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي طُوًى فِي سُورَةِ طه. وَالْوَادِ الْمُقَدَّسُ: الْمُبَارَكُ الْمُطَهَّرُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: طُوَى وَادٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمِصْرَ. قَالَ: وَهُوَ مَعْدُولٌ مِنْ طَاوٍ، كَمَا عُدِلَ عمر من عامر. قال: والصرف أحبّ إِذْ لَمْ أَجِدُ فِي الْمَعْدُولِ نَظِيرًا لَهُ. وَقِيلَ: طُوًى مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَا رَجُلُ اذْهَبْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ الْوَادِيَ الْمُقَدَّسِ بُورِكَ فِيهِ مَرَّتَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى قِيلَ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، وَقِيلَ: هُوَ تَفْسِيرٌ لِلنِّدَاءِ، أَيْ: نَادَاهُ نِدَاءً هُوَ قَوْلُهُ: اذْهَبْ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ أَنْ الْمُفَسِّرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنِ اذْهَبْ لِأَنَّ فِي النِّدَاءِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ طَغى تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ أَوْ لِوُجُوبِ الِامْتِثَالِ، أَيْ: جَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْعِصْيَانِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ فَقُلْ لَهُ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أي: قل له بَعْدَ وُصُولِكَ إِلَيْهِ: هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ إِلَى التَّزَكِّي؟ وَهُوَ التَّطَهُّرُ مِنَ الشِّرْكِ، وَأَصْلُهُ تَتَزَكَّى فحذفت إحدى التاءين. قرأ الْجُمْهُورُ: تَزَكَّى بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ عَلَى إِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مَعْنَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ تَكُونُ زَكِيًّا مُؤْمِنًا، وَمَعْنَى قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ الصَّدَقَةُ، وَفِي الْكَلَامِ مُبْتَدَأٌ مُقَدَّرٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ إِلَى، وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ أَوْ هَلْ بك تَوَجُّهٌ أَوْ هَلْ لَكَ سَبِيلٌ إِلَى التَّزَكِّي، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُمْ: هَلْ لَكَ فِي الْخَيْرِ؟ يُرِيدُونَ: هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ فِي الْخَيْرِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : فَهَلْ لَكَمَ فِيهَا إِلَيَّ فإنّني ... طبيب بما أعيا النطاسيّ حذيما «2» وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى أَيْ: أُرْشِدُكَ إِلَى عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ فَتَخْشَى عِقَابَهُ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الْخَشْيَةِ عَلَى الْهِدَايَةِ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ مُهْتَدٍ رَاشِدٍ فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى هَذِهِ الْفَاءُ هِيَ الْفَصِيحَةُ لِإِفْصَاحِهَا عَنْ كَلَامٍ مَحْذُوفٍ، يَعْنِي: فَذَهَبَ فَقَالَ لَهُ مَا قَالَ مِمَّا حَكَاهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَأَجَابَ عَلَيْهِ بِمَا أَجَابَ إِلَى أَنْ قَالَ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها «3» فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى. وَاخْتُلِفَ فِي الآية الكبرى ما هي؟ فقيل: يَدُهُ، وَقِيلَ: فَلْقُ الْبَحْرِ، وَقِيلَ: هِيَ جَمِيعُ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ التِّسْعِ فَكَذَّبَ وَعَصى أَيْ: فَلَمَّا أَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى كَذَّبَ بِمُوسَى وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَعَصَى اللَّهَ عَزَّ

_ (1) . هو أوس بن أوس. (2) . أي: ابن حذيم. (3) . الأعراف: 106.

وَجَلَّ فَلَمْ يُطِعْهُ ثُمَّ أَدْبَرَ أَيْ: تَوَلَّى وَأَعْرَضَ عَنِ الْإِيمَانِ يَسْعى أَيْ: يَعْمَلُ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَيَجْتَهِدُ فِي مُعَارَضَةِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَقِيلَ: أَدْبَرَ هَارِبًا مِنَ الْحَيَّةِ يَسْعَى خَوْفًا مِنْهَا. وَقَالَ الرَّازِّيُّ: مَعْنَى أَدْبَرَ يَسْعى أَقْبَلَ يَسْعَى، كَمَا يُقَالُ: أَقْبَلَ يَفْعَلُ كَذَا، أَيْ: أَنْشَأَ يَفْعَلُ كَذَا، فَوَضَعَ أَدْبَرَ مَوْضِعَ أَقْبَلَ لِئَلَّا يُوصَفُ بِالْإِقْبَالِ. فَحَشَرَ أَيْ: فَجَمَعَ جُنُودَهُ لِلْقِتَالِ وَالْمُحَارَبَةِ، أَوْ جَمَعَ السَّحَرَةَ لِلْمُعَارَضَةِ أَوْ جَمَعَ النَّاسَ لِلْحُضُورِ لِيُشَاهِدُوا مَا يَقَعُ، أَوْ جَمَعَهُمْ لِيَمْنَعُوهُ مِنَ الْحَيَّةِ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أَيْ: قَالَ لَهُمْ بِصَوْتٍ عَالٍ، أَوْ أَمَرَ مَنْ يُنَادِي بِهَذَا الْقَوْلِ. وَمَعْنَى أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أَنَّهُ لَا رَبَّ فَوْقِي. قَالَ عَطَاءٌ: كَانَ صَنَعَ لَهُمْ أَصْنَامًا صِغَارًا وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهَا وَقَالَ: أَنَا رَبُّ أَصْنَامِكُمْ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِكَوْنِهِ رَبَّهُمْ أَنَّهُ قَائِدُهُمْ وَسَائِدُهُمْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «1» فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى النَّكَالُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَخَذَهُ أَخْذَ نَكَالٍ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَخَذَهُ اللَّهُ فَنَكَّلَهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأَوْلَى، أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَالْمُرَادُ بِنَكَالِ الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ وَنَكَالُ الْأُولَى عَذَابُ الدُّنْيَا بِالْغَرَقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَذَابُ أَوَّلِ عُمْرِهِ وَآخِرِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْآخِرَةُ قَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وَالْأُولَى تَكْذِيبُهُ لِمُوسَى. وَقِيلَ: الآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى والأولى قَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وَكَانَ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُ نَكَالَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: أَخَذَهُ اللَّهُ لِأَجْلِ نَكَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: بِنَكَالٍ. وَرَجَّحَ الزَّجَّاجُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى أَخَذَهُ اللَّهُ: نَكَّلَ اللَّهُ بِهِ، فَأُخْرِجَ مِنْ مَعْنَاهُ لَا مِنْ لَفْظِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذًا نَكَالًا: أَيْ: لِلنَّكَالِ، وَالنَّكَالُ: اسْمٌ لِمَا جُعِلَ نَكَالًا لِلْغَيْرِ، أَيْ: عُقُوبَةً لَهُ، يُقَالُ: نَكَّلَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ: إِذَا عَاقَبَهُ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الِامْتِنَاعِ، وَمِنْهُ النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ، وَالنَّكْلُ الْقَيْدُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى أَيْ: فِيمَا ذُكِرَ مِنْ قِصَّةِ فِرْعَوْنَ وَمَا فُعِلَ بِهِ عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَيَتَّقِيَهُ، وَيَخَافَ عُقُوبَتَهُ وَيُحَاذِرَ غَضَبَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً قَالَ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِعُ رُوحَ الْكُفَّارِ وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً قَالَ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ تَنْشِطُ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ مَا بَيْنَ الْأَظْفَارِ وَالْجِلْدِ حَتَّى تُخْرِجَهَا وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً هِيَ الْمَلَائِكَةُ تَسْبَحُ بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً هِيَ الْمَلَائِكَةُ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى اللَّهِ فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً هِيَ الْمَلَائِكَةُ تُدَبِّرُ أَمْرَ الْعِبَادِ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً قَالَ: هِيَ أَنْفُسُ الْكُفَّارِ تُنْزَعُ ثُمَّ تَنْشِطُ ثُمَّ تَغْرَقُ فِي النَّارِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً- وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً قَالَ: الْمَوْتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً قَالَ: الْمَلَائِكَةُ الذين يلون أنفس الكفار

_ (1) . القصص: 38.

[سورة النازعات (79) : الآيات 27 إلى 46]

إِلَى قَوْلِهِ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُمَزِّقِ النَّاسَ فَتُمَزِّقَكَ كِلَابُ النَّارِ، قَالَ اللَّهُ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً أَتَدْرِي مَا هُوَ؟ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا هُوَ؟ قَالَ: كِلَابٌ فِي النَّارِ تَنْشَطُ اللَّحْمَ وَالْعَظْمَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَهُ عَنْ فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً قَالَ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ يُدَبِّرُونَ ذِكْرَ الرَّحْمَنِ وَأَمْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي «ذِكْرِ الموت» عن ابن عباس قال: المدبرات أَمْرًا مَلَائِكَةٌ يَكُونُونَ مَعَ مَلَكِ الْمَوْتِ يَحْضُرُونَ الْمَوْتَى عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَرِّجُ بِالرُّوحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَمِّنُ عَلَى الدُّعَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَغْفِرُ لِلْمَيِّتِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدَلَّى فِي حُفْرَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ قَالَ: النَّفْخَةُ الْأُولَى تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قَالَ: النَّفْخَةُ الثانية قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ قال: خائفة أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ قَالَ: الْحَيَاةُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ رُبُعُ اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرْجُفُ الْأَرْضُ رَجْفًا، وَتُزَلْزَلُ بِأَهْلِهَا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ- تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ يَقُولُ: مَثَلُ السَّفِينَةِ فِي الْبَحْرِ تَكْفَأُ بِأَهْلِهَا مَثَلُ الْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِأَرْجَائِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ قَالَ: وَجِلَةٌ مُتَحَرِّكَةٌ. وأخرج عبد ابن حميد عنه أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ قَالَ: خَلْقًا جَدِيدًا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ فَقَالَ: السَّاهِرَةُ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَفِي لَفْظٍ قَالَ: الْأَرْضُ كُلُّهَا سَاهِرَةٌ، أَلَا تَرَى قَوْلَ الشَّاعِرِ: صَيْدُ بَحْرٍ وَصَيْدُ سَاهِرَةٍ وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْهُ أَيْضًا هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى قَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ قَالَ: قَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وَالْأُولى قَالَ: قَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن عبد الله ابن عَمْرِو قَالَ: كَانَ بَيْنَ كَلِمَتَيْهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. [سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 46] أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)

قَوْلُهُ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ أَيْ: أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبَعْثُكُمْ أَشَدُّ عِنْدِكُمْ وَفِي تَقْدِيرِكُمْ أَمْ خَلْقُ السَّمَاءِ، وَالْخِطَابُ لِكُفَّارِ مَكَّةَ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّوْبِيخُ لَهُمْ وَالتَّبْكِيتُ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ الَّتِي لَهَا هَذَا الْجَرْمُ الْعَظِيمُ وَفِيهَا مِنْ عَجَائِبِ الصُّنْعِ وَبَدَائِعِ الْقُدْرَةِ مَا هُوَ بَيِّنٌ لِلنَّاظِرِينَ كَيْفَ يَعْجَزُ عَنْ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ الَّتِي أَمَاتَهَا بَعْدَ أَنْ خَلَقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ؟ وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «1» وَقَوْلُهُ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ «2» ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ خَلْقِ السَّمَاءِ فَقَالَ: بَناها- رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها أَيْ: جَعَلَهَا كَالْبِنَاءِ الْمُرْتَفِعِ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَرَفَعَ سَمْكَهَا، أَيْ: أَعْلَاهُ فِي الْهَوَاءِ، فَقَوْلُهُ: رَفَعَ سَمْكَها بَيَانٌ لِلْبِنَاءِ، يُقَالُ سَمَكْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: رَفَعْتُهُ فِي الْهَوَاءِ، وَسَمُكَ الشَّيْءُ سُمُوكًا: ارْتَفَعَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كُلُّ شَيْءٍ حَمَلَ شَيْئًا مِنَ الْبِنَاءِ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ سَمْكٌ، وَبِنَاءٌ مَسْمُوكٌ، وَسَنَامٌ سَامِكٌ، أَيْ: عال، والمسموكات: السَّمَاوَاتُ: وَمِنْهُ قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ قَالَ الْبَغَوِيُّ: رَفَعَ سَمْكَها أَيْ: سَقْفَهَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَمِ السَّماءُ بَناها لِأَنَّهُ مِنْ صِلَةِ السَّمَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمِ السَّمَاءُ الَّتِي بَنَاهَا، فَحَذَفَ الَّتِي، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ جَائِزٌ. وَمَعْنَى فَسَوَّاها فَجَعَلَهَا مُسْتَوِيَةَ الْخَلْقِ مُعَدَّلَةَ الشَّكْلِ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا وَلَا اعْوِجَاجَ وَلَا فُطُورَ وَلَا شُقُوقَ وَأَغْطَشَ لَيْلَها الْغَطْشُ: الظُّلْمَةُ، أَيْ: جَعَلَهُ مُظْلِمًا، يُقَالُ: غَطَشَ اللَّيْلُ وَأَغْطَشَهُ اللَّهُ، كَمَا يُقَالُ: أَظْلَمَ اللَّيْلُ وَأَظْلَمَهُ اللَّهُ، وَرَجُلٌ أَغْطَشٌ وَامْرَأَةٌ غَطْشَى لَا يَهْتَدِيَانِ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَأَصْلُهُ مِنَ الْأَغْطَشِ، وَهُوَ الَّذِي فِي عَيْنِهِ عَمَشٌ، وَمِنْهُ فَلَاةٌ غَطْشَى لَا يُهْتَدَى فِيهَا «3» ، وَالتَّغَاطُشُ: التَّعَامِي. قَالَ الأعشى: ويهماء باللّيل غطشى الفلا ... ة يؤنسني صوت فيادها «4» وَقَوْلُهُ: وَغَامِرُهُمْ مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ «5» يَعْنِي: غَمَرَهُمْ سَوَادُ اللَّيْلِ، وَأَضَافَ اللَّيْلَ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ اللَّيْلَ يَكُونُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وَالشَّمْسُ مُضَافَةٌ إِلَى السَّمَاءِ وَأَخْرَجَ ضُحاها أَيْ: أَبْرَزَ نَهَارَهَا الْمُضِيءَ بِإِضَاءَةِ الشمس، وعبّر عن النهار بالضحى لأنه

_ (1) . غافر: 57. (2) . يس: 81. (3) . في تفسير القرطبي: لها. (4) . «الفياد» : ذكر البوم. (5) . وصدر البيت: عقرت لهم موهنا ناقتي.

أشرف أوقاته وأطيبها، وأضافه إلى السماء لأنه يَظْهَرَ بِظُهُورِ الشَّمْسِ، وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَيْ: بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَمَعْنَى دَحَاهَا: بَسَطَهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «1» بَلِ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا غير مدحوّة ثم خلق السماء ثم دحا الْأَرْضَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى هُنَالِكَ، وَقَدَّمْنَا أَيْضًا بَحْثًا فِي هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «2» وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ بَعْدَ بِمَعْنَى مَعَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «3» وَقِيلَ: بَعْدَ بِمَعْنَى قَبْلَ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ «4» أَيْ: مِنْ قَبْلِ الذِّكْرِ. وَالْجَمْعُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. يُقَالُ: دَحَوْتُ الشَّيْءَ أَدْحُوهُ إِذَا بَسَطْتُهُ، وَيُقَالُ لِعُشِّ النَّعَامَةِ: أَدْحَى، لِأَنَّهُ مَبْسُوطٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ: دَحَاهَا فَلَمَّا رَآهَا اسْتَوَتْ ... عَلَى الْمَاءِ أَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: وَبَثَّ الْخَلْقَ فِيهَا إِذْ دَحَاهَا ... فَهُمْ قُطَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِي وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالَا دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا ... بِأَيْدٍ وَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ الْأَرْضِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَابْنُ أَبِي عبلة وأبو حيوة وأبو السّمّال وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها أَيْ: فجّر من الأرض الأنهار والبحار والعيون أَخْرَجَ مِنْها ماءَها- وَمَرْعاها أَيِ: النَّبَاتَ الَّذِي يَرْعَى، وَمَرْعَاهَا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ: رَعْيُهَا، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَوْضِعُ الرَّعْيِ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لَدَحَاهَا لِأَنَّ السُّكْنَى لَا تَتَأَتَّى بِمُجَرَّدِ الْبَسْطِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَسْوِيَةِ أَمْرِ الْمَعَاشِ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ. وَإِمَّا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَالْجِبالَ أَرْساها أَيْ: أَثْبَتَهَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَهَا كَالْأَوْتَادِ لِلْأَرْضِ لِتَثْبُتَ وَتَسْتَقِرَّ وَأَنْ لَا تَمِيدَ بِأَهْلِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ الْجِبَالِ عَلَى الِاشْتِغَالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو السّمّال وعمرو بن عبيد ونصر ابن عاصم بالرفع على الابتداء، قيل: وَلَعَلَّ وَجْهَ تَقْدِيمِ ذِكْرِ إِخْرَاجِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى عَلَى إِرْسَاءِ الْجِبَالِ مَعَ تَقَدُّمِ الْإِرْسَاءِ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أَيْ: مَنْفَعَةً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ مِنَ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَانْتِصَابُ «مَتَاعًا» عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: مَتَّعَكُمْ بِذَلِكَ مَتَاعًا، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها بِمَعْنَى مَتَّعَ بِذَلِكَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ له، أي: فعل ذلك لأجل

_ (1) . فصلت: 11. [.....] (2) . البقرة: 29. (3) . القلم: 13. (4) . الأنبياء: 105.

التَّمْتِيعِ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ لِأَنَّ فَائِدَةَ مَا ذُكِرَ مِنَ الدَّحْوِ وَإِخْرَاجِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى كَائِنَةٌ لَهُمْ وَلِأَنْعَامِهِمْ، وَالْمَرْعَى: يَعُمُّ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى أَيِ: الدَّاهِيَةُ الْعُظْمَى الَّتِي تَطِمُّ عَلَى سَائِرِ الطَّامَّاتِ. قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: هِيَ الْقِيَامَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَطِمُّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لِعِظَمِ هَوْلِهَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الطَّامَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الدَّاهِيَةُ الَّتِي لَا تُسْتَطَاعُ، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ فِيمَا أَحْسَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَمَّ الْفَرَسُ طَمِيمًا إِذَا اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِي الْجَرْيِ، وَطَمَّ الْمَاءُ إِذَا مَلَأَ النَّهْرَ كُلَّهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مِنْ طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ «1» ، أَيْ: دَفَنَهَا، وَالَطْمُّ: الدَّفْنُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الطَّامَّةُ الْكُبْرَى هِيَ الَّتِي تُسْلِمُ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ إِلَى النَّارِ، وَالْفَاءُ للدلالة على ترتب مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَجَوَابُ «إِذَا» قِيلَ هُوَ قَوْلُهُ: فَأَمَّا مَنْ طَغى، وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَإِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، أَوْ عَايَنُوا، أَوْ عَلِمُوا، أَوْ أُدْخِلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْعَامِلُ فيها جوابها، وهو معنى يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ فَإِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: أَعْنِي يَوْمَ يَتَذَكَّرُ، أَوْ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ يَكُونُ كَيْتَ وَكَيْتَ. وَقِيلَ: إِنَّ الظَّرْفَ بَدَلٌ مِنْ إِذَا، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الطَّامَّةِ الْكُبْرَى ومعنى يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى أَنَّهُ يَتَذَكَّرُ مَا عَمِلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ مُدَوَّنًا فِي صَحَائِفِ عَمَلِهِ، وَ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ مَوْصُولَةٌ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى مَعْطُوفٌ عَلَى جَاءَتْ، وَمَعْنَى بُرِّزَتْ: أُظْهِرَتْ إِظْهَارًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يُكْشَفُ عَنْهَا الْغِطَاءُ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا الْخَلْقُ، وَقِيلَ: لِمَنْ يَرى مِنَ الْكُفَّارِ، لَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالظَّاهِرُ أَنْ تَبْرُزَ لِكُلِّ رَاءٍ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَعْرِفُ بِرُؤْيَتِهَا قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالسَّلَامَةِ مِنْهَا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَزْدَادُ غَمًّا إِلَى غَمِّهِ، وَحَسْرَةً إِلَى حَسْرَتِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِمَنْ يَرى بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ ومالك ابن دينار وعكرمة وزيد بن عليّ بالفوقية، أو: لِمَنْ تَرَاهُ الْجَحِيمُ، أَوْ لِمَنْ تَرَاهُ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «لِمَنْ رَأَى» عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي فَأَمَّا مَنْ طَغى أَيْ: جَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ: قَدَّمَهَا عَنِ الْآخِرَةِ وَلَمْ يَسْتَعِدَّ لَهَا وَلَا عَمِلَ عَمَلَهَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى أَيْ: مَأْوَاهُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مَنْزِلُهُ الَّذِي يَنْزِلُهُ، وَمَأْوَاهُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ لَا غَيْرُهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْقِسْمَ الثَّانِي مِنَ الْقَسَمَيْنِ فَقَالَ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أَيْ: حَذِرَ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الربيع: مقامه يوم الحساب. قال قتادة: يقول: إن الله عَزَّ وَجَلَّ مَقَامًا قَدْ خَافَهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ خَوْفُهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ مُوَاقَعَةِ الذَّنْبِ فَيُقْلِعُ عَنْهُ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «2» وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أَيْ: زَجَرَهَا عَنِ الْمِيلِ إِلَى الْمَعَاصِي وَالْمَحَارِمِ الَّتِي تَشْتَهِيهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ مَقَامَهُ لِلْحِسَابِ فَيَتْرُكُهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أَيِ: الْمَنْزِلُ الَّذِي يَنْزِلُهُ وَالْمَكَانُ الَّذِي يأوي إليه لا غيرها يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أَيْ: مَتَى وُقُوعُهَا وَقِيَامُهَا؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: مُنْتَهَى قِيَامِهَا كَرُسُوِّ السفينة. قال أبو عبيدة: ومرسى السفينة

_ (1) . أي البئر أي جرى سيل الوادي. (2) . الرّحمن: 56.

حِينَ تَنْتَهِي، وَالْمَعْنَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ مَتَى يُقِيمُهَا اللَّهُ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أَيْ: فِي أَيُّ شَيْءٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ ذِكْرِ الْقِيَامَةِ وَالسُّؤَالِ عَنْهَا، وَالْمَعْنَى: لَسْتَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهَا وَذِكْرَاهَا إِنَّمَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ إِنْكَارٌ وَرَدٌّ لِسُؤَالِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهَا، أَيْ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَلُونَكَ عَنْهُ وَلَسْتَ تَعْلَمُهُ إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أَيْ: مُنْتَهَى عِلْمِهَا، فَلَا يُوجَدُ عِلْمُهَا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي «1» وقوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «2» فَكَيْفَ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا وَيَطْلُبُونَ مِنْكَ بَيَانَ وَقْتِ قِيَامِهَا إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أَيْ: مُخَوِّفٌ لِمَنْ يَخْشَى قِيَامَ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ وَظِيفَتُكَ لَيْسَ عَلَيْكَ غَيْرُهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَنَحْوِهِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَخَصَّ الْإِنْذَارَ بِمَنْ يَخْشَى لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالْإِنْذَارِ وَإِنْ كَانَ مُنْذِرًا لِكُلِّ مُكَلَّفٍ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ مُنْذِرُ إِلَى مَا بَعْدَهُ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَطَلْحَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ وَحُمَيْدٌ بِالتَّنْوِينِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالتَّنْوِينُ وَتَرْكُهُ فِي مُنْذِرُ صَوَابٌ، كَقَوْلِهِ: بالِغُ أَمْرِهِ «3» ومُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ «4» . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ لِلْمَاضِي، نَحْوَ ضَارِبُ زَيْدٍ أَمْسِ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أَيْ: إِلَّا قَدْرَ آخِرِ نَهَارٍ أَوْ أَوَّلِهِ، أَوْ قَدْرَ الضُّحَى الَّذِي يَلِي تِلْكَ الْعَشِيَّةَ، وَالْمُرَادُ تَقْلِيلُ مُدَّةِ الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ «5» وَقِيلَ: لَمْ يَلْبَثُوا فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِإِضَافَةِ الضُّحَى إِلَى الْعَشِيَّةِ إِضَافَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْعَشِيَّةِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: آتِيكَ الْغَدَاةَ أَوْ عَشِيَّتَهَا، وَآتِيكَ الْعَشِيَّةَ أَوْ غَدَاتَهَا فَتَكُونُ الْعَشِيَّةُ فِي مَعْنَى آخِرِ النَّهَارِ، وَالْغَدَاةُ فِي مَعْنَى أَوَّلِ النَّهَارِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَحْنُ صَبَحْنَا عَامِرًا فِي دَارِهَا ... جُرْدًا تَعَادَى طَرَفَيْ نَهَارِهَا عَشِيَّةَ الْهِلَالِ أَوْ سِرَارَهَا وَالْجُمْلَةُ تَقْرِيرٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِنْذَارُ مِنْ سُرْعَةِ مَجِيءِ الْمُنْذِرِ بِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: رَفَعَ سَمْكَها قَالَ: بَنَاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَها قَالَ: أَظْلَمَ لَيْلَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَأَغْطَشَ لَيْلَها قَالَ: وَأَظْلَمَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحاها قَالَ: أَخْرَجَ نَهَارَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها قَالَ: مَعَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: آيَتَانِ فِي كتاب الله تخالف إحداهما الأخرى، فقال: إنما أتيت من قبل رأيك، قال: اقرأ: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ حَتَّى بلغ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «6» وقوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها

_ (1) . الأعراف: 187. (2) . لقمان: 34. (3) . الطلاق: 3. (4) . الأنفال: 18. (5) . الأحقاف: 35. (6) . فصلت: 9- 11.

قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السماء، ثم خلق السماء، ثم دحا الْأَرْضَ بَعْدَ مَا خَلَقَ السَّمَاءَ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ: دَحاها: بَسَطَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: دَحاها أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَشَقَّقَ فِيهَا الْأَنْهَارَ وَجَعَلَ فِيهَا الْجِبَالَ وَالرِّمَالَ وَالسُّبُلَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الطَّامَّةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ عَنِ السَّاعَةِ فَنَزَلَتْ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ عَنِ السَّاعَةِ حَتَّى أَنْزِلَ اللَّهُ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها فَانْتَهَى فَلَمْ يَسْأَلْ عَنْهَا» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَ السَّاعَةِ حَتَّى نَزَلَتْ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها فَكَفَّ عَنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ- قال السيوطي: بسند ضعيف- أن مُشْرِكِي مَكَّةَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: مَتَى السَّاعَةُ؟ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ. فَأَنْزَلَ الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها يَعْنِي مَجِيئَهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها يَعْنِي مَا أَنْتَ مِنْ عِلْمِهَا يَا مُحَمَّدُ إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها يَعْنِي مُنْتَهَى عِلْمِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَتِ الْأَعْرَابُ إِذَا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ فَيَنْظُرُ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فَيَقُولُ: إِنَّ يعش هذا قرنا قامت عليكم ساعتكم» «1» .

_ (1) . انظر رأي الإمام النووي والحافظ ابن حجر حول هذا الحديث في فتح الباري (10/ 557) .

سورة عبس

سورة عبس وتسمى سورة السفرة، وهي إحدى وأربعون، أو اثنتان وأربعون آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ عَبَسَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 42] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) قَوْلُهُ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أي: كلح بوجهه وَأَعْرَضَ. وَقُرِئَ «عَبَّسَ» بِالتَّشْدِيدِ أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ: لِأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَالْعَامِلُ فِيهِ إِمَّا عَبَسَ أَوْ تَوَلَّى عَلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ فِي التَّنَازُعِ هَلِ الْمُخْتَارُ إِعْمَالُ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي؟. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولَ الْآيَةِ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ طَمِعَ فِي إِسْلَامِهِمْ، فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَقْطَعَ عَلَيْهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ كَلَامَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَنَزَلَتْ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ بَيَانُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى الْتَفَتَ سُبْحَانَهُ إِلَى خِطَابِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الْمُشَافَهَةَ أَدْخَلُ فِي الْعِتَابِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ دَارِيًا بِحَالِهِ حَتَّى تُعْرِضَ عَنْهُ، وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ لَهُ شَأْنًا يُنَافِي الْإِعْرَاضَ عَنْهُ، أَيْ: لَعَلَّهُ يَتَطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِسَبَبِ مَا يَتَعَلَّمُهُ مِنْكَ، فَالضَّمِيرُ فِي «لَعَلَّهُ» رَاجِعٌ إِلَى «الْأَعْمَى» ، وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الكافر، أي: وما يدريك أن ما طعمت فِيهِ مِمَّنِ اشْتَغَلْتُ بِالْكَلَامِ مَعَهُ عَنِ الْأَعْمَى أَنَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَكَلِمَةُ التَّرَجِّي بِاعْتِبَارِ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ مَعَ كَوْنِهِ مَرْجُوَّ التزكي مما

لَا يَجُوزُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى عَلَى الْخَبَرِ بِدُونِ اسْتِفْهَامٍ، وَوَجْهُهُ مَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: «أَنْ جَاءَهُ» بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ عَبَسَ وَتَوَلَّى، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى تَوَلَّى وَأَعْرَضَ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ «1» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا «2» وَقَوْلُهُ: أَوْ يَذَّكَّرُ عَطْفٌ عَلَى يَزَّكَّى دَاخِلٌ مَعَهُ فِي حُكْمِ التَّرَجِّي، أَيْ: أَوْ يَتَذَكَّرُ فَيَتَّعِظُ بِمَا تَعَلَّمَهُ مِنَ الْمَوَاعِظِ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَيِ: الْمَوْعِظَةُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَتَنْفَعُهُ» بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ عاصم ابن أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى وَالسُّلَمِيُّ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ التَّرَجِّي أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أَيْ كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَغِنًى، أَوِ اسْتَغْنَى عَنِ الْإِيمَانِ وَعَمَّا عِنْدَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أَيْ: تُصْغِي لِكَلَامِهِ، وَالتَّصَدِّي: الْإِصْغَاءُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تَصَدَّى» بِالتَّخْفِيفِ عَلَى طَرْحِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْإِدْغَامِ، وَفِي هَذَا مَزِيدُ تَنْفِيرٍ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ وَالْإِصْغَاءِ إِلَى كَلَامِهِمْ وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ عَلَيْكَ فِي أَنْ لَا يُسْلِمَ وَلَا يَهْتَدِي، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، فَلَا تَهْتَمَّ بِأَمْرِ مِنْ كَانَ هَكَذَا مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» نَافِيَةً، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ فِي أَنْ لَا يَتَزَكَّى مَنْ تَصَدَّيْتَ لَهُ وَأَقْبَلْتَ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَصَدَّى. ثُمَّ زَادَ سُبْحَانَهُ فِي مُعَاتَبَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى أَيْ: وَصَلَ إِلَيْكَ حَالَ كَوْنِهِ مُسْرِعًا فِي الْمَجِيءِ إِلَيْكَ طَالِبًا مِنْكَ أَنْ تُرْشِدَهُ إِلَى الْخَيْرِ وَتَعِظَهُ بِمَوَاعِظِ اللَّهِ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ يَخْشى حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَسْعَى عَلَى التَّدَاخُلِ، أَوْ مِنْ فَاعِلِ جَاءَكَ عَلَى التَّرَادُفِ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أَيْ: تَتَشَاغَلُ عَنْهُ، وتعرض عن الإقبال عليه، وَالتَّلَهِّي: التَّشَاغُلُ وَالتَّغَافُلُ، يُقَالُ: لَهَيْتُ عَنِ الْأَمْرِ أَلْهَى، أَيْ: تَشَاغَلْتُ عَنْهُ، وَكَذَا تَلَهَّيْتُ. وَقَوْلُهُ: كَلَّا رَدْعٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا عُوتِبَ عَلَيْهِ، أَيْ: لَا تَفْعَلْ بَعْدَ هَذَا الْوَاقِعِ مِنْكَ مِثْلَهُ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْفَقِيرِ، وَالتَّصَدِّي لِلْغَنِيِّ وَالتَّشَاغُلِ بِهِ، مَعَ كَوْنِهِ ليس ممن يتزكى عن إرشاد من جَاءَكَ مِنْ أَهْلِ التَّزَكِّي وَالْقَبُولِ لِلْمَوْعِظَةِ، وَهَذَا الْوَاقِعُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى، فَأَرْشَدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى بِهِ إِنَّها تَذْكِرَةٌ أَيْ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أَوِ السُّورَةَ مَوْعِظَةٌ، حَقُّهَا أَنْ تَتَّعِظَ بِهَا وَتَقْبَلَهَا وَتَعْمَلَ بِمُوجِبِهَا وَيَعْمَلَ بِهَا كُلُّ أُمَّتِكَ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أَيْ: فَمَنْ رَغِبَ فِيهَا اتَّعَظَ بِهَا وَحَفِظَهَا وَعَمِلَ بِمُوجِبِهَا، وَمَنْ رَغِبَ عَنْهَا كَمَا فَعَلَهُ مَنِ اسْتَغْنَى فَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِ. قِيلَ: الضَّمِيرَانِ فِي «إِنَّهَا» ، وَفِي «ذَكَرَهُ» لِلْقُرْآنِ، وَتَأْنِيثُ الْأَوَّلِ لِتَأْنِيثِ خَبَرِهِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ لِلسُّورَةِ، أَوْ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَالثَّانِي لِلتَّذْكِرَةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الذِّكْرِ، وَقِيلَ: إِنْ مَعْنَى فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فَمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَلْهَمَهُ وَفَهَّمَهُ الْقُرْآنَ حَتَّى يَذَّكَّرَهُ وَيَتَّعِظَ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ عِظَمِ هَذِهِ التَّذْكِرَةِ وَجَلَالَتِهَا فَقَالَ: فِي صُحُفٍ أَيْ: إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ كائنة في صحف، فالجار والمجرور صفة لتذكرة، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَالصُّحُفُ: جَمْعُ صَحِيفَةٍ، وَمَعْنَى مُكَرَّمَةٍ أنها مكرمة عند الله

_ (1) . الأنعام: 52. (2) . الكهف: 28. [.....]

لِمَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، أَوْ لِأَنَّهَا نَازِلَةٌ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصُّحُفِ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى - صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى «1» . وَمَعْنَى مَرْفُوعَةٍ أَنَّهَا رَفِيعَةُ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَرْفُوعَةٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مُكَرَّمَةٍ يَعْنِي اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مَرْفُوعَةٍ يَعْنِي فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَرْفُوعَةُ الْقِدْرِ وَالذِّكْرِ، وَقِيلَ: مَرْفُوعَةٌ عَنِ الشُّبَهِ وَالتَّنَاقُضِ مُطَهَّرَةٍ أَيْ: مُنَزَّهَةٌ لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. قَالَ الْحَسَنُ: مُطَهَّرَةٌ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ. قَالَ السُّدِّيُّ: مُصَانَةٌ عَنِ الْكُفَّارِ لَا يَنَالُونَهَا بِأَيْدِي سَفَرَةٍ السَّفَرَةُ: جَمْعُ سَافِرٍ كَكَتَبَةٍ وَكَاتِبٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا بِأَيْدِي كَتَبَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَنْسَخُونَ الْكُتُبَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: السَّفَرَةُ هُنَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَسْفِرُونَ بِالْوَحْيِ بَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، مِنَ السِّفَارَةِ وَهُوَ السَّعْيُ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَأَنْشَدَ: فَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي ... وَلَا أمشي بغشّ إن مشيت «2» قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْكِتَابِ سِفْرٌ بِكَسْرِ السين، والكاتب سافر، لأن معناه أنه يبيّن، يُقَالُ أَسْفَرَ الصُّبْحُ إِذَا أَضَاءَ، وَأَسْفَرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا كَشَفَتِ النِّقَابَ عَنْ وَجْهِهَا، وَمِنْهُ سَفَرْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ أَسْفَرَ سِفَارَةً، أَيْ: أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: السَّفَرَةُ هُنَا هُمُ الْقُرَّاءُ لِأَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الْأَسْفَارَ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَثْنَى سُبْحَانَهُ عَلَى السَّفَرَةِ فَقَالَ: كِرامٍ بَرَرَةٍ أَيْ: كِرَامٍ عَلَى رَبِّهِمْ، كَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كِرَامٌ عَنِ الْمَعَاصِي، فَهُمْ يَرْفَعُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْهَا. وَقِيلَ: يَتَكَرَّمُونَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ ابْنِ آدَمَ إِذَا خَلَا بِزَوْجَتِهِ، أَوْ قَضَى حَاجَتَهُ. وَقِيلَ: يُؤْثِرُونَ مَنَافِعَ غَيْرِهِمْ عَلَى منافع. وَقِيلَ: يَتَكَرَّمُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ. وَالْبَرَرَةُ: جَمْعُ بَارٍّ، مِثْلَ كَفَرَةٍ وَكَافِرٍ، أَيْ: أَتْقِيَاءُ مُطِيعُونَ لِرَبِّهِمْ صَادِقُونَ فِي إِيمَانِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرَهُ. قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ أَيْ: لُعِنَ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ! وَقِيلَ: عُذِّبَ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِهِ عَتَبَةُ بْنُ أَبِي لَهَبٍ، وَمَعْنَى مَا أَكْفَرَهُ التَّعَجُّبُ مِنْ إِفْرَاطِ كُفْرِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ اعْجَبُوا أَنْتُمْ مِنْ كُفْرِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلُّ كَافِرٍ شَدِيدُ الْكُفْرِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَنْ كَانَ سَبَبًا لِنُزُولِ الْآيَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي لِهَذَا الْكَافِرِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَنْزَجِرَ عَنْ كُفْرِهِ وَيَكُفَّ عَنْ طُغْيَانِهِ فَقَالَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أَيْ: مِنْ أَيْ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ هَذَا الْكَافِرَ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ أَيْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، وَهَذَا تَحْقِيرٌ لَهُ. قَالَ الْحَسَنُ: كَيْفَ يَتَكَبَّرُ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ، وَمَعْنَى فَقَدَّرَهُ أَيْ: فَسَوَّاهُ وَهَيَّأَهُ لِمَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَخَلَقَ لَهُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَسَائِرَ الْآلَاتِ وَالْحَوَاسِّ، وَقِيلَ: قَدَّرَهُ أَطْوَارًا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً إِلَى أَنْ تَمَّ خَلْقُهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ

_ (1) . الأعلى: 18- 19. (2) . في المطبوع: ولا أمشي بغير أب نسيب.

أَيْ: يَسَّرَ لَهُ الطَّرِيقَ إِلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: يَسَّرَهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1» وَانْتِصَابُ السَّبِيلِ بِمُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الْمَذْكُورُ، أَيْ: يَسَّرَ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أَيْ: جَعَلَهُ بَعْدَ أَنْ أَمَاتَهُ ذَا قَبْرٍ يُوَارَى فِيهِ إِكْرَامًا لَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّا يُلْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ تَأْكُلُهُ السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَعَلَ له قبرا وأمر أن يقبر فيه. وقال أقبره، وَلَمْ يَقُلْ قَبَرَهُ، لِأَنَّ الْقَابِرَ هُوَ الدَّافِنُ بِيَدِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إِلَى صَدْرِهَا «2» ... عَاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَى قَابِرِ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أَيْ: ثُمَّ إِذَا شَاءَ إِنْشَارَهُ أَنْشَرَهُ، أَيْ: أَحْيَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَعَلَّقَ الْإِنْشَارَ بِالْمَشِيئَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ وَقْتَهُ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ، بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِلْمَشِيئَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَنْشَرَهُ» بِالْأَلِفِ، وَرَوَى أَبُو حَيْوَةَ عَنْ نَافِعٍ وَشُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ «نَشَرَهُ» بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ كَلَّا: رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِلْإِنْسَانِ الْكَافِرِ، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ. وَمَعْنَى: «لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ» : لَمْ يَقْضِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْإِنْسَانُ عَلَى الْعُمُومِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ تَقْصِيرٍ. قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ حَقًّا لَمْ يَعْمَلْ مَا أُمِرَ به. وقال ابن فورك: أي كلّا لما يقض الله لِهَذَا الْكَافِرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ، بَلْ أَمَرَهُ بِمَا لَمْ يَقْضِ لَهُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَقْفُ عَلَى كَلَّا قَبِيحٌ وَالْوَقْفُ على أمره جيد، وكلّا عَلَى هَذَا بِمَعْنَى حَقًّا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَمَّا يَقْضِ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ مَا أَمَرَهُ، بَلْ أَخَلَّ بِهِ بَعْضُهَا بِالْكُفْرِ، وَبَعْضُهَا بِالْعِصْيَانِ، وَمَا قَضَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِلَّا الْقَلِيلُ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي تَعْدَادِ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ لِيَشْكُرُوهَا، وَيَنْزَجِرُوا عَنْ كُفْرَانِهَا بَعْدَ ذِكْرِ النِّعَمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُدُوثِهِ فَقَالَ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَيْ: يَنْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ طَعَامَهُ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا لِحَيَاتِهِ؟ وَكَيْفَ هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَ الْمَعَاشِ يَسْتَعِدُّ بِهَا لِلسَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ؟ قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَيْ: إِلَى مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «إِنَّا» بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ طَعَامِهِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ لِكَوْنِ نُزُولِ الْمَطَرِ سَبَبًا لِحُصُولِ الطَّعَامِ، فَهُوَ كَالْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ لَامِ الْعِلَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَسْرُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِئْنَافِ، وَالْفَتْحُ عَلَى مَعْنَى الْبَدَلِ مِنَ الطَّعَامِ. الْمَعْنَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، وَأَرَادَ بِصَبِّ الْمَاءِ الْمَطَرَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بِالْفَتْحِ وَالْإِمَالَةِ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أَيْ: شَقَقْنَاهَا بِالنَّبَاتِ الْخَارِجِ مِنْهَا بسبب نزول المطر شقا بديعا لائقا بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالشَّكْلِ وَالْهَيْئَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ هَذَا الشَّقِّ وَمَا وَقَعَ لِأَجْلِهِ فَقَالَ: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا يَعْنِي الحبوب الّذي يَتَغَذَّى بِهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ النَّبَاتَ لَا يَزَالُ يَنْمُو وَيَتَزَايَدُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ حَبًّا، وَقَوْلُهُ: وَعِنَباً مَعْطُوفٌ عَلَى «حَبًّا» ، أَيْ: وَأَنْبَتْنَا فِيهَا عِنَبًا، قِيلَ: وَلَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْعَطْفِ أَنْ يُقَيَّدَ الْمَعْطُوفُ بِجَمِيعِ مَا قُيِّدَ بِهِ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ، فَلَا ضَيْرَ فِي خُلُوِّ إِنْبَاتِ الْعِنَبِ عن شقّ

_ (1) . البلد: 10. (2) . في تفسير القرطبي (19/ 219) : نحرها.

الْأَرْضِ، وَالْقَضْبُ: هُوَ الْقَتُّ الرَّطْبُ الَّذِي يَقْضِبُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى تُعْلَفُ بِهِ الدَّوَابُّ، وَلِهَذَا سُمِّيَ قَضْبًا عَلَى مَصْدَرِ قَضَبَهُ، أَيْ: قَطَعَهُ كَأَنَّهُ لِتَكَرُّرِ قَطْعِهَا نَفْسَ الْقَطْعِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْقَضْبُ: الْفَصْفَصَةُ الرَّطْبَةُ، فَإِذَا يَبِسَتْ فَهِيَ الْقَتُّ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالْقَضْبَةُ وَالْقَضْبُ الرَّطْبَةُ، قَالَ: والموضع الّذي ينبت فيه مقضبة. قال القتبيّ وثعلب: وأهل مكة يسمون القتّ الْقَضْبَ. وَالزَّيْتُونُ: هُوَ مَا يُعْصَرُ مِنْهُ الزَّيْتُ، وَهُوَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ الْمَعْرُوفَةُ، وَالنَّخْلُ هُوَ جَمْعُ نَخْلَةٍ وَحَدائِقَ غُلْباً جَمْعُ حَدِيقَةٍ، وَهِيَ الْبُسْتَانُ، والغلب: العظام الغلاظ الرقاب. وقال مجاهد وَمُقَاتِلٌ: الْغُلْبُ: الْمُلْتَفُّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَغْلَبُ إِذَا كَانَ عَظِيمَ الرَّقَبَةِ، وَيُقَالُ لِلْأَسَدِ أَغْلَبُ لِأَنَّهُ مُصْمَتُ الْعُنُقِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَّا جَمِيعًا. قَالَ الْعَجَاجُ: مَا زِلْتُ يَوْمَ الْبَيْنَ أَلْوِي صُلْبِي ... وَالرَّأْسُ حَتَّى صِرْتُ مِثْلَ الْأَغْلَبِ وَجَمْعُ أَغْلَبَ وَغَلْبَاءَ غُلْبٌ، كَمَا جُمِعُ أَحْمَرُ وَحَمْرَاءُ عَلَى حُمْرٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: الْغُلْبُ: النَّخْلُ الْكِرَامُ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَيْضًا وَعِكْرِمَةَ: هِيَ غِلَاظُ الْأَوْسَاطِ وَالْجُذُوعِ. وَالْفَاكِهَةُ: مَا يَأْكُلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ ثِمَارِ الْأَشْجَارِ كَالْعِنَبِ وَالتِّينِ وَالْخَوْخِ وَنَحْوِهَا. وَالْأَبُّ: كُلُّ مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ مِمَّا لَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَلَا يَزْرَعُونَهُ مِنَ الكلأ وسائر أنواع المرعى، ومنه قول الشاعر: جذمنا قيس ونجد دارنا ... ولنا الأبّ به وَالْمَكْرَعُ «1» قَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَبُّ كُلُّ شَيْءٍ يَنْبُتُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: هُوَ الثِّمَارُ الرَّطْبَةُ. وَرُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: هُوَ التِّينُ خَاصَّةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْمَعَادِ فَقَالَ: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يَعْنِي صَيْحَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسُمِّيَتْ صَاخَّةً لِشِدَّةِ صَوْتِهَا لِأَنَّهَا تَصُخُّ الْآذَانَ، أَيْ: تُصِمُّهَا فَلَا تَسْمَعُ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ صَاخَّةً لِأَنَّهَا يَصِيخُ لَهَا الْأَسْمَاعُ، مِنْ قَوْلِكَ أَصَاخَ إِلَى كَذَا، أَيِ: اسْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ الْخَلِيلُ: الصَّاخَّةُ: صَيْحَةٌ تَصُخُّ الْآذَانَ حَتَّى تَصُمَّهَا بِشِدَّةِ وَقْعِهَا، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الصَّكِّ الشَّدِيدِ، يُقَالُ: صَخَّهُ بِالْحَجَرِ إِذَا صَكَّهُ بِهَا، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أَيْ: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ اشْتَغَلَ كُلُّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ، وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ- وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ- وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ إِمَّا بَدَلٌ مِنْ «إِذَا جَاءَتْ» ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ: أَعْنِي وَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِلصَّاخَّةِ، أَوْ بَدَلًا مِنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَخَصَّ هؤلاء بالذكر لأنهم أخصّ القرابة، وأولاهم بِالْحُنُوِّ وَالرَّأْفَةِ، فَالْفِرَارُ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا لِهَوْلٍ عَظِيمٍ، وَخَطْبٍ فَظِيعٍ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أَيْ: لِكُلِّ إِنْسَانِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ شَأْنٌ يَشْغَلُهُ عَنِ الْأَقْرِبَاءِ وَيَصْرِفُهُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا يَفِرُّ عَنْهُمْ حَذَرًا مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا بَيْنَهُمْ، وَقِيلَ: يَفِرُّ عَنْهُمْ لِئَلَّا يَرَوْا مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ، وَقِيلَ: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عَنْهُ شَيْئًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً «2» وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ

_ (1) . «الجذم» : الأصل. «المكرع» : مفعل من الكرع، أراد به الماء الصالح للشرب. (2) . الدخان: 41.

مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ سَبَبِ الْفِرَارِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُغْنِيهِ أَيْ: يَصْرِفُهُ عَنْ قَرَابَتِهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَغْنِ عَنِّي وَجْهَكَ، أَيِ: اصْرِفْهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يُغْنِيهِ» بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مَعَ فَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ: يُهِمُّهُ، مَنْ عَنَاهُ الْأَمْرُ إِذَا أَهَمَّهُ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ وُجُوهٌ مُبْتَدَأٌ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ التَّفْصِيلِ، وَهُوَ مِنْ مُسَوِّغَاتِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَ «يَوْمَئِذٍ» مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَ «مُسْفِرَةٌ» خَبَرُهُ، وَمَعْنَى مُسْفِرَةٌ: مُشْرِقَةٌ مُضِيئَةٌ، وَهِيَ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ لأنهم قد علموا إذ ذَاكَ مَا لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ، يُقَالُ: أَسْفَرَ الصُّبْحُ إِذَا أَضَاءَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: مُسْفِرَةٌ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، وَقِيلَ: مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أَيْ: فَرِحَةٌ بِمَا نَالَتْهُ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أَيْ: غُبَارٌ وَكُدُورَةٌ لِمَا تَرَاهُ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهَا مِنَ الْعَذَابِ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أَيْ: يَغْشَاهَا وَيَعْلُوهَا سَوَادٌ وَكُسُوفٌ، وَقِيلَ: ذِلَّةٌ، وَقِيلَ: شِدَّةٌ، وَالْقَتَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْغُبَارُ، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَنْشَدَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ الْمُلْكِ يَتْبَعُهُ ... مَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرَّايَاتِ وَالْقَتَرَا وَيَدْفَعُ مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْغَبَرَةِ فَإِنَّهَا وَاحِدَةُ الْغُبَارِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْقَتَرَةُ مَا ارْتَفَعَتْ إِلَى السَّمَاءِ، وَالْغَبَرَةُ مَا انْحَطَّتْ إِلَى الْأَرْضِ أُولئِكَ يَعْنِي أَصْحَابَ الْوُجُوهِ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أَيِ: الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْفُجُورِ، يُقَالُ: فَجَرَ أَيْ فَسَقَ، وَفَجَرَ، أَيْ: كَذَبَ، وَأَصْلُهُ الْمَيْلُ، وَالْفَاجِرُ: الْمَائِلُ عَنِ الْحَقِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْشِدْنِي وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ وَيَقُولُ: «أَتَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا؟» فَيَقُولُ: لَا، فَفِي هَذَا أُنْزِلَتْ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أنس قال: «جاء بن أُمِّ مَكْتُومٍ، وَهُوَ يُكَلِّمُ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَبَسَ وَتَوَلَّى- أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْرِمُهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِي عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَكَانَ يَتَصَدَّى لَهُمْ كَثِيرًا، وَيَحْرِصُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ رجل أعمى يقال له عبد الله بن أُمِّ مَكْتُومٍ يَمْشِي، وَهُوَ يُنَاجِيهِمْ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ يَسْتَقْرِئُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَسَ فِي وَجْهِهِ وَتَوَلَّى، وَكَرِهَ كَلَامَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخَرِينَ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجْوَاهُ، وَأَخَذَ يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ أَمْسَكَ اللَّهُ بِبَعْضِ بَصَرِهِ، ثُمَّ خَفَقَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ: عَبَسَ وَتَوَلَّى الْآيَةَ، فَلَمَّا نَزَلَ فِيهِ مَا نَزَلَ أَكْرَمَهُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَّمَهُ وَقَالَ لَهُ: «مَا حاجتك؟ هل تريد مني شَيْءٍ» ؟ وَإِذَا ذَهَبَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: «هَلْ لَكَ حَاجَةٌ فِي شَيْءٍ» ؟ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِيهِ غَرَابَةٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي إِسْنَادِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قَالَ: كَتَبَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي

حَاتِمٍ عَنْهُ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قَالَ: هُمْ بِالنَّبَطِيَّةِ الْقُرَّاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا كِرامٍ بَرَرَةٍ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ خُرُوجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَسَّرَهُ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ قَالَ: إِلَى مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ قَالَ: إِلَى خَرْئِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا قَالَ: الْمَطَرُ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا قَالَ: عَنِ النَّبَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَقَضْباً قَالَ: الْفَصْفَصَةُ، يَعْنِي الْقَتُّ، وَحَدائِقَ غُلْباً قَالَ: طُوَالًا وَفاكِهَةً وَأَبًّا قَالَ: الثِّمَارُ الرَّطْبَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْحَدَائِقُ: كُلُّ مُلْتَفٍّ، وَالْغُلْبُ: مَا غَلُظَ، وَالْأَبُّ: مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ مِمَّا تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ وَلَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا وَحَدائِقَ غُلْباً قَالَ: شَجَرٌ فِي الْجَنَّةِ يُسْتَظَلُّ بِهِ لَا يَحْمِلُ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْأَبُّ: الْكَلَأُ وَالْمَرْعَى. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَنِ الْأَبِّ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ عَنْ قَوْلِهِ: وَأَبًّا فَلَمَّا رَآهُمْ يَقُولُونَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالدِّرَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً إِلَى قَوْلِهِ: وَأَبًّا قَالَ: كُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَفَضَ «1» عَصَا كَانَتْ فِي يَدِهِ فَقَالَ: هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ التَّكَلُّفُ، فَمَا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَدْرِيَ مَا الْأَبُّ، اتَّبَعُوا مَا بُيِّنَ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَاعْمَلُوا عَلَيْهِ، وَمَا لَمْ تَعْرِفُوهُ فَكِلُوهُ إِلَى رَبِّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الصَّاخَّةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُسْفِرَةٌ قَالَ: مُشْرِقَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: تَرْهَقُها قَتَرَةٌ قَالَ: تَغْشَاهَا شِدَّةٌ وَذِلَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَتَرَةٌ قَالَ: سواد الوجه.

_ (1) . في اللسان: رفض الشيء: تركه.

سورة التكوير

سورة التّكوير وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ بِمَكَّةَ. وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيٌ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: إِذَا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 29] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) قَوْلُهُ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ فَهُوَ مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالتَّكْوِيرُ: الْجَمْعُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مَنْ كَارَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ يَكُورُهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: لُفَّتْ كَمَا تُلَفُّ الْعِمَامَةُ، يُقَالُ: كَوَّرْتُ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِي أُكَوِّرُهَا كَوْرًا، وَكَوَّرْتُهَا تَكْوِيرًا إِذَا لَفَفْتَهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُوِّرَتْ مِثْلَ تَكْوِيرِ العمامة تلف فتجمع. قال الربيع ابن خُثَيْمٍ: كُوِّرَتْ أَيْ رُمِيَ بِهَا، وَمِنْهُ كَوَّرْتُهُ فتكوّر، أي: سقط. وقال مقاتل وقتادة والكلبي: ذهب ضوءها. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اضْمَحَلَّتْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تَجْمَعُ الشَّمْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تُلَفُّ فَيُرْمَى بِهَا. فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّكْوِيرَ إِمَّا بِمَعْنَى لَفِّ جِرْمِهَا، أَوْ لَفِّ ضَوْئِهَا، أَوِ الرَّمْيِ بِهَا وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أَيْ: تَهَافَتَتْ وَانْقَضَتْ وتناثرت، يُقَالُ: انْكَدَرَ الطَّائِرُ مِنَ الْهَوَاءِ إِذَا انْقَضَّ، وَالْأَصْلُ فِي الِانْكِدَارِ الِانْصِبَابُ. قَالَ الْخَلِيلُ: يُقَالُ انْكَدَرَ عَلَيْهِمُ الْقَوْمُ إِذَا جَاءُوا أَرْسَالًا فَانْصَبُّوا عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةُ: انْصَبَّتْ كَمَا يَنْصَبُّ الْعِقَابُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَعَطَاءٌ: تُمْطِرُ السَّمَاءُ يَوْمَئِذٍ نُجُومًا، فَلَا يَبْقَى نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ إِلَّا وقع

عَلَى الْأَرْضِ، وَقِيلَ: انْكِدَارُهَا: طَمْسُ نُورِهَا وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أَيْ: قُلِعَتْ عَنِ الْأَرْضِ، وَسُيِّرَتْ فِي الْهَوَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً «1» . وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ الْعِشَارُ: النُّوقُ الْحَوَامِلُ الَّتِي فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، الْوَاحِدَةُ عَشْرَاءُ، وَهِيَ الَّتِي قَدْ أَتَى عَلَيْهَا فِي الْحَمْلِ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ لَا يَزَالُ ذَلِكَ اسْمُهَا حَتَّى تَضَعَ. وَخَصَّ الْعِشَارَ لِأَنَّهَا أَنْفَسُ مَالٍ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَأَعَزُّهُ عِنْدَهُمْ، وَمَعْنَى «عُطِّلَتْ» : تُرِكَتْ هَمَلًا بِلَا رَاعٍ وَذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوا مِنَ الْهَوْلِ الْعَظِيمِ، قِيلَ: وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الْمَثَلِ لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَكُونُ فِيهِ نَاقَةٌ عَشْرَاءُ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلرَّجُلِ نَاقَةٌ عَشْرَاءُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ نُوقٌ عِشَارٌ لَتَرَكَهَا وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا اشْتِغَالًا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسَيَأْتِي آخِرُ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا يُفِيدُ أَنَّ هَذَا فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْعِشَارُ: السَّحَابُ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تشبهها بالحامل، ومنه قوله: فَالْحامِلاتِ وِقْراً «2» وَتَعْطِيلُهَا عَدَمُ إِمْطَارِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «عُطِّلَتْ» بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالتَّخْفِيفِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ الدِّيَارَ تَعَطَّلُ فَلَا تُسْكَنُ، وقيل: الأرض التي يعشّر زَرْعُهَا تُعَطَّلُ فَلَا تُزْرَعُ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ الْوُحُوشُ: مَا تَوَحَّشَ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِّ، وَمَعْنَى حُشِرَتْ: بُعِثَتْ حَتَّى يَقْتَصَّ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَيَقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقُرَنَاءِ. وَقِيلَ: حَشْرُهَا: مَوْتُهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَعَ نَفْرَتِهَا الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَتَبَدُّدِهَا فِي الصَّحَارَى تُضَمُّ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَيْهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «حُشِرَتْ» بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ بِالتَّشْدِيدِ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أَيْ: أو قدت فَصَارَتْ نَارًا تَضْطَرِمُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُلِئَتْ بِأَنْ صارت بحرا واحدا وكثر ماؤها، وبه قال الربيع بن خثيم والكلبي ومقاتل والحسن والضحاك. وقيل: أرسل عذبها على مالحها ومالحها على عذبها حتى امتلأت، وقيل: فجرت فصارت بَحْرًا وَاحِدًا. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ حِبَّانَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: يَبِسَتْ وَلَا يَبْقَى فِيهَا قَطْرَةٌ، يُقَالُ: سَجَرْتُ الْحَوْضَ أَسْجُرُهُ سَجْرًا إِذَا مَلَأْتُهُ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: هُوَ مِنْ سَجَرْتُ التَّنُّورَ أَسْجُرُهُ سَجْرًا إِذَا أَحَمَيْتُهُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَعَطِيَّةُ وَسُفْيَانُ وَوَهْبٌ وَغَيْرُهُمْ: أُوقِدَتْ فَصَارَتْ نَارًا، وَقِيلَ: مَعْنَى سُجِّرَتْ أَنَّهَا صَارَتْ حَمْرَاءَ كَالدَّمِ، مِنْ قَوْلِهِمْ عَيْنٌ سَجْرَاءُ، أَيْ: حَمْرَاءُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «سُجِّرَتْ» بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِتَخْفِيفِهَا، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أَيْ: قُرِنَ بَيْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، وَقُرِنَ بَيْنَ رَجُلِ السُّوءِ مَعَ رَجُلِ السُّوءِ فِي النَّارِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: زُوِّجَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَقُرِنَتْ نُفُوسُ الْكَافِرِينَ بِالشَّيَاطِينِ. وَقِيلَ: قُرِنَ كُلُّ شَكْلٍ إِلَى شَكْلِهِ في العمل، وهو راجع إلى القول الأوّل. وقيل: قرن كل رجل إلى من كان يلازمه من ملك أو سُلْطَانٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ «3» وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ: يَعْنِي قُرِنَتِ الْأَرْوَاحُ بِالْأَجْسَادِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أُلْحِقَ كُلُّ امْرِئٍ بِشِيعَتِهِ الْيَهُودُ بِالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى بِالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسُ بِالْمَجُوسِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا مَنْ دُونِ اللَّهِ يَلْحَقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَالْمُنَافِقُونَ بِالْمُنَافِقِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: يُقْرَنُ الْغَاوِي بِمَنْ أَغْوَاهُ مِنْ شَيْطَانٍ أَوْ إِنْسَانٍ، وَيُقْرَنُ الْمُطِيعُ بِمَنْ دَعَاهُ

_ (1) . الكهف: 47. (2) . الذاريات: 2. (3) . الصافات: 22.

إِلَى الطَّاعَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: قُرِنَتِ النفوس بأعمالها وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ أَيِ: الْمَدْفُونَةُ حَيَّةً، وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ إِذَا وُلِدَتْ لِأَحَدِهِمْ بِنْتٌ دَفَنَهَا حَيَّةً مَخَافَةَ الْعَارِ أَوِ الْحَاجَةِ، يُقَالُ: وَأَدَ يَئِدُ وَأْدًا فَهُوَ وَائِدٌ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ مَوْءُودٌ، وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الثِّقَلِ لِأَنَّهَا تُدْفَنُ، فَيُطْرَحُ عَلَيْهَا التُّرَابُ فيثقلها فتموت، ومنه: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما «1» أَيْ: لَا يُثْقِلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نويرة: وموءودة مقبورة في مفازة «2» ومنه قول الراجز: سمّيتها إذ وُلِدَتْ تَمُوتُ ... وَالْقَبْرُ صِهْرٌ ضَامِنٌ رَمَيْتُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «الْمَوْءُودَةُ» بِهَمْزَةٍ بَيْنَ وَاوَيْنِ سَاكِنَيْنَ كَالْمَوْعُودَةِ. وقرأ البزي في رواية عنه بهمزة مضمومة ثُمَّ وَاوٍ سَاكِنَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: «الْمَوْدَةُ» بِزِنَةِ الْمَوْزَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «سُئِلَتْ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِكَسْرِ السِّينِ مَنْ سَالَ يَسِيلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «قُتِلَتْ» بِالتَّخْفِيفِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ سَأَلَتْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ «قَتَلْتُ» بِضَمِّ التَّاءِ الْأَخِيرَةِ. وَمَعْنَى «سُئِلَتْ» عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ تَوْجِيهَ السُّؤَالِ إِلَيْهَا لِإِظْهَارِ كَمَالِ الْغَيْظِ عَلَى قَاتِلِهَا حَتَّى كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُخَاطِبَ وَيَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ تَبْكِيتٌ لِقَاتِلِهَا وَتَوْبِيخُ لَهُ شَدِيدٌ. قَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوَبِّخَ قَاتِلَهَا لِأَنَّهَا قُتِلَتْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سَأَلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قَتَلْتَنِي» . وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ يَعْنِي صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ نُشِرَتْ لِلْحِسَابِ، لِأَنَّهَا تُطْوَى عِنْدَ الْمَوْتِ وَتُنْشَرُ عِنْدَ الْحِسَابِ، فَيَقِفُ كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى صَحِيفَتِهِ فَيَعْلَمُ مَا فِيهَا، فَيَقُولُ: مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها «3» قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: «نُشِرَتْ» بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ. وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ الْكَشْطُ: قَلْعٌ عَنْ شِدَّةِ الْتِزَاقٍ، [فَالسَّمَاءُ تُكْشَطُ كَمَا] «4» يُكْشَطُ الْجِلْدُ عَنِ الكبش، والقشط بالقاف لغة في الكشط، قَالَ الزَّجَّاجُ: قُلِعَتْ كَمَا يُقْلَعُ السَّقْفُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نُزِعَتْ فَطُوِيَتْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كُشِفَتْ عَمَّا فِيهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمَعْنَى الْكَشْطُ رَفْعُكَ شَيْئًا عَنْ شَيْءٍ قَدْ غَطَّاهُ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أَيْ: أُوقِدَتْ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ إِيقَادًا شَدِيدًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «سُعِرَتْ» بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَحَفْصٌ بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّهَا أُوقِدَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. قَالَ قَتَادَةُ: سُعْرُهَا غَضَبُ اللَّهِ وَخَطَايَا بَنِي آدَمَ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أَيْ: قُرِّبَتْ إِلَى الْمُتَّقِينَ وَأُدْنِيَتْ مِنْهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُمْ يَقْرُبُونَ مِنْهَا لَا أَنَّهَا تَزُولُ عَنْ مَوْضِعِهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى أُزْلِفَتْ تَزَيَّنَتْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الزُّلْفَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْقُرْبُ. قِيلَ: هَذِهِ الْأُمُورُ الِاثْنَا عَشَرَ سِتٌّ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ

_ (1) . البقرة: 255. (2) . وعجز البيت: بآمتها موسودة لم يمهّد. (3) . الكهف: 49. (4) . من تفسير القرطبي (19/ 235) [.....]

، وَسِتٌّ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ إِلَى هُنَا، وَجَوَابُ الْجَمِيعِ قَوْلُهُ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الزَّمَانُ الْمُمْتَدُّ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ، لَكِنْ لَا بِمَعْنَى أَنَّهَا تَعْلَمُ مَا تَعْلَمُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الْوَقْتِ الْمُمْتَدِّ، بَلِ الْمُرَادُ عَلِمَتْ مَا أَحْضَرَتْهُ عِنْدَ نَشْرِ الصُّحُفِ، يَعْنِي مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمَعْنَى مَا أَحْضَرَتْ: مَا أَحْضَرَتْ مِنْ أَعْمَالِهَا، وَالْمُرَادُ حُضُورُ صَحَائِفِ الْأَعْمَالِ، أَوْ حُضُورُ الْأَعْمَالِ نَفْسِهَا، كَمَا وَرَدَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تُصَوَّرُ بِصُوَرٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا وَتُعْرَفُ بِهَا، وَتَنْكِيرُ «نَفْسٍ» الْمُفِيدُ لِثُبُوتِ الْعِلْمِ الْمَذْكُورِ لِفَرْدٍ مِنَ النُّفُوسِ، أَوْ لِبَعْضٍ مِنْهَا لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ ثُبُوتَهُ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهَا مِنَ الظُّهُورِ وَالْوُضُوحِ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً «1» وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلْإِشْعَارٍ بِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَتْ حِينَئِذٍ نَفْسٌ مِنَ النُّفُوسِ مَا أَحْضَرَتْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ إِصْلَاحُ عَمَلِهَا مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَ هِيَ تِلْكَ الَّتِي عَلِمَتْ مَا أَحْضَرَتْ، فَكَيْفَ وَكَلُّ نَفْسٍ تَعْلَمُهُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِكَ لِمَنْ تَنْصَحُهُ: لَعَلَّكَ سَتَنْدَمُ عَلَى مَا فَعَلْتَ، وَرُبَّمَا نَدِمَ الْإِنْسَانُ عَلَى فَعَلَهُ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ «لَا» زَائِدَةَ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ وَتَحْقِيقُ مَا فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ، أَيْ: فَأُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ وَسُمِّيَتِ الْخُنَّسُ مِنْ خَنَسَ إِذَا تَأَخَّرَ لِأَنَّهَا تَخْنِسُ بِالنَّهَارِ فَتَخْفَى وَلَا تَرَى، وَهِيَ زُحَلٌ وَالْمُشْتَرِي وَالْمِرِّيخُ وَالزُّهْرَةُ وَعُطَارِدٌ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النُّجُومِ أَنَّهَا تَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ وَتَقْطَعُ الْمَجَرَّةَ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْخُنَّسُ: الْكَوَاكِبُ كُلُّهَا لِأَنَّهَا تَخْنِسُ فِي الْمَغِيبِ، أَوْ لِأَنَّهَا تَخْفَى نَهَارًا، أَوْ يُقَالُ هِيَ الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ مِنْهَا دُونَ الثَّابِتَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا الْكَوَاكِبُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ، لأنها تخنس في مجراها، وتكنس، أي: تستر كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ فِي الْمَغَارِ، وَيُقَالُ: سُمِّيَتْ خنسا لتأخّرها لأنها الكواكب المتحيزة الَّتِي تَرْجِعُ وَتَسْتَقِيمُ. يُقَالُ: خَنَسَ عَنْهُ يَخْنِسُ خُنُوسًا إِذَا تَأَخَّرَ، وَأَخْنَسَهُ غَيْرُهُ إِذَا خَلَّفَهُ وَمَضَى عَنْهُ، وَالْخُنَّسُ: تَأَخُّرُ الْأَنْفِ عَنِ الْوَجْهِ مَعَ ارْتِفَاعٍ قَلِيلٍ فِي الْأَرْنَبَةِ، وَمَعْنَى الْجَوارِ أَنَّهَا تَجْرِي مَعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَمَعْنَى الْكُنَّسِ أَنَّهَا تَرْجِعُ حَتَّى تَخْفَى تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ فَخُنُوسُهَا رُجُوعُهَا، وَكُنُوسُهَا اخْتِفَاؤُهَا تَحْتَ ضَوْئِهَا، وَقِيلَ: خُنُوسُهَا: خَفَاؤُهَا بِالنَّهَارِ، وَكُنُوسُهَا: غُرُوبُهَا. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ الَّتِي تَخْنِسُ بِالنَّهَارِ وَإِذَا غَرَبَتْ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ لِأَنَّهَا تَتَأَخَّرُ فِي النَّهَارِ عَنِ الْبَصَرِ لِخَفَائِهَا فَلَا تُرَى، وَتَظْهَرُ بِاللَّيْلِ وَتَكْنِسُ فِي وَقْتِ غُرُوبِهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا بَقْرُ الْوَحْشِ لِأَنَّهَا تَتَّصِفُ بِالْخُنَّسِ وَبِالْجَوَارِ وَبِالْكُنَّسِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْخُنَّسُ: الْبَقْرُ وَالْكُنَّسُ الظِّبَاءُ، فَهِيَ تَخْنِسُ إِذَا رَأَتِ الْإِنْسَانَ وَتَنْقَبِضُ وَتَتَأَخَّرُ وَتَدْخُلُ كِنَاسَهَا. وَقِيلَ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِذِكْرِ اللَّيْلِ وَالصُّبْحِ بَعْدَ هَذَا، وَالْكُنَّسُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكُنَّاسِ الَّذِي يَخْتَفِي فِيهِ الْوَحْشُ، وَالْخُنَّسُ: جَمْعُ خَانِسٍ وَخَانِسَةٍ، وَالْكُنَّسُ: جَمْعُ كَانِسٍ وَكَانِسَةٍ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ إِذَا أَقْبَلَ، وَعَسْعَسَ إِذَا أَدْبَرَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا أَدْبَرَ قَوْلُهُ: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى عَسْعَسَ أَدْبَرَ، كذا حكاه عنه الجوهري، وقال الحسن:

_ (1) . آل عمران: 30.

أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ عَسْعَسَ اللَّيْلُ إِذَا أَقْبَلَ، وَعَسْعَسَ اللَّيْلُ إِذَا أَدْبَرَ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ حَكَى عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى حَمْلِ مَعْنَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَدْبَرَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. قَالَ: وَالْمَعْنَيَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ ابْتِدَاءُ الظَّلَامِ أَوَّلِهِ وَإِدْبَارُهُ فِي آخِرِهِ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ: يَا هِنْدُ مَا أَسْرَعَ مَا تَعَسْعَسَا ... مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ فَتًى تَرَعْرَعَا «1» وَقَالَ امرؤ القيس: عسعس حتّى لو يشاء إدّنا ... كان لنا من ناره مقبس وقوله: ألمّا على الرّبع القديم بعسعسا «2» وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ التنفس الْأَصْلِ: خُرُوجُ النَّسِيمِ مِنَ الْجَوْفِ، وَتَنَفُّسُ الصُّبْحِ: إِقْبَالُهُ لِأَنَّهُ يُقْبِلُ بِرُوحٍ وَنَسِيمٍ، فَجَعَلَ ذَلِكَ تَنَفُّسًا لَهُ مَجَازًا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: تَنَفَّسَ أَيِ امتدّ ضوءه حَتَّى يَصِيرَ نَهَارًا، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلنَّهَارِ إِذَا زَادَ: تَنَفَّسَ. وَقِيلَ: إِذا تَنَفَّسَ إِذَا انْشَقَّ وَانْفَلَقَ، وَمِنْهُ تَنَفَّسَتِ الْقَوْسُ، أَيْ: تَصَدَّعَتْ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ جَوَابَ الْقَسَمِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يَعْنِي جِبْرِيلَ لِكَوْنِهِ نَزَلَ بِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَضَافَ الْقَوْلَ إِلَى جِبْرِيلَ لِكَوْنِهِ مُرْسَلًا بِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ فِي الْآيَةِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ وَصَفَ الرَّسُولَ الْمَذْكُورَ بِأَوْصَافٍ مَحْمُودَةٍ فَقَالَ: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أَيْ: ذِي قُوَّةٍ شَدِيدَةٍ فِي الْقِيَامِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: شَدِيدُ الْقُوى «3» ، وَمَعْنَى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أَنَّهُ ذُو رِفْعَةٍ عَالِيَةٍ وَمَكَانَةٍ مَكِينَةٍ عِنْدَ اللَّهِ سبحانه، وهو في محل نصب على حال مِنْ «مَكِينٍ» ، وَأَصْلُهُ الْوَصْفُ فَلَمَّا قُدِّمَ صَارَ حَالًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِرَسُولٍ، يُقَالُ: مَكَنَ فُلَانٌ عِنْدَ فُلَانٍ مَكَانَةً، أَيْ: صَارَ ذَا مَنْزِلَةٍ عِنْدَهُ وَمَكَانَةٍ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: مِنْ مَكَانَتِهِ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ أَنَّهُ يَدْخُلُ سَبْعِينَ سُرَادِقًا بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَمَعْنَى مُطاعٍ أَنَّهُ مُطَاعٌ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ وَيُطِيعُونَهُ ثَمَّ أَمِينٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ «ثَمَّ» عَلَى أَنَّهَا ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْبَعِيدِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ «مُطَاعٌ» أَوْ مَا بَعْدَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُطَاعٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ أَمِينٌ فِيهَا، أَيْ: مُؤْتَمَنٌ عَلَى الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَقَرَأَ هُشَيْمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ بضمها على أنها عاطفة، وَكَانَ الْعَطْفُ بِهَا لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا أَعْظَمُ مِمَّا قَبْلَهَا، وَمَنْ قَالَ: إن المراد بالرسول محمد

_ (1) . في لسان العرب: تسعسع بدل تعسعس وسرعرع بدل ترعرع ومعنى «تسعسع» : أدبر وفني. و «السرعرع» : الشاب الناعم. (2) . وعجز البيت: كأني أنادي أو أكلم أخرسا. (3) . النجم: 5.

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ذُو قُوَّةٍ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَى الْأُمَّةِ «مُطَاعٍ» يُطِيعُهُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ «أَمِينٌ» عَلَى الْوَحْيِ وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ الْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمُرَادُ بِصَاحِبِهِمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: وَمَا مُحَمَّدٌ يَا أَهْلَ مَكَّةَ بِمَجْنُونٍ، وَذِكْرُهُ بِوَصْفِ الصُّحْبَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِأَمْرِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَرْمُونَهُ بِهِ مِنَ الْجُنُونِ وَغَيْرِهِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ أَعْقَلُ النَّاسِ وَأَكْمَلُهُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ دَاخِلَةٌ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ، فَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَأَنَّهُ يَأْتِي بِالْقُرْآنِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ اللام واقعة جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَتَاللَّهِ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ جِبْرِيلَ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، أَيْ: بِمَطْلَعِ الشَّمْسِ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ لِأَنَّ هَذَا الْأُفُقَ إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ مِنْهُ فَهُوَ مُبِينٌ لِأَنَّ من جهته ترى الأشياء. وقيل: بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ: أَقْطَارُ السَّمَاءِ وَنَوَاحِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أخذنا بآفاق السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ ... لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ وَإِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ رَآهُ غَيْرَ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ رَآهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، قَالَ سُفْيَانُ: إِنَّهُ رَآهُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ الشَّرْقِيِّ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: فِي أُفُقِ السَّمَاءِ الْغَرْبِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَآهُ نَحْوَ أَجْيَادٍ، وَهُوَ مشرق مكة، و «المبين» صِفَةٌ لِلْأُفُقِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ. وَقِيلَ: صِفَةٌ لِمَنْ رَآهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَلَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَما هُوَ أَيْ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْغَيْبِ يَعْنِي خَبَرَ السَّمَاءِ وَمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ غَائِبًا عِلْمُهُ عَنْ أَهْلِ مكة بِضَنِينٍ بمتهم، أي: هو ثقة فبما يُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ: «بِضَنِينٍ» : بِبَخِيلٍ، أَيْ: لَا يَبْخَلُ بِالْوَحْيِ، وَلَا يُقَصِّرُ فِي التَّبْلِيغِ، وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ «بِظَنِينٍ» بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ، أَيْ: بِمُتَّهَمٍ، وَالظِّنَّةُ: التُّهْمَةُ، وَاخْتَارَ هَذِهِ القراءة أبو عبيد قال: لأنهم لم يبخّلوه وَلَكِنْ كَذَّبُوهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَنِينٍ بِالضَّادِ، أَيْ: ببخل، مَنْ ضَنِنْتُ بِالشَّيْءِ أَضِنُّ ضَنًا إِذَا بَخِلْتُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا يَضِنُّ عَلَيْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ بَلْ يُعَلِّمُ الْخَلْقَ كَلَامَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ جِبْرِيلُ إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أَيْ: وَمَا الْقُرْآنُ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ الْمَرْجُومَةِ بِالشُّهُبِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ إِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٍ. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ بِالشَّيْطَانِ: الشَّيْطَانَ الْأَبْيَضَ الَّذِي كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ جِبْرِيلَ يُرِيدُ أَنْ يَفْتِنَهُ. ثُمَّ بَكَّتَهُمْ سُبْحَانَهُ وَوَبَّخَهُمْ فَقَالَ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أَيْ: أَيْنَ تَعْدِلُونَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ وَعَنْ طَاعَتِهِ، كَذَا قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَيَّ طَرِيقٍ تَسْلُكُونَ أَبْيَنَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: ذَهَبْتُ الشَّامَ، وَخَرَجْتُ الْعِرَاقَ، وَانْطَلَقْتُ السُّوقَ، أَيْ: إِلَيْهَا. قَالَ: سَمِعْنَاهُ فِي هَذِهِ الْأَحْرُفِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنْشَدَ لِبَعْضِ بَنِي عَقِيلٍ: تَصِيحُ بِنَا حَنِيفَةُ إِذْ رَأَتْنَا- وَأَيُّ الْأَرْضِ تَذْهَبُ بالصّياح

تُرِيدُ إِلَى أَيِّ الْأَرْضِ تَذْهَبُ، فَحَذَفَ إِلَى إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أَيْ: مَا الْقُرْآنُ إِلَّا مَوْعِظَةٌ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بَدَلٌ مِنَ الْعَالَمِينَ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ وَمَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ «أَنْ يَسْتَقِيمَ» أَيْ: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمِ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الحقّ والإيمان والطاعة وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أَيْ: وما تشاؤون الِاسْتِقَامَةَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ، فَأَعْلَمَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ فِي التَّوْفِيقِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «1» وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «2» وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «3» وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قَالَ: أَظْلَمَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ قَالَ: تَغَيَّرَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قَالَ: كُوِّرَتْ فِي جَهَنَّمَ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ قَالَ: انْكَدَرَتْ فِي جَهَنَّمَ، فَكُلُّ مَنْ عُبِدَ مَنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ فِي جَهَنَّمَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عِيسَى وَأُمِّهِ، وَلَوْ رَضِيَا أَنْ يُعْبَدَا لَدَخَلَاهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: سِتُّ آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، وَسِتٌّ فِي الْآخِرَةِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِلَى وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ هَذِهِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ إِلَى وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ هَذِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْأَهْوَالِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سِتُّ آيَاتٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ إِذْ ذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ وَقَعَتِ الْجِبَالُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَتَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ وَاخْتَلَطَتْ، فَفَزِعَتِ الْجِنُّ إِلَى الْإِنْسِ وَالْإِنْسُ إِلَى الْجِنِّ، وَاخْتَلَطَتِ الدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَالْوَحْشُ فَمَاجُوا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ قَالَ: اخْتَلَطَتْ وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ قَالَ: أَهْمَلَهَا أهلها وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قال: قالت الْجِنُّ لِلْإِنْسِ: نَحْنُ نَأْتِيكُمْ بِالْخَبَرِ، فَانْطَلَقُوا إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا هُوَ نَارٌ تَأَجَّجُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ صَدْعَةً وَاحِدَةً إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ وَإِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهُمْ رِيحٌ فَأَمَاتَتْهُمْ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ قَالَ: حَشْرُ الْبَهَائِمِ: مَوْتُهَا، وَحَشْرُ كُلِّ شَيْءٍ الْمَوْتُ غَيْرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَإِنَّهُمَا يُوَافِيَانِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْخَطِيبُ فِي الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ، عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ قَالَ: يُحْشَرُ كُلُّ شَيْءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَنَّ الدَّوَابَّ لَتُحْشَرُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قَالَ: تُسْجَرُ حَتَّى تَصِيرَ نَارًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ سُجِّرَتْ قَالَ: اخْتَلَطَ مَاؤُهَا بماء الأرض. وأخرج عبد الرزاق والفريابي

_ (1) . يونس: 100. (2) . الأنعام: 111. (3) . القصص: 56.

وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قَالَ: يُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مَعَ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ وَيُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ السُّوءِ مَعَ الرَّجُلِ السُّوءِ فِي النَّارِ، كَذَلِكَ تَزْوِيجُ الْأَنْفُسِ: وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ قَرَأَ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ » وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: جَاءَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ التَّمِيمِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني وأدت ثمان بنات لي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةِ رَقَبَةً» ، قَالَ: إِنِّي صَاحِبُ إِبِلٍ، قَالَ: «فَأَهْدِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ بَدَنَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ قَالَ: قُرِّبَتْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ قَالَ: خَمْسَةُ أَنْجُمٍ زُحَلُ وَعُطَارِدُ وَالْمُشْتَرِي وَبِهْرَامُ وَالزُّهْرَةُ، لَيْسَ شَيْءٌ يَقْطَعُ الْمَجَرَّةَ غَيْرَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ فِي كِتَابِ النُّجُومِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هِيَ النُّجُومُ السَّبْعَةُ: زُحَلُ وَبِهْرَامُ وَعُطَارِدُ وَالْمُشْتَرِي وَالزُّهْرَةُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، خُنُوسُهَا: رُجُوعُهَا، وَكُنُوسُهَا: تَغَيُّبُهَا بِالنَّهَارِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ سَعْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ قَالَ: هِيَ بَقَرُ الْوَحْشِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ الْبَقَرُ تَكْنِسُ إِلَى الظِّلِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: تَكْنِسُ لِأَنْفُسِهَا فِي أُصُولِ الشَّجَرِ وتتوارى فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هِيَ الظِّبَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: الْجَوارِ الْكُنَّسِ قَالَ: هِيَ الْكَوَاكِبُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْخُنَّسُ الْبَقَرُ الْجَوارِ الْكُنَّسِ الظِّبَاءُ، أَلَمْ تَرَهَا إِذَا كَانَتْ فِي الظِّلِّ كَيْفَ تَكْنِسُ بِأَعْنَاقِهَا وَمَدَّتْ نَظَرَهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، عَنْ أَبِي الْعُدَيْسِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا الْجَوارِ الْكُنَّسِ فطعن عمر بمحضرة مَعَهُ فِي عِمَامَةِ الرَّجُلِ فَأَلْقَاهَا عَنْ رَأْسِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَحَرُورِيٌّ؟ وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِيَدِهِ لَوْ وَجَدْتُكَ مَحْلُوقًا لَأَنْحَيْتُ الْقَمْلَ عَنْ رَأْسِكَ. وَهَذَا مُنْكَرٌ، فَالْحَرُورِيَّةُ لَمْ يَكُونُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَلَا كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ذِكْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ قَالَ: إِذَا أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ قَالَ: إِذَا بَدَا النَّهَارُ حِينَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ إِذا عَسْعَسَ قَالَ: إِقْبَالُ سَوَادِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ قَالَ: جِبْرِيلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ له ستّمائة جناح قد سدّ الأفق.

_ (1) . الصافات: 22.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قال: إنما عنى جبريل وأن مُحَمَّدًا رَآهُ فِي صُورَتِهِ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، قَالَ: السَّمَاءُ السَّابِعَةُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: بِضَنِينٍ بِالضَّادِ، وَقَالَ: بِبَخِيلٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: «وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ» بِالظَّاءِ قَالَ: لَيْسَ بِمُتَّهَمٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقرؤه «بِظَنِينٍ» بِالظَّاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قَالُوا: الْأَمْرُ إِلَيْنَا إِنْ شِئْنَا اسْتَقَمْنَا وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَسْتَقِمْ، فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَذَبُوا يَا مُحَمَّدُ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.

سورة الانفطار

سورة الانفطار وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَامَ مُعَاذٌ فَصَلَّى الْعِشَاءَ فَطَوَّلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ أَيْنَ أَنْتَ عَنْ: سبّح اسم ربك الأعلى، والضحى، وإذا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ» وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَكِنْ بِدُونُ ذِكْرِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهَا النَّسَائِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ حَدِيثُ: «مِنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأْيَ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) قَوْلُهُ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: انْفِطَارُهَا: انْشِقَاقُهَا، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا «1» وَالْفِطْرُ: الشِّقُّ، يُقَالُ: فَطَرْتُهُ فَانْفَطَرَ، وَمِنْهُ فَطَرَ نَابُ الْبَعِيرِ إِذَا طَلَعَ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ أَنَّهَا انْفَطَرَتْ هُنَا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ مِنْهَا، وَقِيلَ: انْفَطَرَتْ لِهَيْبَةِ اللَّهِ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أَيْ: تَسَاقَطَتْ مُتَفَرِّقَةً، يُقَالُ: نَثَرْتُ الشَّيْءَ أَنْثُرُهُ نَثْرًا. وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ أي: بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا، وَاخْتَلَطَ الْعَذْبُ مِنْهَا بِالْمَالِحِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى فُجِّرَتْ: ذَهَبَ مَاؤُهَا وَيَبِسَتْ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أَيْ: قُلِبَ تُرَابُهَا وَأُخْرِجَ الْمَوْتَى الَّذِينَ هُمْ فِيهَا، يُقَالُ: بَعْثَرَ يُبَعْثِرُ بَعْثَرَةً إِذَا قَلَبَ التُّرَابَ، وَيُقَالُ: بَعْثَرَ الْمَتَاعَ: قَلَبَهُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَبَعْثَرْتُ الْحَوْضَ وَبَحْثَرْتُهُ إِذَا هَدَمْتُهُ وَجَعَلْتُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: بعثرت: أخرجت مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذَلِكَ من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبا وفضتها. ثم ذكر سبحانه

_ (1) . الفرقان: 25.

الْجَوَابَ عَمَّا تَقَدَّمَ فَقَالَ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا عَلِمَتْهُ عِنْدَ نَشْرِ الصُّحُفِ لَا عِنْدَ الْبَعْثِ لِأَنَّهُ وَقْتٌ وَاحِدٌ مِنْ عِنْدِ الْبَعْثِ إِلَى عِنْدِ مَصِيرِ أَهْلِ الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، وَالْكَلَامُ فِي إِفْرَادِ نَفْسٍ هُنَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ «1» . وَمَعْنَى مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ لِأَنَّ لَهَا أَجْرَ مَا سَنَّتْهُ مِنَ السُّنَنِ الْحَسَنَةِ وَأَجْرَ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَعَلَيْهَا وِزْرُ مَا سَنَّتْهُ مِنَ السُّنَنِ السَّيِّئَةِ وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا قَدَّمَتْ مِنْ مَعْصِيَةٍ وَأَخَّرَتْ مِنْ طَاعَةٍ، وَقِيلَ: مَا قَدَّمَ مِنْ فَرْضٍ وَأَخَّرَ مِنْ فَرْضٍ، وَقِيلَ: أَوَّلُ عَمَلِهِ وَآخِرُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ النَّفْسَ تَعْلَمُ عِنْدَ الْبَعْثِ بِمَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ عِلْمًا إِجْمَالِيًّا لِأَنَّ الْمُطِيعَ يَرَى آثَارَ السَّعَادَةِ، وَالْعَاصِيَ يَرَى آثَارَ الشَّقَاوَةِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ نَشْرِ الصُّحُفِ يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ هَذَا خطاب للكافر، أَيْ: مَا الَّذِي غَرَّكَ وَخَدَعَكَ حَتَّى كَفَرْتَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي تَفَضَّلَ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا بِإِكْمَالِ خَلْقِكَ وَحَوَاسِّكَ، وَجَعْلِكَ عَاقِلًا فَاهِمًا، وَرَزَقَكَ وَأَنْعَمَ عَلَيْكَ بِنِعَمِهِ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى جَحْدِ شَيْءٍ مِنْهَا. قَالَ قَتَادَةُ: غَرَّهُ شَيْطَانُهُ الْمُسَلَّطُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: غَرَّهُ شَيْطَانُهُ الْخَبِيثُ، وَقِيلَ: حُمْقُهُ وَجَهْلُهُ، وَقِيلَ: غَرَّهُ عَفْوُ اللَّهِ إِذْ لَمْ يُعَاجِلْهُ بِالْعُقُوبَةِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. كَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ أَيْ: خَلَقَكَ مِنْ نُطْفَةٍ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا، فَسَوَّاكَ رَجُلًا تَسْمَعُ وَتُبْصِرُ وَتَعْقِلُ، فَعَدْلَكَ: جَعَلَكَ مُعْتَدِلًا. قَالَ عَطَاءٌ: جَعَلَكَ قَائِمًا مُعْتَدِلًا حَسَنَ الصُّورَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَدَّلَ خَلْقَكَ فِي الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْمَعْنَى: عَدَلَ بَيْنَ مَا خَلَقَ لَكَ مِنَ الْأَعْضَاءِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَعَدَلَكَ مُشَدَّدًا، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ، وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: يَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «2» وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ أَعْضَاءَهُ مُتَعَادِلَةً لَا تَفَاوُتَ فِيهَا وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ صَرَفَهُ وَأَمَالَهُ إِلَى أَيْ صُورَةٍ شَاءَ، إِمَّا حَسَنًا وَإِمَّا قَبِيحًا، وَإِمَّا طَوِيلًا وَإِمَّا قَصِيرًا، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ في أيّ صورة متعلق بركبك، وما مزيدة، وشاء صفة لصورة، أَيْ: رَكَّبَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَهَا مِنَ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: فَعَدَلَكَ وَالتَّقْدِيرُ: فَعَدَّلَكَ: رَكَّبَكَ فِي أَيْ صُورَةٍ شَاءَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، أَيْ: رَكَّبَكَ حَاصِلًا فِي أَيْ صُورَةٍ. وَنَقَلَ أَبُو حَيَّانَ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ متعلق بعدّلك. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ أَيِّ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامُ فَلَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: فِي أَيِّ شَبَهٍ مِنْ أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَوْ خَالٍ أَوْ عَمٍّ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: إِنْ شَاءَ ذَكَرًا وَإِنْ شَاءَ أُنْثَى، وَقَوْلُهُ: كَلَّا لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِكَرَمِ اللَّهِ وَجَعْلِهِ ذَرِيعَةً إِلَى الْكُفْرِ بِهِ وَالْمَعَاصِي لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى حَقًّا. وَقَوْلُهُ: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إِضْرَابٌ عَنْ جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ يَنْسَاقُ إِلَيْهَا الْكَلَامُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: بَعْدَ الرَّدْعِ وَأَنْتُمْ لَا تَرْتَدِعُونَ عَنْ ذَلِكَ بَلْ تُجَاوِزُونَهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالدِّينِ وَهُوَ الْجَزَاءُ، أَوْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَقْفُ الْجَيِّدُ عَلَى «الدِّينِ» وَعَلَى

_ (1) . التكوير: 14. (2) . التين: 4.

«رَكَّبَكَ» ، وَعَلَى «كَلَّا» قَبِيحٌ، وَالْمَعْنَى: بَلْ تُكَذِّبُونَ يا أهل مكة بالدين، أي: بالحساب، وبل لِنَفْيِ شَيْءٍ تَقَدَّمَ وَتَحْقِيقِ غَيْرِهِ، وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ قَدْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا غُرِرْتَ بِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تُكَذِّبُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَجُمْلَةُ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تُكَذِّبُونَ، أَيْ: تُكَذِّبُونَ، وَالْحَالُ أَنَّ عَلَيْكُمْ مَنْ يَدْفَعُ تَكْذِيبَكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً مَسُوقَةً لِبَيَانِ مَا يُبْطِلُ تَكْذِيبَهُمْ، وَالْحَافِظِينَ الرُّقَبَاءَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ عَلَى الْعِبَادِ أَعْمَالَهُمْ وَيَكْتُبُونَهَا فِي الصُّحُفِ. وَوَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ كِرَامٌ لَدَيْهِ يَكْتُبُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَجُمْلَةُ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ كَاتِبِينَ، أَوْ عَلَى النَّعْتِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ. قَالَ الرَّازِّيُّ: وَالْمَعْنَى التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَمَلَائِكَةُ اللَّهِ مُوَكَّلُونَ بِكُمْ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَكُمْ حَتَّى تُحَاسَبُوا بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ- مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «1» . ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ- وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَتْ لَهُ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ «2» وَقَوْلُهُ: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ صِفَةٌ لِجَحِيمٍ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُتَعَلِّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا حَالُهُمْ؟ فَقِيلَ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ أَيْ يَوْمَ الْجَزَاءِ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ، وَمَعْنَى يَصْلَوْنَهَا: أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَهَا مُقَاسِينَ لِوَهَجِهَا وَحَرِّهَا يَوْمَئِذٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يَصْلَوْنَهَا» مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أَيْ: لَا يُفَارِقُونَهَا أَبَدًا وَلَا يَغِيبُونَ عَنْهَا، بَلْ هُمْ فِيهَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَمَا كَانُوا غَائِبِينَ عَنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ كَانُوا يَجِدُونَ حَرَّهَا فِي قُبُورِهِمْ. ثُمَّ عَظَّمَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقَالَ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ أَيْ: يَوْمُ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ، وَكَرَّرَهُ تَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، وَتَهْوِيلًا لِأَمْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: الْقارِعَةُ- مَا الْقارِعَةُ- وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ «3» والْحَاقَّةُ- مَا الْحَاقَّةُ- وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ «4» وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَكَ دَارِيًا مَا يَوْمُ الدِّينِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْخِطَابُ لِلْإِنْسَانِ الْكَافِرِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْيَوْمِ فَقَالَ: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِرَفْعِ «يَوْمُ» عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ يَوْمُ الدِّينِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: «يَوْمٌ» بِالتَّنْوِينِ، وَالْقَطْعِ عَنِ الْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهِ عَلَى أَنَّهَا فَتْحَةُ إِعْرَابٍ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي أَوْ أَذْكُرُ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبْرٌ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ يَوْمِ الدِّينِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ إِلَّا أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى قَوْلِهِ: لَا تَمْلِكُ وَمَا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ الْمُتَمَكِّنِ فَقَدْ يُبْنَى عَلَى الْفَتْحِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إِنَّمَا تجوز عند الخليل وسيبويه إذا

_ (1) . ق: 17- 18. (2) . الشورى: 17. (3) . القارعة: 1- 3. [.....] (4) . الحاقة: 1- 3.

كَانَتِ الْإِضَافَةُ إِلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَأَمَّا إِلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا، وَقَدْ وَافَقَ الزَّجَّاجَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ مِنَ النُّفُوسِ لِنَفْسٍ أُخْرَى شَيْئًا مِنَ النَّفْعِ أَوِ الضُّرِّ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ غَيْرَهُ كَائِنًا مَا كَانَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي لِنَفْسٍ كَافِرَةٍ شَيْئًا مِنَ الْمَنْفَعَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَيْسَ ثَمَّ أَحَدٌ يَقْضِي شَيْئًا، أَوْ يَصْنَعُ شَيْئًا إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يُمَلِّكُ أَحَدًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ كَمَا مَلَكَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ «1» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ قَالَ: بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ قَالَ: بُحِثَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ قَالَ: مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ صَالِحَةٍ يَعْمَلُ بها [بعده، فإن له مثل أجر من عمل بِهَا] «2» مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شيئا، أو سنّة سيئة تعمل بعده، فإن عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شَيْئًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَنَّ خَيْرًا فَاسْتَنَّ بِهِ فَلَهُ أَجْرُهُ ومثل أجور من اتبعه من غير منتقص مِنْ أُجُورِهِمْ، وَمَنِ اسْتَنَّ شَرًّا فَاسْتَنَّ بِهِ فَعَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غير منتقص مِنْ أَوْزَارِهِمْ، وَتَلَا حُذَيْفَةُ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ قَالَ: غَرَّهُ وَاللَّهِ جَهْلُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَافِظِينَ فِي اللَّيْلِ وَحَافِظِينَ فِي النَّهَارِ يَحْفَظَانِ عَمَلَهُ وَيَكْتُبَانِ أَثَرَهُ.

_ (1) . غافر: 16. (2) . ما بين حاصرتين سقط من الأصل واستدركناه من الدر المنثور (8/ 438) .

سورة المطففين

سورة المطفّفين قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ، وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ أَيْضًا: هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هِيَ مدنية إلا ثمان آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إِلَى آخِرِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ: قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) قَوْلُهُ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «وَيْلٌ» مُبْتَدَأٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ كَوْنُهُ دُعَاءً، وَلَوْ نُصِبَ لِجَازَ. قَالَ مَكِّيٌّ وَالْمُخْتَارُ فِي وَيْلٍ وَشِبْهِهِ: إِذَا كَانَ غَيْرَ مُضَافٍ الرَّفْعُ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ، فَإِنْ كَانَ مُضَافًا أَوْ مُعَرَّفًا كَانَ الِاخْتِيَارُ فِيهِ النصب نحو قوله: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا «1» وللمطففين خَبَرُهُ، وَالْمُطَفِّفُ: الْمُنْقِصُ، وَحَقِيقَتُهُ: الْأَخْذُ فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ شَيْئًا طَفِيفًا، أَيْ: نَزْرًا حَقِيرًا. قال أهل اللغة: المطفّف مأخوذ من الطّفيف، وَهُوَ الْقَلِيلُ، فَالْمُطَفِّفُ هُوَ الْمُقَلِّلُ حَقَّ صَاحِبِهِ بِنُقْصَانِهِ عَنِ الْحَقِّ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا قِيلَ لِلَّذِي يُنْقِصُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ مُطَفِّفٌ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْرِقُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ الطَّفِيفَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ: الْمُطَفِّفُ الَّذِي يَبْخَسُ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَيْلِ هُنَا شِدَّةُ الْعَذَابِ، أَوْ نَفْسُ الْعَذَابِ، أَوِ الشَّرُّ الشَّدِيدُ، أَوْ هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسِيئُونَ كَيْلَهُمْ وَوَزْنَهُمْ لِغَيْرِهِمْ، وَيَسْتَوْفُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ بها رجل يقال له أبو جهينة،

_ (1) . طه: 61.

وَمَعَهُ صَاعَانِ يَكِيلُ بِأَحَدِهِمَا وَيَكْتَالُ بِالْآخَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمْ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحْسَنُ النَّاسِ كَيْلًا إِلَى يَوْمِهِمْ هَذَا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانِهِ الْمُطَفِّفِينَ مَنْ هُمْ، فَقَالَ: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ أَيْ: يَسْتَوْفُونَ الِاكْتِيَالَ وَالْأَخْذَ بِالْكَيْلِ. قَالَ الفراء: يريد اكتالوا من الناس، و «على» و «من» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَعْتَقِبَانِ، يُقَالُ: اكْتَلْتُ مِنْكَ، أَيِ: اسْتَوْفَيْتُ مِنْكَ، وَتَقُولُ: اكْتَلْتُ عَلَيْكَ، أَيْ: أَخَذْتُ مَا عَلَيْكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ اسْتَوْفَوْا عَلَيْهِمُ الْكَيْلَ، وَلَمْ يَذْكُرْ اتَّزَنُوا لِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ بِهِمَا الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ، فَأَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي الَّذِينَ إِذَا اشْتَرَوْا لِأَنْفُسِهِمُ اسْتَوْفَوْا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَإِذَا بَاعُوا وَوَزَنُوا لِغَيْرِهِمْ نَقَصُوا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَيْ: كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ، فَحُذِفَتِ اللَّامُ فَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَمِثْلُهُ: نَصَحْتُكَ وَنَصَحْتُ لَكَ، كَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَسَمِعْتُ أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ: إِذَا صَدَرَ النَّاسُ أَتَيْنَا التَّاجِرَ فَيَكِيلُنَا الْمُدَّ وَالْمُدَّيْنِ إِلَى الْمَوْسِمِ الْمُقْبِلِ. قَالَ: وَهُوَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ مِنْ قَيْسٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى «كَالُوا» حَتَّى يُوصَلَ بِالضَّمِيرِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ تَوْكِيدًا، أَيْ تَوْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي الْفِعْلِ، فَيُجِيزُ الْوَقْفَ على كالوا أو وزنوا. قال أبو عبيدة: وكان عيسى بن عمر يجعلها حَرْفَيْنِ، وَيَقِفُ عَلَى كَالُوا أَوْ وَزَنُوا، ثُمَّ يَقُولُ: هُمْ يُخْسِرُونَ. قَالَ: وَأَحْسَبُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ كَذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَكُونَا كَلِمَةً وَاحِدَةً مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا الْخَطُّ، وَلِذَلِكَ كَتَبُوهُمَا بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَلَوْ كَانَتَا مَقْطُوعَتَيْنِ لَكَانَتَا كَالُوا أَوْ وَزَنُوا بِالْأَلِفِ. وَالْأُخْرَى أَنَّهُ يُقَالُ: كِلْتُكَ وَوَزَنْتُكَ بِمَعْنَى: كِلْتُ لَكَ وَوَزَنْتُ لَكَ، وهو كلام عربيّ كما يقال: صدتك وصدت لَكَ، وَكَسَبْتُكَ وَكَسَبْتُ لَكَ، وَشَكَرْتُكَ وَشَكَرْتُ لَكَ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَالْمُضَافُ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ، أَيْ: وَإِذَا كَالُوا مَكِيلَهُمْ، أَوْ وَزَنُوا مَوْزُونَهُمْ، وَمَعْنَى يُخْسِرُونَ: يُنْقِصُونَ، كَقَوْلِهِ: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ «1» وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَسَرْتُ الْمِيزَانَ وَأَخْسَرْتُهُ. ثُمَّ خَوَّفَهُمْ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَهْوِيلِ مَا فَعَلُوهُ مِنَ التَّطْفِيفِ وَتَفْظِيعِهِ وَلِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَيْهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمُطَفِّفِينَ، وَالْمَعْنَى: أنهم لا يخطرون ببالهم أنهم مبعوثون فمسؤولون عَمَّا يَفْعَلُونَ. قِيلَ: وَالظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، أَيْ: لَا يُوقِنُ أُولَئِكَ، وَلَوْ أَيْقَنُوا مَا نَقَصُوا الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ، وَقِيلَ: الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ كَانُوا لَا يَسْتَيْقِنُونَ الْبَعْثَ، فَهَلَّا ظَنُّوهُ حَتَّى يَتَدَبَّرُوا فِيهِ وَيَبْحَثُوا عَنْهُ وَيَتْرُكُوا مَا يَخْشَوْنَ مِنْ عَاقِبَتِهِ. وَالْيَوْمُ الْعَظِيمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَوَصَفَهُ بِالْعِظَمِ لِكَوْنِهِ زَمَانًا لِتِلْكَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، وَدُخُولِ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ انتصاب الظرف بمبعوثون الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، أَوْ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مبعوثون، أَيْ: يُبْعَثُونَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ، أَوْ عَلَى البدل من محل ليوم، أو بإضمار

_ (1) . الرّحمن: 9.

أَعْنِي، أَوْ هُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبْرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ لَفْظِ لِيَوْمٍ، وَإِنَّمَا بُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْفِعْلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «يَوْمَ» مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ «مَبْعُوثُونَ» ، الْمَعْنَى: أَلَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَعْنَى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ: يَوْمَ يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ لِأَمْرِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ لِجَزَائِهِ، أَوْ لِحِسَابِهِ، أَوْ لِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ. وَفِي وَصْفِ الْيَوْمِ بِالْعِظَمِ مَعَ قِيَامِ النَّاسِ لِلَّهِ خَاضِعِينَ فِيهِ وَوَصَفِهِ سُبْحَانَهُ بِكَوْنِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ ذَنَبِ التَّطْفِيفِ، وَمَزِيدِ إِثْمِهِ وَفَظَاعَةِ عِقَابِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ قِيَامَهُمْ فِي رَشْحِهِمْ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ قِيَامُهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ قِيَامُ الرُّسُلِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ للقضاء، والأوّل أولى. قوله: كَلَّا هِيَ لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ لِلْمُطَفِّفِينَ الْغَافِلِينَ عَنِ الْبَعْثِ وَمَا بَعْدَهُ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ أَنَّ كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا مُتَّصِلَةٌ بِمَا بَعْدَهَا عَلَى مَعْنَى: حَقًّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَسِجِّينٌ هُوَ مَا فَسَّرَهُ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ- كِتابٌ مَرْقُومٌ فَأَخْبَرَ بِهَذَا أَنَّهُ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، أَيْ: مَسْطُورٌ، قِيلَ: هُوَ كِتَابٌ جَامِعٌ لِأَعْمَالِ الشَّرِّ الصَّادِرِ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ، وَلَفْظُ سِجِّينٍ عَلَمٌ لَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٌ وَكَعْبٌ: إِنَّهُ صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ تُقْلَبُ فَيُجْعَلُ كِتَابُ الْفُجَّارِ تَحْتَهَا، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَحَلُّ كِتَابٍ مَرْقُومٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ لَفِي سِجِّينٍ لَفِي حَبْسٍ وَضِيقٍ شَدِيدٍ، وَالْمَعْنَى: كَأَنَّهُمْ فِي حَبْسٍ، جَعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى خَسَاسَةِ مَنْزِلَتِهِمْ وَهَوَانِهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: ذَكَرَ قَوْمٌ أَنَّ قَوْلَهُ: كِتابٌ مَرْقُومٌ تفسير لسجين، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ السِّجِّينُ مِنَ الْكِتَابِ فِي شَيْءٍ عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ بَيَانًا لِكِتَابٍ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، أَيْ: مَكْتُوبٌ قَدْ بُيِّنَتْ حُرُوفُهُ. انْتَهَى. وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ الَّذِينَ مِنْ جُمْلَتِهِمُ الْمُطَفِّفُونَ، أَيْ: مَا يُكْتَبَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ كِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ لَفِي ذَلِكَ الْكِتَابِ الْمُدَوِّنِ لِلْقَبَائِحِ الْمُخْتَصِّ بِالشَّرِّ، وَهُوَ سِجِّينٌ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَهْوِيلِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَقَالَ: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: كِتابٌ مَرْقُومٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَمَعْنَى مَرْقُومٌ: رُقِمَ لَهُمْ بِشَرٍّ، كَأَنَّهُ أُعْلِمَ بِعَلَامَةٍ يُعْرَفُ بِهَا أَنَّهُ كَافِرٌ. وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي نُونِ سِجِّينٍ، فَقِيلَ: هِيَ أَصْلِيَّةٌ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السِّجْنِ، وَهُوَ الْحَبْسُ، وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالِغَةٍ كَخِمِّيرٍ وَسِكِّيرٍ وَفِسِّيقٍ، مِنَ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ وَالْفِسْقِ. وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ مَا كَانَتْ تَعْرِفُ سِجِّينًا. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ رِوَايَةَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنُ مُقْبِلٍ: وَرُفْقَةٌ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ... ضَرْبًا تَوَاصَتْ بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينَا وَقِيلَ: النُّونُ بَدَلٌ مِنَ اللَّامِ، وَالْأَصْلُ: سِجِّيلٌ مُشْتَقًّا مِنَ السِّجِلِّ، وَهُوَ الْكِتَابُ. قَالَ ابْنَ عَطِيَّةَ: مَنْ قَالَ إِنَّ سِجِّينًا مَوْضِعٌ فَكِتَابٌ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ، وَالظَّرْفُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَفِي سِجِّينٍ مُلْغًى، وَمَنْ جَعَلَهُ عِبَارَةً عن الكتاب، فكتاب خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: هُوَ كِتَابٌ، وَيَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ مُفَسِّرًا

لِسَجِينٍ مَا هُوَ؟ كَذَا قَالَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: مَرْقُومٌ: مَخْتُومٌ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَأَصْلُ الرَّقْمِ الْكِتَابَةُ. قَالَ الشَّاعِرُ: سَأَرْقُمُ بِالْمَاءِ الْقُرَاحِ «1» إِلَيْكُمُ ... عَلَى بعد كم إِنْ كَانَ لِلْمَاءِ رَاقِمُ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَالْمَعْنَى: وَيْلٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ التَّكْذِيبُ بِالْبَعْثِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ فَقَالَ: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالْمَوْصُولُ صِفَةٌ لِلْمُكَذِّبِينَ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أَيْ: فَاجِرٍ جَائِرٍ، مُتَجَاوِزٍ فِي الْإِثْمِ، مُنْهَمِكٍ فِي أَسْبَابِهِ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا الْمُنَزَّلَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: أَحَادِيثُهُمْ وَأَبَاطِيلُهُمُ الَّتِي زَخْرَفُوهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِذَا «تُتْلَى» بِفَوْقِيَّتَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو السّمّال وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَالسُّلَمِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: كَلَّا لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ لِلْمُعْتَدِي الْأَثِيمِ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْبَاطِلِ وَتَكْذِيبٌ لَهُ، وَقَوْلُهُ: بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ بَيَانٌ لِلسَّبَبِ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ: غَلَبَ عَلَيْهَا رَيْنًا وَرُيُونًا، وَكُلُّ مَا غَلَبَكَ وَعَلَاكَ فَقَدْ ران بك عَلَيْكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ أَنَّهَا كَثُرَتْ مِنْهُمُ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبُ فَأَحَاطَتْ بِقُلُوبِهِمْ، فَذَلِكَ الرَّيْنُ عَلَيْهَا. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَعْمَى الْقَلْبُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْقَلْبُ مِثْلُ الْكَفِّ، وَرَفَعَ كَفَّهُ، فَإِذَا أَذْنَبَ انْقَبَضَ، وَضَمَّ أُصْبُعَهُ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ انْقَبَضَ، وَضَمَّ أُخْرَى حَتَّى ضَمَّ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، حَتَّى يُطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ. قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الرَّيْنُ. ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ: قَدْ رِينَ بِالرَّجُلِ رَيْنًا إِذَا وَقَعَ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ وَلَا قِبَلَ لَهُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ: الرين: أن يسودّ القلب من الذنوب، والطّيع: أَنْ يُطْبَعَ عَلَى الْقَلْبِ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الرَّيْنِ، وَالْإِقْفَالُ: أَشَدُّ مِنَ الطَّبْعِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّيْنُ هُوَ كَالصَّدَأِ يَغْشَى الْقَلْبَ كَالْغَيْمِ الرَّقِيقِ، وَمِثْلُهُ الْغَيْنُ. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ الرَّدْعَ وَالزَّجْرَ فَقَالَ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وَقِيلَ: كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا، أَيْ: حَقًّا إِنَّهُمْ، يَعْنِي الْكُفَّارَ، عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَرَوْنَهُ أَبَدًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَنَّهُمْ بَعْدَ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ لَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ نَظَرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى رَبِّهِمْ. قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: كَمَا حَجَبَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنْ تَوْحِيدِهِ حَجَبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَنْ رُؤْيَتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُرَى فِي الْقِيَامَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ. وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ- إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «2» فَأَعْلَمَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ، وَأَعْلَمَ أَنَّ الْكُفَّارَ مَحْجُوبُونَ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ تَمْثِيلٌ لِإِهَانَتِهِمْ بِإِهَانَةِ مَنْ يُحْجَبُ عَنِ الدُّخُولِ عَلَى الْمُلُوكِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: هُوَ أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَلَا يُزَكِّيَهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَحْجُوبُونَ عَنْ كَرَامَتِهِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ كيسان ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أَيْ: دَاخِلُو النَّارِ وَمُلَازِمُوهَا غَيْرُ خَارِجِينَ منها، و «ثم» لِتَرَاخِي الرَّتَبَةِ لِأَنَّ صَلْيَ الْجَحِيمِ أَشَدُّ مِنَ الإهانة وحرمان الكرامة

_ (1) . «القراح» : الماء الّذي لا ثقل فيه. (2) . القيامة: 22- 23.

ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أَيْ: تَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ تَبْكِيتًا وَتَوْبِيخًا: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوهُ وَذُوقُوهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَلَا طَفَّفُوا الْكَيْلَ إِلَّا مُنِعُوا النَّبَاتَ وَأُخِذُوا بِالسِّنِينَ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في هَذِهِ الْآيَةِ: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعَكُمُ اللَّهُ كَمَا يُجْمَعُ النَّبْلُ فِي الْكِنَانَةِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ لَا يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بِمِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَيُهَوَّنُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَتَدَلِّي الشَّمْسِ إِلَى الْغُرُوبِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا حُشِرَ النَّاسُ قَامُوا أَرْبَعِينَ عَامًا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ مَقَامُ النَّاسِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «أَلْفُ سَنَةٍ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ عَنْ قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ قَالَ: إِنَّ رُوحَ الْفَاجِرِ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَتَأْبَى السَّمَاءُ أَنْ تَقْبَلَهَا، فَيُهْبَطُ بِهَا إِلَى الْأَرْضِ فَتَأْبَى أَنْ تَقْبَلَهَا، فَيُدْخَلُ بِهَا تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ حَتَّى يُنْتَهِيَ بِهَا إِلَى سِجِّينٍ، وَهُوَ خَدُّ إِبْلِيسَ، فَيُخْرَجُ لَهَا مِنْ تَحْتِ خَدِّ إِبْلِيسَ كِتَابًا فيختم ويوضع تحت خد إِبْلِيسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سِجِّينٍ أَسْفَلَ الْأَرَضِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْفَلَقُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مُغَطًّى، وَأَمَّا سِجِّينٌ فَمَفْتُوحٌ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ مُنْكَرٌ لَا يَصِحُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سِجِّينٍ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ كَعْبًا الْوَفَاةُ أَتَتْهُ أُمُّ بِشْرٍ بِنْتُ الْبَرَاءِ فَقَالَتْ: إِنْ لَقِيتَ ابْنِي فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكِ يَا أُمَّ براء نَحْنُ أَشْغَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حيث شَاءَتْ، وَإِنَّ نَسَمَةَ الْكَافِرِ فِي سِجِّينٍ» ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: فَهُوَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ نَحْوَهُ عَنْ سَلْمَانَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زَادَتْ حَتَّى تُغَلِّفَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ» .

[سورة المطففين (83) : الآيات 18 إلى 36]

[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 36] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (36) قَوْلُهُ: كَلَّا لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا تَضَمَّنَتْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «كَلَّا» بِمَعْنَى حَقًّا، وَالْأَبْرَارُ: هُمُ الْمُطِيعُونَ، وَكِتَابُهُمْ: صَحَائِفُ حَسَنَاتِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «عِلِّيِّينَ» ارْتِفَاعٌ بَعْدَ ارْتِفَاعٍ لَا غَايَةَ لَهُ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنْ جَمْعِ عَلِّيٍّ من العلوّ. قال الزجاج: هو أعلى الْأَمْكِنَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: فَأُعْرِبَ كَإِعْرَابِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ نَحْوَ ثَلَاثِينَ وَعِشْرِينَ وَقِنَّسْرِينَ، قِيلَ: هُوَ عَلَمٌ لِدِيوَانِ الْخَيْرِ الَّذِي دُوِّنَ فِيهِ مَا عَمِلَهُ الصَّالِحُونَ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ. قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي السَّمَاءَ السَّابِعَةَ فِيهَا أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى يَنْتَهِي إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَا يَعْدُوهَا، وَقِيلَ: هُوَ الْجَنَّةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: هُوَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عِنْدَ قَائِمَةِ الْعَرْشِ الْيُمْنَى، وَقِيلَ: إِنَّ عِلِّيِّينَ صِفَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي بَنِي فُلَانٍ، أَيْ: فِي جُمْلَتِهِمْ وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ- كِتابٌ مَرْقُومٌ أَيْ: وَمَا أَعْلَمَكَ يَا مُحَمَّدُ أَيُّ شَيْءٍ عِلِّيُّونَ؟ عَلَى جِهَةِ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ لِعِلِّيِّينَ، ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: كِتابٌ مَرْقُومٌ أَيْ: مَسْطُورٌ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ- كِتابٌ مَرْقُومٌ وجملة يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ صفة أخرى لكتاب، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَحْضُرُونَ ذَلِكَ الْكِتَابَ الْمَرْقُومَ، وَقِيلَ: يَشْهَدُونَ بِمَا فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ وَهْبٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ: الْمُقَرَّبُونَ هُنَا إِسْرَافِيلُ، فَإِذَا عَمِلَ الْمُؤْمِنُ عَمَلَ الْبِرِّ صَعِدَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالصَّحِيفَةِ وَلَهَا نُورٌ يَتَلَأْلَأُ فِي السَّمَاوَاتِ كَنُورِ الشَّمْسِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى إِسْرَافِيلَ فَيَخْتِمُ عَلَيْهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بَعْدَ ذِكْرِ كِتَابِهِمْ فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ أَيْ: إِنَّ أَهْلَ الطَّاعَةِ لَفِي تَنَعُّمٍ عَظِيمٍ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ الْأَرَائِكُ: الْأَسِرَّةُ الَّتِي فِي الْحِجَالِ «1» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا لَا تُطْلَقُ الْأَرِيكَةُ عَلَى السَّرِيرِ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي حَجَلَةٍ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا كُنَّا نَدْرِي مَا الْأَرَائِكُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ، فَزَعَمَ أَنَّ الْأَرِيكَةَ عِنْدَهُمُ الْحَجَلَةُ إِذَا كَانَ فِيهَا سَرِيرٌ. وَمَعْنَى يَنْظُرُونَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ، كَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْلِ النَّارِ، وَقِيلَ: يَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِهِ وَجَلَالِهِ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي: إذا

_ (1) . الحجال: جمع الحجلة، وهي ساتر كالقبّة يتّخذ للعروس، يزيّن بالثياب والسّتور والأسرّة.

رَأَيْتَهُمْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النِّعْمَةِ لِمَا تَرَاهُ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ النُّورِ وَالْحُسْنِ وَالْبَيَاضِ وَالْبَهْجَةِ وَالرَّوْنَقِ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ رَاءٍ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، يُقَالُ: أَنْضَرَ النَّبَاتُ إِذَا أَزْهَرَ وَنَوَّرَ. قَالَ عَطَاءٌ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ زَادَ فِي جَمَالِهِمْ وَفِي أَلْوَانِهِمْ مَا لَا يَصِفُهُ وَاصِفٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تَعْرِفُ» بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَنَصْبِ نَضِرَةَ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَيَعْقُوبُ وَشَيْبَةُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَرَفْعِ «نَضِرَةَ» بِالنِّيَابَةِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: الرَّحِيقُ مِنَ الْخَمْرِ مَا لَا غِشَّ فِيهِ وَلَا شَيْءَ يُفْسِدُهُ، وَالْمَخْتُومُ: الَّذِي لَهُ خِتَامٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الرَّحِيقُ أَجْوَدُ الْخَمْرِ. وَفِي الصِّحَاحِ: الرَّحِيقُ: صُفْرَةُ الْخَمْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْخَمْرُ الْعَتِيقَةُ الْبَيْضَاءُ الصَّافِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ: يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ الْبَرِيصَ عَلَيْهِمُ ... بَرَدَى يُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ قَالَ مُجَاهِدٌ مَخْتُومٍ مُطَيَّنٌ كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى مَعْنَى الْخَتْمِ بِالطِّينِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَنْ تَمَسَّهُ يَدٌ إِلَى أَنْ يُفَكَّ خَتْمُهُ لِلْأَبْرَارِ. قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيِّ: خِتَامُهُ: آخِرُ طَعْمِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: خِتامُهُ مِسْكٌ أَيْ: آخِرُ طَعْمِهِ رِيحُ الْمِسْكِ إِذَا رَفَعَ الشَّارِبُ فَاهَ مِنْ آخِرِ شَرَابِهِ وَجَدَ رِيحَهُ كَرِيحِ الْمِسْكِ. وَقِيلَ: مَخْتُومٌ أَوَانِيهِ مِنَ الْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ بِمِسْكٍ مَكَانَ الطِّينِ، وَكَأَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِكَمَالِ نَفَاسَتِهِ وَطِيبِ رَائِحَتِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَخْتُومَ وَالْخِتَامَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ خِتَامِ الشَّيْءِ وَهُوَ آخِرُهُ، أَوْ مِنْ خَتْمِ الشَّيْءِ وَهُوَ جَعْلُ الْخَاتَمِ عَلَيْهِ كَمَا تُخْتَمُ الْأَشْيَاءُ بِالطِّينِ وَنَحْوِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «خِتَامُهُ» وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعَلْقَمَةُ وَشَقِيقٌ وَالضَّحَّاكُ وَطَاوُسٌ وَالْكِسَائِيُّ «خَاتَمُهُ» بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالتَّاءِ وَأَلِفٌ بَيْنَهُمَا. قَالَ عَلْقَمَةُ: أَمَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَقُولُ لِلْعَطَّارِ: اجْعَلْ خَاتَمَهُ مِسْكًا، أَيْ: آخِرُهُ، وَالْخَاتَمُ وَالْخِتَامُ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى، إِلَّا أَنَّ الْخَاتَمَ الِاسْمُ وَالْخِتَامُ الْمَصْدَرُ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالْخِتَامُ الطِّينُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَبِتْنَ بِجَانِبَيَّ مُصَرَّعَاتٍ- وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَاقَ الْخِتَامِ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أَيْ: فَلْيَرْغَبِ الرَّاغِبُونَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: «ذَلِكَ» إِلَى الرَّحِيقِ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ «فِي» بِمَعْنَى إِلَى: أَيْ وَإِلَى ذَلِكَ فَلْيَتَبَادَرِ الْمُتَبَادِرُونَ فِي الْعَمَلِ كَمَا فِي قوله: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ «1» وَأَصْلُ التَّنَافُسِ: التَّشَاجُرُ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّنَازُعُ فِيهِ بِأَنْ يُحِبَّ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَتَفَرَّدَ بِهِ دُونَ صَاحِبِهِ، يُقَالُ: نَفَسْتُ الشَّيْءَ عَلَيْهِ أَنْفُسُهُ نفاسة: أي ظننت بِهِ وَلَمْ أُحِبَّ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَصْلُهُ مِنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ الَّذِي تَحْرِصُ عَلَيْهِ نُفُوسُ النَّاسِ فَيُرِيدُهُ كُلُّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ، وَيَنْفُسُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، أَيْ: يَضِنُّ بِهِ. قَالَ عَطَاءٌ: الْمَعْنَى فَلْيَسْتَبِقِ الْمُسْتَبِقُونَ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: فَلْيَتَنَازَعِ الْمُتَنَازِعُونَ، وَقَوْلُهُ: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ مَعْطُوفٌ عَلَى خِتامُهُ مِسْكٌ صِفَةٌ أُخْرَى لِرَحِيقٍ، أَيْ: وَمِزَاجُ ذَلِكَ الرَّحِيقِ مِنْ تَسْنِيمٍ، وَهُوَ شَرَابٌ يَنْصَبُّ عَلَيْهِمْ مِنْ عُلُوٍّ، وَهُوَ أَشْرَفُ شَرَابِ الْجَنَّةِ، وَأَصْلُ التَّسْنِيمِ فِي اللُّغَةِ: الِارْتِفَاعُ، فَهِيَ عَيْنُ مَاءٍ تَجْرِي مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَمِنْهُ سَنَامُ الْبَعِيرِ لِعُلُوِّهِ مِنْ بدنه، ومنه تسنيم

_ (1) . الصافات: 61.

الْقُبُورِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ وَانْتِصَابُ عَيْنًا عَلَى الْمَدْحِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى الْحَالِ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ عَيْنًا حَالًا مَعَ كَوْنِهَا جَامِدَةً غَيْرَ مُشْتَقَّةٍ لِاتِّصَافِهَا بِقَوْلِهِ: يَشْرَبُ بِهَا وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِيُسْقَوْنَ، أَيْ: يُسْقَوْنَ عَيْنًا، أَوْ مِنْ عَيْنٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِتَسْنِيمٍ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّنَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ- يَتِيماً «1» وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْمُبَرِّدُ. قِيلَ وَالْبَاءُ فِي بِهَا زَائِدَةٌ، أَيْ: يَشْرَبُهَا، أَوْ بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ: يَشْرَبُ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَلَغَنَا أَنَّهَا عَيْنٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، قيل: يشرب الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَيُمْزَجُ بِهَا كَأْسُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ قَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أَيْ: كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَسْتَهْزِئُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ، ويسخرون منهم وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ أي: مَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِالْكَفَّارِ وَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ يَتَغامَزُونَ مِنَ الْغَمْزِ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ بِالْجُفُونِ وَالْحَوَاجِبِ، أَيْ: يَغْمِزُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُشِيرُونَ بِأَعْيُنِهِمْ وَحَوَاجِبِهِمْ، وَقِيلَ: يُعَيِّرُونَهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَيَعِيبُونَهُمْ بِهِ وَإِذَا انْقَلَبُوا أَيِ: الْكُفَّارُ إِلى أَهْلِهِمُ مِنْ مَجَالِسِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أَيْ: مُعْجَبِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ مُتَلَذِّذِينَ بِهِ، يَتَفَكَّهُونَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ وَالسُّخْرِيَةِ مِنْهُمْ. وَالِانْقِلَابُ: الِانْصِرَافُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَاكِهِينَ» وَقَرَأَ حَفْصٌ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ وَالْأَعْرَجُ وَالسُّلَمِيُّ «فَكِهِينَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ، مِثْلَ طَمِعٌ وَطَامِعٌ، وَحَذِرٌ وَحَاذِرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ أَنَّ الْفَكِهَ: الْأَشِرُ الْبَطِرُ، وَالْفَاكِهُ: النَّاعِمُ الْمُتَنَعِّمُ وَإِذا رَأَوْهُمْ أَيْ: إِذَا رَأَى الْكُفَّارُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَيِّ مَكَانٍ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ فِي اتِّبَاعِهِمْ مُحَمَّدًا، وَتَمَسُّكِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَتَرْكِهِمُ التَّنَعُّمَ الْحَاضِرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِذَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ الْكَافِرِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَجُمْلَةُ وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ قَالُوا، أَيْ: قَالُوا ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُرْسِلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ مُوَكَّلِينَ بِهِمْ يَحْفَظُونَ عَلَيْهِمْ أَحْوَالَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ: الْيَوْمُ الْآخِرُ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَضْحَكُونَ مِنَ الْكُفَّارِ حِينَ يَرَوْنَهُمْ أَذِلَّاءَ مَغْلُوبِينَ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا ضَحِكَ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَجُمْلَةُ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَضْحَكُونَ، أَيْ: يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ نَاظِرِينَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَالِ الْفَظِيعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَرَائِكِ قَرِيبًا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا أَرَادُوا نَظَرُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ إِلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ، فَضَحِكُوا مِنْهُمْ كَمَا ضَحِكُوا مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ اخْرُجُوا وَيُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، فَإِذَا رَأَوْهَا قَدْ فُتِحَتْ أَقْبَلُوا إِلَيْهَا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ وَالْمُؤْمِنُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ عَلَى الْأَرَائِكِ، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَبْوَابِهَا غُلِّقَتْ دُونَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْجَزَاءُ لِلْكَفَّارِ بِمَا كَانَ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الدنيا من الضحك

_ (1) . البلد: 14- 15.

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَثُوِّبَ بِمَعْنَى أُثِيبَ، وَالْمَعْنَى: هَلْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ؟ وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نصب بينظرون، وَقِيلَ هِيَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: يَقُولُ بعض المؤمنين لبعض هل ثوّبت الْكُفَّارُ، وَالثَّوَابُ مَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ قَالَ: رُوحُ الْمُؤْمِنِ إِذَا قُبِضَتْ عُرِجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَفُتِحَ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتَلَقَّاهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْبُشْرَى حَتَّى تَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى الْعَرْشِ وَتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ، فَيَخْرُجُ لَهَا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ رَقٌّ فَيُرْقَمُ وَيُخْتَمُ وَيُوضَعُ تَحْتَ الْعَرْشِ لِمَعْرِفَةِ النَّجَاةِ لِحِسَابِ يَوْمِ الدِّينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَفِي عِلِّيِّينَ قَالَ: الْجَنَّةُ، وَفِي قَوْلِهِ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ قَالَ: أَهْلُ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةٌ عَلَى أَثَرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنِهِمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: نَضْرَةَ النَّعِيمِ قال: عين في الجنة يتوضّؤون مِنْهَا وَيَغْتَسِلُونَ فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ قَالَ: الرَّحِيقُ: الْخَمْرُ، وَالْمَخْتُومُ: يَجِدُونَ عَاقِبَتَهَا طَعْمَ الْمِسْكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: مَخْتُومٍ قَالَ: مَمْزُوجٌ خِتامُهُ مِسْكٌ قَالَ: طَعْمُهُ وَرِيحُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَحِيقٍ قَالَ: خَمْرٍ، وَقَوْلِهِ: مَخْتُومٍ قَالَ: خُتِمَ بِالْمِسْكِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: خِتامُهُ مِسْكٌ قَالَ: لَيْسَ بِخَاتَمٍ يُخْتَمُ بِهِ، وَلَكِنْ خِلْطُهُ مِسْكٌ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِكُمْ تَقُولُ: خِلْطُهُ مِنَ الطِّيبِ كَذَا وَكَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ خِتامُهُ مِسْكٌ قَالَ: هُوَ شَرَابٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الْفِضَّةِ يَخْتِمُونَ بِهِ آخِرَ شَرَابِهِمْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أهل الدنيا أدخل إصبعه فِيهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا لَمْ يَبْقَ ذُو رُوحٍ إِلَّا وَجَدَ رِيحَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَسْنِيمٍ أَشْرَفُ شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ صَرْفٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَيُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مسعود مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قَالَ: عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ تُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَيَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قَالَ: هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» .

_ (1) . السجدة: 17.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق وهي ثلاث وعشرون آية، وقيل خمس وعشرون آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الِانْشِقَاقِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ، فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالرُّويَانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ بُرَيْدَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَنَحْوَهَا» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) قَوْلُهُ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ هُوَ كَقَوْلِهِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ «1» فِي إِضْمَارِ الْفِعْلِ وَعَدَمِهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: انْشِقَاقُهَا مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ، وَمَعْنَى انْشِقَاقُهَا: انْفِطَارُهَا بِالْغَمَامِ الْأَبْيَضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ «2» وَقِيلَ: تَنْشَقُّ مِنَ الْمَجَرَّةِ، وَالْمَجَرَّةُ بَابُ السَّمَاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَابِ إِذَا، فَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ أَذِنَتْ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَكَذَلِكَ أَلْقَتْ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُقْحِمُ الْوَاوَ إِلَّا مَعَ حَتَّى إِذَا كَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «3» وَمَعَ لَمَّا كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ- وَنادَيْناهُ «4» وَلَا تُقْحَمُ مَعَ غَيْرِ هَذَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّ الجواب

_ (1) . التكوير: 1. (2) . الفرقان: 25. (3) . الزمر: 73. [.....] (4) . الصافات: 103- 104.

قَوْلُهُ: فَمُلاقِيهِ أَيْ: فَأَنْتَ مُلَاقِيهِ، وَبِهِ قَالَ الْأَخْفَشُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، أَيْ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ. وَقَالَ الْمُبَرِّدَ أَيْضًا: إِنَّ الْجَوَابَ قَوْلُهُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَبِهِ قَالَ الْكِسَائِيُّ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَحُكْمُهُ كَذَا، وَقِيلَ: هُوَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: يُقَالُ لَهُ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بُعِثْتُمْ، أَوْ لَاقَى كُلُّ إِنْسَانٍ عَمَلَهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ، أَيْ: عَلِمَتْ نَفْسٌ هَذَا، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ إِذَا شَرْطِيَّةٌ، وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِشَرْطِيَّةٍ وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْكُرْ، أَوْ هِيَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهَا إِذَا الثَّانِيَةُ وَالْوَاوُ مَزِيدَةٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَقْتُ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ وَقْتُ مَدِّ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أَنَّهَا أَطَاعَتْهُ فِي الِانْشِقَاقِ، مِنَ الْإِذْنِ، وَهُوَ: الِاسْتِمَاعُ لِلشَّيْءِ وَالْإِصْغَاءُ إِلَيْهِ وَحُقَّتْ أَيْ: وَحَقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ وَتَنْقَادَ وَتَسْمَعَ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الْإِذْنِ فِي الِاسْتِمَاعِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا وَقَوْلُ الْآخَرِ: إِنْ يَأْذَنُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا ... مِنِّي وَمَا أَذِنُوا مِنْ صَالِحٍ دُفِنُوا وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَحَقَّقَ اللَّهُ عَلَيْهَا الِاسْتِمَاعَ لِأَمْرِهِ بِالِانْشِقَاقِ، أَيْ: جَعَلَهَا حَقِيقَةً بِذَلِكَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: حَقَّتْ: أَطَاعَتْ، وَحَقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ رَبَّهَا لِأَنَّهُ خَلَقَهَا، يُقَالُ: فُلَانٌ مَحْقُوقٌ بِكَذَا، وَمَعْنَى طَاعَتُهَا: أَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ بِهَا. قَالَ قَتَادَةُ: حَقَّ لَهَا أَنَّ تَفْعَلَ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلٌ كُثَيِّرٌ: فَإِنْ تَكُنِ الْعُتْبَى فَأَهْلًا وَمَرْحَبًا ... وَحُقَّتْ لَهَا الْعُتْبَى لَدَيْنَا وَقَلَّتِ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أَيْ: بُسِطَتْ كَمَا تُبْسَطُ الْأُدْمُ وَدُكَّتْ جِبَالُهَا حَتَّى صَارَتْ قَاعًا صَفْصَفًا، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: سُوِّيَتْ كَمَدِّ الْأَدِيمِ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهَا بِنَاءٌ وَلَا جَبَلٌ إِلَّا دَخَلَ فِيهَا، وَقِيلَ: مُدَّتْ: زِيدَ فِي سِعَتِهَا، مِنَ الْمَدَدِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَأَلْقَتْ مَا فِيها أَيْ: أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْكُنُوزِ وَطَرَحَتْهُمْ إِلَى ظَهْرِهَا وَتَخَلَّتْ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْمَوْتَى وَتَخَلَّتْ مِمَّنْ عَلَى ظَهْرِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «1» وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أَيْ: سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ لِمَا أَمَرَهَا بِهِ مِنَ الْإِلْقَاءِ وَالتَّخَلِّي وَحُقَّتْ أَيْ: وَجُعِلَتْ حَقِيقَةً بِالِاسْتِمَاعِ لِذَلِكَ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ قَبْلَ هَذَا يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ الْمُرَادُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ فَيَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَقِيلَ: هُوَ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا سَيَأْتِي مِنَ التَّفْصِيلِ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً الْكَدْحُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: السَّعْيُ فِي الشَّيْءِ بِجُهْدٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَالْمَعْنَى:

_ (1) . الزلزلة: 2.

أَنَّكَ سَاعٍ إِلَى رَبِّكَ فِي عَمَلِكَ، أَوْ إِلَى لِقَاءِ رَبِّكَ، مَأْخُوذٌ مِنْ كَدَحَ جِلْدَهُ إِذَا خَدَشَهُ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ: وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: عَامِلٌ لِرَبِّكَ عَمَلًا فَمُلاقِيهِ أَيْ: فَمُلَاقٍ عَمَلَكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ مُلَاقٍ لِجَزَاءِ عَمَلِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عليه من الثواب والعقاب. قال القتبي: مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّكَ كَادِحٌ، أَيْ: عَامِلٌ نَاصِبٌ فِي مَعِيشَتِكَ إِلَى لِقَاءِ رَبِّكَ، وَالْمُلَاقَاةُ بِمَعْنَى اللِّقَاءِ، أَيْ: تَلْقَى رَبَّكَ بِعَمَلِكَ، وَقِيلَ: فَمُلَاقٍ كِتَابَ عَمَلِكَ، لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدِ انْقَضَى فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً لَا مُنَاقَشَةَ فِيهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لِأَنَّهَا تُغْفَرُ ذُنُوبُهُ وَلَا يُحَاسَبُ بِهَا. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُهُ ثُمَّ يَغْفِرُهَا اللَّهُ، فَهُوَ الْحِسَابُ الْيَسِيرُ وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أَيْ: وَيَنْصَرِفُ بَعْدَ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ إِلَى أَهْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ عَشِيرَتِهِ، أَوْ إِلَى أَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ وَقَدْ سَبَقُوهُ إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَى مَنْ أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالْوِلْدَانِ الْمُخَلَّدِينَ، أَوْ إِلَى جَمِيعِ هَؤُلَاءِ مَسْرُورًا مُبْتَهِجًا بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ: لِأَنَّ يَمِينَهُ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِهِ، وَتَكُونُ يَدُهُ الْيُسْرَى خَلْفَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: تُفَكُّ أَلْوَاحُ صَدْرِهِ وَعِظَامُهُ، ثُمَّ تَدْخُلُ يَدُهُ وَتَخْرُجُ مِنْ ظهره فيأخذ كتابه كذلك فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً أَيْ: إِذَا قَرَأَ كِتَابَهُ قَالَ: يَا وَيْلَاهُ! يَا ثُبُورَاهُ! وَالثُّبُورُ: الْهَلَاكُ وَيَصْلى سَعِيراً أَيْ: يَدْخُلُهَا وَيُقَاسِي حَرَّ نَارِهَا وَشِدَّتَهَا. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِهَا، وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ الْمَكِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَكَذَلِكَ خَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَكَذَلِكَ رَوَى إِسْمَاعِيلُ الْمَكِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُمْ قرءوا بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ مِنْ أَصْلَى يُصْلِي إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً أَيْ كَانَ بَيْنَ أَهْلِهِ فِي الدُّنْيَا مَسْرُورًا بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ وركوب شهوته بطرا أشرا لعدم حضور الْآخِرَةِ بِبَالِهِ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ السُّرُورِ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَلَا يُبْعَثُ لِلْحِسَابِ وَالْعِقَابِ لِتَكْذِيبِهِ بِالْبَعْثِ وَجَحْدِهِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَنْ يَحُورَ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ سَادَّةٌ مَعَ مَا فِي حَيِّزِهَا مَسَدَّ مَفْعُولَيْ ظَنَّ، وَالْحَوْرُ فِي اللُّغَةِ: الرُّجُوعُ، يُقَالُ: حَارَ يَحُورُ إِذَا رَجَعَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْحَوْرُ: التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ، وَمِنْهُ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، أَيْ: مِنَ التَّرَدُّدِ فِي الْأَمْرِ بَعْدَ الْمُضِيِّ فِيهِ، وَمُحَاوَرَةُ الْكَلَامِ مُرَاجَعَتُهُ، وَالْمَحَارُ: الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ: يَحُورُ كَلِمَةٌ بِالْحَبَشِيَّةِ وَمَعْنَاهَا يَرْجِعُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحَوْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الرُّجُوعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ» يَعْنِي مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى النُّقْصَانِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ الْحُورُ بِالضَّمِّ، وَفِي الْمَثَلِ: «حُورٌ فِي محارة» أَيُّ: نُقْصَانٌ فِي نُقْصَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : والذّمّ يبقى وزاد القوم في حور «2»

_ (1) . هو سبيع بن الخطيم. (2) . وصدر البيت: واستعجلوا عن خفيف المضغ فازدردوا.

وَالْحُورُ أَيْضًا الْهَلَكَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ «1» : فِي بئر لا حور سرى وَمَا شَعَرَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ فِي بِئْرِ حُورٍ، وَلَا زَائِدَةٌ بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً «بَلَى» إِيجَابٌ لِلْمَنْفِيِّ بِلَنْ، أَيْ: بَلَى لَيَحُورَنَّ وَلَيُبْعَثَنَّ. ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً أَيْ: كَانَ بِهِ وَبِأَعْمَالِهِ عَالِمًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ بِهِ بَصِيرًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ عَالِمًا بِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَيْهِ فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ «لَا» زَائِدَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهَا فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَالشَّفَقُ: الْحُمْرَةُ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ اللُّغَةِ جَمِيعًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: عَلَيْهِ ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ كَأَنَّهُ الشَّفَقُ وَكَانَ أَحْمَرَ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَسَدُ بْنُ عمرو وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِنَّهُ الْبَيَاضُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَلَا مُتَمَسَّكَ لَهُ لَا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا مِنَ الشَّرْعِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الشَّفَقُ: الْحُمْرَةُ مِنْ غُرُوبِ الشمس إلى وقت العشاء الآخرة. قال في الصحاح: الشفق: بقية ضوء الشَّمْسِ وَحُمْرَتُهَا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى قَرِيبِ الْعَتَمَةِ، وَكُتُبُ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ مُطْبِقَةٌ عَلَى هَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قُمْ يَا غُلَامُ أَعِنِّي غَيْرَ مُرْتَبِكٍ ... عَلَى الزَّمَانِ بِكَأْسٍ حَشْوُهَا شَفَقُ وقال آخر: وأحمر اللّون كمحمرّ الشَّفَقِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشَّفَقُ: النَّهَارُ كُلُّهُ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ، وَإِنَّمَا قَالَا هَذَا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِالضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الشَّفَقُ: الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وروي عن أسد بن عمرو الرُّجُوعُ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ الْوَسَقُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: ضَمُّ الشَّيْءِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ، يُقَالُ: اسْتَوْسَقَتِ الْإِبِلُ إِذَا اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ، وَالرَّاعِي يَسِقُهَا، أَيْ: يَجْمَعُهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: وَمَا جَمَعَ وَضَمَّ وَحَوَى وَلَفَّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَمَعَ وَضَمَّ مَا كَانَ مُنْتَشِرًا بِالنَّهَارِ فِي تَصَرُّفِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ إِذَا أَقْبَلَ آوَى كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَأْوَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ضَابِئِ بْنِ الحارث البرجميّ: فإنّي وإيّاكم وشوقا إِلَيْكُمْ ... كَقَابِضٍ شَيْئًا لَمْ تَنَلْهُ أَنَامِلُهُ «2» وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَما وَسَقَ أَيْ: وَمَا سَاقَ مِنْ شَيْءٍ إِلَى حَيْثُ يَأْوِي، فَجَعَلَهُ مِنَ السَّوْقِ لَا مِنَ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: وَما وَسَقَ أَيْ: وَمَا جَنَّ وَسَتَرَ، وَقِيلَ: «وَمَا وَسَقَ» أَيْ: وما حمل، وكل شيء حملته فقد

_ (1) . هو العجاج. (2) . في تفسير القرطبي: كقابض ماء لم تسقه أنامله.

وَسَقْتَهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَا أَحْمِلُهُ مَا وَسَقَتْ عَيْنِي الْمَاءَ، أَيْ: حَمَلَتْهُ، وَوَسَقَتِ النَّاقَةُ تَسِقُ وَسْقًا، أَيْ: حَمَلَتْ. قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: وَما وَسَقَ: وَمَا حَمَلَ مِنَ الظُّلْمَةِ، أَوْ حَمَلَ مِنَ الْكَوَاكِبِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمَعْنَى حَمَلَ: ضَمَّ وَجَمَعَ، وَاللَّيْلُ يَحْمِلُ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَما وَسَقَ أَيْ: وَمَا عُمِلَ فِيهِ مِنَ التَّهَجُّدِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِالْأَسْحَارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي: اجتمع وتكامل. وقال الْفَرَّاءُ: اتِّسَاقُهُ امْتِلَاؤُهُ وَاجْتِمَاعُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ لَيْلَةَ ثَالِثَ عَشَرَ وَرَابِعَ عَشَرَ إِلَى سِتَّ عَشْرَةَ، وَقَدِ افْتَعَلَ مِنَ الْوَسْقِ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ. قَالَ الْحَسَنُ: اتَّسَقَ: امْتَلَأَ وَاجْتَمَعَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَدَارَ، يُقَالُ: وَسَقْتُهُ فَاتَّسَقَ، كَمَا يُقَالُ: وَصَلْتُهُ فَاتَّصَلَ، وَيُقَالُ: أَمْرُ فُلَانٍ مُتَّسِقٌ، أَيُّ: مُجْتَمِعٌ مُنْتَظِمٌ، وَيُقَالُ: اتَّسَقَ الشَّيْءُ إِذَا تَتَابَعَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لَتَرْكَبُنَّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمَسْرُوقٍ وَأَبِي وَائِلٍ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ خِطَابًا لِلْجَمْعِ وَهُمُ النَّاسُ. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: لَتَرْكَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي تَصْعَدُ فِيهَا، وَهَذَا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَقِيلَ: دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَرُتْبَةً بَعْدَ رُتْبَةٍ، فِي الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَتَرْكَبَنَّ حَالًا بَعْدَ حَالٍ كُلُّ حَالَةٍ مِنْهَا مُطَابِقَةٌ لِأُخْتِهَا فِي الشِّدَّةِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَتَرْكَبَنَّ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مِنْ كَوْنِكَ نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ حَيًّا وَمَيِّتًا وَغَنِيًّا وَفَقِيرًا، فالخطاب للإنسان المذكور في قوله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ قَالَا: لِأَنَّ الْمَعْنَى بِالنَّاسِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ عُمَرُ «لَيَرْكَبُنَّ» بِالتَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَرُوِيَ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَرَآ بِالْغَيْبَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: لَيَرْكَبَنَّ الْإِنْسَانُ، وَرُوِيَ عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قَرَآ بِكَسْرِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّفْسِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: لَيَرْكَبَنَّ الْقَمَرُ أَحْوَالًا مِنْ سِرَارٍ وَاسْتِهْلَالٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ يَعْنِي الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: رَضِيعٌ ثُمَّ فَطِيمٌ ثُمَّ غُلَامٌ ثُمَّ شَابٌّ ثُمَّ شَيْخٌ. وَمَحَلُّ عَنْ طبق النصب على أنه صفة لطبقا أَيْ طَبَقًا مُجَاوِزًا لِطَبَقٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَتَرْكَبُنَّ، أَيْ: مُجَاوِزِينَ، أَوْ مُجَاوِزًا فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ لِلْكُفَّارِ لَا يُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ وُجُودِ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَجَوَابُهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: أَيُّ مَانِعٍ لَهُمْ حَالَ عَدَمِ سُجُودِهِمْ وَخُضُوعِهِمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؟ قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: مَا لَهُمْ لَا يُصَلُّونَ؟ وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ الْخُضُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ السُّجُودِ الْمَعْرُوفِ بِسُجُودِ التِّلَاوَةِ. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ هَلْ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَوَاضِعِ السُّجُودِ عِنْدَ التِّلَاوَةِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ الدَّلِيلُ عَلَى السُّجُودِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أَيْ: يُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ

وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أَيْ: بِمَا يُضْمِرُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَكْتُمُونَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَجْمَعُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالسَّيِّئَةِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْوِعَاءِ الَّذِي يُجْمَعُ مَا فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: الْخَيْرُ أَبْقَى وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ ... وَالشَّرُّ أَخْبَثُ مَا أَوْعَيْتَ مِنْ زَادِ وَيُقَالُ: وَعَاهُ: حَفِظَهُ، وَوَعَيْتُ الْحَدِيثَ أَعِيهِ وَعْيًا، وَمِنْهُ: أُذُنٌ واعِيَةٌ . فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أَيِ: اجْعَلْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبِشَارَةِ لَهُمْ لِأَنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مُوجِبٌ لِتَعْذِيبِهِمْ، وَالْأَلِيمُ: الْمُؤْلِمُ الْمُوجِعُ، وَالْكَلَامُ خَارِجٌ مَخْرَجَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ لَهُمْ أَجْرٌ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرَ مَمْنُونٍ، أَيْ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ، يُقَالُ: مَنَّنْتُ الْحَبْلَ إِذَا قَطَعْتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَتَرَى خَلْفَهُنَّ مِنْ سُرْعَةِ الرَّجْ ... عِ مَنِينًا كَأَنَّهُ أَهْبَاءُ قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَنِينُ: الْغُبَارُ لأنها تَقْطَعُهُ وَرَاءَهَا، وَكُلُّ ضَعِيفٍ مَنِينٌ وَمَمْنُونٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى غَيْرُ مَمْنُونٍ أَنَّهُ لَا يُمَنُّ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا إِنْ أُرِيدَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ قَالَ: تَنْشَقُّ السَّمَاءُ مِنَ الْمَجَرَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ قَالَ: سَمِعَتْ حِينَ كَلَّمَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ قَالَ: أَطَاعَتْ وَحُقَّتْ بِالطَّاعَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْهُ وَصَحَّحَهُ قَالَ: سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَلْقَتْ مَا فِيها قَالَ: أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا وَأَلْقَتْ مَا فِيها قَالَ: سِوَارِي الذَّهَبِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ- قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ جَيِّدٍ- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُمَدُّ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَدَّ الْأَدِيمِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لِابْنِ آدَمَ فِيهَا إِلَّا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً قَالَ: عَامِلٌ عَمَلًا فَمُلاقِيهِ قَالَ: فَمُلَاقٍ عَمَلَكَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً؟ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِالْحِسَابِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟ قَالَ: أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابِهِ فَيَتَجَاوَزَ لَهُ عَنْهُ، إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ» وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ يُحَاسِبُهُ اللَّهُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ

بِرَحْمَتِهِ: تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: يَدْعُوا ثُبُوراً قَالَ: الْوَيْلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ قَالَ: يُبْعَثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنْ لَنْ يَحُورَ قَالَ: أَنْ لَنْ يَرْجِعَ. وَأَخْرَجَ سَمَّوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الشَّفَقُ النَّهَارُ كُلُّهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ قَالَ: وَمَا دَخَلَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَما وَسَقَ قَالَ: وَمَا جَمَعَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ قَالَ: إِذَا اسْتَوَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ قَالَ: وَمَا جَمَعَ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ: إِنَّ لَنَا قَلَائِصًا نَقَانِقًا ... مُسْتَوْسِقَاتٍ لَوْ يَجِدْنَ سَائِقَا وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ قَالَ: لَيْلَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عن عمر ابن الخطاب لَتَرْكَبُنَّ قال: حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، قَالَ: هَذَا نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْقِرَاءَاتِ وَسَعِيدُ بن منصور وابن منيع وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ يَعْنِي بِفَتْحِ الْبَاءِ مِنْ تَرْكَبَنَّ. وَقَالَ: يَعْنِي نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ قَالَ: لَتَرْكَبُنَّ يَا مُحَمَّدُ السَّمَاءَ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: لَتَرْكَبُنَّ يَعْنِي بِفَتْحِ الْبَاءِ. وَقَالَ: لَتَرْكَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْهُ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قَالَ: يَعْنِي السَّمَاءُ تَنْفَطِرُ، ثُمَّ تَنْشَقُّ، ثُمَّ تَحْمَرُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: السَّمَاءُ تَكُونُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ، وَتَكُونُ وَاهِيَةً، وَتُشَقَّقُ فَتَكُونُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ قال: يسرّون.

سورة البروج

سورة البروج هي اثنتان وعشرون آية، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ أحمد قال: حدّثنا عبد الصمد، حدّثنا رزيق بْنُ أَبِي سُلْمَى، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُهَزَّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَأَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) قَوْلُهُ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْبُرُوجِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً «1» قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: هِيَ النُّجُومُ، وَالْمَعْنَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ النُّجُومِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو: ذَاتِ الْخَلْقِ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَيَحْيَى بْنُ سَلَامٍ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ الْمَنَازِلُ لِلْكَوَاكِبِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا لِاثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَبًا، وَهِيَ الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ. وَالْبُرُوجُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْقُصُورُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ «2» شُبِّهَتْ مَنَازِلُ هَذِهِ النُّجُومِ بِالْقُصُورِ لِكَوْنِهَا تَنْزِلُ فِيهَا، وَقِيلَ: هِيَ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: هِيَ منازل القمر، وأصل

_ (1) . الفرقان: 61. (2) . النساء: 78.

الْبُرْجِ: الظُّهُورُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِظُهُورِهَا وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ أَيِ: الْمَوْعُودِ بِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ الْمُرَادُ بِالشَّاهِدِ مَنْ يَشْهَدُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْخَلَائِقِ، أَيْ: يَحْضُرُ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَشْهُودِ مَا يُشَاهَدُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ فِيهِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ النَّاسُ فِيهِ مَوْسِمَ الْحَجِّ، وَتَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ. وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْأَضْحَى. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الشَّاهِدُ: يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الشَّاهِدُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَقِيلَ: الشَّاهِدُ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، لِقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وَقَوْلِهِ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ «1» وَقِيلَ: الشَّاهِدُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «2» وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً «3» وقوله: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» وَقِيلَ: الشَّاهِدُ: جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ لِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «5» وَقِيلَ: هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِقَوْلِهِ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ «6» وَالْمَشْهُودُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ إِمَّا: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، أَوْ: أُمَمُ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ: أُمَّةُ عِيسَى. وَقِيلَ: الشَّاهِدُ آدَمُ. وَالْمَشْهُودُ ذُرِّيَّتُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الشَّاهِدُ: الْإِنْسَانُ لِقَوْلِهِ: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً «7» وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَعْضَاؤُهُ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «8» وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: الشَّاهِدُ: هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَالْمَشْهُودُ: سَائِرُ الْأُمَمِ لِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «9» وَقِيلَ: الشَّاهِدُ: الْحَفَظَةُ، وَالْمَشْهُودُ: بَنُو آدَمَ، وَقِيلَ: الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي. وَقِيلَ: الشَّاهِدُ: الْخَلْقُ يَشْهَدُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ، وَبَيَانُ مَا هُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَاللَّامُ فِيهِ مُضْمَرَةٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: لَقَدْ قتل، فحذفت اللام وقد، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا دُعَائِيَّةٌ لِأَنَّ مَعْنَى قُتِلَ لُعِنَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَالدُّعَائِيَّةُ لَا تَكُونُ جَوَابًا لِلْقَسَمِ، فَقِيلَ: الْجَوَابُ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَقِيلَ: قَوْلُهُ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وَبِهِ قَالَ الْمُبَرِّدُ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِطُولِ الْفَصْلِ، وَقِيلَ: هُوَ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ كَأَنَّهُ قَالَ: أُقْسِمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ مَلْعُونُونَ كَمَا لُعِنَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَقِيلَ: تَقْدِيرُ الْجَوَابِ: لَتُبْعَثُنَّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَيْضًا: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بأنه لا يجوز أن

_ (1) . الأنعام: 19. (2) . النساء: 41. (3) . الأحزاب: 45. (4) . البقرة: 143. (5) . النساء: 41. (6) . المائدة: 117. [.....] (7) . الإسراء: 14. (8) . النور: 24. (9) . البقرة: 143.

يُقَالَ: وَاللَّهِ قَامَ زَيْدٌ، وَالْأُخْدُودُ: الشَّقُّ الْعَظِيمُ الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأَرْضِ كَالْخَنْدَقِ، وَجَمْعُهُ أَخَادِيدُ، وَمِنْهُ الْخَدُّ لِمَجَارِي الدُّمُوعِ، وَالْمِخَدَّةُ لِأَنَّ الْخَدَّ يُوضَعُ عَلَيْهَا، وَيُقَالُ: تَخَدَّدَ وَجْهُ الرَّجُلِ إِذَا صَارَتْ فِيهِ أَخَادِيدُ مِنْ خُرَّاجٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ: وَوَجْهٌ كَأَنَّ الشَّمْسَ أَلْقَتْ رِدَاءَهَا ... عَلَيْهِ نَقِيُّ اللَّوْنِ لَمْ يَتَخَدَّدِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ حَدِيثِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ بِجَرِّ النَّارِ عَلَى أَنَّهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْأُخْدُودِ لِأَنَّ الْأُخْدُودَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهَا، وَذَاتِ الْوَقُودِ وَصْفٌ لَهَا بِأَنَّهَا نَارٌ عَظِيمَةٌ، وَالْوَقُودُ: الْحَطَبُ الَّذِي تُوقَدُ بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، لَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَقِيلَ: إِنَّ النَّارَ مَخْفُوضَةٌ عَلَى الْجِوَارِ، كَذَا حَكَى مَكِّيٌّ عَنِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْوَاوِ مِنَ الْوَقُودِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو رَجَاءٍ ونصر ابن عَاصِمٍ بِضَمِّهَا. وَقَرَأَ أَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وأبو السّمّال العدوي وابن السّميقع وَعِيسَى بِرَفْعِ النَّارُ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ النَّارُ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ «قُتِلَ» أَيْ: لُعِنُوا حِينَ أَحْدَقُوا بِالنَّارِ قَاعِدِينَ عَلَى مَا يَدْنُو مِنْهَا، وَيَقْرَبُ إِلَيْهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي عِنْدَ النَّارِ قُعُودٌ يَعْرِضُونَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا قُعُودًا عَلَى الْكَرَاسِيِّ عِنْدَ الْأُخْدُودِ وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أَيِ: الَّذِينَ خَدُّوا الْأُخْدُودَ، وَهُمُ الْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ، عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ لِيَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ شُهُودٌ، أَيْ: حُضُورٌ، أَوْ يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عِنْدِ الْمَلِكِ بِأَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ. وَقِيلَ: يَشْهَدُونَ بِمَا فَعَلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ. وَقِيلَ: عَلَى بِمَعْنَى مَعَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَهُمْ مَعَ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ قِصَّةَ قَوْمٍ بَلَغَتْ بَصِيرَتُهُمْ وَحَقِيقَةُ إِيمَانِهِمْ إِلَى أَنْ صَبَرُوا عَلَى أَنْ يُحْرَقُوا بِالنَّارِ فِي اللَّهِ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ أَيْ: مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ وَلَا عَابُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أي: إلا أن صدّقوا بالله الغالب المحمود فِي كُلِّ حَالٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ ذَنْبًا إِلَّا إِيمَانَهُمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ «1» وَهَذَا مِنْ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَا عَيْبَ فِيهِمْ سِوَى أَنَّ النَّزِيلَ بِهِمْ ... يَسْلُو عَنِ الْأَهْلِ وَالْأَوْطَانِ والحشم وقول الْآخَرُ: وَلَا عَيْبَ فِيهَا غَيْرَ شِكْلَةِ عَيْنِهَا ... كذاك عتاق الطّير شكل عُيُونُهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَقَمُوا بِفَتْحِ النُّونِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِكَسْرِهَا، وَالْفَصِيحُ الْفَتْحُ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْعِظَمِ وَالْفَخَامَةِ فَقَالَ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُؤْمَنَ بِهِ وَيُوَحَّدَ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ من فعلهم بالمؤمنين لا يخفى عليه منهم خافية،

_ (1) . المائدة: 59.

وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَوَعْدُ خَيْرٍ لِمَنْ عَذَّبُوهُ عَلَى دِينِهِ مِنْ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا أَعَدَّ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ فَعَلُوا بِالْمُؤْمِنِينَ مَا فَعَلُوا مِنَ التَّحْرِيقِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ أَيْ: حَرَقُوهُمْ بِالنَّارِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فَتَنْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: أَحْرَقْتُهُ، وَفَتَنْتُ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ إِذَا أَدْخَلْتَهُ النَّارَ لِتَنْظُرَ جَوْدَتَهُ. وَيُقَالُ: دِينَارٌ مَفْتُونٌ، وَيُسَمَّى الصَّائِغُ: الْفَتَّانَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «1» أَيْ: يُحْرَقُونَ، وَقِيلَ: مَعْنَى فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ: مَحَنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ لِيَرْجِعُوا عَنْهُ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ قَبِيحِ صُنْعِهِمْ وَيَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَفِتْنَتِهِمْ، فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ، أَيْ: لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ جَهَنَّمَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ إِنَّ أَوِ الْخَبَرُ: لَهُمْ، وَعَذَابُ جَهَنَّمَ مُرْتَفِعٌ بِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَالْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلَا يَضُرُّ نسخه بأنّ، خلافا للأخفش، وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ ي: وَلَهُمْ عَذَابٌ آخَرُ زَائِدٌ عَلَى عَذَابِ كُفْرِهِمْ، وَهُوَ عَذَابُ الْحَرِيقِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَرِيقَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ ك السعير، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي جَهَنَّمَ بِالزَّمْهَرِيرِ ثُمَّ يُعَذَّبُونَ بِعَذَابِ الْحَرِيقِ فَالْأَوَّلُ: عَذَابٌ بِبَرْدِهَا، وَالثَّانِي: عَذَابٌ بِحَرِّهَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّ عَذَابَ الْحَرِيقِ أُصِيبُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّ النَّارَ ارْتَفَعَتْ مِنَ الْأُخْدُودِ إِلَى الْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ فَأَحْرَقَتْهُمْ، وَبِهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُحْرِقُوا بِالنَّارِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمُحْرَقُونَ فِي الْأُخْدُودِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أَيْ: لَهُمْ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ جَنَّاتٌ مُتَّصِفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ جَرْيِ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِ الْجَنَّاتِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْجَنَّاتِ الْأَشْجَارُ فَجَرْيُ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهَا وَاضِحٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْأَرْضُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَيْهَا فَالتَّحْتِيَّةُ بِاعْتِبَارِ جُزْئِهَا الظَّاهِرِ وَهُوَ الشَّجَرُ لِأَنَّهَا سَاتِرَةٌ لِسَاحَتِهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ، أَيْ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ الَّذِي: لَا يَعْدِلُهُ فَوْزٌ وَلَا يُقَارِبُهُ وَلَا يُدَانِيهِ، وَالْفَوْزُ: الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لخطاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مبينة لِمَا عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْجَزَاءِ لِمَنْ عَصَاهُ، وَالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ، أَيْ: أَخْذُهُ لِلْجَبَابِرَةِ وَالظَّلَمَةِ شَدِيدٌ، وَالْبَطْشُ: الْأَخْذُ بِعُنْفٍ، وَوَصْفُهُ بِالشِّدَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَضَاعَفَ وَتَفَاقَمَ، وَمِثْلُ هذه قوله: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ «2» إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي: يخلق الخلق أَوَّلًا فِي الدُّنْيَا وَيُعِيدُهُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ. كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: يُبْدِئُ لِلْكُفَّارِ عَذَابَ الْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُعِيدُهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ أَيْ: بَالِغُ الْمَغْفِرَةِ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَفْضَحُهُمْ بِهَا، بَالِغُ الْمَحَبَّةِ لِلْمُطِيعِينَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْوَادُّ لِأَوْلِيَائِهِ، فَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى الْوَدُودِ الرَّحِيمُ. وَحَكَى الْمُبَرِّدُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي أَنَّ الْوَدُودَ هُوَ الَّذِي لَا وَلَدَ له، وأنشد:

_ (1) . الذاريات: 13. (2) . هود: 102.

وَأَرْكَبُ فِي الرَّوْعِ عُرْيَانَةً ... ذَلُولَ الْجَنَاحِ لَقَاحًا وَدُودَا أَيْ: لَا وَلَدَ لَهَا تَحِنُّ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْوَدُودُ بِمَعْنَى الْمَوْدُودِ، أَيْ: يَوَدُّهُ عِبَادُهُ الصَّالِحُونَ وَيُحِبُّونَهُ، كَذَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ: يَكُونُ مُحِبًّا لَهُمْ. قَالَ: وَكِلْتَا الصِّفَتَيْنِ مَدْحٌ، لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ إِنْ أَحَبَّ عِبَادَهُ الْمُطِيعِينَ فَهُوَ فَضْلٌ مِنْهُ، وَإِنْ أَحَبَّهُ عِبَادُهُ الْعَارِفُونَ فَلِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ كَرِيمِ إِحْسَانِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ بِرَفْعِ الْمُجِيدِ عَلَى أَنَّهُ نعت لذو، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قَالَا: لِأَنَّ الْمَجْدَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْكَرَمِ وَالْفَضْلِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَنْعُوتُ بِذَلِكَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَرْشِ. وَقَدْ وَصَفَ سُبْحَانَهُ عَرْشَهُ بِالْكَرَمِ كَمَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِرَبِّكَ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهَا صِفَاتٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَعْنَى ذُو الْعَرْشِ: ذُو الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: رَأَوْا عَرْشِي تَثَلَّمَ جَانِبَاهُ ... فَلَمَّا أَنْ تَثَلَّمَ أَفْرَدُونِي وَقَوْلُ الْآخَرِ: إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتُ عُرُوشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ خَالِقُ الْعَرْشِ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أَيْ: مِنَ الْإِبْدَاءِ وَالْإِعَادَةِ. قَالَ عَطَاءٌ: لَا يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ يُرِيدُهُ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ شَيْءٌ طَلَبَهُ، وَارْتِفَاعُ «فَعَّالٍ» عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ رَفْعٌ عَلَى التَّكْرِيرِ وَالِاسْتِئْنَافِ، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ مَحْضَةٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: رَفْعُ «فَعَّالٍ» ، وَهُوَ نَكِرَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى وَجْهِ الِاتِّبَاعِ لِإِعْرَابِ الْغَفُورِ الْوَدُودِ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَعَّالٌ لِأَنَّ مَا يُرِيدُ وَيَفْعَلُ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَبَرَ الْجُمُوعِ الْكَافِرَةِ فَقَالَ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ والجملة مستأنفة مقرّرة لما تقدّم بَطْشِهِ سُبْحَانَهُ وَكَوْنِهِ فَعَّالًا لِمَا يُرِيدُهُ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: هَلْ أَتَاكَ يَا مُحَمَّدُ خَبَرُ الْجُمُوعِ الْكَافِرَةِ الْمُكَذِّبَةِ لِأَنْبِيَائِهِمُ الْمُتَجَنِّدَةِ عَلَيْهَا. ثُمَّ بَيَّنَهُمْ فَقَالَ: فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْجُنُودِ، وَالْمُرَادُ بِفِرْعَوْنَ هُوَ وَقَوْمُهُ، وَالْمُرَادُ بِثَمُودَ الْقَوْمُ الْمَعْرُوفُونَ، وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِهِمْ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ذِكْرُهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ لِاشْتِهَارِ أَمْرِهِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَدَلَّ بِهِمَا عَلَى أَمْثَالِهِمَا. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ مُمَاثَلَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ فَقَالَ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ أَيْ بَلْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ فِي تَكْذِيبٍ شَدِيدٍ لَكَ، وَلِمَا جِئْتَ بِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أَيْ: يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مَا أَنْزَلَ بِأُولَئِكَ، وَالْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ: الْحَصْرُ لَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِعَدَمِ نَجَاتِهِمْ بِعَدَمِ فَوْتِ الْمُحَاطِ بِهِ عَلَى الْمُحِيطِ. ثُمَّ رَدَّ سُبْحَانَهُ تَكْذِيبَهُمْ بِالْقُرْآنِ فَقَالَ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ أَيْ: مُتَنَاهٍ فِي الشَّرَفِ وَالْكَرَمِ وَالْبَرَكَةِ لِكَوْنِهِ بَيَانًا لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا يَقُولُونَ إِنَّهُ شِعْرٌ وَكَهَانَةٌ وَسِحْرٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ أَيْ: مَكْتُوبٌ فِي لَوْحٍ، وَهُوَ أمّ الكتاب

مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ وُصُولِ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَحْفُوظٍ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلَوْحِ وَقَرَأَ نَافِعٌ بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْقُرْآنِ، أَيْ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ مَحْفُوظٌ فِي لَوْحٍ. وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ اللَّامِ مِنْ لَوْحٍ إِلَّا يَحْيَى بْنَ يَعْمَرَ وَابْنَ السّميقع فإنهما قرءا بِضَمِّهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِاللُّوحِ بِضَمِّ اللَّامِ: الْهَوَاءُ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ: اللُّوحُ بِضَمِّ اللَّامِ: الْهَوَاءُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: اللُّوحُ بِالضَّمِّ: الْهَوَاءُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْبُرُوجِ قُصُورٌ فِي السماء. وأخرج ابن مردويه عن جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ فَقَالَ: الْكَوَاكِبُ، وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً «1» قَالَ: الْكَوَاكِبُ، وَعَنْ قَوْلِهِ: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ «2» قَالَ: الْقُصُورُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ- وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قَالَ: الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالشَّاهِدُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَهُوَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ، فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِمُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، وَفَضَّلَهُ بِهَا عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَمَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْهُ، فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَلَا يَسْتَعِيذُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا أَعَاذَهُ مِنْهُ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قَالَ: «الشَّاهِدُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ هُوَ الْمَوْعُودُ يَوْمُ القيامة» . وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَالشَّاهِدُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالشَّاهِدُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في الْآيَةِ: «الشَّاهِدُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن سَيِّدَ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ الشَّاهِدُ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ» وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنَ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود:

_ (1) . الفرقان: 61. (2) . النساء: 78.

يَوْمُ عَرَفَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قَالَ: هَلْ سَأَلْتَ أحدا قبلي؟ قال: نعم سألت ابن عمرو وَابْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: يَوْمُ الذَّبْحِ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ. قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الشَّاهِدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَرَأَ: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «1» وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «2» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الشَّاهِدُ: جَدِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثم تلا: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً «3» وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «4» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالشَّاهِدُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَلَا: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: الشَّاهِدُ: اللَّهُ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الشَّاهِدُ: اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الشَّاهِدُ: اللَّهُ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ التَّفَاسِيرُ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدِ اخْتَلَفَتْ كَمَا تَرَى، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَتْ تَفَاسِيرُ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ، وَاسْتَدَلَّ مَنِ اسْتَدَلَّ مِنْهُمْ بِآيَاتِ ذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ شَاهِدٌ أَوْ مَشْهُودٌ، فَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ وَالْمَشْهُودَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ ذَلِكَ الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ الَّذِي ذُكِرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هُنَا: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ هُوَ جَمِيعَ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَوِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ أَنَّهُ يُشْهَدُ أَوْ أَنَّهُ مَشْهُودٌ، وَلَيْسَ بَعْضُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مَعَ اخْتِلَافِهِ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَقُلْ قَائِلٌ بِذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ فِي الْمَرْفُوعِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ مِنْ حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ، وَحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَمُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَا يُعَيِّنُ هَذَا الْيَوْمَ الْمَوْعُودَ، وَالشَّاهِدَ وَالْمَشْهُودَ؟ قُلْتُ: أَمَّا الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ فَلَمْ تَخْتَلِفْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا، بَلِ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا الشَّاهِدُ فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَفِي حَدِيثِهِ الثَّانِي أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ أَنَّهُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَفِي حَدِيثِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَفِي مُرْسَلِ سَعِيدٍ أَنَّهُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عليه، ولا تضرّ زيادة يوم عرفة فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّانِي وَأَمَّا الْمَشْهُودُ فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَفِي حَدِيثِهِ الثَّانِي أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَفِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ سَعِيدٍ فَقَدْ تَعَيَّنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَهِيَ أَرْجَحُ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَةِ الَّتِي صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذَا رُجْحَانُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ يَوْمُ القيامة.

_ (1) . النساء: 41. (2) . هود: 103. (3) . الأحزاب: 45. (4) . هود: 103.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لِذَلِكَ الْمَلِكِ كَاهِنٌ يَكْهُنُ لَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الْكَاهِنُ: انْظُرُوا لِي غُلَامًا فَهِمًا، أَوْ قَالَ فَطِنًا لَقِنًا فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ فَيَنْقَطِعَ مِنْكُمْ هَذَا الْعِلْمُ وَلَا يَكُونُ فِيكُمْ مَنْ يَعْلَمُهُ، قَالَ: فَنَظَرُوا لَهُ عَلَى مَا وَصَفَ، فَأَمَرُوهُ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْكَاهِنَ وَأَنْ يَخْتَلِفَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقِ الْغُلَامِ رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَةٍ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَسْأَلُ ذَلِكَ الرَّاهِبَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا أَعْبُدُ اللَّهَ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَمْكُثُ عِنْدَ هَذَا الرَّاهِبِ وَيُبْطِئُ عَلَى الْكَاهِنِ، فَأَرْسَلَ الْكَاهِنُ إِلَى أَهْلِ الْغُلَامِ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَحْضُرُنِي، فَأَخْبَرَ الْغُلَامُ الرَّاهِبَ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إِذَا قَالَ لَكَ أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْ عِنْدَ أَهْلِي، وَإِذَا قَالَ لَكَ أَهْلُكَ أَيْنَ كُنْتَ؟ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي كُنْتُ عِنْدَ الْكَاهِنِ، فَبَيْنَمَا الْغُلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ مَرَّ بِجَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ كَثِيرٍ قَدْ حَبَسَتْهُمْ دَابَّةٌ، يُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ أَسَدًا، فَأَخَذَ الْغُلَامُ حَجَرًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ ذَلِكَ الرَّاهِبُ حَقًّا فَأَسْأَلُكَ أَنْ أَقْتُلَ هَذِهِ الدَّابَّةَ، وَإِنْ كَانَ مَا يَقُولُ الْكَاهِنُ حَقًّا فَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا أَقْتُلَهَا، ثُمَّ رَمَى فَقَتَلَ الدَّابَّةَ، فَقَالَ النَّاسُ: مَنْ قَتَلَهَا؟ فَقَالُوا: الْغُلَامُ، فَفَزِعَ النَّاسُ وَقَالُوا: قَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ عِلْمًا لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ، فَسَمِعَ أَعْمَى فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَنْتَ رَدَدْتَ عَلَيَّ بَصَرِي فَلَكَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا أُرِيدُ مِنْكَ هَذَا، وَلَكِنْ أَرَأَيْتَ إِنْ رَجَعَ عَلَيْكَ بَصَرُكَ أَتُؤْمِنُ بِالَّذِي رَدَّهُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَدَعَا اللَّهَ فَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ فَآمَنَ الأعمى، فبلغ الملك أمرهم فبعث إليه فَأَتَى بِهِمْ فَقَالَ: لَأَقْتُلَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ قِتْلَةً لَا أَقْتُلُ بِهَا صَاحِبَهُ، فَأَمَرَ بِالرَّاهِبِ وَالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ أَعْمَى فَوُضِعَ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ أَحَدِهِمَا فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ الْآخَرُ بِقِتْلَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ أَمَرَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَأَلْقُوهُ مِنْ رَأْسِهِ، فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوهُ مِنْهُ جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويترددون حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْغُلَامُ، ثُمَّ رَجَعَ الْغُلَامُ فَأَمَرَ بِهِ الْمَلِكُ أَنْ يَنْطَلِقُوا بِهِ إِلَى الْبَحْرِ فَيُلْقُوهُ فِيهِ، فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى الْبَحْرِ، فَغَرَّقَ اللَّهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَأَنْجَاهُ، فَقَالَ الْغُلَامُ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَنْ تَقْتُلَنِي حَتَّى تَصْلُبَنِي وَتَرْمِيَنِي وَتَقُولَ إِذَا رَمَيْتَنِي: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ ثُمَّ رَمَاهُ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ السَّهْمِ ثُمَّ مَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: لَقَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ عِلْمًا مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ، فَإِنَّا نُؤْمِنُ بِرَبِّ هَذَا الْغُلَامِ، فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أَجَزِعْتَ أَنْ خَالَفَكَ ثَلَاثَةٌ؟ فَهَذَا الْعَالَمُ كُلُّهُمْ قَدْ خَالَفُوكَ، قَالَ: فَخَدَّ أُخْدُودًا ثُمَّ أُلْقِيَ فِيهِ الْحَطَبُ وَالنَّارُ، ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ تَرَكْنَاهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ أَلْقَيْنَاهُ فِي هَذِهِ النَّارِ، فَجَعَلَ يُلْقِيهِمْ فِي تِلْكَ الْأُخْدُودِ: فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ- النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ حَتَّى بَلَغَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» . فَأَمَّا الْغُلَامُ فَإِنَّهُ دُفِنَ، ثُمَّ أُخْرِجُ، فَيُذْكَرُ أَنَّهُ أُخْرِجَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأُصْبُعُهُ عَلَى صُدْغِهِ كَمَا وَضَعَهَا حِينَ قُتِلَ. وَلِهَذِهِ الْقِصَّةِ أَلْفَاظٌ فِيهَا بَعْضُ اخْتِلَافٍ. وَقَدْ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي أَوَاخِرِ الصَّحِيحِ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ. وَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ عَنْ

حَمَّادٍ بِهِ. وَأَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَأَخْرَجَهَا التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ثَابِتٍ بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: أَصْحابُ الْأُخْدُودِ قَالَ: هُمُ الْحَبَشَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمْ نَاسٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَدُّوا أُخْدُودًا فِي الأرض أوقدوا فيها نَارًا، ثُمَّ أَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ الْأُخْدُودِ رِجَالًا وَنِسَاءً، فَعُرِضُوا عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ إِلَى قَوْلِهِ: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قَالَ: هَذَا قَسَمٌ عَلَى إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِلَى آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ قَالَ: يُبْدِئُ الْعَذَابَ وَيُعِيدُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْوَدُودُ قَالَ: الْحَبِيبُ، وَفِي قَوْلِهِ: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ قَالَ: الْكَرِيمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ لَوْحُ الذِّكْرِ لَوْحٌ وَاحِدٌ فِيهِ الذِّكْرُ. وَإِنَّ ذَلِكَ اللَّوْحَ مِنْ نُورٍ، وَإِنَّهُ مَسِيرَةُ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ- فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ فِي جَبْهَةِ إِسْرَافِيلَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ- قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ جَيِّدٍ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ كَمَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ، فَقَالَ لِلْقَلَمِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: اكْتُبْ عِلْمِي فِي خَلْقِي، فَجَرَى مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القيامة. اهـ.

سورة الطارق

سورة الطّارق هي سبع عشرة آية، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ بِمَكَّةَ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ خَالِدٍ الْعَدْوَانِيِّ: «أَنَّهُ أَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقِ ثَقِيفٍ وَهُوَ قائم على قوس أو عصا حِينَ أَتَاهُمْ يَبْتَغِي النَّصْرَ عِنْدَهُمْ، فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ حَتَّى خَتَمَهَا، قَالَ: فَوَعَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ قَرَأْتُهَا فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَدَعَتْنِي ثَقِيفٌ فَقَالُوا: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَقَرَأْتُهَا، فَقَالَ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِصَاحِبِنَا، لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ مَا يَقُولُ حقا لاتبعناه» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَهُوَ النَّجْمُ الثَّاقِبُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ التَّنْزِيلُ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، يَعْنِي الْكَوَاكِبَ تَطْرُقُ بِاللَّيْلِ وَتَخْفَى بِالنَّهَارِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الطَّارِقُ: النَّجْمُ لِأَنَّهُ يَطْلُعُ بِاللَّيْلِ، وَمَا أَتَاكَ لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ. وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْمُبَرِّدُ: وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتِ ومرضعا ... فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ «1» وَقَوْلُهُ أَيْضًا: أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا ... وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تُطَيَّبِ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الطَّارِقِ هَلْ هُوَ نَجْمٌ مُعَيَّنٌ أَوْ جِنْسُ النَّجْمِ؟ فَقِيلَ: هُوَ زُحَلُ، وَقِيلَ: الثُّرَيَّا، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تُرْمَى بِهِ الشَّيَاطِينُ. وَقِيلَ: هُوَ جِنْسُ النَّجْمِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالطَّارِقُ: النَّجْمُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ كَوْكَبُ الصُّبْحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ: نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ ... نَمْشِي على النّمارق

_ (1) . «التمائم» : التعاويذ التي تعلق في عنق الصبي. وذو التمائم: هو الصبي. «المحول» : الّذي أتى عليه الحول.

أي: إن أبانا فِي الشَّرَفِ كَالنَّجْمِ الْمُضِيءِ، وَأَصْلُ الطُّرُوقِ: الدَّقُّ، فَسُمِّيَ قَاصِدُ اللَّيْلِ طَارِقًا لِاحْتِيَاجِهِ فِي الْوُصُولِ إِلَى الدَّقِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الطُّرُوقَ قَدْ يَكُونُ نَهَارًا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَتَيْتُكَ الْيَوْمَ طَرْقَتَيْنِ، أَيْ: مَرَّتَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ» . ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا هُوَ الطَّارِقُ، تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ بَعْدَ تَعْظِيمِهِ بِالْإِقْسَامِ بِهِ فَقَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ- النَّجْمُ الثَّاقِبُ الثَّاقِبُ: الْمُضِيءُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: ثَقَبَ النَّجْمُ ثُقُوبًا وَثَقَابَةً إِذَا أَضَاءَ، وَثُقُوبُهُ: ضوءه، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوْقِدَتْ بِثُقُوبِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الطَّارِقُ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَا طَرَقَ لَيْلًا، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْرِي مَا الْمُرَادُ بِهِ لَوْ لَمْ يُبَيِّنْهُ بِقَوْلِهِ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ قَالَ مُجَاهِدٌ: الثَّاقِبُ: الْمُتَوَهِّجُ. قَالَ سُفْيَانُ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ وَما أَدْراكَ فقد أخبره [به] «1» ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَالَ: وَما يُدْرِيكَ لَمْ يُخْبِرْهُ بِهِ، وَارْتِفَاعُ قَوْلِهِ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ نَشَأَ مِمَّا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي لَمَّا فَمَنْ قَرَأَ بِتَخْفِيفِهَا كَانَتْ إِنْ هُنَا هِيَ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ فِيهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمُقَدَّرُ، وَهُوَ اسْمُهَا، واللام هي الفارقة، و «ما» مَزِيدَةٌ، أَيْ: إِنَّ الشَّأْنَ كُلُّ نَفْسٍ لَعَلَيْهَا حَافِظٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَإِنْ نَافِيَةٌ، وَلَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ: مَا كُلَّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ، وَقَدْ قَرَأَ هُنَا بِالتَّشْدِيدِ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. قِيلَ: وَالْحَافِظُ: هُمُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ عَلَيْهَا عَمَلَهَا وَقَوْلَهَا وَفِعْلَهَا، وَيُحْصُونَ مَا تَكْسِبُ من خير وشرّ، وقيل: الحافظ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَقْلُ يُرْشِدُهُمْ إِلَى الْمَصَالِحِ، وَيَكُفُّهُمْ عَنِ الْمَفَاسِدِ. وَالْأَوَّلُ أولى لقوله: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ «2» وقوله: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً «3» وَقَوْلِهِ: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ «4» وَالْحَافِظُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كما في قوله: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً «5» وَحِفْظُ الْمَلَائِكَةِ مِنْ حِفْظِهِ لِأَنَّهُمْ بِأَمْرِهِ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ الْفَاءُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ عَلَى كُلِّ نَفْسِ حَافِظٌ يُوجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي مُبْتَدَأِ خَلْقِهِ لِيَعْلَمَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْبَعْثِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْمُكَذِّبَ بِالْبَعْثِ مِمَّ خُلِقَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَنْظُرْ نَظَرَ التَّفَكُّرِ وَالِاسْتِدْلَالِ حَتَّى يَعْرِفَ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَهُ مِنْ نُطْفَةٍ قَادِرٌ عَلَى إعادته. ثم بين سبحانه ذلك فقال: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالْمَاءُ: هُوَ الْمَنِيُّ، وَالدَّفْقُ: الصَّبُّ، يُقَالُ: دَفَقْتُ الْمَاءَ، أَيْ: صَبَبْتُهُ، يُقَالُ: مَاءٌ دافق، أي: مدفوق، مثل: عِيشَةٍ راضِيَةٍ «6» أَيْ: مَرْضِيَّةٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: مَاءٌ دَافِقٌ. أَيُّ مَصْبُوبٌ فِي الرَّحِمِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَجْعَلُونَ الْفَاعِلَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ، كَقَوْلِهِمْ: سِرٌّ كَاتِمٌ، أَيُّ: مَكْتُومٌ، وهمّ ناصب،

_ (1) . من تفسير القرطبي (20/ 3) . [.....] (2) . الانفطار: 10. (3) . الأنعام: 61. (4) . الرعد: 11. (5) . يوسف: 64. (6) . القارعة: 7.

أَيْ: مَنْصُوبٌ، وَلَيْلٌ نَائِمٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مِنْ مَاءٍ ذِي انْدِفَاقٍ، يُقَالُ: دَارِعٌ وَقَايِسٌ وَنَابِلٌ، أَيْ: ذُو دِرْعٍ وَقَوْسٍ وَنَبْلٍ، وَأَرَادَ سُبْحَانَهُ مَاءَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا، لَكِنْ جَعَلَهُمَا مَاءً وَاحِدًا لِامْتِزَاجِهِمَا، ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الْمَاءَ فَقَالَ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أَيْ: صُلْبِ الرَّجُلِ، وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ، وَالتَّرَائِبُ: جَمْعُ تَرِيبَةٍ، وَهِيَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنَ الصَّدْرِ، وَالْوَلَدُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمَاءَيْنِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَخْرُجُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَفِي الصُّلْبِ، وَهُوَ الظَّهْرُ، لُغَاتٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ بِضَمِّ الصَّادِ وَاللَّامِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ بِفَتْحِهِمَا، وَيُقَالُ: صَالِبٌ عَلَى وَزْنِ قَالِبٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَبَّاسِ بن عبد المطلب: تنقل من صالب إِلَى رَحِمٍ «1» فِي أَبْيَاتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامٌ فِي هَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ «2» وَقِيلَ: التَّرَائِبُ: مَا بَيْنَ الثَّدْيَيْنِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَرَائِبُ الْمَرْأَةِ: الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ الْجِيدُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ وَالصَّدْرِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الصَّدْرُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: هِيَ التَّرَاقِي. وَحَكَى الزَّجَّاجُ: أَنَّ التَّرَائِبَ عُصَارَةُ الْقَلْبِ، وَمِنْهُ يَكُونُ الْوَلَدُ، وَالْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ أَنَّهَا عِظَامُ الصَّدْرِ وَالنَّحْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: فَإِنْ تُدْبِرُوا نَأْخُذْكُمْ فِي ظُهُورِكُمْ ... وَإِنْ تُقْبِلُوا نَأْخُذْكُمْ فِي التَّرَائِبِ قَالَ عِكْرِمَةُ: التَّرَائِبُ: الصَّدْرُ، وَأَنْشَدَ: نِظَامُ دُرٍّ عَلَى تَرَائِبِهَا قَالَ فِي الصِّحَاحِ: التَّرِيبَةُ: وَاحِدَةُ التَّرَائِبِ، وَهِيَ عِظَامُ الصَّدْرِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَمْعُ التَّرِيبَةِ تَرِيبٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُثَقَّبِ الْعَبْدِيِّ: ومن ذهب يلوح عَلَى تَرِيبٍ ... كَلَوْنِ الْعَاجِ لَيْسَ بِذِي غُضُونِ وقول امرئ القيس: ترائبها مصقولة كالسّجنجل «3» ومحكي الزَّجَّاجُ: أَنَّ التَّرَائِبَ أَرْبَعُ أَضْلَاعٍ مِنْ يَمْنَةِ الصَّدْرِ، وَأَرْبَعُ أَضْلَاعٍ مِنْ يَسْرَةِ الصَّدْرِ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى وَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يأتي عن العرب يكون

_ (1) . وتمام البيت: إذا مضى عالم بدا طبق. (2) . النساء: 23. (3) . وصدر البيت: مهفهفة بيضاء غير مفاضة.

معنى من بين الصلب، ومن الصُّلْبِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ يَنْزِلُ مِنَ الدِّمَاغِ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا مَا فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ إِذَا نَزَلَ مِنَ الدِّمَاغِ نَزَلَ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: يَخْرُجُ مِنْ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا مَا فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ نِسْبَةَ خُرُوجِهِ إِلَى بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَكْثَرَ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ هِيَ الصُّلْبُ وَالتَّرَائِبُ وَمَا يُجَاوِرُهَا وَمَا فَوْقَهَا مِمَّا يَكُونُ تَنَزُّلُهُ مِنْهَا إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: خُلِقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الَّذِي خَلَقَهُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي رَجْعِهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سبحانه قادر على رجع الْإِنْسَانِ، أَيْ: إِعَادَتِهِ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَقادِرٌ هَكَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَاءَ فِي الْإِحْلِيلِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَاءَ فِي الصُّلْبِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ يَقُولُ: إِنْ شِئْتُ رَدَدْتُهُ مِنَ الْكِبَرِ إِلَى الشَّبَابِ، وَمِنَ الشَّبَابِ إِلَى الصِّبَا، وَمِنَ الصِّبَا إِلَى النُّطْفَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ عَلَى حَبْسِ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ لَقَادِرٌ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالثَّعْلَبِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، هُوَ «رَجْعُهُ» ، وَقِيلَ: «لَقَادِرٌ» . وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَخْصِيصُ الْقُدْرَةِ بِهَذَا الْيَوْمِ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ، أَيْ: يَرْجِعُهُ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ اذْكُرْ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ رَجْعُ الْمَاءِ، فَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ اذْكُرْ، وَمَعْنَى تُبْلَى السَّرَائِرُ: تُخْتَبَرُ وَتُعْرَفُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: قَدْ كُنْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ تَزْدَرِينِي ... فَالْيَوْمَ أَبْلُوكَ وَتَبْتَلِينِي أَيْ: أَخْتَبِرُكَ وَتَخْتَبِرُنِي، وَأَمْتَحِنُكَ وَتَمْتَحِنُنِي، وَالسَّرَائِرُ: مَا يُسَرُّ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالنِّيَّاتِ وَغَيْرِهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا عَرْضُ الْأَعْمَالِ وَنَشْرُ الصُّحُفِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَمَيَّزُ الحسن منها من الْقَبِيحِ، وَالْغَثُّ مِنَ السَّمِينِ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ أَيْ: فَمَا لِلْإِنْسَانِ مِنْ قُوَّةٍ فِي نَفْسِهِ يَمْتَنِعُ بِهَا عَنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا نَاصِرٍ يَنْصُرُهُ مِمَّا نَزَلَ بِهِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: هَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ مَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ. قَالَ سُفْيَانُ: الْقُوَّةُ: الْعَشِيرَةُ، وَالنَّاصِرُ: الْحَلِيفُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ الرَّجْعُ: الْمَطَرُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّجْعُ: الْمَطَرُ لِأَنَّهُ يَجِيءُ وَيَرْجِعُ وَيَتَكَرَّرُ. قَالَ الْخَلِيلُ: الرَّجْعُ: الْمَطَرُ نَفْسُهُ، وَالرَّجْعُ: نَبَاتُ الرَّبِيعِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الرَّجْعُ: الْمَطَرُ. قَالَ الْمُتَنَخِّلُ يَصِفُ سَيْفًا لَهُ: أَبْيَضُ كَالرَّجْعِ رَسُوبٌ إِذَا ... مَا ثاخ فِي مُحْتَفِلٍ يَخْتَلِي «1» قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الرَّجْعُ: الْمَطَرُ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِي هَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ نَظَرٌ، فَإِنَّ ابْنَ زَيْدٍ قَالَ: الرَّجْعُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ يَرْجِعْنَ في السماء مِنْ نَاحِيَةٍ وَتَغِيبُ فِي أُخْرَى. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: ذَاتُ الرَّجْعِ ذَاتُ الْمَلَائِكَةِ لِرُجُوعِهِمْ إِلَيْهَا بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى «ذَاتِ الرَّجْعِ» : ذَاتُ النَّفْعِ، وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ الْمَطَرِ رَجْعًا مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَرْجِيعِ الصَّوْتِ وَهُوَ إِعَادَتُهُ، وَكَذَا الْمَطَرُ لِكَوْنِهِ يَعُودُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى سُمِّيَ رَجْعًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ السَّحَابَ يَحْمِلُ الْمَاءَ مِنْ بحار

_ (1) . «ثاخ» خاض. «المحتفل» : أعظم موضع في الجسد. «يختلي» : يقطع.

الْأَرْضِ، ثُمَّ يُرْجِعُهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَقِيلَ: سَمَّتْهُ الْعَرَبُ رَجْعًا لِأَجْلِ التَّفَاؤُلِ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ يُرْجِعُهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ هُوَ مَا تَتَصَدَّعُ عَنْهُ الْأَرْضُ مِنَ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالشَّجَرِ، وَالصَّدْعُ: الشَّقُّ لِأَنَّهُ يُصَدِّعُ الْأَرْضَ فَتَنْصَدِعُ لَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: تَتَصَدَّعُ بِالنَّبَاتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَالْأَرْضُ ذَاتُ الطُّرُقِ الَّتِي تُصَدِّعُهَا الْمِيَاهُ، وَقِيلَ: ذَاتُ الْحَرْثِ لِأَنَّهُ يُصَدِّعُهَا، وَقِيلَ: ذَاتُ الْأَمْوَاتِ لِانْصِدَاعِهَا عَنْهُمْ عِنْدَ الْبَعْثِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّدْعَ إِنْ كَانَ اسْمًا لِلنَّبَاتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالْأَرْضِ ذَاتِ النَّبَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الشَّقَّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالْأَرْضِ ذَاتِ الشَّقِّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ النَّبَاتُ وَنَحْوُهُ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ أَيْ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَقَوْلٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِالْبَيَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أَيْ: لَمْ يَنْزِلْ بِاللَّعِبِ، فَهُوَ جَدٌّ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، وَالْهَزْلُ ضِدُّ الْجِدِّ. قَالَ الكميت: يجدّ بنا في كلّ يوم ونهزل «1» إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً أَيْ: يَمْكُرُونَ فِي إِبْطَالِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدِّينِ الْحَقِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُخَاتِلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُظْهِرُونَ مَا هُمْ عَلَى خِلَافِهِ وَأَكِيدُ كَيْداً أَيْ: أَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وَأُجَازِيهِمْ جَزَاءَ كَيْدِهِمْ، قِيلَ: هُوَ مَا أَوْقَعَ اللَّهُ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَيْ: أَخِّرْهُمْ، وَلَا تَسْأَلِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَعْجِيلَ هَلَاكِهِمْ، وَارْضَ بِمَا يُدَبِّرُهُ لَكَ فِي أُمُورِهِمْ، وَقَوْلُهُ: أَمْهِلْهُمْ بَدَلٌ مِنْ مَهِّلِ. وَمَهِّلْ وَأَمْهِلْ بِمَعْنًى، مِثْلَ: نَزِّلْ وَأَنْزِلْ، وَالْإِمْهَالُ: الْإِنْظَارُ، وَتَمَهَّلَ فِي الْأَمْرِ اتَّأَدَ، وَانْتِصَابُ رُوَيْداً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ أَوْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَمْهِلْهُمْ إِمْهَالًا رُوَيْدًا، أَيْ: قَرِيبًا أَوْ قَلِيلًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَالرُّوَيْدُ فِي كلام العرب تصغير الرّود، وأنشد: كأنّها ثمل يمشي عَلَى رَوْدٍ «2» أَيْ: عَلَى مَهْلٍ، وَقِيلَ: تَصْغِيرُ إرواد مصدر أرود تَصْغِيرُ التَّرْخِيمِ، وَيَأْتِي اسْمُ فِعْلٍ نَحْوَ: رُوَيْدَ زَيْدًا، أَيْ: أَمْهِلْهُ، وَيَأْتِي حَالًا نَحْوَ سَارَ الْقَوْمُ رُوَيْدًا، أَيْ: مُتَمَهِّلِينَ، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الْجَوْهَرِيُّ، وَالْبَحْثُ مُسْتَوْفًى فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ قَالَ: أَقْسَمَ رَبُّكَ بِالطَّارِقِ، وَكُلُّ شَيْءٍ طَرَقَكَ بِاللَّيْلِ فَهُوَ طَارِقٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ قَالَ: كُلُّ نَفْسٍ عَلَيْهَا حَفَظَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ قَالَ: النَّجْمُ الْمُضِيءُ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ

_ (1) . وصدر البيت: أرانا على حب الحياة وطولها. (2) . وصدر البيت: تكاد لا تثلم البطحاء وطأتها.

قَالَ: إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ قَالَ: مَا بَيْنَ الْجِيدِ وَالنَّحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: تَرِيبَةُ الْمَرْأَةِ، وَهِيَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: التَّرَائِبُ: بَيْنَ ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: التَّرَائِبُ أَرْبَعَةُ أَضْلَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ أَسْفَلِ الْأَضْلَاعِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قَالَ: عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الشَّيْخَ شَابًّا وَالشَّابَّ شَيْخًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ قَالَ: الْمَطَرُ بَعْدَ الْمَطَرِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ قَالَ: صَدْعُهَا عَنِ النَّبَاتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ تَصَدُّعُ الْأَوْدِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ قَالَ: «تَصْدَعُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَنِ الْأَمْوَالِ وَالنَّبَاتِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ قَالَ: حَقٌّ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ قَالَ: بِالْبَاطِلِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً قَالَ: قريبا.

سورة الأعلى

سورة الأعلى ويقال: سورة سبّح، وهي تسع عشرة آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبُ بْنُ عمير وابن أمّ مكتوم، فجعلا يقرئاننا الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ وَالصِّبْيَانَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَاءَ، فَمَا جَاءَ حَتَّى قَرَأْتُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى في سور مِثْلِهَا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. وأخرجه أحمد عن وكيع عن إسرائيل عن ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن عليّ. وأخرج أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وَإِنْ وَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ قَرَأَهُمَا جَمِيعًا» وَفِي لَفْظٍ «وَرُبَّمَا اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَرَأَهُمَا» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْوَتْرِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِسَبِّحِ، وَفِي الثَّانِيَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ: «هَلَّا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)

قَوْلُهُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أَيْ: نَزِّهْهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أَيْ: عَظِّمْهُ، قِيلَ: وَالِاسْمُ هُنَا مُقْحَمٌ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ، كَمَا فِي قَوْلُ لَبِيدٍ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ وَالْمَعْنَى: سَبِّحِ رَبَّكَ الْأَعْلَى. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمَعْنَى نَزِّهِ اسْمَ رَبِّكَ أَنْ يُسَمَّى بِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَلَا تَكُونُ عَلَى هَذَا مُقْحَمَةً. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: نَزِّهْ تَسْمِيَةَ رَبِّكَ وَذِكْرَكَ إِيَّاهُ أَنْ تَذْكُرَهُ إِلَّا وَأَنْتَ خَاشِعٌ مُعَظِّمٌ، وَلِذِكْرِهِ مُحْتَرَمٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى: صَلِّ لَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: صَلِّ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ لَا كَمَا يُصَلِّي الْمُشْرِكُونَ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: ارْفَعْ صَوْتَكَ بِذِكْرِ رَبِّكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: قَبَّحَ الْإِلَهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا ... سَبَّحَ الْحَجِيجُ وَكَبَّرُوا تَكْبِيرًا وَالْأَعْلَى صِفَةٌ لِلرَّبِّ، وَقِيلَ: لِلِاسْمِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى صِفَةٌ أُخْرَى لِلرَّبِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُسْتَوِيًا، وَمَعْنَى سَوَّى: عَدَلَ قَامَتَهُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: خَلَقَهُ فَسَوَّى خَلْقَهُ، وَقِيلَ: خَلَقَ الْأَجْسَادَ فَسَوَّى الْأَفْهَامَ، وَقِيلَ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَهَيَّأَهُ لِلتَّكْلِيفِ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى صِفَةٌ أُخْرَى لِلرَّبِّ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي قَبْلَهُ. قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْكِسَائِيُّ وَالسُّلَمِيُّ قَدَّرَ مُخَفَّفًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَدَّرَ: خَلْقَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الدَّوَابِّ فَهَدَى الذَّكَرَ لِلْأُنْثَى كَيْفَ يَأْتِيهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِسَبِيلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: قَدَّرَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ، وَهَدَى لِلرُّشْدِ وَالضَّلَالَةِ، وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاعِيهَا. وَقِيلَ: قَدَّرَ أَرْزَاقَهُمْ وَأَقْوَاتَهُمْ، وَهَدَاهُمْ لِمَعَايِشِهِمْ إِنْ كَانُوا إِنْسًا، وَلِمَرَاعِيهِمْ إِنْ كَانُوا وَحْشًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: جُعِلَ لِكُلِّ دَابَّةٍ مَا يُصْلِحُهَا وَهَدَاهَا لَهُ. وَقِيلَ: خَلَقَ الْمَنَافِعَ فِي الْأَشْيَاءِ، وَهَدَى الْإِنْسَانَ لِوَجْهِ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَدَّرَ مُدَّةَ الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ، ثُمَّ هَدَاهُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الرَّحِمِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: قَدَّرَ فَهَدَى وَأَضَلَّ، فَاكْتُفِيَ بِأَحَدِهِمَا، وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا. وَالْأَوْلَى عَدَمُ تَعْيِينِ فَرْدٍ أَوْ أَفْرَادٍ مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَدَّرَ وَهَدَى إِلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ يُحْمَلُ عَلَى مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ، إِمَّا عَلَى الْبَدَلِ أَوْ عَلَى الشُّمُولِ، وَالْمَعْنَى: قَدَّرَ أَجْنَاسَ الْأَشْيَاءِ وَأَنْوَاعَهَا وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالَهَا وَأَقْوَالَهَا وَآجَالَهَا، فَهَدَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى مَا يَصْدُرُ عَنْهُ وَيَنْبَغِي لَهُ، وَيَسَّرَهُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَأَلْهَمَهُ إِلَى أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى صِفَةٌ أُخْرَى لِلرَّبِّ، أَيْ: أَنْبَتَ الْعُشْبَ وَمَا تَرْعَاهُ النَّعَمُ مِنَ النَّبَاتِ الْأَخْضَرِ فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى أَيْ: فَجَعَلَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَخْضَرَ غُثَاءً، أَيْ: هَشِيمًا جَافًّا كَالْغُثَاءِ الَّذِي يَكُونُ فَوْقَ السَّيْلِ، أَحَوَى: أَيِ: أَسْوَدَ بَعْدَ اخْضِرَارِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَأَ إِذَا يَبِسَ اسْوَدَّ. قَالَ قَتَادَةُ: الْغُثَاءُ: الشَّيْءُ الْيَابِسُ، وَيُقَالُ لِلْبَقْلِ وَالْحَشِيشِ إِذَا انْحَطَمَ وَيَبِسَ: غُثَاءٌ وَهَشِيمٌ. قال امرؤ القيس: كأنّ ذرا رأس المجيمر غدوة ... من السّيل والأغثاء فلكة مغزل «1»

_ (1) . «المجيمر» : أرض لبني فزارة.

وَانْتِصَابُ غُثَاءٍ عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، أَوْ على الحال، وأحوى صِفَةٌ لَهُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ حَالٌ مِنَ الْمَرْعَى، أَيْ: أَخْرَجَهُ أَحَوَى مِنْ شِدَّةِ الْخُضْرَةِ وَالرَّيِّ فَجَعَلَهُ غُثاءً بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْأَحْوَى مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُوَّةِ، وَهِيَ سَوَادٌ يَضْرِبُ إِلَى الْخُضْرَةِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالْحُوَّةُ: سَمُرَةُ الشَّفَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةُ لعس ... وفي اللّثات وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ «1» سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى أَيْ: سَنَجْعَلُكَ قَارِئًا بِأَنْ نُلْهِمَكَ الْقِرَاءَةَ فَلَا تَنْسَى مَا تَقْرَؤُهُ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ هِدَايَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَاصَّةِ بِهِ بَعْدَ بَيَانِ الْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ هِدَايَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ لَمْ يَفْرَغْ جِبْرِيلُ مِنْ آخِرِ الْآيَةِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَوَّلِهَا مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَاهَا، فَنَزَلَتْ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْمَفَاعِيلِ، أَيْ: لَا تَنْسَى مِمَّا تَقْرَؤُهُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَنْسَاهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ لَمْ يَشَأْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَنْسَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا كَقَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «2» وَقِيلَ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَنْسَى ثُمَّ تَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَنْ قَدْ نَسِيَ وَلَكِنَّهُ يَتَذَكَّرُ وَلَا يَنْسَى شَيْئًا نِسْيَانًا كُلِّيًّا. وَقِيلَ بِمَعْنَى النَّسْخِ: أَيْ إِلَّا مَا شَاءَ الله أن ينسخه مما نسخ تِلَاوَتَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى فَلَا تَنْسَى: فَلَا تَتْرُكِ الْعَمَلَ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَتْرُكَهُ لِنَسْخِهِ وَرَفْعِ حُكْمِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُؤَخِّرَ إِنْزَالَهُ. وَقِيلَ: «لَا» فِي قَوْلِهِ: فَلا تَنْسى لِلنَّهْيِ. وَالْأَلِفُ مَزِيدَةٌ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا «3» يَعْنِي فَلَا تَغْفُلْ قِرَاءَتَهُ وَتَذَكَّرْهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: يَعْلَمُ مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَّنَ وَالْإِعْلَانَ وَالْإِسْرَارَ، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَا قِيلَ إِنَّ الْجَهْرَ مَا حَفِظَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَمَا يَخْفَى هُوَ مَا نُسِخَ مِنْ صَدْرِهِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ أَيْضًا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْجَهْرَ: هُوَ إِعْلَانُ الصَّدَقَةِ، وَمَا يَخْفَى، هُوَ إِخْفَاؤُهَا، وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ أَيْضًا مَا قِيلَ: إِنَّ الْجَهْرَ جَهْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ مَعَ قِرَاءَةِ جِبْرِيلَ مَخَافَةَ أَنْ يَتَفَلَّتَ عَلَيْهِ، وَمَا يَخْفَى مَا فِي نَفْسِهِ مِمَّا يَدْعُوهُ إِلَى الْجَهْرِ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى مَعْطُوفٌ عَلَى «سَنُقْرِئُكَ» ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ نُهَوِّنُ عَلَيْكَ عَمَلَ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: نُوَفِّقُكَ لِلطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ، وَقِيلَ: لِلشَّرِيعَةِ الْيُسْرَى، وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّهْلَةُ، وَقِيلَ: نُهَوِّنُ عَلَيْكَ الْوَحْيَ حَتَّى تَحْفَظَهُ وَتَعْمَلَ له، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ: نُوَفِّقُكَ لِلطَّرِيقَةِ الْيُسْرَى فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِمَا الَّتِي تَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أَيْ: عِظْ يَا مُحَمَّدُ النَّاسَ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَأَرْشِدْهُمْ إِلَى سُبُلِ الْخَيْرِ وَاهْدِهِمْ إِلَى شَرَائِعِ الدِّينِ. قَالَ الْحَسَنُ: تَذْكِرَةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَحُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إن نفعت أو لم تنفع، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث مبلّغا للإعذار والإنذار، فعليه التذكير في كل حال نفع أو لم ينفع، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَالَةَ الثَّانِيَةَ كَقَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «4» الْآيَةَ. قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: التَّذْكِيرُ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ ينفع، فالمعنى: إن نفعت

_ (1) . «اللمياء» : الشفة اللطيفة القليلة الدم. «اللعس» : لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا وذلك يستملح. «الشنب» : برودة وعذوبة في الفم، ورقّه في الأسنان. (2) . هود: 107. [.....] (3) . الأحزاب: 67. (4) . النحل: 81.

الذِّكْرَى أَوْ لَمْ تَنْفَعْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَقِيلَ: إِنْ بِمَعْنَى «مَا» ، أَيْ: فَذَكِّرْ مَا نَفَعَتِ الذِّكْرَى لِأَنَّ الذِّكْرَى نَافِعَةٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى قَدْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى إِذْ. وَمَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ أَوْلَى، وَقَدْ سَبَقَهُمَا إِلَى الْقَوْلِ بِهِ الْفَرَّاءُ وَالنَّحَّاسُ. قَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَشْرَفِ الْحَالَيْنِ وَهُوَ وُجُودُ النَّفْعِ الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَتِ الذِّكْرَى، وَالْمُعَلَّقُ بِإِنْ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آيات: منها هذه الآية، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ «1» وَمِنْهَا قَوْلُهُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ «2» فَإِنَّ الْقَصْرَ جَائِزٌ عِنْدَ الْخَوْفِ وَعَدَمِهِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ «3» وَالْمُرَاجَعَةُ جَائِزَةٌ بِدُونِ هَذَا الظَّنِّ، فَهَذَا الشَّرْطُ فِيهِ فَوَائِدُ: مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا الْبَعْثُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالذِّكْرَى، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يُرْشِدُهُ: قَدْ أَوْضَحْتُ لَكَ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، وَهُوَ تَنْبِيهٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَنْفَعُهُمُ الذِّكْرَى، أَوْ يَكُونُ هَذَا فِي تَكْرِيرِ الدَّعْوَةِ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ الْأَوَّلُ فَعَامٌّ انْتَهَى. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْفَرْقَ بَيْنَ مَنْ تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى وَمَنْ لَا تَنْفَعُهُ فَقَالَ: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أَيْ: سَيَتَّعِظُ بِوَعْظِكَ مَنْ يخشى الله فيزداد بالتّذكير خشية وصلاحا يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى أي: ويتجنّب الذِّكْرَى وَيَبْعُدُ عَنْهَا الْأَشَقَى مِنَ الْكُفَّارِ لِإِصْرَارِهِ على الكفر بالله وانهما كه فِي مَعَاصِيهِ. ثُمَّ وَصَفَ الْأَشْقَى فَقَالَ: الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أَيِ: الْعَظِيمَةَ الْفَظِيعَةَ لِأَنَّهَا أَشَدُّ حَرًّا مِنْ غَيْرِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: النَّارُ الْكُبْرَى: نَارُ جَهَنَّمَ، وَالنَّارُ الصُّغْرَى: نَارُ الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ السُّفْلَى مِنْ أَطْبَاقِ النَّارِ. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أَيْ: لَا يَمُوتُ فِيهَا فَيَسْتَرِيحُ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا يَحْيَا حَيَاةً يَنْتَفِعُ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا مَا لِنَفْسٍ لَا تَمُوتُ فَيَنْقَضِي ... عَنَاهَا وَلَا تَحْيَا حَيَاةً لَهَا طَعْمٌ وَ «ثُمَّ» لِلتَّرَاخِي فِي مَرَاتِبِ الشِّدَّةِ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ أَفْظَعُ مِنْ صَلِيِّ النَّارِ الْكُبْرَى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أَيْ: مَنْ تَطَهَّرَ مِنَ الشِّرْكِ فَآمَنَ بِاللَّهِ وَوَحَّدَهُ وَعَمِلَ بِشَرَائِعِهِ. قَالَ عَطَاءٌ وَالرَّبِيعُ: مَنْ كَانَ عَمَلُهُ زَاكِيًا نَامِيًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَزَكَّى بِعَمَلٍ صَالِحٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ: أُقَدِّمُ زَكَاتِي بَيْنَ يَدَيْ صَلَاتِي. وَأَصْلُ الزَّكَاةِ فِي اللُّغَةِ: النَّمَاءُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ كُلِّهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا زَكَاةُ الْأَعْمَالِ لَا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ الْأَكْثَرَ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَمْوَالِ زَكَّى لَا تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قِيلَ: الْمَعْنَى: ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بِالْخَوْفِ فَعَبَدَهُ وَصَلَّى لَهُ، وَقِيلَ: ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بِلِسَانِهِ فَصَلَّى، أَيْ: فَأَقَامَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَقِيلَ: ذَكَرَ مَوْقِفَهُ وَمَعَادَهُ فَعَبَدَهُ، وَهُوَ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بِالتَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَقِيلَ: ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى فَصَلَّى، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِصَلَاةٍ بَعْدَ زَكَاةٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هُنَا صَلَاةُ الْعِيدِ، كما أن المراد بالتزكي في الآية زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لأن السورة مكية، ولم

_ (1) . البقرة: 172. (2) . النساء: 101. (3) . البقرة: 230.

تُفْرَضْ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَصَلَاةُ الْعِيدِ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا هَذَا إِضْرَابٌ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ: لَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ بَلْ تُؤْثِرُونَ اللَّذَّاتِ الْفَانِيَةَ فِي الدُّنْيَا، قَرَأَ الْجُمْهُورُ تُؤْثِرُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَيُؤَيِّدُهَا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ «بَلْ أَنْتُمْ تُؤْثِرُونَ» ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكَفَرَةُ، وَالْمُرَادُ بِإِيثَارِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ الرِّضَا بِهَا وَالِاطْمِئْنَانُ إِلَيْهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْآخِرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَالْمُرَادُ بِإِيثَارِهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْهُ غَالِبُ النَّاسِ مِنْ تَأْثِيرِ جَانِبِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى تَحْصِيلِ مَنَافِعِهَا وَالِاهْتِمَامِ بِهَا اهْتِمَامًا زائدا على اهتمامه بالطاعات. وجملة وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تُؤْثِرُونَ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ الَّتِي هِيَ الْجَنَّةُ أَفْضَلُ وَأَدْوَمُ مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى، وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُؤْثَرَ خَزَفٌ يَبْقَى عَلَى ذَهَبٍ يَفْنَى، فَكَيْفَ وَالْآخِرَةُ مِنْ ذَهَبٍ يَبْقَى، وَالدُّنْيَا مِنْ خَزَفٍ يَفْنَى؟. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ فَلَاحِ مَنْ تَزَكَّى وَمَا بَعْدَهُ، وَقِيلَ إِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ السُّورَةِ، وَمَعْنَى لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أَيْ: ثَابِتٌ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى بَدَلٌ مِنَ الصُّحُفِ الْأُولَى. قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَقَالَا: تَتَابَعَتْ كُتُبُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى مِنَ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَتَابَعَتْ كُتُبُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: قَدْ أَفْلَحَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ بِضَمِّ الْحَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَهَارُونُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِسُكُونِهَا فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِبْراهِيمَ بِالْأَلِفِ بَعْدَ الرَّاءِ وَبِالْيَاءِ بَعْدَ الْهَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ بِحَذْفِهِمَا وَفَتْحِ الْهَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو مُوسَى وَابْنُ الزُّبَيْرِ «إِبْرَاهَامَ» بِأَلِفَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» وَلَا مَطْعَنَ فِي إِسْنَادِهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» : قَالَ أَبُو دَاوُدَ: خُولِفَ فِيهِ وَكِيعٌ، فَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَهُ مَوْقُوفًا أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَفِي لَفْظٍ لِعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: «إِذَا قَرَأْتَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فَقُلْ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي «الْمَصَاحِفِ» عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَرَأَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَزِيدُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا أَمَرَنَا بِشَيْءٍ فَقُلْتُهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قرأ في الجمعة بسبح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ

وَصَحَّحَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقْرَأُ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شيبة عن عمر أنه قال: إِذَا قَرَأَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: سبحان ربي الأعلى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَرَأَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَجَعَلَهُ غُثاءً قَالَ: هَشِيمًا أَحْوى قَالَ: مُتَغَيِّرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَذْكِرُ الْقُرْآنَ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَى، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ كَفَيْنَاكَ ذَلِكَ، وَنَزَلَتْ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ يَقُولُ: إِلَّا مَا شِئْتُ أَنَا فَأُنْسِيكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى قَالَ: لِلْخَيْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى قَالَ: الْجَنَّةُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إله إلا الله، وخلع الْأَنْدَادَ، وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قَالَ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَالِاهْتِمَامُ بِمَوَاقِيتِهَا» . قَالَ الْبَزَّارُ: لَا يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قَالَ: مِنَ الشِّرْكِ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ قَالَ: وَحَّدَ اللَّهَ فَصَلَّى قَالَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قَالَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو ابن عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْعِيدِ، وَيَتْلُوَ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى- وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» . وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَقَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قَالَ: هِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ» وَكَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ضَعِيفٌ جِدًّا، قَالَ فِيهِ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْكَذِبِ، وَقَدْ صَحَّحَ الترمذي حديثا من طريقه، وخطىء فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى- وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ثُمَّ يَقْسِمُ الْفِطْرَةَ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى الْمُصَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ» وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ النُّزُولِ، بَلْ فِيهِمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: هِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ، يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهَا مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ التَّزَكِّي، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ تَكُنْ فِي مَكَّةَ صَلَاةُ عِيدٍ وَلَا فِطْرَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قَالَ: أَعْطَى صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْعِيدِ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قَالَ: خَرَجَ إِلَى الْعِيدِ وَصَلَّى. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي إِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى- وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى لِلْفِطْرِ؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لِلزَّكَاةِ كُلِّهَا. ثُمَّ عَاوَدْتُهُ فَقَالَ لِي: وَالصَّدَقَاتُ

كُلُّهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ عَرْفَجَةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: اسْتَقْرَأْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فَلَمَّا بَلَغَ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ، وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: آثَرْنَا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: آثَرْنَا الدُّنْيَا لِأَنَّا رَأَيْنَا زِينَتَهَا وَنِسَاءَهَا وَطَعَامَهَا وَشَرَابَهَا، وَزُوِيَتْ عَنَّا الْآخِرَةُ فَاخْتَرْنَا هَذَا الْعَاجِلَ وَتَرَكْنَا الْآجِلَ، وَقَالَ: بَلْ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْيَاءِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى - صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ كُلُّهَا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ في الآية قال: نسخت هذا السُّورَةُ مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَفِي لَفْظِ: هَذِهِ السُّورَةِ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ؟ قَالَ: مائة كتاب وأربعة كتب» الحديث.

سورة الغاشية

سورة الغاشية هي ست وعشرون آية، وهي مكية بلا خلاف، أَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْغَاشِيَةِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَقْرَأُ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالْغَاشِيَةَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى نَارًا حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) قَوْلُهُ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هَلْ هُنَا بِمَعْنَى قَدْ، وَبِهِ قَالَ قُطْرُبٌ، أَيْ: قَدْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وَهِيَ الْقِيَامَةُ لِأَنَّهَا تَغْشَى الْخَلَائِقَ بِأَهْوَالِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ بَقَاءَ هَلْ هُنَا عَلَى مَعْنَاهَا الِاسْتِفْهَامِيِّ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّعْجِيبِ مِمَّا فِي خَبَرِهِ، وَالتَّشْوِيقِ إِلَى اسْتِمَاعِهِ أَوْلَى. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَاشِيَةِ هُنَا الْقِيَامَةُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْغَاشِيَةُ: النَّارُ تَغْشَى وُجُوهَ الْكُفَّارِ كَمَا في قوله: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ «1» . وَقِيلَ: الْغَاشِيَةُ أَهْلُ النَّارِ لِأَنَّهُمْ يَغْشُونَهَا وَيَقْتَحِمُونَهَا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى إِنْ لَمْ يَكُنْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، فَقَدْ أَتَاكَ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هُوَ؟ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا نَحْوِيًّا لِبَيَانِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ كَوْنٍ ثُمَّ وُجُوهٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُتَّصِفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَوُجُوهٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَإِنْ كَانَتْ نَكِرَةً لِوُقُوعِهِ فِي مَقَامِ التَّفْصِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ، وَفِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ. وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: يَوْمَ غَشَيَانِ الْغَاشِيَةِ، وَالْخَاشِعَةُ: الذَّلِيلَةُ الْخَاضِعَةُ، وَكُلُّ مُتَضَائِلٍ سَاكِنٍ يُقَالُ لَهُ خَاشِعٌ، يُقَالُ: خَشَعَ الصَّوْتُ إِذَا خَفِيَ، وَخَشَعَ فِي صِلَاتِهِ إِذَا تَذَلَّلَ وَنَكَّسَ رَأْسَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ هنا أصحابها.

_ (1) . إبراهيم: 50.

قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْكُفَّارَ لِأَنَّهُمْ تَكَبَّرُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: خَاشِعَةٌ فِي النَّارِ، وَقِيلَ: أَرَادَ وُجُوهَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى الْخُصُوصِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَوْلُهُ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ مَعْنَى عَامِلَةٍ أَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلًا شَاقًّا. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا دَأَبَ فِي سَيْرِهِ: عَمِلَ يَعْمَلُ عَمَلًا، وَيُقَالُ لِلسَّحَابِ إِذَا دَامَ بَرْقُةُ: قَدْ عَمِلَ يَعْمَلُ عَمَلًا. قِيلَ: وَهَذَا الْعَمَلُ هُوَ جَرُّ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالْخَوْضُ فِي النَّارِ. ناصِبَةٌ أَيْ: تَعِبَةٌ، يُقَالُ: نَصِبَ بِالْكَسْرِ يَنْصَبُ نَصَبًا إِذَا تَعِبَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ تَعِبَةٌ لِمَا تُلَاقِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: عامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا إِذْ لَا عَمَلَ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: تَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَتَنْصَبُ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا نَاصِبَةٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ قَتَادَةُ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَكَبَّرَتْ فِي الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَأَعْمَلَهَا اللَّهُ، وَأَنْصَبَهَا فِي النَّارِ بِجَرِّ السَّلَاسِلِ الثِّقَالِ وَحَمْلِ الْأَغْلَالِ وَالْوُقُوفِ حُفَاةً عُرَاةً فِي الْعَرَصَاتِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1» قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمْ تَعْمَلْ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ تَنْصَبْ فَأَعْمَلَهَا وَأَنْصَبَهَا فِي جَهَنَّمَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ. وَقَالَ أَيْضًا: يُكَلَّفُونَ ارْتِقَاءَ جَبَلٍ مِنْ حَدِيدٍ فِي جَهَنَّمَ، فَيَنْصَبُونَ فِيهَا أَشَدَّ مَا يَكُونُ مِنَ النَّصَبِ بِمُعَالَجَةِ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ والخوض في النار كما تخوض فِي الْوَحْلِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرَانِ آخَرَانِ لِلْمُبْتَدَأِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، وَهُمَا خَبَرَانِ لَهُ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصَنٍ وَعِيسَى وَحُمَيْدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِنَصْبِهِمَا عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى الذَّمِّ. وَقَوْلُهُ: تَصْلى نَارًا حامِيَةً خَبَرٌ آخَرُ لِلْمُبْتَدَأِ، أَيْ: تَدْخُلُ نَارًا مُتَنَاهِيَةً فِي الْحَرِّ، يُقَالُ: حَمِيَ النَّهَارُ وَحَمِيَ التَّنُّورُ، أَيِ: اشْتَدَّ حَرُّهُمَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ: اشْتَدَّ حَمْيُ النَّهَارِ وَحَمْوُهُ بِمَعْنًى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تَصْلَى» بِفَتْحِ التَّاءِ مبنيا للفاعل. وقرأ أبو عمرة ويعقوب وأبو بكر بضمها مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْوُجُوهِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ، وَالْمُرَادُ أَصْحَابُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَكَذَا الضَّمِيرُ تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ وَالْمُرَادُ بِالْعَيْنِ الْآنِيَةِ: الْمُتَنَاهِيَةُ فِي الْحَرِّ، وَالْآنِيُّ: الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، مِنَ الْإِينَاءِ «2» بِمَعْنَى التَّأَخُّرِ، يُقَالُ: آنَاهُ يُؤْنِيهَ إِينَاءً، أَيْ: أَخَّرَهُ وَحَبَسَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «3» قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَوْ وَقَعَتْ مِنْهَا نقطة عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَابَتْ. وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شَرَابَهُمْ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ طَعَامِهِمْ فَقَالَ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الشَّوْكِ يُقَالُ لَهُ الشِّبْرِقُ فِي لِسَانِ قُرَيْشٍ إِذَا كَانَ رَطْبًا، فَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ الضَّرِيعُ. كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. قِيلَ: وَهُوَ سُمٌّ قَاتِلٌ، وَإِذَا يَبِسَ لَا تَقْرَبُهُ دَابَّةٌ وَلَا تَرْعَاهُ، وَقِيلَ: هُوَ شَيْءٌ يَرْمِي بِهِ الْبَحْرُ يُسَمَّى الضَّرِيعَ مِنْ أَقْوَاتِ الْأَنْعَامِ، لَا مِنْ أَقْوَاتِ النَّاسِ، فَإِذَا رَعَتْ مِنْهُ الْإِبِلُ لَمْ تَشْبَعْ وَهَلَكَتْ هُزَالًا. قَالَ الْخَلِيلُ: الضَّرِيعُ نَبَاتٌ أَخْضَرُ مُنْتِنُ الرِّيحِ يَرْمِي بِهِ الْبَحْرُ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ قَالُوا: بالأوّل،

_ (1) . المعارج: 4. (2) . الصواب أن يقول: من: أنى يأني، كرمى يرمي. وليس من الإيناء مصدر آنى بمعنى آخر. (3) . الرّحمن: 44.

وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ: رَعَى الشِّبْرَقَ الرَّيَّانَ حَتَّى إِذَا ذَوَى ... وَعَادَ ضَرِيعًا بَانَ عَنْهُ النّحائص «1» وقال الهذلي يذكر إبلاء وسوء مرعاها: وحبسن في هزم الضّريع فكلّها ... حدباء دامية اليدين حرود «2» وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الضَّرِيعُ: الْحِجَارَةُ، وَقِيلَ: هُوَ شَجَرَةٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هو بَعْضُ مَا أَخَفَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ طَعَامٌ يَضْرَعُونَ عِنْدَهُ وَيَذِلُّونَ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ بِالْخَلَاصِ مِنْهُ، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ آكِلَهُ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يُعْفَى عَنْهُ لِكَرَاهَتِهِ وَخُشُونَتِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: قَدْ يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الضَّارِعِ وَهُوَ الذَّلِيلُ، أَيْ: مِنْ شُرْبِهِ يَلْحَقُهُ ضَرَاعَةٌ وَذِلَّةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: هُوَ الزَّقُّومُ، وَقِيلَ: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ- وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ «3» وَالْغِسْلِينُ غَيْرُ الضَّرِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِأَنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ طَعَامُهُ الضَّرِيعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَامُهُ الْغِسْلِينُ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ الضَّرِيعَ فَقَالَ: لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أَيْ: لَا يُسْمِنُ الضَّرِيعُ آكِلَهُ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ مَا بِهِ مِنَ الْجُوعِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ إِبِلَنَا تَسْمَنُ مِنَ الضَّرِيعِ، فَنَزَلَتْ: لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وَكَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ هَذَا، فَإِنَّ الْإِبِلَ لَا تَأْكُلُ الضَّرِيعَ وَلَا تَقْرَبُهُ. وَقِيلَ: اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ فَظَنُّوهُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّبَاتِ النَّافِعِ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ بَيَانِ حَالِ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أَيْ: ذَاتُ نِعْمَةٍ وَبَهْجَةٍ، وَهِيَ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ صَارَتْ وُجُوهُهُمْ نَاعِمَةً لِمَا شَاهَدُوا مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي يَفُوقُ الْوَصْفَ، وَمِثْلُهُ قوله: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «4» ثُمَّ قَالَ: لِسَعْيِها راضِيَةٌ أَيْ: لِعَمَلِهَا الَّذِي عَمِلَتْهُ فِي الدُّنْيَا رَاضِيَةٌ لِأَنَّهَا قَدْ أُعْطِيَتْ مِنَ الْأَجْرِ مَا أَرْضَاهَا وَقَرَّتْ بِهِ عُيُونُهَا، وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ هُنَا أَصْحَابُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أَيْ عَالِيَةِ الْمَكَانِ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى غيرها من الأمكنة، أو عالية لِأَنَّ فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَسْمَعُ بِفَتْحٍ الْفَوْقِيَّةِ وَنَصْبِ لَاغِيَةً، أَيْ: لَا تَسْمَعُ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ، أَوْ لَا تَسْمَعُ تِلْكَ الْوُجُوهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ لَاغِيَةٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِالْفَوْقِيَّةِ مَضْمُومَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ لَاغِيَةٍ. وَقَرَأَ الْفَضْلُ وَالْجَحْدَرِيُّ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ لَاغِيَةٍ، وَاللَّغْوُ: الْكَلَامُ السَّاقِطُ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: أَيْ لَا تَسْمَعُ فِيهَا كَلِمَةَ لَغْوٍ.

_ (1) . «النحائص» : جمع نحوص، وهي الأتان الوحشية التي في بطنها ولد. (2) . «هزيم الضريع» : ما تكسر منه. «الحدباء» : الناقة التي بدت حراقفها وعظم ظهرها. «الحرود» : التي لا تكاد تدرّ. (3) . الحاقة: 35- 36. (4) . المطففين: 24.

قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ وَالْكُفْرُ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيَ الشَّتْمُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَسْمَعُ فِيهَا حَالِفًا يَحْلِفُ بِكَذِبٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تَسْمَعُ فِي الْجَنَّةِ حَالِفًا بِيَمِينٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا: لَا تَسْمَعُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَلِمَةً تُلْغَى لِأَنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِالْحِكْمَةِ وَحَمْدِ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الدَّائِمِ، وَهَذَا أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ هَذَا بِنَوْعٍ مِنَ اللَّغْوِ خَاصٍّ إِلَّا بِمُخَصَّصٍ يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ، وَلَاغِيَةٌ: إِمَّا صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: كَلِمَةٌ لَاغِيَةٌ، أَوْ نَفْسٌ لَاغِيَةٌ، أَوْ مَصْدَرٌ، أَيْ: لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَغْوًا فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ أَنَّ فِيهَا عُيُونًا، وَالْعَيْنُ هُنَا بِمَعْنَى: الْعُيُونِ كما في قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ «1» وَمَعْنَى جَارِيَةٍ أَنَّهَا تَجْرِي مِيَاهُهَا وَتَتَدَفَّقُ بِأَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْتَلَذَّةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا أَدْرِي بِمَاءٍ أَوْ بِغَيْرِهِ فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أَيْ: عَالِيَةٌ مُرْتَفِعَةُ السُّمْكِ، أَوْ عَالِيَةُ الْقَدْرِ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَكْوَابَ جَمْعُ كُوبٍ، وَأَنَّهُ الْقَدَحُ الَّذِي لَا عُرْوَةَ لَهُ، وَمَعْنَى مَوْضُوعَةٌ: أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَشْرَبُونَ مِنْهَا وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ النَّمَارِقُ: الْوَسَائِدُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَاحِدَتُهَا نُمْرُقَةٌ بِضَمِّ النُّونِ، وَزَادَ الْفَرَّاءُ سَمَاعًا عَنِ الْعَرَبِ نِمْرِقَةٌ بِكَسْرِهَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَسَائِدُ مَصْفُوفَةٌ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِنَّا لَنُجْرِي الْكَأْسَ بَيْنَ شَرُوبِنَا ... وَبَيْنَ أَبِي قَابُوسَ فَوْقَ النَّمَارِقِ وَقَالَ الْآخَرُ: كُهُولٌ وَشُبَّانٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ ... عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَنَمَارِقِ قَالَ فِي الصِّحَاحِ: النُّمْرُقُ وَالنِّمْرِقَةُ: وِسَادَةٌ صَغِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ النِّمْرِقَةُ بِالْكَسْرِ لُغَةٌ حَكَاهَا يَعْقُوبُ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ يعني البسط، واحدها: زربيّة. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: الزَّرَابِيُّ: الطَّنَافِسُ الَّتِي لَهَا خَمْلٌ رَقِيقٌ، وَاحِدُهَا زَرْبِيَّةٌ، وَالْمَبْثُوثَةُ: الْمَبْسُوطَةُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهَا مفرقة في المجالس. وبه قال القتبيّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى مَبْثُوثَةٍ: كَثِيرَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْبَثِّ: التَّفَرُّقُ مَعَ كَثْرَةٍ، وَمِنْهُ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ «2» . أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِمَّا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَالْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَكَذَا مَا بَعْدَهَا، وَكَيْفَ مَنْصُوبَةٌ بِمَا بَعْدَهَا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْمَعْنَى: أَيُنْكِرُونَ أَمْرَ الْبَعْثِ وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ الَّتِي هِيَ غَالِبُ مَوَاشِيهِمْ وَأَكْبَرُ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَيْفَ خُلِقَتْ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ مِنْ عِظَمِ جُثَّتِهَا وَمَزِيدِ قُوَّتِهَا وَبَدِيعِ أَوْصَافِهَا. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: إِنَّمَا خَصَّ الْإِبِلَ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ تَبْرَكُ فَتُحْمَلُ عَلَيْهَا الْحُمُولَةُ، وَغَيْرُهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ: قال الزّجّاج:

_ (1) . التكوير: 14. [.....] (2) . البقرة: 164.

نبّههم على عظيم من خلقه قد ذلّه الله لِلصَّغِيرِ يَقُودُهُ وَيُنِيخُهُ وَيُنْهِضُهُ وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ الثَّقِيلَ مِنَ الْحِمْلِ وَهُوَ بَارِكٌ، فَيَنْهَضُ بِثِقَلِ حِمْلِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَوَامِلِ غَيْرِهِ، فَأَرَاهُمْ عَظِيمًا مِنْ خَلْقِهِ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِهِ. وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقِيلَ لَهُ: الْفِيلُ أَعْظَمُ فِي الْأُعْجُوبَةِ، فَقَالَ: أَمَّا الْفِيلُ فَالْعَرَبُ بَعِيدَةُ الْعَهْدِ بِهِ، ثُمَّ هُوَ خِنْزِيرٌ لَا يُرْكَبُ ظَهْرُهُ وَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَا يُحْلَبُ دَرُّهُ، وَالْإِبِلُ مِنْ أَعَزِّ مَالِ الْعَرَبِ وَأَنْفَسِهِ، تَأْكُلُ النَّوَى وَالْقَتَّ، وَتُخْرِجُ اللَّبَنَ، وَيَأْخُذُ الصَّبِيُّ بِزِمَامِهَا فَيَذْهَبُ بِهَا حَيْثُ شَاءَ مَعَ عِظَمِهَا فِي نَفْسِهَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْإِبِلُ هُنَا هِيَ الْقِطَعُ الْعَظِيمَةُ مِنَ السَّحَابِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَ خُلِقَتْ بِالتَّخْفِيفِ عَنَى بِهِ الْبَعِيرَ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ عَنَى بِهِ السَّحَابَ. وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ أَيْ: رُفِعَتْ فَوْقَ الْأَرْضِ بِلَا عَمَدٍ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنَالُهُ الْفَهْمُ وَلَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ، وَقِيلَ: رُفِعَتْ فَلَا يَنَالُهَا شَيْءٌ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ عَلَى الْأَرْضِ مُرْسَاةً رَاسِخَةً لَا تميد وَلَا تَزُولُ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أَيْ: بُسِطَتْ، وَالسَّطْحُ: بَسْطُ الشَّيْءِ، يُقَالُ: لِظَهْرِ الْبَيْتِ إِذَا كَانَ مُسْتَوِيًا: سَطْحٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: سُطِحَتْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ عليّ بن أبي طالب وابن السّميقع وَأَبُو الْعَالِيَةِ: خَلَقْتُ وَرَفَعْتُ وَنَصَبْتُ وَسَطَحْتُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَضَمِّ التَّاءِ فِيهَا كُلِّهَا. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّذْكِيرِ فَقَالَ: فَذَكِّرْ وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ: فَعِظْهُمْ يَا مُحَمَّدُ وَخَوِّفْهُمْ، ثُمَّ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالتَّذْكِيرِ فَقَالَ: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا ذَلِكَ، ولَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ الْمُصَيْطِرُ وَالْمُسَيْطِرُ بِالسِّينِ وَالصَّادِ: الْمُسَلَّطُ عَلَى الشَّيْءِ لِيُشْرِفَ عَلَيْهِ وَيَتَعَهَّدَ أَحْوَالَهُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ، أَيْ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ حَتَّى تُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمُصَيْطِرٍ بِالصَّادِ، وَقَرَأَ هِشَامٌ وَقُنْبُلٌ فِي رِوَايَةٍ بِالسِّينِ. وَقَرَأَ خَلَفٌ بِإِشْمَامِ الصَّادِ زَايًا. وَقَرَأَ هَارُونُ الْأَعْوَرُ بِفَتْحِ الطَّاءِ اسْمَ مَفْعُولٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ تَوَلَّى عَنِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ الدَّائِمُ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَذَكِّرْ أَيْ: فَذَكِّرْ كُلَّ أَحَدٍ إِلَّا مَنِ انْقَطَعَ طَمَعُكَ عَنْ إِيمَانِهِ وَتَوَلَّى فَاسْتَحَقَّ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَإِنَّمَا قَالَ: الْأَكْبَرَ لِأَنَّهُمْ قَدْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالْجُوعِ وَالْقَحْطِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «فَإِنَّهُ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ» وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: «أَلَا مَنْ تَوَلَّى» عَلَى أَنَّهَا أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ وَالِاسْتِفْتَاحِ إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أَيْ: رُجُوعَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، يُقَالُ آبَ يَؤُوبُ: إِذَا رَجَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عبيد بن الأبرص: وكلّ ذي غيبة يؤوب ... وَغَائِبُ الْمَوْتِ لَا يَؤُوبُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِيابَهُمْ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ التَّشْدِيدُ وَلَوْ جَازَ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَمَّا إِيابَهُمْ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ فَإِنَّهُ شَاذٌّ لَمْ يُجِزْهُ أَحَدٌ غَيْرُ الزَّجَّاجِ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ يَعْنِي جَزَاءَهُمْ بعد رجوعهم إلى الله بالبعث، و «ثم» لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ لِبُعْدِ مَنْزِلَةِ الْحِسَابِ فِي الشِّدَّةِ عَنْ مَنْزِلَةِ الْإِيَابِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْغَاشِيَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ قَالَ: السَّاعَةُ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ- عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قَالَ: تَعْمَلُ وَتَنْصَبُ فِي النَّارِ تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ قال: هي التي قد طال أنيها لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قَالَ: الشِّبْرِقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ- عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قَالَ: يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَخْشَعُ وَلَا يَنْفَعُهَا عَمَلُهَا تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ قَالَ: قَدْ أَنَى غَلَيَانُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: تَصْلى نَارًا حامِيَةً قَالَ: حَارَّةٌ، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ قَالَ: انْتَهَى حَرُّهَا لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ يَقُولُ: مِنْ شَجَرٍ مِنْ نَارٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَيْضًا إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قَالَ: الشِّبْرِقُ الْيَابِسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً يقول: لا تسمع أذى ولا باطل وَفِي قَوْلِهِ: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ قَالَ: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَنَمارِقُ قَالَ: مَجَالِسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وَنَمارِقُ قَالَ: الْمَرَافِقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ قَالَ: جَبَّارٌ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ قَالَ: حِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ عَنْهُ أَيْضًا لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ فَقَالَ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ قال: مرجعهم

_ (1) . التوبة: 5.

سورة الفجر

سورة الفجر هي ثلاثون آية، وقيل: تسع وعشرون آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ، وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ وَالْفَجْرِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّى مُعَاذٌ صَلَاةً، فَجَاءَ رَجُلٌ فَصَلَّى مَعَهُ فَطَوَّلَ، فَصَلَّى فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ: مُنَافِقٌ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أُصَلِّي فَطَوَّلَ عَلَيَّ، فَانْصَرَفْتُ فَصَلَّيْتُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَعَلَفْتُ نَاضِحِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْفَجْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا أَقْسَمَ بِغَيْرِهَا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْفَجْرِ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ هُنَا فَقِيلَ: هُوَ الْوَقْتُ الْمَعْرُوفُ، وَسُمِّيَ فَجْرًا لِأَنَّهُ وَقْتُ انْفِجَارِ الظُّلْمَةِ عَنِ النَّهَارِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ فَجْرُ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ لِأَنَّ مِنْهُ تَتَفَجَّرُ السَّنَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرِيدُ يَوْمَ النَّحْرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَجْرُ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ قَرَنَ الْأَيَّامَ بِهِ فَقَالَ: وَلَيالٍ عَشْرٍ أي: ليال مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَبِهِ قَالَ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَصَلَاةُ الْفَجْرِ أَوْ رَبُّ الْفَجْرِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَجَوَابُ هَذَا الْقَسَمِ وَمَا بَعْدَهُ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ كَذَا قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، أَيْ: لَيُجَازِيَنَّ كُلَّ أَحَدٍ بِمَا عَمِلَ، أَوْ لَيُعَذِّبَنَّ، وَقَدَّرَهُ أَبُو حَيَّانَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ خَاتِمَةُ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، أَيْ: وَالْفَجْرِ إِلَخْ ... لِإِيَابِهِمْ إِلَيْنَا وَحِسَابِهِمْ عَلَيْنَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَأَضْعَفُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَوَابَ من قَوْلُهُ: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ وَأَنَّ هَلْ بِمَعْنَى قَدْ لِأَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُقْسَمًا عَلَيْهِ أَبَدًا وَلَيالٍ عَشْرٍ هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّهَا الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ: الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِلَى عَاشِرِهَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيالٍ بِالتَّنْوِينِ، وَ «عَشْرٍ» صِفَةٌ لَهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَيَالِي عَشْرٍ بِالْإِضَافَةِ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ لَيَالِي أَيَّامِ عَشْرٍ، وَكَانَ حَقُّهُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ عشرة،

لِأَنَّ الْمَعْدُودَ مُذَكَّرٌ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِذَا حُذِفَ الْمَعْدُودُ جَازَ الْوَجْهَانِ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ يَعُمَّانِ كُلَّ الْأَشْيَاءِ شَفْعَهَا وَوَتْرَهَا، وَقِيلَ: شَفْعُ اللَّيَالِي وَوَتْرُهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ شفع الصلاة ووترها، منها شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ. وَقِيلَ: الشَّفْعُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَالْوَتْرُ: لَيْلَةُ يَوْمِ النَّحْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: الشَّفْعُ: الْخَلْقُ، وَالْوَتْرُ: اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَمَسْرُوقٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: هِيَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فِيهَا رَكْعَتَانِ وَالْوَتْرُ الرَّكْعَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الشَّفْعُ: عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْوَتْرُ: أَيَّامُ مِنًى الثَّلَاثَةُ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ. وَقِيلَ: هُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ، لِأَنَّ آدَمَ كَانَ وَتْرًا فَشُفِعَ بِحَوَّاءَ. وَقِيلَ: الشَّفْعُ: دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ وَهِيَ ثَمَانٍ، وَالْوَتْرُ: دَرَكَاتُ النَّارِ وَهِيَ سَبْعٌ، وَبِهِ قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ. وَقِيلَ: الشَّفْعُ الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، وَالْوَتْرُ: الْكَعْبَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الشَّفْعُ: الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي، وَالْوَتْرُ: الْيَوْمُ الَّذِي لَا لَيْلَةَ بَعْدَهُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْوَتْرُ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الشَّفْعُ أَيْضًا لِقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ «1» الْآيَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: الْعَدَدُ كُلُّهُ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يَخْلُو عَنْهُمَا. وَقِيلَ: الشفع: مسجد مكة والمدنية، وَالْوَتْرُ: مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقِيلَ: الشَّفْعُ حَجُّ الْقِرَانِ، وَالْوَتْرُ: الْإِفْرَادُ. وَقِيلَ: الشَّفْعُ: الْحَيَوَانُ لِأَنَّهُ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، وَالْوَتْرُ: الْجَمَادُ. وَقِيلَ: الشَّفْعُ: مَا سُمِّيَ، وَالْوَتْرُ: مَا لَا يُسَمَّى. وَلَا يَخْفَاكَ مَا فِي غَالِبِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنَ السُّقُوطِ البين والضعف الظاهر، والإنكار فِي التَّعْيِينِ عَلَى مُجَرَّدِ الرَّأْيِ الزَّائِفِ، وَالْخَاطِرِ الْخَاطِئِ. وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُمَا مَعْرُوفَانِ وَاضِحَانِ، فَالشَّفْعُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الزَّوْجُ، وَالْوَتْرُ: الْفَرْدُ. فَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ إِمَّا نَفْسُ الْعَدَدِ أَوْ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ بِأَنَّهُ شَفْعٌ أَوْ وَتْرٌ. وَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ نَفْسُهُ دُونَ غَيْرِهِ فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا تَنَاوَلَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ تَنَاوُلِهَا لِغَيْرِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَالْوَتْرُ» بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْفَتْحُ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْكَسْرُ لُغَةُ تَمِيمٍ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كُلُّ فَرْدِ وِتْرٌ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَفْتَحُونَ فَيَقُولُونَ وَتْرٌ فِي الْفَرْدِ. وَحَكَى يُونُسُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ التَّاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لُغَةً ثَالِثَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَقَلَ كَسْرَةَ الرَّاءِ إِلَى التَّاءِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَسْرِ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِحَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ وَإِثْبَاتِهَا فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَيَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِهَا فِي الوصل والوقف. قال الخليل: تسقط الياء مُوَافَقَةً لِرُؤُوسِ الْآيِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْحَذْفُ أَحَبُّ إِلَيَّ لِأَنَّهَا فَاصِلَةٌ وَالْفَوَاصِلُ تُحْذَفُ مِنْهَا الْيَاءَاتُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: قَدْ تَحْذِفُ الْعَرَبُ الْيَاءَ وَتَكْتَفِي بِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا، وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمًا ... جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدّما

_ (1) . المجادلة: 7.

مَا تَلِيقُ أَيْ: مَا تُمْسِكُ. قَالَ الْمُؤَرِّجُ: سَأَلْتُ الْأَخْفَشَ عَنِ الْعِلَّةِ فِي إِسْقَاطِ الْيَاءِ مِنْ يَسْرِ فَقَالَ: لَا أُجِيبُكَ حَتَّى تَبِيتَ عَلَى بَابِ دَارِي سَنَةً، فَبَتَّ عَلَى بَابِ دَارِهِ سَنَةً فَقَالَ: اللَّيْلُ لَا يَسْرِي، وَإِنَّمَا يُسْرَى فِيهِ، فَهُوَ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَتِهِ، وَكُلُّ مَا صَرَفْتَهُ عَنْ جِهَتِهِ بَخَسْتَهُ مِنْ إِعْرَابِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «1» وَلَمْ يَقُلْ بَغِيَّةً لِأَنَّهُ صَرَفَهَا مِنْ بَاغِيَةٍ. وَفِي كَلَامِ الْأَخْفَشِ هَذَا نَظَرٌ، فَإِنَّ صَرْفَ الشَّيْءِ عَنْ مَعْنَاهُ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ لَا يَسْتَلْزِمُ صَرْفَ لَفْظِهِ عَنْ بَعْضِ مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَلَزِمَ فِي كُلِّ الْمَجَازَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ، وَالْأَصْلُ ها هنا إِثْبَاتُ الْيَاءِ لِأَنَّهَا لَامُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمَرْفُوعِ، وَلَمْ تُحْذَفْ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِاتِّبَاعِ رَسْمِ الْمُصْحَفِ وَمُوَافَقَةِ رُؤُوسِ الْآيِ إِجْرَاءً لِلْفَوَاصِلِ مجرى القوافي، ومعنى وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ إذا يمضي، كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ «2» . وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ «3» وَقِيلَ: مَعْنَى يَسْرِ: يَسَارٌ فِيهِ، كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ نَائِمٌ وَنَهَارٌ صَائِمٌ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ «4» : لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلَانَ فِي السُّرَى ... وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ وَبِهَذَا قال الأخفش والقتبي وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَعَانِي، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أي جاء وأقبل. وقال النَّخَعِيُّ: أَيِ اسْتَوَى. قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ ومحمد ابن كَعْبٍ: هِيَ لَيْلَةُ الْمُزْدَلِفَةِ خَاصَّةً لِاخْتِصَاصِهَا بِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا لِطَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لِسَرَايَةِ الرَّحْمَةِ فِيهَا. وَالرَّاجِحُ عَدَمُ تَخْصِيصِ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي دُونَ أُخْرَى هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِتَقْرِيرِ تَعْظِيمِ مَا أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِهِ وَتَفْخِيمِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى تِلْكَ الْأُمُورِ، وَالتَّذْكِيرُ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: هَلْ فِي ذَلِكَ الْمَذْكُورِ، مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَقْسَمْنَا بِهَا قَسَمٌ، أَيْ مُقْسَمٌ بِهِ حَقِيقٌ بِأَنْ تُؤَكَّدَ بِهِ الْأَخْبَارُ لِذِي حِجْرٍ أَيْ: عَقْلٍ وَلُبٍّ، فَمَنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ وَلُبٍّ عَلِمَ أَنَّ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُقْسَمَ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا قوله: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «5» . قَالَ الْحَسَنُ: لِذِي حِجْرٍ أَيْ: لِذِي حِلْمٍ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: لِذِي سِتْرٍ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْحِجْرُ: الْعَقْلُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْكُلُّ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، لِذِي عَقْلٍ وَلِذِي حِلْمٍ وَلِذِي سِتْرٍ، الْكُلُّ بِمَعْنَى الْعَقْلِ. وَأَصْلُ الْحِجْرِ: الْمَنْعُ، يُقَالُ لِمَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ وَمَنَعَهَا: إِنَّهُ لَذُو حِجْرٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَجَرُ لِامْتِنَاعِهِ بِصَلَابَتِهِ، وَمِنْهُ حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ: مَنَعَهُ. قَالَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: إِنَّهُ لَذُو حِجْرٍ إِذَا كَانَ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ ضَابِطًا لَهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِشْهَادِ مَا وَقَعَ مِنْ عَذَابِهِ عَلَى بَعْضِ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ تَحْذِيرًا لِلْكُفَّارِ فِي عَصْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَخْوِيفًا لهم أن يصيبهم ما أصابهم

_ (1) . مريم: 28. (2) . المدثر: 33. (3) . التكوير: 17. (4) . هو جرير. (5) . الواقعة: 76.

فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ- إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ: عَادٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِرَمَ عَطْفَ بَيَانٍ لِعَادٍ، وَالْمُرَادُ بِعَادٍ اسْمُ أَبِيهِمْ، وَإِرَمُ: اسْمُ الْقَبِيلَةِ أو بدلا مِنْهُ، وَامْتِنَاعُ صَرْفِ إِرَمَ لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيثِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِعَادٍ أَوْلَادُ عَادٍ، وَهُمْ عَادٌ الْأُولَى، وَيُقَالُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ عَادٌ الْأُخْرَى، فَيَكُونُ ذِكْرُ إِرَمَ عَلَى طَرِيقَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ أَوِ الْبَدَلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَادٌ الْأُولَى لَا عَادٌ الْأُخْرَى، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ: أَيْ أَهْلِ إِرَمَ، أَوْ سِبْطِ إِرَمَ؟ فَإِنَّ إِرَمَ هُوَ جَدُّ عَادٍ، لِأَنَّهُ عاد بن إرم بن عوص بن سام ابن نُوحٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ بِإِضَافَةِ عَادٍ إلى إرم. وقرأ الْجُمْهُورُ: إِرَمَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمِيمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ إِرَمَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ، وَقَرَأَ مُعَاذٌ بِسُكُونِ الرَّاءِ تَخْفِيفًا، وَقُرِئَ بِإِضَافَةِ إِرَمَ إِلَى ذَاتِ الْعِمَادِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ شَبَّهَهُمْ بِالْإِرَمِ الَّتِي هِيَ الْأَعْلَامُ وَاحِدُهَا أَرَمُ، وَفِي الْكَلَامِ تقديم وتأخير، أي: والفجر كذا وَكَذَا إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أَلَمْ تَرَ، أَيْ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إِلَى مَا فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَقَدْ كَانَ أَمْرُ عَادٍ وَثَمُودَ مَشْهُورًا عِنْدَ الْعَرَبِ لِأَنَّ دِيَارَهُمْ مُتَّصِلَةٌ بِدِيَارِ الْعَرَبِ، وَكَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْرَ فِرْعَوْنَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: إِرَمُ: أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ عَادٍ، وَقِيلَ: هُمَا عَادَانِ، فَالْأُولَى هِيَ إِرَمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الرُّقَيَّاتِ: مَجْدًا تَلِيدًا بَنَاهُ أَوَّلُهُمْ ... أَدْرَكَ عَادًا وَقَبْلَهُ إرما قَالَ مَعْمَرٌ: إِرَمُ إِلَيْهِ مُجْتَمَعُ عَادٍ وَثَمُودَ، وكان يقال: عاد إرم وعاد وثمود، وَكَانَتِ الْقَبِيلَتَانِ تُنْسَبُ إِلَى إِرَمَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُمَا عَادَانِ، فَالْأُولَى إِرَمُ. وَمَعْنَى ذَاتِ الْعِمَادِ: ذَاتُ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قُوَّةِ الْأَعْمِدَةِ، كَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: إِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عُمُدٍ سَيَّارَةٍ فِي الرَّبِيعِ، فَإِذَا هَاجَ النَّبْتُ رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ذَاتِ الْعِمَادِ يَعْنِي طُولَهُمْ، كَانَ طُولُ الرجل منهم اثني عشرة ذِرَاعًا، وَيُقَالُ رَجُلٌ طَوِيلُ الْعِمَادِ: أَيِ الْقَامَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ذَاتِ الْعِمَادِ ذَاتِ الطُّولِ، يقال رجل مُعَمَّدٌ: إِذَا كَانَ طَوِيلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيْضًا كَانَ عِمَادًا لِقَوْمِهِمْ، يُقَالُ: فُلَانٌ عَمِيدُ الْقَوْمِ وَعَمُودُهُمْ، أَيْ: سَيِّدُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ذَاتِ الْعِمَادِ يَعْنِي إِحْكَامَ الْبُنْيَانِ بِالْعَمْدِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالْعِمَادُ: الْأَبْنِيَةُ الرَّفِيعَةُ، تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: وَنَحْنُ إِذَا عِمَادُ الْحَيِّ خَرَّتْ ... عَلَى الْإِخْفَاضِ نَمْنَعُ مَنْ يَلِينَا وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ: هِيَ دِمَشْقُ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ هَذِهِ صِفَةٌ لِعَادٍ، أَيْ: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً «1» أَوْ صِفَةٌ لِلْقَرْيَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إن إرم اسم

_ (1) . فصلت: 15.

لقريتهم أو للأرض التي كانوا فيها. والأولى أَوْلَى. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ الَّتِي لَمْ يُخْلَقُ مِثْلُهُمْ فِي الْبِلَادِ وَقِيلَ: الْإِرَمُ: الْهَلَاكُ. قَالَ الضَّحَّاكُ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ: أَيْ أَهْلَكَهُمْ فَجَعَلَهُمْ رَمِيمًا، وَبِهِ قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ. وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ اسْمُ مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قُصُورُهَا وَدُورُهَا وَبَسَاتِينُهَا، وَأَنَّ حَصْبَاءَهَا جَوَاهِرُ وَتُرَابَهَا مِسْكٌ، وَلَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ وَلَا فِيهَا سَاكِنٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَأَنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْتَقِلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، فَتَارَةً تَكُونُ بِالْيَمَنِ، وَتَارَةً تَكُونُ بِالشَّامِ، وَتَارَةً تَكُونُ بِالْعِرَاقِ، وَتَارَةً تَكُونُ بِسَائِرِ الْبِلَادِ، وَهَذَا كَذِبٌ بَحْتٌ لَا ينفق على من له أدنى تمييز. وَزَادَ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ الله ابن قِلَابَةَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ دَخَلَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ، وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى كَذِبٍ وَافْتِرَاءٌ عَلَى افْتِرَاءٍ، وَقَدْ أُصِيبَ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ بِدَاهِيَةٍ دَهْيَاءَ وَفَاقِرَةٍ عُظْمَى وَرَزِيَّةٍ كُبْرَى مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْكَذَّابِينَ الدجالين الذين يجترءون عَلَى الْكَذِبِ، تَارَةً عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَارَةً عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَتَارَةً عَلَى الصَّالِحِينَ، وَتَارَةً عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَضَاعَفَ هَذَا الشَّرُّ وَزَادَ كَثْرَةً بِتَصَدُّرِ جَمَاعَةٍ مِنَ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِصَحِيحِ الرِّوَايَةِ مِنْ ضَعِيفِهَا مِنْ مَوْضُوعِهَا لِلتَّصْنِيفِ والتفسير للكتاب العزيز، فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة وَالْأَقَاصِيصَ الْمَنْحُولَةَ وَالْأَسَاطِيرَ الْمُفْتَعَلَةَ فِي تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَحَرَّفُوا وَغَيَّرُوا وَبَدَّلُوا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ عَلَى بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا فَلْيَنْظُرْ فِي كِتَابِي الَّذِي سَمَّيْتُهُ: «الْفَوَائِدَ الْمَجْمُوعَةَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ» . ثُمَّ عَطَفَ سُبْحَانَهُ الْقَبِيلَةَ الْآخِرَةَ، وَهِيَ ثَمُودُ عَلَى قَبِيلَةِ عَادٍ فَقَالَ: وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَهُمْ قَوْمُ صَالِحٍ سُمُّوا بِاسْمِ جَدِّهِمْ ثَمُودَ بْنِ عَابِرِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَمَعْنَى جَابُوا الصَّخْرَ: قَطَعُوهُ، وَالْجَوْبُ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ جَابَ الْبِلَادَ: إِذَا قَطَعَهَا، وَمِنْهُ سُمِّيَ جَيْبُ الْقَمِيصِ لِأَنَّهُ جَيْبٌ، أَيْ: قَطْعٌ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَوَّلُ مَنْ نَحَتَ الْجِبَالَ وَالصُّخُورَ ثَمُودُ، فَبَنَوْا مِنَ الْمَدَائِنِ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ مَدِينَةٍ كُلُّهَا من الحجارة، ومنه قوله سبحانه: وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً «1» وَكَانُوا يَنْحِتُونَ الْجِبَالَ وَيَنْقُبُونَهَا وَيَجْعَلُونَ تِلْكَ الْأَنْقَابَ بُيُوتًا يَسْكُنُونَ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: بِالْوادِ مُتَعَلِّقٌ بِجَابُوا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الصَّخْرِ، وَهُوَ وَادِي الْقُرَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثَمُودَ بِمَنْعِ الصَّرْفِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْقَبِيلَةِ، فَفِيهِ التَّأْنِيثُ وَالتَّعْرِيفُ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِالصَّرْفِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِأَبِيهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا بِالْوَادِ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِإِثْبَاتِهَا فِيهِمَا. وَقَرَأَ قُنْبُلٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِإِثْبَاتِهَا فِي الْوَصْلِ دُونَ الْوَقْفِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ أَيْ: ذُو الْجُنُودِ الَّذِينَ لَهُمْ خِيَامٌ كَثِيرَةٌ يَشُدُّونَهَا بِالْأَوْتَادِ، أَوْ جَعَلَ الْجُنُودُ أَنْفُسَهُمْ أَوْتَادًا لِأَنَّهُمْ يَشُدُّونَ الْمَلِكَ كَمَا تَشُدُّ الْأَوْتَادُ الْخِيَامَ، وَقِيلَ: كَانَ لَهُ أَوْتَادٌ يُعَذِّبُ النَّاسَ بِهَا وَيَشُدُّهُمْ إِلَيْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ ص الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ الْمَوْصُولُ صِفَةٌ لِعَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ، أَيْ: طَغَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِي بِلَادِهِمْ وَتَمَرَّدَتْ وَعَتَتْ، وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ بِالْكُفْرِ وَمَعَاصِي اللَّهِ وَالْجَوْرِ عَلَى عِبَادِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ الذين طغوا،

_ (1) . الشعراء: 149.

أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الذَّمِّ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ أَيْ: أَفْرَغَ عَلَيْهِمْ وَأَلْقَى عَلَى تِلْكَ الطَّوَائِفِ سَوْطَ عَذَابٍ، وَهُوَ مَا عَذَّبَهُمْ بِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: جَعَلَ سَوْطَهُ الَّذِي ضَرَبَهُمْ بِهِ الْعَذَابَ، يُقَالُ: صَبَّ عَلَى فُلَانٍ خُلْعَةً، أَيْ: أَلْقَاهَا عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النابغة: فصبّ عليه الله أحسن صنعه ... وكان له بين البريّة ناصرا وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ دِينَهُ ... وَصَبَّ عَلَى الْكُفَّارِ سَوْطَ عَذَابِ وَمَعْنَى سَوْطَ عَذَابٍ: نَصِيبَ عَذَابٍ، وَذِكْرُ السَّوْطِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا أَحَلَّهُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَالسَّوْطِ إِذَا قِيسَ إِلَى سَائِرِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ. وَقِيلَ: ذِكْرُ السَّوْطِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ مَا نَزَلَ بِهِمْ، وَكَانَ السَّوْطُ عِنْدَهُمْ هُوَ نِهَايَةَ مَا يُعَذَّبُ بِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ السَّوْطَ هُوَ عَذَابُهُمُ الَّذِي يُعَذَّبُونَ بِهِ، فَجَرَى لِكُلِّ عَذَابٍ إِذَا كَانَ فِيهِ عِنْدَهُمْ غَايَةُ الْعَذَابِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: عَذَابٌ يُخَالِطُ اللحم والدم، من قولهم: يَسُوطُهُ سَوْطًا، أَيْ: خَلَطَهُ، فَالسَّوْطُ: خَلْطُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: لكنّها خَلَّةً قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجْعٌ وَوَلَعٌ «1» وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَحَارِثُ إِنَّا لَوْ تساط دماؤنا ... تزايلن حَتَّى لَا يَمَسَّ دَمٌ دَمَا وَقَالَ آخَرُ: فَسُطْهَا ذَمِيمَ الرَّأْيِ غَيْرَ مُوَفَّقٍ ... فَلَسْتَ عَلَى تَسْوِيطِهَا بِمُعَانِ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالْأَوْلَى أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَفِيهَا إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ كُفَّارَ قَوْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ، وَمَعْنَى بِالْمِرْصَادِ: أَنَّهُ يَرْصُدُ عَمَلَ كُلِّ إِنْسَانٍ حَتَّى يُجَازِيَهُ عَلَيْهِ بِالْخَيْرِ خَيْرًا وَبِالشَّرِّ شَرًّا. قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: أَيْ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْعِبَادِ لَا يَفُوتُهُ أَحَدٌ، وَالرَّصْدُ وَالْمِرْصَادُ: الطَّرِيقُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً «2» . وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْفَجْرِ قَالَ: فَجْرُ النَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: يَعْنِي صلاة الفجر. وأخرج سعيد

_ (1) . «فجع» : إصابة بمكروه. «ولع» : كذب. (2) . النبأ: 21.

ابن مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَالْفَجْرِ قَالَ: هُوَ الْمُحَرَّمُ فَجْرُ السَّنَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ صَوْمِ شَهْرٍ مُحَرَّمٍ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، وَلَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ لَا مُطَابَقَةً وَلَا تَضَمُّنًا وَلَا الْتِزَامًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالْفَجْرِ- وَلَيالٍ عَشْرٍ- وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قَالَ: إِنَّ الْعَشْرَ عَشْرُ الْأَضْحَى، وَالْوَتْرَ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّفْعَ: يَوْمُ النحر. وفي لفظ: هي ليالي مِنْ ذِي الْحِجَّةِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ هُوَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَدَعَاهُمُ ابْنُ عُمَرَ إِلَى الْغَدَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: أَلَيْسَ هَذِهِ اللَّيَالِيَ الْعَشْرَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: مَا أشك، قال: بلى فشكّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْعَشْرِ أَحَادِيثُ. وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الْمُرَادَةُ بِمَا فِي الْقُرْآنِ هُنَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَيالٍ عَشْرٍ قَالَ: هِيَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، فَقَالَ: هِيَ الصَّلَاةُ بَعْضُهَا شَفْعٌ وَبَعْضُهَا وَتْرٌ» . وَفِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَهُوَ الرَّاوِي لَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عِصَامٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ بِإِسْقَاطِ الرَّجُلِ الْمَجْهُولِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي فِيهِ الرَّجُلُ الْمَجْهُولُ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَعِنْدِي أَنَّ وَقْفَهُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَلَمْ يَجْزِمِ ابْنُ جَرِيرٍ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مَوْقُوفًا عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، فَهَذَا يُقَوِّي مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ شَفْعٌ فَهُوَ اثْنَانِ، وَالْوَتْرُ وَاحِدٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ- قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ- عَنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فَقَالَ: يَوْمَانِ وَلَيْلَةٌ، يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَالْوَتْرُ لَيْلَةُ النَّحْرِ لَيْلَةُ جُمَعٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الشَّفْعُ الْيَوْمَانِ، وَالْوَتْرُ الْيَوْمُ الثَّالِثُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فَقَالَ: الشَّفْعُ: قَوْلُ اللَّهِ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «1» وَالْوَتْرُ: الْيَوْمُ الثَّالِثُ. وَفِي لَفْظٍ: الْوَتْرُ أَوْسَطُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشَّفْعُ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَالْوَتْرُ: يَوْمُ عَرَفَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قَالَ: إِذَا ذَهَبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَالْفَجْرِ إِلَى قَوْلِهِ: إِذا يَسْرِ قَالَ: هَذَا قَسَمٌ عَلَى إِنَّ ربك بالمرصاد. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشعب،

_ (1) . البقرة: 203.

[سورة الفجر (89) : الآيات 15 إلى 30]

مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ قَالَ: لِذِي حِجًى وَعَقْلٍ وَنُهًى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: بِعادٍ- إِرَمَ قَالَ: يَعْنِي بِالْإِرَمِ: الْهَالِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَرُمَ بَنُو فُلَانٍ، ذاتِ الْعِمادِ يَعْنِي طُولُهُمْ مِثْلُ الْعِمَادِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ فَقَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَأْتِي إِلَى الصَّخْرَةِ فَيَحْمِلُهَا عَلَى كَاهِلِهِ فَيُلْقِيهَا عَلَى أَيِّ حَيٍّ» أَرَادَ فَيُهْلِكُهُمْ. وَفِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ صَالِحٍ رَوَاهُ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ الْمِقْدَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ قال: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ قال: الأوتاد: الجنود الذين يشدّون أَمْرَهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: ذِي الْأَوْتادِ قَالَ: وَتَّدَ فِرْعَوْنُ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ ثُمَّ جَعَلَ عَلَى ظَهْرِهَا رَحًى عَظِيمَةً حَتَّى مَاتَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قَالَ: يَسْمَعُ وَيَرَى. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قَالَ: مِنْ وَرَاءِ الصِّرَاطِ جُسُورٌ: جِسْرٌ عَلَيْهِ الْأَمَانَةُ، وَجِسْرٌ عَلَيْهِ الرحم، وجسر عليه الربّ عزّ وجلّ. [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ بِالْمِرْصَادِ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ عِبَادِهِ عِنْدَ إِصَابَةِ الْخَيْرِ وَعِنْدَ إِصَابَةِ الشَّرِّ، وَأَنَّ مَطْمَحَ أَنْظَارِهِمْ وَمُعْظَمَ مَقَاصِدِهِمْ هُوَ الدُّنْيَا فَقَالَ: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ أَيِ: امْتَحَنَهُ وَاخْتَبَرَهُ بِالنِّعَمِ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ أَيْ: أَكْرَمَهُ بِالْمَالِ وَوَسَّعَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ فَرِحًا بِمَا نَالَ وَسُرُورًا بِمَا أُعْطِيَ، غَيْرَ شَاكِرٍ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا خَاطِرٍ بِبَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ امْتِحَانٌ لَهُ مِنْ رَبِّهِ وَاخْتِبَارٌ لِحَالِهِ وَكَشْفٌ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالْجَزَعِ وَالشُّكْرِ لِلنِّعْمَةِ وَكُفْرَانِهَا، وَ «مَا» فِي قوله: فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ تَفْسِيرٌ لِلِابْتِلَاءِ. وَمَعْنَى أَكْرَمَنِ أَيْ: فَضَّلَنِي بِمَا أَعْطَانِي مِنَ الْمَالِ وَأَسْبَغَهُ عَلَيَّ مِنَ النِّعَمِ لِمَزِيدِ اسْتِحْقَاقِي لِذَلِكَ وَكَوْنِي مَوْضِعًا لَهُ، وَالْإِنْسَانُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ «فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ» وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِيهِ لِتَضَمُّنِ أَمَّا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالظَّرْفُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَإِنْ تَقَدَّمَ لَفْظًا فَهُوَ مُؤَخَّرٌ فِي الْمَعْنَى، أَيْ: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي وَقْتَ ابْتِلَائِهِ بِالْإِنْعَامِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْإِنْسَانُ هُوَ الْكَافِرُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خلف،

وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَأَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ أَيِ: اخْتَبَرَهُ وَعَامَلَهُ مُعَامَلَةَ مَنْ يَخْتَبِرُهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أَيْ: ضَيَّقَهُ وَلَمْ يُوَسِّعْهُ لَهُ، وَلَا بَسَطَ لَهُ فِيهِ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ أَيْ: أَوْلَانِي هَوَانًا. وَهَذِهِ صِفَةُ الْكَافِرِ الَّذِي لا يؤمن بالبعث، لأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا فِي مَتَاعِهَا، وَلَا إِهَانَةَ عِنْدَهُ إِلَّا فَوْتَهَا وَعَدَمَ وُصُولِهِ إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْ زِينَتِهَا، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَالْكَرَامَةُ عِنْدَهُ أَنْ يُكْرِمَهُ اللَّهُ بِطَاعَتِهِ وَيُوَفِّقَهُ لِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الإنسان على العموم لعدم تيقّظه أَنَّ مَا صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا أُصِيبَ بِهِ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ إِلَّا لِلِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ تَعْدِلُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى الْكَافِرَ مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. قَرَأَ نَافِعٌ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي «أكرمن وأهانن» وَصْلًا وَحَذَفَهُمَا وَقْفًا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ الْبَزِّيِّ عَنْهُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَيَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِهِمَا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِهِمَا فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ وَلِمُوَافَقَةِ رُؤُوسِ الْآيِ، والأصل إثباتها لِأَنَّهَا اسْمٌ، وَمِنَ الْحَذْفِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمِنْ كَاشِحٍ ظَاهِرُ غَمْرِهِ ... إِذَا مَا انْتَصَبْتُ لَهُ أَنْكَرَنِ أَيْ: أَنْكَرَنِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «فَقَدَرَ» بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو «رَبِّيَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَسْكَنَهَا الْبَاقُونَ. وَقَوْلُهُ: كَلَّا رَدْعٌ لِلْإِنْسَانِ الْقَائِلِ فِي الْحَالَتَيْنِ مَا قَالَ: وَزَجْرٌ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ يُوَسِّعُ الرِّزْقَ وَيَبْسُطُ النِّعَمَ لِلْإِنْسَانِ لَا لِكَرَامَتِهِ، وَيُضَيِّقُهُ عَلَيْهِ لَا لِإِهَانَتِهِ، بَلْ لِلِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا، وَلَكِنْ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى الْغِنَى وَالْفَقْرِ. ثُمَّ انْتَقَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ بَيَانِ سُوءِ أَقْوَالِ الْإِنْسَانِ إِلَى بَيَانِ سُوءِ أَفْعَالِهِ فَقَالَ: بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَالِالْتِفَاتُ إِلَى الْخِطَابِ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ والتقريع على قراءة الجمهور بالفوقية. وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالتحتية على الخبر، وهكذا اختلفوا فيما بعد هذا من الأفعال، فقرأ الجمهور «تحضون، وتأكلون، وتحبون» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ فِيهَا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ فِيهَا، وَالْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِنْسَانِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ: بَلْ لَكُمْ أَفْعَالٌ هِيَ أَقْبَحُ مِمَّا ذُكِرَ، وَهِيَ أَنَّكُمْ تَتْرُكُونَ إِكْرَامَ الْيَتِيمِ فَتَأْكُلُونَ مَالَهُ وَتَمْنَعُونَهُ مِنْ فَضْلِ أَمْوَالِكُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَحُضُّونَ» مِنْ حَضَّهُ عَلَى كَذَا، أَيْ: أَغْرَاهُ بِهِ، وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا تَحُضُّونَ أَنْفُسَكُمْ، أَوْ لَا يَحُضُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ وَلَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ «تَحَاضُّونَ» بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْحَاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَأَصْلُهُ تَتَحَاضُّونَ، فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، أَيْ: لَا يَحُضُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالسُّلَمِيُّ «تَحَاضُّونَ» بِضَمِّ التَّاءِ مِنَ الْحَضِّ، وَهُوَ الْحَثُّ. وقوله: عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ متعلّق بتحضون، وَهُوَ إِمَّا اسْمُ مَصْدَرٍ، أَيْ: عَلَى إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، أَوِ اسْمٌ لِلْمَطْعُومِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: عَلَى بَذْلِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ، أَوْ عَلَى إِعْطَاءِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَصْلُهُ الْوُرَاثَ، فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ مِنَ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ، كَمَا فِي تُجَاهَ وَوِجَاهَ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَمْوَالُ الْيَتَامَى الَّذِينَ يَرِثُونَهُ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ، وَكَذَلِكَ أَمْوَالُ النِّسَاءِ،

وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَهُمْ أَكْلًا لَمًّا أَيْ: أَكْلًا شَدِيدًا، وَقِيلَ مَعْنَى لَمًّا: جَمْعًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: لَمَمْتُ الطَّعَامَ إِذَا أَكَلْتَهُ جَمِيعًا. قَالَ الْحَسَنُ: يَأْكُلُ نَصِيبَهُ وَنَصِيبَ الْيَتِيمِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَأَصْلُ اللَّمِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْجَمْعُ، يُقَالُ: لَمَمْتُ الشَّيْءَ أَلُمُّهُ لَمًّا: جَمَعْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَمَّ اللَّهُ شَعْثَهُ: أَيْ جَمَعَ مَا تَفَرَّقَ مِنْ أُمُورِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: وَلَسْتَ بِمُسْتَبِقٍ أَخًا لَا تَلُمَّهُ ... عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ الْمُهَذَّبُ قَالَ اللَّيْثُ: اللَّمُّ: الْجَمْعُ الشَّدِيدُ، وَمِنْهُ حجر ملموم، وكتيبة ملمومة، وللآكل: يَلُمُّ الثَّرِيدَ فَيَجْمَعُهُ ثُمَّ يَأْكُلُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَسِفُّهُ سَفًّا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ إِذَا أَكَلَ مَالَهُ أَلَمَّ بِمَالِ غَيْرِهِ فَأَكَلَهُ وَلَا يُفَكِّرُ فِيمَا أَكَلَ مِنْ خَبِيثٍ وَطَيِّبٍ وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أَيْ: حُبًّا كَثِيرًا، وَالْجَمُّ: الْكَثِيرُ، يُقَالُ: جَمَّ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ إِذَا كثر واجتمع، والجملة: الْمَكَانُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ الرَّدْعَ لَهُمْ وَالزَّجْرَ فَقَالَ كَلَّا أَيْ: مَا هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَمَلُكُمْ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ سُبْحَانَهُ فَقَالَ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَفِيهِ وَعِيدٌ لَهُمْ بَعْدَ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، وَالدَّكُّ: الْكَسْرُ وَالدَّقُّ، وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهَا زُلْزِلَتْ وَحُرِّكَتْ تَحْرِيكًا بَعْدَ تَحْرِيكٍ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: دُكَّتْ جِبَالُهَا حَتَّى اسْتَوَتْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: تَزَلْزَلَتْ فَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ: بُسِطَتْ وَذَهَبَ ارْتِفَاعُهَا. قَالَ: وَالدَّكُّ: حَطُّ الْمُرْتَفِعِ بِالْبَسْطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الدَّكِّ فِي سورة الأعراف، وفي سورة الحاقة. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا دُكَّتْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَانْتِصَابُ «دَكًّا» الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ، و «دكا» الثَّانِي تَأْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ، كَذَا قَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا مَدْكُوكَةً مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، كَمَا يُقَالُ: عَلَّمْتُهُ الْحِسَابَ بَابًا بَابًا، وَعَلَّمْتُهُ الْخَطَّ حَرْفًا حَرْفًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَرَّرَ الدَّكَّ عَلَيْهَا حَتَّى صَارَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا. وَجاءَ رَبُّكَ أَيْ: جَاءَ أَمْرُهُ وَقَضَاؤُهُ وَظَهَرَتْ آيَاتُهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهَا زَالَتِ الشُّبَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَظَهَرَتِ المعارف، وصارت ضرورية، كما يزول الشكّ عن مَجِيءِ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ يُشَكُّ فِيهِ، وَقِيلَ: جاء قهر ربّك وسلطانه وانفراده وَالتَّدْبِيرِ مِنْ دُونِ أَنْ يَجْعَلَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا انْتِصَابُ «صَفًّا صَفًّا» عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُصْطَفِّينَ، أَوْ ذَوِي صُفُوفٍ. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ صفوف الملائكة، وأهل كلّ سماء صفّ كلّ عَلَى حِدَةٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ إِذَا نَزَلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانُوا صَفًّا مُحِيطِينَ بِالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا، فَيَكُونُونَ سَبْعَةَ صُفُوفٍ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ «يَوْمَئِذٍ» مَنْصُوبٌ بِجِيءَ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ بِجَهَنَّمَ، وَجَوَّزَ مَكِّيٌّ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ هُوَ الْقَائِمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَلَيْسَ بِذَاكَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: جِيءَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَزْمُومَةً بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلِكٍ يَجُرُّونَهَا حَتَّى تَنْصَبَّ عَنْ يَسَارِ الْعَرْشِ، فَلَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ يقول: يا ربّ نفسي نفسي. وسيأتي الّذي نقله هذا عَنْ جَمَاعَةِ الْمُفَسِّرِينَ مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ «يَوْمَئِذٍ» هَذَا بَدَلٌ مِنْ يَوْمَئِذٍ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ: يَوْمَ جِيءَ بِجَهَنَّمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ، أَيْ: يَتَّعِظُ وَيَذْكُرُ مَا فَرَّطَ مِنْهُ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا قَدَّمَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ «يَوْمَئِذٍ» الثَّانِي بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ «إِذَا دُكَّتْ» وَالْعَامِلُ فِيهِمَا هُوَ قَوْلُهُ:

يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أَيْ: وَمِنْ أَيْنَ لَهُ التَّذَكُّرُ وَالِاتِّعَاظُ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَمِنْ أَيْنَ لَهُ مَنْفَعَةُ الذِّكْرَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُظْهِرُ التَّوْبَةَ وَمِنْ أَيْنَ له التوبة؟ يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: يَتَذَكَّرُ، وَالْمَعْنَى: يَتَمَنَّى أَنَّهُ قَدَّمَ الْخَيْرَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَاللَّامُ فِي لِحَيَاتِي بِمَعْنَى لِأَجْلِ حَيَاتِي، وَالْمُرَادُ حَيَاةُ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا الْحَيَاةُ بِالْحَقِيقَةِ لِأَنَّهَا دَائِمَةٌ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى فِي، وَالْمُرَادُ حَيَاةُ الدُّنْيَا، أَيْ: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي وَقْتِ حَيَاتِي فِي الدُّنْيَا أَنْتَفِعُ بِهَا هَذَا الْيَوْمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الْحَسَنُ: عَلِمَ وَاللَّهِ أَنَّهُ صَادَفَ حَيَاةً طَوِيلَةً لَا مَوْتَ فِيهَا فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أَيْ: يَوْمَ يَكُونُ زَمَانُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا يُعَذِّبُ كَعَذَابِ اللَّهِ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ كَ وَثاقَهُ أَحَدٌ أَوْ لَا يَتَوَلَّى عَذَابَ اللَّهِ وَوَثَاقَهُ أَحَدٌ سِوَاهُ إِذِ الْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ، وَالضَّمِيرَانِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِي عَذَابِهِ وَوَثَاقِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الجمهور يعذب ويوثق مَبْنِيَّيْنِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فِيهِمَا، فَيَكُونُ الضَّمِيرَانِ رَاجِعَيْنِ إِلَى الْإِنْسَانِ، أَيْ: لَا يُعَذَّبُ كَعَذَابِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ أَحَدٌ وَلَا يُوثَقُ كَوَثَاقِهِ أَحَدٌ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْكَافِرُ، أَيْ: لَا يُعَذَّبُ مَنْ لَيْسَ بِكَافِرٍ كَعَذَابِ الْكَافِرِ، وَقِيلَ: إِبْلِيسُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ كَعَذَابِ هَذَا الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ أَحَدٌ، وَلَا يُوثِقُ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ كَوَثَاقِهِ أَحَدٌ لِتَنَاهِيهِ فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ مَكَانَهُ أحد ولا يوثق مكانه أحد، ولا تُؤْخَذُ مِنْهُ فِدْيَةٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1» وَالْعَذَابُ بِمَعْنَى التَّعْذِيبِ، وَالْوَثَاقُ بِمَعْنَى التَّوْثِيقِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةَ الْكِسَائِيِّ، قَالَ: وَتَكُونُ الْهَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ضَمِيرَ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ كَعَذَابِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْكَافِرِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ، أَيْ: لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ أَحَدًا مِثْلَ تَعْذِيبِ هَذَا الْكَافِرِ. وَلَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْأَشْقِيَاءِ ذكر بعض أحوال السعداء فقال يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الْمُطْمَئِنَّةُ: هِيَ السَّاكِنَةُ الْمُوقِنَةُ بِالْإِيمَانِ وَتَوْحِيدِ اللَّهِ، الْوَاصِلَةُ إِلَى ثَلْجِ الْيَقِينِ بِحَيْثُ لَا يُخَالِطُهَا شَكٌّ وَلَا يَعْتَرِيهَا رَيْبٌ. قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْمُؤْمِنَةُ الْمُوقِنَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّاضِيَةُ بِقَضَاءِ اللَّهِ الَّتِي عَلِمَتْ أَنَّ مَا أَخْطَأَهَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهَا، وَأَنَّ مَا أَصَابَهَا لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ، هِيَ الْآمِنَةُ الْمُطَمْئِنَّةُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْمُطَمْئِنَّةُ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُخْلِصَةُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُطَمْئِنَّةُ لِأَنَّهَا بُشِّرَتْ بِالْجَنَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أَيِ: ارْجِعِي إِلَى اللَّهِ راضِيَةً بِالثَّوَابِ الَّذِي أَعْطَاكِ مَرْضِيَّةً عِنْدَهُ، وَقِيلَ: ارْجِعِي إِلَى مَوْعِدِهِ، وَقِيلَ: إِلَى أَمْرِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ: مَعْنَى ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ إِلَى جَسَدِكِ الَّذِي كُنْتِ فِيهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ «فَادْخُلِي فِي عَبْدِي» بِالْإِفْرَادِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَادْخُلِي فِي عِبادِي أَيْ: فِي زُمْرَةِ عِبَادِي الصَّالِحِينَ، وَكُونِي مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وانتظمي في سلكهم

_ (1) . الأنعام: 164. [.....]

وَادْخُلِي جَنَّتِي مَعَهُمْ، قِيلَ: إِنَّهُ يُقَالُ لَهَا ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الدُّنْيَا، وَيُقَالُ لَهَا: ادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ كُلُّ نَفْسٍ مُطَمْئِنَّةٍ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ نُزُولَهَا فِي نَفْسٍ مُعَيَّنَةٍ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَكْلًا لَمًّا قَالَ: سَفًّا، وَفِي قَوْلِهِ: حُبًّا جَمًّا قَالَ: شَدِيدًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَكْلًا لَمًّا قَالَ: شَدِيدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا قَالَ: تَحْرِيكُهَا. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ: وَكَيْفَ لَهُ؟ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ الْآيَةَ قَالَ: لَا يُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ بِوَثَاقِ اللَّهِ أُحُدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْهُ أَيْضًا في قوله: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ قَالَ: الْمُؤْمِنَةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ يَقُولُ: إِلَى جَسَدِكِ. قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ سَيُقَالُ لَكَ هَذَا» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ نَحْوَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ قال: هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الْمُصَدِّقَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: تُرَدُّ الْأَرْوَاحُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْأَجْسَادِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً قَالَ: بِمَا أُعْطِيَتْ مِنَ الثَّوَابِ مَرْضِيَّةً عَنْهَا بِعَمَلِهَا فَادْخُلِي فِي عِبادِي الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، فَجَاءَ طَيْرٌ لَمْ يُرَ عَلَى خِلْقَتِهِ فَدَخَلَ نَعْشَهُ، ثُمَّ لَمْ يُرَ خَارِجًا مِنْهُ، فَلَمَّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ لَا ندري من تلاها يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ- ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً- فَادْخُلِي فِي عِبادِي- وَادْخُلِي جَنَّتِي. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عِكْرِمَةَ مثله.

سورة البلد

سورة البلد ويقال سورة: لا أقسم، هي عشرون آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مثله. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) قَوْلُهُ: لَا أُقْسِمُ لَا زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي تَفْسِيرِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ «1» ، وَمِنْ زِيَادَةِ «لَا» فِي الْكَلَامِ فِي غَيْرِ الْقَسَمِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ ... وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ لَا يَتَصَدَّعُ «2» أَيْ: يتصدّع، ومن ذلك قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «3» أَيْ: أَنَّ تَسْجُدَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا قَسَمٌ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَهُوَ مَكَّةُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَا أُقْسِمُ» وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ «لَأُقْسِمُ» مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَقِيلَ: هُوَ نَفْيٌ لِلْقَسَمِ، وَالْمَعْنَى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ بَعْدَ خُرُوجِكَ مِنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ «لَا» رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ أُقْسِمُ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَحْسَبُونَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: أُقْسِمُ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ الَّذِي أَنْتَ حِلٌّ فِيهِ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَلَدِ الْمَدِينَةُ، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ إِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ هُوَ أَيْضًا مَدْفُوعٌ لِكَوْنِ السُّورَةِ مَكِّيَّةً لَا مَدَنِيَّةً، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمَعْنَى: أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ- لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ وَاعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالْمَعْنَى: وَمِنَ الْمَكَابِدِ أَنَّ مِثْلَكَ عَلَى عَظِيمِ حُرْمَتِهِ يُسْتَحَلُّ بِهَذَا الْبَلَدِ كَمَا يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْحِلُّ وَالْحَلَالُ وَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْمُحَرَّمِ، أَحَلَّ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يوم

_ (1) . القيامة: 1. (2) . في تفسير القرطبي: لا يتقطع. (3) . الأعراف: 12.

الْفَتْحِ حَتَّى قَاتَلَ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» . قَالَ: وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ الْقَسَمَ بِمَكَّةَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ قَدْرِهَا مَعَ كَوْنِهَا حَرَامًا، فَوَعَدَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ حَتَّى يُقَاتِلَ فِيهَا وَيَفْتَحَهَا عَلَى يَدِهِ، فَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يُحِلَّهَا لَهُ حَتَّى يَكُونَ بِهَا حِلًّا، انْتَهَى. فَالْمَعْنَى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا فِي قوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى مَا صَنَعْتَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَأَنْتَ حِلٌّ. قَالَ قَتَادَةُ: أَنْتَ حِلٌّ له لَسْتَ بِآثِمٍ، يَعْنِي: أَنَّكَ غَيْرُ مُرْتَكِبٍ فِي هذه الْبَلَدِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْكَ ارْتِكَابُهُ، لَا كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ فِيهِ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حَالٌّ بِهِ وَمُقِيمٌ فِيهِ وَهُوَ مَحَلُّكَ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لَا نَافِيَةٌ غَيْرُ زَائِدَةٍ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا أُقْسِمُ بِهِ وَأَنْتَ حَالٌّ بِهِ، فَأَنْتَ أَحَقُّ بِالْإِقْسَامِ بِكَ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا زَائِدَةٌ يَكُونُ الْمَعْنَى: أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي أَنْتَ مُقِيمٌ بِهِ تَشْرِيفًا لَكَ وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِكَ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِقَامَتِكَ فِيهِ عَظِيمًا شَرِيفًا، وَزَادَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرَفِ وَالْعِظَمِ، وَلَكِنَّ هَذَا إِذَا تَقَرَّرَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّ لفظ حلّ يجيء بمعنى حلّ، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ عَطْفٌ عَلَى الْبَلَدِ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَأَبُو صَالِحٍ وَوالِدٍ أَيْ: آدَمَ وَما وَلَدَ أَيْ: وَمَا تَنَاسَلَ مِنْ وَلَدِهِ أَقْسَمَ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ أَعْجَبُ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْبَيَانِ وَالْعَقْلِ وَالتَّدْبِيرِ، وَفِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ. وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: الْوَالِدُ: إِبْرَاهِيمُ وَمَا وَلَدَ: ذُرِّيَّتُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ «مَا» عِبَارَةٌ عَنِ النَّاسِ كَقَوْلِهِ: مَا طابَ لَكُمْ «2» وَقِيلَ: الْوَالِدُ: إِبْرَاهِيمُ، وَالْوَلَدُ: إِسْمَاعِيلُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَوالِدٍ يَعْنِي الَّذِي يُولَدُ لَهُ وَما وَلَدَ يَعْنِي الْعَاقِرَ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ، وَكَأَنَّهُمَا جَعَلَا «مَا» نَافِيَةً، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا بِإِضْمَارِ الْمَوْصُولِ: أَيْ: وَوَالِدٍ وَالَّذِي مَا وَلَدَ، وَلَا يَجُوزُ إِضْمَارُ الْمَوْصُولِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ وَالِدٍ وَمَوْلُودٍ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالْإِنْسَانُ هُوَ هَذَا النَّوْعُ الْإِنْسَانِيُّ، وَالْكَبَدُ: الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ، يُقَالُ: كَابَدْتُ الْأَمْرَ: قَاسَيْتُ شِدَّتَهُ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَزَالُ فِي مُكَابَدَةِ الدُّنْيَا وَمُقَاسَاةِ شَدَائِدِهَا حَتَّى يَمُوتَ، وَأَصْلُ الْكَبَدِ: الشِّدَّةُ، وَمِنْهُ تَكَبَّدَ اللَّبَنُ: إِذَا غَلُظَ وَاشْتَدَّ، وَيُقَالُ: كَبِدَ الرَّجُلُ إِذَا وُجِعَتْ كَبِدُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ شِدَّةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْأَصْبَغِ: لِي ابْنُ عَمٍّ لو أن النّاس في كبد ... لظلّ محتجرا بِالنَّبْلِ يَرْمِينِي قَالَ الْحَسَنُ: يُكَابِدُ مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَشَدَائِدَ الْآخِرَةِ. وَقَالَ أَيْضًا: يُكَابِدُ الشُّكْرَ عَلَى السَّرَّاءِ، وَيُكَابِدُ الصَّبْرَ عَلَى الضَّرَّاءِ، لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنْ بَنِي جُمَحَ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْأَشَدَّيْنِ «3» ، وَكَانَ يَأْخُذُ الْأَدِيمَ الْعُكَاظِيَّ وَيَجْعَلُهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ، وَيَقُولُ: مَنْ أَزَالَنِي عَنْهُ فَلَهُ كذا، فيجذبه

_ (1) . الزمر: 30. (2) . النساء: 3. (3) . في الكشاف: أبو الأشدّ.

عَشَرَةٌ حَتَّى يَتَمَزَّقَ وَلَا تَزُولُ قَدَمَاهُ، وَكَانَ مِنْ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ نَزَلَ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَعْنِي لِقُوَّتِهِ، وَيَكُونُ مَعْنًى فِي كَبَدٍ عَلَى هَذَا: فِي شِدَّةِ خَلْقٍ، وَقِيلَ: مَعْنَى فِي كَبَدٍ أَنَّهُ جَرِيءُ الْقَلْبِ غَلِيظُ الْكَبِدِ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَيْ: يَظُنُّ ابْنُ آدَمَ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْتَقِمَ مِنْهُ أَحَدٌ، أَوْ يَظُنَّ أَبُو الأشدّين أن لن يقدر عليه أحد، وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مُقَدَّرٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ مَقَالِ هَذَا الْإِنْسَانِ فَقَالَ: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً أَيْ: كَثِيرًا مُجْتَمِعًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ اللَّيْثُ: مَالٌ لُبَدٌ لَا يُخَافُ فَنَاؤُهُ مِنْ كَثْرَتِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: يَقُولُ أَهْلَكْتُ فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ مَالًا كَثِيرًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ أَذْنَبَ فَاسْتَفْتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ، فَقَالَ: لَقَدْ ذَهَبَ مَالِي فِي الْكَفَّارَاتِ وَالنَّفَقَاتِ مُنْذُ دَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ. قَرَأَ الجمهور «لبدا» بضم اللام وفتح الباء مخفّفا، وقرأ مجاهد وحميد بضم اللام والباء مخففا. وقرأ أبو جعفر بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْبَاءِ مُشَدَّدًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لُبَدٌ: فُعَلٌ مِنَ التَّلْبِيدِ، وَهُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فُعَلٌ لِلْكَثْرَةِ، يُقَالُ رَجُلٌ حُطَمٌ: إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْحَطْمِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَاحِدَتُهُ لُبَدَةٌ وَالْجَمْعُ لُبَدٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ الْجِنِّ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَيْ: أَيَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يُعَايِنْهُ أَحَدٌ، قَالَ قَتَادَةُ: أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَرَهُ وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ، وَأَيْنَ أَنْفَقَهُ؟ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ كَاذِبًا لَمْ يُنْفِقْ مَا قَالَ، فَقَالَ اللَّهُ: أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَرَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ، أنفق أو لَمْ يُنْفِقْ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ لِيَعْتَبِرُوا فَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر لهما وَلِساناً يَنْطِقُ بِهِ وَشَفَتَيْنِ يَسْتُرُ بِهِمَا ثَغْرَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَلَمْ نَفْعَلْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يبعثه، والشفة محذوفة الهاء، وَأَصْلُهَا شَفَهَةٌ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهَا عَلَى شُفَيْهَةٍ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ النَّجْدُ: الطَّرِيقُ فِي ارْتِفَاعٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: بَيَّنَّا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَلَمْ نُعَرِّفْهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ، مُبَيَّنَتَيْنِ كَتَبَيُّنِ الطَّرِيقَيْنِ الْعَالِيَتَيْنِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكُ: النَّجْدَانِ: الثَّدْيَانِ لِأَنَّهُمَا كَالطَّرِيقَيْنِ لِحَيَاةِ الْوَلَدِ وَرِزْقِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَأَصْلُ النَّجْدِ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَجَمْعُهُ نُجُودٌ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ نَجْدٌ لِارْتِفَاعِهَا عَنِ انْخِفَاضِ تِهَامَةَ، فَالنَّجْدَانِ: الطَّرِيقَانِ الْعَالِيَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَرِيقَانِ مِنْهُمْ قَاطِعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ ... وَآخَرُ مِنْهُمْ قَاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الِاقْتِحَامُ: الرَّمْيُ بِالنَّفْسِ فِي شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، يُقَالُ مِنْهُ: قَحَمَ فِي الْأَمْرِ قُحُومًا، أَيْ: رَمَى بِنَفْسِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَتَقْحِيمُ النَّفْسِ فِي الشَّيْءِ: إِدْخَالُهَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَالْقُحْمَةُ بِالضَّمِّ: الْمَهْلَكَةُ. وَالْعَقَبَةُ فِي الْأَصْلِ: الطَّرِيقُ الَّتِي فِي الْجَبَلِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِصُعُوبَةِ سُلُوكِهَا، وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ سُبْحَانَهُ لِمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ، فَجَعَلَهُ كَالَّذِي يَتَكَلَّفُ صُعُودَ الْعَقَبَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هُنَا «لَا» مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْعَرَبُ لَا تَكَادُ تُفْرِدُ لَا مَعَ الْفِعْلِ الْمَاضِي فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ حَتَّى يُعِيدُوهَا

فِي كَلَامٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى «1» وَإِنَّمَا أَفْرَدَهَا هُنَا لِدَلَالَةِ آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا قَائِمًا مَقَامَ التَّكْرِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَلَا آمَنَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ «لَا» هُنَا بِمَعْنَى لَمْ، أَيْ: فَلَمْ يَقْتَحِمِ الْعَقَبَةَ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، فَلِهَذَا لَمْ يُحْتَجْ إِلَى التَّكْرِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَكَانَ طَوَى كَشْحًا عَلَى مُسْتَكِنَّةٍ ... فَلَا هُوَ أَبْدَاهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمِ أَيْ: فَلَمْ يُبْدِهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ، وَقِيلَ: هو جار مجرى الدعاء كقولهم: لا نجا. قَالَ أَبُو زَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى الْكَلَامِ هُنَا الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، تَقْدِيرُهُ: أَفَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، أَوْ هَلَّا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْعَقَبَةَ فَقَالَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ مَا اقْتِحَامُهَا فَكُّ رَقَبَةٍ أَيْ هِيَ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَتَخْلِيصُهَا مِنْ أَسَارِ الرِّقِّ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَطْلَقْتَهُ فَقَدْ فَكَكْتَهُ، وَمِنْهُ: فَكُّ الرَّهْنِ، وَفَكُّ الْكِتَابِ، فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَقَبَةَ هِيَ هَذِهِ الْقُرَبُ الْمَذْكُورَةُ الَّتِي تَكُونُ بِهَا النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ عَقَبَةٌ شَدِيدَةٌ فِي النَّارِ دُونَ الْجِسْرِ، فَاقْتَحِمُوهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ الصِّرَاطُ الَّذِي يُضْرَبُ عَلَى جَهَنَّمَ كَحَدِّ السَّيْفِ. وَقَالَ كَعْبٌ: هي نار دون الجسر. قيل: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا اقتحام العقبة؟ قرأ أبو عمرو وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ «فَكَّ رَقَبَةً» عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ وَنَصَبَ رَقَبَةً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَهَكَذَا قرءوا أو أَطْعَمَ: عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فَكُّ أَوْ إِطْعَامٌ عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ وَجَرِّ رَقَبَةٍ بِإِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَيْهَا، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْفِعْلَانِ بَدَلًا مِنِ اقْتَحَمَ أَوْ بَيَانًا لَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا فَكَّ وَلَا أَطْعَمَ، وَالْفَكُّ فِي الْأَصْلِ: حَلُّ الْقَيْدِ، سُمِّيَ الْعِتْقُ فَكًّا لِأَنَّ الرِّقَّ كَالْقَيْدِ، وَسُمِّيَ الْمَرْقُوقُ رَقَبَةً لِأَنَّهُ بِالرِّقِّ كَالْأَسِيرِ الْمَرْبُوطِ فِي رَقَبَتِهِ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ الْمَسْغَبَةُ: الْمَجَاعَةُ، وَالسَّغَبُ: الْجُوعُ، وَالسَّاغِبُ: الْجَائِعُ. قَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ مِنْهُ: سَغَبَ الرَّجُلُ سَغَبًا وَسُغُوبًا فَهُوَ سَاغِبٌ وَسَغْبَانُ، وَالْمَسْغَبَةُ مَفْعَلَةٌ مِنْهُ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَلَوْ كُنْتَ حُرًّا يَا ابْنَ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ ... لَمَا بِتَّ شَبْعَانًا وَجَارُكَ سَاغِبًا قَالَ النَّخَعِيُّ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أَيْ: عَزِيزٍ فِيهِ الطَّعَامُ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَيْ: قَرَابَةٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو قَرَابَتِي وَذُو مَقْرُبَتِي، وَالْيَتِيمُ فِي الْأَصْلِ: الضَّعِيفُ، يُقَالُ: يَتِمَ الرَّجُلُ: إِذَا ضَعُفَ، وَالْيَتِيمُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: مَنْ لَا أَبَ لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْ لَا أَبَ لَهُ وَلَا أُمَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ المللوّح: إِلَى اللَّهِ أَشْكُو فَقْدَ لَيْلَى كَمَا شَكَا ... إِلَى اللَّهِ فَقْدَ الْوَالِدَيْنِ يَتِيمُ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ أَيْ: لَا شَيْءَ لَهُ كَأَنَّهُ لُصِقَ بِالتُّرَابِ لِفَقْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَأْوًى إِلَّا التُّرَابُ، يُقَالُ: تَرِبَ الرَّجُلُ يَتْرَبُ تَرَبًا وَمَتْرَبَةً: إِذَا افْتَقَرَ حَتَّى لُصِقَ بِالتُّرَابِ ضُرًّا. قَالَ مجاهد: هو الّذي لا يقيه

_ (1) . القيامة: 31.

مِنَ التُّرَابِ لِبَاسٌ وَلَا غَيْرُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ ذُو الْعِيَالِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْمَدْيُونُ. وَقَالَ أَبُو سِنَانٍ: هُوَ ذُو الزَّمَانَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَحَدٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْبَعِيدُ التُّرْبَةِ الْغَرِيبُ عَنْ وَطَنِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ: وَكُنَّا إِذَا مَا الضَّيْفُ حَلَّ بِأَرْضِنَا ... سَفَكْنَا دِمَاءَ الْبُدْنِ فِي تُرْبَةِ الْحَالِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «ذِي مسغبة» على أنه صفة ليوم، ويتيما هُوَ مَفْعُولُ إِطْعَامٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «ذَا مَسْغَبَةٍ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ إِطْعَامٌ، أَيْ: يُطْعِمُونَ ذا مسغبة، ويتيما بَدَلٌ مِنْهُ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عَطْفٌ عَلَى الْمَنْفِيِّ بِلَا، وَجَاءَ بِثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَاخِي رُتْبَةِ الْإِيمَانِ وَرِفْعَةِ مَحَلِّهِ. وَفِيهِ دليل على أن هذه القرب إنما نفع مَعَ الْإِيمَانِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّ هَذَا نَافِعٌ لَهُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ أَتَى بِهَذِهِ الْقُرَبِ لِوَجْهِ اللَّهِ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ مَعْطُوفٌ عَلَى آمَنُوا، أَيْ: أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَنْ مَعَاصِيهِ، وَعَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَلَايَا وَالْمَصَائِبِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أَيْ: بِالرَّحْمَةِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَحِمُوا الْيَتِيمَ وَالْمِسْكِينَ، وَاسْتَكْثَرُوا مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ بِالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُمْ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أَيْ: أَصْحَابُ جِهَةِ اليمين، أو أصحاب اليمن، أَوِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أَيْ: بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ الْآيَاتُ التَّنْزِيلِيَّةُ وَالْآيَاتُ التَّكْوِينِيَّةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ أَيْ: أَصْحَابُ الشِّمَالِ، أَوْ أَصْحَابُ الشُّؤْمِ، أَوِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشِمَالِهِمْ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ أَيْ: مُطْبَقَةٌ مُغْلَقَةٌ، يُقَالُ: أَصَدْتُ الْبَابَ وَأَوْصَدْتُهُ إِذَا أَغْلَقْتُهُ وَأَطْبَقْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَحِنُّ إِلَى أَجْبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِي ... وَمِنْ دُونِهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُؤْصَدَةُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «مُوصَدَةٌ» بِالْوَاوِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ بِالْهَمْزَةِ مَكَانَ الْوَاوِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ قَالَ: مَكَّةُ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ يَعْنِي بِذَلِكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ دَخَلَ مَكَّةَ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ شَاءَ وَيَسْتَحْيِيَ مَنْ شَاءَ، فَقَتَلَ لَهُ يَوْمَئِذٍ ابْنَ خَطَلٍ صَبْرًا، وَهُوَ آخِذٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا حراما حرّمه الله، فأحلّ الله له مَا صَنَعَ بِأَهْلِ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ قَالَ مَكَّةُ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ قَالَ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُقَاتِلَ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُكَ فَلَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ- وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ فيّ، خرجت فوجدت عبد الله بن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة، فضربت عنقه بين الركن والمقام. وأخرج الحاكم وصحّحه عن ابن عباس لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ- وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا

الْبَلَدِ قَالَ: أَحَلَّ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ فِيهِ مَا شَاءَ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قَالَ: يَعْنِي بِالْوَالِدِ: آدَمَ، وَمَا وَلَدَ: وَلَدَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ. قَالَ: الْوَالِدُ: الَّذِي يَلِدُ، وَمَا وَلَدَ: الْعَاقِرُ لَا يَلِدُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ والطبراني عنه أيضا [فِي قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ قَالَ: مكة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ قال: مكة وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قَالَ: آدَمُ] «1» لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال: اعْتِدَالٍ وَانْتِصَابٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قَالَ: فِي نَصَبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال: في شدة. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قَالَ: فِي شِدَّةِ خَلْقِ وِلَادَتِهِ وَنَبْتِ أَسْنَانِهِ وَمَعِيشَتِهِ وَخِتَانِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ كُلُّ شَيْءٍ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ فَإِنَّهُ خُلِقَ مُنْتَصِبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْهُ أَيْضًا لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قَالَ: مُنْتَصِبًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ أنه قد وكل له مَلَكٌ إِذَا نَامَتِ الْأُمُّ أَوِ اضْطَجَعَتْ رَفَعَ رأسه، ولولا ذَلِكَ لَغَرَقَ فِي الدَّمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مَالًا لُبَداً قَالَ: كَثِيرًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قَالَ: سَبِيلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قَالَ: الْهُدَى وَالضَّلَالَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: سَبِيلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سِنَانِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمَا نَجْدَانِ، فَمَا جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الْخَيْرِ» . تَفَرَّدَ بِهِ سِنَانُ بْنُ سَعْدٍ، وَيُقَالُ: سَعْدُ بْنُ سِنَانٍ. وَقَدْ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْجَوْزَجَانِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: تَرَكْتُ حَدِيثَهُ لِاضْطِرَابِهِ، قَدْ رَوَى خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيثًا مُنْكَرَةً كُلَّهَا، مَا أَعْرِفُ مِنْهَا حَدِيثًا وَاحِدًا، يُشْبِهُ حَدِيثُهُ حَدِيثَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، لَا يُشْبِهُ حَدِيثَ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ، فَذَكَرَهُ. وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَكَذَا رَوَاهُ قَتَادَةُ مُرْسَلًا. أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ ويشهد له ما أخرج الطبراني عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُمَا نَجْدَانِ: نَجْدُ خَيْرٍ، وَنَجْدُ شَرٍّ، فَمَا جُعِلَ نَجْدَ الشَّرِّ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ» ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا هُمَا نَجْدَانِ: نَجْدُ الْخَيْرِ، وَنَجْدُ الشَّرِّ، فَلَا يَكُنْ نَجْدُ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال: الثّديين.

_ (1) . ما بين حاصرتين سقط من الأصل واستدرك من الدر المنثور (8/ 519) .

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ قَالَ: جَبَلٌ زُلَالٌ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْعَقَبَةُ النَّارُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حميد عنه قال: عقبة بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَ أَحَدِنَا مَا يُعْتِقُ إِلَّا أَنَّ عِنْدَ أَحَدِنَا الْجَارِيَةَ السَّوْدَاءَ تَخْدِمُهُ، فَلَوْ أَمَرْنَاهُنَّ بِالزِّنَا فَجِئْنَ بِالْأَوْلَادِ فَأَعْتَقْنَاهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ أُمَتِّعَ بِسَوْطٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آمُرَ بِالزِّنَا ثُمَّ أَعْتِقَ الْوَلَدَ» . وأخرجه ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهَا بِلَفْظِ: «لَعِلَاقَةُ سَوْطٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ هَذَا» . وَقَدْ ثَبَتَ التَّرْغِيبُ فِي عِتْقِ الرِّقَابِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجِ بِالْفَرْجِ» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ قَالَ: مَجَاعَةٌ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ قَالَ: جُوعٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ قَالَ: ذَا قَرَابَةٍ، وَفِي قَوْلِهِ: ذَا مَتْرَبَةٍ قَالَ: بَعِيدُ التُّرْبَةِ، أَيْ: غَرِيبًا عَنْ وَطَنِهِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ أَيْضًا أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ قَالَ: هُوَ الْمَطْرُوحُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ. وَفِي لَفْظٍ لِلْحَاكِمِ: هُوَ الَّذِي لَا يَقِيهِ مِنَ التُّرَابِ شَيْءٌ. وَفِي لَفْظٍ: هُوَ اللَّازِقُ بِالتُّرَابِ مِنْ شِدَّةِ الْفَقْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ قَالَ: «الَّذِي مَأْوَاهُ الْمَزَابِلُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ يَعْنِي بِذَلِكَ رَحْمَةَ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مُؤْصَدَةٌ قَالَ: مُغْلَقَةُ الْأَبْوَابِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُؤْصَدَةٌ قال: مطبقة.

سورة الشمس

سورة الشمس وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا» بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَأَشْبَاهَهَا مِنَ السُّوَرِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ: «هَلَّا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِاللَّيْلِ إِذَا يُغْشَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا» . وأخرج البيهقي في الشعب عن عقبة ابن عَامِرٍ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ نُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الضُّحَى بِسُورَتَيْهِمَا بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالضُّحَى» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْقَسَمَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ، وَمِمَّا سَيَأْتِي هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أي: وربّ الشَّمْسِ وَرَبِّ الْقَمَرِ، وَهَكَذَا سَائِرُهَا، وَلَا مُلْجِئَ إِلَى هَذَا وَلَا مُوجِبَ لَهُ، وَقَوْلُهُ: وَضُحاها هُوَ قَسَمٌ ثَانٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَضُحاها أَيْ: ضوؤها وَإِشْرَاقِهَا، وَأَضَافَ الضُّحَى إِلَى الشَّمْسِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ ارْتِفَاعِهَا، وَكَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ضُحاها: نَهَارُهَا كُلُّهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الضُّحَى: هُوَ النَّهَارُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ الضُّحَى، الصُّبْحُ، وَهُوَ نُورُ الشَّمْسِ. قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الضُّحَى: نَقِيضُ الظِّلِّ، وَهُوَ نُورُ الشَّمْسِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَصْلُهُ: الضُّحَى فَاسْتَثْقَلُوا الْيَاءَ فَقَلَبُوهَا أَلِفًا. قِيلَ: وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّ الضُّحَى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَبُعَيْدَ ذَلِكَ قَلِيلًا، فَإِذَا زَادَ فَهُوَ الضُّحَاءُ بِالْمَدِّ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الضُّحَى وَالضَّحْوَةُ مُشْتَقَّانِ مِنَ الضِّحِّ وَهُوَ النُّورُ، فَأُبْدِلَتِ الْأَلِفُ وَالْوَاوُ مِنَ الْحَاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ مَاذَا هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَحُذِفَتِ اللَّامُ لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ طَالَ، فَصَارَ طُولُهُ عِوَضًا مِنْهَا، وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ:

وَالشَّمْسِ، وَكَذَا: لَتُبْعَثُنَّ، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: لَيُدَمْدِمَنَّ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ لِتَكْذِيبِهِمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا دَمْدَمَ عَلَى ثَمُودَ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا صَالِحًا، وَأَمَّا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها فَكَلَامٌ تَابِعٌ لِقَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، وَلَيْسَ مِنْ جَوَابِ الْقَسَمِ فِي شَيْءٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِغَيْرِ حَذْفٍ، وَالْمَعْنَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أَيْ: تَبِعَهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ طَلَعَ بَعْدَ غُرُوبِهَا، يُقَالُ: تَلَا يَتْلُو تُلُوًّا إِذَا تَبِعَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَذَلِكَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ تَلَاهَا الْقَمَرُ فِي الْإِضَاءَةِ وَخَلَفَهَا فِي النُّورِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَلَاهَا حِينَ اسْتَدَارَ، فَكَانَ يَتْلُو الشَّمْسَ فِي الضِّيَاءِ وَالنُّورِ، يَعْنِي إِذَا كَمُلَ ضوءه فصار تابعا للشمس في الإنارة، ليلة الهلال إذا سقطت رؤي الْهِلَالِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ تَلَاهَا الْقَمَرُ بِالطُّلُوعِ، وَفِي آخِرِ الشَّهْرِ يَتْلُوهَا بِالْغُرُوبِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَلَاهَا: أَخَذَ مِنْهَا، يَعْنِي أَنَّ الْقَمَرَ يَأْخُذُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها أَيْ: جَلَّى الشَّمْسَ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ انْبِسَاطِ النَّهَارِ تَنْجَلِي تَمَامَ الِانْجِلَاءِ، فَكَأَنَّهُ جَلَّاهَا مَعَ أَنَّهَا الَّتِي تَبْسُطُهُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الظُّلْمَةِ، أَيْ: جَلَى الظُّلْمَةَ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لِلظُّلْمَةِ ذِكْرٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَمَا تَقُولُ أَصْبَحَتْ بَارِدَةً، أَيْ: أَصْبَحَتْ غَدَاتُنَا بَارِدَةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بن الخطيم: تَجَلَّتْ لَنَا كَالشَّمْسِ تَحْتَ غَمَامَةٍ ... بَدَا حَاجِبٌ مِنْهَا وَضَنَّتْ بِحَاجِبِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: جَلَّى مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُسْتَتِرَةً فِي اللَّيْلِ، وَقِيلَ: جَلَّى الدُّنْيَا، وَقِيلَ: جَلَّى الْأَرْضَ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أَيْ: يَغْشَى الشَّمْسَ فَيَذْهَبُ بِضَوْئِهَا فَتَغِيبُ وَتُظْلِمُ الْآفَاقَ، وَقِيلَ: يَغْشَى الْآفَاقَ، وَقِيلَ: الْأَرْضُ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُمَا ذِكْرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَالسَّماءِ وَما بَناها يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: وَالسَّمَاءِ وَبُنْيَانِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، أَيْ: وَالَّذِي بَنَاهَا، وَإِيثَارُ «مَا» على من لإدارة الْوَصْفِيَّةِ لِقَصْدِ التَّفْخِيمِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْقَادِرِ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ الَّذِي بَنَاهَا. وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ جَعْلَهَا مَصْدَرِيَّةً مُخِلٌّ بِالنَّظْمِ. وَرَجَّحَ الثَّانِيَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْأَرْضِ وَما طَحاها الْكَلَامُ فِي «مَا» هَذِهِ كَالْكَلَامِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَمَعْنَى طَحَاهَا: بَسَطَهَا، كَذَا قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: دَحاها «1» قالوا: طحاها ودحاها وَاحِدٌ، أَيْ: بَسَطَهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالطَّحْوُ: الْبَسْطُ، وَقِيلَ: مَعْنَى طَحَاهَا قَسَمَهَا، وَقِيلَ: خَلَقَهَا، ومنه قول الشاعر: وما تدري جَذِيمَةُ مَنْ طَحَاهَا ... وَلَا مَنْ سَاكِنُ الْعَرْشِ الرَّفِيعِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالطَّحْوُ أَيْضًا: الذَّهَابُ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: طَحَا الرَّجُلُ إِذَا ذهب في الأرض،

_ (1) . النازعات: 30.

يُقَالُ: مَا أَدْرِي أَيْنَ طَحَا! وَيُقَالُ: طَحَا به قلبه، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ ... بُعَيْدَ الشَّبَابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها الْكَلَامُ فِي «مَا» هَذِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَعْنَى سَوَّاهَا: خَلَقَهَا وَأَنْشَأَهَا وَسَوَّى أَعْضَاءَهَا. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ جَمِيعَ مَا خَلَقَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّفْخِيمِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ آدَمَ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أَيْ: عَرَّفَهَا وَأَفْهَمَهَا حَالَهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَّفَهَا طَرِيقَ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فَأَلْهَمَهَا: عَرَّفَهَا طَرِيقَ الْخَيْرِ وطريق الشرّ، كما قال: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «2» . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا أَلْهَمَهُ الْخَيْرَ فَعَمِلَ بِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ الشَّرَّ أَلْهَمَهُ الشَّرَّ فَعَمِلَ بِهِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ فِيهَا ذَلِكَ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهَا لِلتَّقْوَى، وَخِذْلَانِهِ إِيَّاهَا لِلْفُجُورِ، وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ، وَحَمَلَ الْإِلْهَامَ عَلَى التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ لِتَفْسِيرِ الْإِلْهَامِ فَإِنَّ التَّبْيِينَ وَالتَّعْلِيمَ وَالتَّعْرِيفَ دُونَ الْإِلْهَامِ، وَالْإِلْهَامُ: أَنْ يُوقَعَ فِي قَلْبِهِ وَيُجْعَلَ فِيهِ، وَإِذَا أَوْقَعَ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ شَيْئًا أَلْزَمَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ. قَالَ: وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الْمُؤْمِنِ تَقْوَاهُ، وَفِي الْكَافِرِ فُجُورَهُ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها أَيْ: قَدْ فَازَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَأَنْمَاهَا وَأَعْلَاهَا بِالتَّقْوَى بِكُلِّ مَطْلُوبٍ وَظَفِرَ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَأَصْلُ الزَّكَاةِ: النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ زَكَا الزَّرْعُ إِذَا كَثُرَ وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أَيْ: خَسِرَ مَنْ أَضَلَّهَا وَأَغْوَاهَا. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: دَسَّاهَا أَصْلُهُ دَسَّسَهَا، مِنَ التَّدْسِيسِ، وَهُوَ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ فِي الشيء، فمعنى دسّاها في الآية: أخفاها وأهملها وَلَمْ يُشْهِرْهَا بِالطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَانَتْ أَجْوَادُ الْعَرَبِ تَنْزِلُ الْأَمْكِنَةَ الْمُرْتَفِعَةَ لِيَشْتَهِرَ مَكَانُهَا فَيَقْصِدَهَا الضُّيُوفُ، وَكَانَتْ لِئَامُ الْعَرَبِ تَنْزِلُ الْهِضَابَ وَالْأَمْكِنَةَ الْمُنْخَفِضَةَ لِيَخْفَى مَكَانُهَا عَنِ الْوَافِدِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَى دَسَّاهَا: أَغْوَاهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَنْتَ الَّذِي دَسَّيْتَ عَمْرًا فَأَصْبَحَتْ ... حَلَائِلُهُ مِنْهُ أَرَامِلَ ضُيَّعَا وقال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أَيْ: دَسَّ نَفْسَهُ فِي جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها الطَّغْوَى: اسْمٌ مِنَ الطُّغْيَانِ كالدعوى من الدعاء. قال الواحدي: قال المفسرون: كذبت ثمود بطغيانها، أي: الطغيان حملهم عَلَى التَّكْذِيبِ، وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْمَعَاصِي، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَقِيلَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها أَيْ: بِعَذَابِهَا الَّذِي وُعِدَتْ بِهِ، وَسُمِّيَ الْعَذَابُ طَغْوَى لِأَنَّهُ طَغَى عَلَيْهِمْ، فَتَكُونُ الْبَاءُ عَلَى هَذَا لِلتَّعْدِيَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: بِطَغْواها أَيْ: بِأَجْمَعِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِطَغْواها بِفَتْحِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِضَمِّ الطَّاءِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الطُّغْيَانِ، وَإِنَّمَا قُلِبَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ لِأَنَّهُمْ يَقْلِبُونَ الْيَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ كَثِيرًا نَحْوَ تَقْوَى وَسَرْوَى، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ مَصْدَرٌ كَالرُّجْعَى وَالْحُسْنَى وَنَحْوِهِمَا، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ كَذَّبَتْ، أَوْ بِطَغْوَاهَا، أَيْ: حِينَ قام أشقى ثمود، وهو قدار بن

_ (1) . هو علقمة. (2) . البلد: 10.

سَالِفٍ فَعَقَرَ النَّاقَةَ، وَمَعْنَى انْبَعَثَ: انْتَدَبَ لِذَلِكَ وَقَامَ بِهِ، يُقَالُ: بَعَثْتُهُ عَلَى الْأَمْرِ فَانْبَعَثَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي الْأَعْرَافِ فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ يَعْنِي صَالِحًا ناقَةَ اللَّهِ قَالَ الزَّجَّاجُ: نَاقَةَ اللَّهِ مَنْصُوبَةٌ عَلَى مَعْنَى: ذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: حَذَّرَهُمْ إِيَّاهَا، وَكُلُّ تَحْذِيرٍ فَهُوَ نَصْبٌ وَسُقْياها مَعْطُوفٌ عَلَى نَاقَةَ، وَهُوَ شُرْبُهَا مِنَ الْمَاءِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: ذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ فَلَا تَعْقِرُوهَا وَذَرُوا سُقْيَاهَا، وَهُوَ شُرْبُهَا مِنَ النَّهْرِ فَلَا تَعَرَّضُوا لَهُ يَوْمَ شُرْبِهَا، فَكَذَّبُوا بِتَحْذِيرِهِ إِيَّاهُمْ فَعَقَرُوها أَيْ: عَقَرَهَا الْأَشْقَى، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ الْعَقْرَ إِلَى الْجَمِيعِ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِمَا فَعَلَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ لَمْ يَعْقِرْهَا حَتَّى تَابَعَهُ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: عَقَرَهَا اثْنَانِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هَذَانِ أَفْضَلُ النَّاسِ، وَهَذَانِ خَيْرُ النَّاسِ، فَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَشْقِيَاهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها أَيْ: أَهْلَكَهُمْ وَأَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ، وَحَقِيقَةُ الدَّمْدَمَةِ: تَضْعِيفُ الْعَذَابِ وَتَرْدِيدُهُ، يُقَالُ: دَمْدَمْتُ عَلَى الشَّيْءِ، أَيْ: أَطْبَقْتُ عَلَيْهِ، وَدَمْدَمَ عَلَيْهِ الْقَبْرُ، أَيْ: أَطْبَقَهُ، وَنَاقَةٌ مَدْمُومَةٌ إِذَا لَبِسَهَا الشَّحْمُ، وَالدَّمْدَمَةُ: إِهْلَاكٌ بِاسْتِئْصَالٍ، كَذَا قَالَ الْمُؤَرِّجُ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: دَمْدَمْتُ الشَّيْءَ: إِذَا أَلْزَقْتَهُ بِالْأَرْضِ وَطَحْطَحْتَهُ، وَدَمْدَمَ الله عليهم، أي: أهلكهم. وقال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: دَمْدَمَ: إِذَا عَذَّبَ عَذَابًا تَامًّا. وَالضَّمِيرُ فِي «فَسَوَّاهَا» يَعُودُ إِلَى الدَّمْدَمَةِ، أَيْ: فَسَوَّى الدَّمْدَمَةَ عَلَيْهِمْ وَعَمَّهُمْ بِهَا فَاسْتَوَتْ عَلَى صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الْأَرْضِ، أَيْ: فَسَوَّى الْأَرْضَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ، وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الْأُمَّةِ، أَيْ: ثَمُودَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَوَّى الْأُمَّةَ: أَنْزَلَ الْعَذَابَ بِصَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا بِمَعْنَى سَوَّى بَيْنَهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَدَمْدَمَ بِمِيمٍ بَيْنَ الدَّالَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: «فَدَهْدَمَ» بَهَاءٍ بَيْنَ الدَّالَيْنِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُمَا لُغَتَانِ كَمَا يُقَالُ: امْتُقِعَ لَوْنُهُ، وَاهْتُقِعَ لَوْنُهُ وَلا يَخافُ عُقْباها أَيْ: فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِمْ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ عَاقِبَةٍ وَلَا تَبِعَةٍ، وَالضَّمِيرُ فِي عُقْبَاهَا يَرْجِعُ إِلَى الْفِعْلَةِ، أَوْ إِلَى الدَّمْدَمَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِدَمْدَمَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: إِنَّ الْكَلَامَ يَرْجِعُ إِلَى الْعَاقِرِ لَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: لَمْ يَخَفِ الَّذِي عَقَرَهَا عُقْبَى مَا صَنَعَ. وَقِيلَ: لَا يَخَافُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاقِبَةَ إِهْلَاكِ قَوْمِهِ وَلَا يَخْشَى ضَرَرًا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِهِمْ لِأَنَّهُ قَدْ أَنْذَرَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يَخافُ بِالْوَاوِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالْفَاءِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَضُحاها قال: ضوءها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها قَالَ: تَبِعَهَا وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها قَالَ: أَضَاءَهَا وَالسَّماءِ وَما بَناها قَالَ: اللَّهُ بَنَى السَّمَاءَ وَالْأَرْضِ وَما طَحاها قَالَ: دَحَاهَا فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَالَ: عَلَّمَهَا الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَالْأَرْضِ وَما طَحاها يَقُولُ: قَسَّمَهَا فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَالَ: مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ أَيْضًا فَأَلْهَمَها قَالَ: أَلْزَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ، شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى فِي قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِمَّا أَتَاهُمْ نَبِيُّهُمْ وَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةَ، قَالَ: بَلْ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُونَ إِذَنْ؟ قَالَ: مَنْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِوَاحِدَةٍ مِنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ يُهَيِّئُهُ لِعَمَلِهَا وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ

اللَّهِ: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها- فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وَسَيَأْتِي فِي السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ نَحْوُ هَذَا الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ: «كَانَ إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها- فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَالَ: فَذَكَرَهُ» وَزَادَ أَيْضًا: «وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ» . وَأَخْرَجَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها يَقُولُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسَهُ وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها يَقُولُ: قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّ اللَّهُ نَفْسَهُ فَأَضَلَّهُ وَلا يَخافُ عُقْباها قال: قَالَ: لَا يَخَافُ مِنْ أَحَدٍ تَبِعَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها يَعْنِي مَكَرَ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها الْآيَةَ: أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهُ، وَخَابَتْ نَفْسٌ خَيَّبَهَا اللَّهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَجُوَيْبِرٌ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا بِطَغْواها قَالَ: اسْمُ الْعَذَابِ الَّذِي جَاءَهَا الطَّغْوَى، فَقَالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِعَذَابِهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: «خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَذَكَرَ النَّاقَةَ وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَهَا، فَقَالَ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها قَالَ: «انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَارِمٌ عَزِيزٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَغَوِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: «أَلَا أُحَدِّثُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: رَجُلَانِ: أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذَا» يَعْنِي قَرْنَهُ «حَتَّى تَبْتَلَّ منه هذه» يعني لحيته.

سورة الليل

سورة الليل وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى مكة. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَنَحْوِهَا» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمُ الْهَاجِرَةَ فَرَفَعَ صَوْتَهُ، فَقَرَأَ وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى فَقَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُمِرْتَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أُوَقِّتَ لَكُمْ» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ: «فَهَلَّا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى؟» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنِّي لَأَقُولُ إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي السَّمَاحَةِ وَالْبُخْلِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) وقوله: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى أَيْ: يُغَطِّي بِظُلْمَتِهِ مَا كَانَ مُضِيئًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَغْشَى اللَّيْلُ الْأُفُقَ وَجَمِيعَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَيَذْهَبُ ضَوْءُ النَّهَارِ، وَقِيلَ: يَغْشَى النَّهَارَ، وَقِيلَ: يَغْشَى الْأَرْضَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أَيْ: ظَهَرَ وَانْكَشَفَ وَوَضُحَ لِزَوَالِ الظُّلْمَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي اللَّيْلِ، وَذَلِكَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «مَا» هُنَا هِيَ الْمَوْصُولَةُ، أَيْ: وَالَّذِي خلق الذكر والأنثى، وعبّر عن من بما لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ وَلِقَصْدِ التَّفْخِيمِ، أَيْ: وَالْقَادِرُ العظيم الّذي خلق الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. قَالَ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ وَالَّذِي خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، فَيَكُونُ قَدْ أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَما خَلَقَ أَيْ: وَمَنْ خلق. وقال مُقَاتِلٌ: يَعْنِي وَخَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، فَتَكُونُ «مَا» عَلَى هَذَا مَصْدَرِيَّةً. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى» بِدُونِ مَا خَلَقَ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ: إِنَّ عَمَلَكُمْ لَمُخْتَلِفٌ فَمِنْهُ عَمَلٌ لِلْجَنَّةِ، وَمِنْهُ عَمَلٌ لِلنَّارِ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: السَّعْيُ: الْعَمَلُ، فَسَاعٍ فِي فِكَاكِ نفسه، وساع

فِي عَطَبِهَا، وَشَتَّى: جَمْعُ شَتِيتٍ، كَمَرْضَى وَمَرِيضٍ، وَقِيلَ لِلْمُخْتَلِفِ: شَتَّى لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَ بَعْضِهِ وَبَعْضٍ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى أَيْ: بَذَلَ مَالَهُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَاتَّقَى مَحَارِمَ اللَّهِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أَيْ: بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى الْمُعْسِرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَعْطَى حَقَّ اللَّهِ الَّذِي عليه. وقال الحسن: أعطى الصدق من قبله وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، أَيْ: بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّلَمِيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْحُسْنَى: بِالْجَنَّةِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ قَتَادَةُ: بِالْحُسْنى: أَيْ بِمَوْعُودِ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَهُ أَنْ يُثِيبَهُ. قَالَ الْحَسَنُ: بِالْخَلَفِ مِنْ عَطَائِهِ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أَيْ: فَسَنُهَيِّئُهُ لِلْخَصْلَةِ الْحُسْنَى، وَهِيَ عَمَلُ الْخَيْرِ، وَالْمَعْنَى: فَسَنُيَسِّرُ لَهُ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالْعَمَلَ بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ اشْتَرَى سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا فِي أَيْدِي أَهْلِ مَكَّةَ يُعَذِّبُونَهُمْ فِي اللَّهِ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى أَيْ: بَخِلَ بِمَالِهِ فَلَمْ يَبْذُلْهُ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ وَاسْتَغْنى أَيْ: زَهِدَ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، أَوِ اسْتَغْنَى بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عَنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى أَيْ: بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْجَنَّةِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أَيْ: فَسَنُهَيِّئُهُ لِلْخَصْلَةِ الْعُسْرَى وَنُسَهِّلُهَا لَهُ حَتَّى تَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَيَضْعُفُ عَنْ فِعْلِهَا فَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إِلَى النَّارِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ خَيْرًا. قِيلَ: الْعُسْرَى: الشَّرُّ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرَّ يُؤَدِّي إِلَى الْعَذَابِ، وَالْعُسْرَةُ فِي الْعَذَابِ، وَالْمَعْنَى: سَنُهَيِّئُهُ لِلشَّرِّ بِأَنْ نُجْرِيَهُ عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَنُيَسِّرُهُ: سَنُهَيِّئُهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ يَسَّرَتِ الْغَنَمُ إِذَا وَلَدَتْ أَوْ تَهَيَّأَتْ لِلْوِلَادَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ «1» : هُمَا سَيِّدَانَا يَزْعُمَانِ وَإِنَّمَا ... يَسُودَانِنَا إِنْ يَسَّرَتْ غَنَمَاهُمَا وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى أَيْ: لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا مَالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ، أَوْ: أَيُّ شَيْءٍ يُغْنِي عَنْهُ إِذَا تَرَدَّى، أَيْ: هَلَكَ، يُقَالُ: رَدِيَ الرَّجُلُ يَرْدَى رَدًى، وَتَرَدَّى يَتَرَدَّى إِذَا هَلَكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَأَبُو صَالِحٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِذا تَرَدَّى إِذَا سَقَطَ فِي جَهَنَّمَ، يُقَالُ: رَدِيَ فِي الْبِئْرِ وَتَرَدَّى: إِذَا سَقَطَ فِيهَا، وَيُقَالُ: مَا أَدْرِي أَيْنَ رَدِيَ، أَيْ: أَيْنَ ذَهَبَ؟ إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: إِنَّ عَلَيْنَا الْبَيَانَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلَالِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَلَى اللَّهِ الْبَيَانُ بَيَانُ حَرَامِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ سَلَكَ الْهُدَى فَعَلَى اللَّهِ سَبِيلُهُ، لِقَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ «2» يقول: من أراد الله فو عَلَى السَّبِيلِ الْقَاصِدِ. قَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا: الْمَعْنَى إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَالْإِضْلَالَ، فَحَذَفَ الْإِضْلَالَ كَقَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «3» وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ عَلَيْنَا ثَوَابَ هُدَاهُ الَّذِي هَدَيْنَاهُ وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أَيْ: لَنَا كُلُّ مَا فِي الْآخِرَةِ، وَكُلُّ مَا فِي الدُّنْيَا نَتَصَرَّفُ بِهِ كَيْفَ نَشَاءُ، فَمَنْ أَرَادَهُمَا أَوْ إِحْدَاهُمَا فَلْيَطْلُبْ ذَلِكَ مِنَّا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ لَنَا ثَوَابَ الْآخِرَةِ وَثَوَابَ الدُّنْيَا فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى

_ (1) . هو أبو أسيدة الدبيري. (2) . النحل: 9. (3) . النحل: 81. [.....]

أَيْ: حَذَّرْتُكُمْ وَخَوَّفْتُكُمْ نَارًا تَتَوَقَّدُ وَتَتَوَهَّجُ، وَأَصْلُهُ تَتَلَظَّى فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا. وَقَرَأَ عَلَى الْأَصْلِ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى أي: يَصْلَاهَا صَلْيًا لَازِمًا عَلَى جِهَةِ الْخُلُودِ إِلَّا الْأَشْقَى وَهُوَ الْكَافِرُ، وَإِنْ صَلِيَهَا غَيْرُهُ مِنَ الْعُصَاةِ فَلَيْسَ صِلِيُّهُ كَصِلِيِّهِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يَصْلاها: يَدْخُلُهَا أَوْ يَجِدُ صَلَاهَا، وَهُوَ حَرُّهَا. ثُمَّ وَصَفَ الْأَشْقَى فَقَالَ: الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَيْ: كَذَّبَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأَعْرَضَ عَنِ الطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ. قَالَ الْفَرَّاءُ إِلَّا الْأَشْقَى إِلَّا مَنْ كَانَ شَقِيًّا فِي عِلْمِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. قَالَ أَيْضًا: لَمْ يَكُنْ كَذَّبَ بِرَدٍّ ظَاهِرٍ، وَلَكِنْ قَصَّرَ عَمَّا أَمَرَ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ فَجُعِلَ تَكْذِيبًا، كَمَا تَقُولُ: لَقِيَ فُلَانٌ الْعَدُوَّ فَكَذَّبَ إِذَا نَكَلَ وَرَجَعَ عَنِ اتِّبَاعِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قَالَ أَهْلُ الْإِرْجَاءِ بِالْإِرْجَاءِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا كَافِرٌ وَلِأَهْلِ النَّارِ مَنَازِلُ، فَمِنْهَا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ كُلُّ مَا وَعَدَ عَلَيْهِ بِجِنْسٍ مِنَ الْعَذَابِ فَجَدِيرٌ أَنْ يُعَذِّبَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» فَلَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ لَمْ يُعَذَّبْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَائِدَةٌ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ حَالَتَيْ عَظِيمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعَظِيمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُرِيدَ أَنْ يُبَالَغَ فِي صِفَتَيْهِمَا الْمُتَنَاقِضَتَيْنِ، فَقِيلَ: الْأَشْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالصِّلِيِّ كَأَنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ، وَقِيلَ: الْأَتْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالنَّجَاةِ كَأَنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَشْقَى أَبُو جَهْلٍ أَوْ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَبِالْأَتْقَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَمَعْنَى سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى سَيُبَاعَدُ عَنْهَا الْمُتَّقِي لِلْكُفْرِ اتِّقَاءً بَالِغًا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَتْقَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، انْتَهَى. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْأَشْقَى وَالْأَتْقَى عَلَى كُلِّ مُتَّصِفٍ بِالصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَصْلَاهَا صِلِيًّا تَامًّا لَازِمًا إِلَّا الْكَامِلُ فِي الشَّقَاءِ وَهُوَ الْكَافِرُ، وَلَا يُجَنَّبُهَا وَيُبْعَدُ عَنْهَا تَبْعِيدًا كَامِلًا بِحَيْثُ لَا يَحُومُ حَوْلَهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدْخُلَهَا إِلَّا الْكَامِلُ فِي التَّقْوَى، فَلَا يُنَافِي هَذَا دُخُولَ بَعْضِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ النَّارَ دُخُولًا غَيْرَ لَازِمٍ، وَلَا تَبْعِيدَ بَعْضِ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَامِلَ التَّقْوَى عَنِ النَّارِ تَبْعِيدًا غَيْرَ بَالِغٍ مَبْلَغَ تَبْعِيدِ الْكَامِلِ فِي التَّقْوَى عَنْهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ مِنَ الْمُرْجِئَةِ بِقَوْلِهِ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى زَاعِمًا أَنَّ الْأَشْقَى الْكَافِرُ، لِأَنَّهُ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَلَمْ يَقَعِ التَّكْذِيبُ مِنْ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُقَالُ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجَنَّبُ النَّارَ إِلَّا الْكَامِلُ فِي التَّقْوَى، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَامِلًا فِيهَا كَعُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُجَنَّبُ النَّارَ، فَإِنْ أَوَّلْتَ الْأَتْقَى بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ لَزِمَكَ مِثْلُهُ فِي الْأَشْقَى فَخُذْ إِلَيْكَ هَذِهِ مَعَ تِلْكَ، وَكُنْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: عَلَى أَنَّنِي رَاضٍ بِأَنْ أَحْمِلَ الْهَوَى ... وَأَخْرُجَ مِنْهُ لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَهْ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَشْقَى وَالْأَتْقَى الشَّقِيَّ وَالتَّقِيَّ، كَمَا قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ: تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سبيل لست فيها بأوحد

_ (1) . النساء: 48.

أَيْ: بِوَاحِدٍ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ يُنَافِي هَذَا وَصْفَ الْأَشْقَى بِالتَّكْذِيبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِ فَلَا يَتِمُّ مَا أَرَادَهُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ شُمُولِ الْوَصْفَيْنِ لِعُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ صِفَةَ الْأَتْقَى فَقَالَ: الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ أَيْ: يُعْطِيهِ وَيَصْرِفُهُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَقَوْلُهُ: يَتَزَكَّى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يُؤْتِي، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ زَكِيًّا لَا يَطْلُبُ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ يُؤْتِي دَاخِلًا مَعَهُ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَتَزَكَّى مُضَارِعُ تَزَكَّى. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ تَزَّكَّى بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِ التَّزَكِّي عَلَى جِهَةِ الْخُلُوصِ غَيْرَ مَشُوبٍ بِشَائِبَةٍ تُنَافِي الْخُلُوصَ، أَيْ: لَيْسَ مِمَّنْ يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ لِيُجَازِيَ بِصَدَقَتِهِ نِعْمَةً لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ وَيُكَافِئَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَبْتَغِي بِصَدَقَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ نِعْمَةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُجَازَى عَلَيْهَا حَتَّى يَقْصِدَ بِإِيتَاءِ مَا يُؤْتِي مِنْ مَالِهِ مُجَازَاتَهَا، وَإِنَّمَا قَالَ «نجزي» مُضَارِعًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ، وَالْأَصْلُ يَجْزِيهَا إِيَّاهُ، أَوْ يَجْزِيهِ إِيَّاهَا إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا ابْتِغاءَ بِالنَّصْبِ على الاستثناء المنقطع لعدم اندراجه تحت جنس النعمة، أي: لكن ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: لا يؤتي إلا لابتغاء وجه ربّه لا لمكافأة نعمة. قال الفراء: هو منصوب عَلَى التَّأْوِيلِ، أَيْ: مَا أَعْطَيْتُكَ ابْتِغَاءَ جَزَائِكَ بَلِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَحَلِّ نِعْمَةٍ، لِأَنَّ مَحَلَّهَا الرَّفْعُ إِمَّا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَإِمَّا على الابتداء ومن مَزِيدَةٌ، وَالرَّفْعُ لُغَةُ تَمِيمٍ، لِأَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الْبَدَلَ فِي الْمُنْقَطِعِ وَيُجْرُونَهُ مَجْرَى الْمُتَّصِلِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الرَّفْعَ فِي ابْتِغاءَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ نِعْمَةٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ. قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: كَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا قِرَاءَةً، وَاسْتِبْعَادُهُ هُوَ الْبَعِيدُ فَإِنَّهَا لُغَةٌ فَاشِيَةٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا ابْتِغاءَ بِالْمَدِّ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالْقَصْرِ، وَالْأَعْلَى نَعْتٌ لِلرَّبِّ وَلَسَوْفَ يَرْضى اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، أَيْ: وَتَاللَّهِ لَسَوْفَ يَرْضَى بِمَا نُعْطِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْجَزَاءِ الْعَظِيمِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَرْضى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقُرِئَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قَالَ: إِذَا أَظْلَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ اشْتَرَى بِلَالًا مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ بِبُرْدَةٍ وَعَشْرِ أَوَاقٍ فَأَعْتَقَهُ لِلَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى سَعْيَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَيَّةَ وَأُبَيٍّ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى قَالَ: النَّارِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى مِنَ الْفَضْلِ وَاتَّقى قَالَ: اتَّقَى رَبَّهُ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قَالَ: صَدَّقَ بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى قَالَ: لِلْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى قَالَ: بَخِلَ بِمَالِهِ وَاسْتَغْنَى عَنْ رَبِّهِ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى قَالَ: بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى قَالَ: لِلشَّرِّ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قَالَ: أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ. وَأَخْرَجَ

ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى يَقُولُ: صَدَّقَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى يَقُولُ: مَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ فَبَخِلَ بِالزَّكَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَعْتِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَعْتِقُ عَجَائِزَ وَنِسَاءً إِذَا أَسْلَمْنَ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَيْ بُنَيَّ أَرَاكَ تَعْتِقُ أُنَاسًا ضُعْفًا، فَلَوْ أَنَّكَ تَعْتِقُ رِجَالًا جُلُدًا يَقُومُونَ معك ويمنعونك وَيَدْفَعُونَ عَنْكَ. قَالَ: أَيْ أَبَتِ إِنَّمَا أُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى إِلَى قَوْلِهِ لِلْعُسْرى» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي أَيِّ شَيْءٍ نَعْمَلُ؟ أَفِي شَيْءٍ ثَبَتَتْ فِيهِ الْمَقَادِيرُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، أَمْ فِي شَيْءٍ يُسْتَقْبَلُ فِيهِ العمل؟ قال: بل فِي شَيْءٍ ثَبَتَتْ فِيهِ الْمَقَادِيرُ وَجَرَتْ فِيهِ الْأَقْلَامُ، قَالَ سُرَاقَةُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى إِلَى قَوْلِهِ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» . وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَتَدْخُلُنَّ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ يَأْبَى، قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟ فَقَرَأَ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، إِلَّا مَنْ شَرَدَ عَلَى اللَّهِ كَمَا يَشْرُدُ الْبَعِيرُ السُّوءُ عَلَى أَهْلِهِ، فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْنِي فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى- الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وكذّب بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَلَّى عَنْهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَلْيَنِ كَلِمَةٍ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا كُلُّكُمْ يُدْخِلُ اللَّهُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ شَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِهِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا شَقِّيٌّ. قِيلَ: وَمَنِ الشَّقِيُّ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَعْمَلُ لِلَّهِ بِطَاعَةٍ وَلَا يَتْرُكُ لِلَّهِ مَعْصِيَةً» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي تَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَبَى، قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَعْتَقَ سَبْعَةً كُلُّهُمْ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ: بِلَالٌ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالنَّهْدِيَّةُ وَابْنَتُهَا، وَزِنِّيرَةُ، وَأُمُّ عِيسَى، وَأَمَةُ بَنِي الْمُؤَمَّلِ، وَفِيهِ نَزَلَتْ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إِلَى

آخِرِ السُّورَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَامِرِ بن عبد الله ابن الزُّبَيْرِ مَا قَدَّمْنَا عَنْهُ، وَزَادَ فِيهِ: فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى إِلَى قَوْلِهِ: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى - إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى - وَلَسَوْفَ يَرْضى. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ نَحْوَ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى قال: هو أبو بكر الصدّيق.

سورة الضحى

سورة الضّحى وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ وَالضُّحى بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طَرِيقٍ أَبِي الْحَسَنِ الْمُقْرِي قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ بْنَ سُلَيْمَانَ يقول: «قرأت على إسماعيل بن قسطنطين، فَلَمَّا بَلَغْتُ وَالضُّحَى قَالَ: كَبِّرْ حَتَّى تَخْتِمَ، وَأَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى مُجَاهِدٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ. وَأَخْبَرَهُ مُجَاهِدٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمْرَهُ بِذَلِكَ. وَأَخْبَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَمْرَهُ بِذَلِكَ. وَأَخْبَرَهُ أُبَيٌّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ» . وَأَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِي الْمَذْكُورُ هُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ الْمُقْرِي. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَهَذِهِ سُنَّةٌ تَفَرَّدَ بِهَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَزِّيُّ مِنْ وَلَدِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْقِرَاءَاتِ. وَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَقَالَ: لَا أَخَذْتُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ قَالَ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي مَوْضِعِ هَذَا التَّكْبِيرِ وَكَيْفِيَّتِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُكَبَّرُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْ آخِرِ الضُّحَى. وَكَيْفِيَّةُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَيَقْتَصِرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. وَذَكَرُوا فِي مُنَاسَبَةِ التَّكْبِيرِ مِنْ أَوَّلِ الضُّحَى أَنَّهُ لَمَّا تَأَخَّرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتَرَ تِلْكَ الْمُدَّةَ، ثُمَّ جَاءَ الْمَلَكُ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ: وَالضُّحى - وَاللَّيْلِ إِذا سَجى السُّورَةَ كَبَّرَ فَرَحًا وَسُرُورًا، وَلَمْ يَرْوُوا ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِصِحَّةٍ وَلَا ضَعْفٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ: اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَكَ لَمْ يَقْرَبْكَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَالضُّحى - وَاللَّيْلِ إِذا سَجى - مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ: أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ، فَنَزَلَتْ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ بَعْضُ بَنَاتِ عَمِّهِ: مَا أَرَى صَاحِبَكَ إِلَّا قَدْ قَلَاكَ، فَنَزَلَتْ: وَالضُّحَى. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جُنْدَبٍ، وَفِيهِ: فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ: مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَكَ، فَنَزَلَتْ: وَالضُّحَى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

وَالْمُرَادُ بِالضُّحَى هُنَا النَّهَارُ كُلُّهُ، لِقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فَلَمَّا قَابَلَ الضُّحَى بِاللَّيْلِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهَارُ كُلُّهُ لَا بَعْضُهُ. وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِوَقْتِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الضُّحَى مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ: إِنَّ المراد الضُّحَى الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالضُّحَى هُوَ السَّاعَةُ الَّتِي خَرَّ فِيهَا السَّحَرَةُ سُجَّدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى «2» وَقِيلَ: الْمُقْسَمُ بِهِ مُضَافٌ مُقَدَّرٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ، أَيْ: وَرَبِّ الضُّحَى، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: وَضَحَاوَةِ الضُّحَى، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا، فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَقِيلَ: الضُّحَى: نُورُ الْجَنَّةِ، وَاللَّيْلُ: ظُلْمَةُ النَّارِ، وَقِيلَ: الضُّحَى: نُورُ قُلُوبِ الْعَارِفِينَ، وَاللَّيْلُ: سَوَادُ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى أَيْ: سَكَنَ، كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمْ. يُقَالُ: لَيْلَةٌ سَاجِيَةٌ: أَيْ سَاكِنَةٌ، وَيُقَالُ لِلْعَيْنِ إِذَا سَكَنَ طَرْفُهَا: سَاجِيَةٌ، يُقَالُ: سَجَا الشَّيْءُ يَسْجُو سُجُوًّا إِذَا سَكَنَ. قَالَ عَطَاءٌ: سَجَا: إذا غطّى بالظلمة. وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: سَجَا: امْتَدَّ ظَلَامُهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سُجُوُّ اللَّيْلِ: تَغْطِيَتُهُ النَّهَارَ، مِثْلَ مَا يُسْجَى الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: غَشَّى بِظَلَامِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَقْبَلَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: اسْتَوَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ. وَمَعْنَى سُكُونِهِ: اسْتِقْرَارُ ظَلَامِهِ وَاسْتِوَاؤُهُ، فَلَا يُزَادُ بَعْدَ ذَلِكَ. مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ: مَا قَطَعَكَ قَطْعَ الْمُوَدِّعِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «مَا وَدَّعَكَ» بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ التَّوْدِيعِ، وَهُوَ تَوْدِيعُ الْمُفَارِقِ، وقرأ ابن عباس وعروة بن الزبير وابنه هَاشِمٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ بِتَخْفِيفِهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ وَدَعَهُ، أَيْ: تَرَكَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: سَلْ أَمِيرِي مَا الَّذِي غَيَّرَهُ ... عَنْ وِصَالِي الْيَوْمَ حَتَّى وَدَّعَهُ وَالتَّوْدِيعُ أَبْلَغُ فِي الوداع لِأَنَّ مَنْ وَدَّعَكَ مُفَارِقًا فَقَدْ بَالَغَ فِي تَرْكِكَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ وَدَعَ وَلَا وَذَرَ، لِضَعْفِ الْوَاوِ إِذَا قُدِّمَتْ، وَاسْتَغْنَوْا عنها بترك. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَدَّعَكَ: مِنَ التَّوْدِيعِ كَمَا يُوَدِّعُ الْمُفَارِقُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَقْطَعِ الْوَحْيَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ وَما قَلى الْقِلَى: الْبُغْضُ، يُقَالُ: قَلَاهُ يَقْلِيهِ قِلَاءً. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَا أَبْغَضَكَ، وَقَالَ: وَمَا قَلَى، وَلَمْ يَقُلْ وَمَا قَلَاكَ لِمُوَافَقَةِ رُؤُوسِ الْآيِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا أَبْغَضَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَلَسْتُ بِمُقْلِي الْخِلَالِ ولا قال «3» وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى اللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْجَنَّةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوتِيَ فِي الدُّنْيَا مِنْ شَرَفِ النُّبُوَّةِ مَا يَصْغُرُ عِنْدَهُ كُلُّ شَرَفٍ، وَيَتَضَاءَلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كُلُّ مَكْرُمَةٍ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا مَشُوبَةً بِالْأَكْدَارِ، مُنَغَّصَةً بِالْعَوَارِضِ البشرية، وكانت الحياة فيها

_ (1) . الشمس: 1. (2) . طه: 59. (3) . وصدر البيت: صرفت الهوى عنهن من خشية الردى.

كَأَحْلَامِ نَائِمٍ، أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ، لَمْ تَكُنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ شَيْئًا وَلَمَّا كَانَتْ طَرِيقًا إِلَى الْآخِرَةِ وَسَبَبًا لِنَيْلِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ بِمَا يَفْعَلُونَهُ فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ كَانَ فِيهَا خَيْرٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى هَذِهِ اللَّامُ قِيلَ: هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ دَخَلَتْ عَلَى الْخَبَرِ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَالْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ إِلَخْ، وَلَيْسَتْ لِلْقَسَمِ لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ إِلَّا مَعَ النُّونِ الْمُؤَكِّدَةِ، وَقِيلَ: هِيَ لِلْقَسَمِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَيْسَتْ هَذِهِ اللَّامُ هِيَ الَّتِي فِي قَوْلِكَ: إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ، بَلْ هِيَ الَّتِي فِي قَوْلِكَ: لَأَقُومَنَّ، وَنَابَتْ سَوْفَ عَنْ إِحْدَى نُونَيِ التَّأْكِيدِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَيُعْطِيَنَّكَ. قِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ الْفَتْحَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ فَتَرْضَى. وَقِيلَ: الْحَوْضُ وَالشَّفَاعَةُ، وَقِيلَ: أَلْفُ قَصْرٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ أَبْيَضَ تُرَابُهُ الْمِسْكُ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُعْطِيهِ مَا يَرْضَى بِهِ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَأَقْدَمِهِ لَدَيْهِ قَبُولُ شَفَاعَتِهِ لِأُمَّتِهِ. أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى هذا شروع فِي تِعْدَادِ مَا أَفَاضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ، أَيْ: وَجَدَكَ يَتِيمًا لَا أَبَ لَكَ فَآوَى، أَيْ: جَعَلَ لَكَ مَأْوًى تَأْوِي إِلَيْهِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَآوَى» بِأَلِفٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ رُبَاعِيًّا، مِنْ آوَاهُ يُؤْوِيهِ، وَقَرَأَ أَبُو الْأَشْهَبِ: «فَأَوَى» ثُلَاثِيًّا، وَهُوَ إِمَّا بِمَعْنَى الرُّبَاعِيِّ، أَوْ هُوَ مِنْ أَوَى لَهُ إِذَا رَحِمَهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ مَعْنَى الْآيَةِ: أَلَمْ يَجِدْكَ وَاحِدًا فِي شَرَفِكَ لَا نَظِيرَ لَكَ فَآوَاكَ اللَّهُ بِأَصْحَابٍ يَحْفَظُونَكَ وَيَحُوطُونَكَ، فَجَعَلَ يَتِيمًا مِنْ قَوْلِهِمْ: دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ، وَهُوَ بِعِيدٌ جِدًّا، وَالْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ النَّفْيِ وَتَقْرِيرِ الْمَنْفِيِّ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ وَجَدَكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَالْوُجُودُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَيَتِيمًا مَفْعُولُهُ الثَّانِي، وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْمُصَادَفَةِ، وَيَتِيمًا حَالٌ مِنْ مَفْعُولِهِ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُضَارِعِ الْمَنْفِيِّ، وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَهُ كَمَا ذَكَرْنَا، أَيْ: قَدْ وَجَدَكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَالضَّلَالُ هُنَا بِمَعْنَى الْغَفْلَةِ، كَمَا فِي قوله: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى «1» وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ «2» وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَجَدَكَ غَافِلًا عَمَّا يُرَادُ بِكَ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: مَعْنَى ضَالًّا: لَمْ تَكُنْ تَدْرِي الْقُرْآنَ وَلَا الشَّرَائِعَ فَهَدَاكَ لِذَلِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَالْفَرَّاءُ: وَجَدَكَ فِي قَوْمِ ضَلَالٍ فَهَدَاهُمُ اللَّهُ لَكَ. وَقِيلَ: وَجَدَكَ طَالِبًا لِلْقِبْلَةِ فَهَدَاكَ إِلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها «3» وَيَكُونُ الضَّلَالُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ. وَقِيلَ: وَجَدَكَ ضَائِعًا فِي قَوْمِكَ فَهَدَاكَ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ الضَّلَالُ بِمَعْنَى الضَّيَاعِ. وَقِيلَ: وَجَدَكَ مُحِبًّا لِلْهِدَايَةِ فَهَدَاكَ إِلَيْهَا، وَيَكُونُ الضَّلَالُ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَجَبًا لِعَزَّةَ فِي اخْتِيَارِ قَطِيعَتِي ... بَعْدَ الضَّلَالِ فَحَبْلُهَا قَدْ أَخْلَقَا وَقِيلَ: وَجَدَكَ ضَالًّا فِي شِعَابِ مَكَّةَ فَهَدَاكَ، أَيْ: رَدَّكَ إِلَى جَدِّكَ عبد المطلب وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى

_ (1) . طه: 52. (2) . يوسف: 3. (3) . البقرة: 144.

أَيْ: وَجَدَكَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَكَ فَأَغْنَاكَ، يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ عَيْلَةً إِذَا افْتَقَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ: فَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ أَيْ: يَفْتَقِرُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَأَغْنى أَيْ: رَضَّاكَ بِمَا أَعْطَاكَ مِنَ الرِّزْقِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْفَرَّاءُ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا مِنْ كَثْرَةٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَضَّاهُ بِمَا آتَاهُ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الْغِنَى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: عائِلًا ذَا عِيَالٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: اللَّهُ أَنْزَلَ فِي الْكِتَابِ فَرِيضَةً ... لِابْنِ السَّبِيلِ وَلِلْفَقِيرِ الْعَائِلِ وَقِيلَ: فَأَغْنَى بِمَا فَتَحَ لَكَ مِنَ الْفُتُوحِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَقِيلَ: بِمَالِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَقِيلَ: وَجَدَكَ فَقِيرًا مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ فَأَغْنَاكَ بِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «عَائِلًا» وَقَرَأَ محمد بن السّميقع وَالْيَمَانِيُّ «عَيِّلًا» بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ كَسَيِّدٍ. ثُمَّ أَوْصَاهُ سُبْحَانَهُ بِالْيَتَامَى وَالْفُقَرَاءِ فَقَالَ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أَيْ: لَا تَقْهَرْهُ بِوَجْهٍ مِنْ وجوه القهر كائنا ما كَانَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُحَقِّرِ الْيَتِيمَ فَقَدْ كُنْتَ يَتِيمًا. قَالَ الْأَخْفَشُ: لَا تَسَلَّطْ عَلَيْهِ بِالظُّلْمِ، ادْفَعْ إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَاذْكُرْ يُتْمَكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: لَا تَقْهَرُهْ عَلَى مَالِهِ فَتَذْهَبَ بِحَقِّهِ لِضَعْفِهِ، وَكَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ فِي حَقِّ الْيَتَامَى تَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ وَتَظْلِمُهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْسِنُ إِلَى الْيَتِيمِ وَيَبَرُّهُ وَيُوصِي بِالْيَتَامَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَلَا تَقْهَرْ» بِالْقَافِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: «تَكْهَرُ» بِالْكَافِ، وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ الْقَافِ وَالْكَافِ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِنَّمَا يُقَالُ كَهَرَهُ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ وَغَلُظَ. وَقِيلَ: الْقَهْرُ: الْغَلَبَةُ، وَالْكَهْرُ: الزَّجْرُ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: هِيَ لُغَةٌ، يَعْنِي قِرَاءَةَ الْكَافِ مِثْلُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، واليتيم مَنْصُوبٌ بِتَقْهَرَ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ يُقَالُ: نَهَرَهُ وَانْتَهَرَهُ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ يَزْجُرُهُ، فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ زَجْرِ السَّائِلِ وَالْإِغْلَاظِ لَهُ، وَلَكِنْ يبذل الْيَسِيرَ أَوْ يَرُدُّهُ بِالْجَمِيلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُرِيدُ السَّائِلَ عَلَى الْبَابِ، يَقُولُ: لَا تَنْهَرْهُ إِذَا سَأَلَكَ فَقَدْ كُنْتَ فَقِيرًا، فَإِمَّا أن تُطْعِمُهُ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّهُ رَدًّا لَيِّنًا. قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاه رُدَّ السَّائِلَ بِرَحْمَةٍ وَلِينٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّائِلِ الَّذِي يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ، فَلَا تَنْهَرْهُ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَفْوَةِ، وَأَجِبْهُ بِرِفْقٍ وَلِينٍ، كَذَا قَالَ سُفْيَانُ، وَالسَّائِلَ مَنْصُوبٌ بِتَنْهَرَ، وَالتَّقْدِيرُ: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَلَا تَقْهَرِ الْيَتِيمَ وَلَا تَنْهَرِ السَّائِلَ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّحَدُّثِ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِظْهَارِهَا لِلنَّاسِ وَإِشْهَارِهَا بَيْنَهُمْ، وَالظَّاهِرُ النِّعْمَةُ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا أَوْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ بِالنِّعْمَةِ هُنَا الْقُرْآنُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانَ الْقُرْآنُ أَعْظَمَ ما أنعم الله بن عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَكَانَ يَقْرَؤُهُ وَيُحَدِّثُ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْمُرَادُ بِالنِّعْمَةِ النُّبُوَّةُ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ فَقَالَ: أَيْ بَلِّغْ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ وَحَدِّثْ بِالنُّبُوَّةِ الَّتِي آتَاكَ اللَّهُ، وَهِيَ أَجَلُّ النِّعَمِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي اشْكُرْ مَا ذُكِرَ مِنَ النِّعْمَةِ عَلَيْكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْهُدَى بَعْدَ الضَّلَالَةِ وَجَبْرِ الْيُتْمِ، وَالْإِغْنَاءِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ فَاشْكُرْ هَذِهِ النِّعَمَ. وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِحَدِّثْ، وَالْفَاءُ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِهِ، وَهَذِهِ

النَّوَاهِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ نَوَاهٍ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ لِأَنَّهُمْ أُسْوَتُهُ، فَكُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْهِيٌّ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ النَّوَاهِي. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاللَّيْلِ إِذا سَجى قَالَ: إِذَا أَقْبَلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ إِذا سَجى قَالَ: إِذَا ذَهَبَ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ قَالَ: مَا تَرَكَكَ وَما قَلى قَالَ: مَا أَبْغَضَكَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُرِضَ عَلَيَّ مَا هُوَ مَفْتُوحٌ لِأُمَّتِي بَعْدِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: «عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ مَفْتُوحٌ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَسُرَّ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى فَأَعْطَاهُ فِي الْجَنَّةِ أَلْفَ قَصْرٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ تُرَابُهُ الْمِسْكُ، فِي كُلِّ قَصْرٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْخَدَمِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قَالَ: رِضَاهُ أَنْ يَدْخُلَ أُمَّتُهُ كُلُّهُمُ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: من رضا محمد صلّى الله عليه وسلّم أَنْ لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ النَّارَ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي التَّلْخِيصِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: لَا يرضى محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ فِي النَّارِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ فِي إِبْرَاهِيمَ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي «1» وَقَوْلَ عِيسَى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «2» الْآيَةَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي، وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ لَهُ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ ولا نسوءك» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، مِنْ طَرِيقِ حَرْبِ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ الَّتِي يَتَحَدَّثُ بِهَا أَهْلُ الْعِرَاقِ أَحَقٌّ هِيَ؟ قَالَ: إِي والله، حدثني محمد بن الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَشْفَعُ لِأُمَّتِي حَتَّى يُنَادِيَنِي رَبِّي: أَرْضِيتَ يَا مُحَمَّدُ؟ فَأَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ رَضِيتُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلِيٌّ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِنَّ أرجى آية في كتاب الله: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً «3» قُلْتُ إِنَّا لَنَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: فَكُنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ نَقُولُ: إِنَّ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وَهِيَ الشَّفَاعَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى» . وَأَخْرَجَ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْمَوَاعِظِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَاطِمَةَ وَهِيَ تَطْحَنُ بِالرَّحَى، وَعَلَيْهَا كِسَاءٌ مِنْ جِلْدِ الْإِبِلِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ: يَا فَاطِمَةُ تَعَجَّلِي مَرَارَةَ الدُّنْيَا بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سألت

_ (1) . إبراهيم: 36. (2) . المائدة: 118. (3) . الزمر: 53.

رَبِّي مَسْأَلَةً وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ، قُلْتُ: قَدْ كَانَتْ قَبْلِي أَنْبِيَاءُ مِنْهُمْ مَنْ سَخَّرْتَ لَهُ الرِّيحَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، فَقَالَ تَعَالَى: يَا مُحَمَّدُ أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ أَلَمْ أَضَعْ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ أَلَمْ أَرْفَعْ لَكَ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَبِّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ وَالضُّحى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمُنُّ عَلَيَّ رَبِّي، وَأَهْلٌ أَنْ يَمُنَّ رَبِّي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى قَالَ: وَجَدَكَ بَيْنَ الضَّالِّينَ فَاسْتَنْقَذَكَ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قَالَ: مَا عَلِمْتَ مِنَ الْخَيْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِذَا أَصَبْتَ خَيْرًا فَحَدِّثْ إِخْوَانَكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالْخَطِيبُ فِي الْمُتَّفَقِ- قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ- عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ» . وَأَخْرَجَ أَبُو داود، والترمذي وحسّنه، وأبو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ جَابِرِ ابن عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَبْلَى بَلَاءً فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالضِّيَاءُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيَجُزْ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ بِهِ، فَمَنْ أَثْنَى بِهِ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ، وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَ فَإِنَّهُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أُولِيَ مَعْرُوفًا فَلْيُكَافِئْ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَذْكُرْهُ، فَإِنَّ مَنْ ذكره فقد شكره» .

سورة الشرح

سورة الشرح وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ أَلَمْ نَشْرَحْ بِمَكَّةَ، وَزَادَ: بَعْدَ الضُّحَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَزَلَتْ سُورَةُ أَلَمْ نَشْرَحْ بِمَكَّةَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) مَعْنَى شَرْحِ الصَّدْرِ: فَتْحُهُ بِإِذْهَابِ مَا يَصُدُّ عَنِ الْإِدْرَاكِ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ قَرَّرَهُ، فَصَارَ الْمَعْنَى: قَدْ شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ، وَإِنَّمَا خَصَّ الصَّدْرَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ أَحْوَالِ النَّفْسِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْإِدْرَاكَاتِ، وَالْمُرَادُ الِامْتِنَانُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَتْحِ صَدْرِهِ وَتَوْسِيعِهِ حَتَّى قَامَ بِمَا قَالَ بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ، وَقَدَرَ عَلَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ حَمْلِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَحِفْظِ الْوَحْيِ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ «1» . وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، لَا عَلَى لَفْظِهِ: أَيْ قَدْ شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا إِلَخْ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ يَمْدَحُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ أَيْ: أَنْتُمْ خَيْرُ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا، وَأَنْدَى إِلَخْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَشْرَحْ بِسُكُونِ الْحَاءِ بِالْجَزْمِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ الْعَبَّاسِيُّ بِفَتْحِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالُوا: لَعَلَّهُ بَيَّنَ الْحَاءَ وَأَشْبَعَهَا فِي مَخْرَجِهَا، فَظَنَّ السَّامِعُ أَنَّهُ فَتَحَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الْأَصْلَ أَلَمْ نَشْرَحَنَ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ، ثُمَّ إِبْدَالُهَا أَلِفًا، ثُمَّ حَذْفُهَا تَخْفِيفًا كَمَا أَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ: مِنْ أَيِّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أَفِرُّ ... أَيَوْمَ لَمْ يُقَدَّرَ أَمْ يَوْمَ قُدِّرْ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ لَمْ يُقَدَّرَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: اضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِقَهَا ... ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الْفَرَسِ بِفَتْحِ الْبَاءِ مِنِ اضْرِبَ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيدِ الْمَجْزُومِ بِلَمْ، وَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ: يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يعلما ... شيخا على كرسيّه معمّما

_ (1) . الزمر: 22.

فَقَدْ تَرَكَّبَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ ثَلَاثَةِ أُصُولٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، الْأَوَّلُ: تَوْكِيدُ الْمَجْزُومِ بِلَمْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. الثَّانِي: إِبْدَالُهَا أَلِفًا، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْوَقْفِ، فَإِجْرَاءُ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ ضَعِيفٌ. وَالثَّالِثُ: حَذْفُ الْأَلِفِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَخَرَّجَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ الَّذِينَ يَنْصِبُونَ بِلَمْ وَيَجْزِمُونَ بِلَنْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فِي كُلِّ مَا هَمَّ أَمْضَى رَأْيَهُ قُدُمًا ... وَلَمْ يُشَاوِرَ فِي إِقْدَامِهِ أَحَدًا بِنَصْبِ الرَّاءِ مِنْ يُشَاوِرُ، وَهَذِهِ اللُّغَةُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ مَا أَظُنُّهَا تَصِحُّ، وَإِنْ صَحَّتْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللُّغَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فَإِنَّهَا جَاءَتْ بِعَكْسِ مَا عَلَيْهِ لُغَةُ الْعَرَبِ بِأَسْرِهَا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقِرَاءَةُ هَذَا الرَّجُلِ مَعَ شِدَّةِ جَوْرِهِ وَمَزِيدِ ظُلْمِهِ وَكَثْرَةِ جَبَرُوتِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ بِالِاشْتِغَالِ بِهَا. وَالْوِزْرُ: الذَّنْبُ، أَيْ: وَضَعْنَا عَنْكَ مَا كُنْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى حَطَطْنَا عَنْكَ الَّذِي سَلَفَ مِنْكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» ثم وصف هذا الوزر فقال: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ أَثْقَلَ ظَهْرَكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَثْقَلَهُ حَتَّى سُمِعَ لَهُ نَقِيضٌ، أَيْ: صَوْتٌ، وَهَذَا مِثْلُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَمْلًا يُحْمَلُ لَسُمِعَ نَقِيضُ ظَهْرِهِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: أَنْقَضَ الْحَمْلُ ظَهْرَ النَّاقَةِ إِذَا سُمِعَ لَهُ صَرِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَمِيلٍ: وحتّى تداعت بالنّقيض حباله ... وهمّت بواني زَوْرِهِ «2» أَنْ تَحَطَّمَا وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: وَأَنْقَضَ ظَهْرِي مَا تَطَوَّيْتُ مِنْهُمْ ... وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ مُشْفِقًا مُتَحَنِّنَا قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُنُوبٌ قَدْ أَثْقَلَتْهُ فَغَفَرَهَا اللَّهُ لَهُ، وَقَوْمٌ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ هَذَا تَخْفِيفُ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ الَّتِي تُثْقِلُ الظَّهْرَ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِهَا سَهَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى تَيَسَّرَتْ لَهُ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ وقرأ ابن مسعود: «وحللنا عنك ووقرك» . ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنَّتَهُ عَلَيْهِ وَكَرَامَتَهُ فَقَالَ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ قَالَ الْحَسَنُ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعٍ إِلَّا ذُكِرَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يُنَادِي فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ يَعْنِي بِالتَّأْذِينِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: ذَكَّرْنَاكَ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، وَقِيلَ: رَفَعْنَا ذِكْرَكَ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَرْضِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الرفع لذكره

_ (1) . الفتح: 2. (2) . «بواني زوره» : أي أصول صدره.

الَّذِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ أَسْبَابِ رَفْعِ الذِّكْرِ، وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَإِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ وَاحِدَةً صلّى عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، وَأَمْرُ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ كَقَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ «1» وَقَوْلِهِ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «2» وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «3» وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ مَلَأَ ذِكْرُهُ الْجَلِيلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ لِسَانِ الصِّدْقِ وَالذِّكْرِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ الصَّالِحِ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «4» اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ عَدَدَ مَا صَلَّى عَلَيْهِ الْمُصَلُّونَ بِكُلِّ لِسَانٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ حَسَّانَ: أَغَرُّ عليه للنبوّة خاتم ... من الله مشهود يَلُوحُ وَيَشْهَدُ وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ مَعَ اسْمِهِ ... إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنِ أَشْهَدُ وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أَيْ: إِنَّ مَعَ الضِّيقَةِ سَعَةً، وَمَعَ الشِّدَّةِ رَخَاءٌ، وَمَعَ الْكَرْبِ فَرَجٌ. وَفِي هَذَا وَعْدٌ منه سبحانه بأن كل عسر يَتَيَسَّرُ، وَكُلَّ شَدِيدٍ يَهُونُ، وَكُلَّ صَعْبٍ يَلِينُ. ثُمَّ زَادَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْوَعْدَ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا، فَقَالَ مُكَرِّرًا لَهُ بِلَفْظِ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أَيْ: إِنَّ مَعَ ذَلِكَ الْعُسْرِ الْمَذْكُورِ سَابِقًا يُسْرًا آخَرَ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ إِذَا أُعِيدَ الْمُعَرَّفُ يَكُونُ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسَ أَوِ الْعَهْدَ، بِخِلَافِ الْمُنْكَّرِ إِذَا أُعِيدَ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِالثَّانِي فَرْدٌ مُغَايِرٌ لِمَا أُرِيدَ بِالْفَرْدِ الْأَوَّلِ فِي الْغَالِبِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْعُسْرَ وَاحِدٌ وَالْيُسْرَ اثْنَانِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَكَرَ الْعُسْرَ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ ثُمَّ ثَنَّى ذِكْرَهُ، فَصَارَ الْمَعْنَى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَيْنِ. قِيلَ: وَالتَّنْكِيرُ فِي الْيُسْرِ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُوَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ غَيْرُ مُكَرَّرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ السِّينِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعِيسَى بِضَمِّهَا فِي الْجَمِيعِ فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أَيْ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ صَلَاتِكَ، أَوْ مِنَ التَّبْلِيغِ، أَوْ مِنَ الْغَزْوِ فَانْصَبْ، أَيْ: فَاجْتَهِدْ فِي الدُّعَاءِ وَاطْلُبْ مِنَ اللَّهِ حَاجَتَكَ، أَوْ فَانْصَبْ فِي الْعِبَادَةِ، وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ، يُقَالُ: نَصَبَ يَنْصَبُ نَصَبًا، أَيْ: تَعِبَ. قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَانْصَبْ إِلَى رَبِّكَ فِي الدُّعَاءِ، وَارْغَبْ إِلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ يُعْطِكَ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ. قَالَ الشعبي: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، وكذا قال الزهري. وقال الكلبي أيضا: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَانْصَبْ: أَيِ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ جِهَادِ عَدُوِّكَ فَانْصَبْ لِعِبَادَةِ رَبِّكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَانْصَبْ فِي صَلَاتِكَ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ اجْعَلْ رَغْبَتَكَ إِلَى اللَّهِ وحده. قال عطاء: يريد أن يَضْرَعُ إِلَيْهِ رَاهِبًا مِنَ النَّارِ، رَاغِبًا فِي الجنة، والمعنى: أنه يرغب إليه سبحانه

_ (1) . النور: 54. [.....] (2) . الحشر: 7. (3) . آل عمران: 21. (4) . الحديد: 21.

لَا إِلَى غَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَلَا يَطْلُبُ حَاجَاتِهِ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يُعَوِّلُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ إِلَّا عَلَيْهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَارْغَبْ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «فَرَغِّبْ» بِتَشْدِيدِ الْغَيْنِ، أَيْ: فَرَغِّبِ النَّاسَ إِلَى اللَّهِ وَشَوِّقْهُمْ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ قَالَ: شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: تَدْرِي كَيْفَ رَفَعْتَ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: إِذَا ذُكْرِتُ ذُكِرْتَ مَعِيَ» وَإِسْنَادُ ابْنِ جَرِيرٍ هَكَذَا: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ الْآيَةَ قَالَ: لَا يُذْكَرُ اللَّهُ إِلَّا ذُكِرَ مَعَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وحياله جحر، فقال: «لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاءه اليسر فدخل عليه فأخرجه، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً- إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ عَنْهُ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا نَحْوَهُ- قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ- وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الصَّبْرِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: «لَوْ كَانَ الْعُسْرُ فِي جُحْرٍ لَتَبِعَهُ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ فَيُخْرِجَهُ، وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً- إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ إِلَّا عَائِذُ بْنُ شُرَيْحٍ. قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: فِي حَدِيثِهِ ضَعْفٌ، وَلَكِنْ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَرِحًا مَسْرُورًا وَهُوَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَرُوِيَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا عَنْ قَتَادَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ الْآيَةَ، قَالَ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ فِي الدُّعَاءِ وَاسْأَلِ اللَّهَ وَارْغَبْ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الصَّلَاةِ وَتَشَهَّدْتَ فَانْصَبْ إِلَى رَبِّكَ وَاسْأَلْهُ حَاجَتَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الذِّكْرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ إِلَى الدُّعَاءِ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ قَالَ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْفَرَائِضِ فَانْصَبْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ.

سورة التين

سورة التّين وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَيُخَالِفُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ التِّينِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ، فَقَرَأَ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا وَلَا قِرَاءَةً مِنْهُ» . وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ عَنْهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المغرب، فقرأ بالتين وَالزَّيْتُونِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ قَانِعٍ وَابْنُ السَّكَنِ، وَالشِّيرَازِيُّ فِي الْأَلْقَابِ، عَنْ زُرْعَةَ بْنِ خَلِيفَةَ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَمَامَةِ، فَعَرَضَ عَلَيْنَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمْنَا، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الغداة قرأ بالتين والزيتون، وإنا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ التِّينُ الَّذِي يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَالزَّيْتُونِ الَّذِي يَعْصِرُونَ مِنْهُ الزَّيْتَ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِالتِّينِ لِأَنَّهُ فَاكِهَةٌ مُخْلَصَةٌ مِنْ شَوَائِبِ التَّنْغِيصِ، وَفِيهَا أَعْظَمُ عِبْرَةٍ لِدَلَالَتِهَا عَلَى مَنْ هَيَّأَهَا لِذَلِكَ، وَجَعَلَهَا عَلَى مِقْدَارِ اللُّقْمَةِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ: إن التين أنفع الفواكه وَأَكْثَرُهَا غِذَاءً، وَذَكَرُوا لَهُ فَوَائِدَ كَمَا فِي كُتُبِ الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ، وَأَمَّا الزَّيْتُونُ فَإِنَّهُ يُعْصَرُ مِنْهُ الزَّيْتُ الَّذِي هُوَ إِدَامُ غَالِبِ الْبُلْدَانِ وَدَهْنُهُمْ، وَيَدْخُلُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَدْوِيَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: التِّينُ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالزَّيْتُونُ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: التِّينُ: مَسْجِدُ دِمَشْقَ، وَالزَّيْتُونُ: مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: التِّينُ: الْجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ دِمَشْقُ، وَالزَّيْتُونُ: الْجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ: التِّينُ: دِمَشْقُ، وَالزَّيْتُونُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَلَيْتَ شِعْرِي مَا الْحَامِلُ لِهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْعُدُولِ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْعُدُولِ إِلَى هَذِهِ التَّفْسِيرَاتِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمَعْنَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى خَيَالَاتٍ لَا تَرْجِعُ إِلَى عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ

جَرِيرٍ لِلْآخَرِ مِنْهَا مَعَ طُولِ بَاعِهِ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ: التِّينُ: جِبَالُ حُلْوَانَ إِلَى هَمْدَانَ، وَالزَّيْتُونُ: جبال الشام. هَبْ أَنَّكَ سَمِعْتَ هَذَا الرَّجُلَ، فَكَانَ مَاذَا؟ فليس بمثل هذا تثبيت اللُّغَةُ، وَلَا هُوَ نَقْلٌ عَنِ الشَّارِعِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: التِّينُ: مَسْجِدُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَالزَّيْتُونُ: مَسْجِدُ إِيلِيَاءَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَمَنَابِتِ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا مِنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَلَا مِنْ قَوْلِ مَنْ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ. وَطُورِ سِينِينَ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى اسمه الطور، ومعنى سينين: الْمُبَارَكُ الْحَسَنُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْمُبَارَكُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: سِينِينَ: كُلُّ جَبَلٍ فِيهِ شَجَرٌ مُثْمِرٌ فَهُوَ سينين وسيناء بلغة النّبط. قال الأخفش: طور: جبل، وسينين: شجر، واحدته سينينية. قال أبو علي الفارسي: سينين فعليل، فكرّرت اللام التي هي نون فيه، ولم ينصرف سينين كما لم ينصرف سيناء لِأَنَّهُ جُعِلَ اسْمًا لِلْبُقْعَةِ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِهَذَا الْجَبَلِ لِأَنَّهُ بِالشَّامِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ «1» وَأَعْظَمُ بَرَكَةٍ حَلَّتْ بِهِ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ تَكْلِيمُ اللَّهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: سِينِينَ بِكَسْرِ السِّينِ، وَقَرَأَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَأَبُو رَجَاءٍ بِفَتْحِهَا، وَهِيَ لُغَةُ بَكْرٍ وَتَمِيمٍ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَطَلْحَةُ سَيْناءَ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يَعْنِي مَكَّةَ، سَمَّاهُ أَمِينًا لِأَنَّهُ آمَنَ كَمَا قال: أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً «2» يُقَالُ أَمِنَ الرَّجُلُ أَمَانَةً فَهُوَ أَمِينٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: الْأَمِينُ بِمَعْنَى الْآمِنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ أَمِنَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُونُ الْغَوَائِلِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ: خَلَقْنَا جِنْسَ الْإِنْسَانِ كَائِنًا فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَتَعْدِيلٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ ذِي رُوحٍ مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا الْإِنْسَانَ، خَلَقَهُ مَدِيدَ الْقَامَةِ يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَهُ بِيَدِهِ، وَمَعْنَى التَّقْوِيمِ: التَّعْدِيلُ، يُقَالُ: قَوَّمْتُهُ فَاسْتَقَامَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ اعْتِدَالُهُ وَاسْتِوَاءُ شَأْنِهِ، كَذَا قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقٌ أَحْسَنُ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُدَبِّرًا حَكِيمًا، وَهَذِهِ صِفَاتُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَعَلَيْهَا جعل بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله خلق آدم على صورته» يَعْنِي عَلَى صِفَاتِهِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنَّ يُضَمَّ إِلَى كَلَامِهِ هَذَا قَوْلُهُ سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «3» وقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً «4» وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ عَلَى حَقِيقَةِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ بَدِيعِ الْخَلْقِ وَعَجِيبِ الصُّنْعِ فَلْيَنْظُرْ فِي كِتَابِ «الْعِبَرِ وَالِاعْتِبَارِ» لِلْجَاحِظِ، وَفِي الْكِتَابِ الَّذِي عَقَدَهُ النَّيْسَابُورِيُّ عَلَى قَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ «5» وَهُوَ فِي مُجَلَّدَيْنِ ضَخْمَيْنِ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أَيْ: رَدَدْنَاهُ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَهُوَ الْهَرَمُ وَالضَّعْفُ بَعْدَ الشَّبَابِ وَالْقُوَّةِ حَتَّى يَصِيرَ كَالصَّبِيِّ فَيَخْرُفُ وَيَنْقُصُ عَقْلُهُ، كَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالسَّافِلُونَ: هُمُ الضُّعَفَاءُ وَالزُّمَنَاءُ وَالْأَطْفَالُ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ أَسْفَلُ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا.

_ (1) . الإسراء: 1. (2) . العنكبوت: 67. (3) . الشورى: 11. (4) . طه: 110. (5) . الذاريات: 21.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى: ثُمَّ رَدَدْنَا الْكَافِرَ إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّارَ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ، فَالْكَافِرُ يَرِدُ إِلَى أَسْفَلِ الدَّرَجَاتِ السَّافِلَةِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «1» فَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مُجْتَمِعِينَ فِي ذَلِكَ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، وَقَوْلُهُ: أَسْفَلَ سافِلِينَ إِمَّا حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَيْ: رَدَدْنَاهُ حَالَ كَوْنِهِ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، أَوْ صِفَةٌ لِمُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَكَانًا أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... إِلَخْ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْهَرَمَ وَالرَّدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ يُصَابُ بِهِ الْمُؤْمِنُ كَمَا يُصَابُ بِهِ الْكَافِرُ، فَلَا يَكُونُ لِاسْتِثْنَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِ الِاتِّصَالِ مَعْنًى. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا مِنْ ضَمِيرِ «رَدَدْنَاهُ» ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، أَيْ: رَدَدْنَا الْإِنْسَانَ أَسْفَلَ سَافِلِينَ مِنَ النَّارِ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ، أَيْ: فَلَهُمْ ثَوَابٌ دائم غير منقطع على طاعاتهم فهذه الجملة على القول الأوّل مبنية لكيفية حال المؤمنين، وعلى القول الثاني مقرّرة لما يفيده الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ خُرُوجِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ حُكْمِ الرَّدِّ، وَقَالَ: أَسْفَلَ سَافِلِينَ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَلَوْ قَالَ أَسْفَلَ سَافِلٍ لَجَازَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى «رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ» : رَدَدْنَاهُ إِلَى الضَّلَالِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ- إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «2» أَيْ: إِلَّا هَؤُلَاءِ فَلَا يُرَدُّونَ إِلَى ذَلِكَ فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ الْخِطَابُ لِلْإِنْسَانِ الْكَافِرِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ، أَيْ: إِذَا عَرَفْتَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَنَّهُ يَرُدُّكَ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، فَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى أَنْ تُكَذِّبَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ؟ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُكَذِّبُكَ يَا مُحَمَّدُ بَعْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ النَّاطِقَةِ، فَاسْتَيْقِنْ مَعَ مَا جَاءَكَ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى: فَمَنْ يُكَذِّبُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ بِالدِّينِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ أَيْ: عَلَى تَكْذِيبِكَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ مِنْ قُدْرَتِنَا عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ مَا ظَهَرَ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَالدِّينُ: الْجَزَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: دِنَّا تَمِيمًا كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا ... دَانَتْ أَوَائِلَهُمْ مِنْ سَالِفِ الزَّمَنِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَلَمَّا صَرَّحَ الشَّرُّ ... فَأَمْسَى وهو عريان وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا ... نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أَيْ: أَلَيْسَ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ مِمَّا ذَكَرْنَا بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ صُنْعًا وَتَدْبِيرًا؟ حَتَّى تَتَوَهَّمَ عَدَمَ الْإِعَادَةِ وَالْجَزَاءِ، وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْكُفَّارِ، وَمَعْنَى أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ: أَتْقَنُ الْحَاكِمِينَ فِي كُلِّ مَا يَخْلُقُ، وَقِيلَ: أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَضَاءً وَعَدْلًا. وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ صَارَ الْكَلَامُ إِيجَابًا كَمَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «3» .

_ (1) . النساء: 145. (2) . العصر: 2- 3. (3) . الشرح: 1.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ- قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٍ- عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ سُورَةُ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا حَتَّى تَبَيَّنَ لَنَا شِدَّةُ فَرَحِهِ، فَسَأَلْنَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِهَا فَقَالَ: التِّينُ: بِلَادُ الشَّامِ، وَالزَّيْتُونُ: بِلَادُ فِلَسْطِينَ، وَطُورُ سِينَاءَ: الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ: مَكَّةُ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ مُحَمَّدًا ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ عَبْدَةُ اللَّاتِ وَالْعُزَّى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ- أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ إِذْ بَعَثَكَ فِيهِمْ نَبِيًّا وَجَمَعَكَ عَلَى التَّقْوَى يَا مُحَمَّدُ، وَمِثْلُ هَذَا التَّفْسِيرِ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ فِي إِسْنَادِهِ ذَلِكَ الْمَجْهُولُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ قَالَ: مَسْجِدُ نُوحٍ الَّذِي بُنِيَ عَلَى الْجُودِيِّ، وَالزَّيْتُونُ قَالَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَطُورِ سِينِينَ قَالَ: مَسْجِدُ الطُّورِ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ قَالَ: مَكَّةُ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ- ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ يَقُولُ: يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ كَبِرَ حَتَّى ذَهَبَ عَقْلُهُ، هُمْ نَفَرٌ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَفِهَتْ عُقُولُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهُمْ أَنَّ لَهُمْ أَجْرَهُمُ الَّذِي عَمِلُوا قَبْلَ أَنْ تَذْهَبَ عُقُولُهُمْ فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ يَقُولُ: بِحُكْمِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهُ أَيْضًا وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ قَالَ: الْفَاكِهَةُ الَّتِي يَأْكُلُهَا النَّاسُ وَطُورِ سِينِينَ قال: الطور: الجبل، والسينين: المبارك. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عنه أيضا قال: سينين: هو الحسن. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ قَالَ: فِي أَعْدَلِ خَلْقٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ يَقُولُ: إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يَعْنِي: غَيْرَ مَنْقُوصٍ، يَقُولُ: فَإِذَا بَلَغَ الْمُؤْمِنُ أَرْذَلَ الْعُمُرِ وَكَانَ يَعْمَلُ فِي شَبَابِهِ عَمَلًا صَالِحًا كُتِبَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ وَشَبَابِهِ وَلَمْ يَضُرَّهُ مَا عَمِلَ فِي كِبَرِهِ، وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ الْخَطَايَا الَّتِي يَعْمَلُ بَعْدَ مَا يَبْلُغُ أَرْذَلَ الْعُمُرِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ- إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قَالَ: لَا يَكُونُ حَتَّى لَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ يَقُولُ: إِلَى الْكِبَرِ وَضَعْفِهِ، فَإِذَا كَبِرَ وَضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي شَبِيبَتِهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَرَأَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَقَرَأَ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فَلْيَقُلْ: بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «إِذَا قَرَأْتَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَقَرَأْتَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فَقُلْ: بَلَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ قال: سبحانك اللهمّ فبلى.

سورة العلق

سورة العلق ويقال سورة العلق، وهي تسع عشرة آية، وقيل: عشرون آية وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلَ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أوّل سورة أنزلت على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ: الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ الثَّابِتُ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِيهِ: «فَجَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ، فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ» الْحَدِيثَ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةِ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) قَرَأَ الْجُمْهُورُ: اقْرَأْ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ أَمْرًا مِنَ الْقِرَاءَةِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَكَأَنَّهُ قَلَبَ الْهَمْزَةَ أَلِفًا ثُمَّ حَذَفَهَا لِلْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ يَقْتَضِي مَقْرُوءًا، فَالتَّقْدِيرُ: اقْرَأْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ، أَوْ مَا نَزَلَ عَلَيْكَ، أَوْ مَا أُمِرْتَ بِقِرَاءَتِهِ، وَقَوْلُهُ: بِاسْمِ رَبِّكَ مُتَعَلِّقٌ بمحذوف هو حال: أي: اقرأ متلبسا بَاسِمِ رَبِّكَ أَوْ مُبْتَدِئًا بَاسِمِ رَبِّكَ أَوْ مُفْتَتِحًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً، وَالتَّقْدِيرُ: اقْرَأِ اسْمَ رَبِّكَ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ «1» : سُودُ الْمَحَاجِرِ لا يقرأن بالسّور «2»

_ (1) . هو الراعي. (2) . وصدر البيت: هنّ الحرائر لا ربّات أحمرة.

قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ أَيْضًا: الِاسْمُ صِلَةٌ، أَيْ: اذْكُرْ رَبَّكَ. وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيِ: اقْرَأْ عَلَى اسْمِ رَبِّكَ، يُقَالُ: افْعَلْ كَذَا بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى اسْمِ اللَّهِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، أَيْ: مُسْتَعِينًا بَاسِمِ رَبِّكَ، وَوَصَفَ الرَّبَّ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ لِتَذْكِيرِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ الْخَلْقَ هُوَ أَعْظَمُ النِّعَمِ، وَعَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ سَائِرُ النِّعَمِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْخَلَائِقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ يَعْنِي بَنِي آدَمَ، وَالْعَلَقَةُ: الدَّمُ الْجَامِدُ، وَإِذَا جَرَى فَهُوَ الْمَسْفُوحُ. وَقَالَ: «مِنْ عَلَقٍ» بِجَمْعِ عَلَقٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ، وَالْمَعْنَى: خَلَقَ جِنْسَ الْإِنْسَانِ مِنْ جِنْسِ الْعَلَقِ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «الَّذِي خَلَقَ» كُلَّ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيَكُونُ تَخْصِيصُ الْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ بَدِيعِ الْخَلْقِ وعجيب الصنع، وإذا كان المراد بالذي خَلَقَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ فَيَكُونُ الثَّانِي تَفْسِيرًا لِلْأَوَّلِ. وَالنُّكْتَةُ مَا فِي الْإِبْهَامِ، ثُمَّ التَّفْسِيرُ مِنِ الْتِفَاتِ الذِّهْنِ وَتَطَلُّعِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا أبهم أوّلا ثم فسّر ثانيا. ثم كرر الأمر بالقراءة للتأكيد والتقرير فقال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ أَيِ: افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَجُمْلَةُ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِزَاحَةِ مَا اعْتَذَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» ، يُرِيدُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ شَأْنُ مَنْ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ وَهُوَ أميّ، فقيل له: اقرأ، وربك الَّذِي أَمَرَكَ بِالْقِرَاءَةِ هُوَ الْأَكْرَمُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْحَلِيمَ عَنْ جَهْلِ الْعِبَادِ فَلَمْ يُعَجِّلْ بِعُقُوبَتِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَهُ بِالْقِرَاءَةِ أَوَّلًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْقِرَاءَةِ ثَانِيًا لِلتَّبْلِيغِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أَيْ: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْخَطَّ بِالْقَلَمِ، فَكَانَ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَعْلَمَ كُلَّ مَكْتُوبٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ. قَالَ قَتَادَةُ: الْقَلَمُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَظِيمَةٌ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُمْ دِينٌ وَلَمْ يَصْلُحْ عَيْشٌ، فَدَلَّ عَلَى كَمَالِ كَرَمِهِ بِأَنَّهُ عَلَّمَ عِبَادَهُ مَا لَمْ يَعْلَمُوا وَنَقَلَهُمْ مِنْ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ، وَنَبَّهَ عَلَى فَضْلِ عِلْمِ الْكِتَابَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا هُوَ، وَمَا دُوِّنَتِ الْعُلُومُ وَلَا قُيِّدَتِ الْحِكَمُ وَلَا ضُبِطَتْ أَخْبَارُ الْأَوَّلِينَ وَمَقَالَاتُهُمْ وَلَا كُتُبُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ إِلَّا بِالْكِتَابَةِ، وَلَوْلَا هِيَ مَا اسْتَقَامَتْ أُمُورُ الدِّينِ وَلَا أُمُورُ الدُّنْيَا، وَسُمِّيَ قَلَمًا لِأَنَّهُ يُقَلَّمُ، أَيْ: يُقْطَعُ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: عَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ مِنَ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مِنْهَا، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هَنَا آدَمُ كَمَا في قوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «1» وَقِيلَ: الْإِنْسَانُ هُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ بِوَاسِطَةِ الْقَلَمِ فَقَدْ عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَقَوْلُهُ: كَلَّا رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِمَنْ كَفَرَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ طُغْيَانِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، وَمَعْنَى إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنَّهُ يُجَاوِزُ الْحَدَّ وَيَسْتَكْبِرُ عَلَى رَبِّهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا أَبُو جَهْلٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِهَذَا وَمَا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَأَنَّهُ تَأَخَّرَ نُزُولُ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ عَنِ الْخَمْسِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقِيلَ «كَلَّا» هُنَا بِمَعْنَى حَقًّا، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ شَيْءٌ يَكُونُ كَلَّا رَدًّا لَهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى عِلَّةٌ لِيَطْغَى، أَيْ: لِيَطْغَى أَنْ رَأَى نَفْسَهُ مُسْتَغْنِيًا، أَوْ لِأَنْ رَأَى نَفْسَهُ مُسْتَغْنِيًا، وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَلَوْ كَانَتِ البصرية لامتنع

_ (1) . البقرة: 31. [.....]

الْجَمْعُ بَيْنَ الضَّمِيرَيْنِ فِي فِعْلِهَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّ بَابِ عَلِمَ، وَنَحْوِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ يَقُلْ رَأَى نَفْسَهُ، كَمَا قِيلَ: قَتَلَ نَفْسَهُ لِأَنَّ رَأَى مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُرِيدُ اسْمًا وَخَبَرًا نَحْوَ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ فَلَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَالْعَرَبُ تَطْرَحُ النَّفْسَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ تَقُولُ: رَأَيْتُنِي وَحَسِبْتُنِي، وَمَتَى تَرَاكَ خَارِجًا، وَمَتَى تَظُنُّكَ خَارِجًا، قِيلَ: وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ اسْتَغْنَى بِالْعَشِيرَةِ وَالْأَنْصَارِ وَالْأَمْوَالِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَنْ رَآهُ» بِمَدِّ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِقَصْرِهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ أَبُو جَهْلٍ إِذَا أَصَابَ مَالًا زَادَ فِي ثِيَابِهِ وَمَرْكَبِهِ وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَذَلِكَ طُغْيَانُهُ، وَكَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ. ثُمَّ هَدَّدَ سُبْحَانَهُ وَخَوَّفَ، فَقَالَ: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى أَيِ: الْمَرْجِعَ، وَالرُّجْعَى وَالْمَرْجِعُ وَالرُّجُوعُ: مَصَادِرُ، يُقَالُ: رَجَعَ إِلَيْهِ مَرْجِعًا وَرُجُوعًا وَرُجْعَى، وَتَقَدَّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لِلْقَصْرِ، أَيِ: الرُّجْعَى إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى - عَبْداً إِذا صَلَّى قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الَّذِي يَنْهَى أَبُو جَهْلٍ، وَالْمُرَادُ بِالْعَبْدِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ تَقْبِيحٌ لِصُنْعِهِ وَتَشْنِيعٌ لِفِعْلِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ بِحَيْثُ يَرَاهُ كُلُّ مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى يَعْنِي الْعَبْدَ الْمَنْهِيَّ إِذَا صَلَّى، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أَيْ: بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي تُتَّقَى بِهِ النَّارُ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ، كَذَّبَ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَلَّى عَنِ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنَى: أَخْبِرْنِي لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلْإِخْبَارِ عَنِ الْمَرْئِيِّ أَجْرَى الِاسْتِفْهَامَ عَنْهَا مَجْرَى الِاسْتِفْهَامِ عَنْ مُتَعَلِّقِهَا، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ. وَقَدْ ذُكِرَ هُنَا أَرَأَيْتَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَصَرَّحَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ مِنْهَا بِجُمْلَةٍ اسْتِفْهَامِيَّةٍ فَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لَهَا، وَمَفْعُولُهَا الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الَّذِي يَنْهَى الْوَاقِعِ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِأَرَأَيْتَ الْأُولَى، وَمَفْعُولُ أَرَأَيْتَ الْأُولَى الثَّانِي مَحْذُوفٌ، وَهُوَ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ كَالْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ أَرَأَيْتَ الثَّانِيَةِ، وَأَمَّا أَرَأَيْتَ الثَّانِيَةُ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا مَفْعُولٌ لا أوّل ولا ثان، حُذِفَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ مَفْعُولِ أَرَأَيْتَ الثَّالِثَةِ عَلَيْهِ فقد حذف الثاني من الأولى، وَالْأَوَّلُ مِنَ الثَّالِثَةِ، وَالِاثْنَانِ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَلَيْسَ طَلَبُ كُلِّ مَنْ رَأَيْتُ لِلْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَازُعِ لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي إِضْمَارًا، وَالْجُمَلُ لَا تضمر، إنما تضمر المفردات، وإنما ذلك مِنْ بَابِ الْحَذْفِ لِلدَّلَالَةِ، وَأَمَّا جَوَابُ الشَّرْطِ المذكورة مَعَ أَرَأَيْتَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْآخَرَيْنِ. فَهُوَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ ذِكْرِهِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الثَّانِي، وَمَعْنَى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى أَيْ: يَطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالِهِ، فَيُجَازِيهِ بِهَا، فَكَيْفَ اجْتَرَأَ عَلَى مَا اجْتَرَأَ عَلَيْهِ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَقِيلَ: أَرَأَيْتَ الْأُولَى مَفْعُولُهَا الْأَوَّلُ الْمَوْصُولُ، وَمَفْعُولُهَا الثَّانِي الشَّرْطِيَّةُ الْأُولَى بِجَوَابِهَا الْمَحْذُوفِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بالمذكور، وأ رأيت فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ من أرأيت بدل من الأولى، وأَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى الخبر. قوله: كَلَّا رَدْعٌ لِلنَّاهِي، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، أَيْ، وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْزَجِرْ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ السَّفْعُ: الْجَذْبُ الشَّدِيدُ، وَالْمَعْنَى: لَنَأْخُذَنَّ بِنَاصِيَتِهِ وَلَنَجُرَّنَّهُ إِلَى النَّارِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ «1» ويقال: سفعت الشيء إذا قبضته وجذبته،

_ (1) . الرّحمن: 41.

وَيُقَالُ: سَفَعَ بِنَاصِيَةِ فَرَسِهِ. قَالَ الرَّاغِبُ: السَّفْعُ: الْأَخْذُ بِسَفْعَةِ الْفَرَسِ، أَيْ: بِسَوَادِ نَاصِيَتِهِ، وَبِاعْتِبَارِ السَّوَادِ قِيلَ: بِهِ سَفْعَةُ غَضَبٍ اعْتِبَارًا بِمَا يَعْلُو مِنَ اللَّوْنِ الدُّخَّانِيِّ وَجْهَ مَنِ اشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ، وَقِيلَ لِلصَّقْرِ: أَسْفَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ لَمَعِ السَّوَادِ، وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ اللَّوْنِ. انْتَهَى، وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سَفْعِ النَّارِ وَالشَّمْسِ إِذَا غَيَّرَتْ وَجْهَهُ إِلَى سَوَادٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : أَثَافِيَّ سُفْعًا فِي مُعَرَّسِ مِرْجَلٍ «2» . وَقَوْلُهُ: ناصِيَةٍ بَدَلٌ مِنَ النَّاصِيَةِ، وَإِنَّمَا أَبْدَلَ النَّكِرَةَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ لِوَصْفِهَا بِقَوْلِهِ: كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ إِبْدَالَ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ إِلَّا بِشَرْطِ وَصْفِهَا. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، فَيَجُوزُ إِبْدَالُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِلَا شَرْطٍ، وَأَنْشَدُوا: فَلَا وَأَبِيكَ خَيْرٌ مِنْكَ إِنِّي ... لَيُؤْذِينِي التَّحَمْحُمُ وَالصَّهِيلُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِجَرِّ «نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ» وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِرَفْعِهَا عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هِيَ نَاصِيَةٌ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَصْبِهَا عَلَى الذَّمِّ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ فَاجِرٌ خَاطِئٌ، فَقَالَ: «نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ» ، وتأويلها: صَاحِبُهَا كَاذِبٌ خَاطِئٌ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أَيْ: أَهْلَ نَادِيهِ، وَالنَّادِي: الْمَجْلِسُ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ الْقَوْمُ وَيَجْتَمِعُونَ فِيهِ مِنَ الْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ وَالْمَعْنَى: لِيَدْعُ عَشِيرَتَهُ وَأَهْلَهُ لِيُعِينُوهُ وَيَنْصُرُوهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «3» : وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ الْمَجْلِسُ «4» أَيْ: أَهْلُهُ. قِيلَ: إِنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُهَدِّدُنِي وَأَنَا أَكْثَرُ الْوَادِي نَادِيًا؟ فَنَزَلَتْ: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ- سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ أَيِ: الْمَلَائِكَةَ الْغِلَاظَ الشِّدَادَ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. قال الكسائي والأخفش وعيسى ابن عُمَرَ: وَاحِدُهُمْ زَابِنٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: زِبْنِيَةٌ، وَقِيلَ: زَبَانِيٌّ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ كَعَبَادِيدَ وَأَبَابِيلَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الشُّرَطُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَصْلُ الزَّبْنِ الدَّفْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمُسْتَعْجِبٌ مِمَّا يَرَى مِنْ أَنَّاتِنَا ... وَلَوْ زَبَنَتْهُ الْحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ هَذَا الِاسْمَ عَلَى مَنِ اشْتَدَّ بَطْشُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مَطَاعِيمُ فِي الْقُصْوَى مُطَاعِينَ فِي الْوَغَى ... زَبَانِيَةٌ غُلَّبٌ «5» عِظَامٌ حُلُومُهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «سَنَدْعُ» بِالنُّونِ، وَلَمْ تُرْسَمِ الْوَاوُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ «6» وقرأ ابن أبي

_ (1) . هو زهير بن أبي سلمى. (2) . وعجز البيت: ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلّم. (3) . هو المهلهل. (4) . وصدر البيت: نبئت أنّ النار بعدك أوقدت. (5) . «غلب» : جمع أغلب، وهو الغليظ الرقبة. (6) . القمر: 6.

عَبْلَةَ: «سَيُدْعَى» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ الزَّبَانِيَةِ عَلَى النِّيَابَةِ. ثُمَّ كَرَّرَ الرَّدْعَ وَالزَّجْرَ فَقَالَ: كَلَّا لَا تُطِعْهُ أَيْ: لَا تُطِعْهُ فِيمَا دَعَاكَ إِلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَاسْجُدْ أَيْ: صَلِّ لِلَّهِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِهِ، وَلَا مُبَالٍ بِنَهْيِهِ وَاقْتَرِبْ أَيْ: تَقَرَّبْ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِذَا سَجَدْتَ اقْتَرِبْ مِنَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: وَاسْجُدْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، وَاقْتَرِبْ أَنْتَ يَا أَبَا جهل من النار، والأوّل أَوْلَى. وَالسُّجُودُ هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: سُجُودُ التِّلَاوَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السُّجُودِ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: «أَتَى جِبْرِيلُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد اقرأ، فقال: وما أَقْرَأُ؟ فَضَمَّهُ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اقْرَأْ، قَالَ: وَمَا أَقْرَأُ؟ قَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حَتَّى بَلَغَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقَالَ: قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ- خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ- اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ- الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ» الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ مَا بِهَا رَجُلٌ أَكْثَرُ نَادِيًا مِنِّي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ- سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَقِيلَ: مَا يَمْنَعُكَ؟ فَقَالَ: قَدِ اسْوَدَّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ تَحَرَّكَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا نَعَمْ، قَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ وَلَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي ليطأ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجَئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه، فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا» قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى - أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ يَعْنِي قَوْمَهُ: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى - عَبْداً إِذا صَلَّى قَالَ: أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ حِينَ رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّلَى عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَنَسْفَعاً قَالَ: لَنَأْخُذَنْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فَلْيَدْعُ نادِيَهُ قَالَ: نَاصِرَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْجُدُ فِي إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَفِي اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.

سورة القدر

سورة القدر وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. كَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) الضَّمِيرُ فِي أَنْزَلْنَاهُ لِلْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، أُنْزِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُجُومًا عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ، وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَفِي آيَةٍ أخرى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1» وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2» وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْحُكْمِ وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْحُكْمِ، قِيلَ: سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُقَدِّرُ فِيهَا مَا شَاءَ مِنْ أَمْرِهِ إِلَى السَّنَةِ الْقَابِلَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعَظِيمِ قَدْرِهَا وَشَرَفِهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: لِفُلَانٍ قَدْرٌ، أَيْ: شَرَفٌ وَمَنْزِلَةٌ، كَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ لِلطَّاعَاتِ فِيهَا قَدْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا جَزِيلًا. وَقَالَ الْخَلِيلُ: سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِأَنَّ الْأَرْضَ تَضِيقُ فِيهَا بِالْمَلَائِكَةِ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «3» أَيْ: ضُيِّقَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ قَوْلًا، قَدْ ذَكَرْنَاهَا بِأَدِلَّتِهَا وَبَيَّنَّا الرَّاجِحَ مِنْهَا فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ فِيهِ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِهَا حَتَّى كَأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ دِرَايَةِ الْخَلْقِ لَا يَدْرِيهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ. قَالَ سُفْيَانُ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا أَدْرَاكَ فَقَدْ أَدْرَاهُ، وَكُلُّ مَا فِيهِ: وَمَا يُدْرِيكَ فَلَمْ يُدْرِهِ، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ. وَالْمَعْنَى: أَيَّ شَيْءٍ تَجْعَلُهُ دَارِيًا بِهَا؟ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ «4» ثُمَّ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَيِ الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْقَاتَ إِنَّمَا يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ فِي

_ (1) . الدخان: 3. (2) . البقرة: 185. (3) . الطلاق: 7. (4) . الحاقة: 3.

لَيْلَةٍ كَانَتْ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَلْفِ شَهْرٍ جَمِيعَ الدَّهْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ الْأَلْفَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ: وَجْهُ ذِكْرِ الْأَلْفِ الشَّهْرِ: أَنَّ الْعَابِدَ كَانَ فِيمَا مَضَى لَا يُسَمَّى عَابِدًا حَتَّى يَعْبُدَ اللَّهَ أَلْفَ شَهْرٍ، وَذَلِكَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ عِبَادَةَ لَيْلَةٍ خَيْرًا مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. وَقِيلَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَعْمَارَ أُمَّتِهِ قَصِيرَةً، فَخَافَ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَجَعَلَهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لِسَائِرِ الْأُمَمِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَجُمْلَةُ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِوَجْهِ فَضْلِهَا، مُوَضِّحَةٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي صَارَتْ بِهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ يَتَعَلَّقُ بِتَنَزَّلُ أَوْ بمحذوف هو حال، أي: متلبسين بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، وَالْإِذْنُ: الْأَمْرُ، وَمَعْنَى «تَنَزَّلُ» : تَهْبِطُ مِنَ السَّمَاوَاتِ إِلَى الْأَرْضِ. وَالرُّوحُ: هُوَ جِبْرِيلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، أَيْ: تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ وَمَعَهُمْ جِبْرِيلُ. وَوَجْهُ ذِكْرِهِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الْمَلَائِكَةِ التَّعْظِيمُ لَهُ وَالتَّشْرِيفُ لِشَأْنِهِ. وَقِيلَ: الرُّوحُ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُمْ أَشْرَافُهُمْ، وَقِيلَ: هُمْ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: الرُّوحُ: الرَّحْمَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الرُّوحِ عِنْدَ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا «1» قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تَنَزَّلُ» بِفَتْحِ التَّاءِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بن مصرّف وابن السّميقع بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أَيْ: مِنْ أَجْلِ كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي قَضَى اللَّهُ بِهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ «مِنْ» بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: لِكُلِّ أَمْرٍ، وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ: بِكُلِّ أَمْرٍ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَمْرٍ» وَهُوَ وَاحِدُ الْأُمُورِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ «امْرِئٍ» مُذَكَّرُ امْرَأَةٍ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَتَأَوَّلَهَا الْكَلْبِيُّ عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ يَنْزِلُ مع الملائكة فيسلّمون على كلّ إنسان، فمن عَلَى هَذَا بِمَعْنَى عَلَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: سَلامٌ هِيَ أَيْ: مَا هِيَ إِلَّا سَلَامَةٌ وَخَيْرٌ كُلُّهَا لَا شَرَّ فِيهَا، وَقِيلَ: هِيَ ذَاتُ سَلَامَةٍ مِنْ أَنْ يؤثر فيها شيطان من مُؤْمِنٍ أَوْ مُؤْمِنَةٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ لَيْلَةٌ سَالِمَةٌ لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا سُوءًا وَلَا أَذًى. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَسَاجِدِ مِنْ حِينِ تَغِيبُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ يَمُرُّونَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَيَقُولُونَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ، وَقِيلَ: يَعْنِي سَلَامَ الْمَلَائِكَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ سَلَامٌ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أَيْ حَتَّى وَقْتِ طُلُوعِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «مَطْلَعِ» بِفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِكَسْرِهَا، فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ فِي الْمَصْدَرِ، وَالْفَتْحُ أَكْثَرُ نَحْوَ: الْمَخْرَجِ وَالْمَقْتَلِ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ اسْمُ مَكَانٍ، وَبِالْكَسْرِ الْمَصْدَرُ، وقيل: العكس، و «حتى» متعلّقة بتنزل عَلَى أَنَّهَا غَايَةٌ لِحُكْمِ التَّنَزُّلِ، أَيْ: لِمُكْثِهِمْ فِي مَحَلِّ تَنَزُّلِهِمْ بِأَنْ لَا يَنْقَطِعَ تَنَزُّلُهُمْ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقِيلَ: متعلقة بسلام بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِالْمُبْتَدَأِ مُغْتَفَرٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وصحّحه، وابن مردويه، والبيهقي

_ (1) . النبأ: 38.

فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ حَتَّى وُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ جَعَلَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ بِجَوَابِ كَلَامِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: الْعَمَلُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالصَّدَقَةُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «1» يَا مُحَمَّدُ يَعْنِي: نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ، وَنَزَلَتْ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ- وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ- لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يَمْلِكُهَا بَعْدَكَ بَنُو أُمَيَّةَ. قَالَ الْقَاسِمُ: فَعَدَدْنَا فَإِذَا هِيَ أَلْفُ شَهْرٍ لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ يَوْمًا، وَالْمُرَادُ بِالْقَاسِمِ هُوَ الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّ يُوسُفَ هَذَا مَجْهُولٌ، يَعْنِي: يُوسُفَ بْنَ سَعْدٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ: مِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ. وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ مَشْهُورٌ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: هُوَ ثِقَةٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ عِيسَى بْنِ مَازِنٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مُنْكَرٌ جِدًّا. قَالَ الْمِزِّيُّ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَقَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ إِنَّهُ حَسَبَ مُدَّةَ بَنِي أُمَيَّةَ فَوَجَدَهَا أَلْفَ شَهْرٍ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ جُمْلَةَ مُدَّتِهِمْ مِنْ عِنْدِ أَنِ اسْتَقَلَّ بِالْمُلْكِ مُعَاوِيَةُ وَهِيَ سَنَةُ أَرْبَعِينَ إِلَى أَنْ سَلَبَهُمُ الْمُلْكَ بَنُو الْعَبَّاسِ، وَهِيَ سَنَةُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ مَجْمُوعُهَا اثْنَتَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَلامٌ قَالَ: فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ تُصَفَّدُ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، وَتُغَلُّ عَفَارِيتُ الْجِنِّ، وَتُفْتَحُ فِيهَا أبوابها السَّمَاءِ كُلُّهَا، وَيَقْبَلُ اللَّهُ فِيهَا التَّوْبَةَ لِكُلِّ تَائِبٍ، فَلِذَا قَالَ: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ قَالَ: وَذَلِكَ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ. وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ كَثِيرَةٌ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا، وَكَذَلِكَ الأحاديث في تعيينها والاختلاف في ذلك.

_ (1) . الكوثر: 1.

سورة البينة

سورة البيّنة وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: مَكِّيَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَزَلَتْ سُورَةُ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ الْمُزَنِيِّ، حَدَّثَنِي فَضْلٌ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُ: أَبْشِرْ عَبْدِي وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُمْكِنَنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى تَرْضَى» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ عَنْ مَطَرٍ الْمُزَنِيِّ، أَوِ الْمَدَنِيِّ بِنَحْوِهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَبَكَى» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ قَانِعٍ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي حَيَّةَ الْبَدْرِيِّ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَى آخِرِهَا قَالَ جِبْرِيلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَهَا أُبَيًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيٍّ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ هَذِهِ السُّورَةَ، فَقَالَ أُبَيٌّ: وَقَدْ ذُكِرْتُ ثَمَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَبَكَى» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ اليهود والنصارى، وَالمراد ب الْمُشْرِكِينَ مشركو العرب، هم عبدة الأوثان، ومُنْفَكِّينَ خَبَرُ كَانَ، يُقَالُ: فَكَكْتُ الشَّيْءَ فَانْفَكَّ، أَيِ: انْفَصَلَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُفَارِقِينَ لِكُفْرِهِمْ وَلَا مُنْتَهِينَ عَنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَقِيلَ: الِانْفِكَاكُ بِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ وَبُلُوغِ الْغَايَةِ، أَيْ: لَمْ يَكُونُوا يَبْلُغُونَ نِهَايَةَ أَعْمَارِهِمْ فَيَمُوتُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَقِيلَ: مُنْفَكِّينَ: زَائِلِينَ، أَيْ: لَمْ تَكُنْ مُدَّتُهُمْ لِتَزُولَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، يُقَالُ: مَا انْفَكَّ فُلَانٌ قَائِمًا، أَيْ: مَا زَالَ قَائِمًا، وَأَصْلُ الْفَكِّ: الْفَتْحُ، وَمِنْهُ فَكُّ الْخَلْخَالِ. وَقِيلَ: مُنْفَكِّينَ: بَارِحِينَ، أَيْ: لَمْ يَكُونُوا لِيَبْرَحُوا أَوْ يفارقوا

الدُّنْيَا حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْكِتَابِ تَارِكِينَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بُعِثَ، فَلَمَّا بُعِثَ حَسَدُوهُ وَجَحَدُوهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1» وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُسِيئُونَ الْقَوْلَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بُعِثَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ الأمين، فلما بعث عادوه وأساؤوا الْقَوْلَ فِيهِ. وَقِيلَ: مُنْفَكِّينَ هَالِكِينَ، مِنْ قَوْلِهِمُ: انْفَكَّ صُلْبُهُ، أَيِ: انْفَصَلَ فَلَمْ يَلْتَئِمْ فَيَهْلِكُ، وَالْمَعْنَى: لَمْ يَكُونُوا مُعَذَّبِينَ وَلَا هَالِكِينَ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَيَكُونُ وَصْفًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمَعْنَى الْآيَةِ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ لَنْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ حَتَّى أَتَاهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا بَيَانٌ عَنِ النِّعْمَةِ والانقياد به من الجهل والضلالة والآية فيمن آمَنَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَا فِي الْقُرْآنِ نَظْمًا وَتَفْسِيرًا، وَقَدْ تَخَبَّطَ فِيهَا الْكِبَارُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَسَلَكُوا فِي تَفْسِيرِهَا طُرُقًا لَا تُفْضِي بِهِمْ إِلَى الصَّوَابِ. وَالْوَجْهُ مَا أَخْبَرْتُكَ، فَاحْمَدِ اللَّهَ إِذْ أَتَاكَ بَيَانُهَا مِنْ غَيْرِ لَبْسٍ وَلَا إِشْكَالٍ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَهَا وَأُبْدِلَ مِنْهَا فَقَالَ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً يَعْنِي مَا تَتَضَمَّنُهُ الصُّحُفُ مِنَ الْمَكْتُوبِ فِيهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أنه كان يتلو على ظَهْرِ قَلْبِهِ، لَا عَنْ كِتَابٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ حِكَايَةٌ لِمَا كَانَ يَقُولُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ إِنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَ دِينَهُمْ حَتَّى يُبْعَثَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ بِهِ، فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْبَيِّنَةُ عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ بَيِّنَةٌ وَحُجَّةٌ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ سِرَاجًا مُنِيرًا، وَقَدْ فَسَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ الْمُجْمَلَةَ بِقَوْلِهِ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ فَاتَّضَحَ الْأَمْرُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: الْبَيِّنَةُ هِيَ الْقُرْآنُ كَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى «2» وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ مُطْلَقُ الرُّسُلِ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى تَأْتِيَهُمْ رُسُلٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ صُحُفًا مُطَهَّرَةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ» وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ» قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ، لَا فِي مَعْرِضِ التِّلَاوَةِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالنَّخَعِيُّ: وَالْمُشْرِكُونَ بِالرَّفْعِ عطفا على الموصول. وقرأ أبيّ «فلما كَانَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ» قَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بِرَفْعِ رَسُولٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ مُبَالَغَةً، أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: رَسُولٌ رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْبَيِّنَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رُفِعَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: هِيَ رَسُولٌ أَوْ هُوَ رَسُولٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ «رَسُولًا» بِالنَّصْبِ عَلَى الْقَطْعِ، وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِرَسُولٍ، أَيْ: كَائِنٌ مِنَ اللَّهِ، وَيَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِنَفْسِ رَسُولٍ، وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ صُحُفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً مُنَزَّلَةً مِنَ الله، وقوله: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لرسول، أن حَالًا مِنْ مُتَعَلِّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ. وَمَعْنَى يَتْلُو: يَقْرَأُ، يُقَالُ: تَلَا يَتْلُو تِلَاوَةً، وَالصُّحُفُ:

_ (1) . البقرة: 89. [.....] (2) . طه: 133.

جَمْعُ صَحِيفَةٍ، وَهِيَ ظَرْفُ الْمَكْتُوبِ، وَمَعْنَى مُطَهَّرَةً: أَنَّهَا مُنَزَّهَةٌ مِنَ الزُّورِ وَالضَّلَالِ. قَالَ قَتَادَةُ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْبَاطِلِ، وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْكَذِبِ وَالشُّبُهَاتِ وَالْكُفْرِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقْرَأُ مَا تَتَضَمَّنُهُ الصُّحُفُ مِنَ الْمَكْتُوبِ فِيهَا لِأَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، لَا عَنْ كِتَابٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وقوله: فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ صفة لصحفا، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهَا، وَالْمُرَادُ الْآيَاتُ وَالْأَحْكَامُ الْمَكْتُوبَةُ فِيهَا، وَالْقِيمَةُ: الْمُسْتَقِيمَةُ الْمُسْتَوِيَةُ الْمَحْكَمَةُ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: قَامَ الشَّيْءُ إِذَا اسْتَوَى وَصَحَّ. وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: الْكُتُبُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» أَيْ: حَكَمَ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» ثُمَّ قَضَى بِالرَّجْمِ، وَلَيْسَ الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى: لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِحُكْمِ اللَّهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ إِنَّ الصُّحُفَ هِيَ الْكُتُبُ، فَكَيْفَ قَالَ صُحُفاً مُطَهَّرَةً- فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي بِالصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ: الَّتِي فِي السَّمَاءِ، يَعْنِي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ- فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «2» . وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَوْبِيخِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَقْرِيعِهِمْ، وَبَيَانِ أَنَّ مَا نُسِبَ إِلَيْهِمْ مِنْ عَدَمِ الِانْفِكَاكِ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ، بَلْ كَانَ بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ وَظُهُورِ الصَّوَابِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ مُجْتَمِعِينَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا، فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِهِ وَاخْتَلَفُوا، فَآمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَكَفَرَ آخَرُونَ. وَخَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِثْلَهُمْ فِي التَّفَرُّقِ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عِلْمٍ، فَإِذَا تَفَرَّقُوا كَانَ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ أُدْخِلَ فِي هَذَا الْوَصْفِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَوْقَاتِ، أَيْ: وَمَا تَفَرَّقُوا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ، وَهِيَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ وَالْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ. وَقِيلَ: الْبَيِّنَةُ: الْبَيَانُ الَّذِي فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، كَقَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ «3» قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ: كُتُبٌ قَيِّمَةٌ حُكْمُهَا فِيمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَقَوْلُهُ: وَما تَفَرَّقَ إلخ فيمن لم يؤمن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَجِ، وَجُمْلَةُ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مُفِيدَةٌ لِتَقْرِيعِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ بِمَا فَعَلُوا مِنَ التَّفَرُّقِ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَا أُمِرُوا فِي كُتُبِهِمْ إِلَّا لِأَجْلِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَيُوَحِّدُوهُ حَالَ كَوْنِهِمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أَيْ: جَاعِلِينَ دِينَهُمْ خَالِصًا لَهُ سُبْحَانَهُ أَوْ جَاعِلِينَ أَنْفُسَهُمْ خَالِصَةً لَهُ فِي الدِّينِ، وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ فِي لِيَعْبُدُوا بِمَعْنَى أَنْ، أَيْ: مَا أُمِرُوا إِلَّا بِأَنْ يَعْبُدُوا كَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «4» أي: أن يبين، ويُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «5» أَيْ: أَنْ يُطْفِئُوا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «مُخْلِصِينَ» بِكَسْرِ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ لأن الإخلاص من عمل القلب،

_ (1) . المجادلة: 21. (2) . البروج: 21- 22. (3) . آل عمران: 19. (4) . النساء: 26. (5) . الصف: 8.

وَانْتِصَابُ حُنَفاءَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ مُخْلِصِينَ، فَتَكُونُ مِنْ بَابِ التَّدَاخُلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ فَاعِلِ يَعْبُدُوا، وَالْمَعْنَى: مَائِلِينَ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُهُ أَنْ يَحْنِفَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، أَيْ: يَمِيلَ إِلَيْهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ أَيْ: يَفْعَلُوا الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَيُعْطُوا الزَّكَاةَ عِنْدَ مَحَلِّهَا، وَخَصَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الدِّينِ. قِيلَ: إِنْ أُرِيدَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا فِي شَرِيعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ أُرِيدَ مَا فِي شَرِيعَتِنَا فَمَعْنَى أَمَرَهُمْ بِهِمَا فِي الْكِتَابَيْنِ أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِ شَرِيعَتِنَا، وَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ مَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِهِ فِيهَا وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أَيْ: وَذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِهَا وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ دِينُ الْقَيِّمَةِ أَيْ دِينُ الْمِلَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ ذَلِكَ دِينُ الْمِلَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، فَالْقَيِّمَةُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْقَيِّمَةُ جَمْعُ الْقَيِّمِ، وَالْقَيِّمُ: الْقَائِمُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَضَافَ الدِّينَ إِلَى الْقَيِّمَةِ، وَهُوَ نَعْتُهُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، وَدَخَلَتِ الْهَاءُ لِلْمَدْحِ وَالْمُبَالَغَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ بَيَانِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ الْمَوْصُولُ اسْمُ إِنَّ، وَالْمُشْرِكِينَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وخبرها: في نار جهنم، وخالِدِينَ فِيها حَالٌ مِنَ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْخَبَرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالْمُشْرِكِينَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِالْكَوْنِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَالْخُلُودِ فِيهَا هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أَيِ: الْخَلِيقَةِ، يُقَالُ بَرَأَ، أَيْ: خَلَقَ، وَالْبَارِئُ: الْخَالِقُ، وَالْبَرِيَّةُ: الْخَلِيقَةُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «الْبَرِيَّةِ» بِغَيْرِ هَمْزٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ فِيهِمَا بِالْهَمْزِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ أَخَذْتَ الْبَرِيَّةَ مِنَ الْبَرَاءِ وَهُوَ التُّرَابُ لَمْ تَدْخُلِ الْمَلَائِكَةُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ، وَإِنْ أَخَذْتَهَا مَنْ بَرَيْتُ الْقَلَمَ، أَيْ: قَدَرْتُهُ دَخَلَتْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْهَمْزَ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ يُقَالُ: بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ بِالْهَمْزِ، أَيِ: ابْتَدَعَهُ وَاخْتَرَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها «1» وَلَكِنَّهَا خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ، وَالْتُزِمَ تَخْفِيفُهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعَرَبِ. ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أُولئِكَ الْمَنْعُوتُونَ بِهَذَا هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قَالَ: وَالْمُرَادُ أَنَّ أُولَئِكَ شَرُّ الْبَرِيَّةِ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي كُفَّارِ الْأُمَمِ مَنْ هُوَ شَرُّ مِنْهُمْ، وَهَؤُلَاءِ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي مُؤْمِنِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ: ثَوَابُهُمْ عِنْدَ خَالِقِهِمْ بِمُقَابَلَةِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالْمُرَادُ بِجَنَّاتِ عَدْنٍ هِيَ أَوْسَطُ الْجَنَّاتِ وَأَفْضَلُهَا، يُقَالُ: عَدَنَ بِالْمَكَانِ يَعْدُنُ عَدْنًا، أَيْ: أَقَامَ، وَمَعْدِنُ الشَّيْءِ: مركزه ومستقرّه، ومنه قول الأعشى: وإن يستضافوا إلى حكمه ... يضافوا إلى راجح قد عدن

_ (1) . الحديد: 22.

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْجَنَّاتِ الْأَشْجَارُ الْمُلْتَفَّةُ، فَجَرَيَانُ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهَا ظَاهِرٌ، وَإِنْ أُرِيدَ مَجْمُوعُ قَرَارِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ، فَجَرْيُ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِهَا بِاعْتِبَارِ جُزْئِهَا الظَّاهِرِ، وَهُوَ الشَّجَرُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا، بَلْ هُمْ دَائِمُونَ فِي نَعِيمِهَا مُسْتَمِرُّونَ فِي لَذَّاتِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْجَزَاءِ، وَهُوَ رِضْوَانُهُ عَنْهُمْ حَيْثُ أَطَاعُوا أَمْرَهُ وَقَبِلُوا شَرَائِعَهُ، وَرِضَاهُمْ عَنْهُ حَيْثُ بَلَغُوا مِنَ الْمَطَالِبِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ خَبَرًا ثَانِيًا، وَأَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِإِضْمَارِ قَدْ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أَيْ: ذَلِكَ الْجَزَاءُ وَالرِّضْوَانُ لِمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي الدُّنْيَا وَانْتَهَى عَنْ مَعَاصِيهِ بِسَبَبِ تِلْكَ الْخَشْيَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ لَا مُجَرَّدِ الْخَشْيَةِ مَعَ الِانْهِمَاكِ فِي مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِخَشْيَةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُنْفَكِّينَ قَالَ: بَرِحِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ مَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنْزِلَةُ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أعظم من منزلة ملك، واقرءوا إِنْ شِئْتُمْ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ؟ قَالَ: يَا عَائِشَةُ أَمَا تَقْرَئِينَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ عَلِيٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ هَذَا وَشِيعَتَهُ لَهُمُ الْفَائِزُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ فَكَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْبَلَ قَالُوا: قَدْ جَاءَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «عَلِيٌّ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: «هُوَ أَنْتَ وَشِيعَتُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَاضِينَ مَرْضِيِّينَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: رَجُلٌ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّمَا كَانَتْ هَيْعَةٌ «1» اسْتَوَى عَلَيْهِ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ الْبَرِيَّةِ؟ قَالُوا: بَلَى: قَالَ: الَّذِي يَسْأَلُ بِاللَّهِ وَلَا يُعْطِي بِهِ» . قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ أَبِي وَهْبٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، فذكره.

_ (1) . الهيعة: الصوت الّذي تفزع منه وتخافه من عدو.

سورة الزلزلة

سورة الزّلزلة وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، وَمَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ إِذا زُلْزِلَتِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ الرَّاءِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: كَبِرَ سِنِّي، وَاشْتَدَّ قَلْبِي، وَغَلُظَ لِسَانِي، قَالَ: اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ حم، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، فَقَالَ: اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، وَقَالَ: وَلَكِنْ أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ سُورَةً جَامِعَةً، فَأَقْرَأَهُ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، قَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ، أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ عُدِلَتْ لَهُ بِنِصْفِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عُدِلَتْ لَهُ بِثُلُثِ القرآن، ومن قرأ: قل يا أيها الْكَافِرُونَ عُدِلَتْ لَهُ بِرُبُعِ الْقُرْآنِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الضُّرَيْسِ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا زلزلت تعدل نصف القرآن، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَمَانِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: هَلْ تَزَوَّجْتَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: ثُلُثُ الْقُرْآنِ، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبُعُ الْقُرْآنِ، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ يا أيها الْكَافِرُونَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبُعُ الْقُرْآنِ، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبُعُ الْقُرْآنِ، تَزَوَّجْ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ إِذَا زُلْزِلَتْ كَانَ لَهُ عِدْلُ نِصْفِ الْقُرْآنِ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) قَوْلُهُ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أَيْ: إِذَا حُرِّكَتْ حَرَكَةً شَدِيدَةً، وَجَوَابُ الشَّرْطِ: تُحَدِّثُ،

وَالْمُرَادُ تُحَرِّكُهَا عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ فَإِنَّهَا تَضْطَرِبُ حَتَّى يَتَكَسَّرَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ- تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ «1» وَذَكَرَ الْمَصْدَرَ لِلتَّأْكِيدِ ثُمَّ أَضَافَهُ إِلَى الْأَرْضِ فَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، وَالْمَعْنَى: زِلْزَالُهَا الْمَخْصُوصُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ وَيَقْتَضِيهِ جِرْمُهَا وَعِظَمُهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «زِلْزَالَهَا» بِكَسْرِ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى بِفَتْحِهَا، وَهُمَا مَصْدَرَانِ بِمَعْنًى، وَقِيلَ: الْمَكْسُورُ مَصْدَرٌ وَالْمَفْتُوحُ اسْمٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالزَّلْزَالُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ كَالْوَسْوَاسِ وَالْقَلْقَالِ «2» وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها أَيْ: مَا فِي جَوْفِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالدَّفَائِنِ، وَالْأَثْقَالُ: جَمْعُ ثِقْلٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ فَهُوَ ثِقْلٌ لَهَا، وَإِذَا كَانَ فَوْقَهَا فَهُوَ ثِقْلٌ عَلَيْهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَثْقَالُهَا مَوْتَاهَا تُخْرِجُهُمْ فِي النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ قِيلَ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ الثَّقَلَانِ، وَإِظْهَارُ الْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها أَيْ: قَالَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ مَا لَهَا زُلْزِلَتْ؟ لِمَا يَدْهَمُهُ مِنْ أَمْرِهَا وَيَبْهَرُهُ مِنْ خَطْبِهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالإنسان الكافر، وقوله: مالها مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَهَا، أَوْ لِأَيِّ شَيْءٍ زُلْزِلَتْ وَأَخْرَجَتْ أَثْقَالَهَا؟ وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ بَدَلٌ مَنْ إِذَا، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا قَوْلُهُ: تُحَدِّثُ أَخْبارَها وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي إِذَا مَحْذُوفًا وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ، وَالْمَعْنَى: يَوْمَ إِذَا زُلْزِلَتْ وَأَخْرَجَتْ تُخْبِرُ بِأَخْبَارِهَا وَتُحَدِّثُهُمْ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَذَلِكَ إِمَّا بِلِسَانِ الْحَالِ حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً ظَاهِرَةً، أَوْ بِلِسَانِ الْمَقَالِ، بِأَنْ يُنْطِقَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ: هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها أَيْ: قَالَ مالها تُحَدِّثُ أَخْبارَها مُتَعَجِّبًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِمَا أَخْرَجَتْ مِنْ أَثْقَالِهَا، وَقِيلَ: تُحَدِّثُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَأَنَّهَا قَدْ أَتَتْ وَأَنَّ الدُّنْيَا قَدِ انْقَضَتْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: تُبَيِّنُ أَخْبَارَهَا بِالرَّجْفَةِ وَالزَّلْزَلَةِ وَإِخْرَاجِ الْمَوْتَى، وَمَفْعُولُ تُحَدِّثُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ وَالثَّانِي هُوَ أَخْبَارُهَا، أَيْ: تُحَدِّثُ الْخَلْقَ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها مُتَعَلِّقٌ بِتُحَدِّثُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ أَخْبَارِهَا، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَأَنَّ وَمَا فِي حَيِّزِهَا بَدَلٌ مِنْ أَخْبَارِهَا، وَقِيلَ: الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ: بِسَبَبِ إِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِوَحْيِ اللَّهِ وَإِذْنِهِ لَهَا، وَاللَّامُ فِي أَوْحَى لَهَا بِمَعْنَى إِلَى وَإِنَّمَا أَثَّرَتْ عَلَى إِلَى لِمُوَافَقَةِ الْفَوَاصِلِ، وَالْعَرَبُ تَضَعُ لَامَ الصِّفَةِ مَوْضِعَ إِلَى، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ أَوْحَى يَتَعَدَّى بِاللَّامِ تَارَةً، وَبِإِلَى أُخْرَى، وَقِيلَ: إِنَّ اللَّامَ عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا لِلْعِلَّةِ، وَالْمُوحَى إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الْمَلَائِكَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَجْلِ الْأَرْضِ: أَيْ لأجل ما يفعلون فيها، والأوّل أَوْلَى يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً الظَّرْفُ إِمَّا بَدَلٌ مِنْ يَوْمَئِذٍ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِمَّا مَنْصُوبٌ بِمُقَدَّرٍ هُوَ اذْكُرْ، وَإِمَّا مَنْصُوبٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَالْمَعْنَى: يَوْمَ إِذْ يَقَعُ مَا ذُكِرَ يَصْدُرُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ أَشْتَاتًا، أي: متفرّقين، والمصدر: الرُّجُوعُ وَهُوَ ضِدُّ الْوُرُودِ، وَقِيلَ: يَصْدُرُونَ مِنْ مَوْضِعِ الْحِسَابِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَانْتِصَابُ أَشْتَاتًا عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَهُمْ آمِنٌ وَبَعْضَهُمْ خَائِفٌ، وَبَعْضَهُمْ بِلَوْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ الْبَيَاضُ، وَبَعْضَهُمْ بِلَوْنِ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ السَّوَادُ، وبعضهم ينصرف إلى جهة

_ (1) . النازعات: 6- 7. (2) . «القلقال» : من قلقل الشيء إذا حرّكه.

الْيَمِينِ وَبَعْضَهُمْ إِلَى جِهَةِ الشَّمَالِ، مَعَ تَفَرُّقِهِمْ فِي الْأَدْيَانِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِيَصْدُرُ، وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «لِيُرَوْا» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، أَيْ: لِيُرِيَهُمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ نَافِعٍ، وَالْمَعْنَى: لِيَرَوْا جَزَاءَ أعمالهم فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ أَيْ: وَزْنَ نَمْلَةٍ، وَهِيَ أَصْغَرُ مَا يَكُونُ من النمل. قال مقاتل: فمن يعمل في الدنيا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي كتابه فيفرح به، وَكذلك مَنْ يَعْمَلْ فِي الدُّنْيَا مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَسُوؤُهُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «1» . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: إِنَّ الذَّرَّةَ هُوَ أَنْ يَضْرِبَ الرَّجُلُ بِيَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَمَا عَلِقَ مِنَ التُّرَابِ فَهُوَ الذَّرَّةُ، وَقِيلَ: الذَّرُّ مَا يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ مِنَ الْهَبَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا وَ «مِنَ» الْأُولَى عِبَارَةٌ عَنِ السُّعَدَاءِ، وَ «مِنْ» الثَّانِيَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَشْقِيَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ مِنْ كَافِرٍ يرى ثَوَابَهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ من شرّ من مؤمن يرى عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ شَرٌّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلْتُ فِي رَجُلَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِيهِ السَّائِلُ فَيَسْتَقِلُّ أَنْ يُعْطِيَهُ التَّمْرَةَ وَالْكَسْرَةَ، وَكَانَ الْآخَرُ يَتَهَاوَنُ بِالذَّنْبِ الْيَسِيرِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَوْعَدَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى الْكَافِرِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَرَهُ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِضَمِّ الْهَاءِ وَصْلًا وَسُكُونِهَا وَقْفًا، وَقَرَأَ هِشَامٌ بِسُكُونِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَنَقَلَ أَبُو حَيَّانَ عَنْ هِشَامٍ وَأَبِي بَكْرٍ سُكُونَهَا، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو ضَمَّهَا مُشْبَعَةً، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِإِشْبَاعِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ، وَفِي هَذَا النَّقْلِ نَظَرٌ، وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يَرَهُ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا عَلِيٍّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا وَالْجَحْدَرِيُّ وَالسُّلَمِيُّ وَعِيسَى عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فِيهِمَا، أَيْ: يُرِيهِ اللَّهُ إِيَّاهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ «يَرَاهُ» عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ الْجَزْمِ بِحَذْفِ الْحَرَكَةِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْفِعْلِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها قَالَ: تَحَرَّكَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها قَالَ: الْمَوْتَى وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها قَالَ: الْكَافِرُ يَقُولُ: مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال: قال لها ربك قولي فقالت. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها قال: أوحى إليها يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً قَالَ: مِنْ كُلٍّ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها قَالَ: الْكُنُوزُ وَالْمَوْتَى. وَأَخْرَجَ مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال:

_ (1) . النساء: 40.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها فقال: أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنَّ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، تَقُولُ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا أَخْبَارُهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْأَرْضَ لتجيء يوم القيامة بكل عُمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها حَتَّى بَلَغَ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عن ربيعة الحرشي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَحَفَّظُوا مِنَ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ عَامٍلٍ عَلَيْهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلَّا وَهِيَ مُخْبِرَةٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «بَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ- وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَرَاءٍ مَا عَمِلْتُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ شَرٍّ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَرَأَيْتَ مَا تَرَى فِي الدُّنْيَا مِمَّا تَكْرَهُ فَبِمَثَاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ وَيُدَّخَرُ لَكَ مَثَاقِيلُ ذَرِّ الْخَيْرِ حَتَّى تُوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ قال: «بينما أَبُو بَكْرٍ يَتَغَدَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ- وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فَأَمْسَكَ أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَمِلْنَا مِنْ شَرٍّ رَأَيْنَاهُ، فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ مِمَّا تَكْرَهُونَ فَذَاكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ وَيُؤَخَّرُ الْخَيْرُ لِأَهْلِهِ فِي الْآخِرَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «أُنْزِلَتْ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَاعِدٌ فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: يُبْكِينِي هَذِهِ السُّورَةُ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّكُمْ تُخْطِئُونَ وَتُذْنِبُونَ فيغفر لكم خلق اللَّهُ قَوْمًا يُخْطِئُونَ وَيُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ» الْحَدِيثَ. وَقَالَ: «وَسُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ فَقَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ- وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .

سورة العاديات

سورة العاديات وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ، وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَقَتَادَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ وَالْعادِياتِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ، وَالْعَادِيَّاتُ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ» ، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ، وَزَادَ: «وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ ربع القرآن» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) الْعادِياتِ جَمْعُ عَادِيَةٍ، وَهِيَ الْجَارِيَةُ بِسُرْعَةٍ، مِنَ الْعَدْوِ: وَهُوَ الْمَشْيُ بِسُرْعَةٍ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا كَالْغَازِيَاتِ مِنَ الْغَزْوِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْخَيْلُ الْعَادِيَةُ فِي الْغَزْوِ نَحْوَ الْعَدْوِ، وَقَوْلُهُ: ضَبْحاً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِاسْمِ الْفَاعِلِ، فَإِنَّ الضَّبْحَ نَوْعٌ مِنَ السَّيْرِ وَنَوْعٌ مِنَ الْعَدْوِ، يُقَالُ: ضَبَحَ الْفَرَسُ إِذَا عَدَا بشدّة، مأخوذ من الضبح، وَهُوَ الدَّفْعُ، وَكَأَنَّ الْحَاءَ بَدَلٌ مِنَ الْعَيْنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ: الضَّبْحُ مِنْ إِضْبَاعِهَا في السير، ومنه قول عنترة: والخيل تعلم حين تض ... بح فِي حِيَاضِ الْمَوْتِ ضَبْحًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: ضَابِحَاتٍ، أَوْ ذَوَاتِ ضَبْحٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: تَضْبَحُ ضَبْحًا، وَقِيلَ: الضَّبْحُ: صَوْتُ حَوَافِرِهَا إِذَا عَدَتْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّبْحُ صَوْتُ أَنْفَاسِ الْخَيْلِ إِذَا عَدَتْ. قِيلَ: كَانَتْ تَكْعَمُ «1» لِئَلَّا تَصْهَلَ فَيَعْلَمَ الْعَدُوُّ بِهِمْ، فَكَانَتْ تَتَنَفَّسُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِقُوَّةٍ، وَقِيلَ: الضَّبْحُ: صَوْتٌ يُسْمَعُ مِنْ صُدُورِ الْخَيْلِ عِنْدَ الْعَدْوِ لَيْسَ بِصَهِيلٍ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ «الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا» هِيَ الْخَيْلُ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ الْإِبِلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ المطلب:

_ (1) . «تكعم» : الكعام: شيء يجعل على فم البعير.

فلا والعاديات غداة جمع ... بأيديها إذا سطع الْغُبَارُ وَنَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ أَصْلَ الضَّبْحِ لِلثَّعْلَبِ فَاسْتُعِيرَ لِلْخَيْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَضْبَحُ فِي الْكَفِّ ضِبَاحَ الثَّعْلَبِ فَالْمُورِياتِ قَدْحاً هِيَ الْخَيْلُ حِينَ تُورِي النَّارَ بِسَنَابِكِهَا، وَالْإِيرَاءُ: إِخْرَاجُ النَّارِ، وَالْقَدَحُ: الصَّكُّ، فَجُعِلَ ضَرْبُ الْخَيْلِ بِحَوَافِرِهَا كَالْقَدْحِ بِالزِّنَادِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا عَدَتِ الْخَيْلُ بِاللَّيْلِ وَأَصَابَ حَوَافِرَهَا الْحِجَارَةُ انْقَدَحَ مِنْهَا النِّيرَانُ، وَالْكَلَامُ فِي انْتِصَابِ قَدْحًا كَالْكَلَامِ فِي انْتِصَابِ ضَبْحًا، وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِهَا الْخَيْلَ أَوِ الْإِبِلَ كَالْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْعَادِيَاتِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا الْخَيْلُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَكَمَا هُوَ الظاهر في هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا سَيَأْتِي، فَإِنَّهَا فِي الْخَيْلِ أَوْضَحُ مِنْهَا فِي الْإِبِلِ، وَسَيَأْتِي مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً أَيِ: الَّتِي تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ وَقْتَ الصَّبَاحِ، يُقَالُ: أَغَارُ يُغِيرُ إِغَارَةً: إِذَا بَاغَتَ عَدُوَّهُ بِقَتْلٍ أَوْ أَسْرٍ أَوْ نَهْبٍ وَأَسْنَدَ الْإِغَارَةَ إِلَيْهَا وَهِيَ لِأَهْلِهَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهَا عُمْدَتُهُمْ فِي إِغَارَتِهِمْ، وَانْتِصَابُ صُبْحًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَاعِلِ، إِذِ الْمَعْنَى: وَاللَّاتِي عَدَوْنَ فَأَثَرْنَ، أَوْ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ فِي تَأْوِيلِ الْفِعْلِ لِوُقُوعِهِ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، فَإِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الصِّفَاتِ أَسْمَاءٌ مَوْصُولَةٌ، فَالْكَلَامُ فِي قوّة: واللاتي عدون فأغرن فأثرن، والنقع: الغبار الّذي أثرنه فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ عِنْدَ الْغَزْوِ، وَتَخْصِيصُ إِثَارَتِهِ بِالصُّبْحِ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْإِغَارَةِ، وَلِكَوْنِهِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُ النَّقْعِ فِي اللَّيْلِ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِ الصُّبْحُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَأَثَرْنَ بِمَكَانِ عَدْوِهِنَّ نَقْعًا، يُقَالُ ثَارَ النَّقْعُ وَأَثَرْتُهُ: أَيْ هَاجَ أَوْ هَيَّجْتُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَثَرْنَ بِتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: فَأَظْهَرْنَ بِهِ غُبَارًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النَّقْعُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ لَبِيدٍ: فَمَتَى يَنْقَعْ صراخ صادق ... يحلبوها ذَاتَ جَرَسٍ وَزَجَلِ يَقُولُ حِينَ سَمِعُوا صُرَاخًا: أحلبوا الْحَرْبَ، أَيْ: جَمَعُوا لَهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَعَلَى هَذَا رَأَيْتُ قَوْلَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ انْتَهَى، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّقْعَ الْغُبَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتَطَارِ النَّقْعِ دَامِيَةً ... كَأَنَّ أَذْنَابَهَا أَطْرَافُ أَقْلَامِ وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: عَدِمْنَا خَيْلَنَا إِنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كَدَاءَ وَقَوْلُ الْآخَرِ: كَأَنَّ مَثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤُوسِنَا ... وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُهُ وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَعْنَى الْآيَةِ، وَلَيْسَ لِتَفْسِيرِ النَّقْعِ بِالصَّوْتِ فِيهَا كَثِيرُ مَعْنًى، فَإِنَّ قَوْلَكَ أَغَارَتِ الْخَيْلُ عَلَى بَنِي فُلَانٍ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ صَوْتًا، قَلِيلُ الْجَدْوَى مَغْسُولُ الْمَعْنَى بَعِيدٌ مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزَةِ. وَقِيلَ:

النَّقْعُ: شَقُّ الْجُيُوبِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: النَّقْعُ مَا بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى، وَقِيلَ: إِنَّهُ طَرِيقُ الْوَادِي. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: النَّقْعُ: الْغُبَارُ، وَالْجَمْعُ: أَنْقَاعٌ، وَالنَّقْعُ: مَحْبِسُ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ مَا اجْتَمَعَ فِي الْبِئْرِ مِنْهُ، وَالنَّقْعُ: الْأَرْضُ الْحُرَّةُ الطِّينِ يَسْتَنْقِعُ فِيهَا الْمَاءُ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً أَيْ: تَوَسَّطْنَ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ تَوَسَّطْنَ متلبسات بِالنَّقْعِ جَمْعًا مِنْ جُمُوعِ الْأَعْدَاءِ، أَوْ صِرْنَ بِعَدْوِهِنَّ وَسَطَ جَمْعِ الْأَعْدَاءِ، وَالْبَاءُ إِمَّا لِلتَّعْدِيَةِ، أَوْ لِلْحَالِيَّةِ، أَوْ زَائِدَةٌ يُقَالُ: وَسَطْتُ الْمَكَانَ، أَيْ: صِرْتُ فِي وَسَطِهِ، وَانْتِصَابُ «جَمْعًا» عَلَى أنه مفعول له، وَالْفَاءَاتُ فِي الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ ما بعد كل واحد مِنْهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَوَسَطْنَ بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَقُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ بَعْضُ أَفْرَادِهِ، وَهُوَ الْكَافِرُ، وَالْكَنُودُ: الْكَفُورُ لِلنِّعْمَةِ، وَقَوْلُهُ: لِرَبِّهِ مُتَعَلِّقٌ بِكَنُودٍ، قُدِّمَ لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَنُودٌ لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ وَمَنْ يَكُنْ ... كَنُودًا لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ يَبْعُدُ أَيْ: كَفُورٌ لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ، وَقِيلَ: هُوَ الْجَاحِدُ لِلْحَقِّ، قِيلَ: إِنَّهَا إِنَّمَا سُمِّيَتْ كِنْدَةَ لِأَنَّهَا جَحَدَتْ أَبَاهَا. وَقِيلَ: الْكَنُودُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَنْدِ، وَهُوَ الْقَطْعُ، كَأَنَّهُ قَطَعَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَاصِلَهُ مِنَ الشُّكْرِ. يُقَالُ كَنَدَ الْحَبْلَ: إِذَا قَطَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وُصُولُ حِبَالٍ وَكَنَادُهَا «1» وَقِيلَ: الْكَنُودُ: الْبَخِيلُ، وَأَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ: إِنَّ نَفْسِي لَمْ تَطِبْ مِنْكَ نَفْسًا ... غَيْرَ أَنِّي أُمْسِي بِدَيْنٍ كَنُودِ وَقِيلَ: الْكَنُودُ: الْحَسُودُ، وَقِيلَ: الْجَهُولُ لِقَدْرِهِ، وَتَفْسِيرُ الْكَنُودِ بِالْكَفُورِ لِلنِّعْمَةِ أَوْلَى بِالْمَقَامِ، وَالْجَاحِدُ لِلنِّعْمَةِ كَافِرٌ لَهَا، وَلَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ سَائِرُ مَا قِيلَ، وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ أَيْ: وَإِنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى كُنُودِهِ لَشَهِيدٌ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ لِظُهُورِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنِ ابْنِ آدَمَ لَشَهِيدٌ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ بِالْأَوَّلِ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَهُوَ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِ الْجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ فَإِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ لِحُبِّ الْمَالِ قَوِيٌّ مُجِدٌّ فِي طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ مُتَهَالِكٌ عَلَيْهِ، يُقَالُ: هُوَ شَدِيدٌ لِهَذَا الْأَمْرِ وَقَوِيٌّ لَهُ إِذَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ، ومنه قوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً «2» وَمِنْهُ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: مَاذَا تُرَجِّي النُّفُوسُ مِنْ طَلَبِ الْ ... خَيْرِ وَحُبُّ الْحَيَاةِ كاربها «3»

_ (1) . وصدر البيت: أميطي تميطي بصلب الفؤاد. (2) . البقرة: 180. [.....] (3) . أي غامّها، من كربه الأمر: أي اشتدّ عليه.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ أَجْلِ حُبِّ المال لبخيل، والأوّل أولى. واللام في لِحُبِّ مُتَعَلِّقَةٌ بِشَدِيدٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: سَمَّى اللَّهُ الْمَالَ خَيْرًا، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ شَرًّا، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَجِدُونَهُ خَيْرًا، فَسَمَّاهُ خَيْرًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُ نَظْمِ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّهُ لَشَدِيدُ الحبّ للخير، فلما قدّم الحبّ قال: لشديد، وحذف من آخره ذكر الحبّ، لأنه قد جرى ذكره، ولرؤوس الآي كقوله: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «1» وَالْعُصُوفُ لِلرِّيحِ لَا لِلْيَوْمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فِي يوم عاصف الريح أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، أَيْ: يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ مِنَ الْقَبَائِحِ فَلَا يَعْلَمُ، وَبَعْثَرَ مَعْنَاهُ: نَثَرَ وَبَحَثَ، أَيْ: نَثَرَ مَا فِي الْقُبُورِ مِنَ الْمَوْتَى وَبَحَثَ عَنْهُمْ وَأَخْرَجُوا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بَعْثَرْتُ الْمَتَاعَ: جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يَقُولُ: بَحْثَرَ بِالْحَاءِ مَكَانَ الْعَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا في قوله: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ «2» وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ أَيْ: مُيِّزَ وَبُيِّنَ مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالتَّحْصِيلُ: التَّمْيِيزُ، كَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَقِيلَ: حُصِّلَ: أُبْرِزَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُصِّلَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ مَكْسُورًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ «حَصَلَ» بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالصَّادِ وَتَخْفِيفِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ: ظَهَرَ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أَيْ: إِنَّ رَبَّ الْمَبْعُوثِينَ بِهِمْ لَخَبِيرٌ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ فَيُجَازِيهِمْ بِالْخَيْرِ خَيْرًا، وَبِالشَّرِّ شَرًّا. قَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّهُ خَبِيرٌ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ «3» مَعْنَاهُ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مُجَازَاتَهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّ رَبَّهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِاللَّامِ في «لخبير» ، وقرأ أبو السمّال بفتح الهمزة وإسقاط اللام من «الخبير» . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا فَاسْتَمَرَّتْ شَهْرًا لَا يَأْتِيهِ مِنْهَا خَبَرٌ، فَنَزَلَتْ: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ضَبَحَتْ بِأَرْجُلِهَا» وَلَفْظُ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ: ضَبَحَتْ بِمَنَاخِرِهَا فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قَدَحَتْ بِحَوَافِرِهَا الْحِجَارَةَ فَأَوْرَتْ نَارًا فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً صَبَّحَتِ الْقَوْمَ بِغَارَةٍ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً أَثَارَتْ بِحَوَافِرِهَا التُّرَابَ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً صَبَّحَتِ الْقَوْمَ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى الْعَدُوِّ فَأَبْطَأَ خَبَرُهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ خَبَرَهُمْ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قَالَ: «هِيَ الْخَيْلُ» . وَالضَّبْحُ: نَخِيرُ الْخَيْلِ حِينَ تَنْخُرُ، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قَالَ: حِينَ تَجْرِي الْخَيْلُ تُورِي نَارًا أَصَابَتْ سَنَابِكُهَا الْحِجَارَةَ فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً قَالَ: هِيَ الْخَيْلُ أَغَارَتْ فَصَبَّحَتِ الْعَدُوَّ، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً قَالَ: هِيَ الْخَيْلُ أَثَرْنَ بِحَوَافِرِهَا، يَقُولُ: بِعَدْوِ الْخَيْلِ، وَالنَّقْعُ: الْغُبَارُ، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قَالَ: الْجَمْعُ: الْعَدُوُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: تَقَاوَلْتُ أَنَا وَعِكْرِمَةُ فِي شَأْنِ الْعَادِيَّاتِ، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْخَيْلُ فِي الْقِتَالِ، وَضَبْحُهَا حِينَ ترخي مشافرها إذا عدت فَالْمُورِياتِ قَدْحاً

_ (1) . إبراهيم: 18. (2) . الانفطار: 4. (3) . النساء: 63.

أَرَتِ الْمُشْرِكِينَ مَكْرَهُمْ فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً قَالَ: إِذَا أصبحت الْعَدُوَّ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قَالَ: إِذَا تَوَسَّطَتِ الْعَدُوَّ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَقُلْتُ: قَالَ عَلِيٌّ: هِيَ الْإِبِلُ فِي الْحَجِّ، وَمَوْلَايَ كَانَ أَعْلَمَ مِنْ مَوْلَاكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ الْأَضْدَادِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحِجْرِ جَالِسٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلٌ يَسْأَلُ عَنِ «الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا» فَقُلْتُ: الْخَيْلُ حِينَ تُغِيرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى اللَّيْلِ فَيَصْنَعُونَ طَعَامَهُمْ وَيُورُونَ نَارَهُمْ، فَانْفَتَلَ عَنِّي فَذَهَبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ جَالِسٌ تَحْتَ سِقَايَةِ زَمْزَمَ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَقَالَ: سَأَلْتَ عَنْهَا أَحَدًا قَبْلِي؟ قَالَ: نَعَمْ سَأَلْتُ عَنْهَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: هِيَ الْخَيْلُ حِينَ تُغِيرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَادْعُهُ لِي، فَلَمَّا وَقَفْتُ عَلَى رَأْسِهِ قَالَ: تُفْتِي النَّاسَ بِمَا لَا عِلْمَ لك، والله إن كانت لَأَوَّلَ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ لَبَدْرٌ، وَمَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْعادِياتِ ضَبْحاً إِنَّمَا الْعَادِيَاتُ ضَبْحًا مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، فَإِذَا أووا إلى المزدلفة أوقدوا النيران، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، فَذَلِكَ جَمْعٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَهِيَ نَقْعُ الْأَرْضِ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَحَوَافِرِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَزَعْتُ عَنْ قَوْلِي، وَرَجَعْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ عَلِيٌّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قَالَ: الْإِبِلُ، أَخْرَجُوهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هِيَ الْإِبِلُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْخَيْلُ، فَبَلَغَ عَلِيًّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَقَالَ: مَا كَانَتْ لَنَا خَيْلٌ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ فِي سَرِيَّةٍ بُعِثَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: تَمَارَى عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْخَيْلُ وَقَالَ عَلِيٌّ: كَذَبْتَ يَا ابْنَ فُلَانَةَ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مَعَنَا يَوْمَ بَدْرٍ فَارِسٌ إِلَّا الْمِقْدَادَ كَانَ عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ هِيَ الْإِبِلُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُثِيرُ نَقْعًا فَمَا شَيْءٌ تُثِيرُ إِلَّا بِحَوَافِرِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قَالَ: الْخَيْلُ فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قَالَ: الرَّجُلُ إِذَا أَوْرَى زَنْدَهُ فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً قَالَ: الْخَيْلُ تُصَبِّحُ الْعَدُوَّ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً قَالَ: التُّرَابُ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قَالَ: الْعَدُوُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقِتَالُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْحَجُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ يَضْبَحُ إِلَّا الْكَلْبُ أَوِ الْفَرَسُ فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قَالَ: هُوَ مَكْرُ الرَّجُلِ قَدَحَ فَأَوْرَى فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً قَالَ: غَارَةُ الخيل صبحا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً قال: غبار وَقْعُ سَنَابِكِ الْخَيْلِ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قَالَ: جَمْعُ الْعَدُوِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قَالَ: الْخَيْلُ ضَبْحُهَا زَحِيرُهَا، أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفَرَسَ إِذَا عَدَا قَالَ: أَحْ أَحْ، فَذَلِكَ ضَبْحُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الضَّبْحُ مِنَ الْخَيْلِ الْحَمْحَمَةُ، وَمِنَ الْإِبِلِ النَّفَسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قَالَ: هِيَ الْإِبِلُ فِي الْحَجِّ فَالْمُورِياتِ قَدْحاً إِذَا سَفَّتِ الْحَصَى بِمَنَاسِمِهَا فَضَرَبَ الْحَصَى بَعْضُهُ بَعْضًا فَيَخْرُجُ مِنْهُ النَّارُ

فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً حِينَ يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً قَالَ: إِذَا سِرْنَ يُثِرْنَ التُّرَابَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَنُودُ بِلِسَانِنَا أَهْلُ الْبَلَدِ الْكَفُورُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ قَالَ لَكَفُورٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: الْكَنُودُ الَّذِي يَمْنَعُ رِفْدَهُ، وَيَنْزِلُ وَحْدَهُ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ. وَرَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ مَرْفُوعًا- وَضَعَّفَ إِسْنَادَهُ السُّيُوطِيُّ- وَفِي إِسْنَادِهِ جَعْفَرُ بْنُ الزبير وهو متروك، والموقوف أصحّ لأنه لمن يَكُنْ مِنْ طَرِيقِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ قَالَ: الْإِنْسَانُ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ قَالَ: الْمَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ قَالَ: بُحِثَ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ قال: أبرز.

سورة القارعة

سورة القارعة هي إحدى عشرة آية، وقيل: عشر آيات وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْقَارِعَةِ بمكة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) الْقارِعَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهَا تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بِالْفَزَعِ، وَتَقْرَعُ أَعْدَاءَ اللَّهِ بِالْعَذَابِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَرَّعَتْهُمُ الْقَارِعَةُ إِذَا وَقَعَ بِهِمْ أَمْرٌ فَظِيعٌ. قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ: وَقَارِعَةٌ مِنَ الْأَيَّامِ لَوْلَا ... سَبِيلُهُمْ لَرَاحَتْ عنك حينا وقال آخر: متى تقرع بمروتكم «1» نسؤكم ... ولم توقد لَنَا فِي الْقِدْرِ نَارُ وَالْقَارِعَةَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهَا قَوْلُهُ: مَا الْقارِعَةُ وَبِالرَّفْعِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ عِيسَى بِنَصْبِهَا عَلَى تَقْدِيرِ: احْذَرُوا الْقَارِعَةَ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: الْحَاقَّةُ- مَا الْحَاقَّةُ- وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ «2» وَقِيلَ: مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى التَّحْذِيرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْعَرَبُ تُحَذِّرُ وَتُغْرِي بِالرَّفْعِ كَالنَّصْبِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: لَجَدِيرُونَ بِالْوَفَاءِ إِذَا قَالَ ... أَخُو النَّجْدَةِ السِّلَاحُ السِّلَاحُ وَالْحَمْلُ عَلَى مَعْنَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، فَإِنَّهُ أَدَلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ فَإِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِشَدَّةِ هَوْلِهَا وَمَزِيدِ فَظَاعَتِهَا حَتَّى كَأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ دَائِرَةِ عُلُومِ الْخَلْقِ بِحَيْثُ لَا تَنَالُهَا دِرَايَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مُبْتَدَأٌ، وَأَدْرَاكَ خبرها وما القارعة مبتدأ

_ (1) . «المروة» : حجر يقدح منه النار. (2) . الحاقة: 1- 3.

وَخَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَالْمَعْنَى: وَأَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ مَا شَأْنُ الْقَارِعَةِ؟ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَتَّى تَكُونُ الْقَارِعَةُ فَقَالَ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَانْتِصَابُ الظَّرْفِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَارِعَةُ، أَيْ: تُقَرِّعُهُمْ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ ... إِلَخْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِتَقْدِيرِ اذْكُرْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَكِّيٌّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِنَفْسِ الْقَارِعَةِ، وَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَإِنَّمَا نصب لإضافته إلى الفعل، فالفتحة فتحة بناء لا فتحة إعراب، أي: هي يوم يكون ... إلخ، وقيل التَّقْدِيرُ: سَتَأْتِيكُمُ الْقَارِعَةُ يَوْمُ يَكُونُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِرَفْعِ يَوْمُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِلْمُبْتَدَأِ الْمُقَدَّرِ. وَالْفَرَاشُ: الطَّيْرُ الَّذِي تَرَاهُ يَتَسَاقَطُ فِي النَّارِ وَالسِّرَاجِ، وَالْوَاحِدَةُ: فَرَاشَةٌ، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْفَرَاشُ: هُوَ الطَّائِرُ مِنْ بَعُوضٍ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُ الْجَرَادُ. قَالَ: وَبِهِ يُضْرَبُ الْمَثَلُ فِي الطَّيْشِ وَالْهَوَجِ، يُقَالُ: أَطْيَشُ مِنْ فَرَاشَةٍ، وَأَنْشَدَ: فَرَاشَةُ الْحِلْمِ فِرْعَوْنُ الْعَذَابِ وَإِنْ ... يُطْلَبْ نَدَاهُ فَكَلْبٌ دُونَهُ كَلْبُ وَقَوْلٌ آخَرُ: وَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ رُدِّدَتْ حُلُومُهُمْ ... عَلَيْهِمْ وَكَانُوا كَالْفَرَاشِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْمُرَادُ بِالْمَبْثُوثِ الْمُتَفَرِّقُ الْمُنْتَشِرُ، يُقَالُ بَثَّهُ: إِذَا فَرَّقَهُ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ «1» وَقَالَ الْمَبْثُوثِ وَلَمْ يَقُلِ الْمَبْثُوثَةِ، لِأَنَّ الْكُلَّ جَائِزٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «2» وأَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «3» وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وَجْهِ ذَلِكَ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أَيْ: كَالصُّوفِ الْمُلَوَّنِ بِالْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّذِي نُفِشَ بِالنَّدْفِ، وَالْعِهْنُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ بِالْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَوْصَافٌ لِلْجِبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ الْجَمْعِ بَيْنَهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ النَّاسِ وَتَفَرُّقَهُمْ فَرِيقَيْنِ عَلَى جِهَةِ الْإِجْمَالِ فَقَالَ: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ- فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْمِيزَانِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ الْكَهْفِ وَسُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا هُنَا، فَقِيلَ: هِيَ جَمْعٌ مَوْزُونٌ، وَهُوَ الْعَمَلُ الَّذِي لَهُ وَزْنٌ وَخَطَرٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: هِيَ جَمْعُ مِيزَانٍ، وَهُوَ الْآلَةُ الَّتِي تُوضَعُ فِيهَا صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، كَمَا يُقَالُ لِكُلِّ حَادِثَةٍ مِيزَانٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَوَازِينِ الْحُجَجُ وَالدَّلَائِلُ، كَمَا فِي قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذَا مَرَّةٍ ... عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهُ وَمَعْنَى عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ: مَرَضِيَّةٌ يَرْضَاهَا صاحبها. قال الزجاج: أي ذات رضى يَرْضَاهَا صَاحِبُهَا، وَقِيلَ: «عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ» أَيْ: فَاعِلَةٍ للرضى، وَهُوَ اللِّينُ، وَالِانْقِيَادُ لِأَهْلِهَا. وَالْعِيشَةُ: كَلِمَةٌ تَجْمَعُ النِّعَمَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أَيْ: رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ يَعْتَدُّ بِهَا فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ

_ (1) . القمر: 7. (2) . القمر: 20. (3) . الحاقة: 7.

أَيْ: فَمَسْكَنُهُ جَهَنَّمُ، وَسَمَّاهَا أُمَّهُ لِأَنَّهُ يَأْوِي إِلَيْهَا كَمَا يَأْوِي إِلَى أُمِّهِ، وَالْهَاوِيَةُ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ، وَسُمِّيَتْ هَاوِيَةً لِأَنَّهُ يَهْوِي فِيهَا مَعَ بُعْدِ قَعْرِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: فَالْأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أُمَّنَا ... فِيهَا مَقَابِرُنَا وَفِيهَا نُولَدُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَا عَمْرُو لَوْ نَالَتْكَ أَرْمَاحُنَا ... كُنْتَ كَمَنْ تَهْوِي بِهِ الْهَاوِيَةْ وَالْمَهْوَى وَالْمَهْوَاةُ: مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَتَهَاوَى الْقَوْمُ فِي الْمَهْوَاةِ إِذَا سَقَطَ بَعْضُهُمْ فِي إِثْرِ بَعْضٍ. قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ فَمَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: لِأَنَّهُ يَهْوِي فِيهَا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: أُمُّهُ مُسْتَقِرَّةٌ وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ للتهويل والتفظيع ببيان أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمَعْهُودِ بِحَيْثُ لَا تُحِيطُ بِهَا عُلُومُ الْبَشَرِ وَلَا تَدْرِي كُنْهَهَا. ثُمَّ بَيَّنَهَا سُبْحَانَهُ فَقَالَ: نارٌ حامِيَةٌ أَيْ: قَدِ انْتَهَى حَرُّهَا وَبَلَغَ فِي الشِّدَّةِ إِلَى الْغَايَةِ وَارْتِفَاعُ نَارٌ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ نَارٌ حَامِيَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقارِعَةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ قَالَ: كَقَوْلِهِ هَوَتْ أُمُّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ قَالَ: أُمُّ رَأْسِهِ هَاوِيَةٌ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ تَلَقَّتْهُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْأَلُونَهُ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ مَا فَعَلَتْ فُلَانَةُ؟ فَإِذَا كَانَ مَاتَ وَلَمْ يَأْتِهِمْ قَالُوا خُولِفَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، فَبِئْسَتِ الْأُمُّ وَبِئْسَتِ الْمُرَبِّيَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الأنصاري ونحوه. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ نحوه أيضا.

سورة التكاثر

سورة التّكاثر وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نزل بِمَكَّةَ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا يَسْتَطِيعَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟ قَالُوا: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟ قَالَ: أَمَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ؟!» . وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي الْمُتَّفَقِ وَالْمُفْتَرَقِ، وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ أَلْفَ آيَةٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ ضَاحِكٌ فِي وَجْهِهِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَقْوَى عَلَى أَلْفِ آيَةٍ؟ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ أَلْفَ آيَةٍ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: «انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، وَفِي لَفْظٍ: وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، وَهُوَ يَقُولُ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟» . وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قِرَاءَةَ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَا نُزُولَهَا بِلَفْظِ: «يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، وَإِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثَةٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ تَصَدَّقَ فَأَقْنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَضَعَّفَهُ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي قَارِئٌ عَلَيْكُمْ سُورَةَ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، فَمَنْ بَكَى فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَقَرَأَهَا فَمِنَّا مَنْ بَكَى وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَبْكِ، فَقَالَ الَّذِينَ لَمْ يَبْكُوا: قَدْ جُهِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ نَبْكِيَ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنِّي قَارِئُهَا عَلَيْكُمُ الثَّانِيَةَ فَمَنْ بَكَى فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يبكي فليتباكى» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) قَوْلُهُ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أَيْ: شَغَلَكُمُ التَّكَاثُرُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالتَّفَاخُرُ بِكَثْرَتِهَا وَالتَّغَالُبُ فِيهَا. يُقَالُ: أَلْهَاهُ عَنْ كَذَا وَأَلْهَاهُ إِذَا شَغَلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذي تمائم محول «1»

_ (1) . وصدر البيت: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع.

وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى أَلْهَاكُمْ: أَنْسَاكُمْ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أَيْ: حَتَّى أَدْرَكَكُمُ الْمَوْتُ وَأَنْتُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ التَّكَاثُرَ: التَّفَاخُرُ بِالْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَلْهَاكُمُ التَّشَاغُلُ بِالْمَعَاشِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ أَيْضًا وَغَيْرُهُمَا: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، وَبَنُو فُلَانٍ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، أَلْهَاهُمْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي حَيَّيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ: بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَنِي سَهْمٍ، تَعَادَوْا وَتَكَاثَرُوا بِالسِّيَادَةِ وَالْأَشْرَافِ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ كُلُّ حَيٍّ مِنْهُمْ: نَحْنُ أَكْثَرُ سَيِّدًا، وَأَعَزُّ عَزِيزًا، وَأَعْظَمُ نَفَرًا، وَأَكْثَرُ قَائِدًا، فَكَثَّرَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بَنِي سَهْمٍ، ثُمَّ تكاثروا بالأموات فكثرتهم سهم، فَنَزَلَتْ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ فَلَمْ تَرْضَوْا حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ مُفْتَخِرِينَ بِالْأَمْوَاتِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَالْمَقَابِرُ: جَمْعُ مَقْبَرَةٍ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بالدنيا والمكاثرة بها والمفاخرة مِنَ الْخِصَالِ الْمَذْمُومَةِ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ وَلَمْ يَقُلْ عَنْ كَذَا، بَلْ أَطْلَقَهُ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ، لِأَنَّهُ يَذْهَبُ الْوَهْمُ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ، وَلِأَنَّ حَذْفَ الْمُتَعَلِّقِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ شَغَلَكُمُ التَّكَاثُرُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يَجِبُ عَلَيْكُمِ الِاشْتِغَالُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، وَعَبَّرَ عَنْ مَوْتِهِمْ بِزِيَارَةِ الْمَقَابِرِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ صَارَ إِلَى قَبْرِهِ كَمَا يَصِيرُ الزَّائِرُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَزُورُهُ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ مُتُّمْ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ذَكَرْتُمُ الْمَوْتَى وَعَدَدْتُمُوهُمْ لِلْمُفَاخَرَةِ وَالْمُكَاثَرَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَزُورُونَ الْمَقَابِرَ، فَيَقُولُونَ هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ، وَهَذَا قَبْرُ فُلَانٍ يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لَهُمْ عَنِ التَّكَاثُرِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ، ثُمَّ كَرَّرَ الرَّدْعَ وَالزَّجْرَ وَالْوَعِيدَ فَقَالَ: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وَثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ فِي الْقَبْرِ، وَالثَّانِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا التَّكْرَارُ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ وَالتَّأْكِيدِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَيْ: لَوْ تَعْلَمُونَ الْأَمْرَ الَّذِي أَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ عِلْمًا يَقِينًا كَعِلْمِكُمْ مَا هُوَ مُتَيَقَّنٌ عِنْدَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَشَغَلَكُمْ ذَلِكَ عَنِ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ، أَوْ لَفَعَلْتُمْ مَا يَنْفَعُكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَتَرَكْتُمْ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، وَكَلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الثَّالِثِ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ كَالْمَوْضِعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ بِمَعْنَى حَقًّا، وَقِيلَ: هِيَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ بِمَعْنَى أَلَا. قَالَ قَتَادَةُ: الْيَقِينُ هُنَا الْمَوْتُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْبَعْثُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ مَا أَلْهَاكُمْ، وَقَوْلُهُ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَفِيهِ زِيَادَةُ وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ، أَيْ: وَاللَّهِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَلَيْسَ هَذَا جَوَابَ لَوْ لَأَنَّ جَوَابَ لَوْ يَكُونُ مَنْفِيًّا، وهذا مثبت ولأنه عطف عليه ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، قَالَ: وَحَذْفُ جَوَابِ «لَوْ» كَثِيرٌ، وَالْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ، وَقِيلَ: عام كقوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «1» قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَتَرَوُنَّ بِفَتْحِ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وقرأ الكسائي وابن عامر بضمها مبنيا

_ (1) . مريم: 71.

لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ كَرَّرَ الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ لِلتَّأْكِيدِ فَقَالَ: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ أَيْ: ثُمَّ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ الرُّؤْيَةَ الَّتِي هِيَ نَفْسُ الْيَقِينِ، وَهِيَ الْمُشَاهَدَةُ وَالْمُعَايَنَةُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ بِأَبْصَارِكُمْ عَلَى الْبُعْدِ مِنْكُمْ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا مُشَاهَدَةً عَلَى الْقُرْبِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ رُؤْيَتُهَا قَبْلَ دُخُولِهَا، وَالثَّانِي رُؤْيَتُهَا حَالَ دُخُولِهَا، وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ بَقَائِهِمْ فِي النَّارِ، أَيْ: هِيَ رُؤْيَةٌ دَائِمَةٌ مُتَّصِلَةٌ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ تَعْلَمُونَ الْيَوْمَ عِلْمَ الْيَقِينِ وَأَنْتُمْ فِي الدُّنْيَا لَتَرَوُنَّ الجحيم بعيون قُلُوبِكُمْ، وَهُوَ أَنْ تَتَصَوَّرُوا أَمْرَ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالَهَا ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ أَيْ عَنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا الَّذِي أَلْهَاكُمْ عَنِ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ، فَيُسْأَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ شُكْرِ مَا كَانُوا فِيهِ، وَلَمْ يَشْكُرُوا رَبَّ النِّعَمِ حَيْثُ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَا يُسْأَلُ عَنِ النَّعِيمِ إِلَّا أَهْلُ النَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَائِلٌ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ عَمَّا أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ النَّعِيمِ بِفَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ، أَوْ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ لِأَنَّ تَعْرِيفَهُ لِلْجِنْسِ أَوِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَمُجَرَّدُ السُّؤَالِ لَا يَسْتَلْزِمُ تعذيب المسؤول عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي يُسْأَلُ عَنْهَا، فَقَدْ يَسْأَلُ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ عَنِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ فِيمَ صَرَفَهَا، وَبِمَ عَمِلَ فِيهَا؟ لِيَعْرِفَ تَقْصِيرَهُ وَعَدَمَ قِيَامِهِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ، وَقِيلَ: السُّؤَالُ عَنِ الْأَمْنِ وَالصِّحَّةِ، وَقِيلَ: عَنِ الصِّحَّةِ وَالْفَرَاغِ، وَقِيلَ: عَنِ الْإِدْرَاكِ بِالْحَوَاسِّ، وَقِيلَ: عَنْ مَلَاذِّ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَقِيلَ: عَنِ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ، وَقِيلَ: عَنْ بَارِدِ الشَّرَابِ وَظِلَالِ الْمَسَاكِنِ، وَقِيلَ: عَنِ اعْتِدَالِ الْخُلُقِ، وَقِيلَ: عَنْ لَذَّةِ النَّوْمِ، وَالْأَوْلَى الْعُمُومُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ فِي قَوْلِهِ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي حَارِثَةَ وَبَنِي الْحَارِثِ تَفَاخَرُوا وَتَكَاثَرُوا، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: فِيكُمْ مِثْلُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَقَالَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ. تَفَاخَرُوا بِالْأَحْيَاءِ. ثُمَّ قَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْقُبُورِ، فَجَعَلَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ: فِيكُمْ مِثْلُ فُلَانٍ يُشِيرُونَ إِلَى الْقَبْرِ، وَمِثْلُ فُلَانٍ، وَفَعَلَ الْآخَرُونَ كَذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ- حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيمَا زُرْتُمْ عِبْرَةٌ وَشُغُلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قَالَ: فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ يَعْنِي عَنِ الطَّاعَةِ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ يَقُولُ: حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْمَوْتُ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني لو دَخَلْتُمْ قُبُورَكُمْ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يَقُولُ: لَوْ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ إِلَى مَحْشَرِكُمْ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ قَالَ: لَوْ قَدْ وَقَفْتُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكُمْ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ وَذَلِكَ أَنَّ الصِّرَاطَ يُوضَعُ وَسَطَ جَهَنَّمَ، فَنَاجٍ مُسْلِمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُسْلِمٌ، وَمَكْدُوشٌ فِي نار جهنم ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ يَعْنِي شِبَعَ الْبُطُونِ، وَبَارِدَ الشرب، وَظِلَالَ الْمَسَاكِنِ، وَاعْتِدَالَ الْخَلْقِ، وَلَذَّةَ النَّوْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عباس في قوله: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قَالَ: صِحَّةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلِهِ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ

أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «1» . وَأَخْرَجَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قَالَ: «الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: النَّعِيمُ: الْعَافِيَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ أَكَلَ خُبْزَ الْبُرِّ، وَشَرِبَ مَاءَ الْفُرَاتِ مُبَرَّدًا، وَكَانَ لَهُ مَنْزِلٌ يَسْكُنُهُ، فَذَلِكَ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي يُسْأَلُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ: «أَكْلُ خُبْزِ الْبُرِّ، وَالنَّوْمُ فِي الظِّلِّ، وَشُرْبُ مَاءِ الْفُرَاتِ مُبَرَّدًا» . وَلَعَلَّ رَفْعَ هَذَا لَا يَصِحُّ، فَرُبَّمَا كَانَ مِنْ قَوْلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَعْقِدُونَ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ بِالنَّقْيِ فَيَأْكُلُونَهُ» وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ نَعِيمٍ نَحْنُ فِيهِ؟ وَإِنَّمَا نَأْكُلُ فِي أَنْصَافِ بُطُونِنَا خُبْزَ الشَّعِيرِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قُلْ لَهُمْ: «أَلَيْسَ تَحْتَذُونَ النِّعَالَ، وَتَشْرَبُونَ الْمَاءَ الْبَارِدَ، فَهَذَا مِنَ النَّعِيمِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَأَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ فقرأ حتى بلغ: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ عَنْهُ؟ وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ: الْمَاءُ وَالتَّمْرُ، وَسُيُوفُنَا عَلَى رِقَابِنَا، وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، فَعَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ؟ قَالَ: «أَمَا إِنْ ذَلِكَ سَيَكُونُ» . وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. وأخرج أحمد في الزهد، وعبد ابن حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جَسَدَكَ وَنَرْوِكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَأَطْعَمْنَاهُمْ رُطَبًا وَسَقَيْنَاهُمْ مَاءً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أبي هريرة قالا: «خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا السَّاعَةَ؟ قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا فَقُومَا، فَقَامَا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالَتْ: انْطَلَقَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الْمَاءَ إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمُ أَضْيَافًا مِنِّي، فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ. فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذَا وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ، فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَنُسْأَلَنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي الْبَابِ أحاديث.

_ (1) . الإسراء: 36.

سورة العصر

سورة العصر وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْعَصْرِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ في الأوسط، والبيهقي في الشعب، عن ابن مُزَيْنَةَ الدَّارِمِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ سُورَةَ الْعَصْرِ. ثُمَّ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِالْعَصْرِ وَهُوَ الدَّهْرُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ مِنْ جِهَةِ مُرُورِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَدْوَارِ وَتَعَاقُبِ الظَّلَامِ وَالضِّيَاءِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً بَيِّنَةً عَلَى الصَّانِعِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى تَوْحِيدِهِ، وَيُقَالُ لِلَّيْلِ: عَصْرٌ وَلِلنَّهَارِ: عَصْرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ حميد بن ثور: ولم يلبث الْعَصْرَانِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا ما تيمّما وَيُقَالُ لِلْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ: عَصْرَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَمْطُلُهُ الْعَصْرَيْنِ حَتَّى يَمَلَّنِي ... وَيَرْضَى بِنِصْفِ الدَّيْنِ وَالْأَنْفُ رَاغِمُ وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ الْعَشِيُّ، وَهُوَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشمس وغروبها، ومنه قول الشاعر: تروّح بنا يا عَمْرٌو وَقَدْ قَصَرَ الْعَصْرَ ... وَفِي الرَّوْحَةِ الْأُولَى الْغَنِيمَةُ وَالْأَجْرُ وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا أَنَّهُ: آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ بِعَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ وَرَبِّ الْعَصْرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ. الْخُسْرُ وَالْخُسْرَانُ: النُّقْصَانُ وَذَهَابُ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ فِي الْمَتَاجِرِ وَالْمَسَاعِي وَصَرْفِ الْأَعْمَارِ فِي أَعْمَالِ الدُّنْيَا لَفِي نَقْصٍ وَضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ حَتَّى يَمُوتَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْكَافِرُ، وَقِيلَ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ، وَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا فِي لَفْظِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْعُمُومِ وَلِدَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: لَفِي خُسْرٍ فِي هَلَكَةٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:

عُقُوبَةٌ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَفِي شَرٍّ. قَرَأَ الجمهور: «والعصر» بسكون الصاد. وقرءوا أَيْضًا: خُسْرٍ بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ وَالْعَصْرِ بِكَسْرِ الصَّادِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى: خُسْرٍ بِضَمِّ الْخَاءِ وَالسِّينِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَاصِمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّهُمْ فِي رِبْحٍ لَا فِي خُسْرٍ لِأَنَّهُمْ عَمِلُوا لِلْآخِرَةِ وَلَمْ تَشْغَلْهُمْ أَعْمَالُ الدُّنْيَا عَنْهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ الْكَافِرُ فَقَطْ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ الصَّحَابَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ، فَإِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَتَّصِفُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ أَيْ: وَصَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْحَقِّ الَّذِي يَحِقُّ الْقِيَامُ بِهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالتَّوْحِيدُ، وَالْقِيَامُ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ، وَاجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ. قَالَ قَتَادَةُ: «بِالْحَقِّ» أَيْ: بِالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: بِالتَّوْحِيدِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أَيْ: بِالصَّبْرِ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالصَّبْرِ عَلَى فَرَائِضِهِ. وَفِي جَعْلِ التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ قَرِينًا لِلتَّوَاصِي بِالْحَقِّ دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهِ وَفَخَامَةِ شَرَفِهِ، وَمَزِيدِ ثَوَابِ الصَّابِرِينَ عَلَى مَا يَحِقُّ الصَّبْرُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ «1» وَأَيْضًا التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ مِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ، فَإِفْرَادُهُ بِالذِّكْرِ وَتَخْصِيصُهُ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِنَافَتِهِ عَلَى خِصَالِ الْحَقِّ، وَمَزِيدِ شَرَفِهِ عَلَيْهَا، وَارْتِفَاعِ طَبَقَتِهِ عَنْهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْعَصْرِ قَالَ: الدَّهْرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: هُوَ سَاعَةٌ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: هُوَ مَا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ مِنَ الْعَشِيِّ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: «وَالْعَصْرِ، وَنَوَائِبِ الدَّهْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، وَإِنَّهُ فِيهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: «وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، وَإِنَّهُ لَفِيهِ إِلَى آخِرِ الدهر» .

_ (1) . البقرة: 153.

سورة الهمزة

سورة الهمزة هي تسع آيات، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ بِمَكَّةَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) الْوَيْلُ: هُوَ مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ نَكِرَةً كَوْنُهُ دُعَاءً عَلَيْهِمْ، وَخَبَرُهُ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ وَالْمَعْنَى: خِزْيٌ، أَوْ عَذَابٌ، أَوْ هَلَكَةٌ، أَوْ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: الْهُمَزَةُ اللُّمَزَةُ الَّذِي يَغْتَابُ النَّاسَ، وَعَلَى هَذَا هُمَا بِمَعْنًى. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ والحسن ومجاهد وعطاء ابن أَبِي رَبَاحٍ: الْهُمَزَةُ: الَّذِي يَغْتَابُ الرَّجُلَ فِي وَجْهِهِ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَغْتَابُهُ مِنْ خَلْفِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ عَكْسُ هَذَا. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ أيضا أن الهمزة: الَّذِي يَغْتَابُ النَّاسَ فِي أَنْسَابِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا أَنَّ الْهُمَزَةَ: الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِيَدِهِ، وَاللُّمَزَةَ: الَّذِي يَلْمِزُهُمْ بِلِسَانِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَهْمِزُهُمْ بِلِسَانِهِ وَيَلْمِزُهُمْ بِعَيْنِهِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْهُمَزَةُ: الَّذِي يُؤْذِي جُلَسَاءَهُ بِسُوءِ اللَّفْظِ، واللمزة: الّذي يكسر عنه عَلَى جَلِيسِهِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ وَبِرَأْسِهِ وَبِحَاجِبِهِ، وَالْأَوَّلُ أولى، ومنه قول زياد الأعجم: تدلي بودّي إِذَا لَاقَيْتَنِي كَذِبًا ... وَإِنْ أُغَيَّبْ فَأَنْتَ الْهَامِزُ اللُّمَزَهْ وَقَوْلُ الْآخَرِ: إِذَا لَقِيتُكَ عَنْ سُخْطٍ تُكَاشِرُنِي ... وَإِنْ تَغَيَّبْتُ كُنْتَ الْهَامِزَ اللُّمَزَهْ وَأَصْلُ الهمز الْكَسْرُ، يُقَالُ: هَمَزَ رَأْسَهُ كَسَرَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ: وَمَنْ هَمَزْنَا رَأْسَهُ تَهَشَّمَا وَقِيلَ: أَصْلُ الْهَمْزِ وَاللَّمْزِ: الضَّرْبُ وَالدَّفْعُ، يُقَالُ: هَمَزَهُ يَهْمِزُهُ هَمْزًا، وَلَمَزَهُ يَلْمِزُهُ لَمْزًا: إِذَا دَفَعَهُ وَضَرَبَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَنْ هَمَزْنَا عِزَّهُ تَبَرْكَعَا ... عَلَى اسْتِهِ زَوْبَعَةً أَوْ زَوْبَعَا

الْبَرْكَعَةُ: الْقِيَامُ عَلَى أَرْبَعٍ، يُقَالُ: بَرْكَعَهُ فَتَبَرْكَعَ، أَيْ: صَرَعَهُ فَوَقَعَ عَلَى اسْتِهِ، كَذَا فِي الصحاح. وبناء فعلة يدلّ على الكثرة، ففيه دلالة على أن يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ ذَلِكَ عَادَةً لَهُ، وَمِثْلُهُ ضُحَكَةٌ وَلُعَنَةٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا وَفَتْحِ الْمِيمِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الْبَاقِرُ وَالْأَعْرَجُ بِسُكُونِ الْمِيمِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ أَبُو وَائِلٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَعْمَشُ «وَيْلٌ لِلْهُمَزَةِ اللُّمَزَةِ» ، وَالْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ، وَلَا يُنَافِيهِ نُزُولُهَا عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ الْمَوْصُولُ بَدَلٌ مِنْ كُلِّ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الذَّمِّ، وَهَذَا أَرْجَحُ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْدَلُ مِنْهُ فِي حُكْمِ الطَّرْحِ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ، وَالْعِلَّةُ فِي الْهَمْزِ وَاللَّمْزِ، وَهُوَ إِعْجَابُهُ بِمَا جَمَعَ مِنَ الْمَالِ وَظَنَّهُ أَنَّهُ الْفَضْلُ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَسْتَقْصِرُ غَيْرَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَمَعَ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَعَدَّدَهُ بالتشديد، وقرأ الحسن الكلبي وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ بِالتَّخْفِيفِ، وَالتَّشْدِيدُ فِي الْكَلِمَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَهُوَ جَمْعُ الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ، وَتَعْدِيدُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى عَدَّدَهُ: أَحْصَاهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَعَدَّدَهُ لِنَوَائِبِ الدُّهُورِ. يُقَالُ أَعْدَدْتُ الشَّيْءَ وَعَدَدْتُهُ: إِذَا أَمْسَكْتَهُ. قَالَ السُّدِّيُّ: أَحْصَى عَدَدَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَعَدَّ مَالَهُ لِمَنْ يَرِثُهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَاخَرَ بِكَثْرَتِهِ وَعَدَدِهِ، وَالْمَقْصُودُ ذَمُّهُ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ، وَإِمْسَاكِهِ وَعَدَمِ إِنْفَاقِهِ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ فِي عَدَدِهِ أَنَّهُ جَمَعَ عَشِيرَتَهُ وَأَقَارِبَهُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: مَنْ خَفَّفَ «وَعَدَّدَهُ» فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَالِ، أَيْ: وَجَمَعَ عَدَدَهُ، وَجُمْلَةُ يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يَعْمَلُ عَمَلَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَالَهُ يَتْرُكُهُ حَيًّا مُخَلَّدًا لَا يَمُوتُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ يَزِيدُ فِي عُمُرِهِ، وَالْإِظْهَارُ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ. وَقِيلَ: هُوَ تَعْرِيضٌ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّهُ الَّذِي يَخْلُدُ صَاحِبُهُ فِي الْحَيَاةِ الأبدية، لا المال. وقوله: كَلَّا رَدْعٌ لَهُ عَنْ ذَلِكَ الْحُسْبَانِ، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَحْسَبُهُ هَذَا الَّذِي جَمَعَ الْمَالَ وَعَدَّدَهُ، وَاللَّامُ فِي لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لَيُطْرَحَنَّ فِي النَّارِ وَلَيُلْقَيَنَّ فِيهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيُنْبَذَنَّ وَقَرَأَ عليّ والحسن ومحمد بن كعب ونصر ابن عَاصِمٍ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: «لَيُنْبَذَانَّ» بِالتَّثْنِيَةِ، أَيْ: لَيُنْبَذُ هُوَ وَمَالُهُ فِي النَّارِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: «لَيَنْبِذَنَّ» أَيْ: لَيَنْبِذَنَّ مَالَهُ فِي النَّارِ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّهْوِيلِ وَالتَّفْظِيعِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ وَتَبْلُغُهُ الْأَفْهَامُ. ثُمَّ بَيَّنَهَا سُبْحَانَهُ فَقَالَ: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ أَيْ: هِيَ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَفِي إِضَافَتِهَا إِلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ تَعْظِيمٌ لَهَا وَتَفْخِيمٌ، وَكَذَلِكَ فِي وَصْفِهَا بِالْإِيقَادِ، وَسُمِّيَتْ حُطَمَةً لِأَنَّهَا تُحَطِّمُ كُلَّ مَا يُلْقَى فِيهَا وَتُهَشِّمُهُ، وَمِنْهُ: إِنَّا حَطَّمْنَا بِالْقَضِيبِ مُصْعَبًا ... يَوْمَ كَسَرْنَا أَنْفَهُ لِيَغْضَبَا قِيلَ: هِيَ الطَّبَقَةُ السَّادِسَةُ مِنْ طَبَقَاتِ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مِنْهَا، وَقِيلَ: الطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أَيْ: يَخْلُصُ حَرُّهَا إِلَى الْقُلُوبِ فَيَعْلُوهَا وَيَغْشَاهَا، وَخَصَّ الْأَفْئِدَةَ مَعَ كَوْنِهَا تَغْشَى جَمِيعَ أَبْدَانِهِمْ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ، أَوْ لِكَوْنِ الْأَلَمِ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهَا مَاتَ صَاحِبُهَا، أَيْ: إِنَّهُمْ فِي حَالِ مَنْ يَمُوتُ

وَهُمْ لَا يَمُوتُونَ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أَنَّهَا تَعْلَمُ بِمِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنِ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ بِأَمَارَاتٍ عَرَّفَهَا اللَّهُ بِهَا إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أَيْ: مُطْبَقَةٌ مُغْلَقَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَلَدِ، يُقَالُ: أَصَدْتُ الْبَابَ إِذَا أَغْلَقْتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابن قيس الرُّقَيَّاتِ: إِنَّ فِي الْقَصْرِ لَوْ دَخَلْنَا غَزَالًا ... مصفقا «1» مُوصَدًا عَلَيْهِ الْحِجَابُ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، أَيْ: كَائِنِينَ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ مُوثَقِينَ فِيهَا، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هُمْ فِي عَمَدٍ، أَوْ صِفَةٌ لِمُؤْصَدَةٍ، أَيْ: مُؤْصَدَةٌ بِعَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أُطْبِقَتِ الْأَبْوَابُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ شُدَّتْ بِأَوْتَادٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَلَا يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ بَابٌ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ رُوحٌ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْعَمَدِ مُمَدَّدَةً: أَنَّهَا مُطَوَّلَةٌ، وَهِيَ أَرْسَخُ مِنَ الْقَصِيرَةِ. وَقِيلَ: الْعَمَدُ أَغْلَالٌ فِي جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: الْقُيُودُ. قَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى هُمْ فِي عَمَدٍ يُعَذَّبُونَ بِهَا، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي عَمَدٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ. قِيلَ: هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لِعَمُودٍ. وَقِيلَ: جَمْعٌ لَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ جَمْعٌ لِعَمُودٍ كَأَدِيمٍ وَأَدَمٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ جَمْعُ عِمَادٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ، جَمْعُ عَمُودٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا جَمْعَانِ صَحِيحَانِ لِعَمُودٍ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَمُودُ: عَمُودُ الْبَيْتِ، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ: أَعْمِدَةٌ، وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ: عُمُدٌ وَعَمَدٌ، وَقُرِئَ بِهِمَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَمُودُ: كُلُّ مُسْتَطِيلٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قَالَ: هُوَ الْمَشَّاءُ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَمْعِ، الْمُغْرِي بَيْنَ الْإِخْوَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ قَالَ: طَعَّانٌ لُمَزَةٍ قَالَ: مُغْتَابٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ قَالَ: مُطْبَقَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ قَالَ: عَمَدٌ مِنْ نَارٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: هِيَ الْأَدْهَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَبْوَابُ هِيَ الْمُمَدَّدَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَدْخَلَهُمْ فِي عَمَدٍ فَمَدَّتْ عَلَيْهِمْ في أعناقهم فشدّت بها الأبواب.

_ (1) . «صفق الباب وأصفقه» : أغلقه. [.....]

سورة الفيل

سورة الفيل هي خمس آيات، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ بِمَكَّةَ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ لِتَقْرِيرِ رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْكَارِ عَدَمِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَلَمْ تُخْبِرْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَلَمْ تَعْلَمْ، وَهُوَ تَعْجِيبٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فَعَلَهُ اللَّهُ بِأَصْحابِ الْفِيلِ الَّذِينَ قَصَدُوا تخريب الكعبة من الحبشة، و «كيف» مَنْصُوبَةٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا، وَمُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ. وَالْمَعْنَى: قَدْ عَلِمْتَ يَا مُحَمَّدُ، أَوْ عَلِمَ النَّاسُ الْمَوْجُودُونَ فِي عَصْرِكَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِمَا بَلَغَكُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ وَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ، فَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ؟ وَالْفِيلُ هُوَ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ، وَجَمْعُهُ أَفْيَالٌ، وَفُيُولٌ، وَفِيَلَةٌ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَلَا تقل أَفْيِلَةٌ، وَصَاحِبُهُ فَيَّالٌ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ أَيْ: أَلَمْ يَجْعَلْ مَكْرَهُمْ وَسَعْيَهُمْ فِي تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ وَاسْتِبَاحَةِ أَهْلِهَا فِي تَضْلِيلٍ عَمَّا قَصَدُوا إِلَيْهِ حَتَّى لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْبَيْتِ، وَلَا إِلَى مَا أَرَادُوهُ بِكَيْدِهِمْ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ جَعَلَ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَالْكَيْدُ: هُوَ إِرَادَةُ الْمَضَرَّةِ بِالْغَيْرِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكِيدُوا قُرَيْشًا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَيَكِيدُوا البيت الحرام بالتخريب والهدم وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ أَيْ: أَقَاطِيعَ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَالْإِبِلِ الْمُؤَبَّلَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَبَابِيلَ: جَمَاعَاتٍ فِي تَفْرِقَةٍ، يُقَالُ: جَاءَتِ الْخَيْلُ أَبَابِيلَ، أَيْ: جَمَاعَاتٍ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهَا جَمَاعَاتٌ عِظَامٌ، يُقَالُ: فُلَانٌ توبل عَلَى فُلَانٍ، أَيْ: تَعَظَّمَ عَلَيْهِ وَتَكَبَّرَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِبِلِ، وَهُوَ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا وَاحِدَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاحِدُهُ أَبُولٌ مِثْلَ عَجُولٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَبِيلٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَمْ نَرَ أَحَدًا يَجْعَلُ لَهَا وَاحِدًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَزَعَمَ الرُّؤَاسِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً، أَنَّهُ سَمِعَ فِي وَاحِدِهَا: إبّال مشدّدا. وحكى الفرّاء أيضا: إبال بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ طَيْرًا مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يُرَ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا. قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ طَيْرٌ سُودٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ فَوْجًا فَوْجًا مَعَ كُلِّ طَائِرٍ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، لَا يُصِيبُ شَيْئًا إِلَّا هَشَّمَهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ طَيْرًا خُضْرًا خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ لَهَا رُؤُوسٌ كَرُؤُوسِ السِّبَاعِ. وَقِيلَ:

كان لها خراطيم كخراطيم الطَّيْرِ وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ. وَقِيلَ فِي صِفَتِهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الْأَبَابِيلَ فِي الطَّيْرِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: تَرَاهُمْ إِلَى الدَّاعِي سراعا كأنّهم ... أبابيل طير تحت دجن مسخّن «1» وَتَسْتَعْمِلُهَا فِي غَيْرِ الطَّيْرِ، كَقَوْلِ الْآخَرِ: كَادَتْ تهدّ من الأصوات راحلتي ... إذ سَأَلْتُ الْأَرْضَ بِالْجُرْدِ «2» الْأَبَابِيلِ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةٍ لِطَيْرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَرْمِيهِمْ بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو مَعْمَرٍ وَعِيسَى وَطَلْحَةُ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاسْمُ الْجَمْعِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الزَّجَّاجُ مِنْ سِجِّيلٍ أَيْ: مِمَّا كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ بِهِ، مُشْتَقًّا مِنَ السِّجِلِّ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: قَالُوا: هِيَ حِجَارَةٌ مِنْ طِينٍ طُبِخَتْ بِنَارِ جَهَنَّمَ مَكْتُوبٌ فيها أسماء القوم. قال عبد الرّحمن ابن أَبْزَى: مِنْ سِجِّيلٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَقِيلَ: مِنَ الْجَحِيمِ الَّتِي هِيَ سِجِّينٌ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ النُّونُ لَامًا، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنُ مُقْبِلٍ: ضَرْبًا تَوَاصَتْ بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّيلَا «3» وَإِنَّمَا هُوَ سِجِّينَا. قَالَ عكرمة: كان تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مَعَهَا، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَهُمْ حَجْرٌ مِنْهَا خَرَجَ بِهِ الْجُدَرِيُّ، وَكَانَ الْحَجَرُ كَالْحِمَّصَةِ وَفَوْقَ الْعَدَسَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي سِجِّيلٍ فِي سُورَةِ هُودٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْفِيلِ كَوَرَقِ الزَّرْعِ إِذَا أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ فَرَمَتْ بِهِ مِنْ أَسْفَلَ، شَبَّهَ تَقَطُّعَ أَوْصَالِهِمْ بِتَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَارُوا كَوَرَقِ زَرْعٍ قَدْ أَكَلَتْ مِنْهُ الدَّوَابُّ وَبَقِيَ مِنْهُ بَقَايَا، أَوْ أَكَلَتْ حَبَّهُ فَبَقِيَ بِدُونِ حَبِّهِ. وَالْعَصْفُ جَمْعُ عَصْفَةٍ وَعُصَافَةٍ وَعَصِيفَةٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي الْعَصْفِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ فَارْجِعْ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَصْحَابُ الْفِيلِ حَتَّى نَزَلُوا الصِّفَاحَ فَأَتَاهُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ لَمْ يُسَلِّطْ عَلَيْهِ أَحَدًا، قَالُوا: لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَهْدِمَهُ وَكَانُوا لَا يُقَدِّمُونَ فِيلَهُمْ إِلَّا تَأَخَّرَ، فَدَعَا الله الطير الأبابيل، فأعطاها حجارة سودا عَلَيْهَا الطِّينُ، فَلَمَّا حَاذَتْهُمْ رَمَتْهُمْ فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَتْهُ الْحَكَّةُ، فَكَّانَ لَا يَحُكُّ الْإِنْسَانُ مِنْهُمْ جِلْدَهُ إِلَّا تَسَاقَطَ لَحْمُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: أَقْبَلَ أَصْحَابُ الْفِيلِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ اسْتَقْبَلَهُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لِمَلِكِهِمْ. مَا جَاءَ بِكَ إِلَيْنَا؟ أَلَا بَعَثْتَ فَنَأْتِيَكَ بِكُلِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: أُخْبِرْتُ بِهَذَا الْبَيْتِ الّذي

_ (1) . قال في حاشية القرطبي: لعل صوابه: مسخر. (2) . «الجرد» : الخيل لا رجالة فيها. (3) . وصدر البيت: ورجلة يضربون البيض عن عرض.

لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَمِنَ، فَجِئْتُ أُخِيفُ أَهْلَهُ، فَقَالَ: إِنَّا نَأْتِيكَ بِكُلِّ شَيْءٍ تُرِيدُ فَارْجِعْ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَدْخُلَهُ، وَانْطَلَقَ يَسِيرُ نَحْوَهُ، وَتَخَلَّفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَقَامَ عَلَى جَبَلٍ فَقَالَ: لَا أَشْهَدُ مَهْلِكَ هَذَا الْبَيْتِ وَأَهْلِهِ، فَأَقْبَلَتْ مِثْلُ السَّحَابَةِ مِنْ نَحْوِ الْبَحْرِ حَتَّى أَظَلَّتْهُمْ طَيْرٌ أَبَابِيلُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَ الْفِيلُ يَعِجُّ عَجًّا فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ. وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْفِيلِ مَبْسُوطَةٌ مُطَوَّلَةٌ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ وَالسِّيَرِ فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قَالَ: حِجَارَةٌ مِثْلُ الْبُنْدُقِ وَبِهَا نَضْحُ حمرة مختمة مع كل طائر ثلاثة حجار. حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ حَلَّقَتْ عليه مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ أَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْحِجَارَةَ فَلَمْ تَعْدُ عَسْكَرَهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ عَنْهُ: أَنَّ أَبَرْهَةَ الْأَشْرَمَ قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ يُرِيدُ هَدْمَ الْكَعْبَةِ. فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ يُرِيدُ مُجْتَمِعَةً، لَهَا خَرَاطِيمُ تَحْمِلُ حَصَاةً فِي مِنْقَارِهَا وَحَصَاتَيْنِ فِي رِجْلَيْهَا. تُرْسِلُ وَاحِدَةً عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ فَيَسِيلُ لَحْمُهُ وَدَمُهُ وَيَبْقَى عِظَامًا خَاوِيَةً لَا لَحْمَ عَلَيْهَا وَلَا جِلْدَ وَلَا دَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْهُ أَيْضًا: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ يَقُولُ: كَالتِّبْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ، وَالْوَاقِدِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ بِمَكَّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ. وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ نَحْوَهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم عام الفيل.

سورة قريش

سورة قريش ويقال: سورة لإيلاف، وهي أربع آيات وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ لِإِيلافِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَضَّلَ اللَّهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِصَالٍ لَمْ يُعْطِهَا أَحَدًا قَبْلَهُمْ وَلَا يُعْطِيهَا أَحَدًا بَعْدَهُمْ: أَنِّي فِيهِمْ. وَفِي لَفْظٍ: النُّبُوَّةُ فِيهِمْ، وَالْخِلَافَةُ فِيهِمْ، وَالْحِجَابَةُ فِيهِمْ، وَالسِّقَايَةُ فِيهِمْ، وَنُصِرُوا عَلَى الْفِيلِ، وَعَبَدُوا اللَّهَ سَبْعَ سِنِينَ. وَفِي لَفْظٍ: عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَعْبُدْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يُذْكَرْ فيها أحد غيرهم لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، ويشهد له ما أخرجه الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضَّلَ اللَّهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِصَالٍ: فَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللَّهَ عَشْرَ سِنِينَ لَا يَعْبُدُهُ إِلَّا قُرَيْشٌ، وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُ نَصَرَهُمْ يَوْمَ الْفِيلِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينِ غَيْرُهُمْ، وَهِيَ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّ فِيهِمُ النُّبُوَّةَ، وَالْخِلَافَةَ، وَالسِّقَايَةَ» . وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِإِيلافِ قِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِآخِرِ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، كَأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ: أَهْلَكْتُ أَصْحَابَ الْفِيلِ لِأَجْلِ تَأَلُّفِ قُرَيْشٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذِهِ السُّورَةُ مُتَّصِلَةٌ بِالسُّورَةِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَهْلَ مَكَّةَ بِعَظِيمِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا فَعَلَ بِالْحَبَشَةِ، ثُمَّ قَالَ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ أَيْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ نِعْمَةً مِنَّا عَلَى قُرَيْشٍ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَخْرُجُ فِي تِجَارَتِهَا فَلَا يُغَارُ عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يَقُولُونَ: هُمْ أَهْلُ بَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى جَاءَ صَاحِبُ الْفِيلِ لِيَهْدِمَ الْكَعْبَةَ وَيَأْخُذَ حِجَارَتَهَا فَيَبْنِي بِهَا بَيْتًا فِي الْيَمَنِ يَحُجُّ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَذَكَّرَهُمْ نِعْمَتَهُ، أَيْ: فَعَلَ ذَلِكَ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، أَيْ: لِيَأْلَفُوا الْخُرُوجَ وَلَا يُجْتَرَأَ عَلَيْهِمْ، وَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا ابْنُ قُتَيْبَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ أَيْ: أَهْلَكَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْفِيلِ لِتَبْقَى قُرَيْشٌ وَمَا قَدْ أَلِفُوا مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إن اللام متعلق بقوله: لْيَعْبُدُوا أَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ لِأَجْلِ إِيلَافِهِمُ الرِّحْلَتَيْنِ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْكَلَامِ

مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَمَّا لَا فَلْيَعْبُدُوهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ صَاحِبَ الْكَشَّافِ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ لِسَائِرِ نِعَمِهِ فَلْيَعْبُدُوهُ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْجَلِيلَةِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ: اللَّامُ لَامُ التَّعَجُّبِ، أَيِ: اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى إِلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِإِيلافِ بِالْيَاءِ مَهْمُوزًا مِنْ أَلِفْتُ أولف إِيلَافًا. يُقَالُ: أَلِفْتُ الشَّيْءَ أَلَافًا وَأُلْفًا، وَأَلِفْتُهُ إِيلَافًا بِمَعْنًى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: الْمُنْعَمِينَ إِذَا النُّجُومُ تَغَيَّرَتْ ... وَالظَّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: «لِإِلَافِ» بِدُونِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: «لِإِلْفِ» وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ الشَّاعِرُ، فَقَالَ: زَعَمْتُمْ أَنَّ إِخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ ... لَهُمْ إِلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَافُ وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: «لَيَأْلَفْ قُرَيْشٌ» بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا لَامُ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفَتْحُ لَامِ الْأَمْرِ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ: «إِلَافُ قُرَيْشٍ» ، وَاسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ أَبِي طَالِبٍ: تَذُودُ الورى «1» عن عُصْبَةٍ هَاشِمِيَّةٍ ... إِلَافُهُمْ فِي النَّاسِ خَيْرُ إِلَافِ وقريش هم: بن والنضر بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ، وَمَنْ لَمْ يَلِدْهُ النَّضْرُ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ، وَقُرَيْشٌ يَأْتِي مُنْصَرِفًا إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْحَيُّ، وَغَيْرَ مُنْصَرِفٍ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْقَبِيلَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «2» : وَكَفَى قُرَيْشَ الْمُعْضِلَاتِ وِسَادُهَا «3» وَقِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا بَنُو فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقَوْلُهُ: إِيلافِهِمْ بدل من إيلاف قريش، ورِحْلَةَ مَفْعُولٌ بِهِ لِإِيلَافِهِمْ وَأَفْرَدَهَا، وَلَمْ يَقُلْ رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ لِأَمْنِ الْإِلْبَاسِ، وَقِيلَ: إِنَّ إِيلَافِهِمْ تَأْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ لَا بَدَلٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَرَجَّحَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّ رِحْلَةَ مَنْصُوبَةٌ بِمَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: ارْتِحَالَهُمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ وَقِيلَ: هِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالرِّحْلَةُ: الِارْتِحَالُ، وَكَانَتْ إِحْدَى الرِّحْلَتَيْنِ إِلَى الْيَمَنِ فِي الشِّتَاءِ لِأَنَّهَا بِلَادٌ حَارَّةٌ، وَالرِّحْلَةُ الْأُخْرَى إِلَى الشَّامِ فِي الصَّيْفِ لِأَنَّهَا بِلَادٌ بَارِدَةٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتُونَ بِمَكَّةَ، وَيَصِيفُونَ بِالطَّائِفِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّ ارْتِحَالَ قُرَيْشٍ لِلتِّجَارَةِ مَعْلُومٌ مَعْرُوفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّمَا كَانَتْ تَعِيشُ قُرَيْشٌ بِالتِّجَارَةِ وَكَانَتْ لَهُمْ رِحْلَتَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ رِحْلَةٌ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ، وَرِحْلَةٌ فِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ، وَلَوْلَا هَاتَانِ الرِّحْلَتَانِ لم يمكن بِهَا مَقَامٌ، وَلَوْلَا الْأَمْنُ بِجِوَارِهِمُ الْبَيْتُ لَمْ يقدروا على التصرّف لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ بَعْدَ أن ذكر لهم ما أنعم

_ (1) . في تفسير القرطبي (20/ 202) : العدا. (2) . هو عدي بن الرقاع. (3) . وصدر البيت: غلب المساميح الوليد سماحة.

بِهِ عَلَيْهِمْ، أَيْ: إِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ لِسَائِرِ نِعَمِهِ، فَلْيَعْبُدُوهُ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْخَاصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْبَيْتُ: الْكَعْبَةُ. وَعَرَّفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ لِأَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ أَوْثَانٌ يَعْبُدُونَهَا، فَمَيَّزَ نَفْسَهُ عَنْهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ بِالْبَيْتِ تَشَرَّفُوا عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ، فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ تَذْكِيرًا لِنِعْمَتِهِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أَيْ: أَطْعَمَهُمْ بِسَبَبِ تِينِكَ الرِّحْلَتَيْنِ مِنْ جُوعٍ شَدِيدٍ كَانُوا فِيهِ قَبْلَهُمَا، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْإِطْعَامَ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَاشْتَدَّ الْقَحْطُ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ ادْعُ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا مُؤْمِنُونَ، فَدَعَا فَأُخْصِبُوا، وَزَالَ عَنْهُمُ الْجُوعُ، وَارْتَفَعَ الْقَحْطُ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أَيْ: مِنْ خَوْفٍ شَدِيدٍ كَانُوا فِيهِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ يُغِيرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَيَسْبِي بَعْضُهَا بَعْضًا، فَأَمِنَتْ قُرَيْشٌ مِنْ ذَلِكَ لِمَكَانِ الْحَرَمِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ وَشَرِيكٌ وَسُفْيَانُ: آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفِ الْحَبَشَةِ مَعَ الْفِيلِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ وَيْحَكُمْ يَا قُرَيْشُ، اعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَكُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَكُمْ مِنْ خَوْفٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ قَالَ: نِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ كَانُوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ قَالَ: الْكَعْبَةُ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قَالَ: الْجُذَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ قَالَ: لُزُومُهُمْ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ يَعْنِي قُرَيْشًا أَهْلَ مَكَّةَ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ قَالَ: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ «1» ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ حَيْثُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «2» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ الْآيَةَ، قَالَ: نَهَاهُمْ عَنِ الرِّحْلَةِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البيت، وكفاهم المؤنة، وكانت رِحْلَتُهُمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ راحة فِي شِتَاءٍ وَلَا صَيْفٍ، فَأَطْعَمَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ فَأَلِفُوا الرِّحْلَةَ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: أُمِرُوا أَنْ يَأْلَفُوا عِبَادَةَ رَبِّ هَذَا الْبَيْتِ كَإِلْفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي فَضْلِ قُرَيْشٍ وَإِنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لَهُمْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ يعني الخلافة لا تزال فيهم ما بقي اثنان، وهي في دواوين الإسلام.

_ (1) . البقرة: 126. (2) . إبراهيم: 35.

سورة الماعون

سورة الماعون ويقال: سورة الدين، ويقال: سورة الماعون، ويقال: سورة اليتيم، وهي سبع آيات وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ عَطَاءٍ وَجَابِرٍ، وَأَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَآخَرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ مَنْ يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. وَالرُّؤْيَةُ: بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ وَالدِّينُ: الْجَزَاءُ وَالْحِسَابُ فِي الْآخِرَةِ. قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أَمُصِيبٌ هُوَ أَمْ مُخْطِئٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي الْوَلِيدِ بن المغيرة. وقال الضحّاك: في عمرة بن عائذ. وقال ابن جرير فِي أَبِي سُفْيَانَ، وَقِيلَ: فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَرَأَيْتَ بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِإِسْقَاطِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يُقَالُ فِي رَأَيْتَ رَيْتَ، وَلَكِنْ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ سَهَّلَتِ الْهَمْزَةَ أَلِفًا. وَقِيلَ: الرُّؤْيَةُ: هِيَ الْبَصَرِيَّةُ، فَيَتَعَدَّى إلى مفعول واحد، وهو الموصول، أي: أأبصرت الْمُكَذِّبَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَنْ هُوَ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ إِنْ تَأَمَّلْتَهُ أَوْ طَلَبْتَهُ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى الَّذِي يُكَذِّبُ، إِمَّا عَطْفُ ذَاتٍ عَلَى ذَاتٍ، أَوْ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ الْمَوْصُولَ بَعْدَهُ، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَهُوَ ذَلِكَ، وَالْمَوْصُولُ صِفَتُهُ. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ لِعَطْفِهِ عَلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. وَمَعْنَى يَدُعُّ: يَدْفَعُ دَفْعًا بِعُنْفٍ وَجَفْوَةٍ، أَيْ: يَدْفَعُ الْيَتِيمَ عَنْ حَقِّهِ دَفْعًا شَدِيدًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا «1» وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أَيْ: لَا يَحُضُّ نَفْسَهُ وَلَا أَهْلَهُ وَلَا غَيْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بُخْلًا بِالْمَالِ، أَوْ تَكْذِيبًا بِالْجَزَاءِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ «2» فَوَيْلٌ يومئذ لِلْمُصَلِّينَ الفاء جواب

_ (1) . الطور: 13. (2) . الحاقة: 34.

لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا كَانَ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أَيْ: عَذَابٌ لَهُمْ، أَوْ هَلَاكٌ، أَوْ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ لَهُمْ كَمَا سَبَقَ الْخِلَافُ فِي مَعْنَى الْوَيْلِ، وَمَعْنَى سَاهُونَ: غَافِلُونَ غَيْرُ مُبَالِينَ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْوَيْلِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ قَبَائِحِهِمْ، وَوَضَعَ المصلّين موضع ضمير هم لِلتَّوَصُّلِ بِذَلِكَ إِلَى بَيَانِ أَنَّ لَهُمْ قَبَائِحَ أخرى غَيْرَ مَا ذُكِرَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ بِصَلَاتِهِمْ ثَوَابًا إِنْ صَلَّوْا، وَلَا يَخَافُونَ عَلَيْهَا عِقَابًا إِنْ تَرَكُوا، فَهُمْ عَنْهَا غَافِلُونَ حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا، وَإِذَا كَانُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ صَلَّوْا رِيَاءً، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ لَمْ يُصَلُّوا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ أَيْ: يُرَاءُونَ النَّاسَ بِصَلَاتِهِمْ إِنْ صَلَّوْا، أَوْ يراءون الناس بكل ما علموه مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لِيُثْنُوا عَلَيْهِمْ. قَالَ النَّخَعِيُّ: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ هُوَ الَّذِي إِذَا سَجَدَ قَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا مُلْتَفِتًا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ الَّذِي لَا يَقْرَأُ وَلَا يَذْكُرُ اللَّهَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ لَاهُونَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ. قَالَ أَكْثَرُ المفسرين: الماعون: اسم لما يتعاوره النَّاسُ بَيْنَهُمْ: مِنَ الدَّلْوِ وَالْفَأْسِ وَالْقِدْرِ، وَمَا لَا يُمْنَعُ كَالْمَاءِ وَالْمِلْحِ. وَقِيلَ: هُوَ الزَّكَاةُ، أَيْ: يَمْنَعُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ: الْمَاعُونُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: كُلُّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ حَتَّى الْفَأْسُ وَالدَّلْوُ وَالْقِدْرُ وَالْقَدَّاحَةُ، وَكُلُّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْأَعْشَى: بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَاعُونِهِ ... إِذَا مَا سَمَاؤُهُمْ لَمْ تَغُمِ قَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ أَيْضًا: وَالْمَاعُونُ فِي الْإِسْلَامِ: الطَّاعَةُ وَالزَّكَاةُ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الرَّاعِي: أَخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إِنَّا معشر ... حنفاء نَسْجُدُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا عُرْبٌ نَرَى لِلَّهِ مِنْ أَمْوَالِنَا ... حَقَّ الزَّكَاةِ مُنَزَّلًا تَنْزِيلًا قَوْمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا يَمْنَعُوا ... مَاعُونَهُمْ وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلَا وَقِيلَ: الْمَاعُونُ: الْمَاءُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يقول: الماعون: الماء، وأنشدني: يمجّ صبيره الماعون صبّا والصبير: السَّحَابُ، وَقِيلَ: الْمَاعُونُ: هُوَ الْحَقُّ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُسْتَغَلُّ مِنْ مَنَافِعِ الْأَمْوَالِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَعْنِ، وَهُوَ الْقَلِيلُ. قَالَ قُطْرُبٌ: أَصْلُ الْمَاعُونِ مِنَ الْقِلَّةِ، وَالْمَعْنُ: الشَّيْءُ الْقَلِيلُ، فَسَمَّى اللَّهَ الصَّدَقَةَ وَالزَّكَاةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ مَاعُونًا لِأَنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَا لَا يُبْخَلُ بِهِ كَالْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَالنَّارِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ قَالَ: يُكَذِّبُ بِحُكْمِ اللَّهِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ قَالَ: يَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ- الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ يُرَاءُونَ النَّاسَ بِصَلَاتِهِمْ إِذَا حَضَرُوا وَيَتْرُكُونَهَا إِذَا غَابُوا، وَيَمْنَعُونَهُمُ الْعَارِيَةَ بُغْضًا لَهُمْ، وَهِيَ الْمَاعُونُ. وَأَخْرَجَ

ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ فِي السِّرِّ، وَيُصَلُّونَ فِي الْعَلَانِيَةِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أَيُّنَا لَا يَسْهُو؟ أَيُّنَا لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ، إِنَّهُ إِضَاعَةُ الْوَقْتِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وقتها. وقال الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ: الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا يَعْنِي الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ إِسْنَادًا. قَالَ: وَقَدْ ضَعَّفَ الْبَيْهَقِيُّ رَفْعَهُ وَصَحَّحَ وَقْفَهُ، وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ- قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ- عَنِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذِهِ الْآيَةُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ يُعْطَى كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ جَمِيعَ الدُّنْيَا، هُوَ الَّذِي إِنْ صَلَّى لَمْ يَرْجُ خَيْرَ صَلَاتِهِ، وَإِنْ تَرَكَهَا لَمْ يَخَفْ رَبَّهُ» . وَفِي إِسْنَادِهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَشَيْخُهُ مُبْهَمٌ لَمْ يُسَمَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نُعِدُّ الْمَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارِيَةَ الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ وَالْفَأْسِ وَالْمِيزَانِ وَمَا تَتَعَاطَوْنَ بَيْنَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَعِيرُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْقِدْرَ وَالْفَأْسَ وَشِبْهَهُ فَيَمْنَعُونَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَا تَعَاوَنَ النَّاسُ بَيْنَهُمُ الْفَأْسَ وَالْقِدْرَ وَالدَّلْوَ وأَشْبَاهَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ قُرَّةَ بْنِ دَعْمُوصَ النُّمَيْرِيِّ: «أَنَّهُمْ وَفَدُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: لَا تَمْنَعُوا الْمَاعُونَ، قَالُوا: وَمَا الْمَاعُونُ؟ قَالَ: فِي الْحَجَرِ وَالْحَدِيدَةِ وَفِي الْمَاءِ، قَالُوا: فَأَيُّ الْحَدِيدَةِ؟ قَالَ: قُدُورُكُمُ النُّحَاسُ وَحَدِيدُ الْفَأْسِ الَّذِي تَمْتَهِنُونَ بِهِ، قَالُوا: وَمَا الْحَجَرُ؟ قَالَ: قُدُورُكُمُ الْحِجَارَةُ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: غَرِيبٌ جِدًّا، وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَاعُونُ: الْفَأْسُ وَالْقِدْرُ وَالدَّلْوُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: عَارِيَةُ مَتَاعِ الْبَيْتِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْمَاعُونُ: الزَّكَاةُ المفروضة يُراؤُنَ بصلاتهم وَيَمْنَعُونَ زكاتهم.

سورة الكوثر

سورة الكوثر وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ، وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْكَوْثَرِ بمكة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَطَلْحَةُ وَالزَّعْفَرَانِيُّ «أَنْطَيْنَاكَ» بِالنُّونِ. قِيلَ: هِيَ لُغَةُ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ. قَالَ الْأَعْشَى: حِبَاؤُكَ خَيْرُ حبا الملوك ... يصان الحلال وتنطى الحلولا والْكَوْثَرَ فَوْعَلٌ مِنَ الْكَثْرَةِ، وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ، مِثْلَ النَّوْفَلِ مِنَ النَّفْلِ، وَالْجَوْهَرِ مِنَ الْجَهْرِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ كَثِيرٍ فِي الْعَدَدِ أَوِ الْقَدْرِ أَوِ الْخَطَرِ كَوْثَرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : وَقَدْ ثَارَ نَقْعُ الْمَوْتِ حَتَّى تَكَوْثَرَا «2» فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ الْبَالِغَ فِي الْكَثْرَةِ إِلَى الْغَايَةِ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ كَمَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ إِلَى أَنَّ الْكَوْثَرَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ حَوْضُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْقِفِ، قَالَهُ عَطَاءٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْكَوْثَرُ: النُّبُوَّةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: هُوَ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَتَخْفِيفُ الشَّرَائِعِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: هُوَ كَثْرَةُ الْأَصْحَابِ وَالْأُمَّةِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ الْإِيثَارُ. وَقِيلَ: هُوَ الْإِسْلَامُ، وَقِيلَ: رِفْعَةُ الذِّكْرِ، وَقِيلَ: نُورُ الْقَلْبِ، وَقِيلَ: الشَّفَاعَةُ، وَقِيلَ: الْمُعْجِزَاتُ، وَقِيلَ: إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَقِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ، وَقِيلَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا هُوَ الْحَقُّ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدَّوَامِ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَانْحَرْ الْبُدْنَ الَّتِي هِيَ خِيَارُ أَمْوَالِ الْعَرَبِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ نَاسًا كَانُوا يُصَلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَيَنْحَرُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ وَنَحْرُهُ لَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ: الْمُرَادُ صلاة العيد، ونحر الأضحية. وقال سعيد بن جبير: صلّ لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع، وانحر البدن

_ (1) . هو حسان بن نشبة. (2) . وصدر البيت: أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوهم.

في منى: وقيل: النَّحْرُ: وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ حذاء النَّحْرِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ التَّكْبِيرَةِ إِلَى حِذَاءَ نَحْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِنَحْرِهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْأَحْوَصِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: نَتَنَاحَرُ، أَيْ: نَتَقَابَلُ نَحْرُ هَذَا إِلَى نَحْرِ هَذَا، أَيْ: قُبَالَتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَبَا حَكَمٍ ما أنت عمّ مُجَالِدٌ ... وَسَيِّدُ أَهْلِ الْأَبْطَحِ الْمُتَنَاحِرُ أَيِ: الْمُتَقَابِلُ. وقال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُوَ انْتِصَابُ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ بإزاء المحراب، من قولهم: منازلهم تتناحر، أي: تَتَقَابَلُ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَوِيَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ جَالِسًا حَتَّى يَبْدُوَ نحره. وقال سليمان التيمي: المعنى: وارتفع يَدَيْكَ بِالدُّعَاءِ إِلَى نَحْرِكَ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ وَمُطْلَقِ النَّحْرِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِغَيْرِهِ، وَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ بَيَانِ هَذَا الْمُطْلَقِ بِنَوْعٍ خَاصٍّ فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّقْيِيدِ لَهُ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أَيْ: إِنَّ مُبْغِضَكَ هُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنِ الْخَيْرِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَعُمُّ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوِ الَّذِي لَا عَقِبَ لَهُ، أَوِ الَّذِي لَا يَبْقَى ذِكْرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ، وَأَنَّ هَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ يُبْغِضُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنَ سَبَبِ النُّزُولِ هُوَ اْلَعَاصَ بْنَ وَائِلٍ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا مرّ غير مَرَّةً. قِيلَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَاتَ الذُّكُورُ مِنْ أَوْلَادِ الرَّجُلِ قَالُوا: قَدْ بُتِرَ فُلَانٌ، فَلَمَّا مَاتَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمُ خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: بُتِرَ مُحَمَّدٌ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: الْقَائِلُ بِذَلِكَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْأَبْتَرُ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ، وَمِنَ الدَّوَابِّ الَّذِي لَا ذَنَبَ لَهُ، وَكُلُّ أَمْرٍ انْقَطَعَ مِنَ الْخَيْرِ أَثَرُهُ فَهُوَ أَبْتَرُ، وَأَصْلُ الْبَتْرِ: الْقَطْعُ، يُقَالُ: بَتَرْتُ الشَّيْءَ بَتْرًا قَطَعْتُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا فَقَالَ: إِنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حَتَّى خَتَمَهَا قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ الْكَوَاكِبِ يَخْتَلِجُ «1» الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي ما أحدث بعدك» . وأخرجه أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ حَافَّتَاهُ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ، فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى مَا يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ فَإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ» وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ مِنْ طُرُقٍ كُلُّهَا مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْكَوْثَرَ هُوَ النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قَالَتْ: هُوَ نَهْرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُطْنَانِ الجنة.

_ (1) . أي ينتزع ويقتطع.

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ حُذَيْفَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قَالَ: نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَحَسَّنَ السُّيُوطِيُّ إِسْنَادَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُسَامَةَ ابن زَيْدٍ مَرْفُوعًا «أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ أُعْطِيتَ نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ يُدْعَى الْكَوْثَرَ، فَقَالَ: أَجَلْ، وَأَرْضُهُ يَاقُوتٌ وَمَرْجَانٌ وَزَبَرْجَدٌ وَلُؤْلُؤٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالَ: هُوَ نَهْرٌ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ» . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَوْثَرَ هُوَ النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا، وَعَدَمُ التَّعْوِيلِ عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْكَوْثَرِ: هُوَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، فَمَنْ فَسَّرَهُ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ تَفْسِيرٌ نَاظِرٌ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: قَالَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْكَوْثَرِ: قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ فَقَالَ: صَدَقَ إِنَّهُ لَلْخَيْرُ الْكَثِيرُ. وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ قَالَ: نَزَلَتْ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ يَجْرِي عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْكَوْثَرِ هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ حَبْرِ الْأُمَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَاظِرٌ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَمَا عَرَفْنَاكَ، وَلَكِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَسَّرَهُ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، وَإِذَا جَاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبً قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِجِبْرِيلَ: مَا هَذِهِ النَّحِيرَةُ الَّتِي أَمَرَنِي بِهَا رَبِّي؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَحِيرَةٍ، وَلَكِنْ يَأْمُرُكَ إِذَا تَحَرَّمْتَ لِلصَّلَاةِ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ إِذَا كَبَّرْتَ، وَإِذَا رَكَعْتَ، وَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَإِنَّهَا صَلَاتُنَا وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةً، وَزِينَةُ الصَّلَاةِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَفْعُ الْيَدَيْنِ مِنَ الِاسْتِكَانَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ، وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، عَنْ عَلِيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ أَنِ ارْفَعْ يَدَيْكَ حِذَاءَ نَحْرِكَ إِذَا كَبَّرْتَ لِلصَّلَاةِ، فَذَاكَ النَّحْرُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قَالَ: وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى وَسَطِ سَاعِدِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ وَضَعَهُمَا عَلَى صَدْرِهِ فِي الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ شَاهِينَ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قَالَ: إِذَا صَلَّيْتَ فَرَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَاسْتَوِ قَائِمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ

الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ، وَالذَّبْحُ يَوْمَ الْأَضْحَى. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ وَانْحَرْ قَالَ: يَقُولُ: وَاذْبَحْ يَوْمَ النَّحْرِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ. فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: أَنْتَ خَيْرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَيِّدُهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الصَّابِئِ الْمُنْبَتِرِ مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا، وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ وَأَهْلُ السَّدَانَةِ؟! قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ، فَنَزَلَتْ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَنَزَلَتْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ إلى قوله: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً «1» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشَى الْمُشْرِكُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الصَّابِئَ قَدْ بُتِرَ اللَّيْلَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَكْبَرُ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَاسِمَ، ثُمَّ زَيْنَبَ، ثُمَّ عَبْدَ اللَّهِ، ثُمَّ أُمَّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ فَاطِمَةَ، ثُمَّ رُقَيَّةَ، فَمَاتَ الْقَاسِمُ وَهُوَ أَوَّلُ مَيِّتٍ مِنْ أَهْلِهِ، وَوَلَدِهِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ: قَدِ انْقَطَعَ نَسْلُهُ فَهُوَ أَبْتَرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وَفِي إِسْنَادِهِ الْكَلْبِيُّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ قَالَ: أَبُو جَهْلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ إِنَّ شانِئَكَ يقول: عدوّك.

_ (1) . النساء: 44- 52. [.....]

سورة الكافرون

سورة الكافرون وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ. وَمَدَنِيَّةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أنزلت سورة يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن الزبير قال: أنزلت يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهَذِهِ السُّورَةِ، وَبِقُلْ هو الله، فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، أَوْ بضع عشرة مرة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوتر بسبّح، وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ قَرَأَ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ رُبُعِ الْقُرْآنِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ الضُّرَيْسِ وَالْبَغَوِيُّ، وَحُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي تَرْغِيبِهِ، عَنْ شَيْخٍ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سفر فمرّ برجل يقرأ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فقال: أما هذا فقد برىء مِنَ الشِّرْكِ، وَإِذَا آخَرُ يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِهَا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ غُفِرَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وابن الأنباري في المصاحف، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عن فروة بن نوفل بن معاوية الأشجعي عن أبيه أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مَا أَقُولُ إِذَا أَوَيْتُ إِلَى فِرَاشِي قَالَ: «اقْرَأْ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» . وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْأَشْجَعِيِّ: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ لِلنَّوْمِ فاقرأ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَهَا فَقَدْ بَرِئْتَ مِنَ الشِّرْكِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ جَبَلَةَ، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: عَنْ جَبَلَةَ بن حارثة، وهو أخو زيد ابن حَارِثَةَ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي قَالَ: إِذَا أَخَذْتَ مضجعك من الليل فاقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ حَتَّى تَمُرَّ بِآخِرِهَا فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ،

[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 إلى 6]

عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم لمعاذ: «اقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ عِنْدَ مَنَامِكَ فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنَ الإشراك بالله؟ تقرؤون قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ عِنْدَ مَنَامِكُمْ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ خَبَّابٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَاقْرَأْ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْتِ فِرَاشَهُ قَطُّ إِلَّا قَرَأَ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ حَتَّى يَخْتِمَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بسورتين فلا حساب عليه قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَابْنُ الضُّرَيْسِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: مَنْ قرأ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي لَيْلَةٍ فَقَدْ أَكْثَرَ وَأَطَابَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) الألف واللام في يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لِلْجِنْسِ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ خِطَابًا لِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى كُفْرِهِ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْعُمُومِ خُصُوصَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الْكُفَّارِ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ أَسْلَمَ وَعَبَدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ الْكُفَّارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ سَنَةً وَيَعْبُدُوا إِلَهَهُ سَنَةً، فَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أَيْ: لَا أَفْعَلُ مَا تَطْلُبُونَ مِنِّي مِنْ عِبَادَةِ مَا تَعْبُدُونَ مِنَ الأصنام، وقيل: وَالْمُرَادُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنَ الزَّمَانِ لِأَنَّ لَا النَّافِيَةَ لَا تَدْخُلُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا عَلَى الْمُضَارِعِ الَّذِي فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، كَمَا أَنَّ مَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى مُضَارِعٍ فِي مَعْنَى الْحَالِ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أَيْ: وَلَا أَنْتُمْ فَاعِلُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ مِنْ عِبَادَةِ إِلَهِي وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ أَيْ: وَلَا أَنَا قَطُّ فِيمَا سَلَفَ عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ فِيهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ مِنِّي ذَلِكَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أَيْ: وَمَا عَبَدْتُمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ مَا أَنَا عَلَى عِبَادَتِهِ، كذا قيل، وهذا على قول من قَالَ: إِنَّهُ لَا تَكْرَارَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى لِنَفْيِ الْعِبَادَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ «لَا» لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى مُضَارِعٍ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ لَنْ تَأْكِيدٌ لِمَا تَنْفِيهِ لَا. قَالَ الْخَلِيلُ فِي لَنْ: إِنَّ أَصْلَهُ لَا، فَالْمَعْنَى: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا أَطْلُبُهُ مِنْ عِبَادَةِ إِلَهِي. ثُمَّ قَالَ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ أَيْ: وَلَسْتُ فِي الحال بعباد مَعْبُودَكُمْ، وَلَا أَنْتُمْ فِي الْحَالِ بِعَابِدِينَ مَعْبُودِي. وَقِيلَ: بِعَكْسِ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لِلْحَالِ، وَالْجُمْلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ لِلِاسْتِقْبَالِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَنَا ضَارِبٌ زَيْدًا، وَأَنَا قَاتِلٌ عَمْرًا، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الِاسْتِقْبَالُ. قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى لَا أَعْبُدُ السَّاعَةَ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ السَّاعَةَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا عَبَدْتُمْ،

وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا أَعْبُدُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: نَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ السُّورَةِ عِبَادَةَ آلِهَتِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْحَالِ وَفِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَنَفَى عَنْهُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ فِي الْحَالِ وَفِيمَا يُسْتَقْبَلُ. وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، ولكنّا نخصّ أحدهما بالحال، والثاني بالاستقبال دفعا لِلتَّكْرَارِ. وَكُلُّ هَذَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَسُّفِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مُنْصِفٍ، فَإِنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: وَلَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا عَلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتِمُّ جَعْلُ قَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لِلِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ اسْمِيَّةٌ تُفِيدُ الدَّوَامَ وَالثَّبَاتَ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ فَدُخُولُ النَّفْيِ عَلَيْهَا يَرْفَعُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الدَّوَامِ، وَالثَّبَاتِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَلَوْ كَانَ حَمْلُهَا عَلَى الِاسْتِقْبَالِ صَحِيحًا لَلَزِمَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَفِي قَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ فلا يتمّم مَا قِيلَ مِنْ حَمْلِ الْجُمْلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى الْحَالِ، وَكَمَا يَنْدَفِعُ هَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ مِنَ الْعَكْسِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ كُلَّهَا جُمَلٌ اسْمِيَّةٌ، مُصَدَّرَةٌ بِالضَّمَائِرِ الَّتِي هِيَ الْمُبْتَدَأُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، مُخْبِرٌ عَنْهَا بِاسْمِ الْفَاعِلِ الْعَامِلِ فِيمَا بَعْدَهُ مَنْفِيَّةٌ كُلُّهَا بِحَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ لَفْظُ لَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ مَعَ هَذَا الِاتِّحَادِ بِأَنَّ مَعَانِيَهَا فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ مُخْتَلِفَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، فَهُوَ إِقْرَارٌ مِنْهُ بِالتَّكْرَارِ لِأَنَّ حَمْلَ هَذَا عَلَى مَعْنًى وَحَمْلَ هَذَا عَلَى مَعْنًى مَعَ الِاتِّحَادِ يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّحَكُّمِ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَمِنْ مَذَاهِبِهِمُ الَّتِي لَا تُجْحَدُ، وَاسْتِعْمَالَاتِهِمُ الَّتِي لَا تُنَكَرُ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا التَّأْكِيدَ كَرَّرُوا، كَمَا أَنَّ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا الِاخْتِصَارَ أَوْجَزُوا، هَذَا مَعْلُومٌ لِكُلِّ مِنْ لَهُ عِلْمٌ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى مَا فِيهِ خَفَاءٌ وَيُبَرْهَنُ عَلَى مَا هُوَ مُتَنَازَعٌ فِيهِ. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْوُضُوحِ وَالظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّ فِيهِ شَاكٌّ، وَلَا يَرْتَابُ فِيهِ مُرْتَابٌ، فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّطْوِيلِ، غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَكْثِيرِ الْقَالِ وَالْقِيلِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا مَا يَعْلَمُهُ كُلُّ مَنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَرُبَّمَا يَكْثُرُ فِي بَعْضِ السُّورِ كَمَا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ وَسُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ وَفِي أشعار العرب من هذا ما لا يتأتى عَلَيْهِ الْحَصْرُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : يَا لَبَكْرٍ انْشُرُوا لِي كُلَيْبًا ... يَا لَبَكْرٍ أَيْنَ أين الفرار؟ وقول الآخر: هلّا سألت جموع كندة ... يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيُّنَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَا عَلْقَمَةُ يَا عَلْقَمَةُ يَا عَلْقَمَةُ ... خَيْرُ تَمِيمٍ كُلِّهَا وَأَكْرَمُهُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَلَا يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلِمِي ثمَّتَ اسْلِمِي ... ثَلَاثَ تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تكلّم

_ (1) . هو المهلهل بن ربيعة.

وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَا جَعْفَرُ يَا جَعْفَرُ يَا جَعْفَرُ ... إِنْ أَكْ دَحْدَاحًا فَأَنْتَ أَقْصَرُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَتَاكَ أَتَاكَ اللَّاحِقُونَ احْبِسِ احْبِسِ «1» وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، وَهُوَ أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ أَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفَائِدَةُ مَا وَقَعَ فِي السُّورَةِ مِنَ التَّأْكِيدِ هُوَ قَطْعُ أَطْمَاعِ الْكُفَّارِ عَنْ أَنْ يُجِيبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا سَأَلُوهُ مِنْ عِبَادَتِهِ آلِهَتَهُمْ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ سبحانه بما الَّتِي لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ فِي الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهُ يجوز ذلك، كما في قولهم: سبحان ما سخر كنّ لَنَا، وَنَحْوِهِ، وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَجْرِيَ الْكَلَامُ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ وَلَا يَخْتَلِفَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ الصِّفَةَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْبُدُ الْبَاطِلَ وَلَا تَعْبُدُونَ الْحَقَّ. وَقِيلَ: إِنَّ «مَا» فِي الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ لَا الْمَوْصُولَةُ، أَيْ: لَا أَعْبُدُ عِبَادَتَكُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ عِبَادَتِي ... إِلَخْ، وَجُمْلَةُ لَكُمْ دِينُكُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ قَوْلِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَقَوْلِهِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِيَ دِينِ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، أَيْ: إِنْ رَضِيتُمْ بِدِينِكُمْ فَقَدْ رَضِيتُ بِدِينِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ «2» وَالْمَعْنَى: أَنَّ دِينَكُمُ الَّذِي هُوَ الْإِشْرَاكُ مَقْصُورٌ عَلَى الْحُصُولِ لَكُمْ لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى الْحُصُولِ لِي كَمَا تَطْمَعُونَ، وَدِينِي الَّذِي هُوَ التَّوْحِيدُ مَقْصُورٌ عَلَى الْحُصُولِ لِي لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى الْحُصُولِ لَكُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَكُمْ جَزَاؤُكُمْ وَلِي جَزَائِي لِأَنَّ الدِّينَ الْجَزَاءُ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ لِأَنَّهَا أَخْبَارٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بإسكان الياء من قوله: «ولي» قرأ نَافِعٌ وَهِشَامٌ وَحَفْصٌ وَالْبَزِّيُّ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا بِحَذْفِ الْيَاءِ مِنْ دِينِي وَقْفًا وَوَصْلًا، وَأَثْبَتَهَا نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَسَلَامٌ وَيَعْقُوبُ وَصْلًا وَوَقْفًا. قَالُوا لِأَنَّهَا اسْمٌ فَلَا تُحْذَفُ. وَيُجَابُ بِأَنَّ حَذْفَهَا لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ سَائِغٌ وَإِنْ كَانَتِ اسْمًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ قُرَيْشًا دَعَتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ يُعْطُوهُ مَالًا فَيَكُونَ أَغْنَى رَجُلٍ بِمَكَّةَ، وَيُزَوِّجُوهُ مَا أَرَادَ مِنَ النِّسَاءِ، فَقَالُوا: هَذَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَلَا تَذْكُرْهَا بِسُوءٍ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً وَاحِدَةً وَلَكَ فِيهَا صَلَاحٌ، قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالُوا: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِينِي مِنْ رَبِّي، فَجَاءَ الْوَحْيُ مِنْ عند الله قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ- لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ «3» . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم،

_ (1) . وصدره: فأين إلى أين النّجاة ببغلتي. (2) . البقرة: 139. (3) . الزمر: 64- 66.

وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مينا مولى البختري قَالَ: «لَقِيَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ وَتَعْبُدْ مَا نَعْبُدُ، وَنَشْتَرِكْ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ أَصَحَّ مِنَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حَظًّا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ أَصَحَّ مِنَ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ كُنَّا قَدْ أخذنا منه حظا، فأنزل الله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: لَوِ اسْتَلَمْتَ آلِهَتَنَا لعبدنا إلهك، فأنزل الله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ السورة كلها.

سورة النصر

سورة النّصر وتسمّى سورة التوديع، هي ثلاث آيات وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِمِنًى، وَهُوَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حَتَّى خَتَمَهَا فَعَرَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها الْوَدَاعُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَقَرُبَ إِلَيَّ أَجَلِي» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ نعيت لرسول الله نَفْسُهُ حِينَ أُنْزِلَتْ، فَأَخَذَ فِي أَشَدِّ مَا كَانَ قَطُّ اجْتِهَادًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: «لَمَّا أُنْزِلَ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا عُمِّرَ فِي أُمَّتِهِ شَطْرَ مَا عُمِّرَ النَّبِيُّ الْمَاضِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَانَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذِهِ لِي عِشْرُونَ سَنَةً، وَأَنَا مَيِّتٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَبَكَتْ فَاطِمَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتِ أَوَّلُ أَهْلِي بِي لُحُوقًا، فَتَبَسَّمَتْ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «لَمَّا نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، فَبَكَتْ ثُمَّ ضَحِكَتْ، وَقَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فَبَكَيْتُ؟ فَقَالَ: اصْبِرِي فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لِحَاقًا بِي فَضَحِكْتُ» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تَعْدِلُ ربع القرآن. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) النَّصْرُ: الْعَوْنُ: مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدْ نَصَرَ الْغَيْثُ الْأَرْضَ: إِذَا أَعَانَ عَلَى نَبَاتِهَا وَمَنَعَ مِنْ قَحْطِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» : إِذَا انْصَرَفَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَوَدِّعِي ... بِلَادَ تَمِيمٍ وانصري أرض عامر

_ (1) . هو الراعي.

يُقَالُ: نَصَرَهُ عَلَى عَدُوِّهِ يَنْصُرُهُ نَصْرًا إِذَا أَعَانَهُ، وَالِاسْمُ: النُّصْرَةُ، وَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى عَدُوِّهِ إِذَا سَأَلَهُ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَيْهِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِذا جاءَ كَ يَا مُحَمَّدُ نَصْرُ اللَّهِ عَلَى مَنْ عَادَاكَ، وَهُمْ قُرَيْشٌ وَالْفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَصْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَقِيلَ: نَصْرُهُ عَلَى مَنْ قَاتَلَهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقِيلَ: هُوَ فَتْحُ سَائِرِ الْبِلَادِ، وَقِيلَ: هُوَ ما فتحه الله عليه مِنَ الْعُلُومِ، وَعَبَّرَ عَنْ حُصُولِ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ بِالْمَجِيءِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمَا مُتَوَجِّهَانِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِذَا: بِمَعْنَى: قَدْ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى إِذْ. قَالَ الرَّازِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ أَنَّ الْفَتْحَ هُوَ تَحْصِيلُ الْمَطْلُوبِ الَّذِي كان منغلقا كَالسَّبَبِ لِلْفَتْحِ، فَلِهَذَا بَدَأَ بِذِكْرِ النَّصْرِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْفَتْحَ أَوْ يُقَالُ النَّصْرُ كَمَالُ الدِّينِ، وَالْفَتْحُ: إِقْبَالُ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ تَمَامُ النِّعْمَةِ أَوْ يُقَالُ: النَّصْرُ: الظَّفَرُ، وَالْفَتْحُ: الْجَنَّةُ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ. وَيُقَالُ: الْأَمْرُ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا وَأَظْهَرُ فَإِنَّ النَّصْرَ: هُوَ التَّأْيِيدُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ قَهْرُ الْأَعْدَاءِ وَغَلَبُهُمْ وَالِاسْتِعْلَاءُ عَلَيْهِمْ، وَالْفَتْحُ: هُوَ فَتْحُ مَسَاكِنِ الْأَعْدَاءِ وَدُخُولُ مَنَازِلِهِمْ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً أَيْ: أَبْصَرْتَ النَّاسَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَكَ بِهِ جَمَاعَاتٍ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَالَ الْعَرَبُ: أَمَّا إِذْ ظَفِرَ مُحَمَّدٌ بِأَهْلِ الْحَرَمِ، وَقَدْ أَجَارَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ، فَلَيْسَ لَكُمْ بِهِ يَدَانِ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، أَيْ: جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةً بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَدْخُلُونَ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَاثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، فَصَارَتِ الْقَبِيلَةُ تَدْخُلُ بِأَسْرِهَا فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: أَرَادَ بِالنَّاسِ: أَهْلَ الْيَمَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ مِنَ الْيَمَنِ سَبْعُمِائَةِ إِنْسَانٍ مُؤْمِنِينَ. وَانْتِصَابُ أَفْوَاجًا عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَدْخُلُونَ، وَمَحَلُّ قَوْلِهِ «يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ» النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ إِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ الْعَامِلُ فِيهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: الْعَامِلُ فِي إِذَا هُوَ جَاءَ، وَرَجَّحَهُ أَبُو حَيَّانَ وَضَعَّفَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ مَا جَاءَ بَعْدَ فَاءِ الْجَوَابِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَقَوْلُهُ: بِحَمْدِ رَبِّكَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الحال، أي: فقل سبحان الله متلبسا بِحَمْدِهِ، أَوْ حَامِدًا لَهُ. وَفِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ تَسْبِيحِ اللَّهِ الْمُؤْذِنِ بِالتَّعَجُّبِ مِمَّا يَسَّرَهُ اللَّهُ لَهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ وَلَا بَالِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَبَيْنَ الْحَمْدِ لَهُ عَلَى جَمِيلِ صُنْعِهِ لَهُ وَعَظِيمِ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ لِأُمِّ الْقُرَى الَّتِي كَانَ أَهْلُهَا قَدْ بَلَغُوا فِي عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منها بَعْدَ أَنِ افْتَرَوْا عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ، وَالْأَكَاذِيبِ الْمُخْتَلِفَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ مَجْنُونٌ، هُوَ سَاحِرٌ، هُوَ شَاعِرٌ، هُوَ كَاهِنٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ ضَمَّ سُبْحَانَهُ إِلَى ذَلِكَ أَمْرَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِغْفَارِ: أَيِ اطْلُبْ مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ لِذَنْبِكَ هَضْمًا لِنَفْسِكَ وَاسْتِقْصَارًا لِعَمَلِكَ، وَاسْتِدْرَاكًا لِمَا فَرَطَ مِنْكَ مِنْ تَرْكِ مَا هُوَ الْأَوْلَى، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى قُصُورَهُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّهِ وَيُكْثِرُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّضَرُّعِ وَإِنْ كَانَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ تَعَبُّدٌ تَعَبَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ، لَا لِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِذَنْبٍ كَائِنٍ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ تَنْبِيهًا لِأُمَّتِهِ وَتَعْرِيضًا بِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ هُمُ الْمَأْمُورُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأُمَّتِهِ لَا لِذَنْبِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ هُنَا: الصَّلَاةُ. وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى التَّنْزِيهِ مَعَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِ فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ سُرُورًا بالنعمة،

وَفَرَحًا بِمَا هَيَّأَهُ اللَّهُ مِنْ نَصْرِ الدِّينِ، وَكَبْتِ أَعْدَائِهِ وَنُزُولِ الذِّلَّةِ بِهِمْ وَحُصُولِ الْقَهْرِ لَهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: أَعْلَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ أَجْلُهُ فَأَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّوْبَةِ لِيَخْتِمَ لَهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَكَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ» . قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: وَعَاشَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ سَنَتَيْنِ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً تَعْلِيلٌ لِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِغْفَارِ، أَيْ: مِنْ شَأْنِهِ التَّوْبَةُ عَلَى الْمُسْتَغْفِرِينَ لَهُ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَيَرْحَمُهُمْ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَتَوَّابٌ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُبَالِغٌ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ. وَقَدْ حَكَى الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ اتِّفَاقَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ دَلَّتْ عَلَى نَعْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُمْ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالُوا: فَتْحُ الْمَدَائِنِ وَالْقُصُورِ، قَالَ: فَأَنْتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ مَثَلٌ ضُرِبَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعِيَتْ لَهُ نَفْسُهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: لِمَ يَدْخُلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ أَنَّهُ دَعَانِي فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَرَنَا أَنْ نَحْمِدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ الله له، قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ سُورَةَ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حِينَ أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَفْسَهُ نُعِيَتْ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَأَسْتَغْفِرُهُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَاكَ تُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: خَبَّرَنِي رَبِّي أَنِّي سَأَرَى عَلَامَةً مِنْ أُمَّتِي، فَإِذَا رَأَيْتُهَا أَكْثَرْتُ مِنْ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَدْ رَأَيْتُهَا إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً- فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» يَعْنِي إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ قُلُوبًا، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ إِذْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ قَدْ جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ، قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لَيِّنَةٌ طَاعَتُهُمْ، الْإِيمَانُ يمان، والفقه

يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَسَيَخْرُجُونَ مِنْهُ أَفْوَاجًا» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً قَالَ: لَيَخْرُجُنَّ مِنْهُ أَفْوَاجًا كَمَا دخلوا فيه أفواجا» .

سورة المسد

سورة المسد وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ قَالُوا: نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ بِمَكَّةَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) مَعْنَى تَبَّتْ: هَلَكَتْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَسِرَتْ، وَقِيلَ: خَابَتْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: ضَلَّتْ. وَقِيلَ: صَفِرَتْ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَخَصَّ الْيَدَيْنِ بِالتَّبَابِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْعَمَلِ يَكُونُ بِهِمَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ نَفْسُهُ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْيَدِ عَنِ النَّفْسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ يَداكَ «1» أَيْ: نَفْسُكَ، وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ كَثِيرًا بِبَعْضِ الشَّيْءِ عَنْ كُلِّهِ، كَقَوْلِهِمْ: أَصَابَتْهُ يَدُ الدَّهْرِ، وَأَصَابَتْهُ يَدُ الْمَنَايَا، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: لَمَّا أَكَبَّتْ يَدُ الرَّزَايَا ... عَلَيْهِ نادى ألا مجير وَأَبُو لَهَبٍ اسْمُهُ: عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَقَوْلُهُ: وَتَبَّ أَيْ: هَلَكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَوَّلُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي خَبَرٌ، كَمَا تَقُولُ: أَهْلَكَهُ اللَّهُ، وَقَدْ هَلَكَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مَا دَعَا بِهِ عَلَيْهِ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَقَدْ تَبَّ» . وَقِيلَ: كِلَاهُمَا إِخْبَارٌ، أَرَادَ بِالْأَوَّلِ هَلَاكَ عَمَلِهِ، وَبِالثَّانِي هَلَاكَ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: كِلَاهُمَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ فِي هَذَا شَبَهٌ مِنْ مَجِيءِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةُ الْيَدَيْنِ غَيْرَ مُرَادَةٍ، وَذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ بِكُنْيَتِهِ لِاشْتِهَارِهِ بِهَا، وَلِكَوْنِ اسْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عَبْدَ الْعُزَّى، وَالْعُزَّى: اسْمُ صَنَمٍ، وَلِكَوْنِ فِي هَذِهِ الْكُنْيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أنه ملابس للنار لأن اللهب هو لَهَبُ النَّارِ، وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ كَانَ جَمِيلًا، وَأَنَّ وَجْهَهُ يَتَلَهَّبُ لِمَزِيدِ حُسْنِهِ كَمَا تَتَلَهَّبُ النَّارُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «لَهَبٍ» بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْهَاءِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإِسْكَانِ الْهَاءِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى فَتْحِ الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ: ذاتَ لَهَبٍ وَرَوَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّهُ قُرِئَ «تَبَّتْ يَدَا أَبُو لَهَبٍ» ، وَذَكَرَ وَجْهَ ذَلِكَ مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ أَيْ: مَا دَفَعَ عَنْهُ مَا حَلَّ بِهِ مِنَ التَّبَابِ وَمَا نَزَلَ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا جَمَعَ مِنَ الْمَالِ وَلَا مَا كَسَبَ مِنَ الْأَرْبَاحِ وَالْجَاهِ أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَالُهُ: مَا وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ، وَبِقَوْلِهِ: وَما كَسَبَ الَّذِي كسبه بنفسه. قال مجاهد:

_ (1) . الحج: 10.

وَمَا كَسَبَ مِنْ وَلَدٍ، وَوَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا أَغْنى اسْتِفْهَامِيَّةً، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُ؟ وَكَذَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: وَما كَسَبَ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ كَسَبَ؟ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: وَكَسْبُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا الْأُولَى نَافِيَةٌ، وَالثَّانِيَةَ مَوْصُولَةٌ. ثُمَّ أَوْعَدَهُ سُبْحَانَهُ بِالنَّارِ فَقَالَ: سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «سَيَصْلَى» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، أَيْ: سَيَصْلَى هُوَ بِنَفْسِهِ، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ والأشهب العقيلي وأبو السّمّال والأعمش ومحمد بن السّميقع بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَالْمَعْنَى سَيُصْلِيهِ اللَّهُ، وَمَعْنَى ذاتَ لَهَبٍ ذَاتَ اشْتِعَالٍ وَتَوَقُّدٍ، وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي يَصْلَى، وَجَازَ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ، أَيْ: وَتُصْلَى امْرَأَتُهُ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَهِيَ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ تَحْمِلُ الْغَضَى وَالشَّوْكَ، فَتَطْرَحُهُ بِاللَّيْلِ عَلَى طَرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهَا كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ يَحْطِبُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا نَمَّ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ بَنِي الْأَدْرَمِ حَمَّالُو الحطب ... هم الوشاة في الرّضا وفي الغضب عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ تَتْرَى وَالْحَرْبُ وَقَالَ آخَرُ: مِنَ البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ولم تمش بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَطَبِ الرَّطْبِ وَجَعَلَ الْحَطَبَ فِي هَذَا الْبَيْتِ رَطْبًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّدْخِينِ الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي الشَّرِّ، وَمِنَ الْمُوَافَقَةِ لِلْمَشْيِ بِالنَّمِيمَةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَى حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أَنَّهَا حَمَّالَةُ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ، كَمَا فِي قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «1» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: حَمَّالَةُ الْحَطَبِ فِي النَّارِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «حَمَّالَةُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ مَسُوقَةٌ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّ امْرَأَةَ أَبِي لَهَبٍ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ، وَأَمَّا عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ عَطْفِ وَامْرَأَتُهُ عَلَى الضَّمِيرِ فِي تَصْلَى، فَيَكُونُ رَفْعُ حَمَّالَةُ عَلَى النَّعْتِ لِامْرَأَتِهِ، وَالْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةٌ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمُضِيِّ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هِيَ حَمَّالَةٌ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِنَصْبِ «حَمَّالَةَ» عَلَى الذَّمِّ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنِ امْرَأَتِهِ. وَقَرَأَ أَبُو قِلَابَةَ: «حَامِلَةَ الْحَطَبِ» فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ امْرَأَتِهِ، وَالْجِيدُ: الْعُنُقُ، وَالْمَسَدُ: اللِّيفُ الَّذِي تُفْتَلُ مِنْهُ الحبال، ومنه قول النابغة: مقذوفة بدخيس النّحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد «2»

_ (1) . الأنعام: 31. (2) . «مقذوفة» : مرمية باللحم. «الدخيس» : الّذي قد دخل بعضه في بعض من كثرته. «النحض» : اللحم. «البازل» : الكبير. «الصريف» : الصيح. «القعو» : ما يضم البكرة إذا كان خشبا.

وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَا مَسَدَ الْخُوصِ تَعُوذُ مِنِّي ... إِنْ كُنْتَ لَدُنَّا لَيِّنًا فَإِنِّي وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَسَدُ: هُوَ الْحَبْلُ يَكُونُ مِنْ صُوفٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ حِبَالٌ تَكُونُ مِنْ شَجَرٍ يَنْبُتُ بِالْيَمَنِ تُسَمَّى بِالْمَسَدِ. وَقَدْ تَكُونُ الْحِبَالُ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ أَوْ مِنْ أَوْبَارِهَا. قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: هَذَا فِي الدُّنْيَا، كَانَتْ تُعَيِّرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَقْرِ، وَهِيَ تَحْتَطِبُ فِي حَبْلٍ تَجْعَلُهُ فِي عُنُقِهَا، فَخَنَقَهَا اللَّهُ بِهِ فَأَهْلَكَهَا، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ حَبْلٌ مِنْ نَارٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: هُوَ سِلْسِلَةٌ مِنْ نَارٍ تَدْخُلُ فِي فِيهَا وَتَخْرُجُ مِنْ أَسْفَلِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ قِلَادَةٌ مِنْ وَدَعٍ كَانَتْ لَهَا. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا كَانَ خَرَزًا فِي عُنُقِهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ المسيب: كان لَهَا قِلَادَةٌ فَاخِرَةٌ مِنْ جَوْهَرٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَأُنْفِقَنَّهَا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَذَابًا فِي جَسَدِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمَسَدُ: الْفَتْلُ، يُقَالُ: مَسَدَ حَبْلَهُ يَمْسُدُهُ مَسْدًا أَجَادَ فَتْلَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاهُ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ إِنَّمَا جَمَعْتَنَا لِهَذَا؟ ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» . قَالَ: خَسِرَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ ابْنَهُ مِنْ كَسْبِهِ، ثُمَّ قَرَأَتْ: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ قَالَتْ: وَمَا كَسَبَ وَلَدُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كَسَبَ قَالَ: كَسْبُهُ وَلَدُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ قَالَ: كَانَتْ تَحْمِلُ الشَّوْكَ فَتَطْرَحُهُ عَلَى طَرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْقِرَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَقَالَ: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ نَقَّالَةَ الْحَدِيثِ حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قَالَ: هِيَ حِبَالٌ تَكُونُ بِمَكَّةَ. وَيُقَالُ: الْمَسَدُ: الْعَصَا الَّتِي تَكُونُ فِي الْبَكَرَةِ. وَيُقَالُ الْمَسَدُ: قِلَادَةٌ مِنْ وَدَعٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ «لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ «2» ، وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا أَبَيْنَا ... وَدِينَهُ قَلَيْنَا وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآه أَبُو بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي وَقَرَأَ قُرْآنًا، اعْتَصَمَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً «3» فأقبلت حتى وقفت على أبي

_ (1) . الشعراء: 214. (2) . «الفهر» : الحجر. (3) . الإسراء: 45.

بَكْرٍ وَلَمْ تَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، قَالَ: لَا وَرَبِّ الْبَيْتِ مَا هَجَاكَ، فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي ابْنَةُ سَيِّدِهَا» وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى بِأَحْسَنَ مِنْ هذا الإسناد.

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرٍ، وَمَدَنِيَّةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي السُّنَّةِ، وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ- اللَّهُ الصَّمَدُ- لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إِلَّا سَيَمُوتُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إِلَّا سَيُورَثُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ وَلَا عَدْلٌ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مُرْسَلًا وَلَمْ يَذْكُرْ أُبَيًّا، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ» وَحَسَّنَ السُّيُوطِيُّ إِسْنَادَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْيَهُودَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ- اللَّهُ الصَّمَدُ- لَمْ يَلِدْ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْوَلَدُ وَلَمْ يُولَدْ فيخرج من شيء» . وأخرج أبو عبيدة فِي فَضَائِلِهِ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ مَنِيعٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالْبَزَّارُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مِائَتَيْ مَرَّةٍ غَفَرَ لَهُ ذَنْبَ مِائَتَيْ سَنَةٍ» . قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ إِلَّا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ وَالْأَغْلَبُ بْنُ تَمِيمٍ، وَهُمَا يَتَقَارَبَانِ فِي سُوءِ الْحِفْظِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «أَمَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي لَيْلَةٍ؟ فَإِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ خَمْسِينَ مَرَّةً غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً» وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنِ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مِائَتَيْ مَرَّةٍ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ ذُنُوبَ خَمْسِينَ سَنَةً، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ» وَفِي إِسْنَادِهِ حَاتِمُ بْنُ مَيْمُونٍ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ

وَغَيْرُهُ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: «مَنْ قَرَأَ فِي يَوْمٍ مِائَتَيْ مَرَّةٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، مُحِيَ عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عَلَيْهِ دَيْنٌ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ حَاتِمُ بْنُ مَيْمُونٍ الْمَذْكُورُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنَ اللَّيْلِ فَنَامَ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: يَا عَبْدِي ادْخُلْ عَلَى يَمِينِكَ الْجَنَّةَ» وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا حَاتِمُ بْنُ مَيْمُونٍ الْمَذْكُورُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سعد وَابْنُ الضُّرَيْسِ وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّامِ، - وَفِي لَفْظٍ: بِتَبُوكَ- فَهَبَطَ جبريل فقال: «يا محمد إن معاوية ابن مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيَّ هَلَكَ، أَفَتُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ الْأَرْضَ فَتَضَعْضَعَ لَهُ كل شيء ولزق بالأرض ورفع سَرِيرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أُوتِيَ مُعَاوِيَةُ هَذَا الْفَضْلَ، صَلَّى عَلَيْهِ صَفَّانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي كُلِّ صَفٍّ سِتَّةُ آلَافِ مَلَكٍ؟ قَالَ: بِقِرَاءَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كَانَ يَقْرَؤُهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا وَجَائِيًا وَذَاهِبًا وَنَائِمًا» ، وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَلَاءُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ بِالْوَضْعِ. وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا، وَفِي إِسْنَادِهِ هَذَا الْمُتَّهَمُ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَغَيْرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ من غير هذا الْوَجْهِ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ وَفِيهَا مَا هُوَ حَسَنٌ فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ القرآن، ثم خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إني سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، أَلَا وَإِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» يَعْنِي قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ بِأَسَانِيدَ بَعْضُهَا حَسَنٌ وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا فِي سَرِيَّةٍ، فَكَانَ يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ» ؟ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّهُ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً فَقَرَأَ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ به افتتح بقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ تفتتح

[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 إلى 4]

بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِالْأُخْرَى، فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، قَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ فَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: «يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ وَمَا حَمَلَكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ» ؟ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ: «حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» وَقَدْ رُوِيَ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عِنْدَ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) قَوْلُهُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ الضَّمِيرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ السِّيَاقِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ بَيَانِ سَبَبِ النُّزُولِ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَيَكُونُ مبتدأ، والله مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَأَحَدٌ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بَدَلًا مِنْ هُوَ، وَالْخَبَرُ أَحَدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَبَرًا أَوَّلَ، وَأَحَدٌ خَبَرًا ثَانِيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ أَحَدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ضَمِيرَ شَأْنٍ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَعْظِيمٍ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ مُفَسِّرَةٌ لَهُ وَخَبَرٌ عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى: إن سألتم تبيين نسبته هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قِيلَ: وَهَمْزَةُ أَحَدٍ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ وَأَصْلُهُ وَاحِدٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هَمْزَةُ أَحَدٍ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ مَقْلُوبَةٍ، وَذَكَرَ أَنَّ أَحَدٌ يُفِيدُ الْعُمُومَ دُونَ وَاحِدٍ، وَمِمَّا يُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ: أَنَّهُ لا يوصف بالأحدية غير الله تعالى، لا يُقَالُ: رَجُلٌ أَحَدٌ، وَلَا دِرْهَمٌ أَحَدٌ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ وَاحِدٌ وَدِرْهَمٌ وَاحِدٌ، قِيلَ: وَالْوَاحِدُ يَدْخُلُ فِي الْأَحَدِ وَالْأَحَدُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ، فَإِذَا قُلْتَ: لَا يُقَاوِمُهُ وَاحِدٌ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَكِنَّهُ يُقَاوِمُهُ اثْنَانِ بِخِلَافِ قَوْلِكَ لَا يُقَاوِمُهُ أَحَدٌ. وَفَرَّقَ ثَعْلَبٌ بَيْنَ وَاحِدٍ وَبَيْنَ أَحَدٍ بِأَنَّ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ فِي الْعَدَدِ، وَأَحَدٌ لَا يَدْخُلُ فِيهِ. وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ بِأَنَّهُ يُقَالُ: أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَنَحْوُهُ فَقَدْ دَخَلَهُ الْعَدَدُ، وَهَذَا كَمَا تَرَى. وَمِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ بِالْقَلْبِ الْخَلِيلُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» بِإِثْبَاتِ قُلْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيٌّ: «اللَّهُ أَحَدٌ» بِدُونِ قُلْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «قُلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ» ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ أَحَدٌ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ والحسن وأبو السّمّال وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِحَذْفِ التَّنْوِينِ لِلْخِفَّةِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ وَقِيلَ: إِنَّ تَرَكَ التَّنْوِينَ لِمُلَاقَاتِهِ لَامَ التَّعْرِيفِ، فَيَكُونُ التَّرْكُ لِأَجْلِ الْفِرَارِ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْفِرَارَ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ قَدْ حَصَلَ مَعَ التَّنْوِينِ بِتَحْرِيكِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا بِالْكَسْرِ اللَّهُ الصَّمَدُ الِاسْمُ الشَّرِيفُ مُبْتَدَأٌ، وَالصَّمَدُ خَبَرُهُ، وَالصَّمَدُ: هُوَ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَاجَاتِ، أَيْ: يُقْصَدُ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى قَضَائِهَا، فَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَبْضِ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ لِأَنَّهُ مَصْمُودٌ إِلَيْهِ، أَيْ: مَقْصُودٌ إِلَيْهِ، قَالَ

الزجاج: الصّمد: السّند الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ السُّؤْدُدُ، فَلَا سَيِّدَ فَوْقَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدٍ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدِ وَقِيلَ: مَعْنَى الصَّمَدِ: الدَّائِمُ الْبَاقِي الَّذِي لَمْ يَزَلْ ولا يزول. وقيل: معنى الصمد ما ذكره بَعْدَهُ مِنْ أَنَّهُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَالْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ. وَقِيلَ: هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الرَّغَائِبِ، وَالْمُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْمَصَائِبِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَقِيلَ: هُوَ الْكَامِلُ الَّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ وَعَطَاءٌ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَالسُّدِّيُّ: الصَّمَدُ: هُوَ الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: شِهَابٌ حَرُوبٌ لَا تَزَالُ جِيَادُهُ ... عَوَابِسَ يَعْلُكْنَ الشَّكِيمَ الْمُصَمَّدَا «1» وَهَذَا لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصْلَ مَعْنَى الصَّمَدِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي السَّيِّدِ الْمَصْمُودِ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ، وَلِهَذَا أَطْبَقَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَلَوْتُهُ بِحُسَامٍ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ... خُذْهَا حُذَيْفُ فَأَنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ وَقَالَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ: سِيرُوا جَمِيعًا بِنِصْفِ اللَّيْلِ وَاعْتَمِدُوا ... وَلَا رَهِينَةَ إِلَّا سَيِّدٌ صَمَدٌ وَتَكْرِيرُ الِاسْمِ الْجَلِيلِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَحُذِفَ الْعَاطِفُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا كَالنَّتِيجَةِ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَقِيلَ: إِنَّ الصَّمَدَ صِفَةٌ لِلِاسْمِ الشَّرِيفِ وَالْخَبَرُ هُوَ مَا بَعْدَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ السِّيَاقَ يَقْتَضِي اسْتِقْلَالَ كُلِّ جُمْلَةٍ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ أَيْ: لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ وَلَدٌ، وَلَمْ يَصْدُرْ هُوَ عَنْ شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا يُجَانِسُهُ شيء، ولاستحالة نسبة العدم إليه سابقا ولا حقا. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ قَالَ الرَّازِيُّ: قُدِّمَ ذِكْرُ نَفْيِ الْوَلَدِ، مَعَ أَنَّ الْوَلَدَ مُقَدَّمٌ لِلِاهْتِمَامِ، لِأَجْلِ مَا كَانَ يَقُولُهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّ لَهُ وَالِدًا، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ بِالْأَهَمِّ فَقَالَ: لَمْ يَلِدْ ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْحُجَّةِ فَقَالَ: وَلَمْ يُولَدْ كَأَنَّهُ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ الْوَلَدِ اتِّفَاقُنَا عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ وَلَدًا لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ سُبْحَانَهُ بِمَا يُفِيدُ انْتِفَاءَ كَوْنِهِ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ فِي الْمَاضِي وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُفِيدُ انْتِفَاءَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ وَرَدَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: وَلَدَ اللَّهُ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ- وَلَدَ اللَّهُ «2» فلما كان المقصود من

_ (1) . «علكت الدابة اللجام» : لاكته وحرّكته. «الشكيم» : الحديد المعترضة في فم الدابة. (2) . الصافات: 151- 152.

هَذِهِ الْآيَةِ تَكْذِيبَ قَوْلِهِمْ، وَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ بِلَفْظٍ يُفِيدُ النَّفْيَ فِيمَا مَضَى، وَرَدَتِ الْآيَةُ لِدَفْعِ قَوْلِهِمْ هَذَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا كَانَ مُتَّصِفًا بِالصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَانَ مُتَّصِفًا بِكَوْنِهِ لَمْ يُكَافِئْهُ أَحَدٌ، وَلَا يُمَاثِلُهُ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِي شَيْءٍ، وَأُخِّرَ اسْمُ كَانَ لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ، وَقَوْلُهُ: «لَهُ» مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: «كُفُوًا» قُدِّمَ عَلَيْهِ لِرِعَايَةِ الِاهْتِمَامِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْمُكَافَأَةِ عَنْ ذَاتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ رَدَّ الْمُبَرِّدُ عَلَى سِيبَوَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ: إِنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الظَّرْفُ كَانَ هُوَ الْخَبَرَ، وَهَاهُنَا لَمْ يُجْعَلْ خَبَرًا مَعَ تَقَدُّمِهِ، وَقَدْ رُدَّ عَلَى الْمُبَرِّدِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سِيبَوَيْهِ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَتْمًا بَلْ جَوَّزَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ كَوْنَ الظَّرْفِ هُنَا لَيْسَ بِخَبَرٍ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَيَكُونُ كُفُوًا مُنْتَصِبًا عَلَى الْحَالِ. وَحُكِيَ فِي الْكَشَّافِ عَنْ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ الْفَصِيحَ أَنَّ يُؤَخِّرَ الظَّرْفَ الَّذِي هُوَ لَغْوٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، وَاقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ عَلَى نَقْلِ أَوَّلِ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَالْإِلْغَاءُ وَالِاسْتِقْرَارُ عَرَبِيٌّ جَيِّدٌ كثير، انتهى. قرأ الْجُمْهُورُ: «كُفُوًا» بِضَمِّ الْكَافِ وَالْفَاءِ وَتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَسِيبَوَيْهِ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِإِسْكَانِ الْفَاءِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ حَمْزَةَ مَعَ إِبْدَالِهِ الْهَمْزَةَ وَاوًا وَصْلًا وَوَقْفًا، وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ «كِفَأَ» بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ، وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ كَذَلِكَ مَعَ الْمَدِّ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ النَّابِغَةِ: لَا تَقْذِفَنِّي بِرُكْنٍ لَا كِفَاءَ لَهُ وَالْكُفْءُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ النَّظِيرُ، يَقُولُ: هَذَا كُفْؤُكَ، أَيْ: نَظِيرُكَ، وَالِاسْمُ الْكَفَاءَةُ بِالْفَتْحِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْمَحَامِلِيُّ فِي أَمَالِيهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ بريدة، لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا رَفَعَهُ. قَالَ: الصَّمَدُ: الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ رَفْعُ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الصَّمَدُ: الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَفِي لَفْظٍ: لَيْسَ لَهُ أَحْشَاءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: الصَّمَدُ: الّذي لا يطعم، وهو المصمت. وقال: أو ما سَمِعْتَ النَّائِحَةَ وَهِيَ تَقُولُ: لَقَدْ بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدٍ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدِ وَكَانَ لَا يَطْعَمُ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَقَدْ روي عنه أن الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ، وَأَنَّهُ أَنْشَدَ الْبَيْتَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَدْحِ وَأَدْخَلُ فِي الشَّرَفِ، وَلَيْسَ لِوَصْفِهِ بِأَنَّهُ لَا يَطْعَمُ عِنْدَ الْقِتَالِ كَثِيرُ مَعْنًى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الصَّمَدُ: السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ، وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ، وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ، وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ، وَالْغَنِيُّ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي غِنَاهُ، وَالْجَبَّارُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَبَرُوتِهِ، وَالْعَالِمُ الَّذِي قَدْ كَمَلَ فِي عِلْمِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ صِفَةٌ لَا تَنْبَغِي إلا

لَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُوٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الصَّمَدُ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ فَلَا شَيْءَ أَسْوَدُ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الصَّمَدُ: الَّذِي تَصْمُدُ إِلَيْهِ الْأَشْيَاءُ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ كُرْبَةٌ أَوْ بَلَاءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ قَالَ: لَيْسَ لَهُ كفو ولا مثل.

سورة الفلق

سورة الفلق وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ، وَمَدَنِيَّةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ من طرق- قال السيوطي: صحيح- عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي الْمُصْحَفِ يَقُولُ: لَا تَخْلِطُوا الْقُرْآنَ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ، إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، إِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَعَوَّذَ بِهِمَا، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَقْرَأُ بِهِمَا. قَالَ الْبَزَّارُ: لَمْ يُتَابِعِ ابْنَ مَسْعُودٍ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ وَأُثْبِتَتَا فِي الْمُصْحَفِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: «أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَبَا الْمُنْذِرِ إِنِّي رَأَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ لَا يَكْتُبُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ، فَقَالَ: أَمَا وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا وَمَا سَأَلَنِي عَنْهُمَا أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُهُ غَيْرُكَ، قَالَ: «قِيلَ لِي: قُلْ، فَقُلْتُ: فَقُولُوا» فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، فَقَالَ: «قِيلَ لِي، فَقُلْتُ فَقُولُوا كَمَا قُلْتُ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَاتٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُنَّ قطّ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَقْرِئْنِي سُورَةَ يُوسُفَ وَسُورَةَ هُودٍ، قَالَ: «يَا عُقْبَةُ اقْرَأْ بَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَقْرَأَ سُورَةً أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ وَأَبْلَغَ مِنْهَا، فَإِذَا اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَفُوتَكَ فَافْعَلْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي حَابِسٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَبَا حَابِسٍ أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ مَا تَعَوَّذَ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ؟ قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ الله، قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ هُمَا الْمُعَوِّذَتَانِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ الْجَانِّ وَمِنْ عَيْنِ الْإِنْسِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَى ذَلِكَ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ عَشْرَ خِصَالٍ، وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الرُّقَى إِلَّا بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَحَبِّ السُّوَرِ إِلَى اللَّهِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَخَذَ بِمَنْكِبِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَقْرَأُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ، قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وَلَمْ تَقْرَأْ بِمِثْلِهِمَا» . وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةُ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ عَلَيْهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهِمَا» . وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي

[سورة الفلق (113) : الآيات 1 إلى 5]

صَحِيحَيْهِمَا، مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ، عَنِ زَيْدِ بن أرقم قال: «سحر النبيّ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَاشْتَكَى، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ، وَالسِّحْرُ فِي بِئْرِ فُلَانٍ، فَأَرْسَلَ عَلِيًّا، فَجَاءَ بِهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحُلَّ الْعُقَدَ، وَيَقْرَأَ آيَةً وَيَحُلَّ، حَتَّى قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مُطَوَّلًا، وكذلك أخرجه مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَفِي قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا أَحَادِيثُ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «لَدَغَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْرَبٌ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ لَا تَدَعُ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ وَمِلْحٍ وَجَعَلَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيَقْرَأُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ برب الناس» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) الْفَلَقِ الصُّبْحُ، يُقَالُ: هُوَ أَبْيَنُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَسُمِّيَ فَلَقًا لِأَنَّهُ يُفْلَقُ عَنْهُ اللَّيْلُ، وَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ اللَّيْلَ يَنْفَلِقُ عَنْهُ الصُّبْحُ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، يُقَالُ: هُوَ أَبْيَنُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَمِنْ فَرَقَ الصُّبْحِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: حَتَّى إِذَا مَا انْجَلَى عَنْ وجهه فلق ... هاديه «1» فِي أُخْرَيَاتِ اللَّيْلِ مُنْتَصِبُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَا لَيْلَةً لَمْ أَنَمْهَا بِتُّ مُرْتَفِقًا «2» ... أَرْعَى النُّجُومَ إِلَى أَنْ نَوَّرَ الْفَلَقُ وَقِيلَ: هُوَ سِجْنٌ فِي جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: شَجَرَةٌ فِي النَّارِ، وَقِيلَ: هُوَ الْجِبَالُ وَالصُّخُورُ، لِأَنَّهَا تُفْلَقُ بِالْمِيَاهِ، أَيْ: تُشَقَّقُ، وَقِيلَ: هُوَ التَّفْلِيقُ بَيْنَ الْجِبَالِ لِأَنَّهَا تَنْشَقُّ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ لِكُلِّ مَا اطْمَأَنَّ مِنَ الْأَرْضِ فَلَقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: مَا زِلْتُ أَرْمُقُهُمْ حَتَّى إِذَا هَبَطَتْ ... أيدي الرّكاب بهم من راكس فلقا والركس: بطن الوادي، ومثله قول النابغة:

_ (1) . «هاديه» : أي أوله. [.....] (2) . «مرتفقا» : أي متكئا على مرفق يده.

أتاني وَدُونِي رَاكِسٌ فَالضَّوَاجِعُ «1» وَقِيلَ: هُوَ الرَّحِمُ تَنْفَلِقُ بِالْحَيَوَانِ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ مَا انْفَلَقَ عَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالصُّبْحِ وَالْحَبِّ وَالنَّوَى، وَكُلِّ شَيْءٍ مِنْ نَبَاتٍ وَغَيْرِهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ يَشْهَدُ لَهُ الِانْشِقَاقُ، فَإِنَّ الْفَلْقَ: الشَّقُّ، فَلَقْتُ الشَّيْءَ فَلْقًا: شَقَقْتُهُ، وَالتَّفْلِيقُ مِثْلُهُ، يُقَالُ: فَلَقْتُهُ فَانْفَلَقَ وَتَفَلَّقَ، فَكُلُّ مَا انْفَلَقَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ حَيَوَانٍ وَصُبْحٍ وَحَبٍّ وَنَوًى وَمَاءٍ فَهُوَ فلق. قال الله سبحانه: فالِقُ الْإِصْباحِ «2» وقال: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى «3» انْتَهَى. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ وَأَوْسَعَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ لَكِنَّهُ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَقَدْ قِيلَ فِي وَجْهِ تَخْصِيصِ الْفَلَقِ: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِزَالَةِ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الشَّدِيدَةِ عَنْ كُلِّ هَذَا الْعَالَمِ يَقْدِرُ أَيْضًا أَنْ يَدْفَعَ عَنِ الْعَائِذِ كُلَّ مَا يَخَافُهُ وَيَخْشَاهُ، وَقِيلَ: طُلُوعُ الصُّبْحِ كَالْمِثَالِ لِمَجِيءِ الْفَرَحِ فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي اللَّيْلِ يَكُونُ مُنْتَظِرًا لِطُلُوعِ الصَّبَاحِ، كَذَلِكَ الْخَائِفُ يَكُونُ مُتَرَقِّبًا لِطُلُوعِ صَبَاحِ النَّجَاحِ، وَقِيلَ: غَيْرُ هَذَا مِمَّا هُوَ مُجَرَّدُ بَيَانِ مُنَاسَبَةٍ لَيْسَ فِيهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالتَّفْسِيرِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ مُتَعَلِّقٌ بِأَعُوذُ، أَيْ: مِنْ شَرِّ كُلِّ مَا خَلَقَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ فَيَعُمُّ جَمِيعَ الشُّرُورِ، وَقِيلَ: هُوَ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَقِيلَ: جَهَنَّمُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، كَمَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ مَنْ خَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ بِالْمَضَارِّ الْبَدَنِيَّةِ. وَقَدْ حَرَّفَ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ هَذِهِ الْآيَةَ مُدَافَعَةً عَنْ مَذْهَبِهِ وَتَقْوِيمًا لِبَاطِلِهِ، فَقَرَؤُوا بِتَنْوِينِ شَرٍّ عَلَى أَنَّ «مَا» نَافِيَةٌ، وَالْمَعْنَى: مِنْ شَرٍّ لَمْ يَخْلُقْهُ، وَمِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَعَمْرُو بْنُ عَائِذٍ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ الْغَاسِقُ: اللَّيْلُ، وَالْغَسَقُ: الظُّلْمَةُ، يُقَالُ: غَسَقَ اللَّيْلُ يَغْسِقُ إِذَا أَظْلَمَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ: غَسَقَ اللَّيْلُ وَأَغْسَقَ إِذَا أَظْلَمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسُ بْنُ الرُّقَيَّاتِ: إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا ... وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ وَالْأَرَقَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ لِلَّيْلِ: غَاسِقٌ لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنَ النَّهَارِ، وَالْغَاسِقُ، الْبَارِدُ، وَالْغَسَقُ: الْبَرْدُ، وَلِأَنَّ فِي اللَّيْلِ تَخْرُجُ السِّبَاعُ مِنْ آجَامِهَا، وَالْهَوَامُّ مِنْ أماكنها، وينبعث أهل الشرّ على العيث وَالْفَسَادِ، كَذَا قَالَ، وَهُوَ قَوْلٌ بَارِدٌ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَكَذَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. ووقبه: دُخُولُ ظَلَامِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَقَبَ الْعَذَابُ عليهم فكأنّهم ... لحقتهم نار السّموم فأحصدوا أَيْ: دَخَلَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ، وَيُقَالُ: وَقَبَتِ الشَّمْسُ إِذَا غَابَتْ، وَقِيلَ: الْغَاسِقُ: الثُّرَيَّا، وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا سَقَطَتْ كَثُرَتِ الْأَسْقَامُ وَالطَّوَاعِينُ، وَإِذَا طَلَعَتِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَهَذَا مُحْتَاجٌ إِلَى نَقْلٍ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ الثُّرَيَّا بِالْغُسُوقِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ، وَكَأَنَّهُ لَاحَظَ مَعْنَى الْوُقُوبِ وَلَمْ يُلَاحِظْ مَعْنَى الْغُسُوقِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقَمَرُ إِذَا خَسَفَ، وَقِيلَ: إِذَا غَابَ. وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ

_ (1) . وصدر البيت: وعيد أبي قابوس في غير كنهه. (2) . الأنعام: 96. (3) . الأنعام: 95.

مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا إِلَى الْقَمَرِ لَمَّا طَلَعَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: بَعْدَ إِخْرَاجِهِ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ الْقَمَرَ آيَةُ اللَّيْلِ وَلَا يُوجَدُ لَهُ سُلْطَانٌ إِلَّا فِيهِ، وَهَكَذَا يُقَالُ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الثُّرَيَّا. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الرَّيْبِ يَتَحَيَّنُونَ وَجْبَةَ الْقَمَرِ. وَقِيلَ: الْغَاسِقُ: الْحَيَّةُ إِذَا لَدَغَتْ. وَقِيلَ الْغَاسِقُ: كُلُّ هَاجِمٍ يَضُرُّ كَائِنًا من كَانَ، مِنْ قَوْلِهِمْ غَسَقَتِ الْقُرْحَةُ إِذَا جَرَى صَدِيدُهَا. وَقِيلَ: الْغَاسِقُ: هُوَ السَّائِلُ، وَقَدْ عَرَّفْنَاكَ أَنَّ الرَّاجِحَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ أَنَّ الشَّرَّ فِيهِ أَكْثَرُ، وَالتَّحَرُّزَ مِنَ الشُّرُورِ فِيهِ أَصْعَبُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: اللَّيْلُ أَخْفَى لِلْوَيْلِ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ النَّفَّاثَاتُ: هُنَّ السَّوَاحِرُ، أَيْ: وَمِنْ شَرِّ النُّفُوسِ النَّفَّاثَاتِ، أَوِ النِّسَاءِ النَّفَّاثَاتِ، وَالنَّفْثُ: النَّفْخُ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَرْقِي وَيَسْحَرُ، قِيلَ: مَعَ رِيقٍ، وَقِيلَ: بِدُونِ رِيقٍ، وَالْعُقَدُ: جَمْعُ عُقْدَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُنَّ كُنْ يَنْفُثْنَ فِي عُقَدِ الْخُيُوطِ حِينَ يَسْحَرْنَ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: فَإِنْ يَبْرَأْ فَلَمْ أَنْفُثْ عَلَيْهِ ... وَإِنْ يُفْقَدْ فَحَقٌّ لَهُ الْفُقُودُ وقول متمّم بن نويرة: نفثت فِي الْخَيْطِ شَبِيهَ الرُّقَى ... مِنْ خَشْيَةِ الْجِنَّةِ وَالْحَاسِدِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النَّفَّاثَاتُ هُنَّ بَنَاتُ لبيد الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيِّ، سَحَرْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: النَّفَّاثاتِ جَمْعُ: نَفَّاثَةٍ عَلَى المبالغة. وقرأ يعقوب وعبد الرّحمن بن سابط وعيسى بن عمر النَّفَّاثاتِ جَمْعُ: نَافِثَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ النَّفَّاثاتِ بِضَمِّ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو الرَّبِيعِ النَّفَثَاتُ بِدُونِ أَلِفٍ. وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ الْحَسَدُ: تَمَنِّي زَوَالِ النعمة التي أنعم الله بها عَلَى إِيقَاعِ الشَّرِّ بِالْمَحْسُودِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمْ أَرَ ظَالِمًا أَشْبَهَ بِالْمَظْلُومِ مِنْ حَاسِدٍ. وَقَدْ نَظَمَ الشَّاعِرُ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: قُلْ لِلْحَسُودِ إِذَا تَنَفَّسَ طَعْنَةً ... يَا ظَالِمًا وَكَأَنَّهُ مَظْلُومُ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِرْشَادَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ كُلِّ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ الشُّرُورِ عَلَى الْخُصُوصِ مَعَ انْدِرَاجِهِ تَحْتَ الْعُمُومِ لِزِيَادَةِ شَرِّهِ وَمَزِيدِ ضُرِّهِ، وَهُوَ الْغَاسِقُ وَالنَّفَّاثَاتُ وَالْحَاسِدُ، فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ لِمَا فِيهِمْ مِنْ مَزِيدِ الشَّرِّ حَقِيقُونَ بِإِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالذِّكْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبْسَةَ أَتَدْرِي مَا الْفَلَقُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: بِئْرٌ فِي جَهَنَّمَ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ قَوْلِ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ غَيْرَ مَرْفُوعٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ هَلْ تَدْرِي مَا الفلق؟ باب في النار إذا فتح سُعِّرَتْ جَهَنَّمُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ

عَزَّ وَجَلَّ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فَقَالَ: هُوَ سِجْنٌ فِي جَهَنَّمَ، يُحْبَسُ فِيهِ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَتَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْفَلَقُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ» . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً ثَابِتَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا وَاجِبًا، وَالْقَوْلُ بِهَا مُتَعَيَّنًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْفَلَقُ سِجْنٌ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الْفَلَقُ: الصُّبْحُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْفَلَقُ: الْخَلْقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ قال: النَّجْمُ: هُوَ الْغَاسِقُ، وَهُوَ الثُّرَيَّا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جرير وابن أبي حاتم، ومن وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ غَيْرَ مَرْفُوعٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا تأويل هذا، وتأويل مَا وَرَدَ أَنَّ الْغَاسِقَ الْقَمَرُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ارْتَفَعَتِ النُّجُومُ رُفِعَتْ كُلُّ عَاهَةٍ عَنْ كُلِّ بَلَدٍ» . وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَاسِقَ هُوَ النَّجْمُ أَوِ النُّجُومُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ قَالَ: اللَّيْلُ إِذَا أَقْبَلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ قَالَ: السَّاحِرَاتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ مَا خَالَطَ السِّحْرَ مِنَ الرُّقَى. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقَالَ: أَلَا أَرْقِيكَ بَرُقْيَةٍ رَقَانِي بِهَا جِبْرِيلُ؟ فَقُلْتُ: بَلَى بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ وَاللَّهُ يَشْفِيكَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ فِيكَ» مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ- وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ فَرَقَى بِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ قال: نفس ابن آدم وعينه.

سورة الناس

سورة النّاس وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِهَا مَكِّيَّةً أَوْ مَدَنِيَّةً كَالْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَلَقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ بِمَكَّةَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْفَلَقِ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي فَضْلِهَا، فَارْجِعْ إِلَيْهِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) قَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُلْ أَعُوذُ بِالْهَمْزَةِ. وَقُرِئَ بِحَذْفِهَا وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى اللَّامِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَرْكِ الْإِمَالَةِ فِي النَّاسِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالْإِمَالَةِ. وَمَعْنَى رَبِّ النَّاسِ: مَالِكُ أَمْرِهِمْ وَمُصْلِحُ أَحْوَالِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ رَبِّ النَّاسِ مَعَ أَنَّهُ رَبُّ جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شَرَفِهِمْ، وَلِكَوْنِ الِاسْتِعَاذَةِ وَقَعَتْ مِنْ شَرِّ مَا يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِهِمْ، وَقَوْلُهُ: مَلِكِ النَّاسِ عَطْفُ بَيَانٍ جِيءَ بِهِ لِبَيَانِ أَنْ رَبِّيَّتَهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَتْ كربية سائر الملاك لما تحت أيديهم ممن مَمَالِيكِهِمْ، بَلْ بِطَرِيقِ الْمُلْكِ الْكَامِلِ، وَالسُّلْطَانِ الْقَاهِرِ إِلهِ النَّاسِ هُوَ أَيْضًا عَطْفُ بَيَانٍ كَالَّذِي قَبْلَهُ لِبَيَانِ أَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ وَمُلْكَهُ قَدِ انْضَمَّ إِلَيْهِمَا الْمَعْبُودِيَّةُ الْمُؤَسَّسَةُ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ، الْمُقْتَضِيَةِ لِلْقُدْرَةِ التَّامَّةِ عَلَى التَّصَرُّفِ الْكُلِّيِّ بِالِاتِّحَادِ وَالْإِعْدَامِ، وَأَيْضًا الرَّبُّ قَدْ يَكُونُ مَلِكًا، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَلِكًا، كَمَا يُقَالُ رَبُّ الدَّارِ وَرَبُّ الْمَتَاعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» فَبَيَّنَ أَنَّهُ مَلِكُ النَّاسِ. ثُمَّ الْمَلِكُ قَدْ يَكُونُ إِلَهًا، وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِلَهٌ لِأَنَّ اسْمَ الْإِلَهِ خَاصٌّ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ، وَأَيْضًا بَدَأَ بِاسْمِ الرَّبِّ وَهُوَ اسْمٌ لِمَنْ قَامَ بِتَدْبِيرِهِ وَإِصْلَاحِهِ مِنْ أَوَائِلِ عُمُرِهِ إِلَى أَنْ صَارَ عَاقِلًا كَامِلًا، فَحِينَئِذٍ عَرَفَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ مَلِكُ النَّاسِ. ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَازِمَةٌ لَهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ خَالِقَهُ إِلَهٌ مَعْبُودٌ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إِلَهُ النَّاسِ، وَكَرَّرَ لَفْظَ النَّاسِ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَوَاضِعِ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ يَحْتَاجُ إِلَى مزية الإظهار، ولأن التكرير يقتضي مزيد شَرَفِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ بِمَعْنَى الِاسْمِ، أَيِ: الْمُوَسْوِسِ، وَبِكَسْرِهَا الْمَصْدَرُ، أَيِ: الْوَسْوَسَةُ، كَالزِّلْزَالِ بِمَعْنَى الزَّلْزَلَةِ، وقيل: هو بالفتح اسم بمعنى

_ (1) . التوبة: 31.

الْوَسْوَسَةِ، وَالْوَسْوَسَةُ: هِيَ حَدِيثُ النَّفْسِ: يُقَالُ: وَسْوَسَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَسْوَسَةً، أَيْ: حَدَّثَتْهُ حَدِيثًا، وَأَصْلُهَا، الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِأَصْوَاتِ الْحَلْيِ وَسْوَاسٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا انْصَرَفَتْ «1» قَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَسْوَاسُ هُوَ الشَّيْطَانُ، أَيْ: ذِي الْوَسْوَاسِ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْوَسْوَاسَ ابْنٌ لِإِبْلِيسَ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْوَسْوَسَةِ فِي تَفْسِيرِ قوله: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ «2» ومعنى الْخَنَّاسِ كثير الخنس، وهو التأخر، يُقَالُ: خَنَسَ يَخْنِسُ إِذَا تَأَخَّرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ أبي العلاء الْحَضْرَمِيِّ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ دحسوا بِالشَّرِّ فَاعْفُ تَكَرُّمًا ... وَإِنْ خَنَسُوا عِنْدَ الْحَدِيثِ فَلَا تَسَلْ قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ وَانْقَبَضَ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ انْبَسَطَ عَلَى الْقَلْبِ. وَوُصِفَ بِالْخَنَّاسِ لِأَنَّهُ كَثِيرُ الِاخْتِفَاءِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ «3» يَعْنِي النُّجُومَ لِاخْتِفَائِهَا بَعْدَ ظُهُورِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: الْخَنَّاسُ اسْمٌ لِابْنِ إِبْلِيسَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَسْوَاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ الْمَوْصُولُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ نَعْتًا لِلْوَسْوَاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَسْوَسَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَهُ خُرْطُومٌ كَخُرْطُومِ الْكَلْبِ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ، فَإِذَا غَفَلَ ابْنُ آدَمَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَسْوَسَ لَهُ، وَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ خَنَسَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الشَّيْطَانَ فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فِي عُرُوقِهِ، سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَوَسْوَسَتُهُ: هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى طَاعَتِهِ بِكَلَامٍ خَفِيٍّ يَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ صَوْتٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الَّذِي يُوَسْوِسُ بِأَنَّهُ ضَرْبَانِ: جِنِّيٌّ وَإِنْسِيٌّ، فَقَالَ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَمَّا شَيْطَانُ الْجِنِّ فَيُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، وَأَمَّا شَيْطَانُ الْإِنْسِ فَوَسْوَسَتُهُ فِي صُدُورِ النَّاسِ: أَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ كَالنَّاصِحِ الْمُشْفِقِ فَيُوقِعُ فِي الصَّدْرِ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ النَّصِيحَةِ مَا يُوقِعُ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِوَسْوَسَتِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ «4» ويجوز أن يكون متعلقا ب «يوسوس» أَيْ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْجِنَّةِ وَمِنْ جِهَةِ النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلنَّاسِ. قَالَ الرَّازِيُّ وَقَالَ قَوْمٌ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ قِسْمَانِ مُنْدَرِجَانِ تَحْتَ قَوْلِهِ: فِي صُدُورِ النَّاسِ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يُسَمَّى إِنْسَانًا، وَالْإِنْسَانُ أَيْضًا يُسَمَّى إِنْسَانًا، فَيَكُونُ لَفْظُ الْإِنْسَانِ وَاقِعًا عَلَى الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ بِالِاشْتِرَاكِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْإِنْسَانِ يَنْدَرِجُ فِيهِ لَفْظُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مَا رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فَقِيلَ لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ. وَأَيْضًا قَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ رِجَالًا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ «5» وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنَ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ في صدور الناس، ومن الجنة والناس،

_ (1) . وعجز البيت: كما استعان بريح عشرق زجل. والعشرق: نبت له ورق فإذا يبس طار. ونبت زجل: صوّتت فيه الريح. (2) . الأعراف: 20. (3) . التكوير: 15. (4) . الأنعام: 112. (5) . الجن: 6.

كَأَنَّهُ اسْتَعَاذَ رَبَّهُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ اسْتَعَاذَ بِرَبِّهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ النَّاسِي وَسَقَطَتِ الْيَاءُ كَسُقُوطِهَا في قوله: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ «1» ثُمَّ بَيَّنَ بِالْجِنَّةِ وَالنَّاسِ لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْغَالِبِ مُبْتَلًى بِالنِّسْيَانِ، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالنَّاسِ مَعْطُوفًا عَلَى الْوَسْوَاسِ، أَيْ: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ وَمِنْ شَرِّ النَّاسِ كَأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَمَّا شَيْطَانُ الْجِنِّ فَيُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، وَأَمَّا شَيْطَانُ الْإِنْسِ فَيَأْتِي عَلَانِيَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ مِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ، فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَقِيلَ: إِنَّ إِبْلِيسَ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الْجِنِّ كَمَا يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الْإِنْسِ، وَوَاحِدُ الْجِنَّةِ: جِنِّيٌّ، كَمَا أَنَّ وَاحِدَ الْإِنْسِ إِنْسِيٌّ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَإِنْ كَانَ وَسْوَسَةُ الْإِنْسِ فِي صُدُورِ النَّاسِ لَا تَكُونُ إِلَّا بالمعنى الّذي قدّمنا، ويكون هذا البيان تذكير الثَّقَلَيْنِ لِلْإِرْشَادِ إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنْهُمَا ارْتَفَعَتْ عَنْهُ مِحَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ قَالَ: مَثَلُ الشَّيْطَانِ كَمَثَلِ ابْنِ عُرْسٍ وَاضِعٌ فَمَهُ عَلَى فَمِ الْقَلْبِ فَيُوَسْوِسُ إِلَيْهِ، فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِنْ سَكَتَ عَادَ إِلَيْهِ، فَهُوَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ. وأخرج ابن أبي الدنيا في مكائد الشَّيْطَانِ، وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ شَاهِينَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِنْ نَسِيَهُ الْتَقَمَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ قَالَ: الشَّيْطَانُ جَاثٍ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَا وَغَفَلَ وَسْوَسَ، وَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى قَلْبِهِ الْوَسْوَاسُ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ وَقَدْ وَرَدَ فِي مَعْنَى هَذَا غَيْرُهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ مُطْلَقَ ذِكْرِ اللَّهِ يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَاذَةِ، وَلِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ حَاصِلُهَا: الْفَوْزُ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَإِلَى هُنَا انْتَهَى هَذَا التَّفْسِيرُ الْمُبَارَكُ بِقَلَمِ مُؤَلِّفِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّوْكَانِيِّ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْهُ فِي ضَحْوَةِ يَوْمِ السَّبْتِ لَعَلَّهُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، أَحَدِ شُهُورِ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ مِائَتَيْنِ وَأَلْفِ سَنَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ. اللَّهُمَّ كَمَا مَنَنْتَ عَلَيَّ بِإِكْمَالِ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَأَعَنْتَنِي عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَتَفَضَّلْتَ عَلَيَّ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ، فامنن عليّ بقبوله، واجعله لي ذخيرة عِنْدَكَ، وَأَجْزِلْ لِيَ الْمَثُوبَةَ بِمَا لَاقَيْتُهُ مِنَ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ فِي تَحْرِيرِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَانْفَعْ بِهِ مَنْ شِئْتَ مِنْ عِبَادِكَ لِيَدُومَ لِيَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِي، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ الجليل من التصنيف، واجعله

_ (1) . القمر: 6.

خَالِصًا لَكَ، وَتَجَاوَزْ عَنِّي إِذَا خَطَرَ لِي مِنْ خَوَاطِرِ السُّوءِ مَا فِيهِ شَائِبَةٌ تُخَالِفُ الْإِخْلَاصَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يُطَابِقُ مُرَادَكَ، فَإِنِّي لَمْ أَقْصِدْ فِي جَمِيعِ أَبْحَاثِي فِيهِ إِلَّا إِصَابَةَ الْحَقِّ وَمُوَافَقَةَ مَا تَرْضَاهُ، فَإِنْ أَخْطَأْتُ فَأَنْتَ غَافِرُ الْخَطِيئَاتِ، وَمُسْبِلُ ذَيْلِ السِّتْرِ عَلَى الْهَفَوَاتِ، يَا بَارِئَ الْبَرِيَّاتِ، وَأَحْمَدُكَ لَا أُحْصِي حَمْدًا لَكَ، وَأَشْكُرُكَ لَا أُحْصِي شُكْرَكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ على رسولك. تَمَّ سَمَاعًا عَلَى مُؤَلِّفِهِ، حَفِظَ اللَّهُ عِزَّتَهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ صُبْحَ الْيَوْمِ الْخَامِسِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ (1241) هـ. كَتَبَهُ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات الآيات الصفحة الآيات الصفحة سورة الجاثية (45) تفسير الآيات (1- 15) 5 تفسير الآيات (16- 26) 9 تفسير الآيات (27- 37) 12 سورة الأحقاف (46) تفسير الآيات (1- 9) 16 تفسير الآيات (10- 36) 19 تفسير الآيات (17- 20) 24 تفسير الآيات (21- 28) 27 تفسير الآيات (29- 35) 30 سورة محمد (47) تفسير الآيات (1- 12) 35 تفسير الآيات (13- 19) 40 تفسير الآيات (20- 31) 45 تفسير الآيات (32- 38) 49 سورة الفتح (48) تفسير الآيات (1- 7) 52 تفسير الآيات (8- 15) 56 تفسير الآيات (16- 24) 59 تفسير الآيات (25- 29) 63 سورة الحجرات (49) تفسير الآيات (1- 8) 69 تفسير الآيات (9- 12) 73 تفسير الآيات (13- 18) 78 سورة ق (50) تفسير الآيات (1- 15) 83 تفسير الآيات (16- 35) 88 تفسير الآيات (36- 45) 94 سورة الذاريات (51) تفسير الآيات (1- 23) 98 تفسير الآيات (24- 37) 105 تفسير الآيات (38- 60) 107 سورة الطور (52) تفسير الآيات (1- 20) 113 تفسير الآيات (21- 34) 117 تفسير الآيات (35- 49) 121 سورة النجم (53) تفسير الآيات (1- 26) 125 تفسير الآيات (27- 42) 134 تفسير الآيات (43- 62) 139 سورة القمر (54) تفسير الآيات (1- 17) 144 تفسير الآيات (18- 40) 150 تفسير الآيات (41- 55) 154 سورة الرّحمن (55) تفسير الآيات (1- 25) 157 تفسير الآيات (26- 45) 163 تفسير الآيات (46- 78) 167

سورة الواقعة (56) تفسير الآيات (1- 26) 176 تفسير الآيات (27- 56) 182 تفسير الآيات (57- 74) 188 تفسير الآيات (75- 96) 191 سورة الحديد (57) تفسير الآيات (1- 6) 198 تفسير الآيات (7- 11) 199 تفسير الآيات (12- 15) 202 تفسير الآيات (16- 19) 206 تفسير الآيات (20- 24) 209 تفسير الآيات (25- 29) 212 سورة المجادلة (58) تفسير الآيات (1- 4) 217 تفسير الآيات (5- 10) 222 تفسير الآيات (11- 13) 225 تفسير الآيات (14- 22) 229 سورة الحشر (59) تفسير الآيات (1- 7) 232 تفسير الآيات (8- 10) 238 تفسير الآيات (11- 20) 242 تفسير الآيات (21- 24) 246 سورة الممتحنة (60) تفسير الآيات (1- 3) 250 تفسير الآيات (4- 9) 252 تفسير الآيات (10- 13) 255 سورة الصف (61) تفسير الآيات (1- 9) 261 تفسير الآيات (10- 14) 264 سورة الجمعة (62) تفسير الآيات (1- 8) 267 تفسير الآيات (9- 11) 2270 سورة المنافقون (63) تفسير الآيات (1- 8) 274 تفسير الآيات (9- 11) 278 سورة الطلاق (65) تفسير الآيات (1- 5) 287 تفسير الآيتين (6- 7) 292 تفسير الآيات (8- 12) 294 سورة التحريم (66) تفسير الآيات (1- 5) 297 تفسير الآيات (6- 8) 301 تفسير الآيات (9- 12) 304 سورة الملك (67) تفسير الآيات (1- 11) 307 تفسير الآيات (12- 21) 312 تفسير الآيات (22- 30) 314 سورة ن (68) تفسير الآيات (1- 16) 318 تفسير الآيات (17- 33) 323 تفسير الآيات (34- 52) 326 سورة التغابن (64) تفسير الآيات (1- 6) 280 تفسير الآيات (7- 13) 282 تفسير الآيات (14- 18) 284 سورة الحاقة (69) تفسير الآيات (1- 18) 333 تفسير الآيات (19- 52) 338 سورة سأل سائل (70) تفسير الآيات (1- 18) 344 تفسير الآيات (19- 39) 349 تفسير الآيات (40- 44) 352

سورة نوح (71) تفسير الآيات (1- 20) 355 تفسير الآيات (21- 28) 359 سورة الجن (72) تفسير الآيات (1- 13) 363 تفسير الآيات (14- 28) 369 سورة المزمل (73) تفسير الآيات (1- 18) 377 تفسير الآيات (19- 20) 385 سورة المدثر (74) تفسير الآيات (1- 30) 388 تفسير الآيات (31- 37) 396 تفسير الآيات (38- 56) 399 سورة القيامة (75) تفسير الآيات (1- 25) 402 تفسير الآيات (26- 40) 410 سورة الإنسان (76) تفسير الآيات (1- 12) 414 تفسير الآيات (13- 22) 421 تفسير الآيات (23- 31) 426 سورة المرسلات (77) تفسير الآيات (1- 28) 429 تفسير الآيات (29- 50) 433 سورة عمّ (78) تفسير الآيات (1- 30) 437 تفسير الآيات (31- 40) 445 سورة النازعات (79) تفسير الآيات (1- 26) 449 تفسير الآيات (27- 46) 456 سورة عبس (80) تفسير الآيات (1- 42) 2462 سورة التكوير (81) تفسير الآيات (1- 29) 469 سورة الانفطار (82) تفسير الآيات (1- 19) 478 سورة المطففين (83) تفسير الآيات (1- 17) 482 تفسير الآيات (18- 36) 487 سورة الانشقاق (84) تفسير الآيات (1- 25) 491 سورة البروج (85) تفسير الآيات (1- 22) 498 سورة الطارق (86) تفسير الآيات (1- 17) 507 سورة الأعلى (87) تفسير الآيات (1- 19) 513 سورة الغاشية (88) تفسير الآيات (1- 26) 520 سورة الفجر (89) تفسير الآيات (1- 14) 526 تفسير الآيات (15- 30) 533 سورة البلد (90) تفسير الآيات (1- 20) 538 سورة الشمس (91) تفسير الآيات (1- 15) 545 سورة الليل (92) تفسير الآيات (1- 21) 550 سورة الضحى (93) تفسير الآيات (1- 11) 556 سورة ألم نشرح (94) تفسير الآيات (1- 8) 562

سورة التين (95) تفسير الآيات (1- 8) 566 سورة اقرأ (96) تفسير الآيات (1- 19) 570 سورة القدر (97) تفسير الآيات (1- 5) 575 سورة لم يكن (98) تفسير الآيات (1- 8) 578 سورة الزلزلة (99) تفسير الآيات (1- 8) 583 سورة العاديات (100) تفسير الآيات (1- 11) 587 سورة القارعة (101) تفسير الآيات (1- 11) 593 سورة التكاثر (102) تفسير الآيات (1- 8) 596 سورة العصر (103) تفسير الآيات (1- 3) 600 سورة الهمزة (104) تفسير الآيات (1- 9) 2602 سورة الفيل (105) تفسير الآيات (1- 5) 605 سورة قريش (106) تفسير الآيات (1- 4) 608 سورة أرأيت (107) تفسير الآيات (1- 7) 611 سورة الكوثر (108) تفسير الآيات (1- 3) 614 سورة الكافرون (109) تفسير الآيات (1- 6) 619 سورة النصر (110) تفسير الآيات (1- 3) 623 سورة تبت (111) تفسير الآيات (1- 5) 627 سورة الإخلاص (112) تفسير الآيات (1- 4) 633 سورة الفلق (113) تفسير الآيات (1- 5) 638 سورة الناس (114) تفسير الآيات (1- 6) 642 فهرس الموضوعات 647

الجزء السادس

الجزء السادس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين، حمدا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده. يا ربنا لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سلطانك. سبحانك لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ على نفسك. والصّلاة والسلام الأتمّان الأكملان على سيّدنا محمد، خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أمّا بعد: فقد رأينا- بتوفيق الله تعالى- أن نضع فهارس علمية لكتاب «فتح القدير» للإمام الشوكاني- رحمه الله- تفتح آفاقا رحبة أمام الدّارسين، وتيسّر تناول الكتاب لشداة العلم وطلّاب المعرفة، من جميع جوانبه، وبخاصة طلّاب المعاهد الشرعية والدراسات الجامعية العليا بحيث تجعل هذا الكتاب سهل التّناول، قريب المأخذ، فهو مفتاح دلالة لمن رام شيئا من كنوزه ولآلئه. وقد تمحورت هذه الفهارس على ستّة محاور هي: أولا- الأحاديث النبوية : وذلك لمعرفة مكان كلّ حديث، من خلال معرفة طرفه، وكانت الفهرسة ألفبائية لكلّ حديث وارد في التفسير، حسب نقل المؤلّف له، أو لجزء منه، مع ذكر اسم الراوي إن وجد. ثانيا- الآثار المروية : وقد أفردناها في فهرس مستقل، وفق الخطّة التي تقدّمت في فهرس الأحاديث النبوية. ثالثا- الشعر : وقد فهرسنا الأبيات حسب الروي ألفبائيا، مع ذكر اسم الشاعر إن وجد. وأفردنا فهرسا آخر لأنصاف الأبيات. رابعا- القراءات القرآنية : وكانت فهرستها وفق ورودها في كلّ سورة، مبتدئين بسورة الفاتحة، منتهين بسورة الناس. فكنّا نذكر رقم الآية، ثم موضع الشاهد، مع تحديد الجزء والصفحة. خامسا- المفردات اللغوية : وهذا الفهرس جدير بالاهتمام والتدوين وذلك لما يحمله من دلالات للمعاني القرآنية الواردة، متّبعين خطّة فهرسة القراءات القرآنية. سادسا- الموضوعات العامة : وهي بمثابة كشّاف تحليلي تفصيلي لكلّ ما ورد في هذا التفسير، من رؤوس

المسائل والأحكام الفقهية، فصّلناها على أكثر من عشرين عنوانا رئيسيا، وتحت كل عنوان تفريعات مسهبة تغني وتفيد. فمن أراد موضوعا ما، ما عليه إلا النّظر في هذا الفهرس، فيجد ما تكلّم عليه الإمام الشوكاني في كامل تفسيره، فيحصل على مراده بيسر وسهولة. وهذا الفهرس له أهمية بالغة للدارسين والباحثين. هذا، والله نسأل أن نكون قد وفّقنا في تنظيم هذه الفهارس، وتبويبها، مع الاستقصاء والشمول. والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصّالحات. دمشق الشام في: 8/ 2/ 1414 هـ مكتب التحقيق العلمي 27/ 7/ 1993 م في دار ابن كثير ودار الكلم الطّيّب

(أ) فهرس الأحاديث النبوية

(أ) فهرس الأحاديث النبوية

حرف الألف

حرف الألف اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم سادات: ابن عباس: 4/ 276 اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات: جابر: 5/ 241 اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ: أبو سعيد: 3/ 167 اتقوا هذه المذابح: ابن عمر: 1/ 389 اثنان هما قرآن وهما يشفيان: أبو هريرة: 1/ 356 اجتمعت قريش يوما فقالوا انظروا أعلمكم: جابر: 4/ 578 اجتنبوا السبع الموبقات: أبو هريرة: 1/ 529 و 2/ 336 اجعلوها في ركوعكم: عقبة بن عامر: 5/ 197 احتكار الطعام بمكة إلحاد: ابن عمر: 3/ 533 احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه: يعلى بن أمية: 3/ 533 احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن: أبو هريرة: 5/ 631 احفظ عورتك إلا من زوجتك: بهز بن حكيم: 4/ 30 احكم فيهم: عائشة: 4/ 317 اختر منهن أربعا وخلّ سائرهن: الحارث الأسدي: 1/ 488 اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان: ربعي: 4/ 25 اخْرُجْ يَا أَبَا بَكْرٍ فَهَذَا حِينَ دَلَكَتِ الشمس: جابر: 3/ 303 اخرجوا إلى أرض المحشر: ابن عباس: 5/ 237 ادعوا الله وحده الذي إن مسّك: رجل من بلجهم: 4/ 171 ادعي زوجك وابنيك حسنا وحسينا: أم سلمة: 4/ 321 اذكروني يا معشر العباد بطاعتي أذكر كم بمغفرتي: ابن عباس: 1/ 183 اذهب فاذكرها: علي: 4/ 329 ارجع فأحسن وضوءك:: 2/ 22 ارجع فقل السلام عليكم أأدخل؟ كلدة: 4/ 25 ارفع إزارك، كل خلق الله حسن: الشريد بن سويد: 4/ 290 ارموا يا بني إسماعيل:: 1/ 498 استأخروا، استأخروا: سعيد بن المسيب: 2/ 338 استبطأ الله قلوب المهاجرين: أنس: 5/ 208

استكثروا من الباقيات الصالحات: أبو سعيد الخدري: 3/ 345 استيقظ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نومه وهو محمر وجهه: زينب بنت جحش: 3/ 372 اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جارك: عبد الله بن الزبير: 1/ 554 اسقه عسلا: أبو سعيد: 3/ 213 اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: أسماء بنت يزيد: 1/ 188 اسم الله على كل مسلم: أبو هريرة: 2/ 180 اسْمَ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ: سعد بن أبي وقاص: 3/ 52 اشتكت النار إلى ربّها: أبو هريرة: 5/ 425 اصبري فإنك أول أهلي لحاقا بي: ابن عباس: 5/ 622 اعملوا وأبشروا فو الذي نفس محمد بيده: عمران بن حصين: 3/ 519 افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة: أبو هريرة: 1/ 424 اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بِعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: أبو الدرداء: 1/ 317 اقرأ عليّ: ابن مسعود: 1/ 539 و 1/ 540 اقْرَأِ الْقُرْآنَ يَقُولُ اللَّهُ: شِفَاءٌ لِمَا فِي الصدور: أبو سعيد: 2/ 516 اقرأ قل أعوذ بربّ الفلق: عقبة بن عامر: 5/ 639 اقرأ قل يا أيها الكافرون عند منامك: أنس: 5/ 616 اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم: الصلصال بن: الدلهمس: 1/ 33 اقْرَءُوا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: عقبة بن عامر: 1/ 356 اقرءوا هود يوم الجمعة: كعب: 2/ 544 امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ: الفريعة بنت مالك: 1/ 286 انبعث لها رجل عارم عزيز منيع: عبد الله بن زمعة: 5/ 549 انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ابن مسعود: 5/ 149 انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: أبو رمثة: 4/ 397 انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ: علي: 5/ 252 انظر قرابتك الذين يحتاجون ولا يرثون: قتادة: 1/ 206 اهج المشركين فإن جبريل معك: البراء بن عازب: 4/ 142 ائْتِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا كَانَ فِي الفرج: ابن عباس: 1/ 261 آلَمَ. تَنْزِيلُ تَجِيءُ لَهَا جَنَاحَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: المسيب بن رافع: 4/ 284

آخر أربعاء في الشهر يوم نحس: ابن عباس: 5/ 154 آمرك وإيّاها أن تستكثرا من قول: ابن عباس: 5/ 291 الآن نغزوهم ولا يغزونا: سليمان بن صرد: 4/ 315 أأنت فتشت عن قلبه:: 1/ 112 أبو حذافة: ابن عباس: 2/ 94 أبو وأبو عائشة واليا الناس بعدي: عليّ وابن عباس: 5/ 301 أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الْآيَةَ: أبو العاص: 3/ 227 أتاني جبريل فقال إن ربك: أبو سعيد: 5/ 565 أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت: عقبة بن عمرو: 3/ 303 أتاني الليلة ربي في أحسن صورة:: 4/ 529 أتحب أن أعلمك سورة: أبيّ بن كعب: 1/ 18 أتحب عليّا: ابن عباس: 1/ 310 أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية: شداد بن أوس: 3/ 377 أتدري ما ذاك؟: أسيد بن حضير: 1/ 33 أتدري ما يوم الجمعة: سلمان: 5/ 272 أتدرون ما أخبارها: أبو هريرة: 5/ 585 أتدرون ما الغيبة: أبو هريرة: 5/ 76 أتدرون ما كان لقمان: أبو هريرة: 4/ 276 أتدرون من السابقون: عائشة: 5/ 182 أتردين عليه حديقتك التي أصدقك: ابن عباس: 1/ 276 أترى بما أقول بأسا: عائشة: 5/ 467 أتقعد قعدة المغضوب عليهم: الشريد: 1/ 30 أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أقرئني: ابن عمرو: 5/ 582 أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بر من العراق: سيّار أبو الحكم: 3/ 268 أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محمود بن سيحان ونعيمان بن أحيّ: ابن عباس: 3/ 308 أتى قوم النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: ابن عباس: 4/ 57 أتى النبي صلّى الله عليه وسلم سائل فأمر له بتمرة: أنس: 3/ 118 أتى اليهود النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: زيد بن ثابت: 3/ 143 أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فأكلت معه: عبد الله بن سرجس: 5/ 44 أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يا رسول الله: فروة بن مسيك: 4/ 371

أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم لنبايعه: أميمة: 5/ 259 أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اليمامة: زرعة بن خليفة: 5/ 566 أجب عني اللهم أيده بروح القدس: أبو هريرة: 3/ 143 أَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشمس: أبو هريرة: 2/ 166 أحب الكلام إلى الله ما اصطفاه لملائكة: أبو ذر: 1/ 796 أحد أبوي بلقيس كان جنيّا: أبو هريرة: 4/ 157 أحل لكم ميتتان ودمان:: 2/ 91 أحل لنا ميتتان ودمان:: 2/ 11 و 1/ 195 أَخَذَ بِمَنْكِبِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ثم قال: جابر: 5/ 636 أخذ الله مني الميثاق: أبو مريم الغساني: 4/ 308 أخذ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السبت: أبو هريرة: 1/ 73 أخبرني بهن جبريل آنفا: أنس: 1/ 127 أخرجوا إلي اثني عشر منكم: عبد الله بن أبي بكر: 5/ 266 أخبروني عن شجرة كالرجل المسلم: ابن عمر: 3/ 129 أخر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةٌ العشاء ليلة: ابن مسعود: 1/ 430 أدّ الأمانة إلى من ائتمنك: أبو هريرة: 1/ 555 أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ من خانك:: 1/ 221 أذكر كم الله في أهل بيتي: زيد بن أرقم: 4/ 322 أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيَهُنَّ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ اللَّهِ أربعا: أبو هريرة: 3/ 118 أربع نسوة سادات نساء عالمهن: ابن عباس: 1/ 390 أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم: الأسود بن سريع: 3/ 258 أردنا أمرا وأراد الله غيره:: 1/ 533 أرض بيضاء كأنها فضة: ابن مسعود: 3/ 143 أشترط لربي أن تعبدوه: محمد بن كعب: 2/ 465 أَشْرَفَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الدُّنْيَا فَرَأَتْ بَنِي آدَمَ: ابن عمر: 1/ 143 أشفع لأمتي حين يناديني ربي: علي: 5/ 560 أضاف النبي صلّى الله عليه وسلم ضيفا: أبو رافع: 3/ 468 أطت السماء وحق لها أن تئط: أنس: 3/ 277 و 4/ 478 و 5/ 398

أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحوم الخيل: جابر: 3/ 182 أطيعوا السلطان وإن كان عبدا حبشيا:: 2/ 601 أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ: أبو هريرة: 4/ 295 أعذر الله إلى امرئ أخّر عمره: أبو هريرة: 4/ 409 أعطوهم الذي لهم واسألوا الله:: 2/ 601 أعطي يوسف وأمه شطر الحسن: أنس: 3/ 30 أُعْطِيَتْ أُمَّتِي شَيْئًا لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ مِنَ الأمم: ابن عباس: 1/ 185 أعطيت السبع مكان التوراة: وائلة بن الأسقع: 1/ 33 أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة:: 4/ 108 أُعْطِيتُ السُّورَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْأَنْعَامُ مِنَ الذكر الأول: ابن عباس: 3/ 420 أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة: معقل بن يسار: 1/ 356 أعطيت مكان التوراة السبع وأعطيت مكان الزبور: واثلة بن الأسقع: 1/ 478 أُعْطِيتُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: حذيفة: 1/ 356 أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ اللَّهُ لَا إله إلا هو الحّي القيوم: ابن مسعود: 1/ 314 أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يوم القر: عبد الله بن قرط: 2/ 382 أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ: سعد بن أبي وقاص: 2/ 95 أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ: أبو هريرة: 4/ 409 أعوذ بوجهك: أنس: 2/ 144 أغرق الله فرعون فقال: ابن عباس: 2/ 536 أغرق الله فيه فرعون وقومه: أنس: 5/ 154 أفتان أنت يا معاذ: معاذ: 5/ 526 أفضل الذكر لا إله إلا الله: جابر: 1/ 24 أفضل الذكر لا إله إلا الله: ابن عمرو: 5/ 44 أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح: أم كلثوم: 1/ 200 أفضل نساء أهل الجنة خديجة: ابن عباس: 5/ 306 أفلح الرويجل: ابن عمرو: 5/ 582 أفلحت نفس زكاها الله: ابن عباس: 5/ 549 أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جابر: 4/ 323 أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا يا أبا القاسم: ابن عباس: 3/ 92

أقتلته بعد ما قال آمنت بالله: عبد الله بن أبي حدرد: 1/ 580 أكرموا الخبز فإن الله أنزله: عبد الله بن أبي حرام: 2/ 260 و 2/ 261 أَكْرِمُوا الْخُبْزَ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ مِنْ بَرَكَاتِ السماء: موسى الطائفي: 2/ 260 أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون:: 4/ 332 أكثروا من الصلاة عليّ: أبو الدرداء: 5/ 503 أكل الخبز والنوم في الظل: أبو الدرداء: 5/ 598 ألحقوا الفرائض بأهلها:: 1/ 496، 501، 626 ألك بينة؟ قلت: لا: الأشعث بن قيس: 1/ 406 أَلَمْ يُقَلِ اللَّهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا: ابن عباس: 5/ 221 الْأَلْوَاحُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى كَانَتْ مِنْ سدر الجنة: جعفر بن محمد: 2/ 280 أليس تحتذون النعال: عكرمة: 5/ 598 أليس الله يقول في سدر مخضود: أبو أمامة: 5/ 186 أمّ القرآن هي السبع المثاني: أبو هريرة: 3/ 174 أما أنا فأصوم وأفطر:: 2/ 600 أما إن ذلك سيكون: محمد بن لبيد: 5/ 598 أما إنّ ربك يحب الحمد: الأسود بن سريع: 1/ 24 أما إن الله ورسوله لغنيان عنها:: 1/ 453 أَمَّا أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَتُجْزَوْنَ بذلك في الدنيا: أبو بكر: 1/ 599 أما إنه سيقال لك هذا: ابن عباس: 5/ 537 أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها: سعد بن أبي وقاص: 2/ 145 أما إنهم سيغلبون: ابن عباس: 4/ 249 أَمَا إِنِّي عَلَى مَا تَرَوْنَ بِحَمْدِ اللَّهِ قد قرأت السبع الطوال: أنس: 1/ 479 أما أهلها الذين هم أهلها: أبو سعيد: 3/ 446 أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا:: 2/ 353 أَمَا شَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عمران: أبو أمامة: 4/ 187 أَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالْإِسْلَامُ وَمَا سَوَّى مِنْ خَلْقِكَ: ابن عباس : 4/ 280 أما مررت بأرض مجدبة؟: أبو رزين: 4/ 394 أما هذا فقد برىء من الشرك:: 5/ 617 أَمَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ قُلْ هُوَ الله أحد ثلاث مرات: أنس: 5/ 630

أمتي ثلاثة أثلاث: عوف بن مالك: 4/ 404 أمسك أربعا وفارق الأخرى: نوفل بن معاوية: 1/ 488 أمسك منهن أربعا وفارق سائرهن: ابن عمر: 1/ 487 أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم:: 2/ 424 أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: أبو هريرة: 4/ 453 أمرت بالشريعة السمحة:: 1/ 544 أمرت بقرية تأكل القرى: أبو هريرة: 4/ 309 أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ نستغفر بالأسحار: أنس: 1/ 373 أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ نصلي ركعتي الضحى: عقبة بن عامر: 5/ 245 أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ نقرأ بفاتحة الكتاب:: 5/ 317 أن امرأة من اليهود أصابت فاحشة: عكرمة: 1/ 122 أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لن تنالوا البر: أنس: 1/ 413 أَنَّ أَبَا مُعَيْطٍ كَانَ يَجْلِسُ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم بمكة: ابن عباس: 4/ 86 و 87 أن أم سلمة سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إلى جنب: أم سلمة: 5/ 113 أَنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَوْنَ أَهْلَ عِلِّيِّينَ:: 3/ 262 أن بعض نساء الأنصار سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التجبية: عائشة: 1/ 261 أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ هَمُّوا أَنْ يَطْرَحُوا حَجَرًا على النبي صلّى الله عليه وسلم:: 2/ 25 أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنَّ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا: أنس: 1/ 149 أن تجعل لله ندا وهو خلقك: ابن مسعود: 1/ 62 و 4/ 106 أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: عمر: 5/ 106 أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ: معاوية بن حيدة: 1/ 273 أن تعبد الله كأنك تراه: عمر بن الخطاب: 4/ 261 و 278 أنت بذاك: سلمة بن صخر: 5/ 221 أنت زيد بن حارثة بن شراحيل: ابن عمر: 4/ 303 أنت الذي تقول ثبت الله: البراء بن عازب: 4/ 143 أنت الهادي يا عليّ: ابن عباس: 3/ 84 أنت ومالك لأبيك:: 4/ 62 أَنْتُمْ بِعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ يَوْمَ لَقِيَ جَالُوتَ: قتادة: 1/ 307 أنتم حجّاج: ابن عمر: 1/ 233 أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه: عمر: 5/ 106

أَنَّ ثَقِيفًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أجلنا ستة حتى يهدى لآلهتنا: ابْنِ عَبَّاسٍ: 3/ 297 أَنَّ حَبْرًا مِنَ الْيَهُودِ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الله بن عباس: 3/ 5 أَنَّ خَالِدَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم: عبيد الله: 1/ 380 أن الربيع بنت معوّذ اختلعت عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: الربيع: 1/ 277 أَنَّ رَجُلًا أَتَى بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم فكلّمها: ابن عباس: 4/ 344 أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أبو سعيد: 3/ 213 أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بجارية سوداء: أبو هُرَيْرَةَ: 1/ 577 أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:: 2/ 604 إِنِ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إني نزلت محلة قوم:: 1/ 536 أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ العمرة أواجبة هي؟: جَابِرٍ: 1/ 225 أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ليس لي مال: ابن عمر: 1/ 492 أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أحب:: 4/ 219 أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ذو مال كثير: أَنَسٍ: 3/ 268 أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إن لي مملوكين: عائشة: 3/ 488 أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّ المؤمنين:: 4/ 528 أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ في مجلس: أبو هُرَيْرَةَ: 1/ 571 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ قبضة من التراب: أبو أُمَامَةَ: 3/ 440 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدّثهم أن عبدا من عباد الله: ابْنِ عُمَرَ: 1/ 24 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين انصرف من أحد: أبو هُرَيْرَةَ: 4/ 314 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا على قريش حين استعصوا: ابْنِ عَبَّاسٍ: 3/ 586 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل أي العباد أفضل درجة: أبو سَعِيدٍ: 4/ 332 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تحصن: زيد بن خالد: 1/ 520 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الراسخين في العلم: أبو الدَّرْدَاءِ: 1/ 367 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بهم الهاجرة: أَنَسٍ: 5/ 550 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ (اهدنا الصراط المستقيم) : أبو هُرَيْرَةَ: 1/ 28 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ بهذه السورة قل يا أيها الكافرون: جَابِرٍ: 5/ 617 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ البسملة في أول الفاتحة: أُمِّ سَلَمَةَ: 1/ 20 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في الركعتين قبل الفجر: ابْنِ عُمَرَ: 5/ 617 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا اشتكى يقرأ: عائشة : 5/ 636

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ذَكَرَ شُعَيْبًا قَالَ: ذَاكَ خَطِيبُ الأنبياء ابن أبي سَلَمَةَ: 2/ 258 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سافر ركب راحلة: ابْنِ عُمَرَ: 4/ 630 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي على راحلة قبل المشرق: جَابِرٍ: 1/ 155 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سورة آل عمران: أبو هُرَيْرَةَ: 1/ 476 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفتتح الصلاة ببسم الله: ابْنِ عَبَّاسٍ: 1/ 20 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ: بُرَيْدَةَ: 5/ 545 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في العيدين: النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: 5/ 513 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ مالك يوم الدين: أبو هُرَيْرَةَ: 1/ 26 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ المسبحات: العرباض: 5/ 198 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمر بباب فاطمة: أَنَسٍ: 4/ 322 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يعرف فصل السورة حتى: ابْنِ عَبَّاسٍ: 1/ 20 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقصى: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ: 3/ 277 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ: الحسن: 1/ 525 أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إتيان النساء في أدبارهن: خزيمة بن ثابت: 1/ 262 أن عبد الله بن عمر سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ابن عمر: 4/ 272 أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ بسم الله: ابن عباس: 1/ 22 أَنَّ قُرَيْشًا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقالوا له إن كنت أرسلت: جبير بن نفير: 3/ 296 أن الكبر بطر الحق وغمط الناس:: 1/ 79 أن كرسيه وسع السماوات والأرض: عمر: 1/ 313 أَنَّ الْكَمْأَةَ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى موسى: أم سعيد بن زيد: 1/ 103 إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا حَدَّثَتْ به نفسها:: 1/ 350 أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ابن عباس: 4/ 646 أَنَّ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى شَيْءٍ ضاع منه ردّه الله عليه: جعفر بن محمد: 1/ 367 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ فاطمة بعبد: أَنَسٍ: 4/ 32 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى سعد بن أبي وقاص يعوده في مرضه: سعد: 1/ 503 أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية: سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: 2/ 141 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تتربص حيضة واحدة: الربيع: 1/ 276 و 277 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أن يقرأ في صلاة الصبح: ابن عباس: 5/ 545

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بقتل الكلاب: 2/ 19 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة: جندب بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: 1/ 251 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم جاء صفّة المهاجرين: ابن الأسقع: 1/ 314 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى ناسا يغتسلون: علي: 5/ 359 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ ثلاثة أشواط: جَابِرٍ: 1/ 163 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل أبي بن كعب أي آية من كتاب الله أعظم: أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: 1/ 314 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أي الأجلين قضى موسى:: 4/ 198 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عن الشفع والوتر: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: 5/ 532 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ في ص: أبو هُرَيْرَةَ: 4/ 492 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرق عليا وفاطمة ليلا فقال: ألا تصليان: علي: 3/ 350 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بالسبع الطوال في ركعة: بعض أهل النبي: 1/ 479 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَ النَّاسُ بعضهم: أبو ذر: 2/ 36 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ في المغرب والتين: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ: 5/ 566 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ النجم: عَائِشَةَ: 5/ 125 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ ولمن خاف مقام ربّه: أبو الدَّرْدَاءِ: 5/ 173 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ:: 1/ 626 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَخْوَالِهِ:: 1/ 176 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا اشتد غمه: عَائِشَةَ: 1/ 460 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يرمي الجمار ويكبر مع كل حصاة: ابْنِ عُمَرَ: 1/ 238 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ:: 1/ 176 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ: أُمِّ سَلَمَةَ: 1/ 543 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقرأ ملك بغير ألف: أُمِّ سَلَمَةَ: 1/ 26 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقرأ في صلاة الفجر: أبو هُرَيْرَةَ: 4/ 284 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يكتب باسمك اللهم: مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ: 4/ 161 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يكره عشر خصال: ابْنِ مَسْعُودٍ: 5/ 636 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْغَارِ: ابْنِ عَبَّاسٍ: 5/ 43 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مرّ على قبرين:: 3/ 275 أن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَزَلَ مَنْزِلًا فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ: جابر: 2/ 24 و 25 أن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يَقْرَءُونَ مالك بالألف: أنس: 1/ 26 أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاه اليهود يسألونه: عكرمة: 2/ 28

أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ذي القرنين: عقبة بن عامر: 3/ 367 أن نمروذ لما ألقى إبراهيم في النار: أنس: 3/ 66 أن لا يمس القرآن إلا طاهر: معاذ: 5/ 196 أن هلال بن أمية قذف امرأته: ابن عباس: 4/ 13 أن يغفر ذنبا ويفرج كربا: عبد الله بن منيب: 5/ 167 أَنَّ الْيَهُودَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فسألته عن خلق السماوات: ابن عباس: 4/ 584 أَنَّ يَهُودِيَّيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ انْطَلِقْ بِنَا إلى هذا النبي: صفوان بن عسال: 3/ 315 أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيمانا: عمر بن الخطاب: 1/ 40 أنا سيد ولد آدم:: 1/ 308 أنا فرطكم على الحوض:: 3/ 207 أَنَا وَأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَوْمٍ مُشْرِفِينَ: جابر: 1/ 176 أنزل آدم عليه السلام بالهند فاستوحش: أبو هريرة: 1/ 84 أنزل الله آيتين من كنوز الجنة: ابن مسعود: 1/ 356 أنزل الله عليّ أمانين لأمتي: أبو موسى: 2/ 348 أنزل الله علي هذه الآية: ابن عباس: 5/ 174 أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ خَمْسَةَ أنهار: ابن عباس: 3/ 569 أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رمضان: واثلة بن الأسقع: 1/ 211 أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة المائدة: عبد الله بن عمرو: 2/ 5 أنزلت علي سورة تبارك: أبو هريرة: 5/ 307 أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَاتٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُنَّ: عقبة بن عامر: 5/ 636 أنشدك بالذي أنزل التوراة: سعيد بن جبير: 2/ 161 أنشدك عهدك ووعدك: ابن عباس: 5/ 156 أنفقي ما على ظهر كفي: أبو أمامة: 3/ 269 أنكحوا الأيامى فقال رجال: يا رسول الله: ابن عُمَرَ: 1/ 281 أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الإيمان: أبو ذر: 1/ 200 أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فَقَالَ يَوْمَانِ وليلة: أبو أيوب: 5/ 532 أنه سئل النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال تجد ظهر بعير: عليّ: 1/ 418 أَنَّهُ شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم دينا عليه: معاذ: 1/ 379 أنه صلّى الله عليه وسلم رهن درعا له من يهودي:: 1/ 348 أنه صلّى الله عليه وسلم كان يأمر بزكاة الفطر: ابن عمرو: 5/ 518

أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تَفَجَّرُ مِنْ تَحْتِ جِبَالِ مِسْكٍ: أبو هريرة: 1/ 65 أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَبْصُقُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ وَلَا يتغوّطون:: 1/ 66 أو أثارة من علم حسن الخط: أبو سعيد: 5/ 19 أوتيت القرآن ومثله معه: أبو هريرة: 4/ 549 أوقد عليها ألف عام حتى احمرّت: أنس: 1/ 64 أول زمرة يدخلون الجنة: أبو هريرة: 4/ 549 أول مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَانَ يَقُومُ عَلَى صدر قدميه: ابن عباس: 3/ 426 أول من حاك آدم عليه السلام: أنس: 1/ 84 أول من صنعت له الحمّامات سليمان: أبو موسى: 4/ 164 أول من دخل الحمّام سليمان: أبو موسى: 4/ 164 أول قاس أمر الدين برأيه إبليس: جعفر بن محمد: 2/ 220 أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ: أنس: 4/ 231 أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فقراء المهاجرين: ابن عمر: 3/ 96 أول من يدعى إلى الجنة الحمّادون:: 2/ 466 أول نبي أرسل نوح:: 2/ 135 أولئك قوم آمنوا بالغيب: نويلة بنت أسلم: 1/ 40 أو ولد صالح يدعو له:: 1/ 499 أومن بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل: ابن عباس: 2/ 65 ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: أبو بكرة: 1/ 529 و 3/ 537 ألا أنبئكم بخير أعمالكم: أبو الدرداء: 4/ 332 ألا أحدثك بأشقى الناس: عمار بن ياسر: 5/ 549 ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء: المغيرة بن شعبة: 3/ 394 ألا أخبرك بأفضل القرآن: أنس: 1/ 19 ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن: عبد الله بن جابر: 1/ 18 ألا أخبركم بخير البرية: أبو هريرة: 5/ 581 أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِسُورَةٍ مَلَأَ عَظَمَتُهَا مَا بَيْنَ السماء والأرض: عائشة: 3/ 319 أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ نُوحٌ ابْنَهُ: جابر: 3/ 277 أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ: عبد الله بن عمرو: 1/ 45 ألا أخبركم لم سمّى الله إبراهيم: أنس: 4/ 256 أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ تحت العرش: أبو هريرة: 3/ 343

ألا أدلكم على كلمة تنجيكم: ابن عباس: 5/ 618 أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ: ابن الأحوص: 1/ 343 أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عليكم حقا: عمرو بن الأحوص: 1/ 272 ألا أراكم تضحكون: عطاء بن أبي رباح: 3/ 164 ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل: أبو هريرة: 5/ 640 ألا أعلمك أفضل سورة: أبو سعيد بن المعلى: 3/ 174 ألا أعلمك دعاء تدعو به الله لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ دَيْنًا: معاذ: 1/ 379 ألا كلكم يدخل الله الجنة: أبو أمامة: 5/ 554 أَلَا هَلْ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خطر لها: أسامة بين زيد: 1/ 65 ألا واستوصوا بالنساء خيرا: عمرو بن الأحوص: 1/ 534 ألا وإن سبحان الله والحمد لله: النعمان بن بشير: 3/ 345 أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ: عمرو بن الأحوص: 4/ 397 أَلَا يَسْتَطِيعَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ: ابن عمر: 5/ 595 أي شيء تحبون أن آتيكم به: محمد بن كعب: 2/ 175 أي عباد الله! ارجعوا:: 1/ 447 أَيْ عَمِّ! قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: سعيد بن المسيب: 2/ 468 أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد: عبد الله بن زمعة: 1/ 534 أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن: أبو سعيد: 5/ 634 أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات: عبادة: 2/ 203 أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ ما بأس: ثوبان: 1/ 276 أيما رجل من أمتي سببته: سلمان: 3/ 513 أيموت الخلائق ويبقى الأنبياء: علي: 4/ 245 أين الاستئذان: أبو هريرة: 4/ 341 أين السائل عن العمرة: يعلى بن أمية: 1/ 227 أين السائل عمن قضى نحبه: طلحة: 4/ 315 أيها الناس اذكروا الله: أبي: 5/ 456 أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله: عائشة: 2/ 70 أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا: أبو هريرة: 3/ 578 أيؤذيك هوام رأسك؟: كعب بن عجرة: 1/ 225 إذا ارتفعت النجوم رفعت كل عاهة: أبو هريرة: 5/ 640

إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ:: 4/ 25 إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النار:: 3/ 530 إذا أتيت مضجعك للنوم: نوفل بن معاوية: 5/ 617 إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: أبو هريرة: 3/ 419 إذا أخذت مضجعك فاقرأ: خباب: 5/ 618 إذا أخذت مضجعك فقل: خالد بن الوليد: 3/ 589 إذا أخذت مضجعك من الليل: جبلة بن حارثة: 5/ 617 إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب: ابن عمر: 3/ 206 إذا أمّن الإمام فأمّنوا: أبو هريرة: 1/ 31 إذا أوى أحدكم إلى فراشه: أبو هريرة: 4/ 535 إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لَا ريب فيه: أبو سعيد: 3/ 377 إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: عمرو بن شرحبيل: 1/ 17 إذا دخل أهل الجنة: أنس: 5/ 121 إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النار: أبو سعيد الخدري: 3/ 396 إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْجَنَّةَ سَأَلَ عَنْ أَبَوَيْهِ: ابن عباس: 5/ 120 إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة:: 1/ 211 إذا دخل النور القلب وانشرح: ابن مسعود: 4/ 528 إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا شَاءَ: عقبة بن عامر: 4/ 641 إذا رأيتم الذين يجادلون فيه منهم الذين عنى الله: عائشة: 1/ 366 إذا ذكر أصحابي فأمسكوا: ابن مسعود: 2/ 166 إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد: أبو سعيد: 2/ 394 إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عنها: أنس: 3/ 427 إذا زلزلت تعدل نصف القرآن: ابن عباس: 5/ 582 و 586 إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد: أبو هريرة: 1/ 520 إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس:: 3/ 94 و 375 إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى: أبو ذر: 4/ 198 إذا سلمتم على المرسلين فسلموا: علي: 4/ 479 إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ: عبد الله بن عمرو: 2/ 45 إِذَا قَالُوا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أَتَاهُمْ مَا اشْتَهَوْا من الجنة: أبي: 2/ 486 إِذَا قَرَأَ- يَعْنِي الْإِمَامَ- غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: أبو موسى: 1/ 30

إذا قرأت والتين: جابر: 5/ 568 إِذَا قُلْتَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَدْ شكرت الله: الحكم بن عمير: 1/ 22 إِذَا كَانَ أَجَلُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ أُتِيحَتْ لَهُ إليها حاجة: ابن مسعود: 2/ 550 إذا كان لإحداكن مكاتب: أم سلمة: 4/ 32 إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام: سعد بن معاذ: 4/ 646 إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهِ مُنَادِيًا: ابن عباس: 4/ 621 إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِفَ الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ: أبو سعيد: 4/ 22 إذا كان يوم القيامة قال الله: جابر: 4/ 255 إذا كان يوم القيامة قيل: ابن عباس: 4/ 409 إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُدْعَى بِالْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهَا: أبو موسى: 2/ 105 إذا كانت الفتنة فكن كغير ابني آدم:: 2/ 36 إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان: ابن مسعود: 5/ 525 إذا مات أحدكم فلا تحبسوه: ابن عمر: 1/ 45 إذا مات المؤمن تلقته أرواح المؤمنين: أنس: 5/ 594 إذا مرض العبد أو سافر: أبو موسى: 5/ 568 إذا مكث المنيّ في الرحم: أبو ذر: 5/ 281 إذا نكح للرجل المرأة فلا يجل له أن يتزوّج أمها:: 1/ 511 إذا وضعت جنبك على الفراش: أنس: 1/ 19 إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: أبو هريرة: 1/ 460 إِنَّ آدَمَ كَانَ رَجُلًا طُوَالًا كَأَنَّهُ نَخْلَةُ سحوق: أبيّ بن كعب: 1/ 83 إِنَّ آدَمَ لَمَّا أَهْبَطَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ قالت الملائكة: عبد الله بن عمر: 1/ 76 إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ: جابر: 1/ 165 إن إبراهيم حين ألقي في النار: عائشة: 3/ 491 إِنْ أُتِيتُمُ اللَّيْلَةَ فَقُولُوا حم لَا يُنْصَرُونَ: ابن أبي صفرة: 4/ 553 إن أحببتم قسمت ما أفاء الله:: 5/ 239 إن أحدكم إذا مات عرض عليه: ابن عمر: 4/ 568 إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ: ابن مسعود: 3/ 519 إن أخوف ما أخاف عليكم: أبو سعيد: 3/ 468 إن أدنى أهل الجنة منزلة: ابن عمر: 5/ 409 إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله: عديّ: 2/ 17

إذا أرسلت كلبك المعلم: عديّ: 2/ 17 إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله: أبو ثعلبة: 2/ 17 إذا حشر الناس نادى مناد: كعب: 4/ 294 إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فكل: عدي: 2/ 17 إن أفضلهم منزلة لينظر: ابن عمر: 4/ 409 إِنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هشام ورجالا من قريش: عكرمة: 3/ 296 إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ: أبو سعيد: 3/ 447 إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس: ابن عمر: 4/ 176 إن أول ما خلق الله القلم: عبادة: 5/ 322 إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ عَنْهُ يَوْمَ القيامة: أبو هريرة: 5/ 598 إن أول ما يكسى حلته من النار إبليس:: 4/ 77 إن أول من لبّى الملائكة: أنس: 1/ 76 إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: محمد بن كعب: 4/ 91 إِنَّ أَيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سنة: أنس: 3/ 500 إن الأرض لتجيء يوم القيامة: أنس: 5/ 585 إِنَّ الْأَرَضِينَ بَيْنَ كُلِّ أَرْضٍ وَالَّتِي تَلِيهَا: ابن عمرو: 5/ 296 إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا: شريح بن عبيد: 4/ 661 إن الإسلام لا يقال: أبو سعيد: 3/ 524 إن الأنساب تنقطع يوم القيامة: المسور بن مخرمة: 3/ 595 إن البر والصلة ليخففان سوء الحساب: ابن عباس: 3/ 95 إِنَّ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كأنهما غمامتان:: 2/ 216 إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا: عائشة: 1/ 581 إن بني إسرائيل قالوا يا موسى: ابن عباس: 1/ 173 إن بني إسرائيل لو أخذوا أدفى بقرة لأجزاهم: أبو هريرة: 1/ 117 إِنَّ بَنِي سَلَمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَبِيعُوا دِيَارَهُمْ: جابر: 4/ 416 إِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ هَذِهِ السُّورَةَ: أبو حية البدري: 5/ 577 إن جدالا في القرآن كفر: أبو هريرة: 4/ 554 إِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَرِيضَتَانِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بدأت: زيد بن ثابت: 1/ 225 إن الحميم ليصب على رؤوسهم: أبو هريرة: 3/ 528 إن الحياة الدنيا متاع: أبو هريرة: 4/ 565

إن الدعاء هو العبادة: البراء: 4/ 572 إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَّكِئُ الْمُتَّكَأَ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ سَنَةً: الهيثم بن مالك الطائي: 3/ 338 إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة: أبو هريرة: 1/ 503 إن رجلا من اليهود سحرك: زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: 5/ 637 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر مناديا ينادي يوم خبير: عَلِيٍّ: 4/ 345 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ أفرأيتم اللّات والعزى: ابن عباس: 3/ 549 إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السماوات والأرض: أبو بكر: 2/ 411 و 412 إِنَّ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا هِيَ إلا ثلاثون آية: أبو هريرة: 5/ 307 إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: أبو أمامة: 2/ 466 إن سيد الأيام يوم الجمعة: سعيد بن المسيب: 5/ 503 إِنَّ شَجَرَةً مِنَ الشَّجَرِ لَا يَطَّرِحُ وَرَقُهَا مثل المؤمن: ابن عمر: 3/ 129 إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي: جابر: 3/ 481 إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدم: أنس: 5/ 643 إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم: الربيع بن أنس: 3/ 286 إن الصدقة لتطفئ غضب الرب:: 1/ 29 إن الصلاة الوسطى صلاة الظهر: زيد بن ثابت: 1/ 294 إن الصلاة والصوم والذكر تضاعف: معاذ: 1/ 329 إن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن:: 2/ 604 إن طفيلا رأى رؤيا، وإنكم تقولون: طفيل بن سخبرة: 1/ 62 إن طير الجنة كأمثال البخت: أنس: 5/ 182 إن العبد إذا أذنب ذنبا: أبو هريرة: 5/ 486 إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَصَدَّقُ بِالْكِسْرَةِ تَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ: أبو برزة: 1/ 341 إن العشر عشر الضحى: جابر: 5/ 532 إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ جَعَلَ يَتَفَلَّتُ عَلَيَّ البارحة: أبو هريرة: 4/ 499 إن علمتم فيهم حرفة: يحيى بن أبي كثير: 4/ 37 إن عليهم التيجان: أبو سعيد: 4/ 405 إن العمرة هي الحج الأصغر: عمرو بن حزم: 1/ 225 إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى الكتاب: أبو سعيد: 1/ 22 إن في أصلاب أصلاب أصلاب الرجال: سهل بن سعد: 5/ 270 إن في الجنة شجرة يسير الراكب: أبو هريرة: 3/ 462 و 5/ 187

إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ للمجاهدين في سبيل الله: أبو هريرة: 1/ 582 إن في الصلاة لشغلا:: 1/ 297 إن فاتحة الكتاب وآية الكرسي: علي: 1/ 375 إن في المال حقا سوى الزكاة: فاطمة بنت قيس: 5/ 104 إن فيهما اسم الله الأعظم: أسماء بنت يزيد: 1/ 315 إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه: البراء بن عازب: 1/ 188 إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم:: 4/ 231 إِنَّ الْكُفَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِرْدًا عِطَاشًا: السدي: 4/ 51 إن كنتم في مقالتكم صادقين فقولوا: ابن عباس: 1/ 136 إن الله اتخذني خليلا: جندب: 1/ 599 إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ: واثلة: 2/ 477 إِنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا ما شئتم:: 2/ 372 إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ: ابن عباس: 2/ 300 إن الله أعطاني الرائيات إلى الطواسين: أنس: 2/ 479 إن الله أعطاني السبع الطوال: البراء: 4/ 108 إن أعطاني السبع مكان التوراة: أنس: 4/ 550 إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي فِيمَا مَنَّ بِهِ عَلَيَّ فاتحة الكتاب: أنس: 1/ 18 إن الله أمر آدم بالسجود فسجد: ابن عباس: 1/ 79 إن الله أمرنا أن نصلي عليك:: 4/ 346 إن الله أمرنا أن أدنيك: بريدة: 5/ 338 إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ لَمْ يكن الذين كفروا: أبيّ بن كعب: 5/ 577 إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بِرِسَالَتِهِ فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعًا: الحسن: 2/ 69 إن الله بعثني رحمة للعالمين: أبو أمامة: 3/ 513 إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَرَأَ طه ويس قبل أن يخلق السّماوات: أبو هريرة: 3/ 420 إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حدثت به أنفسها: أبو هريرة: 1/ 351 إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فرغ: أبو هريرة: 5/ 48 إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْقُرْآنَ شِفَاءً لِمَا فِي الصدور: الحسن: 2/ 516 إن الله جميل يحب الجمال: ابن مسعود: 3/ 191 إن الله حدّ حدودا فلا تعتدوها: أبو ثعلبة: 2/ 95

إن الله حرّم القينة وبيعها وثمنها: عائشة: 4/ 272 إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ:: 1/ 166 إِنَّ اللَّهَ حِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ جَعَلَنِي مِنْ خير خلقه: العباس: 2/ 477 إِنَّ اللَّهَ خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أَعْطَانِيهِمَا: أبو ذر: 1/ 356 إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بيمينه: عمر: 2/ 300 إن الله خلق آدم على صورته:: 5/ 567 إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا:: 2/ 32 إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا: أبو هريرة: 1/ 196 إن الله غفر لهذه الأمة:: 5/ 93 إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَجَّ الْبَيْتِ: عكرمة: 1/ 409 إِنَّ اللَّهَ فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ فِي سِتَّةِ أيام: ابن عمر: 4/ 584 إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطُّهُورِ: عبد الله بن سلام: 2/ 462 إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ وَعَلَى أمتك: حكيم بن جبير: 1/ 355 إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطهور: عويم بن ساعدة: 2/ 462 إن الله قد أمكنكم منهم: أنس: 2/ 372 إن الله قسم الخلق قسمين: ابن عباس: 4/ 322 إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ من الزنا: أبو هريرة: 5/ 138 إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا: ابن عباس: 1/ 186 إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السماوات: النعمان بن بشير: 1/ 355 و 356 إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا عُمِّرَ: أم حبيبة: 5/ 623 إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا، أَوْ قَالَ لم يمسخ قوما: ابن مسعود: 2/ 65 إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الدُّنْيَا لَمْ يَخْلُقْ فيها ذهبا ولا فضة: عليّ: 1/ 84 إن الله لمّا ذرأ لجهنم ذرأ: عبد الله بن عمرو: 2/ 305 إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةِ أهل بيت: ابن عمر: 1/ 307 إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكلة فيحمده عليها: أنس: 1/ 25 إن الله ليرفع الدرجة للعبد: أبو هريرة: 5/ 120 إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه: ابن عباس: 5/ 120 إِنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بالقرآن:: 3/ 301 إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُصْلِحُ بِصَلَاحِ الرَّجُلِ الصالح ولده وولد ولده: جابر: 3/ 363 إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَلَا شُهَدَاءَ: ابن عمر: 2/ 521

إن الله ليليّن قلوب الرجال: ابن مسعود: 2/ 373 إِنَّ اللَّهَ مُرْدٍ كُلَّ امْرِئٍ رِدَاءَ عَمَلِهِ: أنس: 1/ 119 إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَمِنْهَا رَحْمَةٌ يَتَرَاحَمُ بها الخلق: سلمان: 2/ 288 إن الله ينادي: يا أمة محمد أجيبوا ربكم: ابن عباس: 4/ 207 إن الله نصب آدم بين يديه: أبو أمامة: 2/ 167 إِنَّ اللَّهَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كفروا: فضل: 5/ 577 إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنَادِيًا يُنَادِي: أبو موسى: 2/ 502 إن الله يجعل مكان كل شوكة: عيينة السلمي: 5/ 186 إن الله يحب العبد المؤمن المحترف: ابن عمر: 5/ 314 إِنَّ اللَّهَ يَدْعُو النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأُمَّهَاتِهِمْ: ابن عباس: 5/ 205 إن الله يدني المؤمن حتى يضع عليه كنفه: ابن عمر: 2/ 558 إن الله يضاعف الحسنة ألفي وألف حسنة: أبو هريرة: 1/ 301 إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يغرغر: ابن عمر: 1/ 411، 505 إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أشرك بي: شداد بن أوس: 3/ 377 إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الجنة: أبو سعيد: 2/ 435 إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ يَبْقَيْنَ من الليل: أبو الدرداء: 3/ 107 إن الله ينشئ السحاب فتنطق: شيخ من بني غفار: 3/ 92 إن الله لا يستحي من الحق ولا تأتوا النساء في أدبارهن: خزيمة بن ثابت: 1/ 262 إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا أُخْلِصَ له: 4/ 517 إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا أُخْلِصَ له:: 4/ 517 إن الله لا يمل حتى تملوا:: 1/ 53 إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أن ينام: أبو موسى: 4/ 148 إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ إذا استودع: ابن عمر: 4/ 276 إن لكل أمة رهبانية: أنس: 5/ 216 إن لكل شيء سناما وسنام القرآن: سهل بن سعد: 1/ 32 إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس: أنس: 4/ 411 إن لكل نبي ولاة من النبيين: ابن مسعود: 1/ 401 إن لكل يوم نحسا فادفعوا: عليّ: 4/ 381 إن لله تسعة وتسعين اسما: أبو هريرة: 1/ 21 و 2/ 305 و 306 و 3/ 307 إن لي أسماء، أنا محمد: جبير بن مطعم: 5/ 264

إن لي عند ربي عشرة أسماء: أبو الطفيل: 3/ 427 إن مت مت شهيدا: أنس: 5/ 248 إن مثل المنافق مثل الشاة العائرة:: 1/ 611 إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان: ابن عمرو: 3/ 169 إن المرأة من نساء أهل الجنة: ابن مسعود: 5/ 174 إنما جعل الإذن من أجل البصر: سهل بن سعد: 4/ 26 إِنَّ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ أَرْضًا مِنْ لُؤْلُؤَةٍ بيضاء: ابن عباس: 3/ 182 إن الماء طهور لا ينجسه شيء: أبو سعيد: 4/ 96 إن المغضوب عليهم هم اليهود: عديّ بن حاتم: 1/ 30 إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ: أبو شريح: 1/ 417 إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ أَعْطَيْتَ بَنِي آدم : ابن عمرو: 3/ 292 إن ملكا موكلا تلمّ القاصية ويلمم الدانية: خزيمة بن ثابت: 3/ 92 إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ: ابن عمرو: 1/ 529 إِنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يتنزل عيسى: قتادة: 2/ 310 إن من الشعر حكما: بريدة: 4/ 143 إن من الشعر لحكمة: أبو هريرة: 4/ 142 إِنَّ مِنَ الْغَمَامِ طَاقَاتٍ يَأْتِي اللَّهُ فِيهَا، محفوفات بالملائكة: ابن عباس: 1/ 243 إن المنشآت اللاتي كن في الدنيا: أنس: 5/ 187 إن موسى أجّر نفسه ثماني سنين: عتبة بن النّدر: 4/ 197 إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أبيّ بن كعب: 3/ 356 إن موسى كان رجلا حييّا ستيرا: أبو هريرة: 4/ 355 إِنَّ مُوسَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ بِبَنِي إسرائيل: أبو موسى: 4/ 120 إِنَّ مَوْضِعَ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدنيا وما فيها: أبو هريرة: 1/ 469 إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَ نُكْتَةً سوداء: أبو هريرة: 1/ 47 إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ صُوِّرَ له عمله: قتادة: 2/ 486 إن المؤمن إذا عاين الملائكة، قالوا: أبو جريج: 3/ 594 إن المؤمن ليكون متكئا على أريكة: أبو أمامة: 3/ 96 إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه: كعب بن مالك: 4/ 142 إن المؤمنين وأولادهم في الجنة: عليّ: 5/ 120 إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ: أبو بكر: 2/ 96

إِنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا: جابر: 5/ 625 إن ناسا من أمتي يعذبون فيكونون في النار: جَابِرٍ: 3/ 149 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقرأ في الفجر:: 5/ 333 إِنِ النِّسَاءُ السُّفَهَاءُ إِلَّا الَّتِي أَطَاعَتْ قَيِّمَهَا: أبو أمامة: 1/ 491 و 2/ 492 إن نسمة المؤمن تسرح: أم بشر: 5/ 486 إِنَّ هَذَا السَّيْفَ لَا لَكَ وَلَا لِي، ضعه: سعد بن أبي وقاص: 2/ 324 إن هذا عام الحج الأكبر: سمرة: 2/ 383 إِنَّ هَذِهِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ: عبد الله بن حذافة: 1/ 229 إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ من كلام الناس:: 1/ 297 إن وسادك إذا لعريض: عديّ بن حاتم: 1/ 216 إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يَحْفِرُونَ السد: أبو هريرة: 3/ 371 إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم: ابن عمرو: 3/ 371 إن اليهود قوم حسد: أبو هريرة: 1/ 31 إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب:: 1/ 123 و 5/ 269 إِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ: ابن مسعود: 5/ 560 إِنَّكَ أُعْطِيتَ نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ يُدْعَى الْكَوْثَرَ: أسامة بن زيد: 5/ 615 إنك سألت الله لآجال مضروبة: أم حبيبة: 4/ 395 إنك لتنظر إلى الطير في الجنة: ابن مسعود: 5/ 182 إنك لزهيد: سعد: 5/ 229 إِنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا:: 1/ 427 إنكم تلقون عدوكم فليكن شعاركم: البراء بن عازب: 4/ 554 إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ: جرير: 3/ 468 إنكم الشجرة الملعونة في القرآن: عائشة: 3/ 286 إنكم كفلاء على قومكم: محمود بن لبيد: 5/ 266 إنما أتألفهم: أبو سعيد: 2/ 427 إنما أنا بشر أنسى كما تنسون:: 2/ 147 إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ:: 3/ 35 إنما أنا رحمة مهداة: أبو هريرة: 3/ 513 إنما البيع عن تراض: أبو سعيد: 1/ 528 إنما حرم من الميتة أكلها:: 2/ 197

إنما سمل النبي صلّى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا: أنس: 2/ 43 إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بيضاء: أبو هريرة: 3/ 355 إِنَّمَا سُمِّيَ رَمَضَانَ لِأَنَّ رَمَضَانَ يَرْمِضُ الذُّنُوبَ: أنس: 1/ 211 إِنَّمَا قَتَلَ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فرعون خطأ: ابن عمر: 3/ 404 إنما هما نجدان نجد الخير: أبو هريرة: 5/ 543 إنما يلبس علينا في صلاتنا: عبد الملك بن عمير: 4/ 246 إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم: ابن مسعود: 5/ 34 إنه أنزل عليّ آنفا سورة: أنس: 5/ 614 إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ: أسماء بنت أبي بكر: 4/ 231 إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أبو هريرة: 3/ 375 إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فيه خير: ابن عباس: 4/ 645 إنه نبي مكلّم:: 1/ 309 إنها طيبة وإنها تنفي الخبث: زيد بن ثابت: 1/ 573 إنها في علم الله قليل: ابن عباس: 4/ 288 إِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لي ساعة من نهار:: 1/ 220 إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ أَوْ نُسِيَ فَالْهَوْا عَنْهَا: ابن عمر: 1/ 148 إنها نسخت البارحة: أبو أمامة: 1/ 149 إنها نسخت البارحة: سهل بن حنيف: 1/ 149 إنهم لم يفارقونا في الجاهلية والإسلام: جبير بن مطعم: 2/ 357 إِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ:: 2/ 167 إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر: ابن عمر: 1/ 550 إِنِّي أَخْشَى أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَهُمْ: ابن عمر: 3/ 169 إني أرى ما لا ترون: أبو ذر: 4/ 478 إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ: ابن عباس: 4/ 326 إني تفضلت على عبادي بثلاث: زيد بن أرقم: 4/ 366 إني ذاكر لك أمرا فلا عليك: عائشة: 4/ 334 إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رأسي: جابر: 2/ 501 إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان: عمر بن الخطاب: 4/ 70 إني قارئ عليكم سورة ألهاكم التكاثر: جرير بن عبد الله: 5/ 595 إِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ: أبو هريرة: 5/ 179 و 183

إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً: أبو هريرة: 5/ 44 إني لأعلم كلمة لو قالها: سليمان بن صرد: 4/ 593 إني لم أبعث لعّانا: أبو هريرة: 3/ 513 إِنِّي وَاللَّهِ أَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله : ابن عباس: 1/ 624 إياكم والجلوس على الطرقات: أبو سعيد: 4/ 30 إياكم والظن فإنّ الظن أكذب الحديث: أبو هريرة: 5/ 79 إياكم والمعصية فإن العبد ليذنب: ابن مسعود: 5/ 326 الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه: عمر بن الخطاب: 1/ 106 الإحصان إحصانان: إحصان نكاح: أبو هريرة: 1/ 524 الإسلام يجبّ ما قبله: ابن عمرو بن العاص: 2/ 352 الإسلام يهدم ما قبله:: 2/ 40 الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه: عمر بن الخطاب: 1/ 110 اللَّهُ أَكْبَرُ قَدْ جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ: ابن عباس: 5/ 624 اللَّهُ أَكْبَرُ هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لموسى اجعل لنا إلها: أبو واقد الليثي: 2/ 275 الله أكبر هذه الآية خير لكم: أبو برزة: 5/ 612 اللهم آت نفسي تقواها: زيد بن أرقم: 4/ 549 اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف:: 2/ 270 اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ: حذيفة: 4/ 309 اللهم اشدد وطأتك على مضر:: 3/ 239 و 581 اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون:: 2/ 467 اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ اللَّهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بن هشام: ابن عمر: 1/ 435 اللهم العن فلانا وفلانا:: 1/ 436 اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان:: 1/ 436 اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون: ابن عباس: 2/ 70 اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا:: 2/ 425 اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ أو بعمر بن الخطاب: زيد بن أسلم: 2/ 182 اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف: ابن مسعود: 4/ 655 اللهم أمتي أمتي: ابن عمرو: 5/ 560 اللهم أنج الوليد بن الوليد:: 1/ 562 اللهم أنجز لي ما وعدتني: عمر بن الخطاب: 2/ 331

حرف الباء

اللهم أيد حسان بروح القدس:: 1/ 130 اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ: علي: 2/ 335 اللَّهُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ أَقْبَلَتْ بِفَخْرِهَا وَخُيَلَائِهَا: قتادة: 2/ 361 اللهم حاسبني حسابا يسيرا: عائشة: 5/ 496 اللهم ربّ السماوات السبع: أبو هريرة: 5/ 200 اللهم صلّ على آل فلان: عبد الله بن أبي أوفى: 2/ 457 اللهم قنعني بما رزقتني: ابن عباس: 3/ 235 اللهم لا تقتلنا بغضبك: ابن عمر: 3/ 92 اللهم لا قوة لنا إلا بك: ابن جريج: 1/ 444 اللهم لا يعلون علينا: ابن عباس: 1/ 444 اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي:: 1/ 602 اللهم هؤلاء أهلي: سعد بن أبي وقاص: 1/ 399 حرف الباء بادروا الأعمال قبل طلوع الشمس: أبو هريرة: 4/ 176 بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السمع والطاعة: عبادة: 5/ 59 بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ علينا أن لا نشرك: أم عطية: 5/ 259 بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا: عبادة: 1/ 576 و 5/ 259 بِتُّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلّى ركعتين: ابن عباس: 5/ 96 بجهنم سبعة أبواب: ابن عمر: 3/ 160 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِفْتَاحُ كُلِّ كِتَابٍ: أبو جعفر: 1/ 22 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله إلى هرقل عظيم الروم: ابن عباس: 1/ 399 بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة: أبيّ بن كعب: 4/ 614 بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثا فاستقرأ: أبو هريرة: 1/ 33 بَعَثَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بابنها فقالت: قل له اكسني: المنهال: 3/ 269 بعثت أنا والساعة كهاتين: أنس: 5/ 44 بعثت بالحنيفية السمحة: أبو أمامة: 1/ 173 بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قومي: أبو أمامة: 2/ 14

بَكَى شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حُبِّ اللَّهِ حتى عمي: شداد بن أوس: 2/ 592 بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر: أبو ثعلبة الخشني: 2/ 96 بَلْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَكِتَابِهِ الْقُرْآنَ: ابن عباس: 1/ 605 بل أجر خمسين منكم: أبو ثعلبة الخشني: 2/ 96 بل في شيء ثبتت فيه المقادير: جابر: 5/ 554 بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم: ابن عباس: 2/ 74بماذا قرأت في أذنه؟: ابن مسعود: 3/ 595 بم تقضي؟ قال: بكتاب الله: معاذ: 3/ 271 بَنُو غِفَارٍ وَأَسْلَمُ كَانُوا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فتنة: سمرة: 5/ 24 بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ: جابر: 4/ 436 بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَوْقَهُ: ابن عباس: 1/ 19 بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بفناء الكعبة: عبد الله بن عمرو: 4/ 562 بينما امرأتان معهما ابنان: أبو هريرة: 3/ 500 بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده جبريل: ابن عباس: 1/ 356 بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم قسما: أبو سعيد: 2/ 426 بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يوم الجمعة: جابر: 5/ 273 بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طلع راكبان: أبو عبد الرحمن الجهني: 1/ 41 بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غار بمنى: ابن مسعود: 5/ 429 بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ: أسيد بن حضير: 1/ 33 بئس خطيب القوم أنت:: 4/ 312 بئس مطية الرجل: ابن مسعود: 5/ 284 البر حسن الخلق: النواس بن سمعان: 2/ 10 البر ما اطمأن إليه القلب: وابصة: 2/ 10 البقرة سنام القرآن: معقل بن يسار: 1/ 32 البيعان بالخيار ما لم يتفرقا:: 1/ 526 البيت قبلة لأهل المسجد: ابن عباس: 1/ 180 البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف: عبد الله بن مغفل: 3/ 319 البيت المعمور في السماء السابعة: أنس: 5/ 116 البيّنة وإلا حدّ في ظهرك: ابن عباس: 4/ 13

حرف التاء

حرف التاء تبارك هي المانعة من عذاب القبر: ابن مسعود: 5/ 307 تب إلى الله تاب الله عليك: أبو هريرة: 2/ 47 تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ: أبو هريرة: 3/ 338 تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة: أبو هريرة: 1/ 410 تحشرون ها هنا وأومأ بيده إلى الشام: معاوية بن حيدة: 4/ 588 تحفظوا من الأرض فإنها أمكم: ربيعة الحرشي: 5/ 585 تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى: أبو هريرة: 4/ 136 تخرج الدابة فتسم على خراطيمهم: أبو أمامة: 4/ 176 تخرج الدابة من أعظم المساجد حرمة: حذيفة بن أسيد: 4/ 176 تدمع العين ويحزن القلب:: 3/ 57 تَذَاكَرْنَا زِيَادَةَ الْعُمُرِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبو الدرداء: 2/ 233 ترجف الأرض رجفا: أبو هريرة: 5/ 456 تردين عليه حديقته: ابن جريج: 1/ 276 تصبر ولا تعاقب، كفّوا عن القوم: أبيّ بن كعب: 3/ 245 تصدع بإذن الله عن الأموال والبنات: ابن عباس: 5/ 512 تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصلاة: ابن عمر: 1/ 225 تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة: بريدة: 1/ 32 تعلموا سورة البقرة وآل عمران: بريدة: 1/ 32 تعلموا علم الفرائض وعلّموه الناس: ابن مسعود: 1/ 502 تعلموا الفرائض وعلّموه فإنه نصف العلم: أبو هريرة: 1/ 504 تعلموا من النجوم ما تهتدون به: ابن عمر: 2/ 166 تَفَرَّقَتْ أُمَّةُ مُوسَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً: أنس: 2/ 68 تقتل عمارا الفئة الباغية:: 5/ 75 تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان: أبو هريرة: 4/ 655 تقيء الأرض أفلاذ كبدها: أبو هريرة: 5/ 585 تكفيك آية الصيف: البراء بن عازب: 1/ 627 تكلم أربعة وهم صغار: ابن عباس: 3/ 24

حرف الثاء

تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ الأغلال في أعناقهم: ابن عمرو: 4/ 576 تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم: أبو الدرداء: 3/ 393 تلك السكينة نزلت للقرآن: البراء: 1/ 307 تنظر إلى وجهها في خدرها: أبو سعيد: 5/ 174 تؤتيه حين تؤتيه المال ونفسك تحدثك بطول العمر والفقر: المطلب: 1/ 200 التأني من الله والعجلة من الشيطان: أنس: 1/ 24 التسريح بإحسان الثالثة الثالثة: أبو زيد الأسدي: 1/ 275 التوبة من الذنب أن يتوب منه: ابن مسعود: 5/ 303 التَّوْحِيدُ ثَمَنُ الْجَنَّةِ، وَالْحَمْدُ ثَمَنُ كُلِّ نِعْمَةٍ: أبان بن أنس: 1/ 24 حرف الثاء ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: أبو هريرة: 1/ 279 ثلاث من فعلهن فقد أجرم: معاذ بن جبل: 4/ 295 ثَلَاثٌ مَنْ قَالَهُنَّ لَاعِبًا أَوْ غَيْرَ لَاعِبٍ فهن جائزات: عبادة بن الصامت: 1/ 279 ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا:: 1/ 59 ثلاث من كن فيه يحاسبه الله: أبو هريرة: 5/ 496 ثلاث من الميسر: الصفير بالحمام والقمار: يزيد بن شريح: 2/ 87 ثَلَاثٌ هُنَّ رَوَاجِعُ عَلَى أَهْلِهَا الْمَكْرُ وَالنَّكْثُ والبغي: أنس: 2/ 496 ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَهُنَّ لَكَمَ سُنَّةٌ: عائشة: 3/ 304 ثلاثة حق على الله عونهم: أبو هريرة: 4/ 36 ثلاثة على كثبان المسك: ابن عمر: 3/ 512 ثَلَاثَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظل إلا ظله: أبو هريرة: 2/ 166 ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: أبو موسى: 4/ 208 ثلاثمائة وخمسة عشر جمّا غفيرا: أبو ذر: 1/ 82 ثم رفع إليّ البيت المعمور:: 5/ 116 ثِنْتَانِ لَا يُرَدَّانِ: الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ وَعِنْدَ البأس: سهل بن سعد: 2/ 360 الثلث كثير: ابن عباس: 1/ 503 الثيبات والأبكار اللاتي كن في الدنيا: يزيد الجعفي: 5/ 187

حرف الجيم

حرف الجيم جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عتبة بن عبيد: 3/ 99 جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنس: 1/ 594- 595 جاء أهل اليمن وهم أرق قلوبا: أبو هريرة: 5/ 624 جَاءَ الْإِيمَانُ وَالشِّرْكُ يَجْثُوَانِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ: صفوان بن عسال: 4/ 180 جَاءَ بُسْتَانِيٌّ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: جابر: 3/ 8 جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ السلام عليك: سليمان: 1/ 570 جاء رجل من أهل البادية إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: مجاهد: 4/ 282 جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثوبان: 3/ 143 جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فاطمة ومعه عليّ: واثلة بن الأسقع: 4/ 322 جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْحِجْرِ أَوْ سُورَةَ الْكَهْفِ: أبو هريرة: 3/ 337 جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو زَيْنَبَ إِلَى رسول الله: أنس: 4/ 329 جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله هلكت: ابن عباس: 1/ 261 جَاءَ عُوَيْمِرٌ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ سل رسول الله:: 4/ 13- 14 جاءت من مكة أفلاذها: قتادة: 2/ 361 جَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَاصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النكاح: أنس: 1/ 260 جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت: جابر: 5/ 394 جبريل وميكائيل وملك الموت: أنس: 4/ 547 جرح العجماء جبار:: 3/ 495 جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتلو هذه الآية ومن يتق الله: أبو ذر: 5/ 291 جعل الله الأهلة مواقيت للناس: ابن عمر: 1/ 218- 219 جَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا، مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ: ابن عباس: 1/ 61 جنان الفردوس أربع جنات: أبو موسى: 5/ 273 الجدال في القرآن مراء: أبو هريرة: 1/ 367 حرف الحاء حَاجَّ آدَمَ مُوسَى قَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أخرجت الناس: أبو هريرة: 3/ 462 حال الله بينك وبين ما تريد: جابر: 2/ 70 حبك إيّاها أدخلك الجنة: أنس: 5/ 630

حرف الخاء

حتى أنظر ما يأتيني من ربي: ابن عباس: 5/ 620 حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء:: 2/ 131 حرمت الخمر: ابن عمر: 2/ 86 حسبنا الله ونعم الوكيل:: 1/ 460 حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أَمَانُ كُلِّ خَائِفٍ: شداد بن أوس: 1/ 460 حسن الشعر كحسن الكلام: أبو هريرة: 4/ 143 حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: ابن عباس: 1/ 137 حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاءين: أبو هريرة: 1/ 187 حملت وليدة في بني ساعدة من زنا: أبو أمامة: 4/ 505 حيات على الصراط تقوم حس حس: أبو هريرة: 3/ 511 الحج جهاد والعمرة تطوع: أبو صالح الحنفي: 1/ 225 الْحَجُّ عَرَفَاتٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ أن يطلع الفجر: عبد الرحمن بن يعمر: 1/ 238 الحسرة أن يرى أهل النار منازلهم:: 2/ 129 الخيمة درة مجوفة:: 5/ 175 الحقب أربعون سنة: عبادة: 5/ 444 الحقب ثمانون سنة: أبو هريرة: 5/ 444 الحمد لله رأس الشكر: عبد الله بن عمرو: 1/ 24 الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أمرني أن أصبر: عبد الرحمن بن سهل: 3/ 337 الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَمَرَنِي أن أصبر نفسي: سلمان: 3/ 337 الحنيفية السمحة: ابن عباس: 1/ 173 الحواميم ديباج القرآن: أنس: 4/ 550 الحواميم سبع، وأبواب النار سبع: خليل بن مرة: 4/ 550 حرف الخاء خبيثة من الخبائث: ابن عمر: 2/ 197 خذوا جنتكم: أبو هريرة: 3/ 345 خذوا زينة الصّلاة: أبو هريرة: 2/ 230 خذوا على أيدي سفهائكم:: 5/ 75 خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا:: 1/ 504

خذوا عني مناسككم:: 1/ 186 و 234 خذوا منها: حبيبة بنت سهل: 1/ 276 خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأ آيات الربا: عائشة: 1/ 340 خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أصحابه: جابر: 5/ 157 خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نفر من أصحابه: عائشة: 5/ 208 خَرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ وراء حجرته: ابن عمر: 1/ 367 خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صعد الصفا: ابن عباس: 5/ 628 خرج النبي صلّى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه: أبو هريرة: 4/ 542 خرج النبي صلّى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل: عائشة: 4/ 322 خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يده كتاب: البراء: 4/ 606 خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي يده كتابان: ابن عمرو: 4/ 606 خَرَجْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويده في يدي: أبو هريرة: 3/ 318 خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دخل بعض حيطان المدينة: ابن عمر: 4/ 245 خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ: عليّ: 2/ 477 خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحديبية: أبو سعيد: 5/ 203 خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر: زيد بن أرقم: 5/ 277 خطب النبي صلّى الله عليه وسلم خطبة: أنس: 2/ 94 خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطا بيده: ابن مسعود: 2/ 204 خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ: ابن عمر: 1/ 417 خلق الله ثلاثة أشياء بيده: عبد الله بن الحارث: 3/ 513 خَلَقَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رحمة: سلمان: 2/ 121 خلقت الملائكة من نور: عائشة: 2/ 220 خمّروا آنيتكم:: 1/ 252 خمس لا يعلمهن إلا الله: أبو هريرة: 4/ 283 خمس فواسق:: 1/ 68 خيار عباد الله الذين إذا رأوا ذكر الله: عبد الرحمن بن غنم: 2/ 521 خياركم من ذكركم الله رؤيته: ابن عمر: 2/ 521 خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى: أبو هريرة: 1/ 256 خير نسائها مريم بنت عمران: عليّ: 1/ 390

حرف الدال

خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ: أبو هريرة: 5/ 272 خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي:: 1/ 490 الخضر هو إلياس: ابن عباس: 4/ 473 الخيام درّ مجوّف: ابن مسعود: 5/ 175 الخير اتباع القرآن وسنتي: أبو جعفر: 1/ 424 الخيل لثلاثة لرجل أجر: أبو هريرة: 5/ 585 الخيل معقود بنواصيها الخير:: 4/ 495 حرف الدال دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ مَكَّةَ وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطُوفُ: أبو سابط: 1/ 76 دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ يَهُودَ: ابن عباس: 1/ 377 دَخَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رجل وهو في الموت: أنس: 4/ 522 دَخَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فاطمة وهي تطحن بالرحى: جابر: 5/ 560 دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ الحرام يوم فتح مكة: عامر بن عبد الله: 2/ 178 دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا مريض لا أعقل: جابر: 1/ 627 دخل النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ نُصْبٍ: ابن مسعود: 3/ 305 دخلت أنا وأبو بكر الغار: عليّ: 4/ 237 دخلت الجنة فإذا أنا بنهر: أنس: 5/ 614 دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ:: 1/ 224 دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ وَعِنْدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: عائشة: 4/ 621 دَخَلُوا الْبَابَ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ سجدا: أبو هريرة: 1/ 106 دعه فإنه أوّاه: عائشة: 4/ 572 دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثِ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصحابه: جابر: 5/ 278 دعوا لي أصحابي: أنس: 5/ 203 دَعَوْتُ اللَّهَ حَتَّى خِفْتُ أَنْ لَا يَكُونَ:: 1/ 134 دعوها فإنها منتنة: جابر: 5/ 278 دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ هُوَ فِي بَطْنِ الحوت: سعد بن أبي وقاص: 3/ 502 دعي الصلاة أيام أقرائك:: 1/ 270

حرف الذال

دلوك الشمس زوالها: ابن عمر: 3/ 303 الدعاء الاستغفار: أنس: 4/ 572 الدعاء مخ العبادة: النعمان بن بشير: 1/ 213 و 4/ 572 الدعاء هو العبادة: ابن عباس: 2/ 469 الدّقل والفارسي والحلو والحامض: أبو هريرة: 2/ 81 الدّين النصيحة:: 2/ 446 الدّين يسر:: 1/ 544 حرف الذال ذاك الله: البراء: 5/ 72 ذاك من أحبّ الله ورسوله: عليّ: 3/ 98- 99 ذبيحة المسلم حلال:: 2/ 139 ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدّابة فقال: حذيفة بن أسيد: 4/ 176 ذلك شيطان كذا: أبو هريرة: 1/ 314 ذهب العلماء: أبو هريرة: 3/ 109 الذبيح إسحاق: العباس: 4/ 467 الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُمْ على وجوههم: أنس: 3/ 312 الذي بيده عقد النكاح: الزوج: ابن عمر: 1/ 292 الذي مأواه المزابل: ابن عمر: 5/ 544 الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا هِيَ اللُّوطِيَّةُ الصغرى: ابن عمرو: 1/ 262 الذي يقرأ القرآن وهو ماهر: عائشة: 5/ 468 الذين أحسنوا: أهل التوحيد، والحسنى: أبيّ بن كعب: 2/ 502 حرف الراء رأيت بني أمية على منابر الأرض: يعلى بن مرة: 3/ 286 رأيت جبريل عند سدرة المنتهى: ابن مسعود: 5/ 132 رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض: أنس: 1/ 95

حرف الزاي

رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ: ابن عباس: 4/ 298 رأيت نورا: أبو ذر: 3/ 286 رَأَيْتُ وَلَدَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَلَى المنابر: ابن عمرو: 3/ 286 رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون:: 2/ 467 رب دعني وقومي أدعوهم يوما بيوم: ابن عباس: 1/ 189 رب زد أمتي: ابن عمر: 1/ 301 ربح البيع صهيب: صهيب: 1/ 241 رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ من هذا: ابن مسعود: 2/ 426 رحمة الله على موسى لقد أوذي: ابن مسعود: 4/ 356 رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ صَبَرَ: أبيّ بن كعب: 3/ 362 ردوا ما أخذتم واقتسموا بالعدل والسوية: أبو أيوب: 2/ 324 رغبا هكذا، ورهبا هكذا: جابر: 3/ 526 رفع عن أمتي الخطأ والنسيان:: 1/ 353 رفع اليدين من الاستكانة: عليّ: 5/ 615 الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها: ابن مسعود: 1/ 340 الربوة: الرملة: مرة البهزي: 3/ 578 الرجز عذاب: عائشة: 2/ 273 الروح جند من جنود الله: ابن عباس: 5/ 448 روح القدس جبريل: جابر: 1/ 130 الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن: عبد الله بن عمرو: 2/ 521 ريح الجنوب من الجنة: أبو هريرة: 3/ 154 حرف الزاي زوجة ومسكن وخادم: زيد بن أسلم: 2/ 34 الزِّيَادَةُ خَمْسَةُ أَنْهَارٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ: جابر: 3/ 227

حرف السين

حرف السين سأل أهل مكة النبي أن يجعل لهم الصفا ذهبا: ابن عباس: 3/ 286 سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سائل، فقال:: 3/ 84 سَأَلَتْ خَدِيجَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ولدين: علي: 5/ 120 سَأَلْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سألته: ابن عباس: 5/ 560- 561 سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إدبار النجوم: عليّ: 5/ 96 سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تفسير سبحان الله: طلحة بن عبيد الله: 1/ 157 سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نظرة الفجأة: جرير البجلي: 4/ 30 سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ: عمرو بن عبسة: 4/ 207 سألت اليهود النبي صلّى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟: ابن عباس: 1/ 57 سباب المسلم فسوق:: 1/ 231 سبحان ربي الأعلى: ابن عباس: 5/ 517 سُبْحَانَ اللَّهِ نِصْفُ الْمِيزَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الميزان: رجل من بني سليم: 1/ 24 سبحان الله يخرج الحي من الميت: عبيد الله: 1/ 380 سبحانك اللهم وبلى: البراء: 5/ 412 سبحانك اللهم وبلى: صالح أبو الخليل: 5/ 412 سَبْعَةٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلا ظله: سلمان: 2/ 166 سبق المفردون: أبو هريرة: 4/ 332 سدّدوا وقاربوا واعلموا أن لن يدخل أحد الجنة بعمله:: 2/ 235 و 3/ 193 و 4/ 152 سرق يوسف صنما لجده أبي أمه: ابن عباس: 3/ 56 سلوا الله الفردوس فإنها سرة الجنة: أبو أمامة: 3/ 375 سلوا الله لي الوسيلة: أبو هريرة: 3/ 285 سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أن يسأل: ابن مسعود: 1/ 532 سلوني عمّا شئتم: ابن عباس: 1/ 137 سلوه لأي شيء يصنع ذلك: عائشة: 5/ 631 سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِمَقْدَمِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم: أنس: 1/ 137 سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قال: ولا الضالين: علي: 1/ 30

حرف الشين

سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الجمعة سورة الجمعة: أبو هُرَيْرَةَ: 5/ 267 سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بعرفة: الزبير بن العوام: 1/ 375 سنّوا بهم سنة أهل الكتاب:: 2/ 18 سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا آيَةٌ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ: أبو هريرة: 1/ 314 سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها: أنس: 5/ 307 سورة الواقعة سورة الغنى: ابن عباس: 5/ 176 سورة يس تدعى في التوراة المعممة: أبو بكر الصديق: 4/ 411 سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللّين: عقبة بن عامر: 3/ 403 سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي البقاع أحبّ إلى الله: أنس: 3/ 408 سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيّ القرآن أفضل: ربيعة الحرشي: 1/ 33 سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الناس أكرم: أبو هريرة: 5/ 81 سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ العزم فقال: علي: 1/ 453 سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يوم كان مقداره: أبو سعيد: 5/ 349 سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا السبيل إلى الحج: عائشة: 1/ 418 سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصور: عبد الله بن عمرو: 2/ 150 سئل النبي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ: أبو هريرة: 2/ 521 سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: أبو الدرداء: 5/ 322 السبيل الزاد والراحلة: أنس: 1/ 417 السورة التي يذكر فيها البقرة: ربيعة الحرشي: 1/ 33 حرف الشين شارب الخمر كعابد الوثن:: 2/ 84 شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر: عليّ: 1/ 293 و 294 شفاء من كل داء: عبد الملك بن عمير: 1/ 19 شكركم: تقولون مطرنا: علي: 5/ 196 شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ: رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ:: 1/ 212 شيبتني هود:: 1/ 212 شيبتني هود وأخواتها:: 2/ 60

حرف الصاد

شيبتني هود وأخواتها: أنس: 2/ 544 شيبتني هود وأخواتها: أبو سعيد الخدري: 2/ 544 شيبتني هود وأخواتها: أبو جحيفة: 2/ 544 شيبتني هود وأخواتها: عمران بن حصين: 2/ 544 شيبتني هود وأخواتها: جعفر بن محمد: 2/ 544 شيبتني هود وإذا الشمس كورت: عقبة بن عامر: 2/ 544 شيبتني هود والواقعة:: 2/ 544 و 5/ 176 الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة: جبير بن مطعم: 5/ 503 الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة: أبو هريرة: 5/ 503 الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام: ابن عمرو: 4/ 143 الشفاء في ثلاثة في شرطة محجم: ابن عباس: 3/ 213 الشفع: اليومان، والوتر اليوم الثالث: جابر: 5/ 532 الشيخ والشيخة إذا زنيا: ابن عباس: 4/ 299 حرف الصاد صبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيبر وقد خرجوا بالمساحي: أنس: 4/ 479 صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة: بريدة: 5/ 286 صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ: يعلى بن أمية: 1/ 585 صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا: عمران بن حصين: 1/ 472 صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم صلاة الظهر: أبو موسى: 4/ 356 صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقرأ النجم: ابن عمر: 5/ 125 صلى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: ابن عباس: 3/ 317 صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال:: 1/ 209 صلّوا على أنبياء الله ورسله: كعب بن عجرة: 4/ 349 صلّوا في نعالكم: أنس: 2/ 230 صلّوا كما رأيتموني أصلي:: 1/ 586 صليت خلف النبي وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون: أنس: 1/ 20 صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المغرب: البراء: 5/ 566

حرف الضاد

صماما واحدا: عائشة: 1/ 261 صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته:: 1/ 212 صِيَامُ رَمَضَانَ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: ابن عمر: 1/ 209 صيام يوم أو إطعام مسكين: أبو هريرة: 2/ 91 الصبر ثلاثة فصبر على المصيبة: عليّ: 1/ 95 الصدقة على المسكين صدقة: سلمان بن عامر: 1/ 200 الصّعود جبل في النار: أبو سعيد: 5/ 395 الصّلاة الصّلاة إنما يريد الله: أبو الحمراء: 4/ 323 حرف الضاد ضرب الله مثلا صراطا مستقيما: النّواس بن سمعان: 1/ 28 ضع يدك على رأسك: ابن مسعود: 5/ 248 حرف الطاء طائر كل إنسان في عنقه: جابر: 3/ 257 طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان: عائشة: 1/ 270، 271، 285 طلحة ممن قضى نحبه: معاوية: 4/ 315 طوبى لمن آمن بي ورآني: أبو سعيد: 3/ 99 طُوبَى لِمَنْ أَكْثَرَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ الله: معاذ: 1/ 329 طوبى لمن رآني وآمن بي: أبو سعيد: 1/ 41 طوبى لمن رآني وآمن بي: أبو أمامة: 1/ 41 الطهور شطر الإيمان، والحمد لله: أبو مالك الأشعري: 1/ 24 و 178 الطهور ماؤه والحل ميتته:: 2/ 91 الطور جبل من جبال الجنة: كثير بن عبد الله: 5/ 116 الطوفان الموت: عائشة: 2/ 272

حرف الظاء

حرف الظاء ظلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم صائما ثم طوى: عائشة: 4/ 34 حرف العين عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا: عمرو بن العاص: 1/ 285 عُرِضَ عَلَيَّ مَا هُوَ مَفْتُوحٌ لِأُمَّتِي بَعْدِي: ابن عباس: 5/ 560 عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ فِي تِلْكَ الْأَسْمَاءِ أَلْفَ حرفة: عطية بن بشر: 1/ 77 عَلِّمُوا رِجَالَكُمْ سُورَةَ الْمَائِدَةِ وَعَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النور: مجاهد: 4/ 5 علموا نساءكم سورة الواقعة: أنس: 5/ 176 عليك بقراءة القرآن والعسل: واثلة: 2/ 516 عليكم بالشفاءين العسل والقرآن: ابن مسعود: 3/ 213 عليّ خير البرية: أبو سعيد: 5/ 581 عمدا فعلته يا عمر: بريدة: 2/ 21 عن نور عظيم فيخرون له سجدا: أبو موسى: 5/ 331 العبد يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا: ابن مسعود: 5/ 281 العدل الفدية: رجل: 1/ 99 العنكبوت شيطان مسخها الله: يزيد بن مرثد: 4/ 237 حرف الغين الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ: ابن مسعود: 4/ 272 الغيّ واد في جهنم: ابن عباس: 3/ 404 حرف الفاء فَاتِحَةُ الْكِتَابِ تَجْزِي مَا لَا يَجْزِي شَيْءٌ من القرآن: أبو الدرداء: 1/ 19 فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن: ابن عباس: 1/ 19 فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم: أبو سعيد الخدري: 1/ 19

فأخبرني عن الإيمان: عمر بن الخطاب: 1/ 40 فأكون أول من يرفع رأسه: أبو هريرة: 4/ 547 فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة: أبو الدرداء: 4/ 403 فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ: عائشة: 1/ 366 فإنكم أخذتموهن بأمانة الله:: 1/ 508 فإني أحكم بما في التوراة: أبو هريرة: 2/ 51 فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا: أبو سعيد: 5/ 398 فضل الله قريشا بسبع خصال: الزبير بن العوام: 5/ 607 فضل كلام الله على سائر الكلام:: 1/ 14 فضلنا الناس بثلاث: حذيفة: 1/ 545 فلعله قرأ سورة البقرة: جرير بن يزيد: 1/ 33 فَمَنْ ذَكَرَنِي وَهُوَ مُطِيعٌ فَحَقٌّ عَلَيَّ أَنْ أذكره بمغفرتي: أبو هند الداري: 1/ 183 فمن فاته حزبه من الليل:: 2/ 60 فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى الله ورسوله:: 1/ 583 فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الحج: ابن عمر: 1/ 227 في بيض النعام ثمنه: أبو هريرة: 2/ 91 في الجنة بحر اللّبن وبحر الماء: معاوية: 5/ 43 في الجنة ثمانية أبواب: سهل بن سعد: 4/ 549 في الصلوات الخمس شغلا للعبادة: أنس: 3/ 513 في قوله بماء كالمهل كعكر الزيت: أبو سعيد: 3/ 338 في قوله تتجافى جنوبهم قيام العبد من الليل: معاذ بن جبل: 4/ 294 في المال حق سوى الزكاة: فاطمة بنت قيس: 1/ 201 فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك: جابر: 3/ 12 فهلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى:: 5/ 550 الفردوس ربوة في الجنة وأوسطها: أنس: 3/ 564 الفلق جب في جهنم: أبو هريرة: 5/ 486 و 640

حرف القاف

حرف القاف قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السؤال:: 2/ 93 قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ المسلم: أبو هريرة: 1/ 598 قاربوا وسددوا وأبشروا: عمران بن حصين: 3/ 518 قَالَ ابْنُ صُورِيَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ابن عباس: 1/ 142 قال ربكم أنا أهل أن أتقى: أنس: 5/ 401 قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سبعين امرأة: أبو هريرة: 3/ 333 قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدم: أبو هريرة: 4/ 381 قَالَ اللَّهُ لِأَيُّوبَ: تَدْرِي مَا جُرْمَكَ عَلَيَّ: عقبة بن عامر: 3/ 500 قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ونحن بالمدينة: أبو أيوب: 2/ 329 قَالَ لِي جِبْرِيلُ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ: أبو هريرة: 2/ 536 قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَكُونُ في بيتي: عدي بن ثابت: 4/ 24- 25 قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابن عباس: 1/ 189 قتال المسلم كفر:: 5/ 75 قتلت بنو إسرئيل ثلاثة وأربعين نبيا: أبو عبيدة: 2/ 76 قتلوه قتلهم الله:: 1/ 544 قد أفلح من أسلم ورزق كفافا: ابن عمرو: 3/ 235 قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:: 4/ 57 قدم على النبي صلّى الله عليه وسلم العاقب والسيد: جابر: 1/ 399 قَرَأَ رَجُلٌ سُورَةَ الْكَهْفِ وَفِي الدَّارِ دَابَّةٌ: البراء: 3/ 319 قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح: عبد الله بن مغفل: 5/ 52 قَرَأَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ على المنبر ص: أبو سعيد الخدري: 4/ 492 قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولله على الناس حج البيت: نفيع: 1/ 419 قرآن الفجر تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار: أبو هريرة: 3/ 304 قرآن الفجر تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار: أبو الدرداء: 3/ 304 قرصت نملة نبيا من الأنبياء: أبو هريرة: 3/ 277 القرن مائة سنة: أبو سلمة: 4/ 91 قصر من لؤلؤة في الجنة: عمران بن حصين: 2/ 435 قصر من لؤلؤة في الجنة: أبو هريرة: 2/ 435

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ: ابن عمر: 5/ 617 قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ: ابن عباس: 5/ 586 قل اللهم اجعل لي عندك عهدا: البراء: 3/ 429 قُلِ اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ محمد: كعب بن عجرة: 4/ 348 قُلِ اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ محمد: طلحة بن عبيد الله: 4/ 348 قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ آدَمَ نَبِيًّا كان: أبو ذر: 1/ 92 قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصيد: عدي: 2/ 11 و 12 قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أول: أبو ذر: 1/ 417 قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عذابا يوم القيامة: أبو عبيدة: 1/ 377 قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟: أبو ذر: 1/ 621 قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ: أبو ذر: 1/ 82 قلوب لاهية وأيدي عليلة: يحيى بن كثير: 2/ 87 قم يا فلان فاخرج فإنك منافق: ابن عباس: 2/ 456 قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأ السبع الطوال: حذيفة: 1/ 479 قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة: عوف بن مالك: 1/ 34 قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه: أبو حميد الساعدي: 4/ 349 قومي إلى هذا فعلميه: عمر بن سعيد الثقفي: 4/ 25 قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا: أبو هريرة: 1/ 106 قيل لي: قل، فقلت: قولوا: زر بن حبيش: 5/ 636 قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إلى الله: ابن عباس: 1/ 173 القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل: أبو سعيد: 1/ 131 القنطار اثنا عشر ألف أوقية: أبو هريرة: 1/ 372 القنطار ألف أوقية: أنس: 1/ 372 القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية: أبيّ بن كعب: 1/ 372

حرف الكاف

حرف الكاف كان أصحاب موسى الذين جازوا البحر: ابن عباس: 4/ 119 كان إذا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي: عمر بن الخطاب: 3/ 563 كَانَ جِبْرِيلُ إِذَا جَاءَنِي بِالْوَحْيِ أَوَّلَ مَا يلقي عليّ بسم الله: ابن عمر: 1/ 21 كان ذكره مثل هدبة الثوب: ابن عمرو: 1/ 389 كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة: المقدام بن معدي كرب: 5/ 533 كَانَ رَجُلٌ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم مخنث: عائشة: 4/ 32 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا توضأ: جابر: 2/ 21 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل: عائشة: 4/ 537 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بآخرة إذا قام: أبو برزة: 5/ 124 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديبية: زيد بن أسلم: 2/ 10 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خطبته يحمد الله: جابر: 2/ 304 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسا في ظل حجرة: ابن عباس: 5/ 231 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعوّذ من عين الجان: أبو سعيد: 5/ 636 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتكفّأ في مشيه:: 4/ 99 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم: ابن عباس: 1/ 20 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحاصر أهل وادي القرى: عبد الله بن شقيق: 1/ 30 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب هذه السورة سبح اسم ربك: عليّ: 5/ 513 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد في النجم بمكة: ابن عباس: 5/ 125 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستلم الحجر: سعيد بن جبير: 3/ 296 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصوم حتى نقول: عائشة: 4/ 514 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الغلام من بني هاشم: عبد الكريم بن أبي أمية: 3/ 318 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلّمنا كلمات نقولهن عند اللزوم: عبد الله بن عمرو: 3/ 589 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة والحمد: عائشة: 1/ 20 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطع قراءته: أم سلمة: 1/ 20 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة: أبو هريرة: 5/ 274

كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبر أيام التشريق: الزهري: 1/ 238 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا ينام حتى يقرأ المسبحات: يحيى بن أبي كثير: 5/ 198 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قد أفلح من تزكى: أبو سعيد: 5/ 518 كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوتر بسبح: أبيّ بن كعب: 5/ 513 و 617 كان زكريا نجارا: أبو هريرة: 3/ 384 كان سليمان إذا صلّى رأى شجرة: ابن عباس: 4/ 366 كان على النصارى صوم شهر رمضان: معقل بن حنظلة: 1/ 208 كَانَ فِرْعَوْنُ عَدُوُّ اللَّهِ حَيْثُ أَغْرَقَهُ اللَّهُ: ابن عباس: 4/ 119 كَانَ فِيمَنْ خَلَا مِنْ إِخْوَانِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: أنس: 1/ 621 كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ على حرف واحد: ابن مسعود: 1/ 366 كَانَ الْكِفْلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَتَوَرَّعُ: ابن عمرو: 3/ 501 كَانَ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ: صهيب: 5/ 505 كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أصابت أهله خصاصة: ثابت: 3/ 468 كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ: حذيفة: 1/ 95 كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نزلت بأهله شدة: عبد الله بن سلام: 3/ 468 كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سفر: البراء: 5/ 566 كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي حتى ترم قدماه: المغيرة بن شعبة: 5/ 55 كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ في الظهر والعصر والليل إذا يغشى: جابر بن سمرة: 5/ 550 كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ في المسجد فيجهر بالقراءة: ابن عباس: 4/ 416 كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ في الوتر: عائشة: 5/ 513 كان النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يُقَبِّلُ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يتوضأ: عائشة: 1/ 543 كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة: بريدة: 2/ 21 كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي على راحلته تطوعا أينما توجهت به: ابن عمر: 1/ 154 كان النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ ثُمَّ يَقُولُ: عائشة: 1/ 622 كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ أو يأخذ من شاربه:: 1/ 162 كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يقرأ: جابر: 4/ 284 كان نبي من أنبياء الله يخط: أبو هريرة: 5/ 91 كَانَ نُوحٌ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا: عائشة: 2/ 568 كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ: جابر بن سمرة: 5/ 513 كَانَتِ امْرَأَةٌ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابن عباس: 3/ 154

كانت الأعراب إذا قدموا على النبي: عائشة: 5/ 461 كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم: أبو سعيد: 2/ 34 كانت قراءته صلّى الله عليه وسلم مدّا: أنس: 1/ 20 كانوا يجلسون بالطريق فيحذفون أبناء السبيل: أم هانئ: 4/ 234 كأني أراكم بالكوم دون جهنم:: 5/ 14 كأن أعينهم البرق: ابن عباس: 5/ 398 كَتَبَ اللَّهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزنا: أبو هريرة: 4/ 30 كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ في الجاهلية: سعيد بن جبير: 1/ 406 كذبت يهود، ما من نسمة: ثابت بن الحارث: 5/ 139 كذبتم بل أنتم خالدون مخلدون فيها: عكرمة: 1/ 125 كذبني ابن آدم وشتمني: ابن عباس: 1/ 156 كرسيه موضع قدمه: ابن عباس: 1/ 313 كفّر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بصاع من تمر: ابن عباس: 2/ 82 كفّر عن يمينك: مالك الجشمي: 1/ 266 كفى بالسيف شا:: 1/ 35 كَفَى بِقَوْمٍ حُمْقًا أَوْ ضَلَالَةً أَنْ يَرْغَبُوا: يحيى بن جعدة: 4/ 241 كل أمتي تدخل الجنة: أبو هريرة: 5/ 554 كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بحمد الله فهو أقطع: أبو هريرة: 1/ 24 كُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ: أبو هريرة: 2/ 236 كُلُّ حَرْفٍ فِي الْقُرْآنِ يُذْكَرُ فِيهِ الْقُنُوتُ: أبو سعيد: 1/ 157 كُلُّ حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ عَقْدٍ:: 1/ 533 كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة: عمر بن الخطاب: 3/ 595 كل شيء بقدر حتى العجز والكيس: ابن عمر: 5/ 156 كل عمل ابن آدم يضاعف: أبو هريرة: 1/ 329 كل فلعمري من أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ فَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ: خارجة بن الصلت: 1/ 19 كل قرآن يوضع عن أهل الجنة: أبو أمامة: 3/ 420 كل معروف صدقة وإن من المعروف:: 1/ 594 كل من مال يتيمك غير مسرف: ابن عمر: 1/ 492 كل مولود يولد على الفطرة: جابر: 4/ 260

كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة: ابن عمر: 3/ 595 كَلَامُ ابْنِ آدَمَ كُلُّهُ عَلَيْهِ لَا لَهُ إلا أمرا بمعروف: أم حبيبة: 1/ 594 كُلَّمَا أَنْفَقَ الْعَبْدُ مِنْ نَفَقَةٍ فَعَلَى اللَّهِ: جابر: 4/ 381 كلمتان قالهما فرعون: ابن عباس: 4/ 201 كُلُّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ: أسامة بن زيد: 4/ 404 كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا: عبد الله بن عمرو: 2/ 230 كما تكونون كذلك يؤمر عليكم: أبو إسحاق: 2/ 186 كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النساء إلا مريم: أبو موسى: 1/ 390 و 5/ 306 كنا جلوسا عند النبي حين نزلت سورة الجمعة: أبو هريرة: 5/ 269 كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أيعجز أحدكم: سعد بن أبي وقاص: 4/ 332 كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر: أنس: 4/ 473 كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضحك حتى بدت: أنس: 4/ 473 كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خرب المدينة: ابن مسعود: 3/ 306 كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم: أبو سعيد: 2/ 343 كُنْتُ أَقُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الليل: عائشة: 1/ 34 كنت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المسجد عند غروب الشمس: أبو ذر: 4/ 425 كنديّان أو مذحجيّان: أبو عبد الرحمن الجهني: 1/ 41 كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ: ابن عباس: 1/ 461 كيف بالغضب يا ربّ: ابن زيد: 2/ 321 الكبائر الإشراك بالله: ابن عمرو: 1/ 529 الكرامة: الأكل بالأصابع: جابر: 3/ 293 الكلب الأسود شيطان:: 2/ 16 الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف:: 1/ 326 الكوثر نهر في الجنة: ابن عمر: 5/ 615

حرف لا

حرف لا لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذلك حرم الفواحش: ابن مسعود: 1/ 621 لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي: سعيد بن جبير: 4/ 614 لا إله إلا الله: أنس: 2/ 178 لا إله إلا الله بذلك بعثت:: 2/ 121 لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شر قد اقترب: زينب بنت جحش: 5/ 372 لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن: أبو أمامة: 4/ 272 لا تتبع النظرة النظرة: بريدة: 4/ 30 لا تتعلمها وآمن بها، وتعلموا: عمر بن الخطاب: 4/ 241 لا تحتجموا يوم الثلاثاء: جابر: 5/ 198 لا تجعلوا بيوتكم مقابر: أبو هريرة: 1/ 32 لا تحدثن شيئا حتى آتيك: ابن مسعود: 5/ 376 لا تحدثي أحدا، وإن أم إبراهيم: ابن عمر: 5/ 300 لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: أبو سعيد: 2/ 427- 428 لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سوي: ابن عمر: 2/ 428 لا تخادع الله: رجل من الصحابة: 1/ 49 لا تخن: أم سلمة: 5/ 259 لا تخيروا بين الأنبياء: أبو هريرة: 1/ 308 لا تدخلوا على هؤلاء القوم: ابن عمر: 3/ 169 لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين: ابن عمر: 2/ 252 لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَّخِذُوا في مساجدهم مذابح:: 1/ 389 لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: أنس: 5/ 94 لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظاهرين: النعمان بن بشير: 1/ 397 لَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ كنهه: ابن عباس: 1/ 276 لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء: جابر: 4/ 238 لا تسألوا أهل الكتاب فإن كنتم سائليهم: ابن مسعود: 4/ 238 لا تسبّوا أصحابي فوالذي نفسي بيده: أنس: 5/ 203 لا تسبوا تبعا فإنه قد أسلم:: 4/ 661

لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم:: 1/ 173 لا تضع الحرب أوزارها: سلمة بن نفيل: 5/ 40 لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم: عمر: 1/ 624 لا تعجزوا عن الدعاء: عليّ: 1/ 213 لا تفضلوني على الأنبياء: أبو هريرة: 1/ 308 لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابن آدم الأول كفل: ابن مسعود: 2/ 38 لَا تَقُولُوا رَمَضَانَ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسماء الله: أبو هريرة: 1/ 211 لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: حذيفة: 4/ 176 لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مغربها: أبو هريرة: 2/ 207 لَا تَقُولُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَلَا سُورَةَ آلِ عمران: أنس: 1/ 34 لا تقولوا سورة البقرة ولكن قولوا: ابن عمر: 1/ 34 لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا:: 1/ 146 لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ: حذيفة بن اليمان: 1/ 62 لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله: ابن عمر: 4/ 528 لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم:: 1/ 187 لا تلقنوا الناس فيكذبوا: ابن عمر: 3/ 14 لا تمس القرآن إلا على طهر: عمرو بن حزم: 5/ 196 لا تمنعوا الماعون: قرة بن دعموص: 5/ 612 لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة: عائشة: 4/ 5 لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك: عائشة: 1/ 277 لا حسد إلا في اثنتين:: 1/ 530 لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَيْسَ فِيهِ رُكُوعٌ:: 5/ 436 لا طاعة لمخلوق في معصية الله: عمران بن حصين: 1/ 163 لا طاعة إلا في معروف: عليّ: 1/ 163 لا طلاق إلا بعد نكاح:: 4/ 338 لا فكرة في الرب: أبيّ بن كعب: 5/ 139 لَا نَذْرَ وَلَا يَمِينَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابن آدم: عبد الله بن عمرو: 1/ 266 لا نذر في معصية:: 1/ 339 لا وصية لوارث:: 1/ 205 لا ولكن أكرموا بنيكم واعرفوا الحق لأهله: الحسن البصري: 1/ 408

لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي: عائشة: 3/ 582 لا والله لا يعذب الله حبيبه: الحسن: 2/ 30 لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا: جابر: 3/ 409 لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ: عطية السعدي: 1/ 40 لَا يَتْلُوكُنَّ عَبْدٌ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: أبو أيوب: 1/ 375 لا يتوارث أهل ملتان: أسامة: 2/ 377 لا يجمع الله بين هذه الأمة على الضلالة أبدا: ابن عمر: 1/ 595 لا يحجنّ بعد العام مشرك:: 2/ 8 لَا يَحِقُّ الْعَبْدُ حَقَّ صَرِيحِ الْإِيمَانِ حَتَّى يحبّ لله ويبغض لله: عمرو بن الجموح: 2/ 521 لا يحرم الحرام الحلال:: 4/ 514 لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن تحد على ميت:: 1/ 286 لا يخرج رجلان يضربان الغائط:: 1/ 578 لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مثقال ذرة من كبر: ابن مسعود: 3/ 190 لَا يَدْخُلُ مَسْجِدَنَا هَذَا بَعْدَ عَامِنَا هَذَا مشرك: جابر: 2/ 401 لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ: أم بشر: 3/ 409 لا يدخل النار إلا شقي: أبو هريرة: 5/ 554 لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْنَا قَصَبَةَ الْمَدِينَةِ إِلَّا مُؤْمِنٌ:: 1/ 121 لَا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ: ابن عمر: 5/ 200 لَا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ: أبو سعيد: 5/ 200 لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها: أبو موسى: 4/ 621 لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بن متى:: 1/ 308 لا يقولن أحدكم زرعت:: 5/ 191 لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي:: 1/ 519 لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه: ابن عمر: 5/ 226 لا يمسّ القرآن إلا طاهر: ابن عمر: 5/ 196 لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النار:: 3/ 410 لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بالله: جابر: 4/ 588 لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ من يونس بن متى: ابن عباس: 3/ 502 لا ينفع حذر من قدر: معاذ: 4/ 572

حرف اللام

لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى فرج امرأة وابنتها:: 1/ 514 لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله: أبو هريرة: 4/ 9 حرف اللام لأعلمنك أعظم سورة في القرآن: أبو سعيد بن المعلا: 1/ 18 لأن أمتع بسوط في سبيل الله: عائشة: 5/ 544 لأن فيه جمعت طينة أبيكم آدم: أبو هريرة: 5/ 272 لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا: أبو سعيد: 4/ 142 لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا: أبو هريرة: 4/ 143 لتدخلن الجنة إلا من يأبى: أبو هريرة: 5/ 554 لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما: أبو هريرة: 4/ 430 لتلبسها أختها من جلبابها: أم عطية: 4/ 349 لعلاقة سوط في سبيل الله: ابن عباس: 5/ 544 لعن الله العقرب لا تدع مصلّيا: عليّ: 5/ 637 لعن النبي صلّى الله عليه وسلم المحلّل والمحلّل له: ابن مسعود: 1/ 277 لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ: زيد بن أسلم: 5/ 52 لقد أنزلت عليّ آية هي أحب: أنس: 5/ 52 لقد أنزلت عليّ آية هي أحب: أنس: 5/ 56 لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ: أنس: 4/ 225، 226 لقد حكمت فيهم بحكم الله: عائشة: 4/ 317 لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا سدّ الأفق: جابر: 2/ 111 لقد صدق الله قولك يا زيد: زيد بن الأرقم: 5/ 73 لقد عجب الله الليلة من فلان: أبو هريرة: 5/ 241 لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره: عكرمة: 3/ 40 لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبا جهل: عكرمة: 4/ 664 لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة: ابن مسعود: 1/ 328 لكل شيء عروس وعروس القرآن الرحمن: عليّ: 5/ 157 لكل نبي حواريّ وحواريي الزبير: 1/ 395

لكني أصوم وأفطر وأنام: ابن عباس: 2/ 81 لله تسعة وتسعون اسما: ابن عباس: 2/ 308 لله تسعة وتسعون اسما: ابن عمر: 2/ 308 لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ:: 1/ 112 لم تقصر ولم أنس: ذو اليدين: 1/ 320 لم تكن نبوة قط إلا تناسخت:: 1/ 147 لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة:: 1/ 393 لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا عِيسَى وَشَاهِدُ يوسف: أبو هريرة: 1/ 393 لم يجئ تأويلها، لا يجئ تأويلها: أبو سعيد: 2/ 97 لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا في ثلاث: أبو هريرة: 3/ 491 لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ: ابن عباس: 1/ 461 لَمَّا أَقْرَأَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فاتحة الكتاب: أبو ميسرة: 1/ 30 لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى الْأَرْضِ قَامَ وجاء الكعبة: عائشة: 1/ 85 لَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ لِلْجَبَلِ طَارَتْ لِعَظَمَتِهِ سِتَّةُ أجبل: أنس: 2/ 280 لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم زينب بنت جحش: أنس: 4/ 344 لما توفي عبد الله بن أبي دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصلاة عليه: عمر: 2/ 443 لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي: أنس: 3/ 561 لما خلق الله الخلق وقضى القضية: أبو أمامة: 2/ 301 لما رجع صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ يَا عَلِيُّ أَشْعَرْتَ: أبو سلمة: 2/ 5 لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم معتمرا في سنة ست: ابن عباس: 1/ 221 لَمَّا طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له عمر:: جابر: 1/ 164 لَمَّا طَلَّقَ حَفْصُ بْنُ الْمُغِيرَةِ امْرَأَتَهُ فَاطِمَةَ: جابر: 1/ 299 لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ التفت إلى الناس: عبد الله بن عمرو: 3/ 65 لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يوم أحد مر على مصعب: أبو ذر: 4/ 315 لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة:: 2/ 478 لما قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة حم: ابن عمر: 4/ 578 لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ على نفسه: أبو هريرة: 1/ 39 لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا فَوَضَعَهُ عنده:: 1/ 121 لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم الناس: سعد: 4/ 558

لما كلم الله موسى يوم الطور: جابر: 2/ 279 لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ قُلْتُ: رَحِمَكَ الله: أم العلاء: 5/ 19 لَمَا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المنبر فذكر ذلك: عائشة: 4/ 18 لَمَّا أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية وتعزّروه: جابر: 5/ 59 لما نزلت هذه الآية إنك ميّت: علي بن أبي طالب: 4/ 245 لما نزلت هذه الآية وأنذر عشيرتك دعا رسول الله: أبو هريرة: 4/ 141 لَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حمزة: سعد بن عبادة: 3/ 320 لَمَّا وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى القبلة: ابن عباس: 1/ 177 لما ولدت حواء طاف بها إبليس: سمرة: 2/ 314- 315 لن يدخل أحد الجنة بعمله:: 1/ 424 لن يغلب عسر يسرين: الحسن: 5/ 565 لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهَا فِي عينك: سهل بن سعد: 4/ 25 لو أن أحدكم يعمل في صخرة: أبو سعيد: 2/ 458 لو أن الإنس والجن والملائكة: أبو سعيد: 2/ 169 لو أن دلوا من غسّاق يهرق: أبو سعيد: 4/ 509 لو أن دلوا من غسلين: أبو سعيد: 5/ 343 لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا بِحَذَافِيرِهَا فِي يَدِ رجل: أنس: 1/ 24 لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ عَمَلًا فِي صَخْرَةٍ صمّاء: أبو سعيد: 1/ 119 لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ وَهُوَ بعدن: ابن مسعود: 3/ 533 لو أن رصاصة مثل هذه أرسلت: ابن عمرو: 4/ 576 لو أن صخرة زنة عشر أواق: أبو أمامة: 4/ 404 لَوْ أَنَّ مَقْمَعًا مِنْ حَدِيدٍ وُضِعَ فِي الأرض: أبو سعيد الخدري: 3/ 528 لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا: ابن عباس: 1/ 136 لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ: عمر: 5/ 292 لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَدُكَّ الْبَاغِي منهما: ابن عباس: 2/ 496 لو جاء العسر فدخل هذا الجحر: أنس: 5/ 565 لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم: أبو هريرة: 2/ 86 لو دنا مني لاختطفته: أبو هريرة: 5/ 573 لَوْ عَلِمَ اللَّهُ شَيْئًا مِنَ الْعُقُوقِ أَدْنَى من أف لحرّمه: الحسن بن علي: 3/ 263

لَوْ قِيلَ لِأَهْلِ النَّارِ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ فِي النار: ابن مسعود: 1/ 66 لو كان الإيمان بالثريا لناله ناس: قيس بن سعد: 5/ 270 لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ بِهِ: أبو هريرة: 5/ 269 لو كان العسر في جحر: ابن مسعود: 5/ 265 لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بعوضة: سهل بن سعد: 4/ 636 لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ، ما لبث: ابن عباس: 3/ 36 لَوْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا خَاتِمَةُ سورة الكهف لكفتهم: أبو حكيم: 3/ 378 لو نزل موسى ما تبعتموه وتركتموني: عبد الله بن الحارث: 4/ 241 لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ العقوبة: أبو هريرة: 1/ 26 لَوَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أمتي: ابن عباس: 4/ 412، 307 لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا وَإِنَّا إِنْ شاء الله لمهتدون: أبو هريرة: 1/ 117 لولا بنو إسرائيل لم يختر اللحم: أبو هريرة: 1/ 84 لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُهُ مَا هَنَأَ لِأَحَدٍ العيش: سعيد بن المسيب: 3/ 84 ليت شعري ما فعل أبواي: محمد بن كعب: 1/ 158 ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر: ابن عمر: 5/ 290 ليس أحد يحاسب إلا هلك: عائشة: 5/ 496 ليس الخبر كالمعاينة:: 1/ 323 ليس ذلك حديث ولا كلام: ابن عمر: 4/ 176 لَيْسَ شَيْءٌ أَشَدَّ عَلَى مَرَدَةِ الْجِنِّ مِنْ هؤلاء: أنس: 1/ 188 ليس شيء يولد إلا سيموت: أبيّ بن كعب: 5/ 630 ليس على الأمة حد حتى تحصن: ابن عباس: 1/ 520 ليس لطلب دنيا ولكن عيادة مريض: أنس: 5/ 272 ليس لك ذلك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره: ابن عباس: 1/ 277 ليس المسكين بهذا الطواف: أبو هريرة: 2/ 425 ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان: أبو هريرة: 1/ 337 ليس منا من لم يتغن بالقرآن:: 3/ 174 لَيْسَ هُنَاكَ لَيْلٌ وَإِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ: الحسن وأبو قلابة: 3/ 404 ليس هو كما تظنون: ابن مسعود: 2/ 154 ليقرأ أكل واحد منكم ما سمع: ابن مسعود: 5/ 16

حرف الميم

ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته:: 1/ 612 لئن ردّها الله عليّ لأشكرن ربي: النواس بن سمعان: 1/ 24 حرف الميم مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: ثوبان: 4/ 542 مَا أَحْسَنَ مُحْسِنٌ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ إِلَّا أثابه الله: ابن مسعود: 4/ 568 ما أخرجكما من بيوتكما السّاعة: أبو هريرة: 5/ 598 مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ كَانَ نَبِيًّا أَمْ لَا: أبو هريرة: 3/ 367 مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ: ابن مسعود: 2/ 306 ما أصاب بعرضه فلا تأكل: عديّ بن حاتم: 2/ 11 مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي اليوم سبعين مرة: أبو بكر: 1/ 439 ما أعطاكم الله خير: أبو العالية: 1/ 150 ما أمر الخزّان أن يرسلوا على عاد: ابن عمر: 5/ 337 ما أنتم بأسمع لما أقول منهم:: 4/ 268 مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ: أبو هريرة: 5/ 585 مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ الحمد لله: أنس: 1/ 24 مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فِي أهل أو مال أو ولد: أنس: 3/ 343 مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا وَلَا قَرْنًا وَلَا أمة: أبو سعيد: 4/ 202 ما أوحي إلي أن أجمع المال: أبو مسلم الخولاني: 3/ 175 ما بال أقوام يلعبون بحدود الله: أبو موسى: 1/ 278 ما بال دعوى الجاهلية: جابر: 5/ 278 مَا بَالَ رِجَالٍ يَقُولُونَ إِنَّ رَحِمَ رَسُولِ الله: أبو سعيد: 3/ 595 ما بغت امرأة نبي قط: ابن عباس: 2/ 571 ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه: ابن عباس: 1/ 76 ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به: أبو هريرة: 1/ 154 ما بين المشرق والمغرب قبلة: ابن مسعود: 2/ 372 ما ترون في هؤلاء الأسارى: أبو أسماء: 5/ 585 مَا تَرَوْنَ مِمَّا تَكْرَهُونَ فَذَاكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ: عليّ: 5/ 228

مَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سورة النساء: عمر: 1/ 627 ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد: ابن عمر: 5/ 174 ما حاجتك؟ هل تريد من شيء: ابن عباس: 5/ 467 ما حاك في نفسك فدعه: أبو أمامة: 2/ 10 ما حبسك عني؟: مجاهد: 3/ 408 مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ: عائشة: 1/ 31 ما حملكم على قتل الذريّة: الأسود بن سريع: 4/ 260 مَا خَلَا يَهُودِيٌّ بِمُسْلِمٍ إِلَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ: أبو هريرة: 2/ 79 مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَثَلِ مَا يجعل أحدكم إصبعه: المستورد: 3/ 98 ماذا تقولون؟ وماذا تظنون؟: ابن عمرو: 3/ 65 ما رأيت رسول الله مستجمعا ضاحكا: عائشة: 5/ 29 مَا رَفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ بِغِنَاءٍ إِلَّا بَعَثَ الله إليه: أبو أمامة: 4/ 272 ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت عليّ هي الرؤيا الصالحة: أبو هريرة: 2/ 521 مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ: أبو أمامة: 4/ 646 ما ظنك باثنين الله ثالثهما: أنس: 2/ 416 ما عثرة قدم ولا اختلاج عرق: البراء: 4/ 621 مَا فِي السَّمَاءِ مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا عَلَيْهِ ملك ساجد: عائشة: 4/ 478 ما في القرآن مثلها: أبو زيد: 1/ 19 ما قدر طول يوم القيامة: أبو هريرة: 5/ 349 ما كان بين عثمان وبين رقية: زيد بن ثابت: 4/ 231 مَا كَانَ لَهَا أَنْ تُؤْذِيَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: أسماء بنت عميس: 4/ 345 مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الخمس:: 2/ 354 مَا لِي وَلِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا لا كراكب: ابن مسعود: 3/ 98 ما محق الإسلام محق الشح شيء: أنس: 5/ 241 مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلٌ فِي الجنة: أبو هريرة: 4/ 646 مَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا سَيُحْشَرُ يوم القيامة:: 2/ 131 مَا مِنْ دَاعٍ دَعَا إِلَى شَيْءٍ إِلَّا كان موقوفا معه: أنس: 4/ 453 مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَقُومُ: أبو بكر: 1/ 438 مَا مِنْ زَرْعٍ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا ثِمَارٍ: ابن عمر: 2/ 141 مَا مِنْ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ إلا والسماء تمطر: المطلب بن حنطب: 1/ 61

مَا مِنْ شَيْءٍ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ القيامة: ابن عمرو: 3/ 292 مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي جَسَدِهِ: معاوية: 4/ 621 مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يؤدي زكاتها: أبو هريرة: 2/ 408 مَا مِنْ صَدَقَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قول الحق: عمرو بن دينار: 1/ 329 ما من عبد تشهد له أمة: أنس: 3/ 244 و 245 مَا مِنْ عَبْدٍ سَبَّحَ تَسْبِيحَةً إِلَّا سَبَّحَ ما خلق الله من شيء: أبو أمامة: 3/ 277 مَا مِنْ عَبْدٍ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَفِعَ فِي الدنيا درجة: سلمان: 3/ 262 مَا مِنْ عَبْدٍ يُنْعَمُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ إِلَّا كان الحمد: جابر: 1/ 24 مَا مِنْ غَدَاةٍ مِنْ غَدَوَاتِ الْجَنَّةِ وَكُلُّ الجنة غدوات: أبو هريرة: 3/ 204 مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فيها إثم: أبو سعيد: 1/ 213 مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ: أبو الدرداء: 4/ 268 مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ فِي جَسَدِهِ: أبو الدرداء: 2/ 56 مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُوَلَدُ إِلَّا مَكْتُوبٌ فِي تشبيك رأسه: ابن عمر: 5/ 280 ما من مولود إلا والشيطان يمسه: أبو هريرة: 1/ 385 مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ: أبو هريرة: 4/ 258 ما من مولود إلا يولد على هذه الملة: أبو هريرة: 4/ 258 مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ به: أبو هريرة: 4/ 303 مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِيَ ما مثله آمن عليه البشر: أبو هريرة: 1/ 63 مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ شَمْسُهُ إِلَّا وُكِّلَ بجنبتيها ملكان: أبو الدرداء: 2/ 501 مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وملكان: أبو هريرة: 4/ 381 مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مقعده: علي: 5/ 554 ما نزلت حتى اشتقت إليك: الشعبي: 2/ 320 ما هذا يا جبريل؟: ابن عباس: 1/ 100 ما هذا اليوم؟: أبو سعيد: 5/ 525 ما هذه النجوى؟: علي: 5/ 615 مَا هَذِهِ النَّحِيرَةُ الَّتِي أَمَرَنِي بِهَا رَبِّي؟: عبد الله بن رواحة: 1/ 258 ما هي يا عبد الله؟:: 2/ 5 المائدة من آخر القرآن تنزيلا: ابن عمرو: 5/ 585 ما يبكيك يا أبا بكر؟: ابن عباس: 3/ 408 مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا؟: أبو جمعة الأنصاري: 1/ 41

مَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أظهركم؟: زيد بن أبي أوفى: 3/ 164 مَثَلُ الَّذِي يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي: جندب بن عبد الله: 1/ 95 مثل العالم الذي يعلم الناس الخير: أبو رافع: 1/ 78 مثلت لي أمتي في الماء والطين: جابر: 4/ 330 مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى: جابر: 4/ 330 مثلي ومثل النبيين كمثل رجل: أبو سعيد: 4/ 330 مَرَّ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنْ يَهُودَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: جابر: 1/ 36 مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقوم ينتصلون: الحسن: 1/ 266 مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار:: 2/ 138 مر النبي صلّى الله عليه وسلم على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان: السدي: 3/ 484 مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَصَبِيٍّ فِي الطريق: أنس: 2/ 31 مره فليراجعها ثم ليمسكها: ابن عمر: 1/ 270 مروا بجنازة فأثني عليها خيرا: أنس: 1/ 176 و 177 مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر:: 2/ 97 مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم: عليّ: 1/ 453 مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ أَوْ نأمر بعبادة غيره: ابن عباس: 1/ 408 مع كل إنسان ملك إذا نام: ابن عباس: 2/ 142 مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: ابن عمر: 2/ 141 و 4/ 283 مكة مباحة لا تؤجر بيوتها: ابن عمر: 3/ 533 ملعون من أتى امرأته في دبرها: أبو هريرة: 1/ 262 ملعون من سبّ والديه:: 2/ 172 مَنِ اتَّبَعَ كِتَابَ اللَّهِ هَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الضلالة: ابن عباس: 4/ 464 مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ:: 1/ 185 من استنّ خيرا فاستنّ به: حذيفة: 5/ 481 من اشتكى ضرسه فليضع إصبعه: ابن عباس: 5/ 317 مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً: ابن عباس: 2/ 166 مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ: أبو هريرة: 1/ 464 من أبلى بلاء فذكره فقد شكره: جابر: 4/ 561 من أتى كاهنا أو ساحرا وصدّقه: ابن مسعود: 1/ 144

مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ مُنَجِّمًا فَقَدْ كَفَرَ:: 2/ 140 من أحبّ أن يتمثل له الناس صفوفا: قتادة: 4/ 494 مَنْ أَخَذَ السَّبْعَ الْأُوَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ خير: عائشة: 1/ 33 من أخذ السّبع فهو خير: عائشة: 1/ 33 من أخذ شبرا من الأرض: سعيد بن زيد: 5/ 295 من أخذ شبرا من الأرض ظلما: عائشة: 1/ 72 من أخذ شبرا من الأرض ظلما: سعيد بن زيد: 1/ 72 مَنْ أَدْخَلَ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُورًا فَقَدْ سَرَّنِي: ابن عباس: 3/ 417 مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنَ الليل: أنس: 5/ 631 مَنْ أَرْسَلَ بِنَفَقَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَقَامَ في بيته: عمران بن حصين: 1/ 329 مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ معلوم:: 1/ 344 من أصبح منكم معافي في جسده:: 2/ 34 من أطاق الحج فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا: عمر: 1/ 418 مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ:: 1/ 35 من أعتق رقبة مؤمنة: أبو هريرة: 5/ 544 من أعطى عطاء فوجد فليجز به: جابر: 5/ 561 مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ أَكْلَ نَارًا: ابن عمر: 3/ 533 من ألهم خمسة لم يحرم خمسة: أنس: 3/ 118 مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَ له: خريم: 1/ 329 من أهل النار؟: أبو هريرة: 1/ 125 من أولي معروفا فليكافئ به: عائشة: 5/ 561 من بثّ لم يصبر: مسلم بن يسار: 3/ 61 مَنْ بَدَا جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ: أبو هريرة: 2/ 453 من بركة المرأة ابتكارها بالأنثى: واثلة بن الأسقع: 4/ 626 مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نسبه:: 1/ 170 مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم: محمد بن كعب: 2/ 122 من بلغه القرآن فكأنما شافهته به: ابن عباس: 2/ 122 من ترك المراء ولو محقّا:: 1/ 400 مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ: أبو هريرة: 1/ 341

مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ أَوْ تَكَهَّنَ: عمران بن حصين: 1/ 144 من تعلم من السحر قليلا أو كثيرا: صفوان بن سليم: 1/ 144 مَنْ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أبو أمامة: 5/ 248 من جاء بالحسنة يعني بشهادة أن لا إله إلا الله: كعب بن عجرة: 4/ 181 من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة: أبو هريرة: 3/ 417 مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ: أبو هريرة: 5/ 124 مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ الله متطوعا: معاذ: 3/ 410 مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مَنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكهف: أبو الدرداء: 3/ 319 مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ فَرَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا منه:: 1/ 268 مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها:: 1/ 265 و 3/ 228 مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ قَطِيعَةَ رَحِمٍ أَوْ معصية: عائشة: 1/ 265 مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ: ابن مسعود: 1/ 406 من حلف على فليحلف برب الكعبة: قتيلة بنت صيفي: 1/ 61 مَنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الحاج: أبو هريرة: 1/ 585 مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ الله: عبد الله بن عتيك: 1/ 585 من دوام على قراءة يس: أنس: 4/ 413 مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ: عائشة: 1/ 613 من دعي إلى سلطان فلم يجب: سمرة: 4/ 57 مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي:: 4/ 236 مَنْ رَابَطَ لَيْلَةً حَارِسًا مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ: أنس: 1/ 476 من ردّ عن عرض أخيه: أبو الدرداء: 4/ 569 مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ مِنَ الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ وَالصِّبْيَانِ: أنس: 1/ 410 مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ يَمْشِي على الأرض: عائشة: 4/ 315 من سره أن ينظر إلى يوم القيامة:: 5/ 478 من سره أن ينظر إلى يوم القيامة: ابن عمر: 5/ 469 من سمّى المدينة يثرب فليستغفر الله: البراء بن عازب: 4/ 309 من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها:: 4/ 225، 396 من شأنه أن يغفر ذنبا: أبو الدرداء: 5/ 167 مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: جابر: 5/ 518 من صافح مشركا فليتوضأ: ابن عباس: 2/ 401

من صام رمضان إيمانا واحتسابا:: 1/ 211 من الصديقين والشهداء: عمرو بن مرة: 5/ 209 من صلّى أربع ركعات خلف العشاء: ابن عباس: 4/ 284 من صلّى صلاة الفجر في جماعة وقعد في مصلّاه: ابن مسعود: 2/ 112 مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ القرآن: أبو هريرة: 1/ 19 من صلّى قائما فهو أفضل: عمران بن حصين: 1/ 472 من صلّى يرائي فقد أشرك: شداد بن أوس: 3/ 377 مَنْ طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ فَقَالَ لَعِبْتُ فَلَيْسَ قوله بشيء: أبو الدرداء: 1/ 279 مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سحر: أبو هريرة: 5/ 640 مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ شَيْئًا فَلْيُلْقِهِ: سبرة بن معبد: 3/ 169 من غشّنا فليس منا:: 2/ 208 من فطرة إبراهيم السّواك: عطاء: 1/ 162 مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هذه الدعوة: جابر: 2/ 45 من قال حين يصبح ثلاث مرات: معقل بن يسار: 5/ 248 مَنْ قَالَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ سُبْحَانَ رَبِّكَ: زيد بن أرقم: 4/ 479 مَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ سُبْحَانَ الله وبحمده: أبو هريرة: 4/ 332 من قام رمضان إيمانا واحتسابا:: 1/ 211 و 2/ 459 من قرأ اقتربت الساعة: عبد الله بن أبي فروة: 5/ 144 مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ فِي لَيْلَةٍ: عثمان بن عفان: 1/ 477 مَنْ قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَلَمْ يتفكر بها: سفيان: 1/ 472 مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ابن مسعود: 1/ 355 من قرأ إذا زلزلت الأرض: أنس: 5/ 582 مَنْ قَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أحد: ابن عباس: 1/ 19 مَنْ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ قرأ فاتحة الكتاب: أنس: 1/ 31 مَنْ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَتَبَ الله له بكل حرف: ابن مسعود: 1/ 22 مَنْ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُوقِنًا سبّحت معه الجبال: عائشة: 1/ 22 من قرأ تبارك الذي بيده الملك والم تنزيل: ابن عمر: 4/ 284 مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكهف: أبو الدرداء: 3/ 319 مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ به حسنة: ابن مسعود: 1/ 37

من قرأ الدخان في ليلة جمعة: أبو هريرة: 4/ 652 من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير: أبو هريرة: 4/ 550 من قرأ خواتيم الحشر في ليلة: أبو أمامة: 5/ 249 مَنْ قَرَأَ سُورَةَ حم الدُّخَانِ فِي لَيْلَةِ الجمعة: أبو أمامة: 4/ 652 مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَانَتْ لَهُ نُورًا: أبو سعيد: 3/ 319 مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سطع له نور:: 3/ 319 مَنْ قَرَأَ السُّورَةَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عمران: ابن عباس: 1/ 353 من قرأ سورة الواقعة كل ليلة: ابن مسعود: 5/ 176 مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ: أبو الدرداء: 3/ 319 مَنْ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ التَّوْرَاةَ: الحسن البصري: 1/ 19 مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ الم. تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ: عائشة: 4/ 284 من قرأ في ليلة إذا زلزلت: أبو هريرة: 5/ 582 من قرأ في ليلة ألف آية: عمر: 5/ 595 من قرأ في ليلة فمن كان يرجو لقاء ربه كان له نور: عمر بن الخطاب: 3/ 378 مَنْ قَرَأَ فِي يَوْمٍ مِائَتَيْ مَرَّةٍ قُلْ هو الله أحد: أنس: 5/ 631 من قرأ القرآن قبل أن يحتلم أوتي الحكم: ابن عباس: 3/ 387 مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَكَأَنَّمَا: أبيّ: 5/ 630 مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مِائَتَيْ مرة: أنس: 5/ 630 مَنْ قَرَأَ الْكَهْفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهُوَ مَعْصُومٌ: عليّ: 3/ 319 من قرأ منكم والتين والزيتون؟: أبو هريرة: 5/ 412 مَنْ قَرَأَ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ كَانَتْ لَهُ: أبو هريرة: 5/ 617 مَنْ قَرَأَ يس فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ عَشْرَ مرات: حسان بن عطية: 4/ 411 مَنْ قَرَأَ يس فِي لَيْلَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله: أبو هريرة: 4/ 411 مَنْ قَطَعَ مِيرَاثَ وَارِثِهِ قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ: أنس: 1/ 503 مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَيْءٌ فَدَعَاهُ: الحسن: 4/ 57 مَنْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِوَاحِدَةٍ مِنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ: عمران بن حصين: 5/ 548 مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ: زيد بن أسلم: 2/ 34 مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ الله: ابن عباس: 5/ 279 مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةَ:: 1/ 224 مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهِمَا:: 1/ 603

مَنْ كَانَتْ لَهُ سَرِيرَةٌ صَالِحَةٌ أَوْ سَيِّئَةٌ: عثمان: 1/ 119 مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ في الآخرة: عمر بن الخطاب: 1/ 528 مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ: أبو موسى: 2/ 87 مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِسُورَتَيْنِ فَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ: زيد بن أرقم: 5/ 618 من لم تنهه صلاته عن الفحشاء: عمران بن حصين: 4/ 237 مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ: ابن عباس: 4/ 237 من لم يدع الله يغضب عليه: أبو هريرة: 4/ 572 مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ: النعمان بن بشير: 5/ 561 مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أيام: عائشة: 1/ 229 من مات مرابطا أجرى الله عليه: سلمان الفارسي: 3/ 552 من مات ولم يحج حجة الإسلام: أبو أمامة: 1/ 418 من مات وهو موسر ولم يحج: ابن عمر: 1/ 418 مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجنة: أبو سعيد: 4/ 524 مَنِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ اليهود: عبد الله بن شقيق: 1/ 29 مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ الله ولم يحج: علي: 1/ 419 من نذر أن يطيع الله فليطعه:: 1/ 335 من نوقش الحساب عذب:: 5/ 496 من وجد إلى الحج سبيلا سنة: ابن عمر: 1/ 419 من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد: أبو سعيد: 3/ 519 من يقل عليّ ما لم أقل: خالد بن دريك: 4/ 77 منعت الزكاة وأردت قتل رسولي: الحارث بن ضرار: 5/ 73 منها خلقناكم وفيها نعيدكم: أبو أمامة: 3/ 440 موسى بن عمران صفيّ الله: أنس: 3/ 559 مؤمنو أمتي شهداء: البراء: 5/ 209 الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ: عبد الرحيم الخطمي: 2/ 87 الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ: فضالة بن عبيد: 3/ 559 المختلعات والمنتزعات هن المنافقات: أبو هريرة: 1/ 276 المستبان ما قالا، فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ: أبو هريرة: 1/ 613 الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا مِنْ شَيْءٍ، فَعَلَى الْبَادِئِ: أبو هريرة: 4/ 621

حرف النون

الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله: البراء بن عازب: 3/ 130 الْمُسْلِمُ إِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ: ابن عباس: 2/ 180 المسلمون تتكافأ دماؤهم:: 1/ 202 المعيشة الضّنكى أن يسلط عليه: أبو هريرة: 3/ 464 المغضوب عليهم اليهود: إسماعيل بن أبي خالد: 1/ 30 الملائكة أطاعوه في السماء: أنس: 1/ 410 المهاجرون بعضهم أولياء بعض: جرير بن عبد الله: 2/ 377 حرف النون نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سبعين جزءا: أبو هريرة: 1/ 64 ناس من أمتي يعقدون السّمن والعسل: أبو قلابة: 5/ 598 نام رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حصير: ابن مسعود: 3/ 98 نتزوج نساء أهل الكتاب: جابر: 2/ 20 نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أسماء: 3/ 182 نحن الآخرون السابقون يوم القيامة: أبو هريرة: 3/ 245 نحن أحق بالشك من إبراهيم:: 1/ 323 نحن أحق بموسى منكم: ابن عباس: 1/ 100 نحن الأولون والآخرون الأولون يوم القيامة: أبو هريرة: 1/ 246 نحن معاشر الأنبياء لا نورث:: 3/ 381 نزل القرآن على سبعة أحرف: أبو هريرة: 1/ 366 نَزَلَ اللَّهُ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَرْبَعَ مَنَازِلَ: أبو سعيد: 5/ 93 نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ وَمَعَهَا مَوْكِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: أنس: 2/ 111 نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء: ابن عمر: 5/ 198 نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة: ابن عمر: 2/ 111 نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما: عمار بن ياسر: 2/ 107 نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدبور: ابن عباس: 4/ 309 و 5/ 337 نَظَرْتُ فَإِذَا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ: أبو سعيد: 1/ 495 نعم إذا كثر الخبث: 3/ 84

حرف الهاء

نعم أفضل الحسنات: سعد بن جبير: 2/ 209 نعم بين آدم ونوح عشرة قرون رجل:: 1/ 82 نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما: عقبة بن عامر: 3/ 514 نعم فيها شجرة تدعى طوبى: عتبة بن عبد: 3/ 99 نعم كان نبيا رسولا: أبو ذر: 1/ 82 نعم ليكررن عليكم ذلك: الزبير بن العوام: 4/ 532 نعم يبعث الله هذا ثم يميتك: ابن عباس: 4/ 441 نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن: أبو ذر: 1/ 54 نعيت إلي نفسي: ابن عباس: 5/ 622 نودوا أن صحوا فلا تسقموا: أبو هريرة: 2/ 235- 236 نور يقذف فيه فينشرح صدره: أبو جعفر المدائني: 2/ 284 نهانا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ نتكلف للضيف: سلمان: 4/ 513 نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أكل كل ذي ناب: خالد بن الوليد: 3/ 182 نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التبتل: سمرة: 3/ 106 نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قتل الضفدع: ابن عمرو: 3/ 277 نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لحوم الحمر الأهلية: جابر: 3/ 182 نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النظر في النجوم: أبو هريرة: 2/ 166 نهي النبي صلّى الله عليه وسلم أن يتزوّج بعد نسائه: ابن عباس: 4/ 30 نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: عبد الرحمن بن عوف: 4/ 272 النائحة إذا لم تتب قبل موتها: أبو مالك الأشعري: 3/ 144 النذر ما تبتغي به وجه الله:: 1/ 336 النظرة سهم من سهام إبليس: حذيفة: 4/ 30 النور يوم القيامة: أبي بن كعب: 5/ 68 النون: السمكة التي عليها قرار الأرضين: ابن عباس: 5/ 322 حرف الهاء هبط آدم وحواء عريانين جميعا: أنس: 1/ 84 هذا الإخلاص: ابن عباس: 1/ 399

هذا أمين هذه الأمة: حذيفة: 1/ 398 هذا باب قد فتح من السماء: ابن عباس: 1/ 19 هذا عقوبة ذنبك: عليّ: 4/ 30 هذا النعيم الذي تسألون عنه: جابر: 5/ 598 هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا به:: 2/ 22 هذا وقومه والذي نفسي بيده: أبو هريرة: 5/ 51 هذا يوم الحج الأكبر: ابن عمر: 2/ 383 هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون: ابن جريج: 2/ 310 هذه في الجنة ولا أبالي: معاذ: 5/ 182 هل تجدني في الإنجيل؟: ابن عباس: 3/ 109 هل تدرون ما الشجرة الطيبة؟: ابن عمر: 3/ 129 هل تدرون ما قال؟: أنس: 5/ 224 هل تدرون ما معنى ذلك؟: أنس: 3/ 98 هَلْ تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي يَوْمٍ لَا غَيْمَ فيه؟: أبو هريرة: 5/ 409 هل ترون قبلتي هاهنا؟: أبو هريرة: 4/ 141 هل تزوجت يا فلان؟: أنس: 5/ 582 هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟: أبو هريرة: 5/ 409 هل جزاء من أنعمت عليه بالإسلام ... : جابر: 5/ 174 هل جئتم في عهد أحد؟:: 5/ 62 هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصلت؟: عمرو بن الشريد: 4/ 143 هُمْ آخِرُ مَنْ يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعِبَادِ (أهل الأعراف) : أبو زرعة: 2/ 238 هل أهل البدع والأهواء من هذه الأمة: ابن عباس: 2/ 209 هم الشهداء متقلدون أسيافهم: أبو هريرة: 4/ 547 هم على الفطرة: عائشة: 3/ 257 هُمْ قَوْمٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي معصية آبائهم (أهل الأعراف) : عبد الرحمن المزني: 2/ 238 هم منهم (ذراري المشركين) :: 3/ 257 هما جميعا من أمتي: ابن عباس: 5/ 187 هُمَا نَجْدَانِ فَمَا جُعِلَ نَجْدُ الشَّرِّ أَحَبَّ إليكم: أنس: 5/ 543 هن حولي يسألنني النفقة: جابر: 4/ 323

هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَمَا بَيْنَهُ: ابن عباس: 1/ 22 هو أمان من السرق: ابن عباس: 3/ 317 هُوَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله: عمر بن الخطاب: 4/ 325 هو أنت وشيعتك: ابن عباس: 5/ 581 هو سجن في جهنم (الفلق) : ابن عمرو: 5/ 640 هو الطهور ماؤه والحل ميتته:: 2/ 11 هو عبد ناصح الله فنصحه ذو القرنين: عليّ: 3/ 367 هو عليّ بن أبي طالب: عليّ: 5/ 301 هو قول أخي يعقوب لبنيه: ابن عباس: 3/ 66 هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ كَلَّا وَاللَّهِ وبلى والله: عائشة: 1/ 266 هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي أَشْفَعُ فِيهِ لِأُمَّتِي: أبو هريرة: 3/ 304 هو ملك مسح الأرض بالأسباب (ذو القرنين) : الأحوص بن حكيم: 3/ 366 هو نهر من أنهار الجنة: ابن عمرو: 5/ 615 هو هذا: عديم بن ساعدة: 2/ 462 هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس: أم سلمة: 4/ 321 هؤلاء قوم من أهل اليمن:: 4/ 61 هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة: أبو سعيد: 4/ 403 هلا صلّيت بسبح اسم ربك الأعلى: معاذ: 5/ 513، 545 هي أم القرآن وهي السبع المثاني: أبو هريرة: 1/ 18 هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب: أبو هريرة: 1/ 18 هي زكاة الفطر: ابن عمرو: 5/ 518 هي في الدنيا الرؤيا الصالحة: أبو هريرة: 2/ 521 هي كلها في صحف إبراهيم: ابن عباس: 5/ 519 هي لمن عمل بها من أمتي: ابن مسعود: 2/ 604 هي المانعة، هي المنجية: ابن عباس: 5/ 307 هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها: أبيّ بن كعب: 5/ 292 الهالك في الفترة يقول: أبو سعيد: 4/ 207

حرف الواو

حرف الواو واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه: أبو هريرة: 1/ 366 وآدم بين الروح والجسد: ابن عباس: 4/ 308 والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه: ابن عمر: 3/ 225 وإذا أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم: ابن عمر: 2/ 300 وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أَلَا إن القوة الرمي: عقبة بن عامر: 2/ 366 وألزمهم كلمة التقوى لا إله إلا الله: أبيّ بن كعب: 5/ 68 وأنا على ذلك من الشاهدين: أبو أيوب: 1/ 375 وأنا فرطكم على الحوض:: 2/ 127 وإن أخذ مالك وضرب ظهرك:: 2/ 601 وإن منكم إلا واردها مجتاز فيها: أبو هريرة: 3/ 409 وإن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب: أسامة بن زيد: 1/ 107 وإن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب: سعد بن مالك: 1/ 107 وإن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب: خزيمة بن ثابت: 1/ 107 وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أنفسهم:: 1/ 608 وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم: عياض بن حمار: 4/ 261 وأهلها ينصف بعضهم بعضا: جرير: 2/ 607 وأوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا:: 2/ 10 وجبت، وجبت، وجبت: أنس: 1/ 177 وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض: عليّ: 2/ 211 وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا: ثوبان: 2/ 144 وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم: ابن عباس: 1/ 227 وصلاة الرجل في جوف الليل: معاذ بن جبل: 4/ 294 وصلاة المرء في جوف الليل: أبو هريرة: 4/ 294 وكلني رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر: أبو هريرة: 1/ 314 وعلموا أقاربكم سورة يوسف: أبيّ بن كعب: 3/ 5 وقع في نفس موسى: أبو هريرة: 4/ 409، 410 وكانوا- يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ- يَفْزَعُونَ إِذَا فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ: صهيب: 1/ 96

ولد الرجل من كسبه:: 4/ 62 ولد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث: أبو هريرة: 4/ 466 والذي بعثني بالحق لولا ضعفاء الناس:: 2/ 473 والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته: جابر: 5/ 581 والذي نفسي بيده إنها ختمت: صالح أبو الخليل: 3/ 569 وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ: أبو سعيد: 5/ 631 والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم: أبو هريرة: 5/ 598 والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف: الزهري: 4/ 241 وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ: أنس: 4/ 268 وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ عِنْدَ الكرسي: أبو ذر: 1/ 313 وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي: أبو هريرة: 1/ 529 وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي: أبو سعيد: 1/ 529 والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم:: 4/ 303 وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ إماتة: أبو سعيد: 1/ 71 وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يمين فأرى غيرها:: 1/ 265 وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها:: 3/ 228 وَاللَّهِ لَا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مِنْ دَخَلَهَا: ابن عمر: 5/ 444 وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ:: 3/ 40 والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون:: 3/ 241 ولا يمسّ القرآن إلا طاهر: عمرو بن حزم: 5/ 196 وما حملك على ذلك: ابن عباس: 5/ 221 وما كان يدريه أنها رقية: أبو سعيد الخدري: 1/ 19 وما وجعه؟ قال: به لمم: أبيّ بن كعب: 1/ 45 ومن أنفق على نفسه وأهله: أبو عبيدة: 1/ 329 ويأتيك من لم تزود بالأخبار: عائشة: 4/ 437 ويقول الكافرون عند ذلك قد وجد المؤمنون: عقبة بن عامر: 3/ 126 الويل جبل في النار: عثمان: 1/ 124 ويل للأعقاب من النار:: 2/ 22 وَيْلٌ لِلَّذِي لَا يَعْلَمُ مَرَّةً وَلَوْ شَاءَ الله لعلمه: أبو الدرداء: 1/ 95

حرف الياء

وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ: أبو سعيد: 1/ 124 حرف الياء يا ابن الخطاب إني رسول الله: سهل بن حنيف: 5/ 67 يَا أَبَا بَكْرٍ أَرَأَيْتَ مَا تَرَى فِي الدنيا: أنس: 5/ 585 يَا أَبَا حَابِسٍ أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ مَا تَعَوَّذَ: أبو حابس: 5/ 636 يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ: أبو ذر: 4/ 425 يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ: أبو ذر: 4/ 425 يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا: أبو ذر: 2/ 131 يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شياطين: أبو أمامة: 2/ 176 يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق: أم هانئ: 4/ 491 يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ: عليّ: 1/ 520 يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عليكم الحج: أبو هريرة: 2/ 95 يا أيها الناس إنهما نجدان: أبو أمامة: 5/ 543 يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ في الاستمتاع من النساء: سبرة بن معبد: 1/ 518 يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ شِرْكًا بالله: أيمن بن مريم: 3/ 537 يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَسْأَلُوا نَبِيَّكُمْ عَنِ الآيات: جابر: 2/ 252 يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا: عبد الله بن عمرو: 4/ 333 يا إخوان القردة والخنازير: مجاهد: 1/ 121 يَا بُرَيْدَةُ أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: بريدة: 4/ 303 يَا جِبْرِيلُ! كَيْفَ حَالُنَا فِي صَلَاتِنَا إِلَى بيت المقدس: البراء: 1/ 180 يا خولة قد أنزل الله فيك: يوسف بن عبد الله ابن سلام: 5/ 220 يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مالا: ثعلبة بن حاطب: 2/ 439 و 440 يا رسول الله أأستأذن على أمي: عطاء بن يسار: 4/ 64 يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِالْكِلَابِ: عدي بن حاتم: 2/ 19 يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُعْطِي أَمْوَالَنَا الْتِمَاسَ الذكر: يزيد الرقاشي: 4/ 517 يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ البر والفاجر: أنس: 4/ 343

يا رسول الله: أنبيّ كان آدم؟: رجل: 1/ 82 يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون: زينب بنت جحش: 2/ 212 يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَلَاثٌ أَعْطِنِيهِنَّ قَالَ: نَعَمْ: ابن عباس: 5/ 255 يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي اسْمَ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ: عائشة: 2/ 308 يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا السَّلَامَ عَلَيْكَ فكيف الصلاة عليك: كعب بن عجرة: 4/ 348 يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قد هلكت: ثابت بن قيس: 1/ 470 يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَعْنَى آمِينْ؟ قَالَ: رب افعل: ابن عباس: 1/ 31 يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الربيع: امرأة سعد بن الربيع: 1/ 497 يا رسول الله لا تسبقني بآمين: بلال: 1/ 31 يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ: ابن عباس: 1/ 194 يا عائش إن الذين فرّقوا دينهم: عمر: 2/ 209 يا عائشة أما تقرئين: عائشة: 5/ 581 يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ: عائشة: 5/ 525 يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم: أسماء بنت يزيد: 4/ 542 يا عبادي لو أن أولكم وآخركم:: 4/ 518 يا عثمان لقد سألتني عن مسألة: عثمان بن عفان: 4/ 547 يَا عَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ لِلْمُصَدِّقِ بِدَارِ الْحَيَوَانِ: أبو جعفر: 4/ 245 يا عقبة اقرأ ب قل أعوذ بربّ الفلق: عقبة بن عامر: 5/ 636 يَا عَمْرُو بْنَ زُرَارَةَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجل قد أحسن كل شيء: ابن عباس: 4/ 290 يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك: عمران بن حصين: 2/ 211 يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يأمرك: أنس: 5/ 632 يا فلان هذه زوجتي فلانة: أنس: 1/ 80 يَا قَوْمِ إِذَا أَبَيْتُمْ أَنْ تُبَايِعُونِي فَاحْفَظُوا: ابن عباس: 4/ 614 يا ليتني قد لقيت إخواني: عوف بن مالك: 1/ 41 يا مالك يوم الدّين إيّاك نعبد: أبو طلحة: 1/ 27 يَا مُحَمَّدُ إِنْ سَأَلَكَ الْيَهُودُ أَيَّ الْأَجَلَيْنِ: أبو هريرة: 4/ 198 يَا مُحَمَّدُ إِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيَّ هلك: أنس: 5/ 631 يَا مَرْثَدُ! الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً: ابن عمرو: 4/ 9 يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة: ابن عباس: 4/ 615

يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عليكم: أنس: 2/ 462 يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّبِيِّ المتقون: الحكم بن ميناء: 1/ 401 يا معشر المسلمين إيّاكم والزنا: حذيفة: 2/ 77 يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهَ اللَّهَ أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ: زيد بن أسلم: 1/ 421 يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَرُونِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا منكم: عوف بن مالك: 5/ 23 يا معشر اليهود أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِمَا أَصَابَ قريشا: ابن عباس: 1/ 370 يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ: أم سلمة: 1/ 367 يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا: أنس: 1/ 340 يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي: كعب بن مالك: 3/ 304 يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم: أبو برزة: 1/ 495 يتلونه حق تلاوته يتبعونه حق اتباعه: ابن عمر: 1/ 158 يجاء بالرجل يوم القيام فيلقى في النار: أسامة بن زيد: 1/ 95 يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله: ابن مسعود: 1/ 375، 376 يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أنس: 1/ 412 يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ: ابن مسعود: 1/ 243 يُجْمَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْمَرُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ إلى الجنة: حذيفة: 2/ 238 يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين: أبو موسى: 3/ 564 يَحْرُمُ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ وَمِخْلَبٍ من الطير:: 2/ 7 يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ:: 1/ 513 و 4/ 96 يحشر الناس يوم القيامة: عبد بن عبيد: 4/ 211، 212 يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: أبو هريرة: 3/ 312، 417 يخرج قوم من النار: أنس: 2/ 597 يخرج من الناس قوم فيدخلون الجنة: جابر: 2/ 45 يخرجون على حين فرقة من الناس:: 5/ 75 يد الله على القاضي حين يقضي:: 2/ 66 يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ: ابن عمر: 1/ 66 يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم: حذيفة بن أسيد: 4/ 395 يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه: أبو هريرة: 3/ 296 يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بلغت: أبو سعيد: 1/ 176

يستجاب لأحدكم ما لم يعجل: أبو هريرة: 1/ 213 يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا:: 1/ 211 و 544 و 4/ 539 يس قلب القرآن: معقل بن يسار: 4/ 411 يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق: عبد الله بن عمرو: 2/ 220 يعرض الناس يوم القيامة: أبو موسى: 5/ 338 يغفر ذنبا ويفرج كربا: ابن عمر: 5/ 167 يَغْفِرُ اللَّهُ لِلُوطٍ إِنْ كَانَ يَأْوِي إِلَى ركن شديد: أبو هريرة: 2/ 586 يقبض الله الأرض يوم القيامة: أبو هريرة: 4/ 547 يقرب إليه فيتكرهه: أبو أمامة: 3/ 122 يقول ابن آدم: مالي مالي: عبد الله بن الشخير: 5/ 595 يقول العبد: مالي مالي: أبو هريرة: 5/ 595 يقول الله: ابن آدم أنّى تعجزني: بسر بن جحاش: 5/ 352 يقول الله: ابن آدم تفرّغ لعبادتي: أبو هريرة: 4/ 614 يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ مرضت فلم تعدني: أبو هريرة: 4/ 211 يقول الله: استقرضت عبدي: أبو هريرة: 5/ 286 يقول الله تبارك وتعالى الكبرياء ردائي:: 5/ 15 يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عبدي نصفين: أبو هريرة: 1/ 27 يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له: أبو سعيد: 5/ 331 يَكُونُ خَلْفٌ مِنْ بَعْدِ سِتِّينَ سَنَةً أَضَاعُوا الصّلاة: أبو سعيد: 3/ 403 يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة: أبو هريرة: 4/ 125 يلقى العبد ربه فيقول الله: أبو سعيد: 4/ 437 يلقى العبد ربه فيقول الله: أبو هريرة: 4/ 437 يُمَثَّلُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ: ابن مسعود: 2/ 503 يمحو الله ما يشاء ويثبت: ابن عمر: 3/ 107 ينادي مناد من كان له أجر: أنس: 4/ 621 ينادي مناد يا قارئ سورة الأنعام: أنس: 2/ 111 يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إلى سماء الدنيا:: 1/ 373 يُنْشِئُ اللَّهُ السَّحَابَ ثُمَّ يُنْزِلُ فِيهِ الْمَاءَ: أبو هريرة: 3/ 92

ينظرون إلى ربهم بلا كيفية: أنس: 5/ 409 يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ: ابن مسعود: 5/ 537 يؤتى بالرجل يوم القيامة: أبو ذر: 4/ 107 يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ في الدنيا: النواس بن سمعان: 1/ 32 يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم:: 2/ 37 يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلا: معاذ بن جبل: 3/ 258 يوشك من عاش منكم أن يلقى: أبو هريرة: 5/ 40 يوم الأربعاء يوم نحس مستمر: جابر: 5/ 154 يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر: المسور بن مخرمة: 2/ 383 اليوم الموعود يوم القيامة: أبو هريرة: 5/ 503 اليوم الموعود يوم القيامة: أبو مالك الأشعري: 5/ 503

(2) فهرس الآثار

(2) فهرس الآثار

حرف الألف

حرف الألف اختلف اليهود والنصارى: ابن عباس: 2/ 209 اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ: ابن عباس: 1/ 379 اسْتَرَقَ الشَّيْطَانُ مِنَ النَّاسِ أَعْظَمَ آيَةٍ مِنَ القرآن بسم الله: ابن عباس: 1/ 21 استعملني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أصغر القوم: عثمان بن أبي العاص: 1/ 33 استوصوا بالنساء خيرا: أبو هريرة: 1/ 83 الم أحرف اشتقت من حروف اسم الله: ابن مسعود: 1/ 37 اهدنا الصراط المستقيم ألهمنا دينك الحق: ابن عباس: 1/ 28 اهدنا الصراط المستقيم: هو دين الإسلام: جابر بن عبد الله: 1/ 28 اهدنا الصراط المستقيم: هو رسول الله وصاحباه من بعده: أبو العالية: 1/ 28 اهدنا الصراط المستقيم: هو كتاب الله: ابن مسعود: 1/ 28 آخر سورة نزلت: سورة المائدة والفتح: عبد الله بن عمرو: 2/ 5 آمين اسم من أسماء الله: هلال بن يساف: 1/ 31 أَتَرَوْنَهَا حَمْرَاءَ مِثْلَ نَارِكُمْ هَذِهِ الَّتِي تُوقِدُونَ: أبو هريرة: 1/ 64 أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم: ابن عباس: 1/ 599 إتيان الرجال والنساء في أدبارهن كفر: أبو هريرة: 1/ 262 أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ: أبو بكر: 3/ 542 إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه ويستأنف: ابن عباس: 1/ 216 إِذَا حَضَرَ الْإِنْسَانَ الْوَفَاةُ يُجْمَعُ لَهُ كُلُّ شيء: جابر: 3/ 594 إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا: جبير: 2/ 97 أسلمت وعندي ثمان نسوة: عمير الأسدي: 1/ 488 أطلعت الحمراء بعد؟: ابن عمر: 1/ 143 أَطْيَبُ رِيحِ الْأَرْضِ الْهِنْدُ، هَبَطَ بِهَا آدَمُ: عليّ بن أبي طالب: 1/ 84 أَنَّ جَارِيَةً لِابْنِ عُمَرَ زَنَتْ فَضَرَبَ رِجْلَيْهَا: عبيد الله بن عبد الله ابن عمر: 4/ 8 أن رجلا سأل ابن مسعود ما الصراط المستقيم: ابن مسعود: 2/ 204 أن رجلا قال له: ما التقوى: أبو هريرة: 1/ 40

أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ ضُبَيْعٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فجعل يسأل عنن متشابه القرآن: سليمان بن يسار: 1/ 367 أن عليّ بن أبي طالب ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم:: 1/ 16 أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عشرة نسوة: ابن عمر: 1/ 487 أَنَّ النَّجَاشِيَّ قَالَ لِجَعْفَرٍ مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ في ابن مريم: أبو موسى: 1/ 624 أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلموا: أنس: 2/ 43 أن هذه الزهري تسميها العرب الزهرة: عليّ: 1/ 144 أن يعلى بن أمية جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بالجعرانة: يعلى بن أمية: 1/ 227 أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابن عمر: 2/ 51 أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ: ابن عباس: 1/ 414 أنا خير الشركاء فمن عمل عملا: أبو هريرة: 3/ 378 أنا وأمي من المستضعفين: العوفي: 1/ 563 أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِيلَاءِ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أشهر: عمر: 1/ 268 أنه كان يعرف تفسير قَوْلَهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ:: 1/ 16 أهبط آدم بالهند وحواء بجدة: ابن عباس: 1/ 84 أهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة: ابن عمر: 1/ 84 أو كصيب: هو المطر، هو مثل للمنافق: ابن عباس: 1/ 59 أول سورة أنزلت بالمدينة سورة البقرة: عكرمة: 1/ 32 أول ما أهبط آدم إلى أرض الهند: ابن عباس: 1/ 84 أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي: شدّاد بن أوس: 3/ 377 ألا إن أربعين دارا جار:: 1/ 536 أيان تقضي حاجتي أيانا:: 2/ 311 أيها الناس إنكم تؤولون الآية هذا التأويل: أبو أيوب: 1/ 223 إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها: قتادة: 1/ 42 إِنَّ أَوَّلَ مَا نُسِخَ فِي الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ: ابن عباس: 1/ 176 إِنَّ الْحَجَرَ لَيَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَوِ اجْتَمَعَ عليه فئام: ابن عباس: 1/ 120 إِنَّ الرَّجُلَ لَيَمُوتُ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ شَهِيدٌ: ابن مسعود: 5/ 209 إِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ: ابن عباس: 1/ 142

إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغنيّ: عبيد الله بن عدي: 2/ 428 أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: حذيفة: 1/ 398 أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَأَسَدًا وَأُسَيْدًا ابني كعب وثعلبة: ابن عباس: 1/ 605 أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أنس بن مالك يسأله:: 2/ 42 أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ مِنَ البحرين: أبو موسى: 2/ 374 إن في الجنة مائة درجة: عبادة من الصامت: 3/ 375 إن قوما يأتوننا بلحمان لا ندري: عائشة: 2/ 179 إن للدابة ثلاث خرجات: ابن عباس: 4/ 176 إِنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ قَبْلَ أن يخلقه: ابن عباس: 1/ 75 إن الله تصدّق عليكم بثلث أموالكم: معاذ بن جبل: 1/ 503 إِنَّ اللَّهَ لِيُعْطِيَ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ: أبو هريرة: 1/ 301 إِنَّ اللَّهَ لَيَكْتُبُ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ ألف ألف حسنة: أبو هريرة: 1/ 301 إن لله لوحا محفوظا: ابن عباس: 3/ 106 إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِذَا صلوا العشاء حرم عليهم النساء: ابن عباس: 1/ 215 أنزل القرآن خمسا خمسا: عليّ: 2/ 111 إنما أحلت ذبائح اليهود والنصارى: ابن عباس: 2/ 20 إِنَّمَا سُمِّيَ آدَمَ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الأرض:: 1/ 77 إِنَّمَا سُمِّيَتْ حَوَّاءَ لِأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ: ابن عباس: 1/ 83 إِنَّمَا مَثَلُنَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَسَفِينَةِ نُوحٍ، وكباب حطّة: عليّ: 1/ 106 الأقراء الأطهار: عائشة: 1/ 272 الْأَنْدَادُ هُوَ الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ: ابن عباس: 1/ 62 إيلاء العبد شهران: عمر: 1/ 269 الْإِيلَاءُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يُجَامِعُهَا أَبَدًا: ابن عباس: 1/ 268 الْإِيلَاءُ إِيلَاءَانِ إِيلَاءٌ فِي الْغَضَبِ وَإِيلَاءٌ فِي الرضا: عليّ: 1/ 268

حرف التاء

حرف التاء تَعَلَّمُوا سُورَةَ بَرَاءَةٌ وَعَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ: عمر: 2/ 379 تَعَلَّمُوا مِنَ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُونَ بِهِ فِي بركم: عمر بن الخطاب: 2/ 166 تفسير القرآن على أربعة وجوه: ابن عباس: 1/ 366 تمام التقوى أن يتقي الله العبد: أبو الدرداء: 1/ 40 التهلكة: عذاب الله: ابن عباس: 1/ 223 حرف الثاء ثلاث من تكلم بواحدة منها: عائشة: 4/ 171 ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عهد إلينا فيهن عهدا:: 1/ 627 الثلث وسط لا بخس ولا شطط: ابن عمر: 1/ 503 الثلثان جميعا من هذه الأمة: ابن عباس: 5/ 187 حرف الجيم جاء ابن أم مكتوم: أنس: 5/ 467 الْجَنَفُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِضْرَارُ فِيهَا مِنَ الْكَبَائِرِ: ابن عباس: 1/ 206 الجنة في السماء السابعة العليا: ابن مسعود: 5/ 133 حرف الحاء حججت فدخلت على عائشة: جبير بن نفير: 2/ 5 الْحَرُورِيَّةُ: هُمُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ: سعد بن أبي وقاص: 1/ 70 الْحُسْنَى: الْجَنَّةُ وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ: أبو بكر: 2/ 502 الحمد لله كلمة رضيها لنفسه: علي بن أبي طالب: 1/ 23 الحمد لله كلمة الشكر: ابن عباس: 1/ 23

حرف الخاء

الحمد لله هو الشكر صلّى الله عليه وسلم: ابن عباس: 1/ 23 حرف الخاء خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس: أبو الصديق الناجي: 4/ 155 خَرَجَ عُزَيْرٌ نَبِيُّ اللَّهِ مِنْ مَدِينَتِهِ وَهُوَ شاب: عليّ: 1/ 323 خرجت يوم الخندق أقفوا الناس: عائشة: 4/ 316 الخلق أربعة: فخلق في الجنة كلهم: ابن عباس: 2/ 187 حرف الذال ذكرت الملائكة أعمال بني آدم: ابن عمر: 1/ 143 ذكري لكم خير من ذكركم لي: ابن عباس: 1/ 183 حرف الراء رأى محمد ربّه: ابن عباس: 2/ 169 رحل مسروق في تفسير آية إلى البصرة: الشعبي: 1/ 16 رحم الله نساء المهاجرات الأولات: عائشة: 4/ 31 رنّ إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب:: 1/ 17 الروح في السماء الرابعة: ابن مسعود: 5/ 448 الريب: الشك: أبو الدرداء: 1/ 40 حرف الزاي الزيادة: النظر إلى وجه الله: حذيفة: 2/ 502

حرف السين

حرف السين سلوني عن سورة النساء: ابن عباس: 3/ 286 حرف الصاد صلى أبو هريرة فجهر بالفاتحة: أبو هريرة: 1/ 20 صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة من رمضان: حذيفة: 1/ 34 صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو بيت المقدس: البراء: 1/ 179 الصلاة شكر والصيام شكر: أبو عبد الرحمن الحبلي: 1/ 24 الصيام للتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة: ابن عباس: 1/ 229 حرف العين عليك بأساس القرآن: الشعبي: 1/ 18 عن الكافية تسأل: ابن أبي كثير: 1/ 18 الْعَاشِرُ مِنْ رَجَبٍ وَهُوَ يَوْمٌ يَمْحُو اللَّهُ: قيس بن عبّاد: 3/ 107 حرف الغين غُشِيَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي وجعه: إبراهيم بن عبد الرحمن: 1/ 184 حرف الفاء فاتحة الكتاب ثلث القرآن: ابن عباس: 1/ 19 فاتحة الكتاب نزلت بمكة: عبادة: 1/ 17 فرضت الصلاة ركعتين ركعتين: عائشة: 1/ 585

حرف القاف

فسروا قوله تعالى سبعا من المثاني بالفاتحة: عليّ: 1/ 18 فلولا أخذتم مسكها: ابن عباس: 1/ 197 في قوله الم وحم ون: اسم مقطع: ابن عباس: 1/ 38 في قوله الم والمص هو قسم أقسمه الله: ابن عباس: 1/ 38 في قوله الم: هي اسم الله الأعظم: ابن مسعود: 1/ 38 في قوله الم: ألف مفتاح اسمه الله: أنس: 1/ 38 في قوله هدى للمتقين نور للمتقين وهم المؤمنون: ابْنِ مَسْعُودٍ: 1/ 40 فِي قَوْلِهِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ: أنفقوا في فرائض الله: قتادة: 1/ 42 في قوله ومما رزقناهم ينفقون: زكاة أموالهم: ابن عباس: 1/ 42 في قوله ومما رزقناهم ينفقون هي نفقة الرجل على أهله: ابن مسعود: 1/ 42 في قوله لا ريب فيه لا شك فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: 1/ 39 فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ هي للفريقين جميعا من الكفار والمؤمنين: ابن عباس: 1/ 60 في قوله: يقيمون الصلاة الصلوات الخمس: ابن عباس: 1/ 42 فيّ نزل تحريم الخمر: سعد بن أبي وقاص: 2/ 86 الفيء الجماع: عليّ: 1/ 268 حرف القاف قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْنَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إله إلا الله فما الحمد لله: ابن عباس: 1/ 23 قال الغلمان ليحيى بن زكريا أهب بنا نلعب: ابن عباس: 3/ 387 قال الله تعالى سبني ابن آدم: أبو هريرة: 3/ 196 و 197 قال مجاهد: أحبّ الخلق إلى الله أعلمهم بما أنزل الله:: 1/ 16 قُلْتُ لِعَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ: أبو عبد الله الجدلي: 5/ 322 قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: هل عندكم شيء من الوحي: أبو جحيفة: 2/ 68 كَانَ آصِفُ كَاتِبَ سُلَيْمَانَ وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الأعظم: ابن عباس: 1/ 142 كان أصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صائما: البراء: 1/ 215 كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدٌ يَحْمِلُ الْأُسَارَى من مكة: ابن عمرو: 4/ 8

كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَعِنْدَهُ فَرَسٌ: البراء: 1/ 307 كَانَ رَجُلَانِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هربا: ابن مسعود: 1/ 58 كان عاشوراء صياما: عائشة: 1/ 206 كان لأبيّ بن كعب جرن فيه تمر: أبي بن كعب: 1/ 314 كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ فِي الْحَجِّ فَيَذْكُرُونَ أَيَّامَ آبائهم: ابن عباس: 1/ 237 كَانَ النَّاسُ أَوَّلَ مَا أَسْلَمُوا إِذَا صَامَ أحدهم: ابن عباس: 1/ 215 كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وَقَفُوا عِنْدَ المشعر الحرام: عبد الله بن الزبير: 1/ 237 كان يسمي فاتحة الكتاب الواقية: سفيان بن عيينة: 1/ 18 كان يكره أن يقول أم الكتاب: ابن سيرين: 1/ 17 كَانَتْ بَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَغَايَا آلِ فُلَانٍ: ابن عباس: 4/ 8 كانت الزهرة امرأة: ابن عباس: 1/ 144 كَانَتْ قُرَيْشٌ تُدْعَى الْحُمْسَ وَكَانُوا يَدْخُلُونَ مِنَ الأبواب: جابر: 1/ 219 كانت القريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة:: 1/ 236 كَانَتْ لِي أُخْتٌ فَأَتَانِي ابْنُ عَمٍّ فَأَنْكَحْتُهَا إياه: معقل بن يسار: 1/ 280 كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَتَوُا الْبُيُوتَ من ظهورها: البراء: 1/ 219 كل سلطان في القرآن فهو حجة: ابن عباس: 1/ 612 كل شيء في كتاب الله الرجز يعني به العذاب: ابن عباس: 1/ 107 كل ظن في القرآن فهو يقين: مجاهد: 1/ 96 كم كان المرسلون: أبو ذر: 1/ 82 كن نساء في الجاهليات بغيات: مجاهد: 4/ 8 كنا في غزاة فحاص الناس حيصة: ابن عمر: 2/ 338 كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة سوداء مظلمة: عامر بن ربيعة: 1/ 154 كنت أخدم النبي صلّى الله عليه وسلم وأرحل له: أسلع: 1/ 546 كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ في طريق فسمع زمارة: نافع: 4/ 272 كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ ببراءة: أبو هريرة: 2/ 381 كلهم ناج وهي هذه الأمة: البراء بن عازب: 4/ 405

حرف اللام

حرف اللام لأن أوصي بالخمس أحبّ إلى: علي: 1/ 503 لبث آدم في ساعة من نهار: ابن عباس: 1/ 82 لَعَمْرِي مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يسع بين الصفا والمروة: عائشة: 1/ 186 لعن الله الواشمات والمستوشمات: ابن مسعود: 5/ 238 لَغْوُ الْيَمِينِ: حَلِفُ الْإِنْسَانِ عَلَى الشَّيْءِ يَظُنُّ أنه الذي حلف عليه:: 1/ 267 لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْتُ لَهُ أَخْبَرَنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ: عطاء بن يسار: 2/ 289 لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة غزاها: كعب بن مالك: 2/ 471 لم يبعث الله نبيا- آدم فمن بعد- إلا أخذ عليه العهد: عليّ: 1/ 409 لما أسلمت فتيان بني سلمة: رجل من بني سلمة: 1/ 17 لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ: عائشة: 2/ 374 لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سلول: ابن عمر: 2/ 444 لما جعل الله الإسلام في قلبي: عمرو بن العاص: 2/ 352 لما حضرت الوفاة أبا طالب: سعيد بن المسيب: 2/ 468 لَمَّا حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يُنْفِقَ على مسطح: عائشة: 5/ 301 لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَخَلَقَ لَهُ زَوْجَهُ: النخعي: 1/ 83 لَمَّا كَبُرَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لعائشة: عائشة: 1/ 602 لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يقربون النساء: البراء: 1/ 215 لَمَّا نَزَلَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ضَجَّتِ الجبال: عائشة: 1/ 22 لَمَّا نَزَلَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَرَبَ الغيم إلى المشرق: جابر: 1/ 22 لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما في السماوات وما في الأرض: أبو هريرة: 1/ 351 لَمَّا نَزَلَتْ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قال أبو الدحداح: ابن مسعود: 1/ 301 لو تمنّ اليهود الموت لماتوا: ابن عباس: 1/ 136 لو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء: فضل بن عياض: 1/ 16 لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ: أبو موسى: 1/ 149 يرد النَّاسُ كُلُّهُمُ النَّارَ ثُمَّ يَصْدُرُونَ عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ: ابن مسعود: 3/ 409 لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ إلا الأسماء:: 1/ 66 لَيْسَ يَهُودِيٌّ يَمُوتُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى: ابن عباس: 1/ 618

حرف الميم

لَيْلَةُ الْقَدْرِ هِيَ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ وَهِيَ فِي رمضان: ابن عباس: 1/ 212 اللغو هو اللغو في المزاحة والهزل: عائشة: 1/ 266 حرف الميم مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ: أبو الدرداء: 3/ 408 ما تمنيت منذ أسلمت: عثمان بن عفان: 1/ 123 ما حسدتكم اليهود على شيء: ابن عباس: 1/ 31 مَا خَالَفَ الْقُرْآنَ فَهُوَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ: ابن عباس: 1/ 194 ما سكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر: ابن عباس: 1/ 82 مَا غَابَتِ الشَّمْسُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى أهبط من الجنة: ابن عباس: 1/ 82 مَا فِي الْقُرْآنِ عِنْدِي آيَةٌ أَرْجَى مِنْهَا: ابن عباس: 1/ 323 مَا كَانَ مِنْ ظَنِّ الْآخِرَةِ فَهُوَ عِلْمٌ: قتادة: 1/ 96 مَا كَانَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَهُوَ أنزل بالمدينة: ابن مسعود: 1/ 60 ما كَانَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَهُوَ أُنْزِلَ بِمَكَّةَ: ابن مسعود: 1/ 60 ما من عام بأمطر من عام: الحسن البصري: 1/ 61 مَا نَزَلَ مَطَرٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا وَمَعَهُ البذر: ابن عباس: 1/ 61 ما يصاد بالبزاة وغيرها من الطير: ابن عمر: 2/ 16 مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون: إياس بن معاوية: 1/ 16 محاش النساء عليكم حرام: ابن مسعود: 1/ 262 مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين تظاهرتا: ابن عباس: 1/ 16 مَنِ اتَّقَى فِي حَجِّهِ غُفِرَ لَهُ مَا تقدم من ذنبه: ابن مسعود: 1/ 238 من بلغه القرآن حتى تفهمه وتعقله: محمد بن كعب: 2/ 122 مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ: ابن عباس: 2/ 62 من دعا بدعوة الجاهلية فإنه من جثا جهنم: الحارث الأشعري: 3/ 560 من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب: عائشة: 2/ 68 مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غفل: ابن عباس: 2/ 452 و 453 من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة: ابن مسعود: 2/ 51 مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَقٌّ: ابن مسعود: 3/ 519

حرف النون

مر قَرَأَ أَرْبَعَ آيَاتٍ مَنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ابن مسعود: 1/ 45 مَنْ قَرَأَ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ ثَلَاثَ آيَاتٍ: ابن عباس: 2/ 112 مَنْ قَرَأَ سُورَةَ النِّسَاءِ فَعَلِمَ مَا يُحْجَبُ: ابن عباس: 1/ 479 مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ابن مسعود: 1/ 45 من نسي صلاة فليقمها إذا ذكرها: أبو هريرة: 3/ 427 منهم ثابت بن قيس: أبو هريرة: 5/ 72 المتقون قوم اتقوا الشّرك: معاذ بن جبل: 1/ 40 المسلم يتزوج النصرانية: عمر: 2/ 20 المطر مزاجه من الجنة: ابن عباس: 1/ 61 حرف النون نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً لِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ: ابن عباس: 1/ 212 نزلت بالمدينة سورة البقرة: ابن عباس: 1/ 32 نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الملائكة: ابن مسعود: 2/ 111 نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة: مجاهد: 1/ 17 نَزَلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ بِمَكَّةَ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العرش:: 1/ 17 نهي أن تنكح المرأة أخاها توأمها: ابن عباس: 2/ 38 نهينا عن التكلف: عمر بن الخطاب: 4/ 513 نُودُوا يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تسألوني: أبو هريرة: 4/ 207 حرف الهاء هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ: ابن مسعود: 1/ 34 حرف الواو والعصر إن الإنسان: ابن مسعود: 5/ 600

حرف لا

والعصر ونوائب الدهر: علي: 5/ 600 وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أَحَدٌ أفضل من إيمان بغيب: ابن مسعود: 1/ 41 حرف لا لَا إِحْصَارَ إِلَّا مِنْ مَرَضٍ أَوْ عَدُوٍّ: ابن عمر: 1/ 228 لَا إِحْصَارَ إِلَّا مِنْ مَرَضٍ أَوْ عَدُوٍّ أو أمر حادث: عطاء: 1/ 228 لا إيلاء إلا بغضب: ابن عباس: 1/ 268 لا حصر إلا حصر العدو: ابن عباس: 1/ 228 لا يحيط بصر أحد بالله: ابن عباس: 2/ 169 لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ الناس: أبو الدرداء: 1/ 94 لا ينفع الحذر من القدر: ابن عباس: 3/ 107 اللاعب بالنرد قمارا كآكل لحم الخنزير: ابن عمر: 2/ 87 حرف الياء يتكلم الرجل بتسبيحه وتكبيره: أبو أيوب: 4/ 25 يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم: علي: 1/ 570 يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ واحد: أسماء بنت يزيد: 4/ 44 يوم الدين: يوم الحساب: ابن مسعود: 1/ 26 يَوْمِ الدِّينِ: يَوْمَ يَدِينُ اللَّهُ الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ: قتادة: 1/ 26

(3) فهرس الشعر

(3) فهرس الشعر

حرف الألف

حرف الألف عليك السلام لا مللت قريبة ... ومالك عندي إن نأيت قلاء : الحارث بن حلزة: 2/ 132 كأن سبيئة مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... كَأَنَّ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ : حَسَّانَ: 5/ 418 وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسُ ... خِلَالَ مروجها نعم وشاء :: 1/ 371 و 3/ 178 ظَاهِرَاتُ الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ يَنْظُرْ ... نَ كَمَا يَنْظُرُ الأراك الظباء :: 1/ 145 وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ : 1/ 253 فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لَطَيْفٍ ... يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذهب العشاء :: 2/ 318 ثلاث بالغداة وذاك حسبي ... وست حين يدركني العشاء :: 1/ 227 رُبَمَا ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ صَقِيلٍ ... بَيْنَ بُصْرَى وَطَعْنَةٍ نجلاء : عدي بن الرعلاء: 3/ 145 غَافِلًا تَعْرِضُ الْمُنْيَةُ لِلْمَرْ ... ءِ فَيُدْعَى وَلَاتَ حين إباء :: 4/ 376 ديار من بني الحسحاس قفر ... تعفيها الروامس والسماء : حسان: 1/ 57 آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثواء :: 4/ 598 فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حُبٍّ دَاخِلٍ ... وَالْحُبُّ تُشْرِبُهُ فؤادك داء : زهير: 1/ 134 فَإِمَّا يَثْقَفَنَّ بَنِي لُؤَيٍّ ... جَذِيمَةُ إِنَّ قَتْلَهُمْ دواء : حسان: 1/ 219 أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ :: 4/ 76 و 168 وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حصن أم نساء : زهير: 1/ 101 فشج بها الأماعز وهي تهوي ... هوي الدلو أسلمها الرشاء : زُهَيْرٌ: 5/ 126 أَرَوْنَا خُطَّةً لَا ضَيْمَ فِيهَا ... يُسَوِّي بيننا فيها السّواء : زهير: 1/ 399 و 3/ 439 فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سواء : حسان بن ثابت: 4/ 228 وَجِبْرِيلُ أَمِينُ اللَّهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدُسِ لَيْسَ به خفاء : حسان: 1/ 129 أَنَا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ ... فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مني نجاء : جرير: 1/ 204 كَيْفَ نَوْمِي عَلَى الْفِرَاشِ وَلَمَّا ... تَشْمَلِ الشَّامَ غارة شعواء :: 1/ 411 أَفِي غَيْرِ الْمُخَلَّقَةِ الْبُكَاءُ ... فَأَيْنَ الْحَزْمُ وَيْحَكَ والحياء :: 3/ 516 فَتَرَى خَلْفَهُنَّ مِنْ سُرْعَةِ الرَّجْ ... عِ مَنِينًا كأنه أهباء :: 5/ 498 عَدِمْنَا خَيْلَنَا إِنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النَّقْعَ من كنفي كداء : عبد الله بن رواحة: 5/ 587 أَحْسَنُ النَّجْمِ فِي السَّمَاءِ الثُّرَيَّا ... وَالثُّرَيَّا فِي الأرض زين النساء : عمرو بن أبي ربيعة: 5/ 126 فَاضْرِبْ وُجُوهَ الْغُدَّرِ الْأَعْدَاءِ ... حَتَّى يُجِيبُوكَ إِلَى السواء :: 2/ 365

حرف الباء

لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أسمائي :: 3/ 246 حرف الباء إِنَّ بَنِي الْأَدْرَمِ حَمَّالُو الْحَطَبِ ... هُمُ الْوُشَاةُ في الرضا وفي الغضب :: 5/ 628 سَأَغْسِلُ عَنِّي الْعَارَ بِالسَّيْفِ جَالِبًا ... عَلَيَّ قَضَاءُ الله ما كان جالبا :: 1/ 203 لَا أَبْتَغِي الْحَمْدَ الْقَلِيلُ بَقَاؤُهُ ... بِذَمٍّ يَكُونُ الدهر أجمع واصبا : الدؤلي: 3/ 202 إِنَّا حَطَّمْنَا بِالْقَضِيبِ مُصْعَبًا ... يَوْمَ كَسَرْنَا أَنْفَهُ ليغضبا كذبا :: 5/ 603 أَبْلِغْ بَنِي أَسَدٍ عَنِّي مُغَلْغَلَةً ... جَهْرَ الرِّسَالَةِ لا ألتا ولا كذبا :: 5/ 80 فالآن إِذْ هَازَلْتُهُنَّ فَإِنَّمَا ... يَقُلْنَ أَلَا لَمْ يَذْهَبِ الشيخ مذهبا : الأسود بن جعفر: 2/ 108 يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرًّا فِي مَفَاخِرِهِمْ ... وَأَكْرَمَ الناس أما برة وأبا :: 1/ 293 قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا الْعِنَاجَ وشدوا فوقه الكربا : الحطيئة: 2/ 82 الْآنَ وَقَدْ فَرَغْتَ إِلَى نُمَيْرٍ ... فَهَذَا حِينَ كنت لها عذابا : جرير: 3/ 497 و 5/ 164 إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كانوا غضابا :: 2/ 115 و 4/ 517 و 5/ 102 و 357 أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهية والخشابا : جرير: 4/ 374 وكائن بالأباطح من صديق ... يراني لو أصبت هو المصابا :: 1/ 442 فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلَا كَعْبًا بلغت ولا كلابا : جرير: 4/ 26 ولو ولدت قفيرة جرو كلب ... لشبّ بذلك الجرو الكلابا : جرير: 3/ 498 و 5/ 8 جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا :: 2/ 9 إن في القصر لو دخلنا غزالا ... مصفقا موصدا عليه الحجاب : ابن قيس الرقيات: 5/ 604 أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ ... لَقَدْ هَانَ مَنْ بالت عليه الثعالب :: 1/ 25 بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة ... ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب : حذيفة بن أنس الهذلي: 5/ 420 أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كل ملك دونها يتذبذب :: 1/ 610 و 4/ 5 فَإِنَّكَ شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبُ ... إِذَا ظَهَرَتْ لَمْ يبق فيهن كوكب : النابغة: 4/ 38 وَقَدْ عَادَ مَاءُ الْأَرْضِ بَحْرًا فَزَادَنِي ... إِلَى مرضي أن أبحر المشرب العذب : نصيب: 1/ 99 لا بل هو الشوق من دار تخونها ... مرا سحاب ومرا بارح ترب : ذو الرمة: 3/ 198 فَيُرِيكَ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ حَلَاوَةً ... وَيَرُوغُ عَنْكَ كما يروغ الثعلب :: 4/ 461

قسم مجهودا لذاك القلب ... الناس جنب والأمير جنب :: 4/ 540 فَإِنْ كُنْتُ مَظْلُومًا فَعَبْدًا ظَلَمْتَهُ ... وَإِنْ كُنْتُ ذا عتبي فمثلك يعتب : النابغة: 3/ 223 أَرَى الصَّبْرَ مَحْمُودًا وَعَنْهُ مَذَاهِبُ ... فَكَيْفَ إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مَذْهَبُ :: 4/ 521 هُنَاكَ يَحِقُّ الصَّبْرُ وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ ... وَمَا كَانَ مِنْهُ لِلضَّرُورَةِ أوجب :: 4/ 521 وَلَسْتَ بِمُسْتَبِقٍ أَخًا لَا تَلُمَّهُ ... عَلَى شَعَثٍ أي الرجال المهذب : النابغة: 5/ 535 فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب :: 1/ 342 نُقَتِّلُهُمْ جِيلًا فَجِيلًا تَرَاهُمْ ... شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهِمْ يتقرب : الكميت: 1/ 185 تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاءَ لَيْسَ بها خال ولا ندب : ذو الرمة: 3/ 156 حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَلَيْسَ وَرَاءَ الله للمرء مذهب : النابغة: 3/ 120 تُصْغِي إِذَا شَدَّهَا بِالْكُوَرِ جَانِحَةٌ ... حَتَّى إِذَا ما استوى في غرزها تثب : ذو الرمة: 2/ 175 تخال بها سعرا إذا السفر هزها ... ذ ميل وإيقاع من السير متعب :: 5/ 151 لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب : ذي الرمة: 5/ 515 أَلَا رُبَّ رَكْبٍ قَدْ قَطَعْتُ وَجِيفَهُمْ ... إِلَيْكَ ولولا أنت لم يوجف الركب : نصيب: 5/ 235 خَفَضْتُ لَهُمْ مِنِّي جَنَاحَيْ مَوَدَّةٍ ... إِلَى كَنَفٍ عطفاه أهل ومرحب : الكميت: 3/ 171 حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَلَيْسَ وَرَاءَ الله للمرء مذهب : النابغة: 2/ 460 فَلَا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرٍ ... سَقَتْكِ رَوَايَا المزن حيث تصوّب : علقمة: 1/ 57 إِذَا تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدِسٌ ... بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ ما في سمعه كذب : ذو الرمة: 3/ 417 فذوقوا كما ذقنا غداة محجر ... من الغيظ في أكبادنا والنحوب : طفيل: 4/ 292 حتى إذا ما انجلى عن وجهه خلق ... هاديه في أخريات الليل منتصب : ذِي الرُّمَّةِ: 5/ 638 كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عِفْرِيَةٍ ... مصوّب في سواد الليل منقضب : ذو الرمة: 3/ 151 و 4/ 160 وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب : عبيد بن الأبرص: 5/ 524 لَعَمْرُكَ وَالْمَنَايَا طَارِقَاتٌ ... لِكُلِّ بَنِي أَبٍ مِنْهَا ذنوب : أبو ذؤيب: 5/ 111 يحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالأحداث حين تنوب :: 1/ 312 فَلَسْتُ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لَمَلْأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السماء يصوب : أبو وجزة: 3/ 28 فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طبيب : امرؤ القيس: 1/ 136 و 4/ 98 وإنك إلا تَرْضَ بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ ... يَكُنْ لَكَ يَوْمٌ بالعراق عصيب :: 2/ 582 وداع دعا يا من يجيب إل الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب :: 1/ 55 بِمَحْنِيَّةٍ قَدْ آزَرَ الضَّالُّ نَبْتَهَا ... مَجِرَّ جُيُوشٍ غانمين وخيب : امرئ القيس: 5/ 67 قَبَائِلُ مِنْ شُعُوبٍ لَيْسَ فِيهِمْ ... كَرِيمٌ قَدْ يعد ولا نجيب :: 5/ 79 فلا تحرمني نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ ... فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ الدِّيَارِ غريب : علقمة بن عبدة: 4/ 186

فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لغريب : ضابئ البرجمي: 1/ 93 وَمَنْزِلَةٍ فِي دَارِ صِدْقٍ وَغِبْطَةٍ ... وَمَا اقْتَالَ في حكم علي طبيب : كعب بن سعد الغنوي: 5/ 120 طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ ... بُعَيْدَ الشباب عصر حسان مشيب : علقمة: 5/ 547 فَإِنْ تُدْبِرُوا نَأْخُذْكُمْ فِي ظُهُورِكُمْ ... وَإِنْ تُقْبِلُوا نأخذكم في الترائب : دريد بن الصمة: 5/ 509 لَا تَحْسَبُونَ الْخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ ... وَلَا تحسبون الشر ضربة لازب : النابغة: 4/ 445 وَلَوْلَا جَنَانُ اللَّيْلِ أَدْرَكَ رَكْضَنَا ... بِذِي الرَّمْثِ والأرطى عياض بن ناشب :: 2/ 152 جَوَانِحُ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ ... إِذَا مَا التقى الجمعان أول غالب : النابغة: 2/ 368 تَجَلَّتْ لَنَا كَالشَّمْسِ تَحْتَ غَمَامَةٍ ... بَدَا حَاجِبٌ منها وضنت بحاجب : قيس بن الخطيم: 5/ 546 أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا ... شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الحساب :: 4/ 80 فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءَ إِلَيْهِ قَوْمًا ... لَحِقْنَا بِالسَّمَاءِ والسحاب :: 5/ 383 هَمَّتْ سُخَيْنَةُ أَنْ تُغَالِبَ رَبَّهَا ... فَلَتَغْلِبَنَّ مَغَالِبَ الغلاب :: 4/ 143 أَرَانَا مَوْضِعَيْنِ لِأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنَسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ : امرؤ القيس: 3/ 275 وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ : امرؤ القيس: 1/ 371 و 5/ 94 وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فلول من قراع الكتائب : النابغة: 2/ 437 و 3/ 540 لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكم يصير إلى يباب : أبو العتاهية: 4/ 114 أعوذ بالله من العقراب ... الشائلات عقد الأذناب :: 5/ 192 إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتُ عُرُوشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحارث بن شهاب :: 2/ 241 زعموا بأنهم على سبل النجا ... ة وإنما نكص على الأعقاب :: 3/ 580 وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ : امرؤ القيس: 5/ 94 وَبُدِّلَتْ بَعْدَ الْمِسْكِ وَالْبَانِ شِقْوَةٌ ... دُخَانُ الْجَذَا في رأس أشمط شاحب : السلمي: 4/ 196 أُجَالِدُهُمْ يَوْمَ الْحَدِيقَةِ حَاسِرًا ... كَأَنَّ يَدِي بِالسَّيْفِ مخراق لاعب : قيس بن الخطيم: 4/ 10 عَقَرْتُمْ نَاقَةً كَانَتْ لِرَبِّي ... مُسَيَّبَةً فَقُومُوا لِلْعِقَابِ :: 2/ 94 من رسولي إلى الثريا يأتي ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب :: 2/ 591 أَلَمْ أَنْضِ الْمَطِيَّ بِكُلِّ خَرْقٍ ... طَوِيلِ الطُّولِ لماع السراب : امرؤ القيس: 4/ 45 أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا ... خُرُوجَ الْوَدْقِ مِنْ خلل السحاب :: 4/ 49 تُكَلِّفُنِي مَعِيشَةَ آلِ زَيْدٍ ... وَمَنْ لِي بِالْمُرَقَّقِ والصّناب : جرير: 3/ 152 أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ دِينَهُ ... وَصَبَّ على الكفار سوط عذاب :: 5/ 531 أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نار أوقدت بثقوب : 5/ 508 ومشى بأعطان المباءة وابتغى ... قلائص منها صعبة وركوب :: 4/ 80

حرف التاء

وقد أتاك يقين غَيْرُ ذِي عِوَجٍ ... مِنَ الْإِلَهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مكذوب :: 4/ 529 متكئا تفرع أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب : عدي: 4/ 645 و 5/ 422 تدعو قعينا وقد عضّ الحديد بها ... عض الثقاف على ضم الأنابيب : النابغة: 2/ 365 كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ... كَانَ الجواب له قرع الظنابيب :: 4/ 190 و 406 فَبِئْسَ الْوَلِيجَةُ لِلْهَارِبِي ... نَ وَالْمُعْتَدِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ : أبان بن تغلب: 2/ 390 أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا ... وَجَدْتُ بِهَا طيبا وإن لم تطيب : امْرُؤُ الْقَيْسِ: 5/ 507 خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي عَلَى أُمِّ جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب : امرؤ القيس: 5/ 91 لَا تَذْكُرِي مُهْرِي وَمَا أَطْعَمْتُهُ ... فَيَكُونُ جِلْدُكَ مثل جلد الأجرب : عنترة: 3/ 481 الْعَفْوُ يُرْجَى مِنْ بَنِي آدَمَ ... فَكَيْفَ لَا يرجى من الربّ :: 3/ 185 مَنْ يُسَاجِلْنِي يُسَاجِلْ مَاجِدًا ... يَمْلَأُ الدَّلْوَ إِلَى عقد الكرب :: 2/ 585 و 3/ 507 فَالْيَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتَمْدَحُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيام من عجب :: 1/ 480 بِطِخْفَةَ جَالَدْنَا الْمُلُوكَ وَخَيْلُنَا ... عَشِيَّةَ بِسِطَامٍ جَرَيْنَ على نحب :: 4/ 313 ضَازَتْ بَنُو أَسَدٍ بِحُكْمِهِمُ ... إِذْ يَجْعَلُونَ الرَّأْسَ كالذنب : امرؤ القيس: 5/ 131 من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ولم تمش بين الناس بالحطب الرطب :: 5/ 628 مَا زِلْتُ يَوْمَ الْبَيْنَ أَلْوِي صُلْبِي ... وَالرَّأْسُ حتى صرت مثل الأغلب : العجاج: 5/ 466 فَرِيقَانِ مِنْهُمْ قَاطِعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ ... وَآخَرُ مِنْهُمْ قاطع نجد كبكب : امْرُؤ الْقَيْسِ: 5/ 540 خَفَاهُنَّ مِنْ أَنِفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا ... خَفَاهُنَّ ودق من عشي مجلب : امرؤ القيس: 3/ 424 فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر ينفعني لدى أم جندب :: 1/ 145 و 5/ 407 فذوقوا كما ذقنا غداة محجر ... من الغيظ في أكبادنا والتحوّب : طفيل: 1/ 482 تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب :: 5/ 434 وَهُمْ خُلَصَائِي كُلُّهُمْ وَبِطَانَتِي ... وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دون كل قريب :: 1/ 430 عَرَفْتُ دِيَارَ زَيْنَبَ بِالْكَثِيبِ ... كَخَطِّ الْوَحْيِ فِي الورق القشيب : حسان: 5/ 382 فَإِنَّهُ أَرْأَفُ بِي مِنْهُمُ ... حَسْبِي بِهِ حَسْبِي حسبي :: 3/ 185 إِلَى هِنْدٍ صَبَا قَلْبِي ... وَهِنْدٌ حُبُّهَا يُصْبِي : زيد بن حينة: 3/ 29 إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ... إِنْ يَأْخُذُوكِ تكحلي وتخضبي : عنترة: 2/ 44 حرف التاء إنما الأرحام أرضو ... ن لنا محترثات ثعلب :: 1/ 260

حرف الثاء

أَشْكُو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أَجْحَفَتْ ... جَهْدًا إِلَى جهد بنا وأضعفت :: 3/ 288 بالخير خيرات وإن شرا فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا :: 2/ 480 سميتها إذ ولدت تموت ... والقبر صهر ضامن رميت :: 5/ 471 يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سَائِلْ بَنِي أسد ما هذه الصوت: رويشد بن كثير : 3/ 289 و 5/ 10 أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إِذَا حُو ... سِبْتُ إني على الحساب مقيت :: 1/ 569 فَقَالَ شَيْطَانٌ لَهُمْ عِفْرِيتٌ ... مَا لَكُمْ مُكْثٌ ولا تبييت :: 4/ 160 هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ الله ما لقيت :: 4/ 435 وَلَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُ ... وَلَمْ يَلِتْنِي عَنْ سراها ليت : رؤبة بن العجاج: 5/ 80 ليت قَوْمِي بِالْأَبْعَدِينَ إِذَا مَا ... قَالَ دَاعٍ مِنَ العشيرة هيت : طرفة: 3/ 20 لَوْ شَرِبْتُ السَّلْوَى مَا سَلَوْتُ ... مَا بِي غنى عنك وإن غنيت : رؤبة: 1/ 104 لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ ... وَلَكِنْ مِنْ نتاج الباسقات :: 5/ 86 وإنما حمل التوراة قارئها ... كسب الفؤاد لا حب التلاوات : المعري: 1/ 92 حلف برب مكة والمصلى ... وأعناق الهدي مقلدات :: 1/ 225 فأنت اليوم فوق الأرض حيا ... وأنت غدا تضحك في كفات :: 5/ 432 يَظَلُّ بِهَا الشَّيْخُ الَّذِي كَانَ بَادِنًا ... يَدُبُّ على عوج له نخرات :: 5/ 453 فَإِنْ تَكُنِ الْعُتْبَى فَأَهْلًا وَمَرْحَبًا ... وَحُقَّتْ لَهَا العتبى لدنيا وقلت : كُثَيِّرٍ: 5/ 492 فَيَا أَسَفَا لِلْقَلْبِ كَيْفَ انْصِرَافُهُ ... وَلِلنَّفْسِ لما سلّيت فتسلت : كثيّر: 3/ 57 قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الألية برت :: 4/ 26 ثلاثة تحذف تاءاتها ... مضافة عند جمع النّحاة :: 4/ 41 كِرَامٍ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولًا ... وَفَاتَ ثِمَارُهَا أيدي الجناة :: 5/ 86 حرف الثاء أَشَاقَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ بَانُوا ... بِذِي الرِّئْيِ الْجَمِيلِ من الأثاث : محمد بن نمير الثقفي: 3/ 410 فَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا ... وَأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ على الثلاث :: 5/ 45

حرف الجيم

حرف الجيم نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الْفَلَجِ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ ونرجو بالفرج :: 3/ 566 تركنا ديارهم منهم قفارا ... وهدّمنا المصانع والبروجا :: 4/ 127 مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حطبا جزلا ونارا تأججا :: 5/ 136 كأن الريش والفوقين منه ... خلاف النصل سبيط به مشيج : الهذلي: 5/ 416 شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج : الهذلي: 5/ 418 يطرحن كل معجل نشاج ... لم يكس جلدا في دم أمشاج : رؤبة بن العجاج: 5/ 415 فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا ... شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ ماء الحشرج : عمر بن أبي ربيعة: 3/ 363 لَا تَكْسَعِ الشَّوْلَ بِأَغْبَارِهَا ... إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَنِ النَّاتِجُ : الحارث بن حلزة: 3/ 163 حرف الحاء هذا مقام قدمي رباح ... ذب حتى دلكت براح :: 3/ 298 والحرب لا يبقى لجا ... حمها التخيل والمراح :: 2/ 79 أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْكِبَاشُ تَنْتَطِحُ ... وَكُلُّ كَبْشٍ فَرَّ منها يفتضح :: 5/ 495 والخيل تعلم حين تض ... بح في حياض الموت ضبحا : عَنْتَرَةَ: 5/ 586 وَالْخَيْلُ تَعْلَمُ حِينَ تَسْ ... بَحُ فِي حياض الموت سبحا : عنترة: 5/ 450 يَا لَيْتَ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورمحا :: 2/ 525 و 5/ 181 وحسبك فتية لِزَعِيمِ قَوْمٍ ... يَمُدُّ عَلَى أَخِي سَقَمٍ جَنَاحًا :: 3/ 171 وَإِذَا رَامَتِ الذُّبَابَةُ لِلشَّمْ ... سِ غِطَاءً مَدَّتْ عليها جناحا :: 5/ 374 بر يُصَلِّي لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ ... يَظَلُّ كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلَّهِ سائحا :: 2/ 465 يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا ... إِلَى سُلَيْمَانَ فنستريحا :: 2/ 533 كَرَهْتُ الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلٍ ... إِذَا هَبَّتْ لقارئها الرياح :: 1/ 269 فلم أر حيا صابروا مثل صبرها ... ولا كانوا مثل الذين نكافح : عنترة: 1/ 475 وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أبتغي العيش أكدح : ابن مقبل: 5/ 493 يَأْبَى الْفَتَى إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى ... وَمَنْهَجُ الْحَقِّ له واضح :: 2/ 277 وَإِنِّي إِذَا مَلَّتْ رِكَابِي مُنَاخَهَا ... فَإِنِّي عَلَى حظي من الأمر جامح :: 2/ 429 إِذَا مَاتَ فَوْقَ الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ رُوحَهُ ... بِذِكْرَاكَ والعيش المراسيل جنّح : ذو الرمة: 2/ 367 يَأْبَى الْفَتَى إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى ... وَمَنْهَجُ الْحَقِّ له واضح :: 3/ 486

حرف الخاء

أَخُو بَيْضَاتٍ رَائِحٌ مُتَأَوِّبٌ ... رَفِيقٌ لِمَسْحِ الْمَنْكِبَيْنِ سبوح :: 4/ 29 لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَنِي ... حَتَّى ترى خيلا أمامي تسيح : طرفة: 2/ 380 ليبك يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ : سيبويه: 2/ 149 إِنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ عَمِيرٌ وَأَشْبَا ... هُـ عَمِيرٍ ومنهم السفاح :: 1/ 481 كَانَتْ خُرَاسَانُ أَرْضًا إِذْ يَزِيدُ بِهَا ... وَكُلُّ باب من الخيرات مفتوح :: 2/ 66 أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بطون راح : جرير: 5/ 562 مهب رياح سده جناح ... وقابل بالمصباح ضوء صباح :: 5/ 374 وقيل غدا يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى غَدٍ ... إِذَا رَاحَ أصحابي ولست برائح : الطرماح: 5/ 152 ألا غللاني قَبْلَ نَوْحِ النَّوَائِحِ ... وَقَبْلَ اضْطِرَابِ النَّفْسِ بَيْنَ الجوانح : الطرماح: 5/ 152 يَعُزُّ عَلَى الطَّرِيقِ بِمَنْكِبَيْهِ ... كَمَا ابْتَرَكَ الْخَلِيعُ على القداح :: 4/ 481 فَتًى مَا ابْنُ الْأَغَرِّ إِذَا شَتَوْنَا ... وَحُبَّ الزاد في شهري قماح : أبو زيد الهذلي: 4/ 414 وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كَالْإِبِلِ القماح :: 4/ 414 لَا يَدْلِفُونَ إِلَى مَاءٍ بِآنِيَةٍ ... إِلَّا اغْتِرَافًا من الغدران بالراح :: 1/ 304 قل للقوافل والغزي إذا غزوا ... والباكرين وللمجد الرائح :: 1/ 450 قَاتَلَهَا اللَّهُ تَلْحَانِي وَقَدْ عَلِمَتْ ... أَنِّي لِنَفْسِي إفسادي وإصلاحي : أبان بن تغلب: 2/ 403 حرف الخاء أَمَّا الْمُلُوكُ فَأَنْتَ الْيَوْمَ أَلْأَمُهُمْ ... لُؤْمًا وَأَبْيَضُهُمْ سربال طباخ :: 3/ 293 حرف الدال مَرَجَ الدِّينُ فَأَعْدَدْتُ لَهُ ... مُشْرِفَ الْحَارِكِ مَحْبُوكَ الكتد :: 5/ 99 سَاهِمُ الْوَجْهِ شَدِيدٌ أَسْرُهُ ... مُشْرِفُ الْحَارِكِ مَحْبُوكُ الكتد : لبيد: 5/ 427 لطالما حلأتماها لا ترد ... فخلياها والسّجال تبترد :: 4/ 137 وَذَا النُّصُبِ الْمَنْصُوبِ لَا تَعْبُدَنَّهُ ... وَلَا تَعْبُدِ الشيطان والله فاعبدا : الأعشى: 5/ 353 إِذَا نَزَلْتُ فَاجْعَلُونِي وَسَطًا ... إِنِّي كَبِيرٌ لَا أطيق العندا :: 3/ 120 لِلْمَوْتِ فِيهَا سِهَامٌ غَيْرُ مُخْطِئَةٍ ... مَنْ لَمْ يكن ميتا في اليوم مات غدا : الحطيئة: 5/ 152

فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سَائِلٍ ... حَفِيٍّ عن الأعشى به حيث أصعدا :: 2/ 311 شِهَابٌ حَرُوبٌ لَا تَزَالُ جِيَادُهُ ... عَوَابِسَ يَعْلُكْنَ الشكيم المصمدا :: 5/ 634 أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ أَصْعَدَتْ ... فَإِنَّ لَهَا من بطن يثرب موعدا :: 1/ 447 كَأَنَّمَا كَانَ شِهَابًا وَاقِدًا ... أَضَاءَ ضَوْءًا ثُمَّ صار خامدا : أبو النجم: 4/ 146 وَقَدْ رَامَ آفَاقُ السَّمَاءِ فَلَمْ يَجِدْ ... لَهُ مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا :: 1/ 480 أَبَيْتُ نَجِيًّا لِلْهُمُومِ كَأَنَّنِي ... أُخَاصِمُ أَقْوَامًا ذَوِي جدل لدا :: 3/ 417 وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا ... قَدْ ثَمَّرُوا مَالًا وَوُلْدَا : الحارث بن حلزة: 3/ 411 أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي ... أَرَى مَا ترين أو بخيلا مخلدا : دريد بن الصّمة: 2/ 173 وَلَقَدْ قُلْتُ وَزَيْدٌ حَاسِرٌ ... يَوْمَ وَلَّتْ خَيْلُ عمرو قددا :: 5/ 367 فِي كُلِّ مَا هَمَّ أَمْضَى رَأْيَهُ قُدُمًا ... ولم يشاور في إقدامه أحدا :: 5/ 563 كَمْ مِنْ أَخٍ لِيَ مَاجِدٍ ... بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لحدا : عمرو بن معديكرب: 3/ 529 كَسَدْنَ مِنَ الْفَقْرِ فِي قَوْمِهِنَّ ... وَقَدْ زَادَهُنَّ مقامي كسادا :: 2/ 395 فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضَا ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سودا :: 5/ 142 رَمَى الْحَدَثَانِ نِسْوَةَ آلِ عَمْرٍو ... بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ له سمودا :: 5/ 142 نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى ... نُورًا ومن فلق الصباح عمودا :: 4/ 38 يَا عَاذِلَيَّ دَعَا الْمَلَامِ وَأَقْصِرَا ... طَالَ الْهَوَى وأطلتما التفنيدا :: 3/ 64 لَقَدْ سَلَبَتْ عَصَاكَ بَنُو تَمِيمٍ ... فَمَا تَدْرِي بأي عصا تذود :: 4/ 191 وغنيت سَبْتًا قَبْلَ مَجْرَى دَاحِسٍ ... لَوْ كَانَ لِلنَّفْسِ اللجوج خلود : لَبِيَدٍ: 2/ 498 غَلَبَ الْعَزَاءَ وَكُنْتُ غَيْرَ مُغَلَّبٍ ... دَهْرٌ طويل دائم ممدود : لبيد: 5/ 183 وحبسن في هزم الضريع فكلها ... حدباء دامية اليدين حرود : الهذلي: 5/ 522 إن الحدائق في الجنان ظليلة ... فيها اللواعب سدرها مخضود : أمية بن أبي الصلت: 5/ 183 حَتَّى مَا إِذَا أَضَاءَ الْبَرْقُ فِي غَلَسٍ ... وغودر البقل ملوي ومخضود :: 4/ 506 أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا ... سَرَاوِيلُ قَيْسٍ والوفود شهود :: 1/ 521 يا حكم بن المنذر بن الجارود ... سرادق المجد عليك ممدود : رؤبة: 3/ 335 أَلَا زَارَتْ وَأَهْلُ مِنًى هُجُودُ ... فَلَيْتَ خَيَالَهَا بمنى يعود :: 3/ 298 أَلَا طَرَقَتْنَا وَالرِّفَاقُ هُجُودُ ... فَبَاتَتْ بِعِلَّاتِ النَّوَالِ تجود :: 3/ 298 فَإِنْ يَبْرَأْ فَلَمْ أَنْفُثْ عَلَيْهِ ... وَإِنْ يُفْقَدْ فحق له الفقود : عنترة: 5/ 640

أَزَيْدَ مَنَاةَ تُوعِدُ يَا ابْنَ تَيْمٍ ... تَأَمَّلْ أين تاه بك الوعيد : جرير: 5/ 130 تَأَلَّى ابْنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّنِي ... إِلَى نِسْوَةٍ كأنهن مفايد :: 4/ 19 الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْهَادِي لِطَاعَتِهِ ... فِي فِتْنَةِ النَّاسِ إذ أهواؤهم قدد :: 5/ 317 أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد : حسان: 5/ 564 وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ محمود وهذا محمد : حسان: 5/ 564 بردت حراشفها علي فصدني ... عنها وعن تقبيلها البرد : الكندي: 5/ 442 عَلَوْتُهُ بِحُسَامٍ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ... خُذْهَا حُذَيْفُ فأنت السيد الصمد :: 5/ 633 فَالْأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أُمَّنَا ... فِيهَا مَقَابِرُنَا وَفِيهَا نولد : أمية بن أبي الصلت: 5/ 594 جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ ... وَأَبْلَاهُمَا خير البلاء الذي يبلو : زُهَيْرٍ: 1/ 98 وَلَا سِنَةٌ طَوَالَ الدَّهْرِ تَأْخُذُهُ ... وَلَا ينام وما في أمره فند : زهير: 1/ 311 أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يهل ويسجد : النابغة: 1/ 196 وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ... حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لونها يتورد : أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: 1/ 189 مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد : أمية بن أبي الصلت: 3/ 457 قد كان ذو القرنين عمرو مسلما ... ملكا تذل له الملوك وتحسد : تبع: 3/ 367 فَإِنْ تَكْتُمُوا الدَّاءَ لَا نُخْفِهِ ... وَإِنْ تَبْعَثُوا الحرب لا نقعد : امرؤ القيس: 3/ 423 وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ مَعَ اسْمِهِ ... إِذَا قال في الخمس المؤذن أشهد : حسان: 5/ 564 يا لهف نفسي ولهفي غَيْرَ مُجْدِيَةٍ ... عَنِّي وَمَا مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ ملتحد :: 5/ 372 فمن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد :: 1/ 564 إِذَا أَنْكَرَتْنِي بَلْدَةٌ أَوْ نَكِرْتُهَا ... خَرَجْتُ مَعَ البازيّ عليّ سواد :: 2/ 578 ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بلا لاقت لبون بني زياد : قيس بن زهير: 3/ 62 و 115 و 530 إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْمَلِيكُ لَهُ ... قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ : النابغة: 3/ 64 و 4/ 498 هَلْ فِي افْتِخَارِ الْكَرِيمِ مِنْ أَوَدٍ ... أَمْ هل لقول الصديق من فند :: 3/ 64 فَأَصْبَحْتُ مِمَّا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... مِنَ الْوُدِّ مثل القابض الماء باليد :: 3/ 88 مؤللتان يعرف العتق فيهما ... كسامعتي شاة بحومل مفرد : طرفة: 2/ 387 أَعَاذِلَ إِنَّ الْجَهْلَ مِنْ لَذَّةِ الْفَتَى ... وَإِنَّ المنايا للنفوس بمرصد : عديّ: 2/ 385

وَلَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا إِخَالُكَ عَالِمًا ... أَنَّ الْمَنِيَّةَ للفتى بالمرصد : عامر بن الطفيل: 2/ 385 وَإِنِّي لِعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًا ... وَمَا في إلا تلك من شيمة العبد : حاتم الطائي: 2/ 313 أَعَاذِلُ مَا يُدْرِيكَ أَنَّ مَنِيَّتِي ... إِلَى سَاعَةٍ في اليوم أو في ضحى الغد : عدي بن زيد: 2/ 173 إن بني الأدرد لَيْسُوا مِنْ أَحَدْ ... وَلَا تُوَفَّاهُمْ قُرَيْشٌ فِي العدد :: 2/ 141 هلا خصصت من البلاد بمقصد ... قمر القبائل خالد بن يزيد :: 4/ 38 يا دارمية بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَمَدِ : النابغة: 5/ 190 وَشَبَابٌ حَسَنٌ أَوْجُهُهُمْ مِنْ ... إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بن معد :: 5/ 147 تَرَى جَثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ... صَفَائِحُ صُمٍّ مِنْ صفيح منضد : طرفة: 5/ 13 مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خير نار عندها خير موقد : الحطيئة: 4/ 637 فَمَا أَنَا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِثَ تَعْتَرِي ... رِجَالًا غدت من بعد بؤس بأسعد : عدي بن زيد: 5/ 18 وَخَبِّرِ الْجِنَّ أَنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تدمر بالصفاح والعمد : النابغة: 3/ 78 و 4/ 498 يَا وَيْحَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحِدِ : حسان: 1/ 149 تَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي ... وَأَنَّ وَعِيدًا منك كالأخذ باليد : كعب بن مالك: 1/ 40 يا بكر بكرين ويا خلب الكبد ... أصبحت مني كذراع من عضد :: 1/ 115 فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد : دريد بن الصمة: 1/ 94 فَارْتَاعَ مِنْ صَوْتِ كَلَّابٍ فَبَاتَ لَهُ ... طَوْعَ الشوامت من خوف ومن صرد : النابغة: 2/ 580 كَمِيشُ الْإِزَارِ خَارِجٌ نِصْفُ سَاقِهِ ... صَبُورٌ عَلَى الجلاء طلاع أنجد : دريد بن الصمة: 5/ 328 وموؤودة مقبورة في مفازة ... بآمتها موسودة لم يمهد : متمم بن نويرة: 5/ 471 لَقَدْ بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدٍ ... بِعَمْرِو بن مسعود وبالسيد الصمد :: 5/ 635 يَا رَبِّ إِنِّي نَاشَدٌ مُحَمَّدًا ... حِلْفَ أَبِينَا وأبيه الأتلد :: 2/ 392 كَنُودٌ لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ وَمَنْ يَكُنْ ... كَنُودًا لِنَعْمَاءِ الرجال يبعد :: 5/ 589 وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيُّهُمْ ... يَقُولُونَ لَا تهلك أسى وتجلد : امرؤ القيس: 5/ 147 فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه ... ومن يبذل المعروف في الناس يحمد : الحطيئة: 5/ 137 أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمَّا تَزَلْ بركابنا وكأن قد : النابغة: 4/ 557 و 5/ 142 مَا كَانَ يَنْفَعُنِي مَقَالُ نِسَائِهِمْ ... وَقُتِلْتُ دُونَ رجالهم لا تبعد : 2/ 574 نفثت فِي الْخَيْطِ شَبِيهَ الرُّقَى ... مِنْ خَشْيَةِ الْجِنَّةِ والحاسد : متمم بن نويرة: 5/ 640 سِيرُوا جَمِيعًا بِنِصْفِ اللَّيْلِ وَاعْتَمِدُوا ... وَلَا رَهِينَةَ إلا سيد صمد : الزبرقان بن بدر: 5/ 634 سبحانه ثم سبحانا يعود له ... وقبلنا سبّح الجودي والجمد : زيد بن عمرو: 2/ 568 وصادقتا سَمْعُ التَّوَجُّسِ لِلسَّرَى ... لِرِكْزٍ خَفِيٍّ أَوْ لِصَوْتٍ مفتد : طرفة: 3/ 417

تَرَى جَثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ... صَفَائِحُ صُمٍّ مِنْ صفيح منضد : طرفة: 3/ 405 غَدَوْتُ صَبَاحًا بَاكِرًا فَوَجَدْتُهُمْ ... قُبَيْلَ الضُّحَى فِي السّابريّ الممرد :: 4/ 163 لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ... نَهَارِي وَلَا ليلي علي بسرمد : طرفة: 2/ 526 و 4/ 213 مَضَى الْخُلَفَاءُ فِي أَمْرٍ رَشِيدِ ... وَأَصْبَحَتِ الْمَدِينَةُ للوليد :: 4/ 185 إِذَا جِيَادُ الْخَيْلِ جَاءَتْ تَرْدَى ... مَمْلُوءَةً مِنْ غضب وحرد :: 5/ 325 أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد : النابغة: 5/ 371 لَمْ تَبْلُغِ الْعَيْنُ كُلَّ نَهْمَتِهَا ... يَوْمَ تَمْشِي الجياد بالقدد : لبيد: 5/ 367 يمشي بأوظفة شداد أسرها ... صمّ السنابل لا تفي بالجدجد : ابن أحمر: 5/ 427 تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سبيل لست فيها بأوحد : طرفة بن العبد:: 5/ 552 وَوَجْهٌ كَأَنَّ الشَّمْسَ أَلْقَتْ رِدَاءَهَا ... عَلَيْهِ نَقِيُّ اللون لم يتخدد : طرفة: 5/ 500 الْخَيْرُ أَبْقَى وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ ... وَالشَّرُّ أخبث ما أوعيت من زاد :: 5/ 496 مقذوفة بد خيس النحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد : النَّابِغَةِ: 5/ 628 وَالْمُؤْمِنِ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرُ يَمْسَحُهَا ... رُكْبَانُ مَكَّةَ بين الغيل والسند : النابغة: 5/ 247 يَجُودُ بِالنَّفْسِ إِنْ ضَنَّ الْجَبَانُ بِهَا ... وَالْجُودُ بالنفس أقصى غاية الجود : مسلم بن الوليد: 2/ 463 و 5/ 202 فكنت كالساعي إلى مثعب ... موائلا من سبل الراعد :: 2/ 442 سبوحا جموحا وإحضارها ... كمعمعة السعف الموقد :: 2/ 423 وَمَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وإن ترشد غزية أرشد :: 2/ 404 و 3/ 486 إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوما يصيروا للهلك والنكد : لبيد: 3/ 255 إِنْ لَا يَكُنْ وَرِقٌ يَوْمًا أَجُودُ بِهَا ... للسائلين فإني ليّن العود :: 3/ 268 لَا تَحْسَبَنِّي وَإِنْ كُنْتُ امْرَأً غَمِرًا ... كَحَيَّةِ الماء بين الطين والشّيد : الشماخ: 3/ 543 هذا الثناء فإن تسمع لقائله ... ولم أعرض أبيت اللعن بالصفد : النابغة: 3/ 142 فَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا ... كَمَا تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لوراد : القطامي: 3/ 206 أبو بيضات رائح أَوْ مُبَعِّدٌ ... عَجْلَانَ ذَا زَادٍ وَغَيْرَ مُزَوَّدِ :: 4/ 60 أسرت عليه من الجوزاء سارية ... تزجي الشمال عليه جامد البرد : النابغة: 4/ 48 أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الفاحش المتشدد : طرفة: 1/ 332 أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمْ بِيَدٍ ... إِلَّا يَدًا مَخْبُولَةَ العضد : أوس: 1/ 431 وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلَجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كل القوم يا أم خالد :: 1/ 55 فَجِئْتُ إِلَيْهِ وَالرِّمَاحُ تَنُوشُهُ ... كَوَقْعِ الصَّيَاصِي فِي النسيج الممدد : دريد بن الصمة: 4/ 316 فَإِنَّا وَإِنْ عَيَّرْتُمُونَا بِقِلَّةٍ ... وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وحاسد :: 4/ 350

حرف الراء

أَمُونٍ كَأَلْوَاحِ الْأَرَانِ نَسَأْتُهَا ... عَلَى لَاحِبٍ كَأَنَّهُ ظهر برجد : طرفة: 4/ 364 سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إِذَا أَبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ ... فَمَا كمثلهم في الناس من أحد :: 4/ 604 إِذَا قِيلَ مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ وَالْقُرَى ... وَرَبُّ الجياد الجرد قلت لخالد :: 3/ 587 لا أهتدي فيها لموضع تلعة ... بين العذيب وبين أرض مراد :: 4/ 415 تَظَاهَرْتُمْ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ وَوِجْهَةٍ ... عَلَى وَاحِدٍ لا زلتم قرن واحد :: 1/ 127 حَلُّوا بِأَنْقَرَةَ يَسِيلُ عَلَيْهِمُ ... مَاءُ الْفُرَاتِ يَجِيءُ من أطواد : الأسود بن يعقر: 4/ 119 وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبًا لَكَ أَنَّنِي ... ضُرِبَتْ على الأرض بالأسداد :: 4/ 415 يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي ... فليس ما فات من أمري بمردود :: 3/ 64 صَادِيًا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ ... وَلَقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المنجود :: 3/ 39 تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى ... حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجم الحصيد : جرير: 1/ 446 وإني لم أهلك سلالا ولم أمت ... خفاتا وكلا ظنه بي عودي : دريد بن الصمة: 5/ 324 إِذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ ... أَكِيلًا فإني لست آكله وحدي : حاتم: 4/ 63 أو أن سلمى أبصرت تخددي ... ودقة في عظم ساقي ويدي :: 3/ 116 وَكَمْ مِنْ مَاجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ ... وَمِنْ لَيْثٍ يعزر في الندي : أبو عبيدة: 2/ 26 وَكَتِيبَةٍ لَبِسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ ... حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لها يدي : عنترة: 1/ 88 تَسَلَّيْتُ طُرًّا عَنْكُمْ بَعْدَ بَيْنِكُمْ ... بِذِكْرَاكُمْ حَتَّى كأنكم عندي :: 4/ 376 وبث الخلق فيها إذا دحاها ... فهم قطانها حتى التنادي : أمية بن أبي الصلت: 5/ 458 أَلَا أَيَهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مخلدي : طرفة: 1/ 126 و 2/ 58 و 4/ 254 وَمِنْ وَرَائِكَ يَوْمٌ أَنْتَ بَالِغُهُ ... لَا حَاضِرٌ معجز عنه ولا بادي :: 3/ 120 فَأَسْرَرْتُ النَّدَامَةَ يَوْمَ نَادَى ... بِرَدِّ جِمَالِ غَاضِرَةَ المنادي : كثير: 2/ 515 حرف الراء وَقَتْلَى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّخِي ... لِ يَغْشَاهُمْ مَطَرٌ منهمر : أوس بن حجر: 4/ 604 راح تمريه الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر : امرؤ القيس: 5/ 148 يغدو عَلَى الصَّيْدِ بِعُودٍ مُنْكَسِرْ ... وَيُقَمْطِرُ سَاعَةً وَيَكْفَهِرْ :: 5/ 420 يَا جَعْفَرُ يَا جَعْفَرُ يَا جَعْفَرُ ... إِنْ أك دحداحا فأنت أقصر :: 5/ 620

لَا تَعْدَمِي الدَّهْرَ شِفَارَ الْجَازِرِ ... لِلضَّيْفِ وَالضَّيْفُ أحق زائر :: 2/ 583 تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... وَآخِرَهُ لَاقَى حمام المقادر : كعب بن مالك: 1/ 123 إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يبك حولا كاملا فقد اعتذر : لبيد: 2/ 445 و 5/ 173 و 514 فَمَا وَنِيَ مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَرَ ... لَهُ الإله ما مضى وما غبر : العجاج: 3/ 432 جَذَّذَ الْأَصْنَامَ فِي مِحْرَابِهَا ... ذَاكَ فِي اللَّهِ العليّ المقتدر :: 3/ 488 جعل البيت مثابا لهم ... ليس منه الدهر يقضون الوطر :: 1/ 161 لها عذر كَقُرُونِ النِّسَا ... ءِ رُكِّبْنَ فِي يَوْمِ رِيحٍ وصر :: 4/ 585 قد غدا يحملني في أثفه ... لا حق الإطلين محبوك ممر : أبو دؤاد: 5/ 99 سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر : النمر بن تولب: 5/ 160 و 195 وَلَيْلَةً ظَلَامُهَا قَدِ اعْتَكَرْ ... قَطَعْتُهَا وَالزَّمْهَرِيرُ مَا زهر :: 5/ 421 فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ ... لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أني أفر : امرؤ القيس: 5/ 402 أَقْسَمَ بِاللَّهِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرْ ... مَا مَسَّهَا من نقل ولا دبر :: 5/ 404 ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلو الرأي وفي الروع وزر : طرفة: 5/ 405 لَعَمْرِي مَا لِلْفَتَى مِنْ وَزَرْ ... مِنَ الْمَوْتِ يدركه والكبر :: 5/ 405 أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شِيمَةً ... وَفِي كُلِّ حادثة يؤتمر : النمر بن تولب: 4/ 191 إني أتتني لسان لا أسر بها ... من علو لا عجب منها ولا سخر : الأعشى: 4/ 123 أَتَوْنِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا ... وَكَانُوا أَتَوْنِي بأمر نكر :: 1/ 566 وَإِنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا عَشْرُ أَبْطُنٍ ... وَأَنْتَ بَرِيءٌ من قبائلها العشر :: 2/ 291 لَا يَبْعَدَنَّ قَوْمَيِ الَّذِينَ هُمْ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وآفة الجزر :: 1/ 619 و 2/ 574 أَنْتُمْ أَوْسَطُ حَيٍّ عَلِمُوا ... بِصَغِيرِ الْأَمْرِ أَوْ إحدى الكبر :: 1/ 174 وإذ هِيَ تَمْشِي كَمَشْيِ النَّزِي ... فِ يَصْرَعُهُ بِالْكَثِيبِ البهر : امرؤ القيس: 4/ 451 وَتَرَى النَّاسَ إِلَى أَبْوَابِهِ ... زُمَرًا تَنْتَابُهُ بَعْدَ زمر :: 4/ 546 لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر : امرؤ القيس: 5/ 85 أَخْرَجَ الشَّطْءَ عَلَى وَجْهِ الثَّرَى ... وَمِنَ الْأَشْجَارِ أفنان الثمر :: 5/ 66 يا ابن المغلى نَزَلَتْ إِحْدَى الْكُبَرْ ... دَاهِيَةُ الدَّهْرِ وَصَمَّاءُ الْغِيَرْ :: 5/ 397 لما أكبت يدا لرزايا ... عليه نادى ألا مجير :: 5/ 626 فهان عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبِوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ : حسان: 5/ 237 فكيف أنا وانتحال القوافي ... بعد الشيب يكفي ذاك عارا : الأعشى: 3/ 340

أَأَزْمَعْتَ مِنْ آلِ لَيْلَى ابْتِكَارَا ... وَشَطَّتْ عَلَى ذي هوى أن تزارا : الأعشى: 5/ 352 نَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلَا ... نَأْتِي النِّسَاءَ إذا أكبرن إكبارا :: 3/ 27 يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرَا ... فَوَاسِقًا عَنْ قصدها جوائرا : رؤبة بن العجاج: 1/ 68 وقيدني الشعر في بيته ... كما قيد الآسرات الحمارا : الأعشى: 2/ 371 نشرب الخمر بالصواع جهارا ... وترى المتك بيننا مستعارا :: 2/ 229 و 3/ 26 و 50 أَيُّهَا الرَّائِحُ الْمُجِدُّ ابْتِكَارَا ... قَدْ قَضَى مِنْ تهامة الأوطارا : عمر بن أبي ربيعة: 4/ 327 إِذَا مَا رَأَيْنَ الْفَحْلَ مِنْ فَوْقِ قُلَّةٍ ... صهلن وأكبرن المني المقطرا :: 3/ 26 مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ الْمُلْكِ يَتْبَعُهُ ... مَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرايات والقترا : الفرزدق: 2/ 499 نجا سالم والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا : أبو فراس: 1/ 91 ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعضه أبت عيدانه أن تكسرا :: 4/ 60 فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا ... نُحَاوِلُ ملكا أو نموت فنعذرا : امرؤ القيس: 2/ 240 له الويل إن أمسى وَلَا أُمُّ هَاشِمٍ ... قَرِيبٌ وَلَا الْبَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يشكرا : امرؤ القيس: 2/ 244 أصبحت لا أحمل السلام ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا : سيبويه: 1/ 620 أخو الحرب إن غضت به الحرب غضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا : حاتم الطائي: 5/ 328 أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوهم ... وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا : حسان بن نشبة: 5/ 614 وَفِي الْخِبَاءِ عَرُوبٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ ... رَيَّا الرَّوَادِفِ يعشي ضوؤها البصرا : لبيد: 5/ 184 لَعَمْرِي لَئِنْ أَنَزَفْتُمُ أَوْ صَحَوْتُمْ ... لَبِئْسَ النَّدَامَى كنتم آل أبجرا : الحطيئة: 5/ 180 نزيف إذا قامت لوجه تمايلت ... تراشي الفؤاد الرخص ألا تخترا : امرؤ القيس: 4/ 451 تمنى حصين أن يسود جذاعه ... فأمسى حصين قد أذل وأقهرا : المخبل السعدي:: 2/ 120 بلغنا السماء مجدا وفخرا وسؤددا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا : النابغة: 4/ 635 فأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا :: 1/ 185 ويذهب بينها المرئي لغوا ... كما ألغيت في الدية الحوارا : ذو الرمة: 1/ 264 فَطَافَتْ ثَلَاثًا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... وَكَانَ النَّكِيرُ أن تضيف وتجأرا : الأعشى: 3/ 203 أبا لأراجيف يَا ابْنَ اللُّؤْمِ تُوعِدُنِي ... وَفِي الْأَرَاجِيفِ خِلْتُ اللؤم والخورا : منازل بن ربيعة المنقري: 4/ 350 و 5/ 452 يُثَبِّتُ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ ... تَثْبِيتَ موسى ونصرا كالذي نصرا : عبد الله بن رواحة: 3/ 128 و 4/ 143 مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذر فوق الإتب منها لأثرا : امرؤ القيس: 4/ 452 و5/ 585 وصيت مِنْ بَرَّةَ قَلْبًا حُرًّا ... بِالْكَلْبِ خَيْرًا وَالْحَمَاةِ شرا :: 4/ 223

مَنْ شَاءَ بَايَعْتُهُ مَالِي وَخِلْعَتَهُ ... مَا تُكْمِلُ التيم في ديوانها سطرا : جرير: 3/ 282 قد لقي الأقران مني نكرا ... داهية دهياء إدّا إمرا :: 3/ 357 تجازى القروض بأمثالها ... فبالخير خيرا وبالشر شرا :: 1/ 300 فصب عليه الله أحسن صنعه ... وكان له بين البرية ناصرا : النابغة: 5/ 531 يَرُدُّ عَنْكَ الْقَدْرَ الْمَقْدُورَا ... وَدَائِرَاتِ الدَّهْرِ أَنْ تدورا :: 2/ 58 فاز بالحطة التي جعل الل ... هـ بها ذنب عبده مغفورا :: 1/ 105 لقدر سخت فِي الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ ... لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتُهَا أن تغيرا :: 1/ 363 عَفَتِ الدِّيَارُ خِلَافَهَا فَكَأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حصيرا : الحارث بن خالد: 3/ 294 أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ على الثلاث كسيرا :: 3/ 537- 4/ 494 قَبَّحَ الْإِلَهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا ... سَبَّحَ الْحَجِيجُ وكبروا تكبيرا : جرير: 5/ 514 فبانت وقد أسأرت في الفؤا ... د صدعا على نابها مستطيرا : الأعشى: 5/ 419 منعمة طفلة كالمهاة ... لم تر شمسا ولا زمهريرا : الأعشى: 5/ 421 لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الموت ذا الغنى والفقيرا : عدي بن زيد: 1/ 106 فلا والعاديات غداة جمع ... بأيديها إذا سطع الغبار : صفية بنت عبد المطلب: 5/ 587 يَا لَبَكْرٍ انْشُرُوا لِي كُلَيْبًا ... يَا لَبَكْرٍ أين أين الفرار : المهلهل بن ربيعة: 5/ 620 وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ صِبَا نُصَيْبُ ... لَقُلْتُ بِنَفْسِيَ النشأ الصغار : نصيب: 5/ 379 متى تقرع بمروتكم تسؤكم ... ولم توقد لنا في القدر نار :: 5/ 592 فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُمْ أَبْطَالَ حَرْبٍ ... غَدَاةَ الْحَرْبِ إذ خيف البوار :: 3/ 131 وَيُرَيْنَ مِنْ أُنْسِ الْحَدِيثِ زَوَانِيًا ... وَبِهِنَّ عَنْ رفث الرجال نفار :: 1/ 214 غَدَوْنَا غَدْوَةً سَحَرًا بِلَيْلٍ ... عَشِيًّا بَعْدَ مَا انتصف النهار :: 4/ 252 وإن صخرا لتأتم الهداة ... كأنه علم في رأسه نار : الخنساء: 3/ 486 و 4/ 617 تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ ... فَإِنَّمَا هي إقبال وإدبار : الخنساء: 3/ 12 كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر :: 3/ 581 أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفاخر : الأعشى: 1/ 75 إِذَا مَا هَتَفْنَا هَتْفَةً فِي نَدِيِّنَا ... أَتَانَا الرجال العابدون القساور : لبيد: 5/ 400 إِذَا حَوَّلَ الظِّلُّ الْعَشِيَّ رَأَيْتَهُ ... حَنِيفًا وَفِي قرن الضحى يتنصر :: 1/ 170 فَفِرُّوا إِذَا مَا الْحَرْبُ ثَارَ غُبَارُهَا ... وَلَجَّ بها اليوم العبوس القماطر :: 5/ 420

فَمَا حَسَنٌ أَنْ يَعْذِرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... وَلَيْسَ له من سائر الناس عاذر :: 5/ 406 أعيرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عمار يا ابن ريطة ظاهر :: 3/ 102 ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... لشيء نحته عن يديك المقادر : ذو الرمة: 3/ 321 رهبان مدين لو رأوك تنزلوا ... والعصم من شعف العقول الفادر : جرير: 2/ 78 أبا حكم ما أنت عم مجالد ... وسيد أهل الأبطح المتناحر :: 5/ 614 إما يصبك عدو في مناوأة ... يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر :: 2/ 146 غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... كما الدهر في أيامه العسر واليسر : حاتم الطائي: 2/ 257 فَلَا تَجْزَعُوا إِنِّي لَكُمْ غَيْرُ مُصْرِخٍ ... وَلَيْسَ لكم عندي غناء ولا نصر : أمية بن أبي الصلت: 3/ 125 وهم كشوث فلا أصل ولا ورق ... ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر :: 3/ 128 وَطَلَعَتْ شَمْسٌ عَلَيْهَا مِغْفَرُ ... وَجَعَلَتْ عَيْنُ الْحَرُورِ تسكر :: 3/ 148 بِئْسَ الصِّحَابُ وَبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهُمُ ... إِذَا جَرَى فيهم الهذي والسكر :: 3/ 211 فَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ اللَّوَى بِرَوَاجِعٍ ... لَنَا أَبَدًا مَا أبرم السّلم النضر :: 3/ 497 اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّا فِي تَلَفُّتِنَا ... يَوْمَ الْفِرَاقِ إلى جيراننا صور :: 1/ 324 وكم من حصان قد حوينا كريمة ... ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر : قيس بن عاصم: 5/ 445 وَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَا كُنْتُ أَتَّقِي ... ثَلَاثُ شخوص كاعبان ومعصر : عمر بن أبي ربيعة: 5/ 445 عشية فرّ الحارثيون بعد ما ... قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر :: 4/ 313 قعدت زمانا على طِلَابِكَ لِلْعُلَا ... وَجِئْتَ نَئِيشًا بَعْدَ مَا فَاتَكَ الخير :: 4/ 385 تروح بنا يا عَمْرٌو وَقَدْ قَصَرَ الْعَصْرَ ... وَفِي الرَّوْحَةِ الْأُولَى الغنيمة والأجر :: 5/ 599 وَيَحْيَى لَا يُلَامُ بِسُوءِ خُلْقٍ ... وَيَحْيَى طَاهِرُ الأثواب حر :: 5/ 389 ألا يا اسلمي يا دارميّ عَلَى الْبِلَى ... وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ :: 4/ 154 وَقَدْ جَعَلْتُ أَرَى الْإِثْنَيْنِ أَرْبَعَةً ... وَالْأَرْبَعَ اثْنَيْنِ لما هدّني الكبر :: 1/ 60 وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ سَلْوَةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ من سلكه القطر :: 1/ 104 فَإِنْ رُدِدْتُ فَمَا فِي الرَّدِّ مَنْقَصَةٌ ... عَلِيَّ قد ردّ موسى قبل والخضر :: 3/ 358 أماوي ما يغني الثراء على الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ : حاتم الطائي: 5/ 194 أما الربيع إذا تكون خصاصته ... عاش السقيم به وأثرى المقتر :: 5/ 239 لَا تَنْصُرُوا اللَّاتَ إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهَا ... وَكَيْفَ ينصركم من ليس ينتصر : شداد بن عارض الجشمي: 5/ 130 تُهِلُّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا ... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ :: 1/ 196 فبت أكابد ليل النما ... م والقلب من خشية مقشعر : امرؤ القيس: 4/ 527

يا قومنا لا تروموا حربنا سفها ... إن السّفاه وإن البغي مبثور : أبان بن تغلب: 3/ 312 وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ ... فَأَجْسَامُهُمْ قبل القبور قبور :: 2/ 181 ثُمَّ بَعْدَ الْفَلَاحِ وَالْمُلْكِ وَالْأُمَّ ... ةِ وَارَتْهُمْ هناك القبور : عدي بن زيد: 4/ 632 فَكَأَنَّمَا هِيَ مِنْ تَقَادُمِ عَهْدِهَا ... رَقٌّ أُتِيحَ كتابها مسطور : المتلمس: 5/ 114 تركتم قدركم لا شيء فيها ... وقدر الغير حامية تفور : حسان: 5/ 310 شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم الفطور :: 5/ 309 بَنَى لَكُمْ بِلَا عَمَدٍ سَمَاءً ... وَزَيَّنَهَا فَمَا فيها فطور :: 5/ 309 خَلِيلِيَّ هَلْ فِي نَظْرَةٍ بَعْدَ تَوْبَةٍ ... أُدَاوِي بها قلبي عليّ فجور :: 4/ 93 شاده مرمرا وجلله كل ... سا فللطير في ذراه وكور : عديّ بن زيد: 3/ 543 مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّامِ يَضْرِبُهَا ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ منثور : الفرزدق: 5/ 153 رأت رجلا غائب الوافدي ... ن مختلف الخلق أعشى ضرير : الأعشى: 4/ 637 يباعده الصديق وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير : الفرّاء: 2/ 562 فَلَوْ أَنَّ نَفْسِي طَاوَعَتْنِي لَأَصْبَحَتْ ... لَهَا حَفَدٌ مما يعد كثير : جميل بن معمر: 3/ 214 وَمَا كَادَتْ إِذَا رَفَعَتْ سَنَاهَا ... لِيُبْصِرَ ضَوْءَهَا إلا البصير : الشماخ: 4/ 49 إِذَا الْمَرْءُ أَعْيَتْهُ السِّيَادَةُ نَاشِئًا ... فَمَطْلَبُهَا كَهْلًا عليه عسير :: 4/ 376 نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى ... فَعَادَ إِلَيَّ الطرف وهو حسير :: 5/ 309 يَا قَابِضَ الرُّوحِ عَنْ جِسْمٍ عَصَى زَمَنًا ... وغافر الذنب زحزحني عن النار : ذو الرمة: 1/ 135 أَحَافِرَةً عَلَى صَلَعٍ وَشَيْبٍ ... مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ سفه وعار :: 5/ 452 ألبست قومك مخزاة ومنقصة ... حتى أبيحو وحلّوا فجوة الدار :: 3/ 326 دَعُوا كُلَّ قَوْلٍ عِنْدَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ... فَمَا آمن في دينه كمخاطر :: 2/ 404- 3/ 486- 5/ 332 وَيَوْمٌ كَظِلِّ الرُّمْحِ قَصَّرَ طُولَهُ ... دَمُ الزِّقِّ عنا واصطفاق المزاهر : شبرمة بن الطفيل: 4/ 287 و 5/ 345 أَعَيْنَيَّ جُودَا بِالدُّمُوعِ الْهَوَامِرِ ... عَلَى خَيْرِ بَادٍ من معد وحاضر : 5/ 148 إِذَا انْصَرَفَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَوَدِّعِي ... بِلَادَ تَمِيمٍ وانصري أرض عامر : الراعي: 5/ 622 وَلَكِنَّهَا ضَنَّتْ بِمَنْزِلٍ سَاعَةً ... عَلَيْنَا وَأَطَّتْ يَوْمَهَا بالمعاذر :: 5/ 406 حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَبًا للميت الناشر :: 4/ 71 كَبَهِيمَةٍ عَمْيَاءَ قَادَ زِمَامَهَا ... أَعْمَى عَلَى عِوَجِ الطريق الجائر :: 3/ 241- 4/ 121 فَكَمْ مِنْ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ غَيْرِ شَاكِرٍ ... وَكَمْ من مبتلى غير صابر : عون بن عبد الله: 4/ 618 مَا زِلْتُ أَغْلِقُ أَبْوَابًا وَأَفْتَحُهَا ... حَتَّى أَتَيْتَ أبا عمرو بن عمار : أبو عمرو بن العلاء: 3/ 20

فَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ... وَلَيْتَ فلانا كان ولد حمار :: 3/ 412 لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إِلَى صَدْرِهَا ... عَاشَ وَلَمْ ينقل إلى قابر : الأعشى: 5/ 465 فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وكاسر :: 1/ 312 وَرَأَتْ قَضَاعَةُ فِي الْأَيَا ... مِنْ رَأْيٍ مَثْبُورٍ وثابر : الكميت: 3/ 312 بِالْأَبْلَقِ الْفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ ... حِصْنٌ حَصِينٌ وجار غير ختار : الأعشى: 4/ 282 وَإِذَا الرِّجَالُ رَأَوْا يَزِيدَ رَأَيْتَهُمْ ... خُضُعَ الرِّقَابِ فواكس الأبصار :: 5/ 417 فأرسلوهن يذرين التراب كما ... يذري سبائخ قطن ندف أوتار : الأخطل: 5/ 380 حَذِرٌ أُمُورًا لَا تُضِيرُ وَحَاذِرٌ ... مَا لَيْسَ ينجيه من الأقدار :: 4/ 117 شفارة تقذ الفصيل برجلها ... فطارة لقوادم الأبكار : الفرزدق: 2/ 11 حَذِرٌ أُمُورًا لَا تَضِيرُ وَآمِنٌ ... مَا لَيْسَ منجيه من الأقدار :: 4/ 117 إن الذي فيه تماريتما ... بين للسامع والآثر : الأعشى: 5/ 393 فَإِنَّ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هذا الأنام المسحر : لبيد: 4/ 130 وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كَأَنَّ كُعُوبَهُ ... نَوَى الْقَسْبِ قَدْ أردى ذراعا على العشر :: 4/ 199 فوارس ذبيان تحت الحدي ... د كالجن يوفضن من عبقر :: 5/ 353 إِنِّي إِلَيْكِ لَمَّا وَعَدْتِ لَنَاظِرُ ... نَظَرَ الْفَقِيرِ إلى الغني الموسر :: 5/ 407 ومن فاد من إخوانهم وبينهم ... كهول وشبان كجنة عبقر : لبيد: 5/ 172 و 354 أليس ورائي إن تراخت منيتي ... أدب مع الولدان أزحف كالنسر :: 5/ 7 والخيل تمرح رهوا في أعنتها ... كالطير تنجو من الشرنوب ذي الوبر :: 4/ 658 لَا يَبْعَدَنَّ قَوْمَيِ الَّذِينَ هُمْ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وآفة الجزر : أبو عبيدة: 1/ 199 إِذَا الْمُعْضِلَاتُ تَصَدَّيْنَ لِي ... كَشَفْتُ خَفَاءً لَهَا بالنظر : الشافعي: 1/ 279 هُنَّ الْحَرَائِرُ لَا رَبَّاتُ أَحْمِرَةٍ ... سُودُ الْمَحَاجِرِ لا يقرأن بالسور : الراعي: 3/ 566- 5/ 570 وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا ... عَلَى شجوه إلا بكيت على صخر : الخنساء: 3/ 503 وَإِنَّ أَبَانَا كَانَ حِلٌّ بِبَلْدَةٍ ... سُوًى بَيْنِ قيس عيلان والفزر : موسى بن جابر: 3/ 438 فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دَاخِرٌ فِي مُخَيَّسٍ ... وَمُنَجَحِرٌ في غير أرضك في جحر : الفرزدق: 3/ 199 لَكُمْ قَدَمٌ لَا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا ... مَعَ الحسب العالي طمت على البحر : ذو الرمة: 2/ 481 نُبِّئْتُ أَنَّ بَنِي سُحَيْمٍ أَدْخَلُوا ... أَبْيَاتَهُمْ تَأَمُورَ نفس المنذر :: 1/ 92 كَسَا اللُّؤْمُ تَيْمًا خُضْرَةً فِي جُلُودِهَا ... فَوَيْلٌ لتيم من سرابيلها الخضر :: 1/ 554 نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى على قدر :: 1/ 57- 3/ 432

حرف الزاي

فإنك لا يضورك بَعْدَ حَوْلٍ ... أَظَبْيٌ كَانَ أُمَّكَ أَمْ حِمَارُ : خداش بن زهير: 4/ 116 إني ضمنت لمن أتاني ما جنى ... وأبى فكان وكنت غير غدور : الفرزدق: 5/ 89 يَلْحَيْنَنِي مِنْ حُبِّهَا وَيَلُمْنَنِي ... إِنَّ الْعَوَاذِلَ لَسْنَ لي بأمير :: 3/ 516 ألا طعان ولا فرسان عادية ... إلا تجشؤكم حول التنانير : حسان: 1/ 310 يعطي بها ثمنا فيمنعها ... ويقول صاحبها ألا تشري :: 1/ 240 حي النضيرة ربة الخدر ... أسرت إليّ ولم تكن تسري : حسان: 2/ 584 و 3/ 246 أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلَكًا ... أَنَّهُ قَدْ طَالَ حبسي وانتظاري : عدي بن زيد: 1/ 74 وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ... ضُ الْقَوْمِ يخلق ثم لا يفرى : زهير: 1/ 59 حرف الزاي فلما شراها فاضت العين عبرة ... وفي الصدر حزاز من اللوم حامز : الشمّاخ: 3/ 16 حرف السين يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفْ رَسْمًا مِكْرَسَا ... قَالَ نَعَمْ أعرفه وأبلسا : العجاج: 2/ 133- 4/ 251 ألما على الربع القديم بعسعسا ... كأني أنادي أو أكلم أخرسا : امرؤ القيس: 5/ 473 حمال رايات بها قنا عسا ... حتى تقول الأزد لا مسايسا :: 1/ 354 تَرَى الْجَلِيسَ يَقُولُ الْحَقَّ تَحْسَبُهُ ... رُشْدًا وَهَيْهَاتَ فانظر ما به التبسا : الخنساء: 1/ 88 فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً ... وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تساقط أنفسا : امرؤ القيس: 3/ 100 وهم سائرون إلى أرضهم ... تنابلة يحفرون الرساسا :: 4/ 89 إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا ... تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فكانت لباسا : الجعدي: 1/ 89 ليث يدق الأسد الهموسا ... والأقهبين الفيل والجاموسا : رؤبة: 3/ 457 تراه إذا دار العشا متحنفا ... ويضحى لديه وهو نصران شامس :: 1/ 111 عسعس حتى لو يشاء إدَّنا ... كان لنا من ناره مقبس : امرؤ القيس: 5/ 473 إلا اليعافير وإلا العيس ... وبقر ملمع كنوس : عامر بن الحارث: 4/ 170 آلَيْتُ حَبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ ... وَالْحَبُّ يَأْكُلُهُ في القرية السوس : المتلمس: 1/ 326

حرف الشين

سَرِيعٌ إِلَى الْهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلَاحَهُ ... فَمَا أَنْ يكاد قرنه يتنفس : زيد الخيل: 3/ 425 نبئت أن النار بعد أوقدت ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس : المهلهل: 1/ 65 و 5/ 572 أقول للركب إذ طال الثواء بنا ... يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابْنِ عباس :: 1/ 525 الْمُطْعِمُونَ إِذَا هَبَّتْ بِصَرْصَرَةٍ ... وَالْحَامِلُونَ إِذَا اسْتَوْدَوْا عن الناس :: 4/ 585 مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازَيْهِ ... لَا يذهب العرف بين الله والناس : الحطيئة: 1/ 594 و 5/ 430 أَصْبَحَ الْمُلْكُ ثَابِتَ الْآسَاسِ ... بِالْبَهَالِيلِ مِنْ بَنِي العباس :: 2/ 459 وَطَالِبُ الدُّنْيَا بِعِلْمِ الدِّينِ أَيُّ بَائِسٍ ... كَمَنْ غدا لنعله يمسح بالقلانس :: 2/ 474 أيا أَيُّهَا الْمُشْتَكِي عُكْلًا وَمَا جَرَمَتْ ... إِلَى الْقَبَائِلِ من قتل وإبآس :: 2/ 9 فأين إلى أين النجاة ببغلتي ... أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس :: 5/ 621 فِي كَفِّهِ صَعْدَةٌ مُثَقَّفَةٌ ... فِيهَا سِنَانٌ كَشُعْلَةِ القبس :: 4/ 146 الواردون وتيم في ذرى سبأ ... قد عضى أعناقهم جلد الجواميس :: 4/ 153 و 366 حنت إلى النخلة القصوى فقتل لها ... حجر حرام ألا تلك الدهاريس :: 4/ 81 دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَنْهَضْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أنت الطاعم الكاسي : الحطيئة: 2/ 567 حرف الشين عقرت لهم موهنا ناقتي ... وغامرهم مدلهم غطش : الأعشى: 5/ 457 يَرِيشُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَيَبْرِي ... وَلَا يَبْرِي يعوق ولا يريش : مالك بن نمط الهمداني: 5/ 360 إليك أشكو شدة المعيش ... ومرّ أعوام نتفن ريشي : رؤبة: 1/ 258 حرف الصاد تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا : الأعشى: 2/ 14 رَعَى الشِّبْرَقَ الرَّيَّانَ حَتَّى إِذَا ذَوَى ... وَعَادَ ضريعا بان عنه النحائص : أبو ذؤيب: 5/ 522

حرف الضاد

حرف الضاد سرى همّي فأمرضني ... وقدما زادني مرضا :: 3/ 58 طَلَبَتْهُ الْخَيْلُ يَوْمًا كَامِلًا ... وَلَوْ أَلْفَتْهُ لَأَضْحَى محرضا :: 3/ 58 يَا رَبِّ ذِي ضَغَنٍ عَلَيَّ فَارِضٌ ... لَهُ قروء كقروء الحائض :: 1/ 115 و 270 أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْوَفَاءَ فَهِبْتَهُ ... وَحِدْتَ كَمَا حاد البعير عن الدحض : طرفة: 3/ 350 و 384 و 5/ 89 يبادر جنح الليل فهو موائل ... يحث الجناح بالتبسط والقبض : أبو خراش: 5/ 313 أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشر أهون من بعض :: 1/ 393 بك نال النضال دون المساعي ... فاهتدين النبال للأغراض :: 3/ 469 أخفضه بالنقر لما علوته ... ويرفع طرفا غير خاف عضيض : امرؤ القيس: 5/ 390 طُولَ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ طُولِي وطوين عرضي :: 4/ 109 حرف الطاء لا تذهبن في الأمور فرطا ... لا تسألن إن سألت شططا :: 1/ 174 بِأَيَّةِ حَالٍ حُكِّمُوا فِيكَ فَاشْتَطُّوا ... وَمَا ذَاكَ إلا حيث يممك الوخط :: 5/ 365 حرف العين فَأَصْبَحْتُ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فِرَاخُهُ ... إِذَا رَامَ تطيارا يقال له قع : عمر بن حممة الدوسي: 1/ 156 لَمَّا رَأَى أَنْ لَا دَعَهْ وَلَا شِبَعْ ... مال إلى أرطاة حقف فاضطجع :: 1/ 405 يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ : ورقة بن نوفل: 2/ 418 أبيض اللون رقيق طعمه ... طيب الريق إذا الريق خدع : سويد: 1/ 48 ألم يحزنك أن حبال قيس ... وتغلب قد تباينتا انقطاعا : القطامي: 4/ 97 وَسَائِبَةٌ لِلَّهِ تُنْمِي تَشَكُّرًا ... إِنِ اللَّهُ عَافَى عامرا أو مجاشعا :: 2/ 94 إِنَّ عَلَيَّ اللَّهَ أَنْ تُبَايِعَا ... تُؤْخَذْ كَرْهًا أو تجيء طائعا :: 4/ 102 تَعْلَمُ أَنَّ بَعْدَ الْغَيِّ رُشْدًا ... وَأَنَّ لِذَلِكَ الغي انقشاعا : القطامي: 1/ 40

قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إِنَّ قَوْمِي ... وَقَوْمَكِ مَا أرى لهم اجتماعا :: 1/ 128 وَمَنْ هَمَزْنَا عِزَّهُ تَبَرْكَعَا ... عَلَى اسْتِهِ زَوْبَعَةً أو زوبعا :: 5/ 602 يَا هِنْدُ مَا أَسْرَعَ مَا تَعَسْعَسَا ... مِنْ بعد ما كان فتى ترعرعا : رؤبة بن العجاج: 5/ 473 هُمْ صَلَبُوا الْعَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ ... فَلَا عطست شيبان إلا بأجدعا : سويد بن أبي كاهل: 3/ 444 وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا :: 4/ 264 أَنَغْضَ نَحْوِي رَأْسَهُ وَأَقْنَعَا ... كَأَنَّمَا أَبْصَرَ شَيْئًا أطمعا :: 3/ 138 هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا يوما ومن سمعا :: 3/ 128 بذات لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا : الأعشى: 2/ 100 بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا ... إِذَا كَانَ يوم ذو كواكب أشنعا : سيبويه: 2/ 144 تلفت نحو الحيّ حتى رأيتني ... وجعت من الإصفاء ليتا وأخدعا :: 2/ 528 فَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ ... مِنَ الْحَوَادِثِ إلا الشيب والصلعا :: 2/ 578 جاء البريد بقرطاس يخبّ به ... فأوجس القلب في قرطاسه جزعا :: 2/ 578 وَأَنْتَ الَّذِي دَسَّيْتَ عَمْرًا فَأَصْبَحَتْ ... حَلَائِلُهُ مِنْهُ أرامل ضيعا :: 5/ 547 فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ ... وَإِنْ تدعاني أحم عرضا ممنعا : سويد بن كراع: 5/ 91 أبيت على باب القوافي كأنما ... أذود سربا من الوحش نزعا :: 4/ 191 وكائن رددنا عنكم من مذحج ... يجيء أمام الركب يردى مقنعا :: 1/ 442 بِحَدِيثِهَا اللَّذِّ الَّذِي لَوْ كَلَّمَتْ ... أُسْدَ الْفَلَاةِ به أتين سراعا :: 4/ 451 أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ مَوْتِي عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائة الرتاعا : القطامي: 5/ 340 عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... وَقُلْتُ ألما أصح والشيب وازع :: 2/ 109 و 4/ 150 وَإِذَا الْأُمُورُ تَعَاظَمَتْ وَتَشَاكَلَتْ ... فَهُنَاكَ يَعْتَرِفُونَ أَيْنَ المفزع :: 4/ 306 والدهر لا يبقى على حدثانه ... جون السراة له جدائد أربع : أبو ذؤيب: 4/ 398 وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تبع : أبو ذؤيب الهذلي: 4/ 362 فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإِنْ خِلْتُ أن المنتأى عنك واسع : النابغة: 4/ 599 سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ ... فَتُخُرِّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مصرع : أبو ذؤيب: 2/ 210 إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا تَشَاءُ خَدَعْتَهُ ... وَتَرَى اللَّئِيمَ مجربا لا يخدع : نفطويه: 1/ 335 يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لَا تَنْفَعُ ... هَلْ أغدون يوما وأمري مجمع :: 2/ 525 فَصَبَرَتْ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الجبان تطلع : عنترة: 1/ 92 و 3/ 78 و 185

ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى بينهم الغراب الأبقع : عنترة: 3/ 220 فَمَا النَّاسُ إِلَّا عَامِلَانِ فَعَامِلٌ ... يُتَبِّرُ مَا يبني وآخر رافع :: 3/ 250 فَمَا فَتِئْتُ حَتَّى كَأَنَّ غُبَارَهَا ... سُرَادِقُ يَوْمٍ ذي رياح ترفع : أوس بن حجر: 3/ 58 أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ : عمرو بن معدي كرب: 2/ 168 و 5/ 101 تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه حينا وحينا تراجع : النابغة: 3/ 127 وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ إِلَّا تَوَاضُعًا ... فَكَمْ تحتها قوم هم منك أرفع :: 3/ 271 طوى النحز والأجراز ما في بطونها ... فما بقيت إلا الضلوع الجراشع : ذو الرمة: 3/ 321 أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع :: 5/ 474 أُخَبِّرُ أَخْبَارَ الْقُرُونِ الَّتِي مَضَتْ ... أَدِبُّ كَأَنِّي كلما قمت راكع : لبيد: 1/ 90 وَصَفْتَ التُّقَى حَتَّى كَأَنَّكَ ذُو تُقَى ... وَرِيحُ الخطايا من ثيابك تسطع : أبو العتاهية: 1/ 91 حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثم ذو أمة وهو طائع : النابغة: 1/ 425 و 3/ 575 و 4/ 631 حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشقر كل يوم تقرع : أبو ذؤيب: 1/ 185 وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع : معدي كرب: 1/ 240 وَظَلَّ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفًا ... عُكُوفَ الْبَوَاكِي حولهن صريع :: 1/ 215 لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ والجبال الخشع : جرير: 1/ 119 و 2/ 206 و 3/ 456 و 4/ 659 تقول وقد أفردتها من خليلها ... تعست كما أتعستني يا مجمع : مجمع بن هلال: 5/ 38 أمن المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع : أبو ذؤيب الهذلي: 5/ 119 أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مُزْنَةً ... وَعُفْرُ الظباء في الكناس تقمع : أوس بن حجر: 5/ 190 أَتَوْكَ فَقُطِّعَتْ أَنْكَالُهُمْ ... وَقَدْ كُنَّ قَبْلَكَ لَا تقطع : الخنساء: 5/ 381 فإني بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلَا من غدرة أتقنع : غيلان بن سلمة: 5/ 389 و 394 تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... فكاد صميم القلب لا ينقطع :: 5/ 402 صكاء ذِعْلِبَةً إِذَا اسْتَدْبَرْتَهَا ... حَرَجٌ إِذَا اسْتَقْبَلْتَهَا هِلْوَاعُ : المسيب بن علس: 5/ 350 زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَالُ زِيَادَةً ... كَمَا زِيدَ فِي عرض الأديم الأكارع : حسان: 5/ 321 وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس فالضواجع : النابغة : 5/ 638 جذمنا قيس ونجد دارنا ... ولنا الأب به المكرع :: 5/ 466 بُلِينَا وَمَا تُبْلَى النُّجُومُ الطَّوَالِعُ ... وَتَبْقَى الْجِبَالُ بعدنا والمصانع : لبيد: 4/ 127

حرف الغين

مَنْ يَرْجِعِ الْعَامَ إِلَى أَهْلِهِ ... فَمَا أَكِيلُ السبع بالراجع : عتبة بن أبي لهب: 2/ 12 فَإِنَّ الْغَدْرَ فِي الْأَقْوَامِ عَارٌ ... وَإِنَّ الْحُرَّ يجزى بالكراع :: 1/ 97 وَمَنْ يَأْمَنِ الدُّنْيَا يَكُنْ مِثْلَ قَابِضٍ ... عَلَى الماء خانته فروج الأصابع :: 3/ 88 بِدَجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُمْ ... بِدَجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السماع :: 3/ 138 و 5/ 147 الحزم والقوة خير من ال ... إدهان والفهة والهاع : أبو قيس بن الأسلت: 5/ 193 بمكة أهلها ولقد أراهم ... إليه مهطعين إلى السماع :: 5/ 351 قَدْ حَصَّتِ الْبَيْضَةُ رَأْسِي فَمَا ... أَطْعَمُ نَوْمًا غير تهجاع : أبو قيس بن الأسلت: 3/ 41 و 5/ 101 وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ القصاع : الحطيئة: 1/ 287 و 5/ 42 ونقفي وَلِيدَ الْحَيِّ إِنْ كَانَ جَائِعًا ... وَنُحْسِبُهُ إِنْ كان ليس بجائع : امرأة من بني قشير: 5/ 446 قَدْ أَصْبَحَتْ أَمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلِيَّ ذَنْبًا كله لم أصنع : لبيد: 5/ 202 تصيبهم وتخطئني المنايا ... وأحلف في ربوع عن ربوع : الشَّمَّاخِ: 2/ 212 لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مَفَاقِرَهُ أَعَفُّ من القنوع : الشمّاخ: 3/ 538 وما تدري جَذِيمَةُ مَنْ طَحَاهَا ... وَلَا مَنْ سَاكِنُ الْعَرْشِ الرفيع :: 5/ 546 وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مصرعي :: 1/ 94 لَعَمْرُكَ مَا أَرْجُو إِذَا كُنْتُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مصرعي :: 4/ 80 أَسْعَى عَلَى جُلِّ بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِئٍ في شأنه ساعي :: 5/ 271 حرف الغين وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغَةٌ ... وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصّبغ : بعض شعراء همدان: 1/ 172 حرف الفاء إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... عَبْدًا إِذَا ما ناء بالحمل وقف :: 4/ 214 يردن في فيه غيظ الحسو ... د حتى يعضّ عليّ الأكفا :: 3/ 116

حرف القاف

عَادَ السَّوَادُ بَيَاضًا فِي مَفَارِقِهِ ... لَا مَرْحَبًا ببياض الشيب إذ ردفا : أبو ذؤيب: 4/ 172 عمرو العلا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ : ابن الزبعرى: 2/ 270 و 5/ 632 وَحَتَّى رَأَيْنَا أَحْسَنَ الْفِعْلِ بَيْنَنَا ... مَسَاكِنَهُ لَا يقرف الشر قارف :: 4/ 137 زَعَمْتُمْ أَنَّ إِخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ ... لَهُمْ إِلْفٌ وَلَيْسَ لكم إلاف :: 5/ 609 نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ والرأي مختلف :: 1/ 333 و 2/ 407 و 484 و 5/ 89 و 271 إِنَّ بَنِي جَحْجَبِي وَقَوْمَهُمْ ... أَكْبَادُنَا مِنْ وَرَائِهِمْ تجف : قيس بن الخطيم: 5/ 452 وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى أَوْ لَيْلَةٍ سَلَفَتْ ... فِيهَا النفوس إلى الآجال تزدلف :: 4/ 119 وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها ... لرحلي وفيها هزة وتقاذف : أوس بن حجر: 1/ 263 الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائنا نطف :: 3/ 535 إذا جمادى منعت قطرها ... زان جنابي عطن معصف : أبو قيس بن الأسلت: 5/ 160 فَفَاجَأَهُ بِعَادِيَةٍ لِزَامٍ ... كَمَا يَتَفَجَّرُ الْحَوْضُ اللَّفِيفُ : أبو ذؤيب: 4/ 106 سِوَى الْأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا ... بَقِيَّةُ وَحْيٍ في بطون الصحائف : ذو الرمة: 3/ 382 إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إلى خلاف :: 1/ 463 تذود الورى عن عصبة هاشمية ... إلا فهم في الناس خير إلاف : أبي طالب: 5/ 608 نعلق فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ... وَمَا بَيْنَهَا وَالْكَعْبِ مهوى نفانف :: 1/ 480 الْمُطْعِمُونَ اللَّحْمَ كُلَّ عَشِيَّةٍ ... حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ في الرجاف :: 4/ 350 الْمُنْعَمِينَ إِذَا النُّجُومُ تَغَيَّرَتْ ... وَالظَّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ :: 5/ 609 فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما أسجدت نصرانة لم تحنف :: 1/ 111 فجاؤوا يهرعون وهم أسارى ... نقودهم على رغم الأنوف : مهلهل: 2/ 582 لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لبس الشفوف : ميسون بنت بحدل: 2/ 59 و 4/ 541 حرف القاف نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق: هند بنت عتبة : 5/ 507 لوح منه بعد بدن وسنق ... تلو يحك الضامر يطوى للسبق : رؤبة بن العجاج: 5/ 393 تَفَاءَلْ بِمَا تَهْوَى يَكُنْ فَلَقَلَّمَا ... يُقَالُ لِشَيْءٍ كان إلا تحقق :: 4/ 437

لَمَّا رَأَوْا جَيْشًا عَلَيْهِمْ قَدْ طَرَقَ ... جَاءُوا بأسراب من الشأم ولق :: 4/ 16 تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق : العباس بن عبد المطلب: 5/ 509 إِنَّ لَنَا قَلَائِصًا نَقَانِقًا ... مُسْتَوْسِقَاتٍ لَوْ يَجِدْنَ سائقا :: 5/ 497 وضحك الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الجوف يوم اللّقا :: 2/ 579 وَلَمَّا رَأَتْهُ الْخَيْلُ مِنْ رَأْسٍ شَاهِقٍ ... صَهَلْنَ وأمنين المني المدفقا :: 3/ 30 مَا زِلْتُ أَرْمُقُهُمْ حَتَّى إِذَا هَبَطَتْ ... أَيْدِي الركاب بهم من راكس فلقا : زهير: 5/ 638 إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا ... وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ والأرقا : ابن قيس الرقيات: 3/ 297 و 5/ 639 عَجَبًا لِعَزَّةَ فِي اخْتِيَارِ قَطِيعَتِي ... بَعْدَ الضَّلَالِ فحبلها قد أخلقا :: 5/ 558 لَا شَيْءَ يَنْفَعُنِي مِنْ دُونِ رُؤْيَتِهَا ... هَلْ يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا : الأعشى: 5/ 366 قالت جناحاه لساقيه الحقا ... ونجيا لحمكما أن يمزقا :: 1/ 156 فَضْلَ الْجِيادِ عَلَى الْخَيْلِ الْبِطَاءِ فَلَا ... يُعْطِي بذلك ممنونا ولا نزقا : زُهَيْرٌ: 4/ 580 كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرَبِي مُقَتَّلَةً ... مِنَ النواضح تسقي جنة سحقا : زهير: 4/ 130 يا ليلة لم أتمها بِتُّ مُرْتَفِقًا ... أَرْعَى النُّجُومَ إِلَى أَنْ نَوَّرَ الفلق :: 5/ 638 إِذَا مَا تَذَكَّرْتُ الْحَيَاةَ وَطِيبَهَا ... إِلَيَّ جَرَى دمع من الليل غاسق :: 4/ 506 ظَلَّتْ تَجُودُ يَدَاهَا وَهِيَ لَاهِيَةٌ ... حَتَّى إِذَا جعجع الإظلام والغسق : زهير: 3/ 297 طراق الخوافي مشرق فوق ريعة ... ندى ليله في ريشة يترقرق : ذو الرُّمَّةِ: 4/ 127 وَلَوْ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ تَعَرَّضَتْ ... لِعَيْنَيْهِ ميّ سافرا كاد يبرق : ذو الرمة: 5/ 404 قُمْ يَا غُلَامُ أَعِنِّي غَيْرَ مُرْتَبِكٍ ... عَلَى الزمان بكأس حشوها شفق :: 5/ 494 وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ ... بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي القطوط ويأنق : الْأَعْشَى: 4/ 487 فِيهِمُ الْمَجْدُ وَالسَّمَاحَةُ وَالنَّجْ ... دَةُ فِيهِمْ والخاطب السلاق : الأعشى: 4/ 311 وتصبح من غب السّرى وكأنما ... ألم بها من طائف الجن أولق : الأعشى: 1/ 339 إِنِّي أَتَيْتُكِ مِنْ أَهْلِي وَمِنْ وَطَنِي ... أُزْجِي حشاشة نفس ما بها رمق : النابغة: 4/ 48 فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهُمْ ... كَلَمْعِ سَرَابٍ بالفلا متألق :: 4/ 45 نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق :: 2/ 156 وَأَنْتَ لَنَا نُورٌ وَغَيْثٌ وَعِصْمَةٌ ... وَنَبْتٌ لِمَنْ يرجو نداك وريق :: 4/ 38 لقد زرقت عيناك يا ابن مُعَكْبَرٍ ... كَمَا كُلُّ ضَبِيٍّ مِنَ اللُّؤْمِ أَزْرَقٌ :: 3/ 455 فسيرا فَإِمَّا حَاجَةٌ تَقْضِيَانِهَا ... وَإِمَّا مَقِيلٌ صَالِحٌ وَصَدِيقُ :: 3/ 365 ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ ... لِلَّهِ أَرْحَاَمٌ هناك تشقق : قتيلة: 2/ 376

حرف الكاف

دَعَوْنَ الْهَوَى ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوبَنَا ... بِأَسْهُمِ أَعْدَاءَ وهن صديق : جرير: 4/ 62 جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شرازم يضحك منها النواق :: 4/ 117 ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق : جميل بثينة: 3/ 550 و 5/ 191 هل للفتى من بنات الدهر من واق ... أَمْ هَلْ لَهُ مِنْ حِمَامِ الْمَوْتِ مِنْ راق :: 5/ 410 حِمًى لَا يُحَلُّ الدَّهْرَ إِلَّا بِإِذْنِنَا ... وَلَا نسأل الأقوام عهد المياثق :: 1/ 69 وَإِنَّا لَنُجْرِي الْكَأْسَ بَيْنَ شَرُوبِنَا ... وَبَيْنَ أَبِي قابوس فوق النمارق :: 5/ 523 كُهُولٌ وَشُبَّانٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ ... عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ونمارق :: 5/ 523 ألا فاسقني صرفا سقاني الساقي ... من مائها بكأسك الدهاق :: 5/ 445 قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سيف ودم مهراق :: 2/ 240 يا نفس صبرا كل حيّ لاق ... وكل اثنين إلى افتراق :: 2/ 232 أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولًا ... فَكَيْفَ وَجَدْتُمُ طعم الشقاق : الأخطل: 2/ 589 وَالْخَيْلُ تَعْدُو عِنْدَ وَقْتِ الْإِشْرَاقِ ... وَقَامَتِ الْحَرْبُ بنا على ساق :: 5/ 328 وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شقاق :: 1/ 171 و 2/ 71 إلى كم تقتل العلماء قسرا ... وتفجر بالشقاق وبالنفاق :: 1/ 171 أَمَرَ الْإِلَهُ بِرَبْطِهَا لِعَدُوِّهِ ... فِي الْحَرْبِ إِنَّ الله خير موفق :: 2/ 366 وَمَنْ يَشْتَرِي حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ ... يَصُنْ عِرْضَهُ عن كل شنعاء موبق : زهير: 3/ 348 وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثِقْتُمْ لنا كل موثق :: 1/ 60 هُوَ الْمُدْخِلُ النُّعْمَانَ بَيْتًا سَمَاؤُهُ ... صُدُورُ الْفُيُولِ بعد بيت مسردق :: 3/ 334 أَفْنَى تِلَادِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ القواقيز أفواه الأباريق : الأقيشر الأسدي: 3/ 101 أَلَا يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا ... فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خمر الطريق :: 1/ 252 أما والله لو كنت حرا ... وما بالحر أنت ولا العتيق :: 5/ 369 ورب كريهة دافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي : دريد بن الصمة: 5/ 410 وَرُحْنَا بِكَابِنِ الْمَاءِ يُجْنَبُ وَسْطَنَا ... تُصَوَّبُ فِيهِ العين طورا وترتقي : امرؤ القيس: 1/ 55 يَمَّمْتُهُ الرُّمْحَ شَزْرًا ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ... هَذِي البسالة لا لعب الزحاليق : الخليل: 1/ 544 حرف الكاف وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِي ... بِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلك : عبد المطلب: 1/ 98 فلما خشيت أظافيرهم ... نجوت وأرهنتهم مالكا : عبد الله بن همام: 1/ 348 و 4/ 183

حرف اللام

وَإِنِّي لَآتِي الْعِرْسَ عِنْدَ طَهُورِهَا ... وَأَهْجُرُهَا يَوْمًا إذا تك ضاحكا :: 2/ 579 لئن هَجَوْتَ أَخَا صِدْقٍ وَمَكْرُمَةٍ ... لَقَدْ مَرَيْتَ أَخًا ما كان يمريكا :: 5/ 128 أَرْسَلْتُ فِيهَا رَجُلًا لُكَالِكَا ... يَقْصُرُ يَمْشِي وَيَطُولُ باركا : ثعلب: 1/ 362 تجانف عن حجر اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا : الأعشى: 1/ 205 و 3/ 578 أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشَدُّ لأقصاها عزيم عزائكا : الأعشى: 1/ 270 نَظَرْتَ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتَهُ ... كَنَبْذِكَ نَعْلًا أَخْلَقَتْ من نعالكا : أبو الأسود: 1/ 138 لا هم رَبِّ أَنْ يَكُونُوا دُونَكَا ... يَبَرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا :: 1/ 91 أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافًا أنني أنا ذلكا : خفاف: 1/ 38 كَأَنَّمَا جَلَّلَهَا الْحُوَّاكُ ... طِنْفِسَةٌ فِي وَشْيِهَا حِبَاكُ :: 5/ 99 مُكَلَّلٍ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسُجُهُ ... رِيحُ الْجَنُوبِ لِضَاحِي مائه حبك : زهير: 5/ 158 حتى إذا ما هوت كف الغلام لها ... طارت وفي كفه من ريشها بتك : زهير: 1/ 596 لَا تَقْتُلِي رَجُلًا إِنْ كُنْتِ مُسْلِمَةً ... إِيَّاكِ من دمه إياك إياك :: 5/ 160 أبنتي أَفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي ... فَأَفْرَحُ أَمْ صَيَّرْتِنِي في شمالك : ابن الدمينة: 5/ 178 تَنَقَّلْتُ فِي أَشْرَفِ التَّنَقُّلِ ... بَيْنَ رِمَاحَيْ نَهْشَلٍ ومالك :: 4/ 114 مصابيح ليست باللواتي تقودها ... نجوم ولا بالآفات الدوالك : ذو الرمة: 3/ 297 حرف اللام وَإِذَا جُوزِيتَ قَرْضًا فَاجْزِهِ ... إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى ليس الجمل : لَبِيدٍ: 5/ 202 فِي كُهُولٍ سَادَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ... نَظَرَ الدهر إليهم فابتهل : لبيد: 1/ 398 إن تَرِي رَأْسِي أَمْسَى وَاضِحًا ... سُلِّطَ الشَّيْبُ عَلَيْهِ فاشتعل : لبيد: 3/ 379 عَسَلَانَ الذِّئْبِ أَمْسَى قَارِبًا ... بَرَدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فنسل :: 4/ 429 مضمر تحذره الأبطال ... كأنه القسور الرهال :: 5/ 400 قانتا لله يتلو كتبه ... وعلى عمر من الناس اعتزل :: 1/ 155 و 296 وَغُلَامٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ ... بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ : لبيد: 1/ 74 وَلَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ... وَكَذَاكَ اللَّهُ ما شاء فعل :: 3/ 435 وقد لبست لهذا الْأَمْرَ أَعْصُرَهُ ... حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ فَاشْتَعَلَا : الأخطل: 1/ 89 وَنَحْنُ رَهَنَّا بِالْأَفَاقَةِ عَامِرًا ... بِمَا كَانَ فِي الدرداء رهنا فأبسلا : النابغة: 2/ 147 تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ الْمَلِيكُ ... فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مقالا : الحطيئة: 3/ 385

أَمِنْ أَجْلِ حَبْلٍ لَا أَبَاكَ ضَرَبْتَهُ ... بِمِنْسَأَةٍ قد جر حبلك أحبلا :: 4/ 364 إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا الْأَحْدَاثُ دَبَّرَهَا ... دُونَ الشُّيُوخِ ترى في بعضها خللا :: 4/ 561 تحالفت طيء مِنْ دُونِنَا حِلْفًا ... وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا كُنَّا لهم خذلا : حاتم الطائي: 2/ 177 ألم يأن يَا قَلْبُ أَنْ أَتْرُكَ الْجَهْلَا ... وَأَنْ يُحْدِثَ الشيب المنير لنا عقلا :: 5/ 207 قلت إذا أَقْبَلَتْ وَزُهْرٌ تَهَادَى ... كَنِعَاجِ الْمَلَا تَعَسَّفْنَ رَمْلَا :: 1/ 80 وَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْخُذُ كُلَّ حَيٍّ ... بِلَا شَكٍّ وإن أمشى وعالا : أبو عمر الدوري: 1/ 484 وَحَقَّ لِمَنْ أَبُو مُوسَى أَبُوهُ ... يُوَفِّقُهُ الَّذِي نصب الجبالا :: 3/ 31 دَعَوْتُ بِطه فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ ... فَخِفْتُ عليه أن يكون موائلا : ابن جرير: 3/ 420 خَالِيَ لَأَنْتَ وَمَنْ جَرِيرٌ خَالُهُ ... يَنَلِ الْعَلَاءَ ويكرم الأخوالا :: 3/ 521 مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ ... خَيْلًا تكر عليهم ورجالا : الأخطل: 5/ 276 فَبَيْنَا الْمَرْءُ فِي الْأَحْيَاءِ طَوْدٌ ... رَمَاهُ النَّاسُ عن كثب فمالا : امرؤ القيس: 4/ 119 وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صخرا ثقالا : زيد بن عمرو: 5/ 458 دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا ... بِأَيْدٍ وَأَرْسَى عَلَيْهَا الجبالا : زيد بن عمر بن نفيل: 5/ 458 قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِهِ سُمِّي الخليل خليلا : بشار: 1/ 598 الْحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجْلِي ... حَتَّى اكتسيت من الإسلام سربالا : النابغة: 1/ 321 كُنْتُ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ ... قَذَفَ الأتي به فضل ضلالا : الْأَخْطَلُ: 4/ 289 مِنْ كُلِّ مُجْتَنِبٍ شَدِيدٍ أَسْرُهُ ... سَلِسِ القياد تخاله مختالا : الأخطل: 5/ 427 في مهمه فلقت به هاماتها ... فلق الفؤوس إذا أردن نصولا : الراعي: 3/ 358 حِبَاؤُكَ خَيْرُ حِبَا الْمُلُوكِ ... يُصَانُ الْحَلَالُ وَتُنْطِي الحلولا : الأعشى: 5/ 613 حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكُوا لِعِظَامِهِ ... لَحْمًا وَلَا لفؤاده معقولا : الراعي: 5/ 319 لَا تَدْخُلَنَّكَ ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلِ ... فَلَخَيْرُ دَهْرِكَ أن ترى مسؤولا : ابن دريد: 1/ 327 وَجَدْنَا الصَّالِحِينَ لَهُمْ جَزَاءُ ... وَجَنَّاتٍ وَعَيْنًا سَلْسَبِيلَا : عبد العزيز الكلابي: 1/ 421 ورجلة يضربون البيض عن عرض ... ضربا تواصت به الأبطال سجيلا : ابن مقبل: 5/ 605 لَقَدْ أَكَلَتْ بَجِيلَةُ يَوْمَ لَاقَتْ ... فَوَارِسَ مَالِكٍ أكلا وبيلا : الخنساء: 5/ 382 ضَرَبْنَا بِمِنْسَأَةٍ وَجْهَهُ ... فَصَارَ بِذَاكَ مَهِينًا ذَلِيلَا :: 4/ 364 فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ إِلَّا قليلا :: 4/ 450 فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا مِنَ اللَّهِ ولا واغل :: 2/ 561 و 4/ 408 و 5/ 282 و 390

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ ... وكل نعيم لا محالة زائل : لبيد: 1/ 89 و 471 إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا في بيت نوب عواسل :: 2/ 485 فَلَا تَبْعُدَنَّ إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْهَلٌ ... وَكُلُّ امْرِئٍ يوما به الحال زائل : النابغة: 2/ 574 إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ التَّصَابِي بيننا والوسائل :: 2/ 44 مثابا لأفناء القبائل كلها ... تخب إليها اليعملات الذوامل : ورقة بن نوفل: 1/ 161 مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جاد عليها مسبل هاطل : الأعشى: 4/ 251 بَكَى حَارِثُ الْجَوْلَانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ ... وَحَوْرَانُ منه خاشع متضائل : النابغة: 4/ 659 تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل : الأعشى: 2/ 221 و 5/ 88 و 642 قالت سليمى أتسري اليوم أم تقل ... وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل :: 2/ 146 تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا ... وَذُبْيَانُ إِذْ زلت بأقدامها النعل : زهير: 2/ 241 و 3/ 230 لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ فِي الْجَبَلِ ... لَانْحَدَرَ الرهبان يسعى ويصل :: 2/ 78 كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظَاهِرَةً ... فِيهَا الْفَرَادِيسُ والفومان والبصل : أمية بن أبي الصلت: 1/ 108 دعيني إنما خطئي وصوبي ... علي وإن ما أهلكت مال :: 3/ 265 وَمَا صَرَمْتُكِ حَتَّى قُلْتِ مُعْلِنَةً ... لَا نَاقَةٌ لي في هذا ولا جمل : الراعي: 1/ 310 كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... مَشْيُ السَّحَابَةِ لا ريث ولا عجل : الأعشى: 5/ 114 فِي فِتْيَةٍ مِنْ سُيُوفِ الْهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل :: 3/ 450 وَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُورُ دِمَاؤُهَا ... بِدِجْلَةَ حَتَّى ماء دجلة أشكل :: 5/ 114 تسيل على حد السيوف نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل :: 1/ 91 تخوف غدرهم مَالِي وَأُهْدِي ... سَلَاسِلَ فِي الْحُلُوقِ لَهَا صَلِيلُ :: 3/ 198 لما رأيت العدم قيد نائلي ... وأملق ما عندي خطوب تنبل : أوس: 3/ 265 ذَكَرْتُ أَبَا أَرْوَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي ... بِرَدِّ الْأُمُورِ الماضيات وكيل :: 3/ 280 أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفَتْلُ : الأعشى: 1/ 55 و 3/ 324 لمن زحلوقة زلّ ... بها العينان تنهلّ :: 3/ 334 وهل هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بغل : هند بنت النعمان: 3/ 564 رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا بها حتى إذا أنبت البقل : زهير: 3/ 567 أَإِنْ ذَكَّرَتْكَ الدَّارُ مَنْزِلَهَا جُمْلُ ... بِكَيْتَ فَدَمْعُ العين منحدر سجل :: 3/ 570 وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آباء آبائهم قبل : زهير: 1/ 283

حَمَاهَا أَبُو قَابُوسَ فِي عِزِّ مُلْكِهِ ... كَمَا قد حمى أولاد أولاده الفحل :: 2/ 94 وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل :: 1/ 161- 4/ 118 إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دعائمه أعز وأطول : الفرزدق: 4/ 255 و 5/ 257 ليس الكرام بناحليك أباهم ... حتى ترد إلى عطية تعتل : الفرزدق: 4/ 662 تكاد لا تثلم البطحاء وطأتها ... يجد بنا في كل يوم وتهزل : الكميت: 5/ 511 تضيء الظلام بالعشاء كأنها ... منارة حمسى راهب متبتل :: 5/ 381 فقل لبني مروان ما بال ذمتي ... وجعل ضعيف لا يزال يوصل :: 4/ 205 وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ ... عَلَيْكَ ولا أحصرتك شغول :: 1/ 387 ذَاكَ فَتًى يَبْذُلُ ذَا قِدْرِةٍ ... لَا يُفْسِدُ اللَّحْمَ لَدَيْهِ الصُّلُولُ : الحطيئة: 3/ 155 و 4/ 289 عَفَتْ مِثْلَ مَا يَعْفُو الْفَصِيلُ فَأَصْبَحَتْ ... بِهَا كبرياء الصعب وهي ذلول : حميد بن ثور: 5/ 247 وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الْأُصُولِ ... طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ : حسان: 1/ 108 ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل : الفرزدق: 1/ 109 قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مع المستعجل الزلل :: 4/ 561 كَمَا خَطَّ الْكِتَابَ بِكَفِّ يَوْمًا ... يَهُودِيٍّ يُقَارِبُ أو يزيل :: 2/ 188 وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ متى يعيل : أحيحة بن الجلاح: 2/ 399- 5/ 559 بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا ... وَمَا يُغْنِي البكاء والعويل : عبد الله بن رواحة: 3/ 400 فَنَحْنُ كَمَاءِ الْمُزْنِ مَا فِي نِصَابِنَا ... كَهَامٌ ولا فينا يعدّ بخيل :: 5/ 190 تَلْقَاكُمْ عُصَبٌ حَوْلَ النَّبِيِّ لَهُمْ ... مِنْ نَسْجِ داود في الهيجا سرابيل : كعب بن مالك: 3/ 143 تمنى أن تؤوب إليّ ميّ ... وليس إلى تناوشها سبيل :: 4/ 385 لكنها خَلَّةً قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجْعٌ وَوَلَعٌ وإخلاف وتبديل : كعب بن زهير: 5/ 531 إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَوْ تُمَثَّلُ مُثِّلَتْ ... مِثْلِي إِذَا نزلوا بضنك المنزل : عنترة: 3/ 462 يُسْقَوْنَ مِنْ وَرْدِ الْبَرِيصِ عَلَيْهِمُ ... كَأْسًا يُصَفِّقُ بالرحيق السلسل : حسان بن ثابت: 5/ 423 و 488 وَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ رُدِّدَتْ حُلُومُهُمْ ... عَلَيْهِمْ وَكَانُوا كالفراش من الجهل :: 5/ 594 ولما اتقى القين العراقي باسته ... فرغت إلى القين المقيد في الحجل :: 5/ 164 وكأين رَأَيْنَا مِنْ مُلُوكٍ وَسُوقَةٍ ... وَمِفْتَاحِ قَيْدٍ لِلْأَسِيرِ المكبل : لبيد: 5/ 41 كنا على أمة آبائنا ... ويقتدي الآخر بالأول : قيس بن الخطيم: 4/ 631 أعطى ولم يبخل فلم يبخل ... كوم الذرى من خول المخول : أبو النجم: 4/ 519

تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلَةٍ ... تَمَنِّي دَاوُدَ الزبور على رسل :: 1/ 123 تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا ... عذب المذاق إذا ما اتَّابع القبل : الكسائي: 2/ 412 وألد ذي حنق عَلَيَّ كَأَنَّمَا ... تَغْلِي عَدَاوَةُ صَدْرِهِ فِي مِرْجَلِ :: 1/ 239 والنبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل ينبت بين الماء والعجل :: 3/ 481 مسح إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الْوَنَى ... أَثَرْنَ غُبَارًا بالكديد المركل :: 3/ 433 حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوْلَهُنَّ وَأَسْلَمَتْ ... بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةُ الْأَجْمَالِ :: 3/ 216 سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ من هلال : لبيد: 3/ 208 ومن الطريقة جائر وهدى ... قصد السبيل منه ذو دخل : امرؤ القيس: 3/ 180 صل لذي العرش واتخذ قدما ... ينجك يوم الخصام والزلل : ابن الوضاح: 2/ 481 لَيْسَ النُّكُوصُ عَلَى الْأَعْقَابِ مُكْرُمَةً ... إِنَّ الْمَكَارِمَ إقدام على الأسل :: 2/ 360 فظلوا منهم دمعه سابق له ... وآخر يذري عبرة العين بالهمل : ذو الرمة: 1/ 548 فإن تزعميني كنت أجهل فيكم ... فإني شريت الحلم بعدك بالجهل : أبو ذؤيب: 1/ 54 أَلَمْ تَرَ أَنَّ أَصْرَمَ كَانَ رِدْئِي ... وَخَيْرُ الناس في قل ومال :: 4/ 199 وعندي لبوس في اللباس كأنه ... روق بجبهته ذي نعاج مجفل : الهذلي: 3/ 494 فَأَعِنْهُمُ وَايْسُرْ كَمَا يَسَرُوا بِهِ ... وَإِذَا هُمُ نزلوا بضنك فانزل :: 1/ 252 قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ ... بِسِقْطِ اللوى بين الدخول فحومل : امرؤ القيس: 3/ 589 و 5/ 91 مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل : امرؤ القيس: 5/ 509 كأن ذرا رأس المجيمر غدوة ... من السيل والأغثاء فلكة مغزل : امرؤ الْقَيْسِ: 5/ 514 وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا ... تَمَتَّعْتُ من لهو بها غير معجل : امرؤ الْقَيْسِ: 4/ 452 كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا ... وَجَارَتِهَا أم الرباب بمأسل : امرؤ الْقَيْسِ: 1/ 368 فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ... لِمَا نسجتها من جنوب وشمأل : امْرُؤُ الْقَيْسِ: 1/ 333 يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحَ رَاهِبٍ ... أهان السليط في الذبال المفتل : امرؤ القيس: 4/ 50 درير كخذروف الوليد أمره ... يقلب كفيه بخيط موصل : امرؤ القيس: 4/ 205 وَفَرْعٌ يُزِينُ الْمَتْنَ أَسْوَدُ فَاحِمٍ ... أَثِيثٌ كَقِنْوِ النخلة المتعثكل : امرؤ القيس: 3/ 222 وإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل : امرؤ الْقَيْسِ: 5/ 389 أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي ... وَأَنَّكِ مهما تأمري النفس تفعل : امرؤ القيس: 5/ 95 فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل : امرؤ القيس: 3/ 504 فألحقه بالهاديات ودونه ... جواهرها في صرة لم تزيل : امرؤ القيس: 5/ 105 ومثلك حبلى قد طرقت ومرضعا ... فألهيتها عن ذي تمائم محول : امرؤ القيس: 5/ 507 و 596

كأن ثبيرا في أفانين ويله ... كبير أناس في بجاد مزمل : امرؤ القيس: 5/ 378 وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إِلَّا لِتَضْرِبِي ... بِسَهْمَيْكِ فِي أعشار قلب مقتل : امرؤ الْقَيْسِ: 5/ 392 مِكَرٌّ مِفَرٌّ مُقْبِلٌ مُدْبِرٌ مَعًا ... كَجُلْمُودِ صخر حطه السيل من عل : امرؤ القيس: 5/ 405 وبالسائحين لا يذوقون قطرة ... لربهم والذاكرات العوامل : علي بن أبي طالب: 2/ 465 نَصَرُوا نَبِيَّهُمْ وَشَدُّوا أَزْرَهُ ... بِحُنَيْنَ يَوْمَ تَوَاكَلَ الأبطال :: 2/ 397 وَهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كَانَ آخِرُ عَهْدِهِ ... ثَلَاثِينَ شهرا في ثلاثة أحوال : امرؤ الْقَيْسِ: 5/ 358 وَهَلْ يَنْعَمْنَ إِلَّا سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ ... قَلِيلُ الهموم ما يبيت بأوجال : امرؤ القيس: 5/ 179 نَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ مِنْ حَذَرِ الْمَوْ ... تِ وجالوا في الأرض كل مجال : الحارث بن حلزة: 5/ 94 لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٍ ... خُلُقٌ يُوَازِيهِ فِي الفضائل :: 4/ 604 أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرِفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ : امرؤ القيس: 4/ 456 إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا في بيت نوب عوامل : الهذلي: 4/ 80 و 222 أَبَنِي غُدَانَةَ إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ ... فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جعال : الفرزدق: 2/ 82 فَدَعْ عَنْكَ نَهْبًا صِيحَ فِي حُجُرَاتِهِ ... وَهَاتِ حديثا ما حديث الرواحل :: 1/ 87 و 2/ 41 لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ ... حمامة في غصون ذات أوقال : أبو قيس بن الأسلت: 2/ 246 أَرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ السّرار من الهلال : جرير: 2/ 270 و 3/ 10 و 4/ 109 لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أَكْرَمُ أَهْلُهُ ... وَأَقْعَدُ فِي أفنان بالأصائل :: 2/ 320 إِنَّا إِذَا احْمَرَّ الْوَغَى نَرْوِي الْقَنَا ... وَنَعُفُّ عند مقاسم الأنفال : عنترة: 2/ 323 رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَهُ ذَلِكَ الْيَوْ ... مَ وَأَسْرَى من معشر أقيال :: 3/ 145 حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوْلَهُنَّ وَأَسْلَمَتْ ... بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةُ الْأَجْمَالِ :: 3/ 216 حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تَزِنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى من لحوم الغوافل : حسان: 1/ 516 و 4/ 19 أيّما شاطن عصاه عكاه ... ثم يلقى في السجن والأغلال : أمية بن أبي الصلت: 1/ 52 وَمَاذَا عَلَيْهِ إِنْ ذَكَرْتُ أَوَانِسًا ... كَغِزْلَانِ رَمْلٍ في محاريب أقيال :: 4/ 363 كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا ... لَدَى وَكْرِهَا العتاب والحشف البالي : امرؤ القيس: 4/ 213 فَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ عَالَ الزَّمَانُ على عيال :: 1/ 484 تركتني حين كف الدهر من بصري ... وإذا بقيت كعظم الرمة البالي : جرير: 5/ 108 لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ ... هُـ وإني لحرّها اليوم صالي : الحارث بن عباد: 1/ 494

تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتَ وَأَهْلُهَا ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عالي :: 1/ 232 و 544 إن يعاقب يكن غراما وإن يع ... ط جزيلا فإنه لا يبالي : الأعشى: 4/ 100 صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ... فلست بمقلي الخلال ولا قالي : امرؤ القيس: 4/ 132 و 5/ 557 نَظَرْتُ إِلَيْهَا وَالنُّجُومُ كَأَنَّهَا ... مَصَابِيحُ رُهْبَانٍ تَشِبُّ لقفال : امرؤ القيس: 5/ 407 وَكُنَّا إِذَا مَا الضَّيْفُ حَلَّ بِأَرْضِنَا ... سَفَكْنَا دماء البدن في تربة الحال : الهذلي: 5/ 542 اللَّهُ أَنْزَلَ فِي الْكِتَابِ فَرِيضَةً ... لِابْنِ السَّبِيلِ وللفقير العائل : جرير: 5/ 559 كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ ... عَلَى الْخَائِفِ المطلوب كفة حابل :: 5/ 210 نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلَامُنَا ... وَنَجْهَلَ الدَّهْرَ مَعَ الجاهل :: 1/ 345 وَمَا الْمَرْءُ مَا دَامَتْ حَشَاشَةُ نَفْسِهِ ... بِمُدْرِكِ أطراف الخطوب ولا آل : امرؤ القيس: 1/ 430- 4/ 20 بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شَعِيرَةً ... وَوَازِنِ صِدْقٍ وزنه غير عائل : الحطيئة: 1/ 488 بِمِيزَانِ صِدْقٍ لَا يَغُلُّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ من نفسه غير عائل : أبو طالب: 1/ 484 لقد أنجم القاع الكبير عضاهه ... وتم به حيا تميم ووائل : صفوان بن أسد: 5/ 158 تجاوزت أحراسا وأهوال معشر ... علي حراصا لو يسرون مقتلي :: 4/ 377 أبيض كالرجع رسوب إذا ... ما ثاخ في محتفل يختلي :: المتنخل: 5/ 510 إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ خَيْرِ عَبْسٍ مَنْصِبًا ... شَطْرِي وأحمي سائري بالمنصل : عنترة: 1/ 178 لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ ولا أرسلتهم برسول : كثير عزة: 5/ 335 كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذيول : عمر بن أبي ربيعة: 1/ 201 أممت وكنت لا أنسى حديثا ... كذاك الدهر يودي بالعقول :: 3/ 38 شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الْإِثْمُ تذهب بالعقول :: 2/ 229 من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام مجهول : كعب بن زهير: 1/ 263 منه تظل سباع الجو ضامزة ... ولا تمشّى بواديه الأراجيل : كعب بن زهير: 4/ 80 كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذا سالت الأرض بالجرد الأبابيل :: 5/ 606 أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا ... تُمَثَّلُ لِي لَيْلَى بكل سبيل : كثير بن صخر: 1/ 211 و 521 وَمَطْوِيَّةُ الْأَقْرَابِ أَمَّا نَهَارُهَا ... فَسَبَتٌ وَأَمَّا لَيْلُهَا فذميل : حيد بن ثور: 5/ 439 وَكَمْ مِنْ خَلِيلٍ أَوْ حَمِيمٍ رُزِئْتُهُ ... فَلَمْ أبتئس والرزء فيه حليل :: 2/ 564 فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَعُوا رأسي لديك وأوصالي : امرؤ القيس: 3/ 582 و 4/ 26 أَتَقْتُلُنِي مَنْ قَدْ شَغَفْتُ فُؤَادَهَا ... كَمَا شَغَفَ المهنوءة الرجل الطالي : امرؤ القيس: 3/ 25 إِذَا مَا سَلَخْتُ الشَّهْرَ أَهَلَلْتُ مِثْلَهُ ... كَفَى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي :: 2/ 384 عذافرة تقمص بالرّدافى ... تخونها نزولي وارتحالي : لبيد: 3/ 198

حرف الميم

أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبُرْتُ وَأَلَّا يشهد اللهو أمثالي : امرؤ القيس : 1/ 287 و 2/ 72 و 3/ 474 حرف الميم عَجِيبٌ لَهَا أَنْ يَكُونَ غِنَاؤُهَا ... فَصِيحًا وَلَمْ يفغر بمنطقها فما : حميد بن ثور: 4/ 150 فَإِمَّا يَنْجُوَا مِنْ خَسْفِ أَرْضٍ ... فَقَدْ لَقِيَا حتوفهما لزاما : صخر: 4/ 106 أَلَا أَصْبَحَتْ أَسْمَاءُ حِجْرًا مُحَرَّمًا ... وَأَصْبَحْتُ مِنْ أدنى حموتها حما :: 4/ 81 أَلَا قَبَّحَ اللَّهُ الْبَرَاجِمَ كُلَّهَا ... وَقَبَّحَ يَرْبُوعًا وقبح دراما :: 4/ 201 فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ ... وَمَنْ يغو لا يعدم على الغي لائما :: 5/ 126 فلما اشتد بأس الحرب فينا ... تأملنا رياحا أو رزاما :: 4/ 374 أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ... حميدا قد تذريت السناما :: 1/ 318 و 3/ 340 أُتِيحَ لَهَا أُقَيْدَرٌ ذُو خَشِيفٍ ... إِذَا سَامَتْ على الملقات ساما : الهذلي: 3/ 264 أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حراما : الكميت: 2/ 410 كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمًا ... جُودًا وَأُخْرَى تعط بالسيف الدما :: 2/ 594 حَيَّاكَ وَدُّ فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا ... لَهْوُ النساء وإن الدين قد عزما :: 5/ 360 وحتى تداعت بالنقيض حباله ... وهمت بواني زوره أن تحطما : جميل: 5/ 563 أحارث إنا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمس دم دما :: 5/ 531 هُمَا سَيِّدَانَا يَزْعُمَانِ وَإِنَّمَا ... يَسُودَانِنَا إِنْ يَسَّرَتْ غنماهما : أبو أسيدة الدبيري: 5/ 551 مَجْدًا تَلِيدًا بَنَاهُ أَوَّلُهُمْ ... أَدْرَكَ عَادًا وَقَبْلَهُ إرما : قيس بن الرقيات: 5/ 529 ولم يلبث الْعَصْرَانِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا ما تيمما : حميد بن ثور: 5/ 600 الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فِي الْ ... أَرْحَامِ مَاءً حتى يصير دما : النابغة: 5/ 248 يوم النسار ويوم الجفا ... ركانا عليكم عذابا مقيما : بشر بن أبي حازم: 5/ 189 سَلَا عَنْ تَذَكُّرِهِ تُكْتَمَا ... وَكَانَ رَهِينًا بِهَا مغرما : النّمر بن تولب: 5/ 189 ما هاج شوقك من هديل حمامة ... تدعو على فنن الغصون حماما : النابغة: 5/ 169 إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما :: 5/ 136 و 411 ألم خيال من قتيلة بعد ما ... وهي حبله من حبلنا فتصرما : الأعشى: 5/ 136 تَرَاهُ كَنَصْلِ السَّيْفِ يَهْتَزُّ لِلنَّدَى ... إِذَا لَمْ تجد عند امرئ السوء مطعما :: 4/ 594 مِنْ سَبَأَ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبُ إِذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دون سيلها العرما :: 4/ 366

وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ من ميله فتقوما :: 4/ 275 إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا ... أَقُولُ يَا اللهم يا اللهما :: 1/ 378 وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى ... وولت على الأدبار فرسان خثعما : المفضل: 1/ 210 خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وخيل تعلك اللجما : النابغة: 1/ 207 وما عليك أن تقولي كلما ... سبحت أو هللت يا اللهما :: 1/ 378 فَمَا كَانَ قَيْسٌ هَلْكُهُ هَلْكَ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بنيان قوم تهدما :: 1/ 249 إني أتمم أيساري وأمنحهم ... مشي الأيادي وأكسو الحفنة الأدما : النابغة: 1/ 252 فَأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ يَرَى ... مَسَاغًا لِنَابَاهُ الشجاع لصمما : المتلمس: 3/ 441 وَهَلْ لِي أُمٌّ غَيْرُهَا إِنْ تَرَكْتُهَا ... أَبَى الله إلا أن أكون لها ابنما :: 2/ 404 وَأَبْيَضَ ذِي تَاجٍ أَشَاطَتْ رِمَاحُنَا ... لِمُعْتَرَكٍ بَيْنَ الفوارس أقتما :: 1/ 52 وأنت التي حببت شغبا إلى بدا ... إلي وأوطاني بلاد سواهما : جميل: 3/ 68 وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الْكَرِيمِ ادِّخَارَهُ ... وَأُعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللئيم تكرما :: 1/ 191 فَأَرْسَلَتْ رِيحًا دَبُورًا عَقِيمًا ... فَدَارَتْ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ حسوما :: 5/ 335 يُفَرَّقُ بَيْنَهُمْ زَمَنٌ طَوِيلٌ ... تَتَابَعَ فِيهِ أَعْوَامًا حسوما : أبو داود: 5/ 334 رَأَيْتُ الْخَمْرَ صَالِحَةً وَفِيهَا ... خِصَالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الحليما :: 1/ 253 وَشَرُّ الْغَالِبِينَ فَلَا تَكُنْهُ ... يُقَاتِلُ عَمَّهُ الرَّوُفَ الرحيما : الوليد بن عتبة: 1/ 176 فهل لكم فيها إلي فإنني ... طبيب بما أعيا النطاسي حذيما : أوس بن أوس: 5/ 454 بِنَفْسِي مَنْ تَجَنُّبُهُ عَزِيزٌ ... عَلَيَّ وَمَنْ زِيَارَتُهُ لمام : جرير: 5/ 136 فَلَا يَنْبَسِطْ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ مَا انْزَوَى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغم : الْأَعْشَى: 2/ 532 وَوَجْهٌ نَقِيُّ اللَّوْنِ صَافٍ يُزَيِّنُهُ ... مَعَ الجيد لبات لها ومعاصم : الأعشى: 3/ 375 وَنَأْخُذَ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجِبِّ الظَّهْرِ لَيْسَ له سنام : النابغة: 4/ 618 وَأَمْطُلُهُ الْعَصْرَيْنِ حَتَّى يَمَلَّنِي ... وَيَرْضَى بِنِصْفِ الدَّيْنِ والأنف راغم :: 5/ 600 سَأَرْقُمُ بِالْمَاءِ الْقُرَاحِ إِلَيْكُمُ ... عَلَى بُعْدِكُمْ إِنْ كان للماء راقم :: 5/ 485 وَتَعْجَبُ هِنْدٌ أَنْ رَأَتْنِي شَاحِبًا ... تَقُولُ لَشَيْءٌ لوحته السمائم :: 5/ 393 لَقَدْ كَانَ فِي حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ ... تَقَضِّي لبانات ويسأم سائم : ذو الرمة: 4/ 203 نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكَ نَوْمٌ والردى لك لازم :: 3/ 39 فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي خِدَاشًا فَإِنَّهُ ... كَذُوبٌ إِذَا ما حصحص الحق ظالم :: 3/ 41 إِنَّ الَّذِينَ أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا ... نَبَذُوا كِتَابَكَ واستحل المحرم :: 1/ 138 إني امرؤ لجّ بي حب فأمرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم : العرجي: 3/ 58

أَلَا مَا لِنَفْسٍ لَا تَمُوتُ فَيَنْقَضِي ... عَنَاهَا ولا تحيا حياة لها طعم :: 5/ 516 ولقد هبطنا الواديين فواديا ... يدعو الأنيس به الوضيض الأبكم :: 5/ 348 رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم : الهذلي: 2/ 152 إِنِّي وَجَدْتُ الْأَمْرَ أَرْشَدُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَشَرُّهُ الإثم :: 2/ 229 أو كلما وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ ... بَعَثُوا إِلَيَّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ : طريف بن تميم: 3/ 166 ذُو الْعَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقْلِهِ ... وَأَخُو الجهالة في الجهالة ينعم : المتنبي: 3/ 421 ألا من لنفس تَمُوتُ فَيَنْقَضِي ... شَقَاهَا وَلَا تَحْيَا حَيَاةً لَهَا طعم :: 3/ 445 عُقِمَ النِّسَاءُ فَمَا يَلِدْنَ شَبِيهَهُ ... إِنَّ النِّسَاءَ بمثله عقم :: 4/ 624 وما ينفع الْمُسْتَأْخِرِينَ نُكُوصُهُمْ ... وَلَا ضَرَّ أَهْلَ السَّابِقَاتِ التَّقَدُّمُ :: 2/ 360 قَدِ اسْتَهْزَءُوا مِنْهُمْ بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمْ وَسْطَ الصحاصح جثم :: 1/ 52 وَأَنْتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حُزْنًا ... عَانِي الفؤاد قريح القلب مكظوم : ذو الرمة: 5/ 330 كأنه بالضحى ترمي الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم : ذو الرمة: 1/ 545 وقريش تجول منا لواذا ... لم تحافظ وخف معها الحلوم : حسان: 4/ 68 وَقَدْ أَبِيتُ مِنَ الْفَتَاةِ بِمَنْزِلٍ ... فَأَبِيتُ لَا حرج ولا محروم :: 3/ 406 قُلْ لِلْحَسُودِ إِذَا تَنَفَّسَ طَعْنَةً ... يَا ظَالِمًا وكأنه مظلوم :: 5/ 640 ومُطْعَمُ الغُنْمِ يَومَ الغُنْمِ مُطْعَمُهُ ... أَنَّى تَوَجَّه والمحروم محروم :: 2/ 353 وَفِيهَا لَحْمُ سَاهِرَةٍ وَبَحْرٌ ... وَمَا فَاهُوا بِهِ لهم مقيم : أمية بن أبي الصلت: 5/ 453 إِلَى اللَّهِ أَشْكُو فَقْدَ لَيْلَى كَمَا شَكَا ... إلى الله فقد الوالدين يتيم : قيس بن الملوح: 5/ 541 وإني لأختار القوى طاوي الحشى ... محافظة من أن يقال لئيم : حاتم الطائي: 5/ 191 وَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ ... كلا طرفي الأمور ذميم :: 1/ 623 وَكَانَ طَوَى كَشْحًا عَلَى مُسْتَكِنَّةٍ ... فَلَا هُوَ أبداها ولم يتقدم : زهير: 5/ 541 أثافي سفعا في معرس مرجل ... ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم : زهير بن أبي سلمى: 5/ 573 ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولا زبنته الحرب لم يترمرم :: 5/ 573 لَوْ قُلْتَ مَا فِي قَوْمِهَا لَمْ أَيْثَمِ ... يفضلها في حسب معيثم :: 1/ 548 أَلَا يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلِمِي ثمَّتَ اسْلِمِي ... ثَلَاثَ تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تكلم :: 4/ 454 و 5/ 620 هَلَّا سَأَلْتِ الْخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ ... إِنْ كنت جاهلة بما لم تعلم : امرؤ القيس: 4/ 98 وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وَإِنَّ خالها تخفى على الناس تعلم : زهير: 2/ 455

ومن يجعل المروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتقي الشتم يشتم : زهير: 3/ 287 في كُلِّ أَسْوَاقِ الْعِرَاقِ إِتَاوَةٌ ... وَفِي كُلِّ مَا باع امرؤ مكس درهم : زهير: 2/ 255 زل بنو العوام عند آلِ الْحَكَمْ ... وَتَرَكُوا الْمُلْكَ لِمُلْكٍ ذِي قَدَمْ : العجاج: 2/ 481 حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بعد أم الهيثم :: 1/ 101 قد كنت أحسبني كأغنى واجد ... نزل المدينة عن زراعة فوم :: 1/ 108 ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي ... محارمنا لا يبوء الدم بالدم :: 1/ 109 عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارِ كَأَنَّمَا ... خَضَبَ الْبَنَانَ ورأسه بالعظلم :: 3/ 18 أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَأْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أني ابن فارس زهدم : مالك بن عوف: 3/ 100 وَفِيهِنَّ مَلْهًى لِلصَّدِيقِ وَمَنْظَرٌ ... أَنِيقٌ لِعَيْنِ النَّاظِرِ المتوسم : زهير: 3/ 166 و 473 وهتكت بالرمح الطويل إهانة ... فخر صريعا لليدين وللفم : ربيعة بن مكدم: 3/ 250 كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ كَمَا ... كَانَ الزِّنَاءُ فريضة الرجم :: 3/ 265 يَدْعُونَ عَنْتَرَ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّهَا ... أَشْطَانُ بِئْرٍ فِي لبان الأدهم : عنترة: 3/ 521 ورب أسراب حجيج كظم ... عن اللغاء ورفث التكلم :: 1/ 231 و 264 سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلًا لا أبا لك يسأم : زُهَيْرٌ: 1/ 347 وَكَائِنْ تَرَى مِنْ مُعْجِبٍ لَكَ شَخْصُهُ ... زيادته أو نقصه في التكلم : زهير: 1/ 442 هم وسط يرضى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعَظَّمِ : زهير: 1/ 174 لَقَدْ نَحَبَتْ كَلْبٌ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ ... أَحَقُّ بتاج المجد المتكرم :: 4/ 313 سَرَدَ الدُّرُوعَ مُضَاعِفًا أَسْرَادَهُ ... لِيَنَالَ طُولَ الْعَيْشِ غير مردم : لبيد: 4/ 362 زَجْرَ أَبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إِذَا ... أَشْفَقَ أَنْ يختلطن بالغنم :: 4/ 443 الْعَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ ... وَالْمُطْعِمُونَ زَمَانَ ما من مطعم : أبي وجرة السعدي: 4/ 482 فَلَتَعْرِفُنَّ خَلَائِقًا مَشْمُولَةً ... وَلَتَنْدَمُنَّ وَلَاتَ سَاعَةِ مَنْدَمِ :: 4/ 482 وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ رَامَ أسباب السماء بسلّم : زهير: 4/ 564 لَا عَيْبَ فِيهِمْ سِوَى أَنَّ النَّزِيلَ بِهِمْ ... يسلو عن الأهل والأوطان والحشم :: 5/ 500 يرتدن ساهرة كأن جميعها ... وعميمها أسداف ليل مظلم : أبي كبير الهذلي: 5/ 453 فلما وردنا الْمَاءَ زُرْقًا حَمَامَهُ ... وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحَاضِرِ الْمُتَخَيِّمِ : زُهَيْرٍ: 3/ 406- 4/ 191 بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرْنَ بِسَحْرَةٍ ... فَهُنَّ لِوَادِي الرس كاليد للفم : زهير: 4/ 89 إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ في المزدحم :: 1/ 101 و 3/ 77 و 170 و 4/ 350

هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم : عَنْتَرَةُ: 3/ 369 كَوَحْيِ صَحَائِفَ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى ... فَأَهْدَاهَا لأعجم طمطمي : عنترة: 3/ 383 تَيَمَّمَتِ الْعَيْنُ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجِ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظل عرمضها طامي :: 1/ 544 ثلاث واثنان فهن خمس ... وسادسة تميل إلى شمامي :: 1/ 227 يتقارضون إِذَا الْتَقَوْا فِي مَجْلِسٍ ... نَظَرًا يُزِيلُ مَوَاطِئَ الأقدام :: 5/ 331 يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتَطَارِ النَّقْعِ دَامِيَةً ... كَأَنَّ أَذْنَابَهَا أطراف أقلام :: 5/ 588 لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلَانَ فِي السُّرَى ... ونمت وما ليل المطي بنائم :: 5/ 528 وبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفضل أغلاق الختام : الفرزدق: 5/ 488 وقعن إِلَيَّ لَمْ يُطْمَثْنَ قَبْلِي ... وَهُنَّ أَصَحُّ مِنْ بيض النعام : الفرزدق: 5/ 170 وَلَا نَقْتُلُ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ ... إِذَا أَثْقَلَ الأعناق حمل المغارم :: 5/ 37 ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فريش الخوافي قوة للقوادم : بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ: 4/ 619 إِذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فاستعن ... برأي لبيب أو نصيحة حازم : بشار بن برد: 4/ 619 عَطَسَتْ بِأَنْفٍ شَامِخٍ وَتَنَاوَلَتْ ... يَدَايَ الثُّرَيَّا قَاعِدًا غير قائم :: 4/ 545 مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيَهَا مَرُّ الرياح النواسم : ذو الرمة: 1/ 345 أهش بالعصا على أغنامي ... من ناعم الأراك والبشام :: 3/ 427 كِلَا الصَّدَفَيْنِ يَنْفِدُهُ سِنَاهَا ... تُوقِدُ مِثْلَ مِصْبَاحِ الظلام :: 3/ 369 مِنْ بَيْنِ مَأْسُورٍ يَشُدُّ صَفَادَهُ ... صَقْرٍ إِذَا لاقى الكريهة حام : حسان بن ثابت: 3/ 142 تُحَيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمَّ بَكْرٍ ... وَهَلْ لَكِ بَعْدَ قومك من سلام :: 2/ 498 لَعَمْرُكَ أَنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ ... كَإِلِّ السَّقْبِ من رأل النعام : حسان: 2/ 387 هَلْ أَنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَأَنْ ... نَرَى الْعَرَصَاتِ أو أثر الخيام : جرير: 2/ 173 فَلَئِنْ جَذِيمَةُ قُتِلَتْ سَادَاتُهَا ... فَنِسَاؤُهَا يَضْرِبْنَ بِالْأَزْلَامِ :: 2/ 13 فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبِيعُ النَّاسِ والشهر الحرام : النابغة: 4/ 618 إِنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ ... ضَيْمِي وَقَدْ جنفت علي خصومي : لبيد: 1/ 205 وَمَوْلًى كَبَيْتِ النَّمْلِ لَا خَيْرَ عِنْدَهُ ... لِمَوْلَاهُ إلا سعيه بنميم :: 5/ 320 تظل في يَوْمَكَ فِي لَهْوٍ وَفِي طَرَبٍ ... وَأَنْتَ بِاللَّيْلِ شراب الخراطيم :: 5/ 321 تَطَاوَلَ لَيْلُكَ الْجَوْنُ الصَّرِيمُ ... فَمَا يَنْجَابُ عَنْ صبح بهيم :: 5/ 324 ترى جيف المطي بجانبه ... كأن عظامها خشب الهشيم :: 5/ 153 ألا هل أتى اليتم بن عبد مناءة ... على الشنء فيما بيننا ابن تميم : الحارثي: 5/ 130 أَقُولُ لِأُمِّ زِنْبَاعَ أَقِيمِي ... صُدُورَ الْعِيسِ شَطْرَ بني تميم :: 1/ 178

حرف النون

أثرن عجاجة كدخان نار ... تشب بفرقد بال هشيم :: 5/ 153 تزوّد منا بين أذناه ضربة ... دعته إلى هابي التراب عقيم : هوبر الحارثي: 3/ 441 أَطُوفُ فِي الْأَبَاطِحِ كُلَّ يَوْمٍ ... مَخَافَةَ أَنْ يشرد بي حكيم :: 2/ 365 حرف النون وإن يستضافوا إلى حكمه ... يضافوا إلى راجح قد عدن : الأعشى: 5/ 581 وَمِنْ كَاشِحٍ ظَاهِرُ غَمْرِهِ ... إِذَا مَا انْتَصَبْتُ له أنكرن :: 5/ 534 مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الْخَلِيفَةِ إلا دار مروانا :: 1/ 182 إن أجزأت مرة يوما فلا عجب ... قد تجزئ المذكار أحيانا :: 4/ 629 كأنه أسفع الخدين ذو جدد ... طاو ويرتع بعد الصيف عريانا : زهير: 4/ 398 ولقد سلقنا هوازنا ... بنواهل حتى انحنينا :: 4/ 311 عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إِذْ تَشْكُونَا ... وَمِنْ أَبِي دهماء إذ يوصينا :: 4/ 223 وَأَنْقَضَ ظَهْرِي مَا تَطَوَّيْتُ مِنْهُمْ ... وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ مشفقا متحننا : العباس بن مرداس: 5/ 563 منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وخير الكلام ما كان لحنا : الفزاري: 5/ 48 وَكُنَّا قَرِيبًا وَالدِّيَارُ بَعِيدَةٌ ... فَلَمَّا وَصَلْنَا نُصْبَ أعينهم غبنا :: 4/ 609 فرد بنعمته كيده ... عليه وكان لنا فاتنا :: 4/ 476 فلما تبين أصواتنا ... بكين وفديننا بالأبينا :: 1/ 169 كُلُّ امْرِئٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَنًا ... أَوْ سيئا ومدينا مثل ما دانا : أمية: 1/ 300 ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ ... يَقْطَعُ اللَّيْلَ تسبيحا وقرآنا : 1/ 210 ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ ... هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تقرا جنينا : عمرو بن كلثوم: 1/ 270 دعوت عشيرتي للسلم لما ... رأيتهم تولوا مدبرينا : الكندي: 1/ 242 تَرَكْنَا الْخَيْلَ عَاكِفَةً عَلَيْهِ ... مُقَلَّدَةً أَعِنَّتُهَا صُفُونَا : عمرو بن كلثوم: 3/ 537- 4/ 494 مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا ... لَا تَنْشُرُوا بيننا ما كان مدفونا : الفضل بن العباس:: 3/ 380 فحبسنا ديارهم عنوة ... وأبنا بساداتهم موثقينا :: 3/ 249 فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا : عمرو بن كلثوم: 3/ 142- 4/ 498 أُحِبُّهَا وَالَّذِي أَرْسَى قَوَاعِدَهُ ... حَتَّى إِذَا ظَهَرَتْ آياته بطنا : جميل: 3/ 78

أبلغ أمير المؤمني ... ن أخا العراق إذا أتينا :: 3/ 21 تَرَى الْأَبْدَانَ فِيهَا مُسْبَغَاتٍ ... عَلَى الْأَبْطَالِ وَالْيَلَبَ الحصينا : كعب بن مالك: 2/ 534 إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الْأَسْ ... وَدَ مَا لم يعاص كان جنونا : حسان: 1/ 93- 2/ 407 إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ ... كَلَاكِلَهُ أناخ بآخرينا :: 2/ 283 فقددت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذبا ومينا : عدي بن زيد: 1/ 527 آمِينْ آمِينْ لَا أَرْضَى بِوَاحِدَةٍ ... حَتَّى أُبَلِّغَهَا ألفين آمينا :: 1/ 31 يَا رَبُّ لَا تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدًا ... وَيَرْحَمُ الله عبدا قال آمينا :: 1/ 31 إذا ما علا المرء رام العلاء ... ويقنع بالدون من كان دونا :: 1/ 62 إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظنونا : خزيمة بن مالك: 4/ 172 تَرَانَا عِنْدَهُ وَاللَّيْلُ دَاجٍ ... عَلَى أَبْوَابِهِ حِلَقًا عزينا :: 5/ 351 أَخَلِيفَةُ الرَّحْمَنِ إِنَّ عَشِيرَتِي ... أَمْسَى سُرَاتُهُمْ إِلَيْكَ عزينا : الراعي: 5/ 351 صَدَدْتِ الْكَأْسَ عَنَّا أُمَّ عَمْرٍو ... وَكَانَ الْكَأْسُ مَجْرَاهَا الْيَمِينَا :: 5/ 418 مُعَتَّقَةً كَأَنَّ الحُصَّ فِيهَا ... إِذَا ما الماء خالطها سخينا :: 5/ 418 أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا ... وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ اليقينا : عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: 1/ 145- 5/ 204 وَنَحْنُ إِذَا عِمَادُ الْحَيِّ خرت ... على الأحفاض نمنع من يلينا : عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: 5/ 529 كَأَنَّ سُيُوفَنَا فِينَا وَفِيهِمْ ... مخاريق بأيدي لاعبينا : عمرو بن كلثوم: 5/ 417 وَرُفْقَةٌ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ... ضَرْبًا تَوَاصَتْ بِهِ الأبطال سجينا : ابن مقبل: 5/ 484 هلا سألت جموع كندة ... يوم ولوا أين أينا :: 5/ 620 وَقَارِعَةٌ مِنَ الْأَيَّامِ لَوْلَا ... سَبِيلُهُمْ لَرَاحَتْ عَنْكَ حينا : ابن أحمر: 5/ 593 إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ والعيونا :: 5/ 180 فما أن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا : فروة بن مسيك المرادي: 5/ 28 لئن كنت ألبستني غشوة ... لقد كنت أصفيتك الود حينا :: 5/ 11 ركبتم صعبتي أشرا وحيفا ... ولستم للصعاب بمقرنينا : عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: 4/ 628 لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا : عمرو بن معدي كرب: 4/ 628 تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لَاتَ حِينًا ... وَأَمْسَى الشَّيْبُ قد قطع القرينا :: 4/ 482

لِسَانَ الشَّرِّ تُهْدِيهَا إِلَيْنَا ... وَخُنْتَ وَمَا حَسِبْتُكَ أن تخونا :: 3/ 233 أَضْحَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نَطِيفُ بِهَا ... وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ الله ذكرانا : قيس بن عاصم: 3/ 72 وَكَيْفَ أُرَجَّى الْخُلْدَ وَالْمَوْتُ طَالِبِي ... وَمَا لِي من كأس المنية فرقان :: 2/ 346 ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم بيض المسافر غران : امرؤ القيس: 5/ 389 فَسَبِّخْ عَلَيْكَ الْهَمَّ وَاعْلَمْ بِأَنَّهُ ... إِذَا قَدَّرَ الرحمن شيئا فكائن :: 5/ 380 ولما صرح الشر ... فأمسى وهو عريان :: 5/ 568 هَلْ لِلْعَوَاذِلِ مِنْ نَاهٍ فَيَزْجُرُهَا ... إِنَّ الْعَوَاذِلَ فيها الأين والوهن : قعنب: 4/ 274 أركسوا في فتنة مظلمة ... كسواد الليل يتلوها فتن : عبد الله بن رواحة: 1/ 572 قَتَلْنَا الْمُدْحَضِينَ بِكُلِّ فَجٍّ ... فَقَدْ قَرَّتْ بِقَتْلِهِمُ العيون :: 4/ 471 ليت شعري مسافر بن أبي عم ... رو وليت يقولها المخرون : عمرو بن أمية: 4/ 39 إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَإِنَّمَا ... يَقُولُ له كن قوله فيكون :: 1/ 156 إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنَمَهَا ... فَعُقْبَى كُلِّ خَافِقَةٍ سكون :: 2/ 360 وَإِنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا مَا ... وَصَلْتُ بنانها بالهندواني : عنترة: 1/ 204 و 2/ 333 و 5/ 404 وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الفرقدان :: 3/ 475 و 4/ 218 لَنَا قُبَّةٌ مَضْرُوبَةٌ بِفِنَائِهَا ... عِتَاقُ الْمَهَارِي وَالْجِيَادُ الصوافن : النابغة: 4/ 494 صَاحَ الزَّمَانُ بِآلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً ... خَرُّوا لِشِدَّتِهَا على الأذقان :: 3/ 572- 4/ 486 علام قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي دَمَانِ :: 4/ 420 و 5/ 437 فَسُطْهَا ذَمِيمَ الرَّأْيِ غَيْرَ مُوَفَّقٍ ... فَلَسْتَ عَلَى تسويطها بمعان :: 5/ 531 أَخْزَى الْإِلَهُ بَنِي الصَّلِيبِ عُنَيْزَةً ... وَاللَّابِسِينَ مَلَابِسَ الرهبان :: 1/ 471 ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز الكثبان :: 5/ 180 وَتُخْضَبُ لِحْيَةٌ غَدَرَتْ وَخَانَتْ ... بِأَحْمَرَ مِنْ نَجِيعِ الجوف آن : النابغة : 5/ 166 مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عند الله مثلان :: 1/ 205 و 4/ 617 فَدَمْعُهُمَا وَدَقٌّ وَسَحٌّ وَدَيْمَةٌ ... وَسَكَبٌ وَتَوْكَافٌ وَتَنْهَمِلَانِ : امرؤ القيس: 4/ 49 ويمنحها بنو شمجى بن جرم ... معيزهم حنانك ذا الحنان : امرؤ القيس: 3/ 385 عَجِبْتُ لِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَذِي وَلَدٍ لم يلده أبوان :: 4/ 54 وفتيان صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ بِسُحْرَةٍ ... فَقَامُوا جَمِيعًا بَيْنَ عاث ونشوان : امرؤ القيس: 1/ 103 تراجمنا بمر القول حتى ... تصير كأننا فرسا رهان : الجعدي: 2/ 590

وَمَضَى نِسَاؤُهُمُ بِكُلِّ مَفَاضَةٍ ... جَدْلَاءَ سَابِغَةٍ وَبِالْأَبْدَانِ : عمرو بن معدي كرب: 2/ 534 فليت لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً بَاتَتْ على طهيان :: 2/ 413 وكان فتى الْهَيْجَاءِ يَحْمِي ذِمَارَهَا ... وَيَضْرِبُ عِنْدَ الْكَرْبِ كُلَّ بنان : عنترة: 2/ 333 لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ... بِسَبْعٍ رمين الجمر أم بثمان :: 2/ 153 لَقَدْ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْجَمْعَيْنِ ... نَطْحًا شَدِيدًا لَا كنطح الصورين :: 2/ 149 قَالُوا اتَّبَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ وَاطَّرَحُوا ... قَوْلَ الرَّسُولِ وعالوا في الموازين :: 1/ 484 وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ... حتى تقيم الخيل سوق طعان :: 1/ 42 فَإِنْ أَكُ كَاظِمًا لِمُصَابِ نَاسٍ ... فَإِنِّي الْيَوْمَ منطلق لساني :: 3/ 58 فَمَا أَوْهَى مِرَاسُ الْحَرْبِ رُكْنِي ... وَلَكِنْ مَا تقادم من زماني : عَنْتَرَةُ: 5/ 108 وَمَكْرُوبٌ كَشَفْتُ الْكَرْبَ عَنْهُ ... بِطَعْنَةِ فَيْصَلٍ لما دعاني : عنترة: 2/ 143 رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطويّ رماني :: 2/ 407 و 4/ 9 يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ مُتَعَوِّذًا ... لِيُصْحَبَ مِنَّا وَالرِّمَاحُ دواني :: 3/ 483 لَا تَأْمَنَنَّ وَإِنْ أَمْسَيْتَ فِي حَرَمٍ ... حَتَّى تلاقي ما يمني لك الماني : أبو قلابة الهذلي: 1/ 123 و 5/ 140 دِنَّا تَمِيمًا كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا ... دَانَتْ أَوَائِلَهُمْ من سالف الزمن :: 5/ 568 يَا مَسَدَ الْخُوصِ تَعُوذُ مِنِّي ... إِنْ كُنْتَ لدنا لينا فإني :: 5/ 629 تَرَاهُمْ إِلَى الدَّاعِي سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ ... أَبَابِيلُ طَيْرٍ تحت دج مسخن :: 5/ 606 قَدْ أَتْرُكُ الْقَرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ... يَمِيدُ فِي الرمح ميد الماتح الأسن : زهير: 5/ 41 صَرِيفِيَّةٌ طَيِّبٌ طَعْمُهَا ... لَهَا زَبَدٌ بَيْنَ كُوبٍ ودن : الأعشى: 4/ 645 إن كنت حاولت ذنبا أو ظفرت به ... فما أصبت بترك الحج من ثمن :: 1/ 88 ألا أبلغ بني عمرو رسولا ... فإني عن فتاحتكم غني :: 4/ 111 لما لبسن الحق بالتجني ... غنين فاستبدلن زيدا مني : العجّاج: 1/ 88 إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فَإِنِّي لَسْتُ منك ولست مني :: 1/ 304 دُعَاءَ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلًا ... مُفَجَّعَةً عَلَى فَنَنٍ تغني : النابغة: 5/ 168 إِذَا مَا رَايَةٌ نُصِبَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ باليمين : الشماخ: 1/ 483 و 4/ 544 و 5/ 342 إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... على الصديق ولا خيري بممنون : الأصبغ الأودي: 4/ 580 وَلَمَّا رَأَيْتُ الشَّمْسَ أَشْرَقَ نُورُهَا ... تَنَاوَلْتُ مِنْهَا حاجتي بيمين :: 4/ 545 و 5/ 342 وَهِيَ بَيْضَاءُ مِثْلُ لُؤْلُؤَةِ الْغَوَّا ... صِ مُيِّزَتْ من جوهر مكنون :: 4/ 453

حرف الهاء

نحن نطحناهم غداة الغورين ... بالضابحات في غبار النقعين :: 4/ 429 يَا نَفْسُ لَا تَمْحَضِي بِالنُّصْحِ جَاهِدَةً ... عَلَى المودة إلا آل ياسين : السعد الحميدي: 4/ 412 إذا ما أوقدوا حطبا ونارا ... فذاك الموت نقدا غير دين :: 1/ 344 وَعَدَتْنَا بِدِرْهَمَيْنَا طِلَاءً ... وَشِوَاءً مُعَجَّلًا غَيْرَ دَيْنِ :: 1/ 344 ذغرت بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللعين : الشماخ: 1/ 130 يَا عَاذِلَاتِي لَا تَزِدْنَ مَلَامَتِي ... إِنَّ الْعَوَاذِلَ ليس لي بأمين :: 4/ 104 وقرن وقد تركت لدى ولي ... عليه الطير كالعصب العزين : عنترة: 5/ 351 ومن ذهب يلوح عَلَى تَرِيبٍ ... كَلَوْنِ الْعَاجِ لَيْسَ بِذِي غُضُونِ : المثقب العبدي: 5/ 509 فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الْأَدِيِمِ غَضَنْفَرًا ... سُلَالَةَ فَرْجٍ كان غير حصين : حسان: 3/ 564 ثم خاصرتها إلى القبة الحم ... راء تمشي في مرمر مسنون : عبد الرحمن بن حسان: 3/ 156 إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهَ آهَةَ الرجل الحزين :: 2/ 468 وَمَاذَا تَزْدَرِي الْأَقْوَامُ مِنِّي ... وَقَدْ جَاوَزْتُ حَدَّ الأربعين :: 2/ 270 لي ابن عم أن الناس في كبد ... لظل محتجرا بالنبل يرميني : أبو الأصبغ: 5/ 539 قد كنت قبل اليوم تزوريني ... فاليوم أبلوك وتبتليني :: 5/ 510 أَنَا ابْنُ جَلَا وَطُلَّاعِ الثَّنَايَا ... مَتَى أَضَعُ العمامة تعرفوني : الحجاج: 2/ 270 رَأَوْا عَرْشِي تَثَلَّمَ جَانِبَاهُ ... فَلَمَّا أَنْ تَثَلَّمَ أفردوني :: 2/ 241 و 5/ 502 وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثَمَّ قلت لا يعنيني :: 5/ 268 حرف الهاء رأيت اليزيد بن الوليد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله :: 2/ 156 قالت قتيلة ماله ... قد جللت شيبا شواته : الأعشى: 5/ 485 الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا منه فلا أحله :: 2/ 229 تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَاءِ فَإِنَّنِي ... أَرَى كُلَّ عَيْبٍ والسّخاء غطاؤه :: 2/ 225 لَا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ ... تَرْكَعَ يَوْمًا والدهر قد رفعه :: 1/ 91 لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ ... وَالصُّبْحُ وَالْمَسَاءُ لا فلاح معه :: 1/ 93 قصرت عَلَى لَيْلَةٍ سَاهِرَهْ ... فَلَيْسَتْ بِطَلْقٍ وَلَا سَاكِرَهْ : أوس بن حجر: 3/ 148

وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هامة : يزيد بن مفرغ الحميري: 1/ 240 و 3/ 16 قَدْ هَزِئَتْ مِنِّي أُمُّ طَيْسَلَهْ ... قَالَتْ أَرَاهُ معدما لا مال له :: 1/ 52 فظلنا بنعمة واتكأنا ... وشربنا الحلال من قلله : جميل بن معمر: 3/ 26 وقفت على ربع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه : ذو الرمة: 3/ 59 فإني وإياكم وشوقا إليكم ... كقابض شيئا لم تنله أنامله : ضابئ بن الحارث البرجمي: 5/ 494 إِذَا الْمَرْءُ قَالَ الْجَهْلَ وَالْحَوْبَ وَالْخَنَا ... تَقَدَّمَ يوما ثم ضاعت مآربه : طرفة: 4/ 29 ولكن ديافي أبوه وأمه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه : الفرزدق: 3/ 470 هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... تَرَكْتُ عَلَى عثمان تبكى حلائله : عمير بن ضابئ: 3/ 425 ضربا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خليله : عبد الله بن رواحة: 3/ 514 ويوما شهدناه سليما وعامرا ... قليل سوى الطعن النهال نوافله :: 2/ 38 لَا يَكُنْ بَرْقُكَ بَرْقًا خُلَّبًا ... إِنَّ خَيْرَ البرق ما الغيث معه : ابن بحر: 4/ 254 وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... مَشَيْنَا إِلَيْهِ بالسيوف نعاتبه :: 4/ 275 كَأَنَّ مَثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤُوسِنَا ... وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تهاوى كواكبه :: 5/ 588 قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذَا مِرَّةٍ ... عِنْدِي لِكُلِّ مخاصم ميزانه :: 3/ 152 و 5/ 127 و 594 يَا عَمْرُو لَوْ نَالَتْكَ أَرْمَاحُنَا ... كُنْتَ كَمَنْ تهوي به الهاوية :: 5/ 595 آلَيْتُ لَا أَنْسَاكُمُ فَاعْلَمُوا ... حَتَّى يُرَدَّ النَّاسُ في الحافرة :: 5/ 452 صبحنا تميما غداة الجفار ... بشهباء ملمومة بأسره : بشر بن أبي خازم: 5/ 392 أبى لي قبر لا يزال مقابل ... وضربة فأس فوق رأسي فاقرة : النابغة: 5/ 408 عَلَى أَنَّنِي رَاضٍ بِأَنْ أَحْمِلَ الْهَوَى ... وَأَخْرُجَ منه لا عليّ ولا ليه :: 5/ 552 سَلْ أَمِيرِي مَا الَّذِي غَيَّرَهُ ... عَنْ وِصَالِي اليوم حتى ودعه :: 5/ 557 يا بنت كوني خيرة لخيره ... أخوالها الجن وأهل القسورة :: 5/ 400 نحن إلى جبال مكة ناقتي ... ومن دونها أبواب صنعاء موصدة :: 5/ 542 الريح تبكي شجوها ... والبرق يلمع في الغمامة :: 1/ 362 عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامة : عبيد بن الأبرص: 5/ 32 تدلي بودي إِذَا لَاقَيْتَنِي كَذِبًا ... وَإِنْ أُغَيَّبْ فَأَنْتَ الْهَامِزُ اللمزة : زياد الأعجم: 5/ 602 إِذَا لَقِيتُكَ عَنْ سُخْطٍ تُكَاشِرُنِي ... وَإِنْ تَغَيَّبْتُ كنت الهامز اللمزة :: 5/ 602

يَا عَلْقَمَةُ يَا عَلْقَمَةُ يَا عَلْقَمَةُ ... خَيْرُ تميم كلها وأكرمه :: 5/ 620 أَقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... يَحْرِدُ حرد الجنة المغلة :: 5/ 325 فَبِتْنَا قِيَامًا عِنْدَ رَأْسِ جَوَادِنَا ... يُزَاوِلُنَا عَنْ نفسه ونزاوله : امرؤ القيس: 4/ 100 وَلَا يَزَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنِ الْهَوَى ... مِنَ الناس إلا وافر العقل كامله :: 4/ 150 فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبي مزادة :: 2/ 189 فلا مزقة ورقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها :: 2/ 244 و 5/ 190 لما رأت ساتيد ما استعبرت ... لله در اليوم من لامها : عمرو بن قميئة: 2/ 188 يَا قَاتَلَ اللَّهُ لَيْلَى كَيْفَ تُعْجِبُنِي ... وَأُخْبِرُ الناس أني لا أباليها : الأصمعي: 2/ 403 أَوْرَدْتُمُوهَا حِيَاضَ الْمَوْتِ ضَاحِيَةً ... فَالنَّارُ مَوْعِدُهَا وَالْمَوْتُ لاقيها : حسان: 2/ 555 وَقَاسَمَهُمَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمَا ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذا ما نشورها : الهذلي: 1/ 103 و 2/ 222 إِنَّ عَلَيَّ عَقَبَةً أَقْضِيهَا ... لَسْتُ بِنَاسِيهَا وَلَا منسيها :: 1/ 148 تَمِيمُ بْنُ زَيْدٍ لَا تَكُونَنَّ حَاجَتِي ... بِظَهْرٍ فَلَا يَعْيَا عَلَيَّ جوابها : الفرزدق: 1/ 139 فَإِنَّ الصَّبَا رِيحٌ إِذَا مَا تَنَفَّسَتْ ... عَلَى نفس مهموم تجلت همومها :: 3/ 64 لَا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ ... وَلَا الصباية إلا من يعانيها :: 3/ 64 تهين النفوس وهو من النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها : الخنساء: 3/ 204 وَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعِمْتُهَا ... وَسِيقَ إِلَيْنَا عذبها وعذابها :: 3/ 238 وعمرة من سروات النساء ... تنفح بالمسك أردانها : قيس بن الخطيم: 3/ 484 وَأَغُضُّ طَرَفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا : عنترة: 3/ 138- 4/ 26 إِذَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَرْوِ لَيْلَةً ... فقد سار منها نورها وجمالها :: 4/ 38 وَتُضِيءُ فِي وَجْهِ النَّهَارِ مُنِيرَةً ... كَجُمَانَةِ الْبَحْرِيِّ سل نظامها :: 1/ 402 عَصَيْتُ إِلَيْهَا الْقَلْبَ إِنِّي لِأَمْرِهَا ... مُطِيعٌ فَمَا أدري أرشد طلابها : أبو ذؤيب: 1/ 428 تراهن يلبسن المشاعر مرة ... وإستبرق الديباج طورا لباسها :: 3/ 336 تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَرْتَبِطْ بعض النفوس حمامها : لبيد: 1/ 393- 4/ 561 لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب لا يمن طعامها :: 4/ 580 تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْمًا أو يموت حليلها :: 1/ 267- 5/ 119 وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتِي ... إِنَّ الْمَنَايَا لَا تطيش سهامها :: 5/ 274 أميطي تميطي بصلب الفؤاد ... وصول حبال وكنادها : الأعشى: 5/ 589

فَضْلًا وَذُو كَرَمٍ يُعِينُ عَلَى النَّدَى ... سَمْحٌ كسوب رغائب غنامها : لبيد: 5/ 417 وجزور أستار دعوت لحتفها ... بمغالق متشابه أعلاقها : لبيد: 5/ 417 هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها : الخنساء : 5/ 411 وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ ... وَدُورُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نبنيها :: 4/ 114 أَلَا مَنْ مُبَلِّغٌ عَنِّي خُفَافًا ... رَسُولًا بَيْتُ أهلك منتهاها : العباس بن مرداس: 4/ 112 مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً يَمُتْ هَرِمًا ... الْمَوْتُ كأس والمرء ذائقها : أمية بن أبي الصلت: 1/ 467 تميم بن قيس لَا تَكُونَنَّ حَاجَتِي ... بِظَهْرٍ فَلَا يَعْيَا عَلِيَّ جوابها : الفرزدق: 4/ 97 فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلَا أَرْضَ أَبَقَلَ إبقالها :: 4/ 48 أَكُرُّ عَلَى الْكَتِيبَةِ لَسْتُ أَدْرِي ... أَحَتْفِي كَانَ فيها أم سواها :: 1/ 480 تمر على ما تستمر وقد شفت ... غلائل عبد القيس منها صدورها :: 2/ 188 وَصَحَابَةٍ شُمِّ الْأُنُوفِ بَعَثْتُهُمْ ... لَيْلًا وَقَدْ مَالَ الكرى بطلاها : عنترة: 1/ 104 غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفى قريش المعضلات وسادها :: 2/ 575 و 5/ 609 هَلِ الدَّهْرُ إِلَّا لَيْلَةٌ وَنَهَارُهَا ... وَإِلَّا طُلُوعُ الشمس ثم غيارها : أبو ذؤيب: 3/ 341 إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا ... قَدْ بَلَغَا فِي المجد غايتاها : أبو النجم: 3/ 441 وَكَمْ دُونَ بَيْتِكَ مِنْ صَفْصَفٍ ... وَدَكْدَاكِ رَمْلٍ وأعقادها : الأعشى: 3/ 456 إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهُ يَكْلَؤُهَا ... ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كان يرزؤها : ابن هرمة: 3/ 482 علفتها تبنا وماء باردا ... حتى شتت همالة عيناها :: 3/ 525 فَأَدْنَتْ لِي الْأَسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُهَا ... بِنَهْضِي وَقَدْ كان اجتماعي يصورها :: 1/ 324 فلن يطلبوا سرها للغنى ... ولن يسلموها لإزهادها : الأعشى: 1/ 287 فلا تجزعن من سنة أنت سيرتها ... فأول راض سنة من يسيرها : الهذلي: 1/ 439 وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أو عليها فجورها :: 1/ 57 مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ ... وَلِكُلِّ قَوْمٍ سنة وإمامها : لبيد: 1/ 439 وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي ... كَسَاعٍ إِلَى أسد الشرى يستميلها :: 1/ 80 أو كلما قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً ... أَصْمُوا فَقَالُوا ابْنُ الْأُبَيْرِقِ قالها :: 1/ 590 وَكُلُّ قَوْمٍ أَطَاعُوا أَمْرَ سَيِّدِهِمْ ... إِلَّا نُمَيْرًا أطاعت أمر غاويها :: 1/ 619 أما ابن طوق فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ ... كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حاديها :: 2/ 6 في سنة قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عراقها :: 5/ 328 وَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا صُدُودٌ رَأَيْتُهُ ... وَإِعْرَاضُهَا عَنْ حاجتي وبسورها :: 4/ 150

حرف الواو

وَكَأْسٌ شُرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بها :: 5/ 417 مَطَاعِيمُ فِي الْقُصْوَى مُطَاعِينَ فِي الْوَغَى ... زَبَانِيَةٌ غلب عظام حلومها :: 5/ 573 وَلَا عَيْبَ فِيهَا غَيْرَ شِكْلَةِ عَيْنِهَا ... كَذَاكَ عتاق الطير شكل عيونها :: 5/ 500 ويهماء بالليل غطشى الفلا ... هـ يؤنسني صوت فيادها : الأعشى: 5/ 457 نَحْنُ صَبَحْنَا عَامِرًا فِي دَارِهَا ... جُرْدًا تَعَادَى طرفي نهارها :: 5/ 460 يُقَالُ بِهِ دَاءُ الْهُيَامِ أَصَابَهُ ... وَقَدْ عَلِمَتْ نفسي مكان شفائها : قيس بن الملوح: 5/ 186 كأنما يسقط من لغامها ... بيت عنكباة على زمامها :: 4/ 235 ومهمة أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى بالجائرين العمّه :: 4/ 145 هَذَا جَنَايَ وَخَيَارُهُ فِيهِ ... إِذْ كَلُّ جَانٍ يده إلى فيه : عمرو بن عدي اللخمي: 5/ 169 وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ فِي رِجْلِهِ ... مَا كَانَ في رجالكم من مثله :: 1/ 170 عَصَى أَبُو الْعَالَمِ وَهُوَ الَّذِي ... مِنْ طِينَةٍ صوره الله :: 3/ 461 قلت لشيبان ادن من لقائه ... أن تغدي اليوم من شوائه : أبو النجم: 2/ 173 أعوذ بربي من النافثا ... ت في عقد العاضه المعضه :: 3/ 172 مَا يَبْلُغُ الْأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ ... مَا يَبْلُغُ الجاهل من نفسه :: 2/ 508 وَالشَّيْخُ لَا يَتْرُكُ أَخْلَاقَهُ ... حَتَّى يُوَارَى فِي ثرى رمسه :: 3/ 397 حرف الواو قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا فَشُدُّوا ... وَجَدَّتِ الْحَرْبُ بكم فجدوا :: 5/ 328 وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا ... نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دانوا :: 5/ 568 إِنْ يَأْذَنُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا ... مِنِّي وما أذنوا من صالح دفنوا :: 5/ 492 صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذكرت بسوء عندهم أذنوا :: 5/ 492 وَقَبَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ ... لَحِقَتْهُمْ نَارُ السَّمُومِ فأحصدوا :: 5/ 639 سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم ... فلم يفعلوا ولم يلاموا ولم يألوا : زهير: 5/ 271 مَذَاوِيدُ بِالْبِيضِ الْحَدِيثِ صِقَالُهَا ... عَنِ الرَّكْبِ أَحْيَانًا إذا الركب أوجفوا : تميم بن مقبل: 5/ 235 بِخَيْلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جَدِيرُونَ يَوْمًا أَنْ ينالوا فيستعلوا : زهير: 5/ 172 فَإِنْ تَابُوا فَإِنَّ بَنِي سُلَيْمٍ ... وَقَوْمَهُمْ هَوَازِنَ قد أثابوا : أبو قيس بن الأسلت: 4/ 259

وَلَقَدْ طَعَنْتَ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمَتْ فَزَارَةُ بعدها أن يغضبوا :: 2/ 8 فَأُهْلِكُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ ... فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صرفا ولا انتصروا :: 2/ 133 مَا لَكَ مِنْ طُولِ الْأَسَى فُرْقَانُ ... بَعْدَ قطين رحلوا وبانوا :: 3/ 345 فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَزْمَعْتَ بِالصَّرْمِ بَيْنَنَا ... فَقَدْ جعلت أشراط أوله تبدو : أبو الأسود: 5/ 43 كلفت مجهولها نوقا يمانية ... إذا الحداة على أكتافها حفدوا : الأعشى: 3/ 214 إن الخليط أجدوا البين فانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا :: 4/ 41 يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ تَغْشَى سَرَاتَهُمُ ... وَالْحَامِلَ الإصر عنهم بعد ما غرقوا : النابغة: 1/ 354 حَسَسْنَاهُمْ بِالسَّيْفِ حِسًّا فَأَصْبَحَتْ ... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وتبددوا :: 1/ 446 مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُمْ يحلمون إن غضبوا : قيس الرقيات: 2/ 437 أَلَا مِنْ مُبَلِّغٍ عَمْرًا رَسُولًا ... وَمَا تُغْنِي الرسالة شطر عمرو :: 1/ 178 أرنا إداوة عبد الله نملؤها ... مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا :: 1/ 165 وَقَدِمَ الْخَوَارِجُ الضُّلَّالُ ... إِلَى عِبَادِ رَبِّهِمْ فَقَالُوا :: 4/ 82 فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى :: 2/ 240 إِنَّ الشَّقِيَّ بِالشَّقَاءِ مُولَعٌ ... لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ له إذا أتى :: 1/ 107 وَإِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيثٌ بَعْدَهُ ... فَكُنْ حَدِيثًا حَسَنًا لمن وعى : ابن دريد: 3/ 574 إِلَى كَمْ وَكَمْ أَشْيَاءُ مِنْكِ تُرِيبُنِي ... أُغْمِضُ عنها لست عنها بذي عمى :: 1/ 332 ثم جزاه اللَّهُ عَنِّي إِذْ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي السماوات العلى : أبو النجم: 2/ 108 أَشِرْتُمْ بِلُبْسِ الْخَزِّ لَمَّا لَبِسْتُمُ ... وَمِنْ قَبْلُ لا تدرون من فتح القرى :: 5/ 152 إِمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ حَاكِي لَوْنُهُ ... طُرَّةَ صُبْحٍ تحت أذيال الدجى : ابن دريد: 3/ 389 جاءت معا وأطرقت شتيتا ... وهي تثير الساطع السخيا : رؤبة: 3/ 437 خَطَرَتْ خَطْرَةٌ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذِكْ ... رَاكِ وهنا فما استطعت مضيا :: 5/ 126 بَيْنَمَا نَحْنُ بِالْبَلَاكِثِ فَالْقَا ... عِ سِرَاعًا وَالْعِيسُ تهوى هويا :: 5/ 126 وَأَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أُحِبُّهَا ... فَهَذَا لَهَا عندي فما عندها ليا : قيس بن ذريح: 5/ 274 فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ ... وَبَكَتْ عَلَيْهِ الْمُرَمَّلَاتُ مليا : مهلهل: 3/ 397 إِنَّمَا يُعْذَرُ الْوَلِيدُ وَلَا يُعْ ... ذَرُ مَنْ كان في الزمان عتيا :: 3/ 381 ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث ... أنا ذا كما قد غيبتني غيابيا :: 3/ 10 فَفَاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ ... وَمِنْ حاجة الإنسان ما ليس قاضيا :: 1/ 267 هَمَمْتُ بِهِمْ مِنْ ثَنِيَّةِ لُؤْلُؤٍ ... شَفَيْتُ غَلِيلَاتِ الهوى من فؤاديا :: 3/ 21 أترجو بني مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ... وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَا :: 2/ 485 و 3/ 120

فَأَصْبَحَتِ الثِّيرَانُ صَرْعَى وَأَصْبَحَتْ ... نِسَاءُ تَمِيمٍ يَبْتَدِرْنَ الصياصيا :: 4/ 316 عَلَى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... وَإِنْ بات من ليلى على اليأس طاويا :: 4/ 604 وخصم غضاب ينفضون لحاهم ... كنفض البراذين العراب المخاليا :: 4/ 488 فَإِنْ تُقْبِلِي بِالْوُدِّ أُقْبِلْ بِمِثْلِهِ ... وَإِنْ تُدْبِرِي أذهب إلى حال باليا :: 5/ 36 أَلَمْ يَيْأَسِ الْأَقْوَامُ أَنِّي أَنَا ابْنُهُ ... وَإِنْ كنت عن أرض العشيرة نائيا : رباح بن عدي: 3/ 100 إذا الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابًا مِنَ التُّقَى ... تَقَلَّبَ عريانا وإن كان كاسيا :: 2/ 224 تُصَافِحُ مَنْ لَاقَيْتَ لِي ذَا عَدَاوَةٍ ... صِفَاحًا وعني بين عينيك منزوي :: 2/ 98

أنصاف الأبيات

أنصاف الأبيات الشطر: القائل: ج/ ص هم الأنصار عرضتها اللقاء :: 1/ 263 وكان مزاجها عسل وماء :: 4/ 136 أرى الموت لا يسبق الموت شيء :: 4/ 312 الناس جنب والأمير جنب : الأخفش: 1/ 536 تضبح في الكف ضباح الثعلب :: 5/ 588 يحدو بها كل فتى هيّات :: 3/ 21 وطاب إلقاح اللبان وبرد :: 3/ 209 علفتها تبنا وماء باردا :: 1/ 47 و 5/ 107 و 180 و 213 إني كبير لا أطيق العنّدا :: 2/ 574 نحسبك والضحاك سيف مهند :: 1/ 480 ويأتيك بالأخبار من لم تزود : طرفة: 4/ 437 وجرح اللسان كجرح اليد : النابغة: 4/ 9 ألا فارحموني يا إله محمد :: 3/ 589 تصابى وأمسى علاه الكبر :: 1/ 473 في بئر لا حور سرى وما شعر :: 5/ 494 لتجدني بالأمير برا : الطبري: 2/ 402 جعلت عيب الأكرمين سكرا :: 3/ 211 جدب المندّى عن هوانا أزور : الكليبي: 3/ 325 تروح من الحي أم تبتكر :: 4/ 511 وهل يستوي ذو أمة وكفور :: 4/ 631 أر يَا اسْلِمِي يَا هِنْدُ هِنْدُ بَنِي بَكْرٍ :: 4/ 154 أنادي به آل الوليد وجعفر :: 3/ 410 كأن عينيه مشكاتان في جحر :: 4/ 38 يا سارق الليلة أهل الدار :: 1/ 534 كحائضة يزنى بها غير طاهر :: 1/ 258 وأغضب أن تهجى تميم بعامر :: 3/ 496 فإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير :: 1/ 253 وهن يمشين بنا هميسا :: 3/ 457

ومنا ناسئ الشهر القلمّس :: 2/ 410 وجيد كجيد الريم ليس بفاحش :: 1/ 193 فلا يك موقف منك الوداعا :: 4/ 136 أنغض نحوي رأسه وأقنعا :: 3/ 279 وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع :: 1/ 428 فارعي فزارة لا هناك المرتع :: 3/ 12 تحية بينهم ضرب وجيع :: 2/ 407 يتبعها وهي له شغاف :: 3/ 25 ما إن بها والأمور من تلف :: 1/ 480 وأحمر اللون كمحمر الشفق :: 5/ 494 قالت سليمى اشتر لنا دقيقا :: 4/ 54 وقامت الحرب بنا على ساق :: 1/ 42 و 5/ 331 نحن بنو عدنان ليس شك :: 2/ 530 قد أفرط العلج علينا وعجل :: 3/ 434 يصبحن عن قس الأذى غوافلا :: 2/ 77 وقد يشيط على أرماحنا البطل :: 1/ 52 أحاطت بالرقاب السلاسل والأغلال :: 5/ 417 حدثاني عن فلان وفل :: 4/ 84 في لجة أمسك فلانا عن فل :: 4/ 84 طال الثواء على رسول المنزل :: 4/ 203 فصيروا مثل كعصف مأكول :: 1/ 171 هل غير غاد دك غارا فانهدم :: 3/ 370 وجيران لنا كانوا كرام :: 1/ 425 فإن تقتلونا نقتلكم :: 1/ 474 غفرت أو عذبت يا اللهما :: 1/ 378 ومن همزنا رأسه تهشما : العجاج: 5/ 602 وَوَيْحًا لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا هُنَّ وَيْحَمَا : حميد: 5/ 103 ولو شئت حرمت النساء سواكم :: 3/ 589 إن الكريم على علاته هرم : زهير: 1/ 199

وقائلة خولان فانكح فتاتهم :: 4/ 98 إذا نزل السماء بأرض قوم :: 1/ 57 بات يقاسيها غلام كالزلم :: 2/ 13 إلى الملك القرم وابن الهمام :: 2/ 558 و 3/ 574 ومستقر المصحف المرقم : العجاج: 3/ 322 السمن منوان بدرهم :: 4/ 621 فقد جئنا خراسانا :: 2/ 30 مذمما أبينا ودينه قلينا :: 3/ 277 و 5/ 629 نأتي النساء لدى أطهارهن :: 3/ 30 فإن تسألينا فيم نحن : لبيد: 4/ 131 و 4/ 130 وليس دين الله بالعضين : رؤبة: 3/ 172 من يفعل الحسنات الله يشكرها :: 1/ 432 و 3/ 593 لما رأيتني أنغضت لي رأسها :: 3/ 279 في ليلة كفر النجوم غمامها :: 1/ 46 فقال رائدهم أرسوا نزاولها :: 2/ 96 عوذا تزجي خلفها أطفالها :: 3/ 289 ونفضت من هرم أسنانها :: 3/ 279 إذا لسعته النحل لم يرج لسعها : الهذلي: 5/ 357 والله لولا النار أن نصلاها : العجاج: 3/ 406 نفرعه فرعا ولسنا نعتله : أبو النجم: 4/ 662 و 5/ 321 مثل الفراخ نتفت حواصله :: 3/ 209 إذا أتاه ضيفه يحسبه :: 5/ 446 صيد بحر وصيد ساهرة :: 5/ 456 وإذا جوزيت قرضا فاجزه :: 1/ 300 قليل الألايا يا حافظ ليمينه :: 1/ 267 فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو : زهير: 4/ 659 وحسبك بالتسليم مني تقاضيا :: 1/ 287 كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا :: 4/ 435 بسبع رمين الجمر أم بثمانيا :: 4/ 511

فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي : امرؤ القيس: 4/ 429 وكل قرين بالمقارن يقتدي :: 1/ 607 فبات حيث يدخل الثوي : العجاج: 4/ 203

(4) فهرس القراءات القرآنية

(4) فهرس القراءات القرآنية

سورة الفاتحة (1)

سورة الفاتحة (1) (4) : مالك: 1/ 26 (5) : إياك: 1/ 27 (6) : الصراط: 1/ 27 (7) : صراط الذين: 1/ 29: عليهم: 1/ 29 سورة البقرة (2) (7) : غشاوة: 1/ 46 (9) : يخدعون: 1/ 48 (10) : يكذبون: 1/ 49 (14) : لقوا: 1/ 51 (16) : اشتروا: 1/ 54 (17) : ظلمات: 1/ 55 (26) : لا يستحي: 1/ 67 (28) : ترجعون: 1/ 71 (31) : عرضهم: 1/ 77 (35) : رغدا: 1/ 80 (36) : فأزلهما: 1/ 80 (37) : آدم: 1/ 81 (40) : إسرائيل: 1/ 87 (51) : واعدنا: 1/ 100 (55) : جهرة: 1/ 102 (58) : حطة: 1/ 105: نغفر: 1/ 106 (61) : قثائها: 1/ 108: مصرا: 1/ 108 (70) : البقر: 1/ 114 (74) : أو أشدّ: 1/ 2118: يشقق: 1/ 119 (75) : كلام الله: 1/ 120 (81) : خطيئته: 1/ 124 (83) : لا تعبدون: 1/ 126: حسنا: 1/ 126 (85) : تظاهرون: 1/ 127: أسارى: 1/ 128: تفادوهم: 1/ 128: لو يردون: 1/ 128 (90) : أن ينزل: 1/ 132 (102) : الملكين: 1/ 140 (106) : ننسأها: 1/ 147 (119) : ولا تسأل: 1/ 157 (125) : مثابة: 1/ 161: واتخذوا: 1/ 161: بيتي: 1/ 164 (126) : فأمتعه: 1/ 165 (127) : ربنا تقبل: 1/ 165 (128) : وأرنا: 1/ 165 (129) : وابعث فيهم: 1/ 167 (130) : سفه نفسه: 1/ 168 (132) : ووصى بها: 1/ 168 (133) : وإله آبائك: 1/ 169 (139) : أتحاجوننا: 1/ 172 (140) : أم تقولون: 1/ 172 (143) : لرؤوف: 1/ 175 (144) : يعملون: 1/ 178 (147) : الحق: 1/ 179 (148) : موليها: 1/ 181

(155) : بشيء: 1/ 184 (165) : ولو يرى: 1/ 191: إذ يرون: 1/ 191 (168) : خطوات: 1/ 193 (173) : حرم: 1/ 195 (177) : والموفون: 1/ 199: والصابرين: 1/ 199 (184) : يطيقونه: 1/ 208: مسكين: 1/ 208: تطوع: 1/ 208 (178) : وابتغوا: 1/ 214 (189) : والحج: 1/ 218: البيوت: 1/ 218 (196) : وسبعة: 1/ 226 (197) : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال: 1/ 231 (198) : عرفات: 1/ 231 (204) : ويشهد الله: 1/ 238 (205) : ويهلك: 1/ 239 (210) : في ظلل: 1/ 242: والملائكة: 1/ 242: وقضي الأمر: 1/ 242 (212) : زين: 1/ 244 (213) : كان الناس أمة واحدة: 1/ 244 (214) : حتى يقول: 1/ 247 (217) : قتال فيه: 1/ 249 (219) : كبير: 1/ 254: وإثمهما أكبر من نفعهما: 1/ 2254 (221) : ولا تنكحوا: 1/ 257 (222) : يطهرن: 1/ 259 (226) : يؤلون: 1/ 266 (228) : قروء: 1/ 269 (229) : إلا أن يخافا: 1/ 274 (233) : لمن أراد أن يتم: 1/ 281: لا تضار: 1/ 281 (236) : ما لم تمسوهن: 1/ 289: على الموسع: 1/ 290 (237) : فنصف: 1/ 291: وأن تعفوا: 1/ 292: ولا تنسوا: 1/ 292 (238) : والصلاة الوسطى: 1/ 293 (240) : وصية: 1/ 298 (245) : فيضاعفه: 1/ 300 (246) : نقاتل: 1/ 303: عسيتم: 1/ 303 (249) : بنهر: 1/ 304: يطعمه: 1/ 304 (251) : دفع: 1/ 305 (254) : لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ: 1/ 310 (258) : أنا أحيي: 1/ 318: فبهت: 1/ 318 (259) : كم لبثت: 1/ 320: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه: 1/ 320: ننشزها: 1/ 321: أعلم: 1/ 321

سورة آل عمران (3)

(265) : بربوة: 1/ 328: أكلها: 1/ 328: تعملون: 1/ 328 (267) : ولا تيمموا: 1/ 331: تغمضوا: 1/ 332 (268) : الفقر: 1/ 332 (269) : يؤت: 1/ 332 (271) : فنعما: 1/ 333: يكفر: 1/ 333 (273) : يحسبهم: 1/ 336 (275) : لا يقومون إلا ... : 1/ 338 (279) : فأذنوا: 1/ 341 (280) : ذو عسرة: 1/ 342: ميسرة: 1/ 342 (281) : ترجعون: 1/ 342 (282) : أن تضل: 1/ 346: فتذكر: 1/ 346: ولا يضار: 1/ 347 (283) : كاتبا: 1/ 348: فرهان: 1/ 348: اؤتمن: 1/ 348 (284) : يحاسبكم: 1/ 351: فيغفر ... ويعذب: 1/ 351 (285) : ورسله: 1/ 352: لا نفرق: 1/ 352 سورة آل عمران (3) (1- 2) : الم. الله: 1/ 357 (10) : لن تغني: 1/ 368: وقود: 1/ 368 (13) : فئة: 1/ 369: رأي العين: 1/ 369 (14) : زين: 1/ 371 (18) : شهد الله: 1/ 373: أنه: 1/ 373: قائما بالقسط: 1/ 374 (19) : إن الدين: 1/ 374 (31) : فاتبعوني: 1/ 382 (36) : وضعت: 1/ 384 (37) : وكفلها: 1/ 385: زكريا: 1/ 385 (39) : فنادته: 1/ 386: يبشرك: 1/ 386 (49) : أني: 1/ 392: كهيئة الطير: 1/ 392 (57) : فيوفيهم: 1/ 396 (64) : كلمة سواء بيننا: 1/ 399 (66) : ها أنتم: 1/ 400 (73) : أن يؤتى: 1/ 403 (75) : تأمنه: 1/ 404: لا يؤده: 1/ 405 (78) : يلوون: 1/ 406 (79) : تعلمون: 1/ 407 (80) : ولا يأمركم: 1/ 407

سورة النساء (4)

(81) : لما آتيتكم: 1/ 408 (83) : يبغون: 1/ 409: يرجعون: 1/ 409 (92) : حتى تنفقوا مما تحبون: 1/ 413 (99) : تصدون: 1/ 420 (104) : ولتكن: 1/ 423 (120) : لا يضركم: 1/ 431 (125) : مسومين: 1/ 433 (133) : سارعوا: 1/ 436 (140) : قرح: 1/ 440 (142) : ويعلم: 1/ 441 (143) : من قبل أن تلقوه: 1/ 441 (146) : كأين: 1/ 442: قاتل: 1/ 443: وهنوا: 1/ 443 (151) : بل الله: 1/ 445: سنلقي: 1/ 445: الرعب: 1/ 445 (152) : ليبتليكم: 1/ 446 (153) : تصعدون: 1/ 446: تلوون: 1/ 447 (154) : أمنة: 1/ 448: يغشى: 1/ 448 (157) : يجمعون: 1/ 450 (164) : من أنفسهم: 1/ 452 (170) : فرحين: 1/ 457 (171) : وأنّ الله: 1/ 458 (176) : ولا يحزنك: 1/ 2461 (178) : ولا يحسبن: 1/ 462 (180) : ولا يحسبن: 1/ 463 (181) : سنكتب: 1/ 465 (185) : ذائقة الموت: 1/ 467 (187) : لتبيننه: 1/ 468 (188) : لا تحسبن: 1/ 468 (195) : أني: 1/ 473: وقتلوا: 1/ 473 (198) : لكن: 1/ 475: نزلا: 1/ 475 سورة النساء (4) (1) : تساءلون: 1/ 479: والأرحام: 1/ 480 (3) : تقسطوا: 1/ 482: فانكحوا ما طاب: 1/ 482 (4) : صدقاتهن: 1/ 482 (5) : قياما: 1/ 489 (6) : رشدا: 1/ 490 (10) : وسيصلون: 1/ 494 (11) : واحدة: 1/ 497: يوصي: 1/ 498 (12) : وصية من الله: 1/ 501 (13) : يدخله: 1/ 501 (16) : واللذان: 1/ 504 (19) : مبينة: 1/ 508 (24) : وأحل: 1/ 517 (25) : محصنات: 1/ 519: فإذا أحصن: 1/ 519

سورة المائدة (5)

(30) : نصليه: 1/ 527 (31) : مدخلا: 1/ 528 (33) : والذين عقدت: 1/ 531 (36) : والجار الجنب: 1/ 536 (40) : حسنة: 1/ 539: يضاعفها: 1/ 539 (42) : تسوى: 1/ 539 (43) : لا مستم: 1/ 542 (56) : نصليهم: 1/ 554 (66) : قليل: 1/ 560 (72) : ليبطئن: 1/ 562 (73) : كأن لم تكن: 1/ 562 (84) : لا تكلف: 1/ 568 (87) : أصدق: 1/ 570 (88) : أركسهم: 1/ 571 (92) : إلا أن يصدقوا: 1/ 575 (94) : فتبينوا: 1/ 578: مؤمنا: 1/ 579 (95) : غير أولي الضرر: 1/ 580 (101) : أن تقصروا من الصلاة إن خفتم: 1/ 586 (104) : تألمون: 1/ 589 (115) : نوله ... نصله: 1/ 594 (117) : إناثا: 1/ 595 (123) : بأمانيكم: 1/ 598: ولا يجد: 1/ 598 (124) : يدخلون: 1/ 598 (128) : أن يصلحا: 1/ 601 (135) : أولى بهما: 1/ 2604 (136) : نزل: 1/ 605: من قبل: 1/ 607 (142) : كسالى: 1/ 610 (143) : مذبذبين: 1/ 610 (148) : إلا من ظلم: 1/ 612 (162) : والمقيمين الصلاة: 1/ 619 (163) : زبورا: 1/ 620 (164) : ورسلا: 1/ 620 (164) : وكلم الله: 1/ 620 سورة المائدة (5) (2) : لا يجر منّكم: 2/ 9: أن صدوكم: 2/ 9 (3) : السبع: 2/ 12: النّصب: 2/ 12 (5) : والمحصنات: 2/ 19 (6) : وأرجلكم: 2/ 22 (13) : قاسية: 2/ 26 (32) : من أجل ذلك: 2/ 39 (41) : لا يحزنك: 2/ 47 (45) : والعين بالعين: 2/ 54 (47) : وليحكم: 2/ 55 (48) : مهيمنا عليه: 2/ 55 (52) : فترى: 2/ 58 (53) : ويقول الذين آمنوا: 2/ 58 (54) : من يرتد منكم: 2/ 59 (57) : والكفار: 2/ 62 (60) : وعبد الطاغوت: 2/ 63

سورة الأنعام (6)

(67) : رسالته: 2/ 68 (69) : والصابئون: 2/ 72 (71) : ألّا تكون: 2/ 72: فعموا وصموا: 2/ 73 (89) : عقدتم: 2/ 81: أو كسوتهم: 2/ 82: ثلاثة أيام: 2/ 83 (95) : فجزاء مثل: 2/ 89 (96) : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا: 2/ 90 (105) : لا يضركم: 2/ 96 (107) : الأوليان: 2/ 100 (112) : يستطيع ربك: 2/ 105 (119) : هذا يوم: 2/ 109 سورة الأنعام (6) (14) : وهو يطعم ولا يطعم: 2/ 119 (16) : من يصرف عنه: 2/ 119 (19) : وأوحي: 2/ 120 (22) : نحشرهم: 2/ 122 (23) : فتنتهم: 2/ 123: ربنا: 2/ 123 (27) : نرد: 2/ 124: نكذب: 2/ 124: نكون: 2/ 124 (28) : ردوا: 2/ 124 (32) : للدار الآخرة: 2/ 127 (33) : لا يكذبونك: 2/ 127 (38) : ولا طائر: 2/ 130 (47) : يهلك: 2/ 134 (54) : أنه من عمل منكم سوءا بجهالة: 2/ 137: فأنه غفور رحيم: 2/ 137 (55) : ولتستبين: 2/ 137 (56) : ضللت: 2/ 139 (57) : يقص الحق: 2/ 140 (59) : مفاتح الغيب: 2/ 140: ولا رطب ولا يابس: 2/ 140 (62) : الحق: 2/ 142 (63) : خفية: 2/ 143: لئن أنجانا: 2/ 143 (64) : ينجيكم: 2/ 143 (65) : يلبسكم: 2/ 144: يذيق: 2/ 144 (66) : وكذب به: 2/ 145 (71) : استهوته الشياطين: 2/ 148 (73) : فيكون: 2/ 149: ينفخ: 2/ 149: عالم: 2/ 149 (74) : آزر: 2/ 151 (80) : أتحاجوني: 2/ 153 (85) : وإلياس: 2/ 156 (86) : واليسع: 2/ 156 (94) : فرادى: 2/ 160: لقد تقطع بينكم: 2/ 160 (96) : فالق الإصباح: 2/ 163

سورة الأعراف (7)

: وجعل الليل سكنا: 2/ 163: والشمس والقمر حسبانا: 2/ 163 (98) : فمستقر ومستودع: 2/ 164 (99) : نخرج منه حبا: 2/ 164: وجنات: 2/ 165: ثمره: 2/ 165: وينعه: 2/ 165 (100) : شركاء الجن: 2/ 168: وخرقوا: 2/ 168 (105) : درست: 2/ 170 (108) : عدوا: 2/ 172 (109) : أنها: 2/ 173 (111) : قبلا: 2/ 174 (112) : الإنس والجن: 2/ 174 (115) : كلمة: 2/ 177 (119) : وقد فصل لكم ما حرم عليكم: 2/ 178 (122) : أومن: 2/ 181 (125) : ضيقا: 2/ 182: حرجا: 2/ 182: يصعد: 2/ 183 (136) : بزعمهم: 2/ 187 (137) : زين: 2/ 188: شركاؤهم: 2/ 188 و 189 (138) : حجر: 2/ 190 (139) : خالصة: 2/ 190: يكن: 2/ 190 (143) : الضأن: 2/ 194: اثنين: 2/ 194: المعز: 2/ 194 (153) : وأن هذا صراطي: 2/ 203 (154) : أحسن: 2/ 204 (258) : يوم يأتي: 2/ 206: لا ينفع: 2/ 206 (159) : إن الذين فرقوا دينهم: 2/ 208 (161) : قيما: 2/ 210 (162) : نسكي: 2/ 210: محياي: 2/ 210 سورة الأعراف (7) (3) : تذكرون: 2/ 214 (10) : معايش: 2/ 217 (18) : مذؤوما: 2/ 219: لمن: 2/ 219 (20) : ملكين: 2/ 222 (22) : يخصفان: 2/ 223 (26) : ريشا: 2/ 224: ولباس التقوى ذلك خير: 2/ 224 (32) : خالصة: 2/ 228 (34) : أجلهم: 2/ 231 (38) : اداركوا: 2/ 232 (40) : لا تفتح: 2/ 233

: الجمل: 2/ 234: في سم: 2/ 234 (42) : لا نكلف نفسا: 2/ 234 (43) : وما كنا: 2/ 234 (44) : نعم: 2/ 236 (49) : ادخلوا الجنة: 2/ 237 (53) : أو نرد فنعمل: 2/ 240 (54) : يغشي: 2/ 241 (57) : بشرا: 2/ 244 (58) : نكدا: 2/ 245 (59) : ما لكم من إله غيره: 2/ 246 (98) : أو أمن: 2/ 260 (100) : أو لم يهد: 2/ 260: أن لو نشاء: 2/ 260 (105) : حقيق على أن لا أقول: 2/ 263 (111) : أرجه: 2/ 264 (113) : إن لنا لأجرا: 2/ 264 (117) : تلقف: 2/ 265 (123) : آمنتم به: 2/ 267 (126) : وما تنقم منا: 2/ 267 (127) : ويذرك وآلهتك: 2/ 268: سنقتل: 2/ 268 (128) : والعاقبة: 2/ 268 (131) : طائرهم: 2/ 271 (133) : والقمل: 2/ 271 (137) : يعرشون: 2/ 274 (138) : وجاوزنا: 2/ 274: يعكفون: 2/ 274 (144) : برسالاتي: 2/ 278 (146) : يروا: 2/ 279: الرشد: 2/ 279 (148) : حليهم: 2/ 282 (149) : يرحمنا ... ويغفر: 2/ 282 (150) : ابن أمّ: 2/ 283 (154) : سكت: 2/ 285 (157) : وعزروه: 2/ 288 (161) : خطيئاتكم: 2/ 292 (163) : واسألهم: 2/ 292: يعدون: 2/ 292: السبت: 2/ 292: سبتهم: 2/ 292 (164) : معذرة: 2/ 293 (165) : بئيس: 2/ 293 (170) : يمسكون: 2/ 297 (171) : ظلّة: 2/ 298 (172) : ذريتهم: 2/ 299: أو تقولوا: 2/ 299 (177) : ساء مثلا القوم: 2/ 303 (180) : يلحدون: 2/ 305 (186) : ويذرهم: 2/ 310 (189) : فمرت به: 2/ 312 (190) : شركاء: 2/ 313 (193) : لا يتبعوكم: 2/ 316 (194) : إن الذين: 2/ 316 (195) : يبطشون: 2/ 316 (196) : إن وليي الله: 2/ 317

سورة الأنفال (8)

(199) : بالعرف: 2/ 318 (201) : طائف: 2/ 318 (202) : يمدونهم: 2/ 319: لا يقصرون: 2/ 319 (205) : والآصال: 2/ 320 سورة الأنفال (8) (9) : بألف: 2/ 331: مردفين: 2/ 331 (11) : يغشيكم: 2/ 332 (12) : أني: 2/ 333 (18) : موهن: 2/ 337 (19) : وأن الله: 2/ 339 (25) : لا تصيبن: 2/ 342 (30) : ليثبتوك: 2/ 346 (35) : صلاتهم: 2/ 349 (41) : فأن لله: 2/ 354 (42) : من حي: 2/ 356 (46) : وتذهب: 2/ 359 (59) : ولا يحسبن: 2/ 365: سبقوا أنهم: 2/ 365 (61) : فاجنح: 2/ 368 (67) : أن يكون: 2/ 371 (72) : ولايتهم: 2/ 375 سورة براءة- التوبة (9) (1) : براءة: 2/ 379 (3) : أن الله: 2/ 381: ورسوله: 2/ 381 (4) : ينقصوكم: 2/ 384 (12) : أئمة: 2/ 389: لا أيمان لهم: 2/ 389 (18) : يعمروا: 2/ 392: مساجد: 2/ 392 (19) : سقاية: 2/ 393: عمارة: 2/ 393 (24) : عشيرتكم: 2/ 395 (30) : عزير: 2/ 402 (35) : فتكوى: 2/ 407 (37) : النسيء: 2/ 410: يضل: 2/ 410 (38) : اثاقلتم: 2/ 412 (40) : ثاني: 2/ 413: كلمة: 2/ 414 (51) : يصيبنا: 2/ 421 (52) : تربصون: 2/ 421 (57) : مدخلا: 2/ 422 (58) : يلمزك: 2/ 424 (61) : أذن خير: 2/ 428: ورحمة: 2/ 428 (63) : ألم يعلموا: 2/ 429: فأن: 2/ 429 (66) : نعذب: 2/ 430 (78) : يعلموا: 2/ 439 (90) : المعذرون: 2/ 445 (99) : قربة: 2/ 451 (100) : والأنصار: 2/ 452: الذين اتبعوهم: 2/ 453: تجري تحتها الأنهار: 2/ 453

سورة يونس (10)

(106) : مرجون: 2/ 456 (107) : الذين اتخذوا: 2/ 458 (110) : تقطع: 2/ 460 (111) : فيقتلون ويقتلون: 2/ 464 (117) : يزيغ: 2/ 470 (118) : خلفوا: 2/ 470 (120) : ظمأ: 2/ 472 (126) : أو لا يرون: 2/ 475 (129) : العظيم: 2/ 476 سورة يونس (10) (1) : الر: 2/ 479 (2) : لسحر: 2/ 481 (5) : ضياء: 2/ 483: يفصل: 2/ 484 (10) : أن الحمد: 2/ 486 (11) : لقضي: 2/ 487 (18) : أتنبئون: 2/ 492 (19) : لقضي: 2/ 492 (21) : تمكرون: 2/ 494 (22) : يسيركم: 2/ 494 (23) : متاع: 2/ 495 (24) : وازينت: 2/ 497 (27) : قطعا: 2/ 499 (28) : شركاؤكم: 2/ 500 (30) : تبلو: 2/ 500 (33) : كلمة: 2/ 505 (35) : يهدي: 2/ 505 (44) : ولكن الناس: 2/ 510 (53) : أحق: 2/ 514 (58) : فليفرحوا: 2/ 516: يجمعون: 2/ 516 (65) : ولا يحزنك: 2/ 522 (71) : وشركاءكم: 2/ 525 (72) : أجري: 2/ 526 (79) : ساحر: 2/ 529 (88) : ليضلوا: 2/ 532 (89) : ولا تتبعان: 2/ 533 (90) : وجاوزنا: 2/ 533: أنه: 2/ 534 (92) : ننجيك: 2/ 534: لمن خلفك: 2/ 535 (100) : ويجعل: 2/ 539 (103) : وننجي: 2/ 541: ننج: 2/ 541 سورة هود (11) (25) : إني: 2/ 559 (28) : فعميت: 2/ 560 (35) : إجرامي: 2/ 563 (40) : من كل: 2/ 565: وأهلك: 2/ 566 (41) : مجراها ومرساها: 2/ 566 (42) : يا بني: 2/ 567: اركب معنا: 2/ 567 (43) : إلا من رحم: 2/ 567 (50) : غيره: 2/ 572 (68) : ألا بعدا لثمود: 2/ 577

سورة يوسف (12)

(77) : سيء: 2/ 582 (78) : أطهر: 2/ 583 (87) : أصلاتك: 2/ 588: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ: 2/ 588 (105) : يوم يأت: 2/ 594 (108) : سعدوا: 2/ 596 (111) : وإن كلا لما: 2/ 599 (113) : ولا تركنوا: 2/ 600 (114) : وزلفا: 2/ 603 (123) : يرجع: 2/ 606 سورة يوسف (12) (4) : يوسف: 3/ 7: يا أبت: 3/ 7 (7) : آيات: 3/ 9 (10) : غيابة الجب: 3/ 10: يلتقطه: 3/ 10 (11) : لا تأمنا: 3/ 12 (12) : يرتع ويلعب: 3/ 12 (13) : الذئب: 3/ 13 (17) : نستبق: 3/ 13 (18) : فصبر جميل: 3/ 14 (19) : يا بشرى: 3/ 16 (23) : هيت لك: 3/ 20 (24) : المخلصين: 3/ 22 (26) : من قبل: 3/ 23 (27) : من دبر: 3/ 23 (30) : نسوة: 3/ 25: شغفها: 3/ 25 (31) : متكأ: 3/ 26: حاش لله: 3/ 27: ما هذا بشرا: 3/ 28 (32) : وليكونا: 3/ 28 (33) : السجن: 3/ 28 (35) : ليسجننه: 3/ 31 (45) : وادكر: 3/ 37: بعد أمة: 3/ 38 (47) : دأبا: 3/ 38 (49) : يعصرون: 3/ 39 (59) : بجهازهم: 3/ 44 (62) : لفتيانه: 3/ 45 (63) : نكتل: 3/ 46 (64) : حافظا: 3/ 46 (72) : صواع: 3/ 50 (77) : سرق: 3/ 55 (86) : حزني: 3/ 59 (90) : قالوا أإنك: 3/ 62: إنه من يتق ويصبر: 3/ 62 (105) : الأرض: 3/ 70 (109) : تعقلون: 3/ 72 (110) : كذبوا: 3/ 72: فنجي: 3/ 73 (111) : تصديق: 3/ 73 سورة الرعد (13) (2) : عمد: 3/ 77 (4) : وجنات: 3/ 78

سورة إبراهيم (14)

: وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان: 3/ 78: يسقى: 3/ 79: ونفضل: 3/ 79 (6) : المثلات: 3/ 81 (13) : المحال: 3/ 87 (16) : أم هل تستوي الظلمات والنور: 3/ 89 (17) : يوقدون: 3/ 90 (29) : وحسن مآب: 3/ 98 (31) : أفلم ييأس: 3/ 100 (33) : زين: 3/ 102 (39) : ويثبت: 3/ 105 (42) : الكفار: 3/ 108 سورة إبراهيم (14) (2) : الله: 3/ 112 (19) : خلق السموات: 3/ 123 (22) : مصرخي: 3/ 125 (30) : ليضلوا: 3/ 131 (34) : من كلّ: 3/ 132 (35) : واجنبني: 3/ 134 (41) : ولوالدي: 3/ 136 (42) : يؤخرهم: 3/ 138 (45) : وتبين: 3/ 139 (46) : وإن كان مكرهم: 3/ 140: لتزول: 3/ 140 (47) : مخلف وعده رسله: 3/ 142 (50) : قطران: 3/ 143 (52) : ولينذروا: 3/ 143 سورة الحجر (15) (2) : ربما: 3/ 145 (15) : سكرت: 3/ 148 (22) : الرياح: 3/ 152 (40) : المخلصين: 3/ 158 (45) : عيون: 3/ 160 (46) : ادخلوها: 3/ 160 (54) : أبشرتموني: 3/ 162: تبشرون: 3/ 162 (55) : القانطين: 3/ 162 (59) : لمنجوهم: 3/ 162 (60) : قدرنا: 3/ 163 سورة النحل (16) (2) : ينزل: 3/ 177 (8) : والخيل والبغال والحمير: 3/ 179 (9) : ومنها جائر: 3/ 180 (11) : ينبت: 3/ 182 (12) : والشمس والقمر والنجوم مسخرات: 3/ 183 (21) : أيان: 3/ 187 (26) : السقف: 3/ 189 (27) : شركائي: 3/ 189: تشاقوني: 3/ 189 (28) : تتوفاهم: 3/ 192

سورة الإسراء (17)

(33) : تأتيهم: 3/ 193 (37) : لا يهدي: 3/ 194 (43) : نوحي: 3/ 197 (48) : أو لم يروا: 3/ 199: يتفيأ: 3/ 199 (59) : أم يدسه: 3/ 204 (62) : الكذب: 3/ 205: مفرطون: 3/ 206 (66) : نسقيكم: 3/ 208 (68) : النحل: 3/ 210: يعرشون: 3/ 210 (71) : يجحدون: 3/ 213 (72) : يؤمنون: 3/ 214 (78) : أمهاتكم: 3/ 219 (79) : ألم يروا: 3/ 219 (80) : ظعنكم: 3/ 220 (81) : يتم نعمته: 3/ 221: تسلمون: 3/ 221 (112) : والخوف: 3/ 239 (116) : الكذب: 3/ 239 سورة الإسراء (17) (4) : في الكتاب: 3/ 249 (5) : فجاسوا: 3/ 249 (7) : ليسوءوا: 3/ 250 (9) : ويبشر: 3/ 251 (13) : ونخرج: 3/ 254 (16) : أمرنا: 3/ 255 (18) : ما نشاء: 3/ 258 (23) : يبلغن: 3/ 260 (24) : الذل: 3/ 260 (31) : خطئا: 3/ 265 (33) : فلا يسرف: 3/ 266 (35) : بالقسطاس: 3/ 269 (36) : تقف: 3/ 269 (37) : مرحا: 3/ 271 (38) : سيئه: 3/ 271 (41) : صرفنا: 3/ 272: ليذكروا: 3/ 272 (44) : يسبح: 3/ 274 (57) : يدعون: 3/ 282 (59) : مبصرة: 3/ 283 (69) : فيغرقكم: 3/ 290 (71) : ندعو: 3/ 292 (72) : أعمى: 3/ 293 (76) : لا يلبثون: 3/ 294 (82) : وننزل: 3/ 300 (83) : نأى: 3/ 301 (92) : أو تسقط: 3/ 306: كسفا: 3/ 306 (93) : بيت من زخرف: 3/ 306 (101) : فاسأل: 3/ 312 (106) : فرقناه: 3/ 313: مكث: 3/ 313 سورة الكهف (18) (2) : لدنه: 3/ 319: يبشر: 3/ 319

سورة مريم (19)

(6) : إن لم يؤمنوا: 3/ 320 (17) : تزاور: 3/ 325 (19) : بورقكم: 3/ 327 (25) : ثلاثمئة سنين: 3/ 330: تسعا: 3/ 331 (26) : ولا يشرك: 3/ 331 (28) : بالغداة: 3/ 333 (34) : ثمر: 3/ 339 (36) : خيرا منها: 3/ 339 (38) : لكن هو الله ربي: 3/ 339 (42) : أحيط بثمره: 3/ 340 (44) : هنالك الولاية لله الحق: 3/ 342: عقبا: 3/ 342 (45) : تذروه الرياح: 3/ 343 (47) : نسير: 3/ 345 (51) : ما أشهدتهم: 3/ 347: عضدا: 3/ 347 (52) : يقول: 3/ 347 (55) : قبلا: 3/ 350 (59) : لمهلكهم: 3/ 351 (66) : رشدا: 3/ 354 (71) : لتغرق أهلها: 3/ 357 (74) : زكية: 3/ 357 (76) : تصاحبني: 3/ 358: لدني: 3/ 358: عذرا: 3/ 358 (77) : لتخذت: 3/ 358 (79) : لمساكين: 3/ 359: كل سفينة غصبا: 3/ 359 (81) : يبدلهما: 3/ 359: رحما: 3/ 360 (85) : فأتبع: 3/ 364 (86) : حمئة: 3/ 364 (88) : فله جزاء الحسنى: 3/ 365 (93) : السدين: 3/ 367: يفقهون: 3/ 368 (94) : يأجوج ومأجوج: 3/ 368 (95) : ما مكني: 3/ 369 (96) : الصدفين: 3/ 369 (97) : فما اسطاعوا: 3/ 370 (102) : أفحسب: 3/ 372 (105) : نقيم: 3/ 373 (109) : مددا: 3/ 375: تنفد: 3/ 375 سورة مريم (19) (1) : كهيعص: 3/ 378 (2) : ذكر: 3/ 379 (4) : وهن: 3/ 379: واشتعل الرأس شيبا: 3/ 379 (5) : خفت: 3/ 380: الموالي: 3/ 380: ورائي: 3/ 380 (6) : يرثني ويرث: 3/ 380 (8) : عتيا: 3/ 381 (19) : لأهب: 3/ 387

سورة طه (20)

(23) : المخاض: 3/ 388: نسيا: 3/ 388 (24) : من تحتها: 3/ 388 (25) : تساقط: 3/ 389 (26) : ترين: 3/ 389: صوما: 3/ 389 (32) : وبرا: 3/ 392 (34) : قول الحق: 3/ 393 (36) : وإن الله: 3/ 394 (54) : مخلصا: 3/ 398 (60) : يدخلون: 3/ 401 (61) : عدن: 3/ 401 (66) : أئذا ما مت: 3/ 404 (67) : أو لا يذكر: 3/ 405 (72) : ننجي: 3/ 407 (73) : مقاما: 3/ 409 (74) : ورئيا: 3/ 410 (82) : كلا: 3/ 413 (88) : ولدا: 3/ 414 (89) : إدا: 3/ 415 (90) : يتفطرن: 3/ 415 (93) : آتي: 3/ 415 (96) : ودا: 3/ 417 سورة طه (20) (1) : طه: 3/ 419 (4) : تنزيلا: 3/ 421 (10) : لأهله: 3/ 422 (12) : إني: 3/ 423: طوى: 3/ 423 (13) : اخترتك: 3/ 423 (15) : أخفيها: 3/ 424 (18) : عصاي: 3/ 427 (30) : أخي: 3/ 429 (31) : اشدد: 3/ 429 (39) : ولتصنع: 3/ 431 (40) : تقر: 3/ 431 (42) : لا تنيا: 3/ 433 (45) : أن يفرط: 3/ 434 (50) : خلقه: 3/ 435 (53) : مهدا: 3/ 436 (58) : لا نخلفه: 3/ 438: سوى: 3/ 438 (59) : يوم الزينة: 3/ 438: وأن يحشر: 3/ 439 (61) : فيسحتكم: 3/ 440 (63) : إن هذان لساحران: 3/ 440 (64) : ائتوا: 3/ 442 (66) : يخيل: 3/ 442 (69) : تلقف: 3/ 443: ساحر: 3/ 443 (71) : آمنتم له قبل أن آذن لكم: 3/ 444 (77) : لا تخاف: 3/ 446 (78) : فأتبعهم: 3/ 447 (80) : وواعدناكم: 3/ 447: الأيمن: 3/ 447 (81) : فيحل: 3/ 448

سورة الأنبياء (21)

: يحلل: 3/ 448 (84) : على أثري: 3/ 448 (87) : بملكنا: 3/ 449: حملنا: 3/ 449 (89) : يرجع: 3/ 450 (94) : يابن أم: 3/ 452 (96) : بما لم يبصروا: 3/ 452: فقبضت فبضة: 3/ 452 (97) : لا مساس: 3/ 453: لن تخلفه: 3/ 453: ظلت: 3/ 453: لنحرقنه: 3/ 453: لننسفنه: 3/ 454 (98) : وسع: 3/ 454 (102) : ينفخ: 3/ 455: الصور: 3/ 455: ونحشر: 3/ 455 (114) : يقضى: 3/ 459 (115) : فنسي: 3/ 459 (119) : وأنك: 3/ 460 (124) : ضنكا: 3/ 462 (128) : يهد: 3/ 464 (130) : ترضى: 3/ 465 (133) : أولم تأتهم: 3/ 466 (135) : السوي: 3/ 466 سورة الأنبياء (21) (3) : لاهية: 3/ 469 (4) : قل ربي: 3/ 470 (7) : نوحي: 3/ 471 (24) : الحق: 3/ 476 (25) : نوحي إليه: 3/ 476 (27) : لا يسبقونه: 3/ 478 (34) : مت: 3/ 479 (45) : ولا يسمع: 3/ 484: ينذرون: 3/ 484 (47) : مثقال: 3/ 485: أتينا: 3/ 485 (48) : ضياء: 3/ 485 (58) : جذاذا: 3/ 488 (63) : فعله: 3/ 489 (65) : نكسوا: 3/ 489 (81) : الريح: 3/ 495 (87) : نقدر: 3/ 496 (88) : ننجي: 3/ 497 (90) : يدعوننا: 3/ 502: رغبا ورهبا: 3/ 502 (92) : أمتكم: 3/ 502 (94) : فلا كفران لسعيه: 3/ 503 (95) : وحرام: 3/ 503 (96) : ينسلون: 3/ 504 (98) : حصب: 3/ 506 (103) : لا يحزنهم: 3/ 507 (104) : نطوي: 3/ 507: السجل: 3/ 507: للكتب: 3/ 507 (106) : عبادي: 3/ 508 (112) : ربّ: 3/ 509: ما تصفون: 3/ 510

سورة الحج (22)

سورة الحج (22) (2) : وترى: 3/ 514: سكارى: 3/ 514 (5) : البعث: 3/ 515: لنبين ... نقر ... نخرجكم: 3/ 516: ما نشاء: 3/ 516: يتوفى: 3/ 516: ربت: 3/ 516 (11) : خسر: 3/ 520 (13) : لمن: 3/ 521 (15) : ثم ليقطع: 3/ 522 (19) : هذان: 3/ 525: قطعت: 3/ 525 (23) : يحلون: 3/ 525: ولؤلؤا: 3/ 525 (25) : سواء: 3/ 528 (27) : وأذن: 3/ 530: بالحج: 3/ 530: رجالا: 3/ 530: يأتين: 3/ 530 (31) : فتخطفه: 3/ 534 (35) : والمقيمي الصلاة: 3/ 535 (36) : والبدن: 3/ 537: صواف: 3/ 537: والمعتر: 3/ 538 (38) : يدافع: 3/ 540 (39) : أذن: 3/ 540 (40) : ولولا دفع: 3/ 540: لهدمت: 3/ 541 (45) : أهلكناها: 3/ 542 (47) : تعدون: 3/ 544 (55) : مرية: 3/ 547 (58) : قتلوا: 3/ 549 (59) : مدخلا: 3/ 549 (62) : ما يدعون: 3/ 550 (65) : والفلك: 3/ 551 سورة المؤمنون (23) (1) : أفلح: 3/ 560 (8) : أماناتهم: 3/ 561 (9) : صلواتهم: 3/ 562 (20) : سيناء: 3/ 566: تنبت: 3/ 567: وصبغ: 3/ 567 (29) : منزلا: 3/ 570 (44) : تترى: 3/ 573 (56) : نسارع: 3/ 576 (61) : يسارعون: 3/ 578 (67) : سامرا: 3/ 580: تهجرون: 3/ 581 (71) : ومن فيهن: 3/ 583: أتيناهم: 3/ 583: بذكرهم: 3/ 583 (72) : فرجا: 3/ 584 (77) : مبلسون: 3/ 585 (85) : سيقولون لله: 3/ 586 (92) : عالم: 3/ 587

سورة النور (24)

(101) : الصور: 3/ 590 (106) : شقوتنا: 3/ 590 (109) : إنه كان فريق: 3/ 591 (110) : سخريا: 3/ 591 (111) : أنهم: 3/ 591 (114) : قال: 3/ 592 (117) : لا يفلح: 3/ 592 سورة النور (24) (1) : سورة: 4/ 5 (2) : الزانية والزاني: 4/ 6: رأفة: 4/ 7 (4) : المحصنات: 4/ 10: بأربعة شهداء: 4/ 10 (6) : أربع: 4/ 12 (7) : والخامسة: 4/ 12 (11) : كبره: 4/ 15 (15) : تلقونه: 4/ 16 (21) : خطوات: 4/ 17: ما زكى: 4/ 18 (22) : أن يؤتوا: 4/ 20 (24) : تشهد: 4/ 21 (25) : الحق: 4/ 21 (27) : تستأنسوا: 4/ 23 (31) : وليضربن: 4/ 27: بخمرهن: 4/ 28: جيوبهن: 4/ 28: أو الطفل: 4/ 29: عورات: 4/ 29 (32) : عبادكم: 4/ 33 (35) : دري: 4/ 39: يوقد: 4/ 39: تمسسه: 4/ 40 (36) : يسبح: 4/ 41 (39) : بقيعة: 4/ 46 (43) : يؤلف: 4/ 48: خلاله: 4/ 49: سنا برقه: 4/ 50: يذهب: 4/ 50 (51) : قول: 4/ 53 (52) : ويتقه: 4/ 54 (54) : تولوا: 4/ 55 (55) : استخلف: 4/ 55: وليبدلنهم: 4/ 56 (57) : لا تحسبن: 4/ 56 (58) : الحلم: 4/ 59: ثلاث عورات: 4/ 59: طوافون: 4/ 60 (59) : الحلم: 4/ 61 (60) : أن يضعن ثيابهن: 4/ 61: وأن يستعففن: 4/ 61 (61) : ملكتم: 4/ 62: مفاتحه: 4/ 62 (63) : لواذا: 4/ 68 سورة الفرقان (25) (7) : فيكون: 4/ 74 (8) : يأكل: 4/ 74

سورة الشعراء (26)

(10) : يجعل: 4/ 74 (17) : يحشرهم: 4/ 78: فيقول: 4/ 78 (18) : ينبغي: 4/ 78: نتخذ: 4/ 78 (1) : كذبوكم: 4/ 79: بما تقولون: 4/ 79: تستطيعون: 4/ 79: نذقه: 4/ 79 (20) : ويمشون: 4/ 79 (25) : تشقق: 4/ 83: ونزل: 4/ 83 (28) : يا ويلتا: 4/ 84 (32) : لنثبت: 4/ 85 (40) : السوء: 4/ 89 (48) : بشرا: 4/ 93 (49) : نسقيه مما: 4/ 94 (50) : صرفناه: 4/ 94: ليذكروا: 4/ 94 (59) : الرحمن: 4/ 98 (60) : تأمرنا: 4/ 98 (61) : سراجا: 4/ 99: وقمرا: 4/ 99 (62) : يذكر: 4/ 99 (67) : يقتروا: 4/ 100: قواما: 4/ 101 (68) : يلق: 4/ 102 (69) : يضاعف: 4/ 102: ويخلد: 4/ 102 (74) : وذرياتنا: 4/ 104 (75) : ويلقون: 4/ 105 (77) : فقد كذبتم: 4/ 105: لزاما: 4/ 106 سورة الشعراء (26) (1) : طسم: 4/ 108 (3) : باخع نفسك: 4/ 109 (11) : ألا يتقون: 4/ 111 (13) : يضيق ... ينطلق: 4/ 111 (19) : فعلتك: 4/ 112 (56) : حاذرون: 4/ 117 (60) : فأتبعوهم: 4/ 118 (61) : تراءى: 4/ 118: أدركه: 4/ 118 (113) : تشعرون: 4/ 126 (129) : تخلدون: 4/ 128 (136) : أوعظت: 4/ 129 (137) : خلق: 4/ 129 (149) : فارهين: 4/ 130 (176) : الأيكة: 4/ 132 (182) : بالقسطاس: 4/ 133 (193) : نزل: 4/ 135 (197) : يكن: 4/ 136 (198) : الأعجمين: 4/ 136 (202) : فيأتيهم: 4/ 137 (210) : وما تنزلت به الشياطين: 4/ 138

سورة النمل (27)

(224) : والشعراء: 4/ 140 (227) : أي منقلب ينقلبون: 4/ 141 سورة النمل (27) (1) : وكتاب مبين: 4/ 144 (7) : بشهاب قبس: 4/ 146 (8) : بورك من في النار: 4/ 146 (13) : مبصرة: 4/ 148 (18) : نملة: 4/ 151: مساكنكم: 4/ 151: لا يحطمنكم: 4/ 151 (19) : ضاحكا: 4/ 151 (20) : ما لي: 4/ 152 (21) : ليأتيني: 4/ 153 (22) : سبأ: 4/ 153 (25) : ألا يسجدوا: 4/ 154: الخبء: 4/ 155: مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ: 4/ 155 (26) : اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هو رب: 4/ 155 (28) : فألقه: 4/ 157 (30) : إنه من سليمان وإنه بسم الله: 4/ 158 (36) : فلما جاء سليمان: 4/ 159: أتمدونن: 4/ 159 (37) : ارجع: 4/ 159 (39) : عفريت: 4/ 160 (43) : إنها: 4/ 163 (49) : لنقولن: 4/ 165: مهلك: 4/ 166 (51) : أنا: 4/ 166 (52) : خاوية: 4/ 166 (56) : جواب: 4/ 167 (59) : يشركون: 4/ 168 (60) : أمن: 4/ 168: أإله مع الله: 4/ 168 (62) : تذكرون: 4/ 169 (66) : بل ادارك: 4/ 170 (67) : أئذا: 4/ 172: أئنا: 4/ 172 (72) : ردف: 4/ 173 (78) : بحكمه: 4/ 173 (80) : لا تسمع: 4/ 174 (81) : بهادي العمي: 4/ 174 (82) : تكلمهم: 4/ 175: أن: 4/ 175 (87) : أتوه: 4/ 178: داخرين: 4/ 178 (88) : تحسبها: 4/ 179 (89) : فزع يومئذ: 4/ 179 (91) : الذي حرمها: 4/ 179 (92) : وأن أتلو: 4/ 180 (93) : تعملون: 4/ 180 سورة القصص (28) (6) : ونمكن: 4/ 183

سورة العنكبوت (29)

: ونري: 4/ 183 (7) : أن: 4/ 184 (8) : حزنا: 4/ 184 (10) : فارغا: 4/ 185 (11) : فبصرت: 4/ 186: عن جنب: 4/ 186 (15) : فوكزه: 4/ 188 (17) : فلن أكون ظهيرا للمجرمين: 4/ 190 (23) : يصدر: 4/ 192: الرعاء: 4/ 192 (28) : أيما الأجلين قضيت: 4/ 195: عدوان: 4/ 195 (29) : جذوة: 4/ 196 (30) : البقعة: 4/ 196: إني: 4/ 196 (32) : الرهب: 4/ 197: فذانك برهانان: 4/ 197 (34) : ردءا: 4/ 199: يصدقني: 4/ 199 (35) : عضدا: 4/ 200 (37) : وقال موسى: 4/ 200: ومن تكون: 4/ 200 (39) : لا يرجعون: 4/ 200 (48) : ساحران: 4/ 205 (51) : وصلنا: 4/ 205 (57) : نتخطف: 4/ 206: يجبى: 4/ 207: ثمرات: 4/ 207 (60) : تعقلون: 4/ 209 (61) : متاع: 4/ 209 (66) : فعميت: 4/ 210 (69) : تكن: 4/ 211 (76) : لتنوء: 4/ 215 (82) : لخسف بنا: 4/ 217 (87) : ولا يصدنك: 4/ 217 سورة العنكبوت (29) (3) : فليعلمن: 4/ 222 (8) : حسنا: 4/ 223 (16) : وإبراهيم: 4/ 227 (17) : تخلقون: 4/ 227: إفكا: 4/ 227 (19) : أولم يروا: 4/ 228 (20) : النشأة: 4/ 228 (24) : جواب قومه: 4/ 229 (25) : مودة بينكم: 4/ 229 (29) : أئنكم: 4/ 232 (32) : لننجينه: 4/ 233 (33) : منجوك: 4/ 233 (34) : منزلون: 4/ 233 (42) : يدعون: 4/ 236 (49) : بل هو آيات بينات: 4/ 239 (50) : لولا أنزل عليه آيات: 4/ 240

سورة الروم (30)

(55) : ويقول: 4/ 241 (56) : يا عبادي: 4/ 243 (66) : وليتمتعوا: 4/ 244 سورة الروم (30) (2) : غلبت الروم: 4/ 246 (3) : من بعد غلبهم: 4/ 247: سيغلبون: 4/ 247 (4) : من قبل ومن بعد: 4/ 247 (10) : عاقبة: 4/ 248 (11) : ترجعون: 4/ 251 (12) : يبلس: 4/ 251 (17) : حين تمسون وحين تصبحون: 4/ 252 (19) : تخرجون: 4/ 252 (22) : للعالمين: 4/ 253 (25) : تخرجون: 4/ 254 (27) : وهو أهون عليه: 4/ 255 (28) : أنفسكم: 4/ 257 (32) : فرقوا: 4/ 259 (34) : فتمتعوا: 4/ 260 (36) : يقنطون: 4/ 260 (39) : آتيتم: 4/ 262: ليربو: 4/ 262: المضعفون: 4/ 262 (46) : الرياح: 4/ 264 (48) : الرياح: 4/ 265: خلاله: 4/ 266 (50) : آثار: 4/ 266: يحيي: 4/ 266 (54) : ضعف: 4/ 267 (57) : لا ينفع: 4/ 267 (60) : ولا يستخفنك: 4/ 268 سورة لقمان (31) (3) : ورحمة: 4/ 269 (6) : ليضل: 4/ 270 (13) : يا بني: 4/ 273 (14) : وفصاله: 4/ 274 (16) : إن تك: 4/ 275: مثقال: 4/ 275: فتكن: 4/ 275 (18) : ولا تصعر: 4/ 275 (20) : وأسبغ: 4/ 277 (22) : يسلم: 4/ 278 (29) : تعملون: 4/ 281 (31) : بنعمة الله: 4/ 281 (32) : موج كالظلل: 4/ 281 (33) : الغرور: 4/ 282 (34) : وينزل الغيث: 4/ 282: بأي: 4/ 282 سورة السجدة (32) (5) : يعرج: 4/ 287 (7) : خلقه: 4/ 288: وبدأ: 4/ 289 (10) : ضللنا: 4/ 289 (17) : ما أخفي: 4/ 293

سورة الأحزاب (33)

: قرة: 4/ 293 (19) : جنات: 4/ 293: نزلا: 4/ 293 (24) : أئمة: 4/ 296: لما: 4/ 297 (26) : أو لم يهد: 4/ 297 سورة الأحزاب (33) (2) : تعملون: 4/ 300 (4) : اللائي: 4/ 300: تظاهرون: 4/ 300 (10) : الظنونا: 4/ 306 (11) : زلزلوا: 4/ 306 (13) : عورة: 4/ 307 (14) : لأتوها: 4/ 307 (16) : لا تمتعون: 4/ 308 (19) : أشحة: 4/ 311 (21) : أسوة: 4/ 311 (26) : تقتلون: 4/ 316: تأسرون: 4/ 316 (27) : تطؤوها: 4/ 316 (28) : أمتعكن وأسرحكن: 4/ 317 (30) : يضاعف: 4/ 318: مبينة: 4/ 318 (31) : يقنت: 4/ 318: نؤتها: 4/ 318 (32) : فيطمع: 4/ 319 (33) : وقرن: 4/ 320 (36) : أن يكون: 4/ 326: الخيرة: 4/ 326 (37) : زوجناكها: 4/ 328 (40) : رسول: 4/ 328 (49) : تعتدونها: 4/ 334 (50) : وامرأة: 4/ 336: إن وهبت: 4/ 336: خالصة: 4/ 336 (51) : ترجي: 4/ 336: تقر: 4/ 337: كلهن: 4/ 337 (53) : فيستحي: 4/ 342 (56) : وملائكته: 4/ 345 (66) : تقلب: 4/ 351 (67) : سادتنا: 4/ 352 (68) : كبيرا: 4/ 352 (69) : وكان عند الله: 4/ 353 سورة سبأ (34) (2) : ينزل: 4/ 358 (3) : لتأتينكم: 4/ 358: عالم الغيب: 4/ 358: لا يعزب: 4/ 358: ولا أصغر.. ولا أكبر: 4/ 358 (5) : معاجزين: 4/ 359 (6) : الحق: 4/ 359 (9) : إن نشأ: 4/ 360

سورة فاطر (35)

: نخسف: 4/ 360: كسفا: 4/ 360 (10) : أوبي: 4/ 362: والطير: 4/ 362 (12) : الريح: 4/ 363 (14) : الأرض: 4/ 364: منسأته: 4/ 364: تبينت: 4/ 365 (15) : لسبأ: 4/ 366: في مساكنهم: 4/ 367 (16) : أكل: 4/ 368: خمط: 4/ 368: نجازي: 4/ 368 (19) : ربنا: 4/ 369: باعد: 4/ 369: بين: 4/ 370 (20) : صدق: 4/ 370: ظنه: 4/ 370 (23) : أذن: 4/ 372: فزع: 4/ 372 (30) : ميعاد يوم: 4/ 376 (33) : مكر: 4/ 377 (37) : جزاء الضعف: 4/ 379: في الغرفات: 4/ 379 (48) : علام: 4/ 383 (50) : ضللت: 4/ 384 (52) : التناوش: 4/ 385 (53) : ويقذفون: 4/ 385 سورة فاطر (35) (1) : فاطر: 4/ 387: جاعل: 4/ 387: رسلا: 4/ 387 (3) : غير: 4/ 388 (4) : ترجع: 4/ 388 (5) : الغرور: 4/ 389 (8) : نفسك: 4/ 389: حسرات: 4/ 389 (9) : الرياح: 4/ 390 (10) : يصعد: 4/ 391: والكلم الطيب: 4/ 391 (11) : ولا ينقص: 4/ 393: عمره: 4/ 393 (12) : سائغ: 4/ 393: ملح: 4/ 393 (18) : ومن تزكى فإنما يتزكى: 4/ 396 (22) : بمسمع: 4/ 397 (27) : جدد: 4/ 399: ألوانها: 4/ 399 (28) : والدواب: 4/ 399: الله ... العلماء: 4/ 399 (33) : جنات: 4/ 402: يدخلونها: 4/ 402: يحلون: 4/ 402: لؤلؤا: 4/ 402 (34) : الحزن: 4/ 402 (36) : فيموتوا: 4/ 406

سورة يس (36)

: نجزي: 4/ 406 (37) : ما يتذكر: 4/ 406 (38) : غيب السموات: 4/ 407 (40) : بينة: 4/ 407 (43) : ومكر السيىء: 4/ 408 سورة يس (36) (1) : يس: 4/ 412 (5) : تنزيل: 4/ 413 (8) : أعناقهم: 4/ 414 (9) : فأغشيناهم: 4/ 415 (12) : ونكتب: 4/ 416 (14) : فعززنا: 4/ 418 (19) : طائركم: 4/ 418: أئن ذكرتم: 4/ 418 (23) : إن يردني: 4/ 419 (29) : صيحة: 4/ 421 (30) : يا حسرة: 4/ 421 (32) : محضرون: 4/ 422 (33) : الميتة: 4/ 423 (34) : فجرنا: 4/ 423 (35) : ثمره: 4/ 423: عملته: 4/ 423 (38) : لمستقر: 4/ 424 (39) : العرجون: 4/ 424 (49) : يخصمون: 4/ 428 (52) : يا ويلنا: 4/ 429: من بعثنا: 4/ 429 (55) : شغل: 4/ 431: فاكهون: 4/ 431 (56) : ظلال: 4/ 432 (57) : ما يدعون: 4/ 432 (58) : سلام: 4/ 432 (62) : جبلا: 4/ 433 (67) : مكانتهم: 4/ 434: مضيا: 4/ 434 (68) : ننكسه: 4/ 435 (70) : لينذر: 4/ 436 (72) : ركوبهم: 4/ 438 (81) : بقادر: 4/ 441 (83) : ملكوت: 4/ 441: ترجعون: 4/ 441 سورة الصافات (37) (1) : والصافات: 4/ 442 (6) : بزينة الكواكب: 4/ 444 (8) : لا يسمعون: 4/ 444 (9) : دحورا: 4/ 444 (10) : خطف: 4/ 445 (11) : أم من خلقنا: 4/ 446 (12) : عجبت: 4/ 446 (40) : المخلصين: 4/ 450 (42) : مكرمون: 4/ 450 (44) : سرر: 4/ 451 (47) : ينزفون: 4/ 452 (52) : أئنك: 4/ 457 (53) : أإذا: 4/ 455: أئنا: 4/ 455

سورة ص (38)

(54) : مطلعون: 4/ 455 (55) : فاطلع: 4/ 455 (58) : بميتين: 4/ 456 (67) : لشوبا: 4/ 457 (68) : مرجعهم: 4/ 457 (79) : سلام: 4/ 459 (94) : يزفون: 4/ 461 (102) : ماذا ترى: 4/ 464 (103) : أسلما: 4/ 464 (126) : الله ربكم ورب: 4/ 469 (130) : إل ياسين: 4/ 469 (152) : ولد الله: 4/ 474 (153) : أصطفى: 4/ 475 (163) : صال: 4/ 476 (177) : نزل: 4/ 477 سورة ص (38) (1) : ص: 4/ 480 (3) : ولات: 4/ 482 (5) : عجاب: 4/ 483 (14) : عقاب: 4/ 486 (23) : تسع وتسعون: 4/ 489: فتناه: 4/ 489 (29) : مبارك: 4/ 494: ليدبروا: 4/ 494 (41) : أني: 4/ 500: بنصب: 4/ 500 (45) : عبادنا: 4/ 501: الأيدي: 4/ 501 (53) : ما توعدون: 4/ 503 (58) : وآخر: 4/ 506 (63) : سخريا: 4/ 508 (64) : تخاصم: 4/ 508 (75) : بيدي: 4/ 511: أستكبرت: 4/ 511 (84) : فالحق والحق: 4/ 512 سورة الزمر (39) (2) : الدين: 4/ 515 (3) : كفار: 4/ 515 (7) : يرضه: 4/ 518 (8) : ليضل: 4/ 519 (9) : أمن: 4/ 519 (21) : يجعله: 4/ 526 (22) : من ذكر الله: 4/ 526 (23) : مثاني: 4/ 526: من هاد: 4/ 526 (29) : سلما: 4/ 529 (30) : ميت ... ميتون: 4/ 530 (33) : والذي جاء بالصدق وصدق به: 4/ 531 (35) : أسوأ: 4/ 531 (36) : عباده: 4/ 533 (38) : كاشفات ... ممسكات: 4/ 533 (42) : قضى: 4/ 534 (53) : يا عبادي: 4/ 539: لا تقنطوا: 4/ 539

سورة غافر (40)

(56) : يا حسرتا: 4/ 540 (60) : فكذبت ... واستكبرت ... وكنت: 4/ 541 (61) : بمفازتهم: 4/ 541 (64) : تأمروني: 4/ 544 (67) : قدروا: 4/ 544: قبضته: 4/ 545: مطويات: 4/ 545 (68) : قيام: 4/ 545 (69) : وأشرقت: 4/ 546 سورة غافر (40) (1) : حم: 4/ 551 (4) : فلا يغررك: 4/ 552 (6) : كلمة: 4/ 553 (8) : وذرياتهم: 4/ 553 (13) : وينزل: 4/ 555 (15) : لينذر: 4/ 556 (20) : يدعون: 4/ 558 (21) : أشد منهم: 4/ 559 (26) : إني أخاف: 4/ 560: أو أن يظهر: 4/ 560 (28) : رجل: 4/ 560 (32) : التناد: 4/ 563 (35) : قلب: 4/ 564 (37) : فأطلع: 4/ 564: وصد: 4/ 564 (38) : الرشاد: 4/ 565 (40) : يدخلون: 4/ 565 (46) : أدخلوا: 4/ 567 (48) : كل: 4/ 567 (52) : لا ينفع: 4/ 568 (58) : ما تتذكرون: 4/ 570 (60) : سيدخلون: 4/ 571 (62) : خالق: 4/ 571 (64) : صوركم: 4/ 572 (67) : شيوخا: 4/ 574 (71) : يسحبون: 4/ 574 سورة فصلت (41) (3) : فصلت: 4/ 579 (5) : وقر: 4/ 579 (6) : يوحى: 4/ 580 (9) : أئنكم: 4/ 581 (10) : سواء: 4/ 581 (11) : ائتيا: 4/ 582: كرها: 4/ 582 (13) : صاعقة: 4/ 582 (16) : نحسات: 4/ 585 (17) : ثمود: 4/ 586 (19) : يحشر: 4/ 586 (24) : يستعتبوا: 4/ 588: المعتبين: 4/ 588 (26) : والغوا: 4/ 589 (29) : أرنا: 4/ 590 (44) : أأعجمي: 4/ 595: عمى: 4/ 596

سورة الشورى (42)

سورة الشورى (42) (3) : يوحي: 4/ 602 (5) : يتفطرن: 4/ 602 (7) : فريق: 4/ 603 (11) : فاطر: 4/ 604 (14) : أورثوا: 4/ 608 (30) : فبما كسبت: 4/ 617 (32) : الجوار: 4/ 617 (33) : الريح: 4/ 618: فيظللن: 4/ 618 (34) : ويعف: 4/ 618 (35) : ويعلم: 4/ 618 (37) : كبائر: 4/ 619 (51) : أو يرسل: 4/ 624: فيوحي: 4/ 624 (52) : لتهدي: 4/ 625 سورة الزخرف (43) (5) : مسرفين: 4/ 627 (10) : مهدا: 4/ 627 (11) : ميتا: 4/ 628: تخرجون: 4/ 628 (13) : سبحان الذي سخر لنا هذا: 4/ 628 (18) : ينشأ: 4/ 629 (19) : عباد: 4/ 630: ستكتب شهادتهم: 4/ 630 (22) : أمة: 4/ 632 (32) : معيشتهم: 4/ 634 (33) : سقفا: 4/ 635 (35) : لما: 4/ 635 (36) : ومن يعش: 4/ 637 (53) : أسورة: 4/ 641 (56) : سلفا: 4/ 641 (57) : يصدون: 4/ 642 (58) : أآلهتنا: 4/ 643: جدلا: 4/ 643 (61) : لعلم: 4/ 643: واتبعون: 4/ 643 (63) : وأطيعون: 4/ 643 (71) : تشتهيه: 4/ 645 (76) : الظالمين: 4/ 647 (77) : يا مالك: 4/ 647 (81) : ولد: 4/ 648: العابدين: 4/ 648 (83) : يلاقوا: 4/ 649 (84) : وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إله: 4/ 649: ترجعون: 4/ 649 (88) : وقيله: 4/ 650 (89) : يعلمون: 4/ 650 سورة الدخان (44) (4) : يفرق: 4/ 653 (7) : رب: 4/ 654 (8) : ربكم ورب: 4/ 654 (16) : نبطش: 4/ 655 (17) : فتنا: 4/ 657

سورة الجاثية (45)

(18) : إني: 4/ 657 (22) : أن: 4/ 657 (23) : فأسر: 4/ 657 (24) : إنهم: 4/ 658 (26) : ومقام: 4/ 658 (27) : فاكهين: 4/ 658 (31) : من فرعون: 4/ 659 (38) : وما بينهما: 4/ 661 (45) : يغلي: 4/ 662 (47) : فاعتلوه: 4/ 662 (49) : إنك: 4/ 663 (51) : مقام: 4/ 663 (56) : وقاهم: 4/ 663 سورة الجاثية (45) (3) : لآيات: 5/ 5 (5) : آيات: 5/ 6 (9) : علم: 5/ 6 (11) : أليم: 5/ 7 (21) : سواء: 5/ 10 (23) : غشاوة: 5/ 11 (25) : حجتهم: 5/ 11 (28) : كل أمة: 5/ 13 (35) : لا يخرجون: 5/ 14 (36) : رب: 5/ 14 سورة الأحقاف (46) (9) : بدعا: 5/ 18: يوحى: 5/ 19 (12) : ومن: 5/ 21: لينذر: 5/ 21 (15) : حسنا: 5/ 21: كرها: 5/ 22: وفصاله: 5/ 22 (16) : نتقبل: 5/ 23: ونتجاوز: 5/ 23 (17) : أف: 5/ 25: أتعدانني: 5/ 25 (19) : ليوفيهم: 5/ 26 (25) : تدمر: 5/ 28: لا يرى: 5/ 28 (28) : إفكهم: 5/ 29 (29) : قضي: 5/ 31 (33) : ولم يعي: 5/ 32: بقادر: 5/ 32 (35) : بلاغ: 5/ 33: يهلك: 5/ 33 سورة محمد (47) (4) : فشدوا: 5/ 37: فداء: 5/ 37: قتلوا: 5/ 38 (15) : آسن: 5/ 41: لذة: 5/ 41 (20) : فإذا أنزلت: 5/ 45: محكمة: 5/ 45: وذكر: 5/ 45 (22) : توليتم: 5/ 46

سورة الفتح (48)

وتقطعوا: 5/ 46 (24) : أقفالها: 5/ 46 (25) : وأملي: 5/ 47 (26) : إسرارهم: 5/ 47 (27) : توفتهم: 5/ 47 (31) : ولنبلونكم ... نعلم ... نبلو: 5/ 48 (35) : وتدعوا: 5/ 50 (37) : ويخرج: 5/ 50 سورة الفتح (48) (6) : السوء: 5/ 54 (9) : لتؤمنوا: 5/ 56 (10) : عليه: 5/ 57 فسيؤتيه: 5/ 57 (11) : ضرا: 5/ 57 (12) : وزين: 5/ 58 (15) : كلام الله: 5/ 58 (16) : يسلمون: 5/ 60 (17) : يدخله: 5/ 60 (25) : والهدي: 5/ 63: لو تزيلوا: 5/ 64 (29) : أشداء: 5/ 66: رحماء: 5/ 66: شطأه: 5/ 66: سوقه: 5/ 66 سورة الحجرات (49) (1) : لا تقدموا: 5/ 69 (4) : الحجرات: 5/ 70 (6) : فتبينوا: 5/ 71 (9) : اقتتلوا: 5/ 74 (10) : أخويكم: 5/ 74 (12) : تجسسوا: 5/ 76 (13) : لتعارفوا: 5/ 79: إن أكرمكم: 5/ 79 (14) : لا يلتكم: 5/ 80 (17) : أن هداكم: 5/ 81 (18) : تعملون: 5/ 81 سورة ق (50) (1) : ق: 5/ 84 (3) : أئذا متنا: 5/ 84 (5) : لما: 5/ 85 (11) : ميتا: 5/ 86 (15) : أفعيينا: 5/ 87 (22) : كنت: 5/ 90 (30) : نقول: 5/ 92 (32) : توعدون: 5/ 92 (36) : نقبوا: 5/ 95 (40) : وأدبار: 5/ 96 (44) : تشقق: 5/ 96 سورة الذاريات (51) (2) : وقرا: 5/ 98 (7) : الحبك: 5/ 99 (13) : يوم: 5/ 100 (22) : رزقكم: 5/ 102

سورة الطور (52)

(23) : مثل: 5/ 102 (25) : سلام: 5/ 105 (44) : الصاعقة: 5/ 108 (46) : وقوم: 5/ 109 (47) : والسماء: 5/ 109 (48) : والأرض: 5/ 109 (56) : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون: 5/ 110 (58) : الرزاق: 5/ 111: المتين: 5/ 111 سورة الطور (52) (3) : رق: 5/ 113 (13) : دعا: 5/ 115 (18) : فاكهين: 5/ 115 (20) : سرر: 5/ 116: بحور عين: 5/ 116 (21) : واتبعتهم: 5/ 117 وما ألتناهم: 5/ 117 (23) : لا لغو فيها ولا تأثيم: 5/ 118 (28) : إنه: 5/ 119 (30) : نتربص: 5/ 119 (37) : المصيطرون: 5/ 122 (44) : كسفا: 5/ 123 (45) : يلاقوا: 5/ 123 (49) : إدبار: 5/ 123 سورة النجم (53) (11) : ما كذب: 5/ 128 (12) : أفتمارونه: 5/ 128 (15) : جنة: 5/ 129 (19) : اللات: 5/ 129 (20) : مناة: 5/ 130 (22) : ضيزى: 5/ 131 (23) : يتبعون: 5/ 132 (28) : وما لهم به: 5/ 134 (31) : ليجزي: 5/ 135 (32) : كبائر: 5/ 135 (47) : النشأة: 5/ 140 (50) : عادا الأولى: 5/ 141 (55) : تتمارى: 5/ 141 سورة القمر (54) (3) : مستقر: 5/ 146 (4) : مزدجر: 5/ 146 (5) : حكمة بالغة: 5/ 146 (6) : نكر: 5/ 146 (7) : خشعا: 5/ 147 (10) : أني: 5/ 148 (11) : ففتحنا: 5/ 148 (12) : فجرنا: 5/ 148 (14) : كفر: 5/ 149 (19) : في يوم نحس: 5/ 150 (24) : أبشرا: 5/ 151 (25) : أشر: 5/ 152 (26) : سيعلمون: 5/ 152

سورة الرحمن (55)

(28) : قسمة: 5/ 152 (31) : المحتظر: 5/ 153 (45) : سيهزم: 5/ 155: ويولون: 5/ 155 (49) : كل: 5/ 155 (54) : ونهر: 5/ 156 (55) : مقعد: 5/ 156 سورة الرحمن (55) (7) : والسماء: 5/ 159 (9) تخسروا: 5/ 159 (12) : والحب ذو العصف والريحان: 5/ 160 (22) : يخرج: 5/ 161 (24) : الجوار: 5/ 162: المنشآت: 5/ 162 (27) : ذو الجلال: 5/ 163 (31) : سنفرغ: 5/ 164: أيه: 5/ 164 (35) : يرسل: 5/ 165: شواظ: 5/ 165: نحاس: 5/ 165 (54) : فرش: 5/ 169: جنى: 5/ 169 (56) : يطمثهن: 5/ 170 (70) : خيرات: 5/ 171 (76) : متكئين: 5/ 172: رفرف: 5/ 172: خضر: 5/ 172 عبقري: 5/ 172 (78) : ذي الجلال: 5/ 173 سورة الواقعة (56) (3) : خافضة رافعة: 5/ 177 (6) : منبثا: 5/ 177 (12) : جنات: 5/ 179 (15) : سرر: 5/ 179 (19) : لا يصدعون: 5/ 180 (22) : وحور عين: 5/ 180 (26) : سلاما سلاما: 5/ 181 (52) : شجر: 5/ 185 (56) : نزلهم: 5/ 186 (58) : تمنون: 5/ 188 (62) : النشأة: 5/ 189 (65) فظلتم: 5/ 189: تفكهون: 5/ 189 (66) : إنا: 5/ 189 (75) : بمواقع: 5/ 192 (79) : المطهرون: 5/ 193 (82) : رزقكم: 5/ 194 (89) : فروح: 5/ 194 (94) : وتصلية: 5/ 195 سورة الحديد (57) (5) : ترجع: 5/ 199 (10) : وكلا: 5/ 202 (11) : فيضاعفه: 5/ 202

سورة المجادلة (58)

(12) : بأيمانهم: 5/ 204 (13) : انظرونا: 5/ 204 (14) : الغرور: 5/ 205 (16) : ألم يأن: 5/ 206: نزل: 5/ 207: يكونوا: 5/ 207: الأمد: 5/ 207 (18) : المصدقين: 5/ 207: المصدقات: 5/ 207 (20) : وتفاخر: 5/ 209: مصفرا: 5/ 210 (23) : آتاكم: 5/ 211 (24) : بالبخل: 5/ 211: الغني: 5/ 212 (27) : ورهبانية: 5/ 214 (29) : لئلا يعلم: 5/ 215 سورة المجادلة (58) (2) : يظاهرون: 5/ 218: أمهاتهم: 5/ 218 (7) : ما يكون: 5/ 223: ولا أكثر: 5/ 223: ويتناجون: 5/ 224: ومعصية: 5/ 224 (11) : تفسحوا: 5/ 226 (16) : أيمانهم: 5/ 229 (22) : عشيرتهم: 5/ 231: كتب: 5/ 231 سورة الحشر (59) (2) : يخربون: 5/ 233 (4) : يشاق: 5/ 234 (5) : مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أصولها: 5/ 234 (7) : يكون: 5/ 236: دولة: 5/ 236 (9) : يوق: 5/ 240: شح: 5/ 240 (14) : جدر: 5/ 243 (16) : إني بريء: 5/ 244 (17) : عاقبتهما: 5/ 244: خالدين: 5/ 244 (23) : القدوس: 5/ 246 (24) : المصور: 5/ 248 سورة الممتحنة (60) (1) : بما جاءكم: 5/ 250 (3) : يفصل: 5/ 251 (4) : أسوة: 5/ 253: برآء: 5/ 253 (10) : تمسكوا: 5/ 256 سورة الصف (61) (4) : يقاتلون: 5/ 262 (6) : سحر: 5/ 263 (7) : يدعى: 5/ 263

سورة الجمعة (62)

(8) : متم نوره: 5/ 263 (10) : تنجيكم: 5/ 264 (11) : تؤمنون: 5/ 265: تجاهدون: 5/ 265 سورة الجمعة (62) (1) : الملك القدوس العزيز الحكيم: 5/ 267 (6) : فتمنوا: 5/ 269 (9) : الجمعة: 5/ 270 سورة المنافقون (63) (2) : أيمانهم: 5/ 275 (3) : فطبع: 5/ 275 (4) : خشب: 5/ 275 (5) : لووا: 5/ 276 (6) : أستغفرت: 5/ 276 (7) : ينفضوا: 5/ 277 (10) : فأصدق: 5/ 278: وأكن: 5/ 278 (11) : تعملون: 5/ 279 سورة التغابن (64) (3) : صوركم: 5/ 281 (9) : يجمعكم: 5/ 282: يكفر: 5/ 283: يدخله: 5/ 283 (11) : يهد: 5/ 283 سورة الطلاق (65) (3) : بالغ أمره: 5/ 289 (11) : مبينات: 5/ 295: يدخله: 5/ 295 (12) : مثلهن: 5/ 295: يتنزل الأمر: 5/ 296 سورة التحريم (66) (3) : عرّف: 5/ 298 (4) : تظاهرا: 5/ 299 (8) : نصوحا: 5/ 303 (12) : وصدقت: 5/ 305: بكلمات: 5/ 305 سورة الملك (67) (3) : تفاوت: 5/ 309 (4) : ينقلب: 5/ 309 (6) : عذاب: 5/ 310 (8) : تميز: 5/ 310 (11) : فسحقا: 5/ 311 (16) : أأمنتم: 5/ 313 (27) : أمن: 5/ 314: سيئت: 5/ 314: تدعون: 5/ 316 (29) : فستعلمون: 5/ 316 سورة القلم (68) (1) : ن: 5/ 318 (6) : بأيكم المفتون: 5/ 319

سورة الحاقة (69)

(14) : أن كان: 5/ 321 (25) : حرد: 5/ 325 (32) : يبدلنا: 5/ 326 (38) : إن: 5/ 327 (42) : يكشف: 5/ 328 (49) : تداركه: 5/ 330 (51) : ليزلقونك: 5/ 330 سورة الحاقة (69) (9) : قبله: 5/ 335: المؤتفكات: 5/ 335 (12) : وتعيها: 5/ 336 (14) : وحملت: 5/ 336 (19) : اقرؤوا كتابيه: 5/ 339 (37) : الخاطئون: 5/ 341 (44) : تقول: 5/ 342 سورة المعارج (70) (1) : سأل سائل: 5/ 344 (3) : ذي المعارج: 5/ 345 (10) : ولا يسأل: 5/ 346 (11) : يبصرونهم: 5/ 347: عذاب يومئذ: 5/ 347 (16) : نزاعة: 5/ 347 (32) : لأماناتهم: 5/ 350 (33) : بشهاداتهم: 5/ 350 (38) : أن يدخل: 5/ 352 (40) : المشارق والمغارب: 5/ 353 (42) : يلاقوا: 5/ 353 (43) : يخرجون: 5/ 353: نصب: 5/ 353 سورة نوح (71) (1) : أنذر: 5/ 355 (6) : دعائي: 5/ 356 (7) : إني: 5/ 357 (21) : وولده: 5/ 359 (22) : كبارا: 5/ 360 (23) : ودا: 5/ 360: ولا يغوث ويعوق: 5/ 360 (25) : خطيئاتهم: 5/ 361: أغرقوا: 5/ 361 (28) : ولوالدي: 5/ 361 سورة الجن (72) (1) : أوحي: 5/ 363 (3) : وأنه تعالى: 5/ 364: جد ربنا: 5/ 365 (4) : وأنه كان: 5/ 364 (6) : وأنه كان: 5/ 364 (13) : فلا يخاف: 5/ 368: بخسا: 5/ 368 (16) : وألو: 5/ 369 (17) : يسلكه: 5/ 370 (19) : لبدا: 5/ 371 (20) : قل: 5/ 371 (25) : ربي: 5/ 372 (26) : عالم الغيب: 5/ 372

سورة المزمل (73)

(28) : ليعلم: 5/ 375 سورة المزمل (73) (1) : المزمل: 5/ 378 (2) : قم: 5/ 378 (6) : وطأ: 5/ 380 (7) : سبحا: 5/ 380 (9) : رب: 5/ 381: المشرق والمغرب: 5/ 381 (14) : ترجف: 5/ 382 (17) : يوما: 5/ 382 (20) : ونصفه وثلثه: 5/ 385: خيرا: 5/ 387: وأعظم: 5/ 387 سورة المدثر (74) (1) : المدثر: 5/ 388 (5) : الرجز: 5/ 389 (6) : لا تمنن: 5/ 390: تستكثر: 5/ 390 (29) : لواحة: 5/ 393 (30) : تسعة عشر: 5/ 394 (33) : والليل إذا أدبر: 5/ 397 (35) : لإحدى: 5/ 397 (36) : نذيرا: 5/ 398 (50) : مستنفرة: 5/ 400 (52) : صحف: 5/ 400: منشرة: 5/ 400 (56) : يذكرون: 5/ 401 سورة القيامة (75) (1) : لا أقسم: 5/ 403 (4) : بلى قادرين: 5/ 403 (7) : برق: 5/ 404 (8) : وخسف: 5/ 405 (9) : وجمع الشمس والقمر: 5/ 405 (10) : أين المفر: 5/ 405 (20) : تحبون: 5/ 407 (21) : تذرون: 5/ 407 (37) : تمنى: 5/ 412 (40) : بقادر: 5/ 412: يحيي: 5/ 412 سورة الإنسان (76) (3) : إما: 5/ 416 (4) : سلاسل: 5/ 416 (6) : يشرب بها: 5/ 418 (14) : دانية: 5/ 422 (15) : قواريرا: 5/ 422 (16) : قواريرا: 5/ 422: قدروها: 5/ 422 (21) : عاليهم: 5/ 424: ثياب سندس: 5/ 424: خضر: 5/ 424 (31) : والظالمين: 5/ 427 سورة المرسلات (77) (1) : عرفا: 5/ 430

سورة النبأ (78)

(5) : فالملقيات: 5/ 430 (6) : عذرا أو نذرا: 5/ 430 (11) : وإذا: 5/ 431 (17) : نتبعهم: 5/ 431 (23) : فقدرنا: 5/ 432 (29) : انطلقوا: 5/ 433 (32) : بشرر: 5/ 434: كالقصر: 5/ 434 (33) : جمالات: 5/ 434 (35) : يوم: 5/ 434 (36) : ولا يؤذن: 5/ 435 (41) : ظلال: 5/ 435 (50) : يؤمنون: 5/ 436 سورة النبأ (78) (1) : عم: 5/ 437 (4) : سيعلمون: 5/ 439 (6) : مهادا: 5/ 439 (19) : وفتحت: 5/ 441 (23) : لابثين: 5/ 442 (25) : غساقا: 5/ 442 (27) : حسابا: 5/ 446 (28) : كذابا: 5/ 443 (29) : وكل: 5/ 443 (37) : رب ... الرحمن: 5/ 446 سورة النازعات (79) (10) : الحافرة: 5/ 452 (11) : نخرة: 5/ 452 (18) : تزكى: 5/ 454 (30) : والأرض: 5/ 458 (32) : والجبال: 5/ 458 (36) : لمن يرى: 5/ 459 (45) : منذر: 5/ 460 سورة عبس (80) (2) : أن جاءه الأعمى: 5/ 463 (4) : فتنفعه: 5/ 463 (6) : تصدى: 5/ 463 (22) : أنشره: 5/ 465 (25) : أنا: 5/ 465 (37) : يغنيه: 5/ 467 سورة التكوير (81) (4) : عطلت: 5/ 470 (5) : حشرت: 5/ 470 (6) : سجرت: 5/ 470 (8) : الموءودة: 5/ 471: سئلت: 5/ 471 (9) : قتلت: 5/ 471 (10) : نشرت: 5/ 471 (12) : سعرت: 5/ 471 (21) : ثم: 5/ 473 (24) : بضنين: 5/ 474 سورة الانفطار (82) (7) : فعدلك: 5/ 479 (9) : تكذبون: 5/ 480

سورة المطففين (83)

(15) : يصلونها: 5/ 480 (19) : يوم: 5/ 480 سورة المطففين (83) (3) : يخسرون: 5/ 483 (14) : كلا: 5/ 485 (24) : تعرف: 5/ 488: نضرة: 5/ 488 (26) : ختامه: 5/ 488 (31) : فكهين: 5/ 489 سورة الانشقاق (84) (12) : ويصلى: 5/ 493 (19) : لتركبن: 5/ 495 سورة البروج (85) (5) : النار: 5/ 500 (8) : نقموا: 5/ 500 (22) : محفوظ: 5/ 503 سورة الطارق (86) (4) : لما: 5/ 508 (7) : يخرج: 5/ 509 سورة الأعلى (87) (16) : بل تؤثرون: 5/ 517 (18) : الصحف: 5/ 517 (19) : صحف: 5/ 517 إبراهيم: 5/ 517 سورة الغاشية (88) (3) : عاملة ناصبة: 5/ 521 (4) : تصلى: 5/ 521 (11) : لا تسمع: 5/ 522 (17) : خلقت: 5/ 524 (18) : رفعت: 5/ 524 (19) : نصبت: 5/ 524 (20) : سطحت: 5/ 524 (22) : بمصيطر: 5/ 524 (24) : فيعذبه الله: 5/ 524 (25) : إيابهم: 5/ 524 سورة الفجر (89) (2) : وليال عشر: 5/ 526 (3) : والوتر: 5/ 527 (4) : يسر: 5/ 527 (6) : بعاد: 5/ 529 (7) : إرم: 5/ 529 (8) : مثلها: 5/ 530 (9) : وثمود: 5/ 530 (16) : فقدر: 5/ 530: ربي: 5/ 534 (18) : تحضون: 5/ 534 (19) : تأكلون: 5/ 534 (20) : تحبون: 5/ 534 (29) : عبادي: 5/ 536

سورة البلد (90)

سورة البلد (90) (6) : لبدا: 5/ 540 (14) : ذي مسغبة: 5/ 542 سورة الشمس (91) (11) : بطغواها: 5/ 547 (14) : فدموم: 5/ 548 (15) : ولا يخاف: 5/ 548 سورة الليل (92) (3) : وما خلق الذكر والأنثى: 5/ 550 (18) : يتزكى: 5/ 553 (20) : إلا ابتغاء: 5/ 553 (21) : يرضى: 5/ 553 سورة الضحى (93) (3) : ما ودعك: 5/ 557 (6) : فآوى: 5/ 558 (8) : عائلا: 5/ 559 (9) : فلا تقهر: 5/ 559 سورة الشرح (94) (1) : نشرح: 5/ 562 (5) : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا: 5/ 564 (6) : إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسرا: 5/ 564 (8) : فارغب: 5/ 565 سورة التين (95) (2) : سينين: 5/ 567 سورة العلق (96) (1) : اقرأ: 5/ 570 (16) : ناصية كاذبة خاطئة: 5/ 573 (18) : سندع: 5/ 573 سورة القدر (97) (4) : تنزل: 5/ 576: أمر: 5/ 576 (5) : مطلع: 5/ 576 سورة البينة (98) (1) : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ والمشركين: 5/ 579 (2) : رسول: 5/ 579 (5) : مخلصين: 5/ 580 (6) : البرية: 5/ 581 سورة الزلزلة (99) (1) : زلزالها: 5/ 584 (6) : ليروا: 5/ 585 (7) : يره: 5/ 585

سورة العاديات (100)

(8) : يره: 5/ 585 سورة العاديات (100) (4) : فأثرن: 5/ 588 (5) : فوسطن: 5/ 589 (10) : حصل: 5/ 590 (11) : لخبير: 5/ 590 سورة القارعة (101) (2) : ما القارعة: 5/ 593 سورة التكاثر (102) (6) : لترون: 5/ 597 سورة العصر (103) (1) : والعصر: 5/ 601 (2) : خسر: 5/ 601 سورة الهمزة (104) (1) : همزة لمزة: 5/ 603 (2) : جمع: 5/ 603: وعدده: 5/ 603 (4) : لينبذن: 5/ 603 (9) : عمد: 5/ 604 سورة قريش (106) (1) : لإيلاف: 5/ 609 سورة الماعون (107) (1) : أرأيت: 5/ 611 (5) : الذين هم عن صلاتهم ساهون: 5/ 612 سورة الكوثر (108) (1) : أعطيناك: 5/ 614 سورة الكافرون (109) (6) : ولي: 5/ 621 سورة المسد (111) (1) : وتب: 5/ 627 (3) : سيصلى: 5/ 627: لهب: 5/ 627 (4) : حمالة: 5/ 628 سورة الإخلاص (112) (1) : أحد: 5/ 633 (4) : كفوا: 5/ 635 سورة الفلق (113) (4) : النفاثات: 5/ 640 سورة الناس (114) (1) : أعوذ: 5/ 642: الناس: 5/ 642

(5) فهرس المفردات اللغوية

(5) فهرس المفردات اللغوية

سورة الفاتحة (1)

سورة الفاتحة (1) (1) : الرحمن: 1/ 21: الرحيم: 1/ 21 (2) : الحمد: 1/ 23: ربّ: 1/ 25: العالمين: 1/ 25 (4) : يوم الدّين: 1/ 26 (6) : الصّراط المستقيم: 1/ 28 (7) : المغضوب عليهم: 1/ 29: الضّالّين: 1/ 30 سورة البقرة (2) (2) : لا ريب فيه: 1/ 39: هدى للمتقين: 1/ 40 (3) : بالغيب: 1/ 40: يقيمون الصّلاة: 1/ 42 (4) : يوقنون: 1/ 43 (5) : هدى: 1/ 44: المفلحون: 1/ 44 (6) : سواء: 1/ 45 (7) : ختم: 1/ 46: غشاوة: 1/ 47 (9) : يخادعون: 1/ 48: يشعرون: 1/ 48 (10) : مرض: 1/ 49 (13) : آمنوا: 1/ 51: السّفهاء: 1/ 51 (14) : لقوا: 1/ 51: خلوا: 1/ 52: شياطينهم: 1/ 52 (15) : يستهزئ: 1/ 52: طغيانهم: 1/ 53: يمدّهم: 1/ 53: يعمهون: 1/ 54 (16) : الضّلالة: 1/ 54 (19) : صيّب: 1/ 57: حذر الموت: 1/ 58 (20) : يخطف: 1/ 58 (21) : خلقهم: 1/ 59 (22) : فراشا: 1/ 60: بناء: 1/ 60: أندادا: 1/ 61 (23) : في ريب: 1/ 62: من دون: 1/ 62- 63 (24) : وقودها: 1/ 63 (25) : وبشّر: 1/ 64- 65: متشابها: 1/ 65 (26) : يضلّ: 1/ 68: إلّا الفاسقين: 1/ 68- 69 (27) : ينقضون: 1/ 69 (29) : استوى: 1/ 72: فسوّاهنّ: 1/ 72 (30) : خليفة: 1/ 74 (31) : آدم: 1/ 76 (34) : أبى: 1/ 79: واستكبر: 1/ 79 (35) : رغدا: 1/ 80 (36) : فأزلّهما: 1/ 80

(40) : إسرائيل: 1/ 87 (42) : تلبسوا: 1/ 88 (44) : بالبر: 1/ 91 (45) : على الخاشعين: 1/ 93 (46) : يظنون: 1/ 94 (48) : شفاعة: 1/ 97 (49) : يسومونكم: 1/ 98: ويستحيون نساءكم: 1/ 98: بلاء: 1/ 98 (50) : فرقنا: 1/ 98 (51) : واعدنا: 1/ 100: اتّخذتم: 1/ 100 (53) : والفرقان: 1/ 101 (55) : جهرة: 1/ 102 (56) : بعثناكم: 1/ 103 (57) : وظلّلنا: 1/ 103: الغمام: 1/ 103: المنّ: 1/ 103: السّلوى: 1/ 104 (58) : رغدا: 1/ 105: حطّة: 1/ 105 (59) : رجزا: 1/ 106 (60) : انفجرت: 1/ 107: مشربهم: 1/ 107: ولا تعثوا: 1/ 107 (61) : من بقلها: 1/ 108: وقثّائها: 1/ 108: وفومها: 1/ 108: أدنى: 1/ 108: اهبطوا: 1/ 108: باءوا: 1/ 109 (62) : هادوا: 1/ 110: والنّصارى: 1/ 110: والصّابئين: 1/ 111 (63) : بقوّة: 1/ 112 (64) : تولّيتم: 1/ 112 (65) : خاسئين: 1/ 113 (66) : نكالا: 1/ 113 (67) : هزوا: 1/ 114 (68) : لا فارض: 1/ 114: ولا بكر: 1/ 115: عوان: 1/ 115 (69) : فاقع: 1/ 115 (71) : لا ذلول: 1/ 115: مسلّمة: 1/ 116: لا شية فيها: 1/ 116 (72) : فادّارأتم: 1/ 118 (74) : يشّقّق: 1/ 119: من خشية الله: 1/ 119 (76) : فتح: 1/ 120- 121: ليحاجّوكم: 1/ 121 (78) : أمّيّون: 1/ 122: أمانيّ: 1/ 123: يظنّون: 1/ 123 (83) : حسنا: 1/ 126: معرضون: 1/ 127 (84) : لا تسفكون: 1/ 127: أقررتم: 1/ 127

(85) : تظاهرون: 1/ 127: أسارى: 1/ 128: تفادوهم: 1/ 128 (87) : وقفّينا: 1/ 129: وأيّدناه بروح القدس: 1/ 129: لا تهوى: 1/ 129 (88) : غلف: 1/ 130 (90) : بغيا: 1/ 132: فباءوا: 1/ 132 (93) : سمعنا وعصينا: 1/ 134: وأشربوا: 1/ 134 (94) : خالصة: 1/ 134 (96) : بمزحزحه: 1/ 135 (100) : نبذه: 1/ 138 (102) : السّحر: 1/ 139: يعلّمان: 1/ 140: فتنة: 1/ 141: خلاق: 1/ 141 (104) : راعنا: 1/ 145: انظرنا: 1/ 145 (106) : ما ننسخ: 1/ 147: ننسها: 1/ 148 (108) : سواء السّبيل: 1/ 149 (109) : فاعفوا: 1/ 149: واصفحوا: 1/ 149 (111) : هودا: 1/ 151: أمانيّهم: 1/ 151: هاتوا: 1/ 151 (112) : أسلم: 1/ 151- 152 (114) : خزي: 1/ 153 (116) : قانتون: 1/ 155 (117) : قضى أمرا: 1/ 155 (118) : يوقنون: 1/ 156 (124) : ابتلى: 1/ 159: فأتمّهنّ: 1/ 160: إماما: 1/ 160: ذرّيّتي: 1/ 160 (125) : مثابة: 1/ 161: وأمنا: 1/ 161 (126) : طهّرا: 1/ 164 (128) : وأرنا مناسكنا: 1/ 165 (129) : ويزكّيهم: 1/ 167 (130) : سفه نفسه: 1/ 168: اصطفيناه: 1/ 168 (135) : ملّة: 1/ 170: حنيفا: 1/ 170 (137) : شقاق: 1/ 171 (138) : صبغة الله: 1/ 171 (139) : أتحاجّوننا: 1/ 172 (142) : السّفهاء: 1/ 174: ما ولّاهم: 1/ 174 (143) : وسطا: 1/ 174: لنعلم: 1/ 175 (144) : شطر: 1/ 177 (147) : من الممترين: 1/ 179 (158) : الصّفا: 1/ 185: والمروة: 1/ 185 (158) : حجّ البيت: 1/ 185- 186

(164) : الفلك: 1/ 189 (166) : الأسباب: 1/ 191 (168) : حلالا: 1/ 193: طيّبا: 1/ 193: خطوات: 1/ 193 (169) : بالسّوء: 1/ 193 (173) : وما أهلّ به: 1/ 196: غير باغ: 1/ 196: ولا عاد: 1/ 196 (174) : ولا يزكّيهم: 1/ 197 (177) : البرّ: 1/ 199: والمساكين: 1/ 199: وابن السّبيل: 1/ 199: وفي الرّقاب: 1/ 199: البأساء: 1/ 199: والضّرّاء: 1/ 199: وحين البأس: 1/ 199- 200 (178) : كتب: 1/ 201: القصاص: 1/ 201 (182) : جنفا: 1/ 205 (183) : الصّيام: 1/ 207 (184) : فعدّة: 1/ 207: يطيقونه: 1/ 208 (185) : رمضان: 1/ 209: القرآن: 1/ 210 (186) : يرشدون: 1/ 213 (187) : الرّفث: 1/ 214: تختانون: 1/ 214: عاكفون: 1/ 215: حدود الله: 1/ 215 (188) : وتدلوا: 1/ 217 (189) : الأهلّة: 1/ 217 (191) : ثقفتموهم: 1/ 219 (194) : الحرمات: 1/ 221 (195) : التّهلكة: 1/ 222 (196) : أحصرتم: 1/ 225: استيسر: 1/ 225 (197) : فرض: 1/ 230: فلا رفث: 1/ 231: ولا فسوق: 1/ 231: ولا جدال: 1/ 231 (198) : أفضتم: 1/ 231: عرفات: 1/ 231 (204) : ألّد الخصام: 1/ 239 (205) : تولّى: 1/ 239 (206) : العزّة: 1/ 239: فحسبه: 1/ 240: المهاد: 1/ 240 (208) : السّلم: 1/ 241: كافّة: 1/ 242 (209) : زللتم: 1/ 242 (210) : ينظرون: 1/ 242: ظلل: 1/ 242 (212) : ويسخرون: 1/ 244 (213) : النّاس: 1/ 245: أمّة: 1/ 245 (214) : زلزلوا: 1/ 247 (217) : حبطت: 1/ 250

(218) : يرجون: 1/ 251 (219) : الخمر: 1/ 252: الميسر: 1/ 252: العفو: 1/ 254 (220) : تخالطوهم: 1/ 255: لأعنتكم: 1/ 255 (222) : المحيض: 1/ 258: أذى: 1/ 259: يطهرن: 1/ 259 (223) : أنّى شئتم: 1/ 260 (224) : عرضة: 1/ 263 (225) : باللّغو: 1/ 264 (226) : يؤلون: 1/ 266: تربّص: 1/ 267: فاءوا: 1/ 267 (227) : عزموا: 1/ 267 (228) : يتربّصن: 1/ 269: قروء: 1/ 269- 270 (232) : تعضلوهنّ: 1/ 279 (233) : لا تضارّ: 1/ 281: فصالا: 1/ 283 (235) : جناح: 1/ 287: أكننتم: 1/ 287: سرّا: 1/ 287 (236) : الموسع: 1/ 290: قدره: 1/ 290: المقتر: 1/ 290 (238) : حافظوا: 1/ 293: الوسطى: 1/ 293: قانتين: 1/ 296 (239) : فرجالا: 1/ 296 (245) : يقرض: 1/ 300: يقبض: 1/ 300: ويبسط: 1/ 300 (246) : عسيتم: 1/ 303 (249) : يطعمه: 1/ 304 (253) : فضّلنا: 1/ 308 (254) : خلّة: 1/ 310 (255) : سنة: 1/ 311: كرسيّه: 1/ 312: يؤده: 1/ 312: العليّ: 1/ 312 (256) : الرّشد: 1/ 316: الغيّ: 1/ 316 (258) : فبهت: 1/ 318 (259) : خاوية: 1/ 320: عروشها: 1/ 320: ننشزها: 1/ 321: يتسنّه: 1/ 321 (260) : ليطمئنّ: 1/ 324: فصرهنّ: 1/ 324 (261) : حبّة: 1/ 326 (264) : رئاء: 1/ 327: صفوان: 1/ 327: صلدا: 1/ 327 (265) : جنّة: 1/ 328: بربوة: 1/ 328: وابل: 1/ 328

سورة آل عمران (3)

: طلّ: 1/ 328 (266) : إعصار: 1/ 330 (267) : تيمّموا: 1/ 331: تغمضوا: 1/ 332 (269) : الحكمة: 1/ 332 (271) : فنعمّا: 1/ 333 (275) : الرّبا: 1/ 338: يتخبّطه: 1/ 339 (280) : فنظرة: 1/ 342 (282) : تداينتم: 1/ 344: سفيها: 1/ 344: تضلّ: 1/ 346: تسأموا: 1/ 346: أقسط: 1/ 347: فرهان: 1/ 348 (286) : لا يكلّف: 1/ 353: إصرا: 1/ 354 سورة آل عمران (3) (3) : بالحقّ: 1/ 358 (4) : ذو انتقام: 1/ 358 (6) : يصوّركم: 1/ 359 (7) : محكمات: 1/ 360: متشابهات: 1/ 360: زيغ: 1/ 361 (11) : كدأب: 1/ 368 (14) : الشّهوات: 1/ 371: المسوّمة: 1/ 371: المآب: 1/ 371 (17) : بالأسحار: 1/ 372 (19) : شهد: 1/ 373 (20) : حاجّوك: 1/ 374 (26) : اللهمّ: 1/ 378: وتعزّ: 1/ 379 (27) : تولج: 1/ 379 (28) : تقاة: 1/ 380 (30) : أمدا: 1/ 381 (33) : اصطفى: 1/ 383 (35) : محرّرا: 1/ 384 (37) : أنبتها: 1/ 384: وكفلها: 1/ 385: المحراب: 1/ 385 (38) : هنالك: 1/ 386 (39) : بكلمة من الله: 1/ 387: سيّدا: 1/ 387: حصورا: 1/ 387 (41) : رمزا: 1/ 388 (44) : أقلامهم: 1/ 388 (45) : المسيح: 1/ 391: عيسى: 1/ 391 (49) : الأكمه: 1/ 392 (52) : أحسّ: 1/ 394: الحواريّون: 1/ 395 (54) : ومكر الله: 1/ 395 (55) : متوفّيك: 1/ 395 (61) : تعالوا: 1/ 398: نبتهل: 1/ 398 (62) : القصص: 1/ 398

(64) : سواء: 1/ 399 (66) : ها أنتم: 1/ 400 (68) : أولى النّاس: 1/ 401 (72) : وجه النّهار: 1/ 402 (78) : يلوون: 1/ 406: ربّانيّين: 1/ 407 (81) : إصري: 1/ 409 (84) : مسلمون: 1/ 410 (88) : ينظرون: 1/ 411 (91) : ملء: 1/ 411 (93) : كلّ الطّعام: 1/ 413 (96) : بكّة: 1/ 415 (99) : تصدّون: 1/ 420: عوجا: 1/ 420 (101) : يعتصم بالله: 1/ 420 (103) : بحبل الله: 1/ 421 (110) : كنتم: 1/ 425 (112) : وباءوا بغضب: 1/ 426 (114) : ويسارعون: 1/ 428 (118) : بطانة: 1/ 430: لا يألونكم: 1/ 430: خبالا: 1/ 431: ودّوا ما عنتّم: 1/ 431 (121) : تبوّئ: 1/ 432 (125) : مسوّمين: 1/ 433 (126) : بشرى: 1/ 433 (127) : طرفا: 1/ 433 (133) : وسارعوا: 1/ 436 (134) : والكاظمين: 1/ 437 (135) : ولم يصرّوا: 1/ 437 (137) : سنن: 1/ 439 (140) : قرح: 1/ 440: شهداء: 1/ 440 (141) : وليمحّص: 1/ 441: ويمحق: 1/ 441 (145) : كتابا مؤجّلا: 1/ 442 (146) : وكأيّن: 1/ 442: ربّيّون: 1/ 443 (151) : الرّعب: 1/ 445 (152) : تحسّونهم: 1/ 446 (153) : تصعدون: 1/ 446: ولا تلوون: 1/ 447: غمّا: 1/ 447 (154) : أمنة: 1/ 448: أهمّتهم أنفسهم: 1/ 448: وليبتلي: 1/ 449 (156) : غزّى: 1/ 450 (159) : فظّا: 1/ 451: غليظ القلب: 1/ 451: لا نفضّوا: 1/ 451 (161) : أن يغلّ: 1/ 452: توفّى: 1/ 452 (162) : باء: 1/ 452 (164) : من أنفسهم: 1/ 452 (165) : مصيبة: 1/ 454 (168) : فادرءوا: 1/ 455 (171) : بنعمة من الله: 1/ 458: وفضل: 1/ 458

سورة النساء (4)

(173) : حسبنا: 1/ 458 (174) : لم يمسسهم: 1/ 458 (179) : حتّى يميز: 1/ 463 (185) : ذائقة: 1/ 467: زحزح: 1/ 467: الغرور: 1/ 467 (186) : لتبلونّ: 1/ 468 (187) : فنبذوه: 1/ 468 (188) : بمفازة: 1/ 469 (191) : باطلا: 1/ 471 (192) : أخزيته: 1/ 471 (195) : فاستجاب: 1/ 473 (196) : فلا يغرّنّك: 1/ 474 (200) : اصبروا وصابروا: 1/ 475: ورابطوا: 1/ 475 سورة النساء (4) (1) : تساءلون: 1/ 479: والأرحام: 1/ 480- 481 (2) : اليتامى: 1/ 481: حوبا: 1/ 482 (3) : تعولوا: 1/ 484 (4) : نحلة: 1/ 485: هنيئا مريئا: 1/ 485 (5) : قياما: 1/ 489 (6) : آنستم: 1/ 490: إسرافا: 1/ 491: وبدارا: 1/ 491: حسيبا: 1/ 491 (10) : وسيصلون: 1/ 494: سعيرا: 1/ 494 (12) : كلالة: 1/ 500: غير مضارّ: 1/ 501 (15) : اللّاتي: 1/ 504: الفاحشة: 1/ 504 (16) : اللّذان: 1/ 504 (17) : بجهالة: 1/ 505 (19) : ولا تعضلوهنّ: 1/ 507: بفاحشة: 1/ 507 (21) : أفضى: 1/ 508 (22) : ومقتا: 1/ 508 (23) : وربائبكم: 1/ 512: وحلائل: 1/ 513 (24) : والمحصنات: 1/ 516: غير مسافحين: 1/ 517 (25) : طولا: 1/ 518: أخدان: 1/ 519: العنت: 1/ 521 (29) : بالباطل: 1/ 526: عدوانا: 1/ 527 (31) : مدخلا: 1/ 528: كريما: 1/ 528 (32) : ولا تتمنّوا: 1/ 530 (34) : قوّامون: 1/ 531: قانتات: 1/ 531: حافظات للغيب: 1/ 531: نشوزهنّ: 1/ 532: واهجروهنّ: 1/ 532

: في المضاجع: 1/ 532 (36) : إحسانا: 1/ 535: الجنب: 1/ 536: والصّاحب بالجنب: 1/ 537 (38) : قرينا: 1/ 538 (40) : مثقال: 1/ 538: ذرّة: 1/ 538 (43) : لا تقربوا: 1/ 540: سكارى: 1/ 540: جنبا: 1/ 541: إلا عابري سبيل: 1/ 541- 542: الغائط: 1/ 542: لامستم النساء: 1/ 542: فتيمّموا: 1/ 544: صعيدا: 1/ 544: طيّبا: 1/ 545 (46) : ليّا بألسنتهم: 1/ 548 (47) : نطمس: 1/ 549 (49) : فتيلا: 1/ 551 (51) : بالجبت: 1/ 551 (53) : نقيرا: 1/ 552 (55) : صدّ عنه: 1/ 552 (56) : نضجت: 1/ 554 (57) : ظلّا ظليلا: 1/ 555 (59) : تنازعتم: 1/ 556: تأويلا: 1/ 556 (63) : قولا بليغا: 1/ 558 (65) : شجر: 1/ 558: حرجا: 1/ 558 (71) : حذركم: 1/ 561: فانفروا: 1/ 561: ثبات: 1/ 561 (72) : ليبطّئنّ: 1/ 561: بروج: 1/ 564 (78) : مشيّدة: 1/ 564 (81) : برزوا: 1/ 565: بيّت: 1/ 566 (82) : يتدبّرون: 1/ 567: اختلافا: 1/ 567 (84) : حرّض: 1/ 568: تنكيلا: 1/ 569 (85) : يشفع شفاعة: 1/ 569: مقيتا: 1/ 569 (86) : حيّيتم بتحيّة: 1/ 569: حسيبا: 1/ 570 (88) : أركسهم: 1/ 571 (90) : يصلون: 1/ 572: حصرت: 1/ 572 (91) : أركسوا: 1/ 573: ثقفتموهم: 1/ 573: سلطانا مبينا: 1/ 573 (92) : ودية مسلّمة: 1/ 575 (93) : متعمّدا: 1/ 575: ضربتم: 1/ 578 (94) : فتبيّنوا: 1/ 578: السّلم: 1/ 578: عرض: 1/ 579 (98) : حيلة: 1/ 583

سورة المائدة (5)

(100) : مراغما: 1/ 583 (101) : يفتنكم: 1/ 586 (103) : كتابا موقوتا: 1/ 588 (104) : ولا تهنوا: 1/ 589 (105) : خصيما: 1/ 590 (107) : يختانون: 1/ 590 (108) : يستخفون: 1/ 590 (112) : بهتانا: 1/ 592- 593 (114) : نجواهم: 1/ 593 (115) : يشاقق: 1/ 594 (117) : إناثا: 1/ 595: مريدا: 1/ 595 (119) : فليبتّكنّ: 1/ 596 (120) : غرورا: 1/ 596 (121) : محيصا: 1/ 597 (122) : قيلا: 1/ 597 (125) : خليلا: 1/ 598 (127) : يفتيكم: 1/ 599 (128) : نشوزا: 1/ 601: إعراضا: 1/ 601 (135) : قوّامين: 1/ 604: شهداء لله: 1/ 604: تلووا: 1/ 604 (141) : يتربّصون: 1/ 608: نستحوذ: 1/ 608 (142) : يخادعون الله: 1/ 610 (143) : مذبذبين: 1/ 610: ومن يضلل الله: 1/ 610 (145) : الدّرك: 1/ 611 (153) : جهرة: 1/ 614 (155) : غلف: 1/ 615 (162) : الرّاسخون: 1/ 618 (163) : زبورا: 1/ 620 (171) : لا تغلوا: 1/ 622 (172) : يستنكف: 1/ 625 سورة المائدة (5) (1) : أوفوا: 2/ 6: العقود: 2/ 6: بهيمة الأنعام: 2/ 6 (2) : آمّين: 2/ 8: ولا يجرمنّكم: 2/ 8 (3) : والمنخنقة: 2/ 11: والموقوذة: 2/ 11: السّبع: 2/ 12: النّصب: 2/ 12: الأزلام: 2/ 13: مخمصة: 2/ 14: متجانف: 2/ 14 (4) : الطّيّبات: 2/ 16: مكلّبين: 2/ 16 (12) : وعزّرتموهم: 2/ 26: قاسية: 2/ 26 (13) : خائنة: 2/ 26 (19) : فترة: 2/ 30 (22) : جبّارين: 2/ 32 (25) : فافرق: 2/ 33 (26) : يتيهون: 2/ 34

سورة الأنعام (6)

(29) : تبوء: 2/ 37 (31) : يا ويلتى: 2/ 37 (33) : خزي: 2/ 43 (35) : الوسيلة: 2/ 44 (38) : نكالا: 2/ 46 (41) : لا يحزنك: 2/ 47: يحرّفون الكلم: 2/ 48 (42) : للسّحت: 2/ 48 (48) : ومهيمنا: 2/ 55: شرعة: 2/ 56: ومنهاجا: 2/ 56 (52) : دائرة: 2/ 58 (54) : أذلّة: 2/ 59 (59) : تنقمون: 2/ 62 (60) : مثوبة: 2/ 63 (64) : مغلولة: 2/ 66: مبسوطتان: 2/ 66 (75) : صدّيقة: 2/ 74: يؤفكون: 2/ 74 (82) : قسّيسين: 2/ 77: ورهبانا: 2/ 78 (89) : عقّدتم: 2/ 81: فكفّارته: 2/ 82: كسوتهم: 2/ 82: تحرير رقبة: 2/ 82 (94) : ليبلونّكم: 2/ 88 (95) : متعمّدا: 2/ 88: وبال: 2/ 89 (96) : وللسّيّارة: 2/ 90 (97) : والقلائد: 2/ 90 (101) : تبد لكم: 2/ 92 (103) : بحيرة: 2/ 93: سائبة: 2/ 93- 94: وصيلة: 2/ 94: حام: 2/ 94 (105) : عليكم أنفسكم: 2/ 96 (106) : تحبسونهما: 2/ 99 (107) : عثر: 2/ 100 (110) : أيّدتك: 2/ 104 (113) : وتطمئنّ قلوبنا: 2/ 106 (116) : سبحانك: 2/ 108 (117) : شهيدا: 2/ 108: توفّيتني: 2/ 108 سورة الأنعام (6) (2) : تمترون: 2/ 113 (6) : مكّنّاهم: 2/ 115: مدرارا: 2/ 116 (9) : وللبسنا: 2/ 116 (10) : فحاق: 2/ 127 (12) : ليجمعنّكم: 2/ 118 (18) : القاهر: 2/ 120 (21) : افترى: 2/ 121 (24) : ضلّ: 2/ 123 (25) : أكنّة: 2/ 123: وقرا: 2/ 123: أساطير الأوّلين: 2/ 123 (26) : وينأون: 2/ 124

(31) : السّاعة: 2/ 126: بغتة: 2/ 126: يا حسرتنا: 2/ 126: فرّطنا: 2/ 126: أوزارهم: 2/ 127 (35) : نفقا: 2/ 128: سلّما: 2/ 128 (38) : دابّة: 2/ 130: بجناحيه: 2/ 130: أمم: 2/ 130: ما فرّطنا: 2/ 130 (40) : أرأيتكم: 2/ 132: بالبأساء: 2/ 132 (43) : والضّرّاء: 2/ 132: يتضرّعون: 2/ 132 (44) : بغتة: 2/ 133: مبلسون: 2/ 133 (45) : دابر: 2/ 133 (46) : يصدفون: 2/ 134 (52) : يدعون: 2/ 136 (53) : فتنّا: 2/ 136: منّ: 2/ 136 (54) : بجهالة: 2/ 137: نفصّل: 2/ 137: ولتستبين: 2/ 137 (56) : ضللت: 2/ 139 (57) : بيّنة: 2/ 139: يقصّ: 2/ 140 (59) : مفاتح الغيب: 2/ 140 (60) : يتوفّاكم باللّيل: 2/ 141: جرحتم: 2/ 142 (61) : لا يفرّطون: 2/ 142 (62) : مولاهم: 2/ 142 (64) : ظلمات البرّ والبحر: 2/ 143: خفية: 2/ 143: الكرب: 2/ 143 (65) : يلبسكم شيعا: 2/ 144 (66) : بوكيل: 2/ 145 (67) : لكل نبأ مستقرّ: 2/ 146 (69) : ذكرى: 2/ 147 (70) : ذر: 2/ 147: تبسل: 2/ 147: وإن تعدل: 2/ 147: من حميم: 2/ 148 (71) : استهوته: 2/ 148 (73) : الصّور: 2/ 149 (74) : آزر: 2/ 151 (75) : ملكوت: 2/ 152 (76) : جنّ: 2/ 152: أفل: 2/ 152 (77) : بازغا: 2/ 153 (87) : واجتبيناهم: 2/ 156 (90) : اقتده: 2/ 157 (91) : قدروا: 2/ 158 (93) : الهون: 2/ 160 (94) : فرادى: 2/ 160: خوّلناكم: 2/ 160 (95) : فالق الحبّ: 2/ 162

(96) : سكنا: 2/ 163: حسبانا: 2/ 163 (98) : فصّلنا: 2/ 163: فمستقرّ: 2/ 164: ومستودع: 2/ 164 (99) : خضرا: 2/ 164: متراكبا: 2/ 164: طلعها: 2/ 164: قنوان: 2/ 164: دانية: 2/ 164: مشتبها: 2/ 165: وينعه: 2/ 165 (100) : وخرقوا: 2/ 168 (103) : لا تدركه: 2/ 169: الأبصار: 2/ 169: اللّطيف: 2/ 169 (104) : بصائر: 2/ 170 (105) : درست: 2/ 170 (110) : نذرهم: 2/ 174 (111) : قبلا: 2/ 174 (112) : غرورا: 2/ 174 (113) : تصغى: 2/ 175: وليقترفوا: 2/ 175 (114) : مفصّلا: 2/ 176 (116) : يخرصون: 2/ 177 (119) : فصّل: 2/ 178 (122) : ميتا: 2/ 181: نورا: 2/ 181 (123) : أكابر: 2/ 181 (124) : صغار: 2/ 181 (125) : يشرح: 2/ 182: ضيّقا: 2/ 182: حرجا: 2/ 183: يصّعّد: 2/ 183: الرّجس: 2/ 183 (128) : يا معشر: 2/ 183: استمتع: 2/ 183: مثواكم: 2/ 184 (132) : بغافل: 2/ 186 (134) : بمعجزين: 2/ 187 (135) : مكانتكم: 2/ 187 (136) : ذرأ: 2/ 187: بزعمهم: 2/ 187 (138) : حجر: 2/ 190 (139) : خالصة: 2/ 190 (141) : أنشأ: 2/ 191: معروشات: 2/ 191 (142) : حمولة: 2/ 192: وفرشا: 2/ 192 (143) : أزواج: 2/ 194: الضّأن: 2/ 194: المعز: 2/ 194 (146) : ظفر: 2/ 197: الحوايا: 2/ 198 (148) : تخرصون: 2/ 200 (150) : هلمّ: 2/ 200 (151) : إملاق: 2/ 201 (152) : أشدّه: 2/ 202

سورة الأعراف (7)

: وسعها: 2/ 202 (153) : فتفرّق: 2/ 203 (157) : صدف: 2/ 205 (159) : فرّقوا دينهم: 2/ 208 (161) : قيما: 2/ 210 (162) : ونسكي: 2/ 210 (164) : ولا تزر وازرة: 2/ 211 (165) : خلائف: 2/ 212 سورة الأعراف (7) (2) : حرج: 2/ 213 (4) : بياتا: 2/ 214: قائلون: 2/ 214 (5) : دعواهم: 2/ 215 (10) : معايش: 2/ 217 (13) : من الصّاغرين: 2/ 218 (14) : أنظرني: 2/ 219 (16) : أغويتني: 2/ 219 (18) : مذءوما: 2/ 219: مدحورا: 2/ 219 (20) : فوسوس: 2/ 221: وري: 2/ 222: سوآتهما: 2/ 222 (21) : وقاسمهما: 2/ 222 (22) : فدلّاهما: 2/ 222: وطفقا: 2/ 223: يخصفان: 2/ 223 (26) : وريشا: 2/ 224: لباس التّقوى: 2/ 224 (27) : قبيله: 2/ 225 (28) : فاحشة: 2/ 226 (29) : بالقسط: 2/ 226 (33) : الإثم: 2/ 229 (38) : ادّاركوا: 2/ 232: ضعفا: 2/ 232 (40) : يلج: 2/ 234: الجمل: 2/ 234: في سمّ: 2/ 234 (41) : مهاد: 2/ 234: غواش: 2/ 234 (46) : حجاب: 2/ 236 (46) : الأعراف: 2/ 236: بسيماهم: 2/ 237 (47) : تلقاء: 2/ 237 (50) : أفيضوا: 2/ 239 (53) : ينظرون: 2/ 239 (54) : استوى: 2/ 240: العرش: 2/ 241: يغشي: 2/ 241: حثيثا: 2/ 241: تبارك: 2/ 241 (55) : تضرّعا: 2/ 243: وخفية: 2/ 243 (56) : خوفا: 2/ 243: وطمعا: 2/ 243 (57) : الرّياح: 2/ 244: بشرا: 2/ 244: أقلّت: 2/ 244

(58) : نكدا: 2/ 245 (60) : الملأ: 2/ 247 (62) : وأنصح: 2/ 247 (71) : رجس: 2/ 249 (74) : ولا تعثوا: 2/ 251 (77) : فعقروا النّاقة: 2/ 251: وعتوا: 2/ 251 (78) : الرّجفة: 2/ 251 (83) : من الغابرين: 2/ 253 (85) : ولا تبخسوا: 2/ 253 (86) : وتصدّون: 2/ 255 (89) : افتح: 2/ 257 (92) : لم يغنوا: 2/ 257 (93) : آسى: 2/ 257 (95) : حتى عفوا: 2/ 259 (97) : بياتا: 2/ 259 (98) : ضحى: 2/ 260 (103) : وملائه: 2/ 262 (105) : حقيق: 2/ 263 (111) : أرجه: 2/ 264 (117) : تلقف: 2/ 265: يأفكون: 2/ 265 (123) : لمكر: 2/ 267 (126) : تنقم: 2/ 267: أفرغ: 2/ 267 (127) : قاهرون: 2/ 268 (130) : بالسّنين: 2/ 270 (131) : يطّيّروا: 2/ 270 (133) : الطّوفان: 2/ 271: والقمّل: 2/ 271: مفصّلات: 2/ 271 (134) : الرّجز: 2/ 271 (135) : ينكثون: 2/ 272 (136) : في اليمّ: 2/ 272 (137) : يستضعفون: 2/ 273: تمّت: 2/ 274: ودمّرنا: 2/ 274: يعرشون: 2/ 274 (138) : وجاوزنا: 2/ 274: يعكفون: 2/ 274 (139) : متبّر: 2/ 274 (143) : تجلّى: 2/ 277: دكّاء: 2/ 277: صعقا: 2/ 277 (145) : في الألواح: 2/ 278 (146) : الرّشد: 2/ 279 (148) : من حليّهم: 2/ 282: خوار: 2/ 282 (149) : سقط في أيديهم: 2/ 282 (150) : أسفا: 2/ 283: أعجلتم: 2/ 283: فلا تشمت: 2/ 283 (152) : نجزي المفترين: 2/ 285 (154) : سكت: 2/ 285 (157) : الأمّي: 2/ 287: إصرهم: 2/ 288: وعزّروه: 2/ 288 (160) : قطّعناهم: 2/ 291

سورة الأنفال (8)

: أسباطا: 2/ 291: فانبجست: 2/ 291: وظلّلنا: 2/ 291 (163) : يعدون: 2/ 292: حيتانهم: 2/ 292: شرّعا: 2/ 292 (165) : بئيس: 2/ 293 (166) : عتوا: 2/ 293 (167) : تأذّن: 2/ 296 (169) : خلف: 2/ 296 (170) : يمسّكون: 2/ 297 (171) : نتقنا: 2/ 298: ظلّة: 2/ 298 (175) : فانسلخ: 2/ 302: فأتبعه: 2/ 302 (176) : أخلد: 2/ 302: يلهث: 2/ 302 (180) : يلحدون: 2/ 305 (182) : سنستدرجهم: 2/ 308 (183) : كيدي: 2/ 309: متين: 2/ 309 (187) : السّاعة: 2/ 311: مرساها: 2/ 311: لا يجلّيها: 2/ 311: حفيّ عنها: 2/ 311 (189) : ليسكن إليها: 2/ 312: تغشّاها: 2/ 312: أثقلت: 2/ 312: فمرّت به: 2/ 312 (193) : لا يتّبعوكم: 2/ 316 (195) : يبطشون: 2/ 316: كيدوني: 2/ 317: فلا تنطرون: 2/ 317 (199) : بالعرف: 2/ 318 (200) : ينزغنّك نزغ: 2/ 318 (201) : طائف: 2/ 318 (202) : يقصرون: 2/ 319 (203) : بصائر: 2/ 319 (205) : وخيفة: 2/ 319: الآصال: 2/ 320 سورة الأنفال (8) (1) : الأنفال: 2/ 323 (2) : وجلت: 2/ 326 (7) : الشّوكة: 2/ 329: دابر: 2/ 329 (9) : تستغيثون: 2/ 330 (11) : أمنة: 2/ 332 (12) : بنان: 2/ 333 (13) : شاقّوا: 2/ 333 (15) : زحفا: 2/ 335 (16) : متحرّفا: 2/ 336 (19) : تستفتحوا: 2/ 339 (26) : يتخطّفكم: 2/ 344 (29) : فرقانا: 2/ 345 (30) : ليثبتوك: 2/ 346: ويمكرون: 2/ 346

سورة التوبة (براءة) (9)

(35) : مكاء: 2/ 349: وتصدية: 2/ 349 (37) : فيركمه: 2/ 350 (42) : العدوة: 2/ 355: الدّنيا: 2/ 355: القصوى: 2/ 355 (45) : لقيتم فئة: 2/ 359: تذهب ريحكم: 2/ 359 (48) : جار لكم: 2/ 360: نكص: 2/ 360 (51) : وأدبارهم: 2/ 362 (52) : كدأب: 2/ 363 (57) : تثقفنّهم: 2/ 364: فشرّد: 2/ 365 (58) : سواء: 2/ 365 (60) : رباط الخيل: 2/ 366 (61) : جنحوا: 2/ 367 (65) : حرّض: 2/ 370 (67) : أسرى: 2/ 371: يثخن: 2/ 371 سورة التوبة (براءة) (9) (1) : براءة: 2/ 379: فسيحوا: 2/ 380 (3) : وأذان: 2/ 380 (4) : ولم يظاهروا: 2/ 384 (5) : انسلخ: 2/ 384: واحصروهم: 2/ 385: مرصد: 2/ 385 (6) : استجارك: 2/ 385 (8) : لا يرقبوا: 2/ 387: إلّا: 2/ 387 (12) : نكثوا: 2/ 389 (16) : وليجة: 2/ 390 (24) : وعشيرتكم: 2/ 395: كسادها: 2/ 395 (25) : مواطن: 2/ 396: رحبت: 2/ 397 (28) : نجس: 2/ 398: عيلة: 2/ 399: الجزية: 2/ 400: عن يد: 2/ 400: صاغرون: 2/ 401 (30) : يضاهئون: 2/ 403: قاتلهم الله: 2/ 403 (31) : أحبارهم: 2/ 403: ورهبانهم: 2/ 403: سبحانه: 2/ 404 (34) : يكنزون: 2/ 406 (36) : كافّة: 2/ 410 (37) : النّسيء: 2/ 410: يواطئوا: 2/ 411 (38) : اثّاقلتم: 2/ 412 (40) : سكينته: 2/ 413 (41) : خفافا: 2/ 414: وثقالا: 2/ 414 (42) : عرضا: 2/ 414: الشّقّة: 2/ 414

سورة يونس (10)

(45) : يتردّدون: 2/ 417 (46) : انبعاثهم: 2/ 418: فثبّطهم: 2/ 418 (47) : ولأوضعوا: 2/ 418: خلالكم: 2/ 418 (55) : وتزهق: 2/ 422 (57) : مغارات: 2/ 422: مدّخلا: 2/ 422: يجمحون: 2/ 422 (58) : يلمزك: 2/ 423 (61) : هو أذن: 2/ 428 (69) : بخلاقهم: 2/ 433: وخضتم: 2/ 433 (79) : يلمزون: 2/ 439 (81) : المخلّفون: 2/ 441: بمقعدهم: 2/ 411 (83) : مع الخالفين: 2/ 442 (86) : أولوا الطّول: 2/ 444 (88) : الخيرات: 2/ 445 (90) : المعذّرون: 2/ 445 (91) : نصحوا: 2/ 446 (97) : الأعراب: 2/ 450: وأجدر: 2/ 450 (98) : مغرما: 2/ 451: الدّوائر: 2/ 451 (99) : قربات: 2/ 451 (101) : مردوا: 2/ 453 (106) : مرجون: 2/ 455 (107) : ضرارا: 2/ 458 (108) : أسّس: 2/ 459 (109) : شفا: 2/ 459: فانهار: 2/ 460: جرف: 2/ 460: هار: 2/ 460 (110) : ريبة: 2/ 460 (112) : التّائبون: 2/ 464: السّائحون: 2/ 465 (114) : لأوّاه: 2/ 467 (117) : يزيغ: 2/ 470 (118) : رحبت: 2/ 470 (120) : موطئا: 2/ 472 (122) : طائفة: 2/ 474 (125) : رجسا: 2/ 475 (128) : عنتّم: 2/ 476 سورة يونس (10) (2) : قدم صدق: 2/ 480 (7) : لا يرجون: 2/ 485 (11) : يعمهون: 2/ 487 (16) : أدراكم: 2/ 490 (22) : وجرين: 2/ 494 (24) : لم تغن: 2/ 498 (25) : دار السّلام: 2/ 498 (26) : الحسنى: 2/ 498: ولا يرهق: 2/ 499: قتر: 2/ 499 (28) : فزيّلنا: 2/ 500

سورة هود (11)

(33) : فسقوا: 2/ 505 (50) : بياتا: 2/ 513 (54) : أسرّوا: 2/ 514 (61) : شأن: 2/ 518: تفيضون: 2/ 518: يعزب: 2/ 519 (66) : يخرصون: 2/ 523 (71) : مقامي: 2/ 525: فأجمعوا: 2/ 525: غمّة: 2/ 525: اقضوا: 2/ 526 (78) : لتلفتنا: 2/ 528 (87) : تبوّءا: 2/ 530 (90) : وجاوزنا: 2/ 533 (91) : بغيا: 2/ 533: وعدوا: 2/ 533 (92) : ببدنك: 2/ 534 (93) : بوّأنا: 2/ 537 (101) : والنّذر: 2/ 541 سورة هود (11) (1) : أحكمت: 2/ 545 (3) : يمتّعكم: 2/ 546 (5) : يثنون: 2/ 546: يستغشون: 2/ 547 (6) : مستقرّها: 2/ 547: ومستودعها: 2/ 547 (15) : لا يبخسون: 2/ 553 (22) : لا جرم: 2/ 557 (23) : أخبتوا: 2/ 558 (28) : أراذلنا: 2/ 560: فعمّيت: 2/ 560 (31) : تزدري: 2/ 562 (34) : يغويكم: 2/ 562 (35) : إجرامي: 2/ 563 (36) : فلا تبتئس: 2/ 564 (40) : وفار التّنّور: 2/ 565 (42) : معزل: 2/ 567 (43) : يعصمني: 2/ 567 (44) : أقلعي: 2/ 568: غيض: 2/ 568: الجوديّ: 2/ 568 (52) : مدرارا: 2/ 573 (59) : جبّار: 2/ 574: عنيد: 2/ 574 (60) : بعدا: 2/ 574 (61) : استعمركم: 2/ 576 (63) : تخسير: 2/ 576 (67) : جاثمين: 2/ 577 (69) : حنيذ: 2/ 578 (70) : نكرهم: 2/ 578 (71) : فضحكت: 2/ 579 (77) : سيء بهم: 2/ 582: ذرعا: 2/ 582: عصيب: 2/ 582 (78) : يهرعون: 2/ 582: في ضيفي: 2/ 583: فأسر: 2/ 584

سورة يوسف (12)

: سجّيل: 2/ 585: منضود: 2/ 585 (83) : مسوّمة: 2/ 585 (88) : أنيب: 2/ 589 (89) : شقاقي: 2/ 589 (90) : ودود: 2/ 589 (91) : رهطك: 2/ 590: لرجمناك: 2/ 590 (92) : ظهريّا: 2/ 590 (98) : يقدم: 2/ 593 (99) : الرّفد: 2/ 593 (101) : تتبيب: 2/ 594 (106) : زفير: 2/ 594: وشهيق: 2/ 594 (108) : مجذوذ: 2/ 596 (112) : ولا تطغوا: 2/ 600 (113) : تركنوا: 2/ 600 (114) : زلفا: 2/ 602 (116) : أترفوا: 2/ 605 سورة يوسف (12) (3) : القصص: 3/ 6 (6) : يجتبيك: 3/ 7 (8) : عصبة: 3/ 10 (10) : غيابت: 3/ 10: الجبّ: 3/ 10: السّيّارة: 3/ 10 (12) : يرتع: 3/ 12 (14) : عصبة: 3/ 13 (17) : نستبق: 3/ 13 (18) : سوّلت: 3/ 14 (19) : فأدلى دلوه: 3/ 16: بضاعة: 3/ 16 (20) : وشروه: 3/ 16: بخس: 3/ 16: من الزّاهدين: 3/ 17 (21) : مثواه: 3/ 17 (22) : أشدّه: 3/ 18 (23) : وراودته: 3/ 20 (23) : غلّقت: 3/ 20: هيت لك: 3/ 20: لا يفلح: 3/ 21 (24) : همّت: 3/ 21: السّوء: 3/ 22 (25) : استبقا: 3/ 22: قدّت: 3/ 22: ألفيا: 3/ 22 (29) : من الخاطئين: 3/ 23 (30) : شغفها: 3/ 25 (31) : أعتدت: 3/ 26: متّكئا: 3/ 26: أكبرنه: 3/ 26: حاشا لله: 3/ 27 (32) : لمتنّني: 3/ 28 (33) : أصب: 3/ 29 (35) : بدا: 3/ 30 (42) : بضع سنين: 3/ 36 (43) : عجاف: 3/ 37

سورة الرعد (13)

: تعبرون: 3/ 37 (44) : أضغاث: 3/ 37 (45) : وادّكر: 3/ 38: بعد أمّة: 3/ 38 (47) : دأبا: 3/ 38 (48) : تحصنون: 3/ 39 (49) : يعصرون: 3/ 39 (51) : ما خطبكنّ: 3/ 41: حصحص: 3/ 41 (54) : أستخلصه: 3/ 42: مكين: 3/ 42 (59) : جهّزهم: 3/ 44 (60) : تقربون: 3/ 45 (65) : نمير: 3/ 47 (69) : آوى: 3/ 50: تبتئس: 3/ 50 (70) : أذّن مؤذّن: 3/ 50: العير: 3/ 50 (72) : صواع: 3/ 50: زعيم: 3/ 50 (76) : كدنا: 3/ 51 (80) : خلصوا نجيّا: 3/ 55: فلن أبرح: 3/ 55 (84) : يا أسفى: 3/ 57: كظيم: 3/ 57 (85) : تفتؤا: 3/ 58: حرضا: 3/ 58 (86) : بثّي: 3/ 59 (87) : فتحسّسوا: 3/ 59 (88) : مزجاة: 3/ 60 (91) : آثرك: 3/ 62 (92) : لا تثريب: 3/ 63 (94) : فصلت: 3/ 63: تفنّدون: 3/ 63 (100) : البدو: 3/ 67: نزغ: 3/ 68 (102) : نوحيه: 3/ 69 (107) : غاشية: 3/ 71 سورة الرعد (13) (2) : عمد: 3/ 77 (3) : مدّ الأرض: 3/ 77: رواسي: 3/ 77 (4) : صنوان: 3/ 79 (5) : الأغلال: 3/ 81 (6) : المثلات: 3/ 81 (8) : تغيض: 3/ 82 (10) : مستخف باللّيل: 3/ 83: سارب: 3/ 83 (11) : معقّبات: 3/ 83 (13) : المحال: 3/ 87 (17) : زبدا رابيا: 3/ 90: جفاء: 3/ 90 (22) : عقبى: 3/ 94 (26) : ويقدر: 3/ 96: متاع: 3/ 97 (29) : طوبى: 3/ 97 (30) : متاب: 3/ 98

سورة إبراهيم (14)

(31) : ييأس: 3/ 100: قارعة: 3/ 101 (41) : لا معقّب: 3/ 108 سورة إبراهيم (14) (4) : ليبيّن: 3/ 112 (5) : بأيّام الله: 3/ 113 (6) : يسومونكم: 3/ 114 (7) : تأذّن: 3/ 115 (9) : نبأ: 3/ 115: مريب: 3/ 117 (14) : مقامي: 3/ 119 (15) : جبّار: 3/ 120: عنيد: 3/ 120 (16) : صديد: 3/ 120 (17) : يتجرّعه: 3/ 121: يسيغه: 3/ 121 (18) : كرماد: 3/ 121: اشتدّت: 3/ 121: عاصف: 3/ 121 (20) : بعزيز: 3/ 123 (21) : برزوا: 3/ 123: محيص: 3/ 123 (22) : بمصرخكم: 3/ 124 (24) : ثابت: 3/ 127: فرعها: 3/ 127 (26) : اجتثّت: 3/ 128: قرار: 3/ 128 (27) : يثبّت: 3/ 128 (28) : أحلّوا: 3/ 130: دار البوار: 3/ 130 (31) : خلال: 3/ 131 (34) : لا تحصوها: 3/ 132 (35) : واجنبني: 3/ 134 (37) : أفئدة: 3/ 135 (42) : تشخص: 3/ 138 (43) : مهطعين: 3/ 138: مقنعي رؤوسهم: 3/ 138: لا يرتدّ: 3/ 138: طرفهم: 3/ 138: هواء: 3/ 139 (48) : الواحد القهّار: 3/ 142 (49) : مقرّنين: 3/ 142: الأصفاد: 3/ 142 (50) : سرابيلهم: 3/ 142: قطران: 3/ 142 سورة الحجر (15) (10) : شيع: 3/ 147 (12) : نسلكه: 3/ 148 (13) : خلت: 3/ 148 (15) : سكّرت: 3/ 148 (16) : بروجا: 3/ 150 (17) : رجيم: 3/ 151 (18) : فاتّبعه: 3/ 151: شهاب: 3/ 151 (19) : مددناها: 3/ 151: موزون: 3/ 151

سورة النحل (16)

(20) : معايش: 3/ 152 (22) : لواقح: 3/ 153 (26) : صلصال: 3/ 155: حمأ: 3/ 156: مسنون: 3/ 156 (27) : السّموم: 3/ 156 (29) : سوّيته: 3/ 156: نفخت: 3/ 156: روحي: 3/ 157 (34) : رجيم: 3/ 157 (36) : أنظرني: 3/ 158 (39) : أغويتني: 3/ 158 (44) : جزء مقسوم: 3/ 159 (47) : غلّ: 3/ 161 (48) : نصب: 3/ 161 (52) : وجلون: 3/ 161 (57) : خطبكم: 3/ 162 (60) : لمن الغابرين: 3/ 163 (66) : دابر: 3/ 163 (68) : تفضحون: 3/ 165 (72) : لعمرك: 3/ 165: سكرتهم: 3/ 166 (73) : مشرقين: 3/ 166 (75) : للمتوسّمين: 3/ 166 (79) : لبإمام: 3/ 168 (85) : فاصفح: 3/ 169 (87) : المثاني: 3/ 170 (88) : أزواجا: 3/ 170: واخفض: 3/ 171 (90) : على المقتسمين: 3/ 172 (91) : عضين: 3/ 172 (94) : فاصدع: 3/ 172 (99) : اليقين: 3/ 173 سورة النحل (16) (4) : خصيم: 3/ 178 (5) : الأنعام: 3/ 178: دفء: 3/ 178 (6) : جمال: 3/ 178: تريحون: 3/ 178: تسرحون: 3/ 178 (7) : أثقالكم: 3/ 178: بشقّ الأنفس: 3/ 179 (9) : قصد السّبيل: 3/ 180 (10) : تسيمون: 3/ 182 (13) : ذرأ: 3/ 183 (14) : مواخر: 3/ 184 (15) : رواسي: 3/ 184: تميد: 3/ 184 (25) : أوزارهم: 3/ 188 (26) : القواعد: 3/ 189 (27) : الخزي: 3/ 191 (34) : حاق: 3/ 193 (41) : لنبوّئنّهم: 3/ 196 (45) : أن يخسف: 3/ 198 (46) : تقلّبهم: 3/ 198 (47) : تخوّف: 3/ 198

سورة الإسراء (17)

(48) : يتفيّؤا: 3/ 199: داخرون: 3/ 199 (52) : واصبا: 3/ 202 (53) : تجأرون: 3/ 203 (59) : يتوارى: 3/ 204: هون: 3/ 204: يدسّه: 3/ 204 (62) : مفرطون: 3/ 205 (66) : نسقيكم: 3/ 208: فرث: 3/ 209: سائغا: 3/ 209 (67) : سكرا: 3/ 209 (68) : يعرشون: 3/ 210 (69) : فاسلكي: 3/ 211 (70) : أرذل العمر: 3/ 212 (72) : حفدة: 3/ 214 (76) : أبكم: 3/ 217: كلّ على مولاه: 3/ 217 (77) : كلمح البصر: 3/ 218 (79) : مسخّرات: 3/ 219 (80) : ظعنكم: 3/ 220: أثاثا: 3/ 221 (81) : أكنانا: 3/ 221: سرابيل: 3/ 221 (84) : يستعتبون: 3/ 223 (90) : البغي: 3/ 225 (91) : توكيدها: 3/ 227: كفيلا: 3/ 227 (92) : أنكاثا: 3/ 228 (94) : دخلا: 3/ 228 (103) : يلحدون: 3/ 233: أعجميّ: 3/ 233 (112) : رغدا: 3/ 238: فأذاقها: 3/ 238 (121) : اجتباه: 3/ 241 (127) : ضيق: 3/ 243 سورة الإسراء (17) (1) : سبحان: 3/ 245: أسرى: 3/ 245: الأقصى: 3/ 246 (4) : قضينا: 3/ 249 (5) : فجاسوا: 3/ 249 (6) : الكرّة: 3/ 249: نفيرا: 3/ 250 (7) : ليسئوا: 3/ 250: وليتبّروا: 3/ 250 (8) : حصيرا: 3/ 251 (11) : عجولا: 3/ 251 (13) : طائره: 3/ 253 (18) : مذموما: 3/ 258: مدحورا: 3/ 258 (20) : محظورا: 3/ 258 (23) : أفّ: 3/ 260: ولا تنهرهما: 3/ 260 (25) : للأوّابين: 3/ 262 (26) : ولا تبذّر تبذيرا: 3/ 263 (28) : ميسورا: 3/ 263

(29) : محسورا: 3/ 264 (31) : إملاق: 3/ 264: خطئا: 3/ 265 (35) : القسطاس: 3/ 269: تأويلا: 3/ 269 (36) : ولا تقف: 3/ 269 (37) : مرحا: 3/ 271: تخرق: 3/ 271 (41) : صرّفنا: 3/ 272 (45) : حجابا: 3/ 275 (47) : نجوى: 3/ 275: مسحورا: 3/ 275 (49) : رفاتا: 3/ 278 (51) : فسينغضون: 3/ 279 (53) : ينزغ: 3/ 280 (58) : مسطورا: 3/ 282 (59) : مبصرة: 3/ 283 (62) : لأحتنكنّ: 3/ 286 (63) : موفورا: 3/ 287 (64) : واستفزز: 3/ 287: وأجلب: 3/ 287: ورجلك: 3/ 283 (66) : يزجي: 3/ 289 (68) : يخسف: 3/ 289: حاصيا: 3/ 289 (69) : قاصفا: 3/ 290: تبيعا: 3/ 290 (74) : تركن: 3/ 293 (75) : ضعف: 3/ 294 (76) : خلافك: 3/ 294 (78) : لدلوك الشّمس: 3/ 297: إلى غسق اللّيل: 3/ 297 (79) : فتهجّد: 3/ 298: نافلة: 3/ 298: مقاما محمودا: 3/ 299 (80) : سلطانا نصيرا: 3/ 300 (81) : زهق: 3/ 300 (82) : خسارا: 3/ 301 (83) : نأى بجانبه: 3/ 301: يؤوسا: 3/ 301 (84) : شاكلته: 3/ 301 (88) : ظهيرا: 3/ 305 (90) : ينبوعا: 3/ 306 (92) : كسفا: 3/ 306: قبيلا: 3/ 306 (93) : زخرف: 3/ 306: ترقى: 3/ 306 (95) : مطمئنّين: 3/ 309 (97) : خبت: 3/ 310 (100) : قتورا: 3/ 310 (102) : بصائر: 3/ 312: مثبورا: 3/ 312 (104) : لفيفا: 3/ 312 (106) : فرّقناه: 3/ 313: على مكث: 3/ 313 (107) : يخرّون: 3/ 313 (110) : تخافت: 3/ 315

سورة الكهف (18)

سورة الكهف (18) (1) : عوجا: 3/ 319 (6) : باخع: 3/ 320 (8) : صعيدا: 3/ 321: جرزا: 3/ 321 (9) : الرّقيم: 3/ 322 (12) : أحصى: 3/ 323: أمدا: 3/ 323 (14) : شططا: 3/ 324 (16) : اعتزلتموهم: 3/ 324: مرفقا: 3/ 324 (17) : تزاور: 3/ 325: تقرضهم: 3/ 326 (18) : رقود: 3/ 326: بالوصيد: 3/ 326: رعبا: 3/ 326 (19) : بورقكم: 3/ 327 (22) : رجما: 3/ 329: فلا تمار: 3/ 329 (27) : ملتحدا: 3/ 333 (28) : فرطا: 3/ 334 (29) : سرادقها: 3/ 334: كالمهل: 3/ 334: مرتفقا: 3/ 335 (31) : سندس: 3/ 335: وإستبرق: 3/ 335: الأرائك: 3/ 335 (32) : وحففناهما: 3/ 338 (34) : يحاوره: 3/ 339 (35) : تبيد: 3/ 339 (40) : حسبانا: 3/ 340: زلقا: 3/ 341 (41) : غورا: 3/ 341 (42) : خاوية: 3/ 341 (44) : عقبا: 3/ 342 (45) : هشيما: 3/ 343: تذروه: 3/ 343 (47) : بارزة: 3/ 345: نغادر: 3/ 345 (50) : ففسق: 3/ 346 (51) : عضدا: 3/ 347 (52) : موبقا: 3/ 348 (53) : مواقعوها: 3/ 348: مصرفا: 3/ 348 (55) : قبلا: 3/ 350 (56) : ليدحضوا: 3/ 350 (57) : أكنّة: 3/ 350 (58) : موئلا: 3/ 351 (60) : لا أبرح: 3/ 352: حقبا: 3/ 352 (61) : مجمع بينهما: 3/ 352: سربا: 3/ 353 (62) : نصبا: 3/ 353 (68) : خبرا: 3/ 354 (71) : إمرا: 3/ 357 (73) : ولا ترهقني: 3/ 357 (74) : نكرا: 3/ 357 (77) : ينقضّ: 3/ 358

سورة مريم (19)

(81) : رحما: 3/ 360 (84) : سببا: 3/ 363 (86) : حمئة: 3/ 363 (87) : نكرا: 3/ 364 (93) : يفقهون: 3/ 368 (94) : يأجوج ومأجوج: 3/ 368: خرجا: 3/ 368 (95) : ردما: 3/ 369 (96) : زبر: 3/ 369: بين الصّدفين: 3/ 369: قطرا: 3/ 369 (97) : نقبا: 3/ 370 (98) : دكّا: 3/ 370 (102) : أفحسب: 3/ 372 (108) : لا يبغون: 3/ 373: حولا: 3/ 373 (109) : مدادا: 3/ 375 سورة مريم (19) (4) : وهن: 3/ 379 (5) : عاقرا: 3/ 380 (8) : عتيّا: 3/ 381 (11) : فأوحى: 3/ 382 (13) : وحنانا: 3/ 384 (16) : انتبذت: 3/ 386: شرقيّا: 3/ 386 (20) : بغيّا: 3/ 387 (23) : فأجاءها: 3/ 388: المخاض: 3/ 388 (25) : وهزّي: 3/ 388: جنيّا: 3/ 389 (27) : فريّا: 3/ 391: مباركا: 3/ 392 (32) : جبّارا: 3/ 392: شقيّا: 3/ 392 (46) : مليّا: 3/ 397 (47) : حفيّا: 3/ 397 (52) : نجيّا: 3/ 399 (58) : بكيّا: 3/ 400 (59) : غيّا: 3/ 400 (65) : سميّا: 3/ 404 (68) : جثيّا: 3/ 405 (70) : صليّا: 3/ 406 (71) : واردها: 3/ 406 (73) : مقاما: 3/ 409 (74) : أثاثا: 3/ 410: ورئيّا: 3/ 410 (76) : مردّا: 3/ 411 (83) : تؤزّهم أزّا: 3/ 413 (86) : وردا: 3/ 414 (89) : إدّا: 3/ 415 (90) : هدّا: 3/ 415 (97) : لدّا: 3/ 417 (98) : ركزا: 3/ 417 سورة طه (20) (6) : الثّرى: 3/ 421 (10) : آنست: 3/ 423

سورة الأنبياء (21)

: بقبس: 3/ 423 (15) : أخفيها: 3/ 424 (18) : وأهشّ: 3/ 427: مآرب: 3/ 427 (22) : إلى جناحك: 3/ 428 (28) : يفقهوا: 3/ 429 (31) : أزري: 3/ 429 (40) : كي تقرّ: 3/ 431: وفتنّاك فتونا: 3/ 432: على قدر: 3/ 432 (41) : واصطنعتك: 3/ 432 (42) : ولا تنيا: 3/ 432 (45) : أن يفرط: 3/ 434 (50) : خلقه: 3/ 435 (52) : لا يضلّ: 3/ 436 (53) : مهدا: 3/ 436: وسلك: 3/ 436: شتّى: 3/ 437 (58) : سوى: 3/ 438 (61) : فيسحتكم: 3/ 440 (63) : المثلى: 3/ 441 (64) : استعلى: 3/ 442 (67) : فأوجس: 3/ 443 (74) : مجرما: 3/ 445 (77) : يبسا: 3/ 446: دركا: 3/ 446 (84) : أثري: 3/ 448 (86) : أسفا: 3/ 448 (87) : أوزارا: 3/ 449 (88) : خوار: 3/ 449 (94) : ولم ترقب: 3/ 452 (96) : قبضة: 3/ 452 (97) : لا مساس: 3/ 452: عاكفا: 3/ 453: نسفا: 3/ 454 (102) : زرقا: 3/ 455 (103) : يتخافتون: 3/ 455 (104) : أمثلهم: 3/ 456 (106) : صفصفا: 3/ 456 (107) : أمتا: 3/ 456 (108) : وخشعت: 3/ 456: همسا: 3/ 457 (111) : وعنت: 3/ 457 (112) : هضما: 3/ 457 (115) : عزما: 3/ 460 (121) : فغوى: 3/ 460 (122) : اجتباه: 3/ 461 (124) : ضنكا: 3/ 462 (128) : النّهى: 3/ 464 سورة الأنبياء (21) (3) : النّجوى: 3/ 469 (5) : أضغاث: 3/ 470 (11) : قصمنا: 3/ 473 (12) : يركضون: 3/ 473 (15) : خامدين: 3/ 473: لهوا: 3/ 473

سورة الحج (22)

(18) : فيدمغه: 3/ 474 (19) : يستحسرون: 3/ 474 (21) : ينشرون: 3/ 475 (30) : رتقا: 3/ 478: ففتقناهما: 3/ 478 (31) : أن تميد: 3/ 479 (36) : هزوا: 3/ 481 (37) : من عجل: 3/ 481 (40) : فتبهتهم: 3/ 482 (42) : يكلؤكم: 3/ 482 (43) : يصحبون: 3/ 483 (46) : نفحة: 3/ 484 (52) : عاكفون: 3/ 486 (57) : لأكيدنّ: 3/ 488 (65) : نكسوا: 3/ 489 (72) : نافلة: 3/ 491 (76) : الكرب: 3/ 492 (78) : نفشت: 3/ 493 (80) : لبوس: 3/ 494 (81) : عاصفة: 3/ 495 (82) : يغوصون: 3/ 495 (87) : مغاضبا: 3/ 496: لن نقدر: 3/ 497 (90) : رغبا ورهبا: 3/ 502 (93) : تقطّعوا: 3/ 503 (94) : لا كفران لسعيه: 3/ 503 (96) : حدب: 3/ 504: ينسلون: 3/ 504 (98) : حصب: 3/ 506: حسيسها: 3/ 506: السّجلّ: 3/ 507 سورة الحج (22) (1) : زلزلة: 3/ 514 (2) : تذهل: 3/ 514 (3) : مريد: 3/ 515 (5) : نطفة: 3/ 515: علقة: 3/ 515: مضغة: 3/ 515: أشدّكم: 3/ 516: اهتزّت: 3/ 517: وربت: 3/ 517: بهيج: 3/ 517 (9) : ثاني عطفه: 3/ 519 (11) : حرف: 3/ 520 (13) : العشير: 3/ 521 (21) : مقامع: 3/ 525 (25) : العاكف: 3/ 528: والباد: 3/ 528 (26) : بوّأنا: 3/ 529 (27) : ضامر: 3/ 530 (28) : البائس: 3/ 531 (29) : تفثهم: 3/ 531 (30) : الرّجس: 3/ 534: الأوثان: 3/ 534: الزّور: 3/ 534 (31) : خرّ: 3/ 534: سحيق: 3/ 534

سورة المؤمنون (23)

(34) : منسكا: 3/ 535: المخبتين: 3/ 535 (36) : البدن: 3/ 537: صوافّ: 3/ 537: وجبت: 3/ 537 (36) : القانع: 3/ 538: والمعترّ: 3/ 538 (40) : صوامع: 3/ 541: وبيع: 3/ 541: وصلوات: 3/ 542 (44) : نكير: 3/ 542 (45) : بئر معطّلة: 3/ 543: مشيد: 3/ 543 (52) : تمنّى: 3/ 546: فينسخ: 3/ 547 (67) : فلا ينازعنّك: 3/ 553 (72) : يسطون: 3/ 554 (73) : لا يستنقذوه: 3/ 555 (78) : اجتباكم: 3/ 556 سورة المؤمنون (23) (2) : خاشعون: 3/ 560 (7) : العادون: 3/ 561 (12) : سلالة: 3/ 564 (14) : فتبارك الله: 3/ 565: أحسن الخالقين: 3/ 565 (20) : طور: 3/ 566 (25) : جنّة: 3/ 569: فتربّصوا: 3/ 569 (29) : منزلا: 3/ 570 (41) : الصّيحة: 3/ 572: غثاء: 3/ 572 (44) : تترا: 3/ 573 (50) : ربوة: 3/ 575: ومعين: 3/ 575 (57) : مشفقون: 3/ 578 (63) : غمرة: 3/ 579 (66) : تنكصون: 3/ 580: سامرا: 3/ 580 (72) : خرجا: 3/ 584 (74) : لناكبون: 3/ 584 (75) : للجّوا: 3/ 584: يعمهون: 3/ 584 (79) : ذرأكم: 3/ 585 (88) : ملكوت: 3/ 586 (97) : همزات: 3/ 588 (100) : برزخ: 3/ 590 (101) : الصّور: 3/ 590 (104) : كالحون: 3/ 590 (108) : اخسئوا: 3/ 591 (113) : العادّين: 3/ 591 سورة النور (24) (1) : سورة: 4/ 5 (2) : فاجلدوا: 4/ 6 (4) : المحصنات: 4/ 9 (11) : بالإفك: 4/ 14 (14) : أفضتم: 4/ 16

سورة الفرقان (25)

(19) : تشيع: 4/ 17 (21) : خطوات: 4/ 17 (22) : ولا يأتل: 4/ 19 (27) : حتى تستأنسوا: 4/ 23 (29) : متاع: 4/ 24 (30) : يغضّوا: 4/ 26: بخمرهنّ: 4/ 28: جيوبهنّ: 4/ 28: الإربة: 4/ 29 (32) : الأيامى: 4/ 32 (33) : البغاء: 4/ 35 (35) : نور السّماوات: 4/ 38: كمشكاة: 4/ 38: تتقلّب: 4/ 42 (39) : بقيعة: 4/ 45 (40) : لجيّ: 4/ 46 (41) : صافّات: 4/ 47 (43) : يزجي: 4/ 48: ركاما: 4/ 48: الودق: 4/ 48: سنا برقه: 4/ 48 (49) : مذعنين: 4/ 52 (61) : أشتاتا: 4/ 62 (63) : يتسلّلون: 4/ 67: لواذا: 4/ 67 سورة الفرقان (25) (1) : تبارك: 4/ 70: الفرقان: 4/ 71 (3) : نشورا: 4/ 71 (11) : سعيرا: 4/ 74 (13) : مقرّنين: 4/ 75 (14) : ثبورا: 4/ 75 (18) : بورا: 4/ 79 (22) : حجرا محجورا: 4/ 81 (23) : هباء منثورا: 4/ 82 (28) : فلانا: 4/ 84 (29) : خذولا: 4/ 85 (35) : وزيرا: 4/ 88 (38) : الرّسّ: 4/ 89 (42) : ليضلّنا: 4/ 90 (48) : طهورا: 4/ 93 (49) : أناسيّ: 4/ 94 (54) : مرج: 4/ 95: برزخا: 4/ 95 (55) : ظهيرا: 4/ 97 (62) : خلفة: 4/ 99 (63) : هونا: 4/ 99 (64) : يبيتون: 4/ 100 (65) : غراما: 4/ 100 (67) : ولم يقتروا: 4/ 100: قواما: 4/ 101 (68) : أثاما: 4/ 102 (69) : مهانا: 4/ 103 (72) : الزّور: 4/ 103 (77) : يعبأ: 4/ 105: لزاما: 4/ 106

سورة الشعراء (26)

سورة الشعراء (26) (3) : باخع: 4/ 109 (19) : فعلت فعلتك: 4/ 112 (22) : عبّدت: 4/ 112 (32) : ثعبان: 4/ 114 (36) : أرجه: 4/ 115 (50) : لا ضير: 4/ 116 (54) : لشرذمة: 4/ 117 (56) : حذرون: 4/ 117 (58) : كنوز: 4/ 117 (60) : مشرقين: 4/ 118 (63) : فرق: 4/ 119: كالطّود: 4/ 119 (64) : وأزلفنا: 4/ 119 (90) : أزلفت: 4/ 124 (94) : كبكبوا: 4/ 124 (111) : الأرذلون: 4/ 126 (119) : المشحون: 4/ 127 (128) : ريع: 4/ 127 (129) : مصانع: 4/ 127 (130) : بطشتم: 4/ 128 (148) : هضيم: 4/ 129 (149) : فارهين: 4/ 130 (165) : الذّكران: 4/ 131 (168) : من القالين: 4/ 132 (171) : في الغابرين: 4/ 132 (176) : الأيكة: 4/ 132 (183) : ولا تبخسوا: 4/ 133 (187) : كسفا: 4/ 133 (189) : الظّلّة: 4/ 133 (196) : زبر: 4/ 136 (212) : لمعزولون: 4/ 138 (222) : أفّاك: 4/ 139 (224) : الغاوون: 4/ 140 (225) : يهيمون: 4/ 140 سورة النمل (27) (4) : يعمهون: 4/ 145 (7) : تصطلون: 4/ 146 (10) : جانّ: 4/ 147 (17) : يوزعون: 4/ 150 (18) : لا يحطمنّكم: 4/ 151 (20) : تفقّد: 4/ 152 (22) : مكث: 4/ 153 (25) : الخبء: 4/ 155 (29) : الملأ: 4/ 158 (37) : صاغرون: 4/ 160 (39) : عفريت: 4/ 160 (41) : نكّروا: 4/ 162 (44) : الصّرح: 4/ 163: ممرّد: 4/ 163 (47) : اطّيّرنا: 4/ 165 (48) : رهط: 4/ 165 (49) : تقاسموا: 4/ 165 (60) : بهجة: 4/ 168 (61) : خلالها: 4/ 169 (66) : ادّارك: 4/ 170 (70) : ضيق: 4/ 172

سورة القصص (28)

(72) : ردف: 4/ 172 (83) : فوجا: 4/ 177 (87) : ففزع: 4/ 178: داخرين: 4/ 178 (92) : أن أتلو: 4/ 180 سورة القصص (28) (4) : علا: 4/ 183: شيعا: 4/ 183 (8) : فالتقطه: 4/ 184: وحزنا: 4/ 184 (10) : لتبدي: 4/ 186 (15) : فوكزه: 4/ 188 (18) : يستصرخه: 4/ 190 (20) : يأتمرون: 4/ 191 (23) : تذودان: 4/ 191 (27) : أن أشقّ: 4/ 195 (29) : جذوة: 4/ 196 (32) : جناحك: 4/ 197 (34) : أفصح: 4/ 199: ردءا: 4/ 199 (38) : صرحا: 4/ 200 (42) : من المقبوحين: 4/ 201 (45) : ثاويا: 4/ 203 (48) : تظاهرا: 4/ 204 (51) : وصّلنا: 4/ 205 (57) : نتخطّف: 4/ 206 (58) : بطرت: 4/ 208 (63) : أغوينا: 4/ 210 (68) : الخيرة: 4/ 211 (71) : سرمدا: 4/ 212 (76) : فبغى: 4/ 214: لتنوء: 4/ 214: بالعصبة: 4/ 214 (82) : ويكأنّ: 4/ 216 سورة العنكبوت (29) (5) : يرجو: 4/ 222 (14) : الطّوفان: 4/ 226 (17) : أوثانا: 4/ 227 (29) : في ناديكم: 4/ 233 (40) : حاصبا: 4/ 234 (41) : أوهن: 4/ 235 (58) : لنبوّئنّهم: 4/ 242 (68) : مثوى: 4/ 245 سورة الروم (30) (10) : السّوأى: 4/ 248 (12) : يبلس: 4/ 251 (15) : روضة: 4/ 251: يحبرون: 4/ 251 (16) : محضرون: 4/ 252 (26) : قانتون: 4/ 254 (30) : فطرة: 4/ 258 (31) : منيبين: 4/ 259 (36) : يقنطون: 4/ 260 (39) : المضعفون: 4/ 262 (43) : يصدّعون: 4/ 264

سورة لقمان (31)

(44) : يمهدون: 4/ 264 (57) : يستعتبون: 4/ 268 سورة لقمان (31) (6) : لهو الحديث: 4/ 269 (7) : وقرا: 4/ 270 (10) : عمد: 4/ 271 (14) : وهنا: 4/ 274: فصاله: 4/ 274 (17) : عزم: 4/ 275 (18) : ولا تصعّر: 4/ 275: مختال: 4/ 275 (20) : أسبغ: 4/ 277 (22) : استمسك: 4/ 278 (32) : مقتصد: 4/ 281: ختّار: 4/ 282 سورة السجدة (32) (5) : يعرج: 4/ 286 (7) : أحسن: 4/ 288 (10) : ضللنا: 4/ 289 (12) : ناكسوا: 4/ 291 (15) : خرّوا: 4/ 292 (17) : قرّة أعين: 4/ 293 (23) : مرية: 4/ 296 (27) : الجرز: 4/ 297 سورة الأحزاب (33) (4) : تظاهرون: 4/ 300 (10) : الحناجر: 4/ 305 (11) : زلزلوا: 4/ 306 (13) : عورة: 4/ 307 (18) : المعوّقين: 4/ 310 (19) : سلقوكم: 4/ 310 (20) : بادون: 4/ 311 (23) : نحبه: 4/ 312 (26) : ظاهروهم: 4/ 315: صياصيهم: 4/ 315 (33) : وقرن: 4/ 317: ولا تبرّجنّ: 4/ 320 (37) : وطرا: 4/ 327 (49) : تعتدّونها: 4/ 334 (51) : ترجي: 4/ 336 (53) : إناه: 4/ 341 (59) : من جلابيبهنّ: 4/ 349 (60) : المرجفون: 4/ 350 (62) : تبديلا: 4/ 351 (70) : سديدا: 4/ 353 سورة سبأ (34) (2) : يلج: 4/ 358 (3) : لا يعزب: 4/ 358 (7) : مزّقتم: 4/ 359 (9) : كسفا: 4/ 360 (10) : أوّبي: 4/ 361

سورة فاطر (35)

(11) : سابغات: 4/ 362: السّرد: 4/ 362 (12) : القطر: 4/ 363 (13) : محاريب: 4/ 363: جفان: 4/ 363: كالجواب: 4/ 363 (14) : منسأته: 4/ 364 (16) : العرم: 4/ 368: خمط: 4/ 368: أثل: 4/ 368: فزّع: 4/ 372 (33) : مكر اللّيل: 4/ 377 (37) : زلفى: 4/ 379 (46) : جنّة: 4/ 382 (52) : التّناوش: 4/ 385 سورة فاطر (35) (1) : فاطر: 4/ 387 (10) : يبور: 4/ 392 (12) : مواخر: 4/ 393 (13) : قطمير: 4/ 394 (21) : الحرور: 4/ 396 (27) : جدد: 4/ 398: غرابيب: 4/ 399 (34) : الحزن: 4/ 402 (35) : لغوب: 4/ 403 (37) : يصطرخون: 4/ 406 (43) : ومكر السّيّء: 4/ 408 سورة يس (36) (7) : حقّ: 4/ 413 (8) : مقمحون: 4/ 414 (14) : فعزّزنا: 4/ 416 (29) : خامدون: 4/ 421 (39) : كالعرجون: 4/ 424 (40) : يسبحون: 4/ 425 (43) : صريخ: 4/ 427 (49) : يخصّمون: 4/ 428 (51) : الصّور: 4/ 429 (52) : بعثنا: 4/ 429 (59) : امتازوا: 4/ 432 (62) : جبلّا: 4/ 433 (66) : لطمسنا: 4/ 434 (67) : لمسخناهم: 4/ 434 (68) : ننكّسه: 4/ 435 (72) : ركوبهم: 4/ 438 (77) : خصيم مبين: 4/ 440 (81) : الخلّاق: 4/ 441 سورة الصّافات (37) (1) : الصّافّات: 4/ 442 (2) : الزّاجرات: 4/ 443 (7) : مارد: 4/ 444 (9) : دحورا: 4/ 444: واصب: 4/ 445 (10) : ثاقب: 4/ 445 (11) : لازب: 4/ 445

سورة ص (38)

(14) : يستسخرون: 4/ 446 (18) : داخرون: 4/ 447 (46) : لذّة: 4/ 451 (47) : ينزفون: 4/ 451 (48) : قاصرات: 4/ 452 (49) : بيض مكنون: 4/ 452 (56) : لتردين: 4/ 455 (62) : نزلا: 4/ 456 (67) : لشوبا: 4/ 457 (70) : يهرعون: 4/ 457 (76) : الكرب: 4/ 459 (83) : شيعته: 4/ 460 (91) : راغ: 4/ 461 (94) : يزفّون: 4/ 461 (98) : كيدا: 4/ 462 (103) : تلّه: 4/ 464 (125) : بعلا: 4/ 469 (140) : أبق: 4/ 471 (141) : ساهم: 4/ 471: من المدحضين: 4/ 471 (142) : مليم: 4/ 471 (145) : العراء: 4/ 472: الجنّة: 4/ 476 (158) : نسبا: 4/ 476 سورة ص (38) (2) : عزّة: 4/ 481: شقاق: 4/ 481 (3) : مناص: 4/ 482 (5) : عجاب: 4/ 483 (12) : الأوتاد: 4/ 485 (15) : فواق: 4/ 486 (16) : قطّنا: 4/ 487 (19) : أوّاب: 4/ 487 (21) : الخصم: 4/ 488 (21) : تسوّروا: 4/ 488: المحراب: 4/ 488 (22) : ولا تشطط: 4/ 489 (23) : نعجة: 4/ 489 (24) : الخلطاء: 4/ 489: فتنّاه: 4/ 489 (25) : زلفى: 4/ 490 (31) : الصّافنات: 4/ 494: الجياد: 4/ 495 (32) : توارت: 4/ 497 (33) : مسحا: 4/ 495 (34) : فتنّا: 4/ 496: أناب: 4/ 497 (36) : رخاء: 4/ 497: أصاب: 4/ 498 (37) : غوّاص: 4/ 498 (38) : مقرّنين: 4/ 498: الأصفاد: 4/ 498 (41) : بنصب: 4/ 499 (42) : اركض: 4/ 500 (44) : ضغثا: 4/ 501: تحنث: 4/ 501 (46) : بخالصة: 4/ 502

سورة الزمر (39)

(52) : قاصرات: 4/ 503: أتراب: 4/ 503 (54) : نفاد: 4/ 503 (57) : غسّاق: 4/ 506 (59) : مقتحم: 4/ 506 (72) : سوّيته: 4/ 510 سورة الزمر (39) (5) : يكوّر: 4/ 516 (8) : خوّله: 4/ 519 (16) : ظلل: 4/ 523 (17) : الطّاغوت: 4/ 523 (21) : يهيج: 4/ 525: حطاما: 4/ 525 (23) : متشابها: 4/ 526: مثاني: 4/ 526 (28) : عوج: 4/ 529 (29) : متشاكسون: 4/ 529: سلما: 4/ 529 (32) : مثوى: 4/ 531 (45) : اشمأزّت: 4/ 535 (53) : أسرفوا: 4/ 538 (56) : في جنب: 4/ 540 (61) : بمفازتهم: 4/ 541 (63) : مقاليد: 4/ 543 (67) : قبضته: 4/ 544 (68) : صعق: 4/ 545 (69) : أشرقت: 4/ 545 (71) : زمرا: 4/ 546 (75) : حافّين: 4/ 549 سورة غافر (40) (3) : الطّول: 4/ 551 (5) : ليدحضوا: 4/ 552 (13) : ينيب: 4/ 555 (18) : الآزفة: 4/ 557 (32) : التّناد: 4/ 563 (37) : تباب: 4/ 565 (45) : حاق: 4/ 567 (51) : الأشهاد: 4/ 568 (60) : داخرين: 4/ 571 (72) : يسجرون: 4/ 574 سورة حم السجدة (41) (5) : أكنّة: 4/ 579: وقر: 4/ 579 (8) : ممنون: 4/ 580 (10) : رواسي: 4/ 581 (12) : فقضاهنّ: 4/ 582 (16) : صرصرا: 4/ 585: نحسات: 4/ 585 (25) : قيّضنا: 4/ 589: قرناء: 4/ 589 (36) : ينزغنّك: 4/ 592 (39) : اهتزّت: 4/ 594: وربت: 4/ 594 (47) : أكمامها: 4/ 597

سورة الشورى (42)

(48) : محيص: 4/ 598 (50) : نأى: 4/ 599 سورة الشورى (42) (11) : يذرؤكم: 4/ 605 (13) : يجتبي: 4/ 607 (16) : داحضة: 4/ 609 (18) : يمارون: 4/ 609 (32) : كالأعلام: 4/ 617 (34) : يوبقهنّ: 4/ 618 (38) : شورى: 4/ 619 (50) : عقيما: 4/ 624 سورة الزخرف (43) (5) : أفنضرب: 4/ 627: صفحا: 4/ 627 (10) : مهدا: 4/ 627 (13) : مقرنين: 4/ 628 (15) : جزءا: 4/ 628 (18) : ينشّأ: 4/ 629 (20) : يخرصون: 4/ 630 (23) : أمّة: 4/ 631 (32) : سخريّا: 4/ 634 (33) : معارج: 4/ 635: يظهرون: 4/ 635 (36) : ومن يعش: 4/ 636 (50) : ينكثون: 4/ 640 (56) : سلفا: 4/ 641 (57) : يصدّون: 4/ 642 (70) : تحبرون: 4/ 645 (75) : مبلسون: 4/ 647 (77) : ماكثون: 4/ 647 (79) : أبرموا: 4/ 647: يؤفكون: 4/ 650 سورة الدخان (44) (4) : يفرق: 4/ 653 (16) : نبطش: 4/ 655 (24) : رهوا: 4/ 658 (27) : فاكهين: 4/ 658 (33) : بلاء: 4/ 659 (40) : الفصل: 4/ 661 (44) : الأثيم: 4/ 662 (47) : فاعتلوه: 4/ 662 (54) : بحور عين: 4/ 663 (59) : فارتقب: 4/ 664 سورة الجاثية (45) (7) : أفّاك: 5/ 6 (18) : شريعة: 5/ 9 (20) : بصائر: 5/ 10 (23) : غشاوة: 5/ 11 (28) : جاثية: 5/ 13 سورة الأحقاف (46) (4) : أثارة: 5/ 17 (8) : تفيضون: 5/ 18 (9) : بدعا: 5/ 18

سورة محمد (47)

(15) : كرها: 5/ 22 (21) : الأحقاف: 5/ 27 (22) : لتأفكنا: 5/ 27 (24) : عارضا: 5/ 28 (33) : يعي: 5/ 32 سورة محمد (47) (2) : بالهم: 5/ 36 (4) : أثخنتموهم: 5/ 36 (8) : فتعسا: 5/ 38 (15) : آسن: 5/ 41 (16) : آنفا: 5/ 42 (20) : أولى: 5/ 45 (29) : أضغانهم: 5/ 48 (30) : لحن: 5/ 48 (35) : لن يتركم: 5/ 50 سورة الفتح (48) (9) : تعزّروه: 5/ 56 (11) : ضرّا: 5/ 57 (12) : بورا: 5/ 58 (25) : معكوفا: 5/ 63: أن تطؤهم: 5/ 63: تزيّلوا: 5/ 64 (29) : شطأه: 5/ 66: آزره: 5/ 66 سورة الحجرات (49) (6) : فتبيّنوا: 5/ 71 (7) : لعنتّم: 5/ 71 (11) : ولا تنابزوا: 5/ 75 (13) : شعوبا: 5/ 79 (14) : يلتكم: 5/ 80 سورة ق (50) (5) : مريج: 5/ 85 (6) : فروج: 5/ 85 (10) : باسقات: 5/ 86 (15) : أفعيينا: 5/ 87 (16) : توسوس: 5/ 88 (19) : تحيد: 5/ 89 (27) : أزلفت: 5/ 92 (32) : أوّاب: 5/ 92 (36) : نقّبوا: 5/ 94: محيص: 5/ 95 (38) : لغوب: 5/ 95 سورة الذّاريات (51) (1) : الذّاريات: 5/ 98 (2) : وقرا: 5/ 98 (7) : الحبك: 5/ 99 (9) : يؤفك: 5/ 100 (17) : يهجعون: 5/ 100 (26) : فراغ: 5/ 105 (29) : صرّة: 5/ 105

سورة الطور (52)

: فصكّت: 5/ 106 (34) : مسوّمة: 5/ 106 (39) : فتولّى بركنه: 5/ 108 (48) : الماهدون: 5/ 109 (59) : ذنوبا: 5/ 111 سورة الطور (52) (2) : مسطور: 5/ 113 (3) : رقّ: 5/ 113 (6) : المسجور: 5/ 114 (9) : تمور: 5/ 114 (13) : دعّا: 5/ 115 (21) : ألتناهم: 5/ 118 (27) : السّموم: 5/ 119 (37) : المصيطرون: 5/ 122 (44) : كسفا: 5/ 122 سورة النجم (53) (2) : غوى: 5/ 126 (6) : مرّة: 5/ 127 (9) : قاب: 5/ 127 (14) : سدرة: 5/ 128 (22) : ضيزى: 5/ 131 (32) : اللّمم: 5/ 135 (34) : أكدى: 5/ 137 (46) : تمنى: 5/ 140 (48) : أقنى: 5/ 140 (53) : المؤتفكة: 5/ 141 (57) : أزفت: 5/ 142 (61) : سامدون: 5/ 142 سورة القمر (54) (2) : مستمر: 5/ 145 (4) : مزدجر: 5/ 146 (8) : مهطعين: 5/ 147 (11) : منهمر: 5/ 148 (13) : دسر: 5/ 148 (19) : صرصرا: 5/ 150 (20) : أعجاز: 5/ 151: منقعر: 5/ 151 (28) : شرب: 5/ 152: محتضر: 5/ 152 (31) : المحتظر: 5/ 153 (34) : حاصبا: 5/ 153 (37) : راودوه: 5/ 153 (53) : مستطر: 5/ 156 سورة الرحمن (55) (11) : الأكمام: 5/ 159 (12) : كالعصف: 5/ 160 (14) : صلصال: 5/ 161 (15) : مارج: 5/ 161 (20) : برزخ: 5/ 161 (24) : الجوار: 5/ 162: المنشآت: 5/ 162: كالأعلام: 5/ 162

سورة الواقعة (56)

(35) : شواظ: 5/ 165 (37) : كالدّهان: 5/ 165 (44) : آن: 5/ 166 (48) : أفنان: 5/ 168 (54) : جنى: 5/ 169 (56) : لم يطمثهنّ: 5/ 170 (64) : مد هامّتان: 5/ 171 (66) : نضّاختان: 5/ 171 (76) : عبقريّ: 5/ 172 سورة الواقعة (56) (5) : بسّت: 5/ 177 (9) : المشأمة: 5/ 178 (13) : ثلّة: 5/ 179 (17) : مخلّدون: 5/ 179 (28) : مخضود: 5/ 183 (29) : منضود: 5/ 183 (31) : مسكوب: 5/ 183 (37) : عربا: 5/ 184: أترابا: 5/ 184 (43) : يحموم: 5/ 184 (46) : الحنث: 5/ 185 (55) : الهيم: 5/ 185 (65) : حطاما: 5/ 189: تفكّهون: 5/ 189 (66) : لمغرمون: 5/ 189 (69) : المزن: 5/ 190 (73) : للمقوين: 5/ 190 (78) : مكنون: 5/ 192 (81) : مدهنون: 5/ 193 (89) : فروح: 5/ 194 سورة الحديد (57) (11) : يقرض: 5/ 202 (13) : انظرونا: 5/ 204 (16) : ألم يأن: 5/ 206 (23) : فخور: 5/ 211 سورة المجادلة (58) (3) : يظاهرون: 5/ 218 (5) : يحادّون: 5/ 222: كبتوا: 5/ 222 (7) : نجوى: 5/ 223 (11) : تفسّحوا: 5/ 225: انشزوا: 5/ 226 (19) : استحوذ: 5/ 230 سورة الحشر (59) (2) : الرّعب: 5/ 232 (5) : لينة: 5/ 234 (6) : أو جفتم: 5/ 235 (7) : دولة: 5/ 236 (9) : خصاصة: 5/ 239: يوق: 5/ 240 (14) : شتّى: 5/ 243 (23) : القدّوس: 5/ 246: المهيمن: 5/ 247

سورة الممتحنة (60)

سورة الممتحنة (60) (3) : يفصل: 5/ 251 (4) : إسوة: 5/ 253 (10) : بعصم: 5/ 256 سورة الصّف (61) (3) : مقتا: 5/ 261 (4) : مرصوص: 5/ 262 سورة الجمعة (62) (2) : في الأمّيين: 5/ 267 (5) : أسفارا: 5/ 268 (9) : فاسعوا: 5/ 270 (11) : انفضّوا: 5/ 271 سورة المنافقون (63) (1) : نشهد: 5/ 274 (2) : جنّة: 5/ 275 (7) : ينفضّوا: 5/ 277 سورة التغابن (64) (5) : وبال: 5/ 281 (9) : التّغابن: 5/ 283 سورة الطلاق (65) (6) : وجدكم: 5/ 292: تعاسرتم: 5/ 293 (8) : عتت: 5/ 294 سورة التحريم (66) (2) : تحلّة: 5/ 298 (4) : صغت: 5/ 298: تظاهرا: 5/ 297: ظهير: 5/ 299 (5) : سائحات: 5/ 299 (8) : نصوحا: 5/ 302 سورة الملك (67) (1) : تبارك: 5/ 308 (3) : طباقا: 5/ 309: فطور: 5/ 309 (4) : حسير: 5/ 309 (7) : تفور: 5/ 310 (8) : تميّز: 5/ 310 (15) : ذلولا: 5/ 312: مناكبها: 5/ 312 (16) : تمور: 5/ 313 (19) : يقبضن: 5/ 313 (21) : لجّوا: 5/ 314: عتوّ: 5/ 314: نفور: 5/ 314 (22) : مكبّا: 5/ 314 (24) : ذرأكم: 5/ 315 (30) : غورا: 5/ 316

سورة ن (68)

سورة ن (68) (1) : يسطرون: 5/ 319 (9) : تدهن: 5/ 320 (11) : همّاز: 5/ 320: مشّاء بنميم: 5/ 320 (13) : عتلّ: 5/ 321: زنيم: 5/ 321 (16) : سنسمه: 5/ 321: الخرطوم: 5/ 321 (17) : ليصرمنّها: 5/ 323 (20) : كالصّريم: 5/ 324 (23) : يتخافتون: 5/ 324 (25) : حرد: 5/ 324 (43) : تزهقهم: 5/ 329 (48) : مكظوم: 5/ 330 (51) : ليزلقونك: 5/ 330 سورة الحاقّة (69) (1) : الحاقّة: 5/ 333 (4) : القارعة: 5/ 334 (7) : حسوما: 5/ 334 (10) : رابية: 5/ 336 (14) : فدكّتا: 5/ 336 (19) : هاؤم: 5/ 339 (31) : صلّوه: 5/ 340 (36) : من غسلين: 5/ 341 (46) : الوتين: 5/ 342 سورة المعارج (70) (3) : المعارج: 5/ 345 (8) : كالمهل: 5/ 346 (13) : فصيلته: 5/ 347 (16) : نزّاعة: 5/ 347 (18) : فأوعى: 5/ 348 (19) : هلوعا: 5/ 349 (20) : جزوعا: 5/ 350 (36) : مهطعين: 5/ 351 (37) : عزين: 5/ 351 (43) : نصب: 5/ 353: يوفضون: 5/ 353 (44) : ترهقهم: 5/ 354 سورة نوح (71) (7) : واستغشوا: 5/ 356 (11) : مدرارا: 5/ 357 (13) : وقارا: 5/ 357 (14) : أطوارا: 5/ 357 (15) : طباقا: 5/ 357 (20) : فجاجا: 5/ 358 (22) : كبّارا: 5/ 359 (23) : لا تذرنّ: 5/ 360 (28) : تبّارا: 5/ 360 سورة الجن (72) (1) : نفر: 5/ 363 (3) : جدّ ربّنا: 5/ 364 (4) : شططا: 5/ 365

سورة المزمل (73)

(6) : رهقا: 5/ 366 (11) : قددا: 5/ 367 (16) : غدقا: 5/ 370 (17) : صعدا: 5/ 370 (19) : لبدا: 5/ 371 (22) : ملتحدا: 5/ 371 (25) : أمدا: 5/ 372 (27) : رصدا: 5/ 375 سورة المزّمّل (73) (1) : المزّمّل: 5/ 378 (4) : ورتّل: 5/ 379 (6) : ناشئة: 5/ 379: وطئا: 5/ 380 (7) : سبحا: 5/ 380 (8) : تبتّل: 5/ 381 (12) : أنكالا: 5/ 381 (13) : غصّة: 5/ 381 (18) : منفطر: 5/ 383 سورة المدّثّر (74) (1) : المدّثّر: 5/ 388 (5) : الرّجز: 5/ 389 (8) : نقر في النّاقور: 5/ 390 (14) : ومهّدت: 5/ 391 (16) : عنيدا: 5/ 391 (22) : بسر: 5/ 392 (24) : يؤثر: 5/ 393 (29) : لوّاحة: 5/ 393 (35) : الكبر: 5/ 397 (38) : رهينة: 5/ 399 (50) : مستنفرة: 5/ 400 (51) : قسورة: 5/ 400 سورة القيامة (75) (2) : اللّوّامة: 5/ 403 (4) : بنانه: 5/ 404 (7) : برق: 5/ 404 (9) : خسف القمر: 5/ 405 (11) : لا وزر: 5/ 405 (15) : معاذيره: 5/ 406 (22) : ناضرة: 5/ 407 (24) : باسرة: 5/ 408 (25) : فاقرة: 5/ 408 (26) : التّراقي: 5/ 410 (27) : راق: 5/ 410 (36) : سدى: 5/ 411 سورة الإنسان (76) (2) : أمشاج: 5/ 415 (5) : مزاجها: 5/ 417 (7) : مستطيرا: 5/ 415 (10) : قمطريرا: 5/ 419 (11) : نضرة: 5/ 420 (13) : زمهريرا: 5/ 421 (14) : وذلّلت: 5/ 422

سورة المرسلات (77)

(18) : سلسبيلا: 5/ 422 (19) : منثورا: 5/ 423 (28) : أسرهم: 5/ 427 سورة المرسلات (77) (1) : عرفا: 5/ 429 (2) : عصفا: 5/ 430 (8) : طمست: 5/ 431 (25) : كفاتا: 5/ 432 (27) : شامخات: 5/ 432 (32) : القصر: 5/ 434 (33) : جمالات: 5/ 534 سورة عمّ (78) (9) : سباتا: 5/ 439 (14) : المعصرات: 5/ 440: ثجّاجا: 5/ 440 (16) : ألفافا: 5/ 440 (21) : مرصادا: 5/ 441 (22) : مآبا: 5/ 442 (23) : أحقابا: 5/ 442 (31) : مفازا: 5/ 445 (33) : كواعب: 5/ 445 (34) : دهاقا: 5/ 445: حسابا: 5/ 445 سورة النّازعات (79) (1) : النّازعات: 5/ 449 (2) : النّاشطات: 5/ 449 (6) : الرّاجفة: 5/ 451 (8) : واجفة: 5/ 452 (11) : نخرة: 5/ 452 (10) : الحافرة: 5/ 452 (14) : بالسّاهرة: 5/ 453 (25) : نكال: 5/ 455 (28) : سمكها: 5/ 457 (29) : أغطش: 5/ 457 (30) : دحاها: 5/ 458 (34) : الطّامّة: 5/ 459 سورة عبس (80) (10) : تلهّى: 5/ 463 (15) : سفرة: 5/ 464 (16) : بررة: 5/ 464 (21) : فأقبره: 5/ 465 (30) : غلبا: 5/ 466 (33) : الصّاخّة: 5/ 466 (41) : قترة: 5/ 467 سورة التكوير (81) (1) : كوّرت: 5/ 469 (2) : انكدرت: 5/ 469 (5) : الوحوش: 5/ 470 (6) : سجّرت: 5/ 470 (8) : الموءودة: 5/ 471 (15) : بالخنّس: 5/ 472

سورة الانفطار (82)

(16) : الكنّس: 5/ 472 (17) : عسعس: 5/ 472 (24) : بضنين: 5/ 474 سورة الانفطار (82) (1) : انفطرت: 5/ 478 (2) : انتثرت: 5/ 478 (4) : بعثرت: 5/ 478 سورة المطفّفين (83) (1) : للمطفّفين: 5/ 482 (8) : سجّين: 5/ 484 (25) : رحيق: 5/ 488 سورة الانشقاق (84) (2) : وحقّت: 5/ 492 (6) : كادح: 5/ 492 (14) : يحور: 5/ 493 (17) : وسق: 5/ 494 (25) : ممنون: 5/ 496 سورة البروج (85) (4) : الأخدود: 5/ 500 (15) : ذو العرش: 5/ 502 سورة الطارق (86) (1) : الطّارق: 5/ 507 (3) : الثّاقب: 5/ 508 (6) : دافق: 5/ 508 (7) : الصّلب: 5/ 509: التّرائب: 5/ 509 (12) : الصّدع: 5/ 511 (17) : رويدا: 5/ 511 سورة الأعلى (87) (5) : غثاء: 5/ 514: أحوى: 5/ 514 (14) : تزكّى: 5/ 516 سورة الغاشية (88) (1) : الغاشية: 5/ 520 (3) : ناصية: 5/ 521 (5) : آنية: 5/ 521 (6) : ضريع: 5/ 521 (15) : نمارق: 5/ 523 (16) : زرابيّ: 5/ 523 (25) : إيابهم: 5/ 524 سورة الفجر (89) (5) : حجر: 5/ 528 (7) : العماد: 5/ 529 (13) : صبّ: 5/ 531: سوط: 5/ 531 (19) : لمّا: 5/ 535

سورة البلد (90)

سورة البلد (90) (4) : كبد: 5/ 539 (6) : لبدا: 5/ 540 (11) : اقتحم: 5/ 540 (14) : مسغبة: 5/ 541 (20) : مؤصدة: 5/ 542 سورة الشمس (91) (3) : جلّاها: 5/ 546 (6) : طحاها: 5/ 546 (10) : دسّاها: 5/ 547 (12) : انبعث: 5/ 548 (14) : فدمدم: 5/ 548 سورة الليل (92) (4) : سعيكم: 5/ 550: لشتّى: 5/ 551 (11) : تردّى: 5/ 551 سورة الضحى (93) (2) : سجى: 5/ 557 (3) : ما ودّعك: 5/ 557: قلى: 5/ 557 (10) : فلا تنهر: 5/ 559 سورة الشّرح (94) (1) : نشرح: 5/ 562 (3) : أنقض: 5/ 563 (7) : فانصب: 5/ 564 سورة التين (95) (2) : سينين: 5/ 567 (5) : أسفل سافلين: 5/ 567 (6) : غير ممنون: 5/ 568 سورة العلق (96) (8) : الرّجعى: 5/ 572 (15) : لنسفعا: 5/ 572 (17) : فليدع ناديه: 5/ 573 (18) : الزّبانيّة: 5/ 573 سورة القدر (97) (1) : القدر: 5/ 575 (4) : أمر: 5/ 576 سورة البيّنة (98) (1) : منفكّين: 5/ 578 (2) : يتلو: 5/ 579 (5) : القيّمة: 5/ 581 سورة الزلزلة (99) (1) : زلزلت: 5/ 583 (6) : يصدر: 5/ 584: أشتاتا: 5/ 584

سورة العاديات (100)

سورة العاديات (100) (1) : العاديات: 5/ 587: ضبحا: 5/ 587 (2) : فالموريات: 5/ 588 (4) : فأثرن: 5/ 588: نقعا: 5/ 589 سورة القارعة (101) (1) : القارعة: 5/ 593 (4) : الفراش: 5/ 594: المبثوت: 5/ 594 (5) : العهن: 5/ 594 (9) : هاوية: 5/ 595 سورة التكاثر (102) (1) : ألهاكم: 5/ 596: التّكاثر: 5/ 596 سورة العصر (103) (1) : العصر: 5/ 600 (2) : خسر: 5/ 600 سورة الهمزة (104) (1) : همزة: 5/ 602: لمزة: 5/ 602 (2) : عدّده: 5/ 603 (4) : الحطمة: 5/ 603 (8) : مؤصدة: 5/ 604 سورة الفيل (105) (2) : كيدهم: 5/ 605 (3) : أبابيل: 5/ 605 (4) : سجّيل: 5/ 606 (5) : كعصف: 5/ 606 سورة قريش (106) (1) : لإيلاف: 5/ 609: قريش: 5/ 609 سورة الماعون (107) (2) : يدعّ: 5/ 611 (5) : ساهون: 5/ 612 (7) : الماعون: 5/ 612 سورة الكوثر (108) (1) : الكوثر: 5/ 614 (2) : وانحر: 5/ 615 (3) : الأبتر: 5/ 615 سورة النصر (110) (1) : نصر الله: 5/ 623 (2) : أفواجا: 5/ 624 سورة المسد (111) (1) : تبّت: 5/ 627 (4) : حمّالة: 5/ 628: الحطب: 5/ 628

سورة الإخلاص (112)

(5) : من مسد: 5/ 628 سورة الإخلاص (112) (1) : أحد: 5/ 633 (2) : الصّمد: 5/ 633 (4) : كفوا: 5/ 635 سورة الفلق (113) (1) : الفلق: 5/ 638 (3) : غاسق: 5/ 639 (4) : النّفّاثات: 5/ 640: العقد: 5/ 640 سورة النّاس (114) (4) : الوسواس: 5/ 642: الخنّاس: 5/ 642 (6) : الجنّة: 5/ 643

(6) فهرس الموضوعات العامة

(6) فهرس الموضوعات العامة

الله

الله 1- توحيده وتنزيهه. 2- الأسماء الحسنى. 3- صفاته. 4- كمال الله. 5- العدل الإلهي والكرم الرباني. 6- العزة. 7- الشهادة. 8- الشفاعة. 9- الملك. 10- رحمة الله. 11- كلمات الله.

1 - توحيده وتنزيهه:

1- توحيده وتنزيهه: رأس خصال الدين التوحيد لله وترك الشرك به سبحانه 3/ 274 توحيده ودفع الشرك به 5/ 246- 247 الحياء: محال على الله 1/ 67 لو كان مع الله آلهة لابتغت إلى الله القربة والزلفى 3/ 275- 276- 277 يسبّحه من في السماوات والأرض 3/ 275- 276- 277 استحالة الشركاء لله تعالى 2/ 523 لو كان في السماوات والأرض آلهة إلا الله لفسدتا 2/ 523 تنزهه سبحانه عن الولد، واستغناؤه عن الشريك 2/ 523 تنزهه عما لا يليق به 5/ 514- 515 أول ما يجب بيانه ويحرم كتمانه 1/ 187 إن تعدد الآلهة يؤدي إلى الاختلاف 3/ 477 لا يسأل عما يفعل والناس يسألون 3/ 477 من أدلته تعالى خلق السماوات والأرض، وتعاقب الليل والنهار 1/ 188- 189 سؤال كل الخلق له 5/ 164- 167 كل يوم هو في شأن من المغفرة والرحمة، وتفريج الكرب 5/ 164- 167 شرع لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم التوحيد والإسلام ما وصّى به الرسل من قبل 4/ 607 ربط المشيئة بالله وحده 1/ 62 الفطرة: معناها الخلقة وهي الاستقامة على التوحيد 4/ 258 2- الأسماء الحسنى: لله الأسماء الحسنى 3/ 424 و 5/ 248 أسماء الله على الجملة 2/ 305- 306- 307- 308 لله أحسن الأسماء وأشرفها 2/ 305- 306- 307- 308 الإلحاد في أسمائه بالتغيير أو الزيادة أو النقص 2/ 305- 306- 307- 308 الأسماء الحسنى ليست منحصرة بعدد 2/ 305- 306- 307- 308

3 - صفاته:

حسن الأسماء كلها واستقلالها بنعوت الجلال والإكرام 5/ 403 الغني: إن الله غير محتاج إلى إيمان البشر ولا إلى عبادتهم 4/ 518 اللطيف: الله كثير اللطف بهم بالغ الرأفة لهم 4/ 610 هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْآخِرُ بَعْدَ كل شيء 5/ 199- 200 3- صفاته: هو الله أحد 5/ 632- 635 الصمد: الذي يصمد إليه في الحاجات 5/ 632- 635 ليس له كفء، ونفي الولد والوالد 5/ 632- 635 هو العالي الغالب على كل شيء، والعالم بما بطن 5/ 199- 200 هو ربّ الناس 5/ 641 مالك أمرهم ومصلح أحوالهم 5/ 641 العزيز: فلا نظير له في قوته وقهره 5/ 247- 249 الجبار- العظيم- المتكبر- الذي تكبر عن كل نقص 5/ 247- 249 الخالق المنشئ المخترع الموجد للصور، له الأسماء الحسنى 5/ 247- 249 الغفور الودود 5/ 501- 502- 506 صاحب العرش المجيد 5/ 501- 502- 506 فعّال لما يريد من الابتداء والإعادة 5/ 501- 502- 506 الخالق الذي أضحك أهل الجنة، وأبكى أهل النار 5/ 140 خلق الزوجين من المني الذي يصب في الرحم 5/ 140 قدرته سبحانه على إنشاء الأرواح عند البعث 5/ 140 يغني من يشاء ويفقر من يشاء 5/ 140 هو رب الشعرى 5/ 141- 142- 143 أهلك عادا وثمود وقوم نوح لكفرهم فما أبقى منهم أحدا 5/ 141- 142- 143 عالم الغيب والشهادة 5/ 246- 247 هو الرحمن الرحيم- الطَّاهِرُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نقص 5/ 246- 247 هو السلام الذي وهب الأمن لعباده من عذابه 5/ 246- 247 هو الشهيد عليهم 5/ 246- 247 هو الملك- القدوس- العزيز- الحكيم 5/ 267 هو الأعلى وهو الذي خلق وهدى وأخرج المرعى 5/ 514- 515

4 - كمال الله:

هو العليّ- معنى العلو- إثبات الجهة لله 1/ 312 4- كمال الله: علمه سبحانه بكل المخلوقات 3/ 152- 154 الله تعالى صيّر السماوات والأرض منيرتين باستقامة أحوال أهلهما وكمال تدبيره لمن فيهما 4/ 38- 39 بيان صفة نوره عز وجل 4/ 38- 39 5- العدل الإلهي والكرم الرباني: من عمل الحسنة فله خير منها 4/ 207 من عمل السيئة فلا يجزى إلا مثلها 4/ 217 التفريق يوم القيامة بين المسلمين والمجرمين 5/ 327- 328 التعجب من حكم الكفار الأعوج وادعاءاتهم الباطلة والظالمة والمستندة على الجهل والخداع 5/ 327- 328 أضاءت الأرض وأنارت بعدل الله 4/ 545 التفريق بين المحسن والمسيء في الثواب والعقاب 5/ 10 التسوية بينهما ظلم، والتفريق عدل إلهي 5/ 10 الجزاء بالأعمال والدرجات بها 2/ 186 لا تزر وازرة وزر أخرى 2/ 186 6- العزة: العزة لله جميعا 2/ 522 تطلب العزة من عنده سبحانه 4/ 356 7- الشهادة: شهادة الله وملائكته بالوحي والنبوة لمحمد صلّى الله عليه وسلم 1/ 622 8- الشفاعة: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إلا بإذنه 4/ 372 لا يملك أحد الشفاعة إلا بإذنه ويقول حقا 5/ 440- 446 لا يملكها أحد إلا إذا استعدّ لذلك، وأذن له الرحمن بها 3/ 416 لا تملكها الأصنام التي يعبدونها من دون الله 4/ 649

9 - الملك:

اتخاذ الكفار الأصنام شفعاء 4/ 535 الشفاعة لله وحده 4/ 535 9- الملك: لله ملك السماوات والأرض ومن فيهن 2/ 522- 523 10- رحمة الله: عدم القنوط واليأس 4/ 538- 539 الله كثير الرحمة والمغفرة 4/ 538- 539 لا يغفر الله الشرك به، ويغفر ما دون ذلك 4/ 538- 539 11- كلمات الله: لا تنفد كلمات الله أبدا 3/ 377

العقائد

العقائد 1- الإيمان ودلائله. 2- الدين والإسلام. 3- القدرة الإلهية ودلائلها. 4- التقديس. 5- الرؤية. 6- القسم. 7- القضاء والقدر. 8- الكرسي. 9- الإخلاص. 10- الإشراك. 11- الأصنام. 12- الكبائر. 13- الهوى. 14- الهدى. 15- التقوى. 16- الغيب. 17- الاحتكام إلى الله. 18- الوعد والوعيد.

1 - الإيمان:

1- الإيمان: الإيمان بالله والمراد به 1/ 110 تعريف الإيمان الشرعي 1/ 42 الاستدلال على الإيمان بالنظر فيما في السماوات والأرض 5/ 541- 542 التهديد والوعيد بما جرى للأمم السابقة من العذاب 5/ 541- 542 الإيمان والتقوى سبب نزول بركات السماء وخروج خيرات الأرض 2/ 260 لا ينفع بعد رؤية العذاب شيء. سنة العباد مضت في عباد الله جميعا 4/ 576 دلائل الألوهية: الله فاطر السماوات والأرض يرزق ولا يرزق فهو المعبود بحق 2/ 119 2- الدين والإسلام: لا إكراه في الدين لأهل الكتاب، وإنما القتال للمشركين 1/ 315 الكافر ميت يحييه الله بالإسلام 2/ 181- 182 أمثلة ممن أحياهم الله بالإسلام وأماتهم بالكفر 2/ 182 إكماله وإتمامه 2/ 13- 14 رضا الله به دينا لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم 2/ 13- 14 3- القدرة الإلهية ودلائلها: الدلائل السماوية والدلائل الأرضية من الخلق والإبداع 3/ 78- 79- 80 في الأمور التي تُرْجَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَيُخَافُ مِنْ بَعْضِهَا كالبرق والسحاب والرعد والصاعقة 3/ 86- 88 خلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات 2/ 241 يغشي الليل النهار 2/ 241 قدرة الله تعالى على الإتيان بالماء العذب إن غار الماء ونضب 5/ 316- 317 يوم القيامة يطوي الله السماء كطيّ السجل للكتب 3/ 509- 510- 513 كما بدأ أول خلق يعيده 3/ 509- 510- 513 في فصل الأرض عن السماء 3/ 480- 481- 482 جعل الله من الماء كل شيء حيّ 3/ 480- 481- 482 فالق الإصباح 2/ 163- 164 تسيير الفلك في البحر 3/ 289

بديع السماوات والأرض- خالق كل شيء 2/ 168- 169 كمال القدرة في جعل الليل للراحة والسّكن 2/ 163 جعل الشمس والقمر حسبانا (محل حساب) 2/ 163 إنشاء جنات معروشات والنخل والزرع 2/ 191- 192- 193 خلق الأنعام حمولة وفرشا 2/ 191- 192- 193 كمال القدر في خلق الحب والنخيل 2/ 164- 165 خلق الناس من نفس واحدة 2/ 164 جعل بعض الأنفس مستقرا أو بعضها مستودعا 2/ 164 إنزال الماء من السماء وإنبات النبات الأخضر 2/ 164 قدرة الله في خلق الحب المتراكب، والقنوان الدانية مشتبها وغير متشابه 2/ 167 خلق السماوات السبع 3/ 567- 568- 569 إنزال الماء من السماء وإسكانه الأرض، وهو قادر سبحانه على الذهاب به بالتبخر في السماء أو الغور في الأرض 3/ 567- 568- 569 إخراج الفواكه والثمار 3/ 567- 568- 569 شجرة الزيتون 3/ 567- 568- 569 خلق الأنعام ولبنها، والفلك وفائدتها 3/ 567- 568- 569 إنزال الماء من السماء فتخضر الأرض 3/ 552- 553 تسخير ما في الأرض 3/ 552- 553 جريان الفلك في البحر 3/ 552- 553 إمساك السماء أن تقع على الأرض 3/ 552- 553 الموت والحياة 3/ 552- 553 صنعة الله الباهرة في خلق الإنسان ووفاته 3/ 214- 215 من الناس من يرد إلى أرذل العمر (الخرف) 3/ 214- 215 في خلق الأنعام واللبن الذي يتكون من بين فرث ودم 3/ 211 إنزال الماء من السماء للشرب وليسلكه الله ينابيع وينبت به الزروع والأشجار 3/ 184- 185- 186 تسخير الليل والنهار والشمس والقمر 3/ 184- 185- 186 تسخير البحر لأكل اللحم واستخراج اللؤلؤ وجريان السفن 3/ 184- 185- 186 خلق النحل، وكيف يصنع من الرحيق عسلا 3/ 210- 211- 212 خلق ثمرات النخيل والأعناب، تتخذون منه خمرا محرما وطعاما حلالا 3/ 210- 211- 212

الليل والنهار آيتان 3/ 255 طمس نور الليل وجعل شمس النهار مضيئة 3/ 255 معرفة علم عدد السنين والحساب 3/ 255 إنزال الماء من السماء وإدخاله في الأرض وجعله عيونا جارية 4/ 525- 526 يخرج بالماء زروعا مختلفة في ألوانها 4/ 525- 526 ثم يجف النبات ويصفر ثم يتفتت ويتكسّر 4/ 525- 526 خلق السماوات والأرض 4/ 516 يكوّر النهار على الليل 4/ 516 انتقاص الليل والنهار 4/ 516 تسخير الشمس والقمر كل يجري في فلكه لأجل محدد 4/ 516 خلق البشر من نفس واحدة هي نفس آدم وجعل منها زوجها 4/ 516- 517 خلق من الأنعام ثمانية أزواج 4/ 516- 517 تطور خلق الجنين في الرحم 4/ 516- 517 إحياء الأرض الميتة 4/ 423- 424 إخراج الحب من الأرض 4/ 423- 424 جعل الله في الأرض بساتين من نخيل وأعناب 4/ 423- 424 تفجير العيون في الأرض 4/ 423- 424 خلق الأزواج 4/ 423- 424 الشمس تتحرك وتجري لمستقر لها 4/ 423- 424 القمر قدّره منازل حتى عاد كالعرجون القديم 4/ 423- 424 دوران الشمس والقمر، وكل منهما في فلك يسبحون 4/ 425- 427 حملهم في الفلك المملوء وإن يشأ الله يغرقهم 4/ 425- 427 خلق الأنعام التي يملكونها، وسخرها الله لركوبهم ولأكلهم ولمنافعهم 4/ 439 جعل في الأرض الجبال رواسي 3/ 480- 481- 482 جعل السماء سقفا محفوظا 3/ 480- 481- 482 خلق الليل والنهار والشمس والقمر 3/ 480- 481- 482 إرسال الرياح لحمل السحاب وتلقيح الأشجار 3/ 152- 154 إنزال المطر من السماء للسقيا والري 3/ 152- 154 خلق الله لمنازل الشمس والقمر 3/ 151- 153

حفظ الله السماء من كل شيطان رجيم 3/ 151- 153 جعل الأرض ممتدة وجعل فيها جبالا راسية وأنبت فيها كل النباتات 3/ 151- 153 خلق الدواب كلها من ماء 4/ 50- 51 تنوع المخلوقات في المشي والزحف والطيران 4/ 50- 51 كل من في السماوات والأرض يسبح لله 4/ 48- 49- 50 الطيور صافّات أجنحتها بقدرة الله تسبح الله وتعبده 4/ 48- 49- 50 ملك الله لكل ما في السماوات والأرض 4/ 48- 49- 50 يسوق سبحانه السحب، ثم يؤلّف بينها وينزل منها المطر والبرد 4/ 48- 49- 50 خلق السماوات والأرض 4/ 178- 179- 180 خلق الإنسان من نطفة 4/ 178- 179- 180 خلق الأنعام 4/ 178- 179- 180 جعل الله الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازل 2/ 484- 485 منازل القمر وفائدتها في معرفة عدد السنين والحساب 2/ 484- 485 اختلاف الليل والنهار وخلق السماوات والأرض 2/ 484- 485 إرسال الرياح بشرى بين يدي رحمته 2/ 244 سوق السحاب المحمل بالمطر إلى بلد ميت 2/ 244- 245 سلب الحواس 2/ 134 الختم على القلوب 2/ 134 العذاب 2/ 134 فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى 2/ 163- 164 يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحيّ 2/ 163- 164 خلق البحرين العذب والمالح وما فيهما من الحيوانات التي تؤكل وما يستخرج منها من اللؤلؤ والسفن تشق طريقها في كل منهما ابتغاء الرزق 4/ 393 إرسال الرياح فتحرك السحاب فيسوقه الله إلى بلد ميت فيحييها الله بالنبات بعد يبسها 4/ 395- 396 إنزال المطر من السماء وإخراج ثمرات مختلفة في أجناسها وأصنافها 4/ 399 خلقه للجبال وطرائقها الملونة، فيها خطوط بيضاء وحمراء وسوداء 4/ 399 اختلاف ألوان الناس كالثمرات والجبال 4/ 399 بيان بديع صنعه في إمساك السماوات والأرض 4/ 407- 408

عذابه يوم القيامة 2/ 119- 120- 121 النافع والضار وحده 2/ 119- 120- 121 خلق السماوات بغير عمد 4/ 271 ألقى في الأرض جبالا رواسي حتى لا تضطرب ولا تتحرك 4/ 271 بث في الأرض من كل دابّة 4/ 271 أنزل من السماء ماء فأنبت الله من كل زوج جميل حسن 4/ 271 هذا كله خلق الله الواحد فماذا خلق الذين من دونه 4/ 271 إرسال الرياح فتحرك السحاب، ويجعله الله قطعا، ويخرج المطر من خلاله، ويصيب به من يشاء 4/ 266 آثار المطر في الإنبات والحياة 4/ 266 إحياء الموتى 4/ 266 إرسال الرياح تبشر بالمطر، ولتجري الفلك في البحر عند هبوبها، ولتطلبوا الرزق بالتجارة التي تحملها السفن 4/ 264- 265 إعادة الخلق أهون عليه من بدايته وخلقه من العدم 4/ 255 النوم بالليل وابتغاؤكم الرزق بالنهار 4/ 254- 255 رؤية البرق خوفا من الصواعق وطمعا في الغيث 4/ 254- 255 إنزال المطر وإحياء الأرض الميتة 4/ 254- 255 أن تقوم السماء والأرض متماسكتين بأمره 4/ 254- 255 دعوته لكم عند الحشر من القبور فتخرجون للحساب 4/ 254- 255 يخلق الله الخلق أولا ثم يعيدهم للحساب 4/ 251- 252 يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحيّ 4/ 251- 252 يحيي الأرض بالنبات بعد يبسها 4/ 251- 252 خلق آدم من تراب ثم إذا أنتم بشر أطوار تتفرقون في طلب رزقكم 4/ 252- 253- 254 خلق الأزواج وجعل المودة والرحمة بينها 4/ 252- 253- 254 خلق السماوات والأرض 4/ 252- 253- 254 اختلاف الألسنة (اللغات) واختلاف الألوان 4/ 252- 253- 254 بسط الأرض للإنس والجن 5/ 159- 160 أنبت فيها الأشجار المثمرة والنخل ذا الليف والطلح وأنبت الحب ذا الورق والتبن والريحان 5/ 159- 160

خلق السماوات والأرض وما فيها من فنون الآيات 5/ 5- 6 أطوار خلق الإنسان 5/ 5- 6 خلق ما ينشر من دابة 5/ 5- 6 تعاقب الليل والنهار 5/ 5- 6 إنزال المطر 5/ 5- 6 تصريف الرياح 5/ 5- 6 تسخير البحر لتجري السفن فيه ولتطلبوا الرزق بالتجارة والغوص 5/ 7 خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق وبأجل مقدر هو يوم القيامة 5/ 16 رفع السماء وإحكامها 5/ 85- 86 تزيينها وليس فيها تفاوت أو شقوق 5/ 85- 86 بسط الأرض وإلقاء الرواسي وإنبات الزروع الحسنة وهي أزواج 5/ 85- 86 إنزال المطر وإنبات الحبوب والنخيل وإحياء الأرض الميتة 5/ 85- 86 خلق الإنسان وعلم الله بما يختلج في سره وقلبه 5/ 88- 89 توكيل ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله 5/ 88- 89 آيات الله ظاهرة في خلق ما في الأرض من جبال وأنهار وأشجار وبما فيها من آثار هلاك الأمم 5/ 101- 102 في النفس البشرية آيات تدل على قدرة الله تعالى 5/ 101- 102 في السماء سبب رزقكم 5/ 101- 102 القسم على تحقق ما ذكر من أمر الأرزاق والآيات 5/ 101- 102 رب المشرقين والمغربين 5/ 161- 162 إرساله سبحانه للبحرين عذب ومالح، لا يدخل أحدهما على الآخر، ويخرج منهما اللؤلؤ والمرجان 5/ 161- 162 لله السفن المرفوعات في البحر كالجبال 5/ 161- 162 الشمس والقمر يجريان بحساب، والنجم والشجر ينقادان لله 5/ 158- 159 رفعه سبحانه للسماء 5/ 158- 159 خلق الكفار الذين يكذبون بالبعث والخلق 5/ 188- 189 تقدير وتصوير المنيّ الذي يقذف في الأرحام 5/ 188- 189 تقدير الموت على كل فرد وعلى كل حيّ 5/ 188- 189 قدرته تعالى على أن يأتي بخلق غيركم 5/ 188- 189

قدرته تعالى على النشأة الأولى والأخرى 5/ 188- 189 ما يزرعه الناس ويبذرون حبه ينشئه الله ويجعله نبتا أخضر، ولو شاء لجعله محطما مكسرا 5/ 189- 191 الماء والنار خلقهما الله بفضله ورحمته 5/ 189- 191 له ملك السموات والأرض 5/ 199 يحيي في الدنيا، ويميت الأحياء 5/ 199 يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، فيطول أحدهما ويقصر الآخر 5/ 199 ما يدل على بديع صنعه من توحيده وقدرته على البعث 5/ 439- 440 خلق الأرض وطاء وفراشا ممهدا، والجبال كالأوتاد، لتسكن الأرض فلا تتحرك 5/ 439- 440 خلق الأزواج الذكور والإناث، والليل للنوم والراحة والنهار للسعي 5/ 439- 440 خلق الشمس فيها نور وحر 5/ 439- 440 إنزال المطر من السحب وإنبات الحب والبساتين الملتف بعضها على بعض 5/ 439- 440 التفريق بين الأعمى والبصير 5/ 315 إنشاء البشر من العدم وخلق الحواس لهم 5/ 315 خلقهم في الأرض ونشرهم ثم يجمعهم ليحاسبهم على عملهم 5/ 315 خلق الأرض سهلة مستقرة 5/ 313- 314 قدرته على خسف الأرض أو إسقاط الحجارة كما وقع في عذاب الأمم الكافرة 5/ 313- 314 خلق الطير صافات لأجنحتها وقابضة لها ما يمسكهن إلا الله 5/ 313- 314 إدرار الرزق من المطر 5/ 313- 314 بليغ قدرته وتصرفه في ملكه كيف يشاء 5/ 308- 311 خلق الحياة والموت 5/ 308- 311 خلق سبع سماوات متطابقة ومستوية لا وجود لأي شقوق أو فروق مهما تكرر النطر وتفحص 5/ 308- 311 تزيين السماء بالنجوم بشهبها ورجم الشياطين 5/ 308- 311 خلق سبع سماوات وسبع أرضين 5/ 294- 296 ما يدبر فيهن من عجيب تدبير الله تعالى 5/ 294- 296 خلق السماء ورفعها كالبناء، وجعلها مستوية، وأظلم ليلها وأبرز نهارها بالشمس 5/ 458- 460- 461

خلق الأرض وبسطها وفجر فيها ماءها، وأخرج نباتها منفعة لكم ولأنعامكم 5/ 458- 460- 461 خلق الإبل ورفع السماء 5/ 523- 524 نصب الجبال وبسط الأرض 5/ 523- 524 خلق الله البشر وانقسامهم إلى مؤمن وكافر 5/ 280- 281 علم بأعمال خلقه سرها وجهرها 5/ 280- 281 خلقه للبشر في أكمل صورة 5/ 280- 281 خالق كل شيء 4/ 543 له مفاتيح السماوات والأرض والرزق والرحمة 4/ 543 الكفرة لا يقدرون الله حق قدره حين يعبدون غيره 4/ 544 الأرض في مقدوره والسماوات مطويات بيمينه يوم القيامة 4/ 544 الله خالق كل شيء 5/ 571- 572 الأرض جعلها مستقرة، والسماء بناء محكم وسقف ثابت 5/ 571- 572 خلق البشر في أحسن صورة 5/ 571- 572 رزقهم من الطيبات 5/ 571- 572 خلق الإنسان الأول آدم من تراب وذريته من نطفة، ثم من علقة ثم يولدون أطفالا، ثم ليبلغوا حالة اجتماع العقل والقوة، ثم شيوخا ثم يبلغون وقت الموت، ومنهم من يموت قبل ذلك 4/ 573- 574 طاعة السماء والأرض لله 4/ 582- 583 إحكام السماوات سبعا 4/ 582- 583 أوحى في كل سماء أمرها ونظامها 4/ 582- 583 خلق الأرض قبل أو بعد السماء 4/ 582- 583 خلق الأرض في يومين، وخلق فيها جبالا كالرواسي وبارك في الأرض، وقدّر فيها أقواتها وأرزاق أهلها في أربعة أيام 4/ 581- 582 ثم عمد إلى خلق السماء بعد الأرض وهي دخان 4/ 581- 582 تزيين السماء بكواكب مضيئة 4/ 583 خلق الليل والنهار والشمس والقمر 4/ 593- 594 السجود لله خالقها ومبدعها 4/ 593- 594 الأرض اليابسة القاحلة تهتز وتنبت بعد نزول الماء عليها 4/ 593- 594 دلائل قدرته في الآفاق وفي أنفسهم 5/ 599

اختلاف الليل والنهار وتفرّده في جعل كل من الليل والنهار غير دائم ولا مستمر 4/ 213 خلق السماوات والأرض وما خلق فيهما ونشر من دابة تتحرك 4/ 616- 617 الفلك الجارية في البحر كالجبال 4/ 616- 617 تسكين الريح التي تجري بها السفن 4/ 616- 617 له ملك السماوات والأرض 4/ 623- 624 يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ ذكورا 4/ 623- 624 يجمع بين الذكور والإناث أو يجعل من يشاء عقيما لا يولد له 4/ 623- 624 جعل الأرض مهادا كالفراش وجعل فيها طرقا ليهتدي الناس في أسفارهم 4/ 628 إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بعد موتها 4/ 628 خلق الأزواج 4/ 628 خلق الفلك والأنعام للركوب 4/ 628 الإنبات في الأرض من كل زوج 4/ 110 خلق من الماء بشرا وجعله نسبا وصهرا 4/ 95 جعل من الماء كل شيء حيّ 4/ 95 الظل وحركته في الطول والتقلص 4/ 92- 93- 95 الشمس هي الدليل عليه 4/ 92- 93- 95 الليل لباس والنوم سبات وراحة 4/ 92- 93- 95 النهار نشور 4/ 92- 93- 95 الرياح تبشر بالرحمة 4/ 92- 93- 95 خلط وأرسل البحرين حلوا ومالحا 4/ 92- 93- 95 جعل في السماء نجوما وشمسا وقمرا منيرا 4/ 99 إدخال الليل في النهار والنهار في الليل 4/ 281 ذلّل الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مقدر 4/ 281 السفن تجري في البحر بلطف الله 4/ 281 اللجوء إلى الله في الأمواج والعواصف 4/ 281 تدبير السماوات والأرض بأمره، ثم رجوع ذلك الأمر في يوم مقداره ألف سنة من الدنيا 4/ 286- 288 عالم الغيب والشهادة 4/ 286- 288

4 - التقديس:

أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ الَّذِي خَصَّهُ بِهِ 4/ 286- 288 بدأ خلق آدم من طين 4/ 288 جعل ذريته من ماء ممتهن 4/ 288 سوّاه ونفخ فيه الروح وخلق له الحواس والعقل 4/ 288 سوق الماء إلى الأرض اليابسة فيخرج الله به زرعا يأكلون منه وتأكل أنعامهم 4/ 297 يكشف السوء 4/ 169- 170 يهلك قرنا وينشئ آخرين 4/ 169- 170 يرشدكم في ظلمات البر والبحر 4/ 169- 170 يرسل الرياح مبشرة بالمطر 4/ 169- 170 يبدأ الخلق ثم يعيده 4/ 169- 170 يرزقكم من السماء والأرض 4/ 169- 170 يعلم الغيب 4/ 169- 170 خلق السماوات والأرض 4/ 168- 169 إنزال المطر وإنبات الحدائق الجميلة 4/ 168- 169 جعل الأرض مستقرا وجعل فيها أنهارا وجبالا رواسي 4/ 168- 169 إجابة دعوة المضطر 4/ 168- 169 بدء الخلق أولا وإعادته ثانية عند البعث 4/ 228 4- التقديس: معناه اللغوي 1/ 75- 76 التسبيح: تسبيح الجمادات 5/ 198- 199 تسبيح العقلاء وغيرهم مما في السماوات والأرض 5/ 198- 199 5- الرؤية: رؤية الله في الدنيا والآخرة، طلبها اليهود وأنكرها المعتزلة 1/ 104 الكفار لا يرون الله يوم القيامة 1/ 104 لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار 2/ 169- 377 المنفي الإدراك لا مجرد الرؤية 2/ 169- 377 رؤية الله في الدنيا جائزة 2/ 277 رؤية الله في الدنيا لم تقع 2/ 277

6 - القسم:

رؤية الله في الآخرة ثابتة 2/ 277 6- القسم: أقسم الله بالسماء ذات النجوم 5/ 498- 499- 503 أقسم بها وأنها ذات الخلق المستوي الحسن 5/ 99 أقسم الله سبحانه بالسماء والطارق وهو النجم الثاقب 5/ 507- 508- 511 أقسم الله بالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض 5/ 549- 553 لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته 5/ 545- 546- 548 أقسم الله بالليل والنهار والذكر والأنثى جواب القسم عملكم المختلف، منه للجنّة ومنه للنار 5/ 550 القلم: القسم به لما فيه من البيان 5/ 318- 319- 322 الريح: القسم بها وهي تذري التراب وتحمل السحاب 5/ 98 أقسم الله سبحانه بمخلوقاته 5/ 526- 528- 530- 531- 532 أقسم بالفجر، والعشر من ذي الحجة، والشفع، والليل إذا يمضي أقسم الله بالعصر، وهو الدهر وما فيه من العبر وجواب القسم أن الإنسان في خسر 5/ 599- 600 استثناء المؤمنين العاملين المتواصين بالحق والصبر 5/ 599- 600 أقسم الله بالتين والزيتون وطور سينين (جبل الطور) والبلد الأمين مكة، وجواب القسم خلق الإنسان في اعتدال واستواء 5/ 566- 567 أقسم الله بالخيل وهي تسرع في الغزو 5/ 586- 588- 589- 591 توري النار بسنابكها وتغير وقت الصباح، تظهر الغبار وتتوسط المكان 5/ 586- 588- 589- 591 أقسم الله بالسفن وهي تجري بسهولة ويسر 5/ 98 7- القضاء والقدر: علم الله بالمطيع والعاصي ومحاسبتهما على أعمالهما 3/ 253- 254 انقطاع حجة القدرية 2/ 206 كل شيء خلقه الله بقدر قدّره، وقضاء قضاه وأحكمه 5/ 155

8 - الكرسي:

8- الكرسي: هو العرش 1/ 312- 313 نفاه المعتزلة 1/ 312- 313 استواء الرحمن على العرش 3/ 424- معنى الاستواء على العرش- اختلاف العلماء على أربعة عشر قولا- صفة العرش- قول مالك عن الاستواء 4/ 240- 242 9- الإخلاص: إخلاص العبادة لله، والانقياد له وحده، يؤدي إلى الاعتصام بالعهد الأوثق والتعلّق به 4/ 278 10- الإشراك: إحباطه للعمل 4/ 544 النهي عنه 5/ 204- 205 الرهبة لله وحده، فهو الخالق المنعم، وإليه يجأر من أصابه ضرر 5/ 204- 205 بعد كشف الضرر يعود الناس إلى الإشراك 5/ 204- 205 أعظم أنواع الضلال 1/ 595 الإشراك ظلم عظيم 4/ 273 من أشرك انْحَطَّ مِنْ رَفِيعِ الْإِيمَانِ إِلَى حَضِيضِ الْكُفْرِ، فهو كمن سقط من السماء، فتخطف الطير لحمه، أو تقذفه الريح في مكان بعيد 3/ 534 11- الأصنام: اتخذها الكفار آلهة لتنصرهم 4/ 439 الآلهة لا تستطيع نصرهم، وهم جند الأصنام محضرون للعذاب 4/ 439 الله يعلم سرهم وجهرهم 4/ 439 عجزها عن إمساك الرحمة أو إرادة الضرر 4/ 533 عبدها المشركون لتقربهم من الله 4/ 515 لا يستحقون العبادة لأنهم لا يخلقون 3/ 188- 189

12 - الكبائر:

أموات غير أحياء 3/ 188- 189 ما يشعرون متى يبعثون 3/ 188- 189 الأصنام ومن يعبدونها حصب جهنم 3/ 187- 188 عجزهم عن الخلق وليس لهم شركة مع الله 5/ 17 لا تسمع ولا تعقل ولا تجيب الدعاء 5/ 17 لا تقدر على شيء 4/ 407 12- الكبائر: معناها 1/ 527- 528- 529 عددها 1/ 527- 528- 529 موضوع خروج أهل الكبائر من النار 2/ 598 رد المؤلف على صاحب الكشاف 2/ 598 الذين يجتنبون الكبائر من الذنوب لهم أجرهم عند ربهم 4/ 619 كل ذنب توعّد الله عليه بالنار فهو كبيرة وفاحشة 5/ 135- 136- 138 مغفرة الله للذنوب الصغيرة وهي اللمم 5/ 135- 136- 138 13- الهوى: التهديد من اتباع هوى أهل الكتاب والمبتدعين 1/ 179 14- الهدى: الهدى هديان: هدى دلالة وهدى توفيق وتأييد 1/ 39 15- التقوى: سبب في ثبات القلوب، وثقوب البصائر، ومغفرة الذنوب 2/ 346 16- الغيب: معنى الغيب 1/ 40 لا يعلم الغيب إلا الله 2/ 140 عند الله مفاتح الغيب 2/ 140 علم الساعة 2/ 282- 283 نزول الغيث 2/ 282- 283

17 - الاحتكام إلى الله:

ما في الأرحام 2/ 282- 283 ما تكسبه كل نفس 2/ 282- 283 ما تدري نفس بأي أرض تموت 2/ 282- 283 17- الاحتكام إلى الله: كل ما اختلف فيه العباد فمردّه إلى الله 4/ 605 وكل ما تنوزع فيه فمرده إلى الله ورسوله 4/ 605 18- الطاعة: الأمر بطاعة الله ورسوله 5/ 51 التولّي عن ذلك يؤدي إلى استبدال قوم بغيرهم 5/ 51

العبادات

العبادات 1- العبادة. 2- الطهارة. 3- الوضوء. 4- التيمم. 5- الأذان. 6- المساجد. 7- الصلاة. 8- الصّيام. 9- الزكاة. 10- الحج والعمرة.

1 - العبادة:

1- العبادة: الأمر بتوحيد الله وعبادته 4/ 571 الاستكبار عن عبادة الله مصيره دخول جهنم مع الذلة والصغار 4/ 571 العبادة لله وحده الذي يتوفى الأنفس 2/ 542 أمر الله للمؤمنين بالسجود والعبادة لله تعالى 5/ 142 ما خلق الله الإنس والجن إلا لعبادته وهو الغني عنهم وعن نفعهم 5/ 110- 111 2- الطهارة: الحيض- معناه، هو أذى، وتحريم وطء الحائض 1/ 258- 259- حكم وطء الحائض بعد طهرها (انقطاع الدم) وقبل الغسل 1/ 258- 259 القرء- لفظ مشترك معناه الحيض والطهر 1/ 269- 270- العورة- الاختلاف في حدها 1/ 271 3- الوضوء: الوضوء عند القيام إلى الصلاة 2/ 20- 21 أركان الوضوء 2/ 21- 22 نواقضه 1/ 542 معنى لا مستم وهل ينقض الوضوء باللمس 1/ 543- 547 4- التيمم: جوازه في حالتي السفر والمرض 1/ 543- 544 معنى التيمم اللغوي والشرعي 3/ 544 معنى الصعيد وما يجزئ بها التيمّم 1/ 545 5- الأذان: معنى النداء 2/ 62 وجوبه وذكره في القرآن 2/ 62 6- المساجد: الصلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة بلاغ لقوم عابدين 3/ 514 منع الكفار من دخول المساجد 1/ 153

7 - الصلاة:

هي للصلاة وللذكر 5/ 370- 371 النهي عن دعاء وعبادة أحد فيها كائنا من كان 5/ 370- 371 بيوت أذن الله أن تبنى، ويذكر فيها اسم الله وتقام الصلاة 4/ 41- 42 الحرم المكي جعله الله حرما آمنا 4/ 244 الحرم المكي لا يمنع من إقامة الحدود 1/ 417 المسجد الحرام جعله الله للناس جميعا يصلّون فيه ويطوفون، ولا فرق بين المقيمين وأهل البادية 3/ 530- 531 من يرد فيه فعل معصية أو ظلم يذقه الله عذابا أليما 3/ 530- 531 المسجد النبوي الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمِ، ومسجد قباء 4/ 459- 463 المشركون لا يعمرون المساجد 2/ 392 إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ واليوم الآخر 2/ 393- 394 لا مقارنة بين إعمار المساجد وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام 2/ 394 7- الصلاة: معنى الصلاة لغة وشرعا 1/ 42 الأمر بالدوام على إقامتها والاستمرار على أدائها 4/ 236- 237 الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وذكر الله أكبر من كل شيء، وما في الصلاة من الذكر هو العمدة في تفضيلها 4/ 236- 237 معنى الصلاة من الله، ومن العباد، ومن الملائكة، ووجوب إقامتها في أوقاتها المحددة 1/ 588- 589 إقامة الصلاة بأذكارها وأركانها عند زوال الخوف 1/ 589 خير صفوف الرجال المقدمة وخير صفوف النساء المؤخرة 3/ 155 حكم الخشوع في الصلاة 3/ 562- 563 أوقات الصلوات المفروضة 3/ 298- 299 قيام الليل للتهجد 3/ 298- 299 الصلاة الوسطى صلاة العصر 1/ 294- 295 خلف السوء من أول صفاتهم إضاعة الصلاة 3/ 402 معنى إضاعة الصلاة، وعاقبة إضاعتها الشر 3/ 402 صلاة الجمعة- الأمر بالسعي والمشي إلى الصلاة (صلاة الجمعة) عند سماع الأذان إذا جلس الإمام على المنبر 5/ 270- 273

تحريم البيع وجميع المعاملات بعد الأذان 5/ 270- 273 الانتشار في الأرض طلبا للرزق، مع استصحاب ذكر الله تعالى إلى وقت انتهاء الصلاة من يوم الجمعة 5/ 270- 273 صلاة الجماعة وجوبها سنة مؤكدة 1/ 91 قصر الصلاة في السفر 1/ 585- 586 النهي عن الصلاة في حالة الجنابة إلا للمسافر بعد التيمم، والنهي عن قرب المساجد للصلاة حال الجنابة إلا للعبور 1/ 541 صلاة الخوف 1/ 297 صفة صلاة الخوف وحكمها 1/ 586- 588 صلاة قيام الليل، التخفيف عليهم في مقدار القيام وفي مقدار القراءة 5/ 386 حكم الصلاة التهجد فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حق أمته 5/ 386 الهلاك للمنافقين الذين لا يرجون بصلاتهم ثوابا 5/ 611 الهلاك لمن يغفل عن الصلاة أو لا يخشع فيها 5/ 611- 612 القبلة: التوجه إلى القبلة في كل مسجد وفي كل صلاة 2/ 227 تحويل القبلة امتحان وابتلاء 1/ 175- 176 وقت التحويل وكيفية استدارة المصلين 1/ 175- 176 استقبال عين الكعبة وجهتها 1/ 178 تحويل القبلة أسبابه وعلله 1/ 181- 182 معنى جعل البيوت قبلة 2/ 530- 531 قبلة الصلاة في المساجد أو في البيوت 2/ 530- 531 الاستعاذة: الاستعاذة بالله عند وسوسة الشيطان 4/ 592 الاستعاذة من شر كل المخلوقات 5/ 639 الاستعاذة من شر ما يوسوس في صدور الناس 5/ 641 أعمال في الصلاة: هل يجهر بالبسملة في الصلاة 1/ 20 سقوط البسملة من أول سورة براءة 2/ 378- 379 القراءة في الصلاة والتوسط بين الجهر والمخافتة 3/ 317- 318

الأمر بالقراءة مبتدئا باسم الله 5/ 569- 570 أول ما نزل من القرآن 5/ 569- 570 مشروعية التأمين بعد قراءة الفاتحة 1/ 30 الركوع: معناه اللغوي والشرعي 1/ 91 السجود: معناه وجوازه لغير الله 1/ 78- 79 لله يسجد سجود انقياد مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ والقمر والنجوم والجبال والشجر وكثير من الناس 3/ 525 الأمر لليهود بدخول الباب سجدا 1/ 105 القنوت- معناه 1/ 155 معنى القنوت اللغوي والشرعي ومنه الدعاء 1/ 296 الاعتكاف- تحريم الجماع أثناءه، ومعناه اللغوي والشرعي، وشروط الاعتكاف 1/ 214- 215 التسبيح: في الصلاة (سبحان ربي الأعلى) 5/ 514- 517 الخشوع: معناه اللغوي والشرعي وبيان حقيقته 1/ 93 ليلة القدر: تعيينها وفضلها، ونزول الملائكة وجبريل، وسلام هي حتى مطلع الفجر 5/ 574- 576 الدعاء وآدابه: الاتجاه بالدعاء لله وحده النافع والضار 2/ 542- 543 اللجوء والتضرع لله دليل الإيمان 2/ 132 إعراض الكفار عن الدعاء والتضرع 2/ 132 سرعة الإجابة 1/ 213 الدعاء عبادة 1/ 213 فضل الدعاء والحض عليه وآدابه 1/ 213 الأمر بالدعاء تضرعا وخفية 2/ 243- 245 عدم الاعتداء في الدعاء 2/ 243- 245 الدعاء خوفا وطمعا 2/ 243- 245 يأخذ الله المكذبين بالبأساء والضراء حتى يتضرعوا ويتذللوا 2/ 259 السؤال بجلب النفع دفع للضرر 4/ 571- 572 وعد الله بالإجابة للدعاء 4/ 571- 572

8 - الصيام:

من يدعو الله قسمان: قسم يطلب حظ الدنيا ولا يلتفت للآخرة، وقسم يطلب الأمرين معا 1/ 235 المراد بالحسنة في الدنيا والآخرة 1/ 235 الدعاء جهرا وخفية وقت الضيق والشدة، حال التضرّع والخوف، دون الجهر من القول، بالغدو والآصال 2/ 320- 321 الجمع فيه بين الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور 3/ 379 معنى آمين 1/ 31 معنى الصراط المستقيم 1/ 28 الصراط طريق دين الإسلام والأمر باتباعه 2/ 203 الذّكر: معناه وضبطه 1/ 87 ذكر الله قياما وقعودا 1/ 470 الأمر بالاستكثار من الذكر، والتسبيح، والتحميد، والتهليل في الصباح والمساء 4/ 330- 332 فضائل الذكر 4/ 330- 332 هو الكلم الطيب 4/ 391 إلى الله يصعد فيقبله، ويثيب عليه 4/ 391 ذكر الله سرّا وجهرا 3/ 424 من يعرض عن ذكر الله يقيض له الله شيطانا ملازما له والكافر يتمنى يوم القيامة أن يكون بينه وبين قرينه بعد المشرق والمغرب 4/ 637 الباقيات الصالحات: خير عند الله أجرا ومرجعا 3/ 413 أعمال الخير خير ثوابا وأفضل أملا 3/ 346 هي سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أكبر 3/ 346 8- الصيام: معنى رمضان، معناه اللغوي والشرعي 1/ 207 صوم رمضان فرض بالإجماع 1/ 207 حكم صيام من شهد رمضان 1/ 210 الحض على التكبير في آخر رمضان 1/ 211- 212

9 - الزكاة:

حكم من يطيق الصوم مع المشقة، ومقدار الفدية 1/ 208- 209 حكم صوم المريض والمسافر 1/ 207 السفر المبيح للإفطار 1/ 207 حكم الصيام مع الفدية والمرض والسفر 1/ 208 حلّ الجماع في ليالي الصوم 1/ 214 قضاء الصيام، هل يجب التتابع به 1/ 207- 208 9- الزكاة: معناها اللغوي والشرعي 1/ 90 المستحقون للزكاة 1/ 199 كل مال أديت زكاته فليس بكنز، ومعنى الكنز 2/ 406- 408 ترك الإنفاق في سبيل الله 2/ 406- 408 أمر الرسول بأخذ الزكاة تطهيرا وتزكية لأموالهم ونفوسهم والدعاء لهم 2/ 454- 455 الزكاة يوم حصاد الزرع 2/ 192 الأصناف الثمانية المستحقون للزكاة 2/ 424- 427 هل يجب استيفاء هذه الأصناف أم يجوز صرفها إلى البعض دون البعض؟ 2/ 424 ما آتيتم من مال الزكاة تريدون فيه وجه الله فالله يباركه ويزيده 4/ 262 الفرق بين الفقير والمسكين 2/ 424- 425 صنف الغارمين 2/ 426 في سبيل الله 2/ 425- 426 العاملون عليها، كم يأخذون 2/ 425- 426 المؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب 2/ 425- 426 الويل للذين لا يؤدون الزكاة ولا يقرون بوجوبها 4/ 580 وهم منكرون للآخرة جاحدون لها 4/ 580 الدعوة إلى الإنفاق في الجهاد في سبيل الله 5/ 51 النهي عن البخل 5/ 51 الإنفاق من الطيب في الصدقة المفروضة والتطوع، وفضل الإخفاء في صدقة التطوع 1/ 333- 335 الصدقة والصلة والبر على القريب المسكين وابن السبيل 4/ 261

10 - الحج والعمرة:

10- الحج والعمرة: معنى إتمامهما 1/ 224- 228 معناهما اللغوي والشرعي 1/ 186 حكم السعي بين الصفا والمروة 1/ 186 وقت الحج 1/ 230 الأشهر المعلومات، ووقت الإحرام بالحج 1/ 230 معنى الاستطاعة 1/ 417 الاستطاعة: الزاد والراحلة 1/ 418 الوعيد الشديد لمن ملك زادا وراحلة ولم يحج 1/ 418- 419 الترخيص لمن حج في التجارة ونحوها 1/ 231 عرفات: معناها وحدودها 1/ 232- 234 المحرم للمرأة في الحج من الاستطاعة 1/ 419 الحجاج يأتون مشاة على أرجلهم لأداء فريضة الحج ويأتون راكبين على الجمال الضوامر 3/ 532- 533 ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله عند ذبح الهدايا والأضاحي 3/ 532- 533 صورة التمتع 1/ 226 التمتع أفضل أنواع الحج 1/ 226 تعظيم أعمال الحج خير عند الله في الآخرة 3/ 536- 537 تعظيم شعائر الحج وأعماله من تقوى القلوب 3/ 536- 537 ذكر الله في الحج، الأيام المعلومات والمعدودات 3/ 536- 537 المشعر الحرام- اسمه- حدوده- الدعاء عنده 1/ 232 الحصر والإحصار 1/ 225 بلوغ الهدي محله، والإحلال من الإحرام بالحلق، وحكم المريض ومن به أذى من رأسه 1/ 225 مقت تارك الحج وخذلانه 1/ 416 الأيام المعلومات 3/ 533 ذبح الأضاحي والهدايا، وإطعام البائس الفقير 3/ 533 الخروج من الإحرام بإزالة التفث 3/ 533 الطواف بالبيت طواف الإفاضة 3/ 533

تحريم الصيد أثناء الإحرام 2/ 7 إباحة الصيد بعد الإحلال 2/ 8 الصفا والمروة من شعائر الله 1/ 185 المغفرة لأهل عرفة 1/ 236 لا متعة لحاضري المسجد الحرام 1/ 227 وجوب الهدي والصيام على من لم يكن ساكنا في الحرم 1/ 227 فدية الأذى صوم عشرة أيام وإطعام عشرة مساكين 1/ 226 المقدار في الفدية 1/ 226 المكان في الإطعام عند عدم الهدي 1/ 226 الصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع إلى الوطن 1/ 226 معنى الرفث فيه والفسوق 1/ 230- 231

القرآن الكريم

القرآن الكريم 1- إنزاله ونزوله. 2- إعجازه. 3- القرآن هو الحق. 4- الحروف وفواتح السور. 5- المحكم والمتشابه. 6- فضائل بعض سوره. 7- مكانته وشرفه. 8- هديه ونذره وبشائره. 9- موقف المشركين منه والرد عليهم. 10- الإنصات له. 11- ذكرى وموعظة. 12- القسم به. 13- حجج القرآن. 14- القرآن والجنّ. 15- تفسير الصحابة. 16- النسخ. 17- أمثال القرآن.

1 - إنزال القرآن ونزوله:

1- إنزال القرآن ونزوله: أنزله الله للإنذار وذكرى للمؤمنين 2/ 213- 214 أنزله الله نعمة على رسوله، وليس فيه أي خلل في اللفظ أو المعنى 3/ 321 أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم 4/ 239- 241 من أهل الكتاب من أسلم فهو يؤمن بالقرآن 4/ 239- 241 أنزله الله بلغة محمد صلّى الله عليه وسلم عربيا لعلهم يعتبرون 4/ 664 أنزله الله مباركا 3/ 460 أنزله الله بلغة العرب ليفهموه 3/ 461 و 4/ 579 أنزله الله مباركا مصدّقا الذي بين يديه 2/ 158- 161 أنزله الله ذكرا وشرفا للعرب 5/ 294- 295 أنزله الله وأنزل الكتب السّماوية كلها بالحق 4/ 609 أنزله الله مباركا وأمر باتباعه 2/ 205- 206 أنزله الله مشتملا على أصول الشرائع وفروعها 3/ 105 لو أنزله الله أعجميا غير عربي لاعترضوا، وقالوا: لولا بينت آياته بلغتنا، وأنكروا أن يكون القرآن أعجميا والرسول عربي 4/ 136 و 4/ 595 بالحق أنزله الله 3/ 315- 316 أنزله الله منجما (مفرقا) 3/ 315- 316 لو أنزله الله على رجل من الأعجمين الذين لا يتكلمون العربية لما آمنوا لعدم فهمهم له 4/ 136- 137 كتاب أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النّور 3/ 111 إنزاله جملة واحدة في ليلة القدر 5/ 574- 576 تفريقه في الإنزال عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 5/ 426 تنزيل القرآن من الله العزيز الحكيم 5/ 5 تشبيه نزوله بنزول المطر 3/ 90 كان نزول القرآن فضلا كبيرا على رسول الله 3/ 307- 308 تنزيل كائن من الله أنزله الله بالحق لإثبات التوحيد والنبوة والمعاد 4/ 514 نزوله منجما 1/ 210 نزوله إلى السماء الدنيا في رمضان 1/ 210 إلقاؤه على رسول الله، وأخذه من إله كثير العلم والحكمة 4/ 145

2 - إعجاز القرآن:

2- إعجاز القرآن: عجز البشر لكون القرآن معجزا أو للصّرفة 1/ 63 بلاغة افتتاح سورة المائدة 2/ 6 إعجازه في عدم التناقض والتفاوت في آياته وأحكامه 1/ 567- 568 الذين أوتوا العلم إذا سمعوا القرآن خرّوا ساجدين 3/ 315- 316 القرآن يزيدهم خشوعا وبكاء وتأثرا بإعجازه 3/ 315- 316 أمية الرسول صلّى الله عليه وسلم دليل على أن القرآن من عند الله 4/ 239- 241 إعجازه في الإخبار عن انتصار الروم بعد هزيمتهم أمام الفرس 4/ 247- 249 3- القرآن هو الحق: هو الحق المنزل من عند الله 3/ 76 تيسير القرآن للذكر لمن يتذكر ويعتبر 5/ 151- 153- 154 صرف فيه الله ضروب القول من الأمثال وغيرها ليتعظوا ويتدبروا 3/ 274 و 4/ 529 سيريهم الله دلائل صدقه في الآفاق وفي أنفسهم حتى يظهر لهم الحق والصدق 4/ 599 ضرب الله فيه الأمثال التي تدل على التوحيد 4/ 268 يسّرناه بلسانك يا محمد لتبشر به المؤمنين وتنذر قوما مخاصمين 3/ 419- 420 سيعلمون أنه الحق عند النزع 5/ 437- 439 تساؤلهم عنه واختلافهم فيه فجعله بعضهم سحرا وبعضهم شعرا 5/ 437- 439 الحجج البينات والبراهين الواضحة التي جاءت في آيات القرآن 1/ 171 الأمر بتدبر القرآن وتفهم آياته والعمل بأحكامه 5/ 46 يأتي يوم القيامة في صورة شاب شاحب 2/ 216 كرر الله فيه وردّد من كل مثل 3/ 351 4- الحروف وفواتح السور: معنى الحروف التي في أوائل السور 1/ 34- 38 الحروف المقطعة 2/ 479- 482 الحروف المقطعة لفظها والوقوف على كل حرف منها 4/ 109 الحروف المقطعة معنى طه 3/ 422 الحروف المقطعة معنى (ن) في مطلع السورة 5/ 318 الحروف المقطعة معناها 3/ 380- 385

5 - المحكم والمتشابه:

الحروف المقطعة معنى (ق) 5/ 83- 87 فواتح السور 3/ 215 فواتح السور حم- فاتحة السورة، وهي المتشابه 4/ 551 التناسب بين الآيات 1/ 85- 87 هل البسملة آية مستقلة؟ 1/ 20 معنى «السورة» لغة واصطلاحا 4/ 5- 6 إعراب «سورة» في مطلع سورة النور 4/ 5- 6 5- المحكم والمتشابه: معناه 1/ 360- 361 الأولى فيهما 1/ 360- 361 فوائد المتشابه 1/ 364 الراسخون يعلمونه 1/ 363 زيادة إيضاح 1/ 364 سبب اختلاف العلماء فيهما 1/ 364 أحكامه أجمعت عليها الشرائع في كتب الأولين 4/ 135- 136 6- فضائل بعض سوره: فضل سورة الصّافات 4/ 443 فضل سورة يس 4/ 412- 413 فضل سورة الفلق والاستعاذة برب الفلق 5/ 637- 638- 640 فضل آيات من سورة النساء 1/ 478 فضائل الآيتين (خواتيم سورة البقرة) 1/ 356 فضل آية الكرسي 1/ 314- 315 فضل الآيات العشر الأخيرة من سورة آل عمران 1/ 476- 477 فضائل سورة الأنعام 2/ 111- 112 7- مكانته وشرفه: جلاله وتعظيمه وتأثيره على القلوب والأفئدة 5/ 246- 248 حفظ الله له وجمعه وتفسيره 5/ 406- 407- 409 لا تعجل به يا محمد قبل أن يفرغ منه جبريل 3/ 460

8 - هديه ونذره وبشائره:

فيه شرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولقومه 3/ 456 و 3/ 474 و 4/ 638 و 5/ 336 أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا القرآن 4/ 400- 401 هو النور الذي أنزله الله 5/ 282 هو شفاء ورحمة 3/ 302- 303 معنى الشفاء 3/ 302- 303 كتاب آياته محكمة ومفصلة 2/ 545- 548 و 4/ 579 هو بيّن ظاهر 4/ 109 متناه في الشرف والبركة 5/ 502- 503 مكتوب في لوح محفوظ هو أمّ الكتاب 5/ 502- 503 8- هديه ونذره وبشائره: آياته هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاة، ويؤمنون بالآخرة وهم على هدى من ربهم وهم الفائزون 4/ 261 القرآن يهدي للطريقة الأقوم، وهو بشارة بالأجر 3/ 253- 254 آياته هدى وبشرى وشفاء للمؤمنين 4/ 144 و 595 هو الفرقان نزّله الله ليكون إنذارا للعالمين 4/ 71 أوحاه الله لإنذار أهل مكة ومن حولها 4/ 603 أنزل الله القرآن بشيرا لأوليائه ونذيرا لأعدائه 4/ 579 أورث الله القرآن لمن اصطفى من عباده 4/ 400- 401 9- موقف المشركين والرد عليهم: الرد على المشركين أنه لم تتنزل به الشياطين وما يستطيعون 4/ 138 الإنكار على الكفار أنهم لا يسجدون عند تلاوة القرآن 5/ 495 موقف المشركين وقولهم: أضغاث أحلام- مفترى- شعر 3/ 472 تعجبهم من القرآن وضحكهم وعدم بكائهم 5/ 142 تَنْزِيلَ الْكِتَابِ الْمَتْلُوِّ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شك 4/ 285 تكذيب الله للمشركين في ادعائهم افتراء القرآن 4/ 285 بيان أن الإنزال تم بالحق للإنذار والتخويف 4/ 285

الكفار قالوا لبعضهم البعض: لا تسمعوا للقرآن وعارضوه بالكفر والباطل من الكلام 4/ 589 الذين يكفرون به يجازيهم الله بكفرهم 4/ 5 الكفار في آذانهم صمم عن سماعه وهو عليهم ذو عمى 4/ 595- 596 المشركون يجحدون القرآن، وينظرون إلى رسول الله باستخفاف، ويعلنون أن لو نزل القرآن على رجل عظيم من أهل مكة أو الطائف لأسلموا 4/ 634 قول الكفار باختلاق الرسول للقرآن، وتحديهم أن يأتوا بمثله 5/ 120 كفرهم به، وهو من عند الله، تكبّرا 5/ 20- 21 شهادة شاهد من بني إسرائيل وإيمانه به 5/ 20- 21 توافق القرآن مع التوراة في أصول الشرائع 5/ 20- 21 القرآن مصدّق لما تقدمه من الكتب 5/ 20- 21 ذو لسان عربي 5/ 20- 21 اتخاذ الكفار القرآن هزؤا وسخرية 5/ 14 التحدي للكفار أن يأتوا بسورة مثله 2/ 507 ما يجحد بآياته إلا الكفرة 4/ 239- 241 المشركون جَعَلُوا الْقُرْآنَ أَجْزَاءً مُتَفَرِّقَةً، بَعْضُهُ شِعْرٌ، وَبَعْضُهُ سحر 3/ 173 طلب الكفار المنكرون للمعاد من رسول الله أن يأتي بقرآن آخر، لأن القرآن توعّدهم بالعذاب، وعاب عبادتهم وأصنامهم 2/ 489- 490 الرسول صلّى الله عليه وسلم لا يأتي بالقرآن من عند نفسه، ولا يملك تبديله 2/ 489- 490 مجاهدة الكفار بزواجره وأوامره 4/ 94 قولهم عنه أساطير الأولين 2/ 347 و 5/ 485 هجرهم القرآن 4/ 85- 86 اعتراض الكفار على نزوله منجما 4/ 85- 86 الحكمة من نزوله مفرقا تثبيت فؤاد النبي 4/ 85- 86 جعل الله بين قراءة الرسول صلّى الله عليه وسلم وبين المشركين حجابا مستورا 3/ 277- 278 في آذانهم وقر وإذا سمعوه هربوا ونفروا 3/ 277- 278 الكفار قالوا عن القرآن بأنه كذب افتراه محمد صلّى الله عليه وسلم 4/ 72- 73 وقالوا إنه أساطير اكتتبها فهي تملى عليه 4/ 72- 73 أعانه عليه آخرون كاليهود وغيرهم 4/ 72- 73

10 - الإنصات عند تلاوة القرآن:

إعراض الكفار عن تدبر آياته 3/ 584- 585 القرآن هو الشرف والفخر لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم 3/ 584- 585 المشركون يكفرون بالقرآن 3/ 483 قول الوليد بن المغيرة عن القرآن أنه قول البشر وأنه سحر يؤثر، ينقله محمد صلّى الله عليه وسلم ويرويه عن غيره 5/ 392- 393 يقصّ على بني إسرائيل ما يختلفون فيه ويتفرقون بسببه 4/ 173 10- الإنصات عند تلاوة القرآن: أمر الرسول بتلاوة القرآن بتمهّل وتدبّر 5/ 379 القرآن وحي، وهو قول ثقيل بأوامره ونواهيه 5/ 379 المداومة على تلاوته 4/ 180 الأمر بالاستماع للقرآن والإنصات لتنالهم الرحمة 2/ 319- 320 قراءة القرآن تضرعا وخفية 2/ 319- 320- 321 قراءة الإمام في الصلاة 2/ 319- 320- 321 سجود التلاوة 2/ 319- 320- 321 الأمر بالاستعاذة عند القراءة 3/ 233- 234- 235 11- ذكرى وموعظة: القرآن ذكرى وموعظة لمن كان قلبه حيا صحيحا 4/ 436 القرآن ذكر مبارك 3/ 487 تذكرة لأهل التقوى 5/ 342- 343 حسرة وندامة على الكافرين 5/ 342- 343 هو حق اليقين، فلا ريب حوله ولا شك 5/ 342- 343 قرآن الفجر تشهده الملائكة 3/ 300 12- القسم به: الإقسام به تنبيه على شرف قدره واشتماله على الذكر 4/ 481 القسم به ووصفه بالمحكم الذي لا يتناقض 4/ 413 القسم بالقرآن، وأنه ذو مجد وشرف 5/ 83- 84 القسم بالقرآن وأن الله جعله عربيا بلسانهم لكي يفهموه وهو في اللوح المحفوظ رفيع القدر محكم النظم لا اختلاف فيه 4/ 627

13 - حجج القرآن:

القسم بمواقع النجوم، وهو قسم عظيم بأنه قرآن 5/ 192- 193- 596 هو كريم عظيم، في كتاب مصون، لا يمسه إلا المطهرون 5/ 341- 342 القسم بالمخلوقات والمرئيات كلها أن القرآن تلاوة رسول كريم، ويبلغه ملك أمين 5/ 341- 342 القسم بالكواكب الخنس التي تختفي بالنهار، والجوار الكنس التي تجري مع الشمس 5/ 472- 473- 476 القسم بالليل إذا أقبل وأدبر والصبح إذا أقبل إن القرآن لقول يتنزل به جبريل، وهو رسول كريم أمين ومطاع 5/ 472- 473- 476 القسم بالسماء ذات المطر والأرض التي تتصدع بالنبات والزرع أن القرآن قول فصل بين الحق والباطل، ولم ينزل للّعب 5/ 510- 511 القسم به أنزله الله في ليلة القدر، وهي ليلة مباركة 4/ 652- 653 13- حجج القرآن: آياته مشتملة على بيان الحق من الباطل 4/ 182 تفخيمه وكماله 3/ 145 تعظيم شأنه 3/ 100 فرض الله العمل بما يوجبه 4/ 217 التحدّي أن يأتوا بعشر سور مثله 2/ 552- 553 نزل بلسان عربي مبين 4/ 135- 136 شهد به بعض أهل الكتاب 4/ 135- 136 هو موعظة للخلق أجمعين لمن شاء الاستقامة 5/ 474- 475- 476- 477 ليس بشعر ولا كهانة 5/ 474- 475- 476- 477 14- القرآن والجن: استماع نفر من الجن إلى الرسول وهو يتلو القرآن 5/ 364 وصفهم للقرآن بأنه عجيب في فصاحته وبلاغته 5/ 364 استماع الجن للقرآن وإيمانهم به 5/ 30- 31 تصديقه لما تقدمه من الكتب، ونزوله بعد موسى 5/ 30- 31

15 - تفسير الصحابة:

15- تفسير الصحابة: حكم تفسير الصحابي لآية من القرآن 1/ 38 16- النسخ: النسخ في القرآن، واعتراض الكفار عليه 3/ 233- 235 نسخه للكتب السماوية وهو مهيمن عليها، وأمين 2/ 56- 57 17- أمثال القرآن: حكم ضرب الأمثال في القرآن 1/ 67 ضرب الله مثلا عبدا مملوكا وعبدا حرا ورجلا أبكم والآخر ناطقا ويأمر بالعدل للإظهار وتباين الحال بين الخالق وما جعلوه شريكا له من الأصنام 3/ 218- 221 ضرب الله الأمثال 5/ 36 الآلهة المعبودة لا تسطيع أن تخلق ذبابة ولا تستطيع أن تدفع ذبابة عنها أو أن تسترد ما سلبتها الذبابة من شيء 3/ 557 بيان عجز الآلهة 3/ 558 الله يعلم كيف يضرب الأمثال أما الكفار فلا يعلمون 3/ 217- 218 مِثْلُ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَعَبَدَ آلِهَةً كَثِيرَةً 4/ 529- 530 يضرب الله الأمثال تنبيها للناس، ولا يفهم الأمثال إلا الراسخون في العلم 4/ 236

الأنبياء والرسل

الأنبياء والرسل 1- مكانة الرسل والأنبياء، وموقف أقوامهم، وتأييد الله لهم. 2- آدم عليه السلام. 3- إدريس عليه السلام. 4- نوح عليه السلام. 5- هود عليه السلام. 6- صالح عليه السلام. 7- إبراهيم عليه السلام. 8- لوط عليه السلام. 9- يوسف عليه السلام. 10- شعيب عليه السلام. 11- أيوب عليه السلام. 12- موسى عليه السلام. 13- داود عليه السلام. 14- سليمان عليه السلام. 15- إلياس عليه السلام. 16- يونس عليه السلام. 17- زكريا عليه السلام ويحيى عليه السلام. 18- عيسى عليه السلام.

1 - مكانة الأنبياء والرسل، وموقف أقوامهم وتأييد الله لهم:

1- مكانة الأنبياء والرسل، وموقف أقوامهم وتأييد الله لهم: تفضيل بعضهم على بعض 3/ 282 النهي عن التفصيل بينهم في السّنّة 1/ 308- 309 الله فضّل بعض الأنبياء 1/ 308 سبقت كلمة الله أن الرسل هم المنصورون 4/ 477 انتصارهم على الكفار المعاندين 3/ 119- 120 ينصرهم الله في الدنيا ويوم القيامة 4/ 568 أرسلهم الله بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة 5/ 212- 213 لا يخلف الله وعده لرسله 3/ 141 نصره لهم يوم القيامة 3/ 141 يرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين 3/ 352 حوار الرسل مع الكفار 3/ 116- 118 إرسال الرسل واحدا بعد واحد 3/ 575- 576 كل الرسل كذّبهم قومهم 3/ 575- 576 إهلاك الله للمكذبين المعاندين 3/ 575- 576 استهزاء الكفار بهم وتكذيبهم في كل الأزمنة والأمصار 4/ 422 استهزاء الأمم السابقة بالرسل 4/ 627 أهلكهم الله، وكانوا أشد قوة وبطشا 4/ 627 عدم إهلاك أهل القرى بظلمهم إلا بعد إرسال الرسل 2/ 186 لا يهلك الله أهل القرى الكافرة حتّى يبعث في أكبرها رسولا 4/ 209 لا يهلك الله إلا القرى الظالمة المكذّبة للرسل 4/ 209 2- آدم عليه السلام: معنى اسمه واشتقاقه 1/ 76 خلقه ثم تصويره 2/ 217- 218 أمر الملائكة بالسجود له 2/ 217- 218 خلقه الله من طين مخلوط بالرمل 3/ 155- 156 أمر الله الملائكة أن يسجدوا له بعد أن سوّاه ونفخ فيه من روحه 3/ 155- 156

لما خلقه الله مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ العهد وهم في عالم الذر 2/ 299- 301 سجود الملائكة لآدم عليه السلام 3/ 288 أمره الله وعهد إليه فنسي ولم يكن عنده عزم وتصميم على المخالفة 3/ 460- 461 أمر الله الملائكة أن يسجدوا له ففعلوا إلا إبليس استكبر وأبى 3/ 460- 461 أسكن الله آدم وزوجه حواء الجنة حيث لا جوع فيها ولا عطش 3/ 461- 463 الشيطان وسوس لهما وجعلهما يأكلان من شجرة الخلد فأهبطا من الجنة 3/ 461- 463 تاب الله عليه، واجتباه نبيا، وهداه إلى الحق 3/ 461- 463 أمر الله الملائكة بالسجود له فسجدوا 3/ 347- 348 إبليس أبى السجود وعصى، فلا يستحق هو وذريته أن يكون وليا 3/ 347- 348 خلق الله آدم من تراب، ونفخ فيه من روحه 4/ 510- 512 أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية 4/ 510- 512 سجود الملائكة واستكبار إبليس 4/ 510- 512 علوّ إبليس لأنه خلق من نار وآدم من طين 4/ 510- 512 طرد إبليس من الجنة وإنظاره إلى يوم الحساب والجزاء 4/ 510- 512 أقسم الشيطان لآدم وحواء فدلّاهما بغرور 2/ 222 خلق الله آدم وحواء من نفس واحدة 2/ 313- 315 جعل الله من آدم حواء ليسكن إليها 2/ 313- 315 حمل حواء بالولد 2/ 313- 315 دعاؤهما أن يكون ولدا صالحا 2/ 313- 315 إغراء الشيطان لهما بالأكل من الشجرة 2/ 222- 223 ظهور سوآتهما 2/ 222- 224 طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة 2/ 222- 224 سكنى الجنة 2/ 221 النهي عن القرب من الشجرة 2/ 221 وسوسة الشيطان 2/ 221 هبوط آدم من الجنة ودور إبليس في ذلك ووسوسته 1/ 81 قصة ابني آدم قابيل وهابيل 2/ 36- 37

3 - إدريس عليه السلام:

3- إدريس عليه السلام: إنه من المرسلين 4/ 469- 470 دعوته قومه إلى تقوى الله وأن يتركوا عبادة بعل، وأن يعبدوا الله خالقهم 4/ 469- 470 تكذيب قوم إدريس وعذاب الله لهم 4/ 469- 470 إدريس عليه السلام هو أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَنَظَرَ فِي النُّجُومِ 3/ 401- 404 رفع الله مكانه إلى السماء الرابعة 3/ 401- 404 4- نوح عليه السلام: أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ 2/ 246- 247 طلبه من قومه أن يعبدوا الله وحده وأنه لا إله غيره 2/ 246- 247 نجاته وإغراق المكذبين 2/ 246- 247 إخباره لقومه إن ثقل عليهم مقامه فإنه يتوكل على الله، وأن يدعوا شركاءهم، وأن يعلنوا حكمهم 2/ 524- 526 لا يريد أجرا من قومه إن أعرضوا 2/ 526 أجره وثوابه على الله 2/ 526 كذّبه قومه فأنجاه الله وأغرقهم 2/ 526 دعوته قومه إلى عبادة الله وتخويفهم من عذابه 2/ 559 رد قومه بأن أتباعه من الأراذل، وليس لقومه وأتباعه من فضل 2/ 561- 564 نوح لا يكرههم على معرفة الله تعالى 2/ 561- 564 أجره على الله وليس بطارد المؤمنين 2/ 561- 564 طلبهم العذاب 2/ 561- 564 الرد عليهم في أن ما أوحي إليه ليس مفترى 2/ 563- 564 تبرؤه من كذبهم وإجرامهم 2/ 563- 564 أمر الله لنوح أن يصنع السفينة متلبسا بحفظ من الله ووحيه 2/ 564- 565 نهيه عن التوسط للظالمين المغرقين 2/ 564- 565 الكفار يسخرون من قومه 2/ 564- 565 الرد عليهم بأنهم سيسخرون منهم عند غرقهم وهلاكهم 2/ 564- 565 بدء الطوفان بفتح أبواب السماء وتفجير عيون الأرض 2/ 564- 565 نوح يحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهله 2/ 566- 570

الركوب في السفينة 2/ 566- 570 جريانها في موج كالجبال 2/ 566- 570 نوح ينادي ابنه 2/ 566- 570 غرق ابن نوح 2/ 566- 570 انتهاء الطوفان واستقرار السفينة 2/ 566- 570 نوح يطلب من الله نجاة ابنه لأنه من أهله 2/ 570- 572 نوح كان عبدا شكورا 3/ 250 استجاب الله لنوح ونجّاه وأهله 3/ 494 نصره الله على قومه، وكان قومه قوم سوء فأغرقهم 3/ 494 دعوته قومه إلى عبادة الله الواحد 3/ 571- 572 أشراف قومه يردّون عليه بأنه بشر، ولو أراد الله أن يرسل لأنزل ملائكة 3/ 571- 572 اتهام قومه له بالجنون 3/ 571- 572 قومه يطلبون الانتظار 3/ 571- 572 أمر الله له أن يصنع الفلك 3/ 572 إذا فار التنور بالماء أن يدخل فيها من كل زوجين اثنين من أهله إلا من سبق عليه القول بإهلاكهم 3/ 572 إغراق الظالمين 3/ 572 أغرق الله قومه لما كذبوا، وجعلهم الله آية 4/ 88- 89 نوح يدعو قومه، ويبين لهم أنه أمين في تبليغ الرسالة، ولا يريد منهم أجرا 4/ 126- 127 اعتراض قومه على إيمان الفقراء والضعفاء من قومه، ويصفونهم بالأرذلين، ويطلبون منه طردهم 4/ 126- 127 نوح يرفض طردهم أو حسابهم 4/ 126- 127 غرق قومه، ونجاته مع المؤمنين في السفينة بأمر الله 4/ 126- 127 لبثه فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا 4/ 226- 227 أغرق الله قومه بالطوفان لظلمهم 4/ 226- 227 أنجى الله نوحا وأصحاب السفينة 4/ 226- 227 نداؤه الله لينصره، فأجابه سبحانه، ونجّاه وأهله من الغرق 4/ 459- 460 جعل ذرية نوح هم الباقون لأنهم نجوا من الغرق 4/ 459- 460 سلام الله عليه لإيمانه 4/ 459- 460

5 - هود عليه السلام:

أغرق الله جميع الكافرين 4/ 459- 460 أهلك الله قوم نوح بفسقهم 5/ 109 تكذيب قومه وقولهم عنه مجنون، وزجرهم عن دعوة النبوة 5/ 147- 150 دعاؤه الله أن ينصره 5/ 147- 150 فتح أبواب السماء بماء منصب، وتفجير الأرض بالينابيع معجزة ونصرا 5/ 147- 150 حمل نوح والمؤمنين معه على السفينة 5/ 147- 150 غرق الكافرين المعاندين 5/ 147- 150 أرسل الله نوحا وإبراهيم، وجعل في نسلهما النبوة والكتاب 5/ 213 من ذريتهما من اهتدى، وكثير منهم خرج عن طاعة الله 5/ 213 ضرب الله مثلا للذين كفروا بزوجته التي خانته بالكفر، وجزاؤها دخول النار 5/ 301- 305 نجاته مع المؤمنين في السفينة لتكون عبرة وعظة 5/ 336 إنذاره لقومه أن يعبدوا الله، ويتّقوه 5/ 355- 359 دعوته لقومه ليلا ونهارا، سرا وجهرا 5/ 355- 359 عناد قومه واستهزاؤهم واستكبارهم 5/ 355- 359 تذكيرهم بقدرة الله ونعمه عليهم في خلقهم وما حولهم 5/ 355- 359 استمرار قومه على معصيته، ومكروا، واتبعوا كبراءهم، وأصروا على الكفر 5/ 359- 362 إغراقهم بالطوفان بسبب خطاياهم ومعاصيهم 5/ 359- 362 5- هود عليه السلام: إرساله إلى عاد، ودعوتهم إلى عبادة الله الواحد 2/ 248- 249- 573- 575 تذكيرهم بنعم الله عليهم، ومنها قوة الأبدان 2/ 248- 249 طلبهم العذاب 2/ 248- 249 هود أخو عاد في النسب لا في الدين 2/ 248- 249 لا يسألهم أجرا، إنما أجره على الله 2/ 573- 575 قومه يصرّون على الشرك 2/ 573- 575 قومه يتّهمونه بالجنون 2/ 573- 575 هود عليه السلام يتبرأ منهم 2/ 573- 575 هلاك عاد بالسموم 2/ 573- 575

6 - صالح عليه السلام:

دعوته لقومه وإبلاغهم أنه أمين، ولا يريد أجرا 4/ 127- 128 استنكاره عليهم البناء في الأماكن والطرق المرتفعة وبناء الحصون 4/ 127- 128 إن بطشوا وظلموا فعلوا ذلك بقسوة وتجبر 4/ 127- 128 ردّ قومه عليه أن وعظه لهم وعدمه سواء 4/ 129- 130 أهلكهم الله بتكذيبهم وعنادهم بالريح 4/ 129- 130 إنذاره لقومه عاد، وخوفه عليهم عذاب يوم القيامة 5/ 27- 28 إصرارهم على عبادة آلهتهم وطلبهم العذاب 5/ 27- 28 لما رأوا العذاب ظنوه سحاب مطر 5/ 27- 28 أهلكهم الله بالريح الناشئ عن سحاب أسود دمرتهم، ولم تترك إلا مساكنهم 5/ 27- 28 6- صالح عليه السلام: إرساله إلى ثمود 2/ 250 دعوته إلى عبادة الله وحده 2/ 250 جاء بمعجزة الناقة 2/ 250 تهديدهم بالعذاب إن مسّوا الناقة بسوء 2/ 250 هم خلفاء من بعد عاد 2/ 250 قبيلة ثمود ينحتون من الجبال بيوتا ويتخذون من السهول قصورا 2/ 251- 252 عقرهم للناقة 2/ 251- 252 أهلكهم الله بالرجفة فأصبحوا ميتين 2/ 251- 252 أرسله الله إلى ثمود 2/ 575- 577 صالح يدعوهم إلى عبادة الله الواحد 2/ 575- 577 قومه يسخرون منه ويصرّون على عبادة ما كان يعبد آباؤهم 2/ 575- 577 عقروا الناقة فأخذتهم الصيحة بعد ثلاثة أيام 2/ 577 كذّبه أصحاب الحجر، وهم ثمود 3/ 168 إعراضهم عن آيات الله تعالى 3/ 168 كانوا ينحتون بيوتهم في الجبال 3/ 168 أهلكهم الله بالصيحة 3/ 168 صالح يدعوهم ويعلمهم أنه رسول أمين ولا يريد منهم أجرا 4/ 130- 131 ثمود معروفة بتكذيب الرسل 4/ 130- 131 اتهام قومه له بأنه مسحور ويطلبون منه معجزة 4/ 130- 131

7 - إبراهيم عليه السلام:

صالح يخبرهم عن الناقة، ويطلب منهم أن لا يمسوها بسوء فعقروها فأخذهم الله بالعذاب 2/ 577 و 4/ 130- 131 آتى الله قوم صالح الناقة معجزة مبصرة 2/ 577 و 4/ 148- 149 جحدوا بها واعتبروها سحرا ظلما وكبرا، فأهلكهم الله لفسادهم وعنادهم 4/ 148- 149 أرسله الله إلى ثمود لعبادة الله، وكانت النتيجة انقسامهم فريقين 4/ 165- 166 صالح يدعوهم إلى ترك التسرع في اختيار السيئة، ويحثّهم على الاستغفار 4/ 165- 166 قومه يعلمونه أنهم متشائمون منه وممن معه 4/ 165- 166 كان في المدينة تسعة رجال من الأشراف عملهم الفساد، اجتمعوا، وحلفوا أن يقتلوا صالحا وأهله 4/ 165- 166 دبّر الله هلاكهم وقومهم أجمعين، ونجّى الله صالحا وأهله 4/ 165- 166 7- إبراهيم عليه السلام: قصة إبراهيم مع أبيه وقومه عبدة الأصنام والكواكب 2/ 151 قصة إبراهيم في رؤية الكواكب والقمر والشمس 2/ 151- 152 إبراهيم يقيم الحجة على قومه 2/ 152 تعليمه قومه أن كل حادث مخلوق وأن الله هو الخالق المستحق للعبادة وحده 2/ 153 تبرؤه من عبادة قومه للأوثان 2/ 153 و 4/ 260 و 4/ 633- 634 اسم أبيه تارح، وفي القرآن آزر 2/ 153- 154 وهبه الله الذرية المهدية جزاء له على الاحتجاج في الدين 2/ 155 شرف الأبناء متصل بالآباء 2/ 156 زيارة الملائكة له 2/ 578- 579 إكرامه لهم بعجل مشوي 2/ 578- 579 إخباره بمهمتهم في إهلاك قوم لوط 2/ 578- 579 ضحك امرأته سارة، وبشارتها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب 2/ 579- 581 جدال إبراهيم للملائكة في قوم لوط 2/ 578- 579 إبراهيم: معناه- إمامته- عهد الله إليه 1/ 160 مقامه وهو يبني البيت 1/ 164 طلب إبراهيم من الله أن يريه كيف يحيي الموتى 1/ 324- 325 قصة إبراهيم مع النّمروذ 1/ 318- 319

لم يكن إبراهيم على دين اليهود والنصارى، وكيف أكذبهم الله 1/ 400- 401 دعاء إبراهيم أن يجعل مكة بلدا آمنا 3/ 134- 136 دعاء إبراهيم أن يبعده الله وبنيه عن عبادة الأصنام 3/ 134- 136 دعاء إبراهيم أن يجعل قلوب الناس تهوي لمكة 3/ 134- 136 إسكانه ذريته هاجر وإسماعيل في مكة 3/ 134- 136 حمده لله لما وهب له إسماعيل وإسحاق 3/ 136 استغفاره لنفسه ولوالديه 3/ 136 أخبار ضيوفه الملائكة 3/ 161- 165 فزعه منهم عند ما رأى أيديهم لا تصل إلى الطعام 3/ 161- 165 تبشيرهم له بغلام عليم 3/ 161- 165 إعلامه بأنهم مرسلون لقوم لوط لإهلاكهم 3/ 161- 165 كان أمة معلّما للخير 3/ 243- 244 كان شاكرا لنعم الله، موحّدا له سبحانه 3/ 243- 244 اختاره الله، وهداه إلى الصراط المستقيم 3/ 243- 244 كان صدّيقا نبيا 3/ 398- 399 دعا أباه إلى عبادة الله الواحد، وترك عبادة الشيطان 3/ 398- 399 أبوه يغضب، ويقرر الهجران، ويعلن التهديد بالرجم 3/ 398- 399 إبراهيم يعتزل عبادة القوم وآلهتهم، فيكرمه الله بإسحاق ويعقوب 3/ 398- 399 انتقاله من تغيير المنكر باللسان إلى الفعل 3/ 490- 491 ذهابه إلى الأصنام ومخاطبته لها 4/ 261- 262 تكسير الأصنام، وترك الصنم الكبير 3/ 490- 491 و 4/ 261- 262 تساؤلهم عمن فعل ذلك، وتوجيه التهم والسؤال إلى إبراهيم 3/ 490- 491 آتاه الله الرشد 3/ 488 سأل أباه وقومه عن تماثيلهم التي يعبدونها من دون الله، وأخبرهم أنهم وآباءهم في ضلال 3/ 488 نجّاه الله إلى الشام، ووهب له إسحاق ويعقوب، وجعلهم الله أئمة في الهدى والصلاح 3/ 493- 494 إبراهيم يحاجج قومه 3/ 492- 493

إبراهيم يظهر لهم أنها أصنام عاجزة لا تستحق العبادة 3/ 492- 493 قومه يحكمون عليه بالحرق، ويرمونه في النار فينجيه الله تعالى 3/ 492- 493 بيّن الله له مكان البيت الحرام للعبادة مع التوحيد الخالص، وعدم الشرك 3/ 531- 532 أمره أن يطهر بيته من الكفر والأوثان والدماء للطواف والصلاة 3/ 531- 532 أمره الله أن يؤذن، وينادي الناس إلى الحج 3/ 531- 532 أذانه بالناس، وإيصال صوته بقدرة الله تعالى إلى جميع بقاع الأرض 3/ 535 سؤاله لأبيه وقومه عما يعبدون 4/ 120- 121 جوابهم أنهم يعبدون باستمرار أصناما، آلهة 4/ 120- 121 سؤالهم إن كانت هذه الأصنام تنطق، أو تسمع، أو تضر، أو تنفع 4/ 120- 121 جوابهم أنهم وجدوا آباءهم يعبدونها، فعبدوها تقليدا 4/ 120- 121 إعلان عداوته لكل ندّ وشريك لله تعالى 4/ 122- 123 إظهار أوصاف رب العالمين المستحق للعبادة، فهو الهادي والمحيي والمميت والغافر والمطعم 4/ 122- 123 أخطاؤه التي يطمع أن يغفرها الله له 4/ 122- 123 دعوته لقومه أن يعبدوا الله، وأن يتركوا عبادة الأوثان التي لا تضر ولا تنفع ولا تملك رزقا 4/ 227 بيانه لهم أن الشكر لله الرازق المنعم، وأن مهمته التبليغ والبيان، فكان جواب قومه أن تشاوروا في قتله أو تحريقه، واتفقوا على تحريقه، فنجّاه الله من النار 4/ 227- 230 قومه تجمعهم المودة على عبادة الأوثان، ويوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا، ومأواهم النار 4/ 229- 230 آمن له لوط، وهو ابن أخيه 4/ 230- 231 هجرة إبراهيم إلى الله تعالى 4/ 230- 231 وهب الله له إسحاق ويعقوب 4/ 230- 231 آتاه الله أجره في الدنيا وفي الآخرة 4/ 230- 231 لما شبّ إسماعيل قال له أبوه إبراهيم: إني رأيت في المنام أني أذبحك 4/ 263- 265 ذكر الخلاف فيمن هو الذبيح إسماعيل أم إسحاق 4/ 263- 264- 467- 468 فداه الله بذبح عظيم القدر بعد أن وافق أباه، وأضجعه أبوه للذبح 4/ 263- 265

8 - لوط عليه السلام:

سلام الله عليه إنه من عباد الله المحسنين المنقادين لأمر الله 4/ 263- 265 هو من أهل دين نوح، وجاء ربه بقلب موحّد مخلص 4/ 260- 261 نظره في النجوم 4/ 260- 261 قوله إنه سقيم ليتركوه 4/ 260- 261 بشّره الله بإسماعيل 4/ 260- 261 رجوع قومه إليه مسرعين 4/ 261- 262 إنكاره عليهم عبادة ما ينحتون 4/ 261- 262 أرادوا هلاكه وإحراقه فنجّاه الله 4/ 261- 262 بشارة الله له بإسحاق نبيّا من الصالحين، وباركهما الله بمرادفة النعم 4/ 466 من ذريتهما مؤمن وكافر 4/ 466 يعبد إبراهيم إلهه الواحد الذي خلقه وهداه، وهذه الوصية أبقاها في عقبه وذريته 4/ 633- 634 إهلاك المكذّبين 5/ 105- 106 ضيوف إبراهيم من الملائكة وكيف أكرمهم بالعجل السمين، وخوفه منهم وبشارتهم له بإسحاق 5/ 105- 106 إقبال امرأته في صيحة وضجة، أو في جماعة، وضربها على وجهها، وتعجبها من البشارة بحملها وهي عجوز 5/ 105- 106 إخبار الملائكة لإبراهيم بمهمتهم في إهلاك قوم لوط بالحجارة 5/ 106 الاقتداء به حين تبرأ من قومه الكفار 5/ 252- 255 تبرؤ إبراهيم من أبيه وعودته عن الاستغفار له 5/ 252- 255 8- لوط عليه السلام: هو ابن عم إبراهيم 2/ 577- 583 أهلك الله قومه بالحجارة 2/ 577- 583- 585 مجيء الملائكة وكيف استاء من مجيئهم، وضاق بهم صدرا 2/ 577- 583 مجيء قومه يهرعون 2/ 577- 583 لوط يدعو قومه للزواج من بناته، وعدم الاعتداء على ضيوفه 2/ 583- 585 قومه يصرون على الفاحشة، والاعتداء على الضيوف 2/ 583- 585 الملائكة يطمئنون لوطا 2/ 583- 585 نجاة لوط وأهله وهلاك قومه 2/ 583- 585

زوجة لوط كانت مع الهالكين 2/ 583- 585 أرسله الله إلى سدوم 2/ 253- 254 إنكاره على قومه اللّواط 2/ 253- 254 كان جواب قومه إخراجه مع أتباعه من القرية 2/ 253- 254 نجّاه الله وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين 2/ 253- 254 أهلكهم الله بالحجارة أمطرت عليهم من السماء 2/ 253- 254 وصول الملائكة إلى القرية 3/ 165- 166 جاء أهل القرية وهم من سدوم مستبشرين بفعل الفاحشة مع الضيوف 3/ 165- 166 لوط يطلب منهم ألّا يفضحوه عندهم 3/ 165- 166 لوط يعرض بناته على قومه للزواج بهن 3/ 165- 166 قومه يسخرون منه 3/ 165- 166 الصيحة تأخذهم 3/ 165- 166 آتاه الله حكما وعلما 3/ 493- 494 نجّاه الله من القرية التي كان يعمل أهلها الخبائث كاللواطة 3/ 493- 494 أدخله الله في رحمته 3/ 493- 494 القرية التي أمطر الله عليها الحجارة 3/ 493- 494 قوم لوط كذّبوا المرسلين 4/ 131- 133 إنكار لوط عليهم إتيانهم الذكور 4/ 131- 133 دعوتهم إلى التقوى 4/ 131- 133 تهديدهم للوط بالإخراج من بلدهم إن لم ينته 4/ 131- 133 إعلانه أنه لعملهم من المبغضين 4/ 131- 133 دعاؤه أن ينجيه الله وأهله 4/ 131- 133 أهلك الله قومه بالحجارة 4/ 131- 133 إنكار لوط على قومه إتيان فاحشة اللّواط 4/ 167- 168 جوابهم إخراجه مع أهله 4/ 167- 168 زوجة لوط كانت من الهالكين الباقين في العذاب 4/ 167- 168 أمطر الله عليهم حجارة من السماء 4/ 167- 168 إنكاره على قومه فاحشة اللّواط، وقطع الطريق، واجتماعهم على فعل المنكر 4/ 232- 233 كان جوابهم طلب العذاب، والتهديد بإخراج لوط من القرية وهي سدوم 4/ 232- 233

9 - يوسف عليه السلام:

لوط عليه السلام يطلب النصر من الله، فأنزل الله ملائكته بعذاب قومه وإهلاكهم 4/ 232- 233 لما جاءت الملائكة لوطا خاف عليهم من قومه وعجز عن حمايتهم لأنه ظنهم بشرا 4/ 233- 234 أعلموه أنهم رسل من عند الله لنجاته وأهله، وإهلاك قومه وزوجته 4/ 233- 234 لوط من المرسلين، فنجّاه الله وأهله إلا زوجته أهلكها الله 4/ 470 دمر الله قومه ومنازلهم شاهدة لمن يعتبر 4/ 470 تكذيبهم وهلاكهم بالريح ترميهم بالحصباء 5/ 153- 154 نجاة لوط وأهله في وقت السّحر 5/ 153- 154 مراودتهم لضيوفه من الملائكة 5/ 153- 154 جاءهم العذاب صباحا 5/ 153- 154 ضرب الله مثلا للذين كفروا بزوجته التي خانته بالكفر، وإخبار قومه بضيوفه 5/ 304- 305 جزاؤها دخول النار 5/ 304- 305 9- يوسف عليه السلام: يوسف يذكر لأبيه يعقوب رؤياه 3/ 7 يعقوب ينهى يوسف عن ذكر رؤياه أمام إخوته فيحسدونه 3/ 7 إكرام الله ليوسف بالاصطفاء للنبوة، وتعليمه تأويل الأحاديث ويجمع له النبوة والملك، ويتم نعمته على آل يعقوب 3/ 8- 9 إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء 3/ 11 إخوته يحسدونه على حبّ يعقوب له ولأخيه بنيامين أكثر منهم، وهم جماعة، فاقترحوا قتله، لكن أحدهم ينهى عن قتله، ويوصي بوضعه في ظلام البئر 3/ 9- 11 إخوته يطلبون من أبيهم أن يرسل معهم يوسف يرتع ويلعب 3/ 12- 13 أبوه يخاف عليه أن يأكله الذئب 3/ 12- 13 إخوته يضعونه في غيابة البئر 3/ 12- 13 إخوة يوسف يتظاهرون بالبكاء والكذب على أبيهم بأن يوسف أكله الذئب 3/ 13- 14- 15 جاءوا على قميصه بدم كذب 3/ 13- 14- 15 العثور على يوسف في البئر وبيعه في مصر إلى العزيز 3/ 15- 19

10 - شعيب عليه السلام:

العزيز يوصي به امرأته أن تكرمه 3/ 15- 19 امرأة العزيز تراود يوسف عن نفسه 3/ 20- 22 يوسف يرى برهان ربه 3/ 23- 24 براءة يوسف أمام العزيز وظهور كيد امرأة العزيز 3/ 23- 24 نساء من المدينة يتكلمن على امرأة العزيز فتدعوهن ليرين يوسف ويعذرنها في مراودتها له 3/ 25- 30 إدخاله السجن ودخل معه السجن فتيان 3/ 30- 31 يوسف يفسّر للفتيين رؤياهما 3/ 32- 34 يعلن يوسف عليه السلام التوحيد والتبرؤ من الشرك 3/ 35- 36 يوسف يفسر للملك رؤياه 3/ 37- 40 يوسف يحصل على براءته ونزاهته أمام الملك 3/ 40- 44 امرأة العزيز تعترف بأنها هي التي راودته 3/ 40- 44 الملك يستخلصه لنفسه، ويجعله أمينا على خزائن مصر 3/ 40- 44 مجيء إخوة يوسف إِلَى مِصْرَ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ لِيَمْتَارُوا، لَمَّا أصابهم القحط 3/ 44- 48 يطلب يوسف منهم أخاه بنيامين 3/ 44- 48 يعقوب عليه السلام يوافق على إرساله معهم 3/ 44- 48 يعقوب يوصي أولاده أن يدخلوا من أبواب متفرقة 3/ 48- 61 يوسف يعرف أخاه، ويستبقيه عنده بعد أن وضع الصاع في رحله 3/ 48- 61 يعقوب يتصبر على فقد بنيامين، ويتذكر يوسف 3/ 48- 61 إخوة يوسف يتعرفون عليه، ويعترفون بخطئهم 3/ 61- 66 يوسف يترك توبيخهم وتعييرهم، ويطلب منهم أن يذهبوا بقميصه، وأن يأتوا بأهلهم 3/ 61- 66 حضور أهل يوسف إلى مصر ودخولهم عليه 3/ 67- 69 سجود إخوة يوسف له، وتحقق ليوسف ما رآه 3/ 67- 69 يوسف عليه السلام يعدّد نعم الله عليه وعلى أهله وإخوته 3/ 67- 69 قصة يوسف وقصص الأنبياء عبرة لأولي الألباب 3/ 71- 75 10- شعيب عليه السلام: أرسله الله إلى مدين 2/ 255 أمره لهم بالوفاء بالكيل والميزان وكانوا لا يوفونهما 2/ 255

دعوته لقومه لترك الإفساد في الأرض 2/ 255 ترك القعود على طرق الناس يخوفونهم العذاب 2/ 255 النهي عن قطع الطريق 2/ 255 الصدّ عن سبيل الله 2/ 255 تذكيرهم بنعم الله ومنها تكثيرهم 2/ 256 تهديدهم له ولمن آمن معه بالإخراج 2/ 256 إصراره وثباته على الإيمان وتوكله على الله 2/ 256 دعاء شعيب عليه السلام أن يفتح بينه وبين قومه 2/ 257- 258 إصرار قومه على الكفر واستكبارهم 2/ 257- 258 أخذتهم الرجفة فهلكوا 2/ 257- 258 إرساله إلى مدين 2/ 587- 588 قوله اعبدوا الله الواحد 2/ 587- 588 نهيهم عن إنقاص المكيال والميزان 2/ 587- 588 خوفه عليهم العذاب 2/ 587- 588 إقامة الحجة على قومه 2/ 589- 591 إنه يريد الإصلاح لهم وحفظهم من العذاب الذي حلّ بمن سبقهم 2/ 589- 591 قومه لا يفهمون كلامه ويهددونه بالرجم لولا عشيرته 2/ 589- 591 نجّاه الله وأهلك قومه بالصيحة فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين 2/ 591- 592 كذب قوم شعيب وهم أصحاب الشجر الملتف المرسلين 4/ 132- 134 دعاهم شعيب للتقوى والوزن بالعدل ونهاهم عن الفساد 4/ 132- 134 اتهامه بأنه مسحور وتحديه أن ينزل عليهم العذاب 4/ 132- 134 أصروا على تكذيبه، فأخذهم عذاب يوم الظلة، وهو سحاب أمطر عليهم نارا 4/ 132- 134 قومه أصحاب الأيكة، وهي الشجر الملتف، كانوا ظالمين 3/ 168 انتقام الله منهم 3/ 168 أرسله الله إلى مدين 4/ 233- 234 دعا قومه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وترك الفساد في الأرض 4/ 233- 234 أخذهم الله بالرجفة لظلمهم فأصبحوا في بلدهم جاثمين على الرّكب 4/ 233- 234

11 - أيوب عليه السلام:

11- أيوب عليه السلام: سمع الله نداءه، فاستجاب له وكشف عنه ما به من ضر 4/ 497- 498 أعطاه الله وأهله رحمة منه 4/ 497- 498 نداؤه ودعاؤه لله: أنه مسّه الشيطان بشر وألم 4/ 497- 498 أمره الله أن يحرك رجله ويدفعها فينبع الماء لاغتساله، وشربه، وبرئه من مرضه 4/ 497- 498 وهب الله أهله له، فجمعهم بعد تفرقهم، وزادهم 4/ 500- 501 علمه الله أن يأخذ عثكالا من نخل، وأن يضرب به زوجته لئلا يحنث في يمينه 4/ 500 وصف أيوب عليه السلام بالصبر والرجوع إلى الله 4/ 501 12- موسى عليه السلام: إرساله إلى فرعون وأشراف قومه 2/ 262 خطاب موسى لفرعون باسمه وإعلامه أنه رسول رب العالمين 2/ 263 طلب موسى أن يرسل معه بني إسرائيل 2/ 263 سؤال فرعون عن رب العالمين 2/ 263 طلب فرعون الآيات 2/ 263 ألقى موسى عصاه وأخرج يده من جيبه 2/ 263 قوم فرعون يستنكرون عليه أن يترك موسى وقومه 2/ 268 فرعون يهدّدهم أنه سيقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم 2/ 268 موسى يطمئن قومه بأن الأرض لله 2/ 268 فرعون يتهم موسى بأنه ساحر 2/ 264- 266 قصة موسى مع السحرة 2/ 264- 266 عصا موسى تلقف ما يأفكون 2/ 264- 266 إيمان السحرة بالله الواحد 2/ 264- 266 قوم موسى يذكرون أنهم أوذوا من قبل بعثة موسى ومن بعده 2/ 268- 269 موسى يخبرهم ويطمئنهم أن الله ربما يهلك عدوهم، ويستخلفهم في الأرض 2/ 268- 269 فرعون يتّهم السحرة بالتآمر والمكر 2/ 267- 269 تهديدهم بالقتل والصّلب 2/ 267- 269 السّحرة يعلنون الثبات على الإيمان ويقبلون على الشهادة بشجاعة 2/ 267- 269

آتاه الله التوراة هدى طلبهم من موسى أن يرفع عنهم العذاب ليؤمنوا، وعند ما رفع الله عنهم العذاب نكثوا عهدهم 2/ 272 أغرقهم الله في اليمّ 2/ 272 تطير قوم فرعون بموسى ومن معه والرد عليهم 2/ 271- 273 إصرارهم على الكفر 2/ 271- 273 أرسل الله عليهم الطوفان والقمل والضفادع 2/ 271- 273 وعد الله لقوم موسى أن يجعلهم أئمة وارثين 2/ 274 تدمير كل ما صنعه فرعون من عمارات وبناء، وتجاوزهم البحر 2/ 274 أتوا على قوم يعبدون أصناما فطلبوا أن يكون لهم مثلهم آلهة 2/ 275 موسى عليه السلام يبين لقومه هلاك عبدة الأصنام وهلاك آلهتهم 2/ 274- 275 موسى عليه السلام يذكر قومه بإلههم الواحد الخالق 2/ 274- 275 موسى عليه السلام يذكر قومه بنعم الله عليهم 2/ 274- 275 تكريم الله لموسى وتشريفه بمناجاته 2/ 276 موسى يستخلف هارون في قومه ويذهب لميقات ربّه 2/ 276 كلّمه الله 2/ 276- 277 طلب أن يرى الله بعد أن سمع كلامه 2/ 276- 277 كيف تجلّى الله للجبل فأصبح دكا 2/ 277 خرّ موسى صعقا، ولما أفاق تاب وأناب 2/ 277 ما كتب الله له ولقومه في الألواح 2/ 278 وصيته أن يأخذ بما في الألواح بقوّة، وأن يأخذ قومه بها ويتبعون أحسنها 2/ 278 ألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه هارون يجرّه 2/ 283 كان رد هارون أن القوم استضعفوه وكادوا يقتلونه، وطلبه ألّا يشمت به الأعداء 2/ 283 إلقاء موسى للألواح وتكسّر بعضها 2/ 284 اتّخذ اليهود في غيبة موسى من حليّهم عجلا جسدا، وعبدوه إلها، مع أنه لا يكلمهم، ولا يهديهم سبيلا 2/ 282 رجوع موسى غضبان أسفا 2/ 282 غضب الله في الدنيا والآخرة على الذين عبدوا العجل 2/ 285- 286

لما سكن غضب موسى أخذ الألواح 2/ 285- 286 اختيار موسى من قومه سبعين رجلا لميقات الله تعالى 2/ 286 أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ بِسَبَبِ عَدَمِ انْتِهَائِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ العجل 2/ 286 أمر الله بني إسرائيل أن يدخلوا الباب سجدا، وأن يقولوا حطّة، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قيل لهم 2/ 292 سؤالهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر 2/ 294 امتحان الله قوم موسى بالحيتان تأتيهم ظاهرة، وعصيانهم لله وصيدهم يوم السبت 2/ 292- 295 مسخهم الله قردة لأنهم نسوا ما ذكروا به 2/ 292- 295 من قوم موسى جماعة يهدون بالحق، وبه يعدلون 2/ 291- 294 فرّقهم الله اثني عشر سبطا 2/ 291- 294 أوحى الله لموسى أن يستسقي لقومه 2/ 291 أمره الله أن يضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، وظلل الله عليهم الغمام وأنزل عليهم المنّ والسّلوى 2/ 291 يبعث الله من يسوم قومه سوء العذاب إلى يوم القيامة، ويبتليهم الله بالخير والشر لعلهم يرجعون 2/ 296- 298 خلف من بعد الذين فرّقهم الله قطعا خلف يقرءون التوراة ولا يعملون بها، ويعلّلون أنفسهم بالمغفرة 2/ 296- 298 مما وقع لقوم موسى أنه سبحانه رفع فوقهم الجبل كأنه ظلة 2/ 298- 299 بعث الله موسى وهارون إلى فرعون وقومه فاستكبروا، وكانوا مجرمين 2/ 527- 530 قولهم عن معجزات موسى بأنها سحر 2/ 527- 530 عدم قبولهم لدعوة مُوسَى بِأَمْرَيْنِ: التَّمَسُّكِ بِالتَّقْلِيدِ لِلْآبَاءِ وَالْحِرْصِ عَلَى الرياسة الدنيوية. 2/ 527- 530 موسى يدعو على فرعون وقومه أن يطمس الله على أموالهم، وأن يشدد على قلوبهم، واستجابة الدعوة من الله 2/ 527- 530 جاوزوا البحر، واتبعهم فرعون وجنوده، فغرق فرعون، ولم ينفعه إيمانه عند غرقه 2/ 533- 535 نجّاه الله ببدنه ليكون عبرة 2/ 536 إرسال موسى إلى فرعون وقومه 2/ 592- 593

اتبع القوم أمر فرعون، وما أمره ذو رشد 2/ 592- 593 إنه يقدم قومه إلى النار 2/ 592- 593 أرسل الله موسى ليخرج قومه من الظلمات إلى النور، وليذكرهم بأيام الله 3/ 113 تذكير قومه بأن الله أنجاهم من قوم فرعون، وهم يسومونهم أشد العذاب 3/ 115- 116 آتاه الله التوراة وجعلها هدى لبني إسرائيل أن يوحدوا الله، ولا يتخذوا من دون الله كفيلا ولا شريكا 3/ 249 آتى الله موسى تسع آيات 3/ 313- 314 النبي لا يلزم أن يكون عالما بجميع القصص 3/ 354 هو موسى بن عمران 3/ 354 فتاه يوشع بن نون، وملازمته له 3/ 354 قول موسى لفتاه: لا أزال أسير حتى أصل إلى ملتقى البحرين 3/ 354 وصول موسى وفتاه إلى ملتقى البحرين 3/ 354- 355 نسيان حوتهما، فانسرب في البحر 3/ 354- 355 موسى يطلب الغداء بعد سفر وتعب 3/ 354- 355 الفتى يخبر موسى بقصة هرب الحوت في البحر 3/ 354- 355 رجوع موسى وفتاه إلى مكان فقد الحوت، وهناك وجد الخضر 3/ 356لماذا سمي الخضر؟ 3/ 356 آتى الله الخضر رحمة وعلما 3/ 356 موسى يطلب بأدب أن يلازمه ليتعلم منه 3/ 356- 357 الخضر يشترط على موسى الصبر، وعدم السؤال عما يقع، وعدم الاعتراض حتى يخبره الخضر 3/ 356- 357 رويت في هذه القصة أحاديث كثيرة، أتمّها ما روي عن ابن عباس 3/ 356- 357 الخضر يخرق السفينة، وموسى يعترض، ثم يعتذر 3/ 359- 361 الخضر يقتل الغلام، وموسى يعترض، ثم يعتذر 3/ 359- 361 الخضر يبني الجدار في قرية رفض أهلها إطعامهما 3/ 359- 361 الخضر يعلن الفراق بعد اعتراض موسى ثلاث مرات 3/ 361- 362 الخضر يخبر موسى عن سبب خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار، وتأويل ما لم يستطع عليه صبرا 3/ 361- 362 كان موسى عليه السلام رسولا نبيا، أرسله الله إلى عباده بشرائعه وأحكامه 3/ 400

ناداه الله من جانب الطور وقرّبه بالمناجاة والمنزلة 3/ 400 وهب الله موسى أخاه هارون نبيا ووزيرا 3/ 400 رؤيته للنار وطلبه من زوجه أن تنتظر لعله يأتي منها بشعلة أو يجد هاديا يهديه إلى الطريق 3/ 425 ناداه الله وأعلمه أنه بالوادي المقدس وأنه اختاره لرسالته 3/ 425- 427 الرب يأمره بالصّلاة ويعلمه بخفاء الساعة، وأن علمها عند الله، وينهاه أن يصرفه عنها من لا يصدق بها 3/ 425- 427 سؤال موسى عما في يده. موسى يبين منافع العصا، وأمر الله له أن يلقيها، فانقلبت بأمر الله حية تسعى 3/ 430 أمر الله موسى أن يأخذها، وأن يكون انقلاب يده بيضاء من غير مرض معجزة ثانية 3/ 430 موسى يطلب أن يشرح له صدره، وأن يجعل له وزيرا من أهله هارون أخاه يشدّ به أزره ويشاركه في أموره 3/ 431- 432 الله يؤتيه ما سأل ويذكره بقصة نجاته من الذبح 3/ 431- 432 تعداد نعم الله على موسى: إنقاذه من الذبح ألقى الله عليه محبته تربّى، وتغذّى إعادته إلى أمه لترضعه اختياره للوحي والرسالة إرساله إلى فرعون الذي طغى نجّاه الله من الغم إقامته في أهل مدين 3/ 433- 435 موسى وهارون يظهران خوفهما من فرعون 3/ 436- 438 الله تعالى ينهاهما عن الخوف لأنه معهما ينصرهما عليه 3/ 436- 438 فرعون يسأل موسى عن ربه 3/ 436- 438 موسى يذكر دلائل وجود الله ووحدانيته من خلال الخلق والإبداع 3/ 436- 438 فرعون يعتبر معجزات موسى سحرا، وأن باستطاعته أن يواجهه بسحر مثله 3/ 439- 440 فرعون وموسى يتفقان على موعد للتّحدي وهو يوم الزينة 3/ 440

فرعون يجمع السّحرة، ويعلّمهم أن موسى وهارون ساحران يريدان أن يخرجوهم من مصر، وأن يقضوا على مذهبهم الأمثل 3/ 444- 445 السحرة يأتون مجتمعين، ويلقون حبالهم وعصيهم، والعصا تبتلع كل ما ألقوه 3/ 444- 445 السحرة يؤمنون بالله، وفرعون يهدّدهم بالقتل والصلب، فيصرون على موقفهم، ويكتب الله لهم الشهادة والدرجات العالية في الجنة 3/ 446- 447 نجاة بني إسرائيل بمعجزة انشقاق البحر وغرق فرعون وقومه 3/ 448- 449 تعداد نعم الله على بني إسرائيل بعد نجاتهم 3/ 448- 449 موسى يذهب إلى لقاء ربّه فيضلّهم السّامري 3/ 448- 449 موسى عليه السلام يعود إلى قومه غضبان أسفا بعد أربعين يوما لأنه وجدهم يعبدون العجل الذي صنعه السامري 3/ 451- 453 هارون ينهاهم وهم يعصونه، وموسى يعاتب هارون، وهارون يدافع عن نفسه بأنهم استضعفوه، وكادوا يقتلونه 3/ 454- 455 السامري يبيّن حقيقة صنع العجل، وكيف ضل وأضل بني إسرائيل 3/ 454- 455 موسى يدعو عليه أن يقول طول حياته: لا مساس 3/ 454- 455 موسى يتوعّد السامري بالآخرة حيث الحساب والجزاء، وأمّا العجل فسوف يحرق ويذرى في البحر 3/ 455- 456 أرسل الله موسى وأخاه هارون بالمعجزات إلى فرعون وأشراف قومه، فاستكبروا، وكفروا بحجّة أنّهما بشران وقومهما (بنو إسرائيل) خاضعون وعابدون لفرعون وقومه 3/ 576- 577 أغرقهم الله، وأهلكهم أجمعين 3/ 576- 577 آتاه الله التوراة، وجعل معه أخاه هارون وزيرا 4/ 88 دمر الله فرعون وملأه فأغرقهم جميعا 4/ 88 ناداه الله مكلفا له بالرسالة والتبليغ لفرعون وملئه 4/ 110- 112 موسى يظهر خوفه من تكذيبهم وضيق صدره وعدم انطلاق لسانه 4/ 112 استجابة الله تعالى لموسى بإرسال هارون معه، وإعلامه أنه معهما يسمع ويرى 4/ 110- 112 موسى وهارون يطلبان من فرعون أن يرسل معهما بني إسرائيل، ويجيب فرعون بأنه هرب خوفا منهم واختاره الله لرسالته 4/ 112- 113 فرعون يذكر موسى أنه تربّى في قصره وعاش سنين، ثم ذكره بقتل القبطي 4/ 112- 113

فرعون يسأل عن رب العالمين، ويتهم موسى بالجنون 4/ 113- 114 موسى يبين لفرعون وقومه شمول ربوبية الله تعالى لجميع الخلق وعموم الكون 4/ 113- 114 فرعون يتهدّد ويتوعد إن اتخذ موسى إلها غيره 4/ 113- 114 إظهار معجزة العصا واليد 4/ 114- 115 فرعون يجمع السحرة ويغريهم بالأجر الجزيل والمناصب والقرب منه إن انتصروا 4/ 114- 115 العصا تبلع عصيّهم وحبالهم 4/ 114- 115 السحرة يؤمنون بالله، ويعرفون أن ما جاء به موسى معجزة وليس سحرا 4/ 114- 115 فرعون يتهدد السحرة بالقتل والصلب 4/ 116 السحرة يصرون على إيمانهم واستشهادهم 4/ 116 فرعون يقلّل من إيمانهم بأنهم شرذمة قليلون 4/ 116 الوحي إلى أم موسى أن ترضعه، وألهمها الله أن تقذف موسى في النيل، وأن لا تخاف عليه الغرق، وأنه سيعود إليها لترضعه 4/ 113- 114 التقطه قوم فرعون وهم لا يعلمون أنه عدو لهم وسبب لحزنهم فيما بعد 4/ 113- 114 موسى يخرج بقومه ساريا في الليل 4/ 118- 120 فرعون يتبعهم مع الشروق 4/ 118- 120 موسى يضرب بعصاه البحر فينشق بأمر الله 4/ 118- 120 فرعون يتبعهم مع جيشه فيغرقه الله وينجي موسى وقومه 4/ 118- 120 طلبه من زوجه أن تنتظر بعد أن أبصر نارا 4/ 146- 147 أراد إحضار شعلة من النار للدفء، ولما جاء النار ناداه الله عز وجل وكلمه 4/ 146- 147 أعطاه الله معجزة العصا واليد آيتين من تسع معجزات، وكلّفه بالرسالة إلى فرعون وقومه الخارجين عن طاعة الله 4/ 146- 148 الوحي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أخبار موسى وفرعون 4/ 183- 184 علو فرعون وتكبره وجعله الناس فرقا وأصنافا في خدمته 4/ 183- 184 هو من المفسدين 4/ 183- 184 إرادة الله بالتفضل على بني إسرائيل بعد استضعافهم 4/ 183- 184 إهلاك فرعون وهامان بعد التجبر والتسلط 4/ 183- 184 امرأة فرعون تطلب الإبقاء على حياته وعدم قتله وكانت لا تلد فاستوهبته من فرعون 4/ 185- 187

أصبح قلب أمه فارغا من كل شيء إلا من ذكره حتى كادت أن تظهر أمره 4/ 185- 187 أخته تتبعت أثره وعرضت عليهم إرضاعه فرده الله إلى أمه كي تسرّ ولا تحزن 4/ 185- 187 عند بلوغه الحلم آتاه الله الفقه والفهم 4/ 189- 190 دخول موسى إلى المدينة وقتله للقبطي من غير عمد ولا قصد، والرجل المؤمن يطلب من موسى أن يخرج من المدينة 4/ 189- 190 موسى يخرج خائفا مترقبا لحوقهم، واتجاهه إلى مدين 4/ 189- 190 وروده ماء مدين وكيف سقى للمرأتين غنمهما ثم جلس في الظل، وإحدى البنتين تدعوه وتطلب من أبيها أن يستأجره فهو قوي وأمين 4/ 191- 196 قبوله بالزواج من إحدى البنتين مقابل رعيه للغنم ثماني سنين والتخيير في إتمامها عشرا 4/ 191- 196 لما انتهى أجله في رعي الغنم عشر سنوات سار بأهله إلى مصر، وأبصر من الجهة التي تلي جبل الطور نارا، وهناك كلمه الله وآتاه معجزة العصا واليد، وكلّفه بالرسالة إلى فرعون وقومه 4/ 196- 197 خوفه من قتلهم له بالقبطي الذي قتله 4/ 199- 201 أخوه هارون أفصح منه لسانا 4/ 199- 201 قوّاه الله بأخيه وجعل لهما سلطانا فلا يصل إليهما فرعون بأذى 4/ 199- 201 قول فرعون وقومه عن معجزات موسى بأنها سحر 4/ 199- 201 إصرار فرعون على ادعاء الألوهية 4/ 199- 201 طلب فرعون من هامان أن يبني له من الآجر المشوي قصرا عاليا ليصعد إلى إله موسى 4/ 198- 199 استكبر فرعون وجنوده فأغرقهم الله وجعلهم رؤساء متبوعين إلى جهنم، ولهم في الدنيا لعنة وفي الآخرة عذاب 4/ 200- 201 في جانب الجبل الغربي عهد الله إلى موسى بالرسالة، وبجانب جبل الطور ناداه الله وكلمه 4/ 202- 204 كفر قومه وقولهم عن موسى وهارون ساحران تعاونا 4/ 204- 205 كان قارون من قوم موسى فبغى وظلم 4/ 214 أعطاه الله من الكنوز ما تعجز الجماعة عن حمل مفاتيح صناديقه المملوءة ذهبا 4/ 214 نصحه قومه أن لا يفرح بطرا وأشرا 4/ 215 ادعى أن هذا المال أوتيه على علم ودراية منه، وخرج يوما في زينته، وتمنى

الذين يريدون الدنيا أن يكون لهم مثله، وقال العلماء المؤمنون: ثواب الآخرة خير وأبقى 4/ 216 خسف الله به وبداره وكنوزه الأرض 4/ 217- 219 أصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس وقد كشف عن أبصارهم مصير الظلمة والمتكبرين 4/ 217- 219 آتى الله موسى التوراة، وجعله هدى لبني إسرائيل 4/ 296 جعل الله من بني إسرائيل قادة يدعون إلى الهداية 4/ 296 آذاه قومه، فبرأه الله من الذي قالوه 4/ 353 منّ الله على موسى وهارون، ونصرهما الله على فرعون وآتاهما الله التوراة 4/ 469 سلام الله عليهما في عباد الله المؤمنين المحسنين 4/ 469 أرسله الله إلى فرعون وهامان وقارون بآيات تسع، وحجة ظاهرة وهي التوراة 4/ 560 قالوا عنه: ساحر كذاب، وقالوا بقتل أولاد المؤمنين الذكور 4/ 560 لجوء موسى إلى ربه مستعيذا من كل متكبر لا يؤمن باليوم الآخر 4/ 561- 562 الرجل المؤمن الذي يخفي إيمانه يستغرب ويستهجن عزمهم على قتل موسى، ولا ذنب له إلا الإيمان بالله 4/ 561- 562 تذكيره لهم بالملك الذي يستحق الشكر، وتحذيرهم من انتقام الله 4/ 561- 562 الرجل المؤمن يكرر تذكيرهم، وتحذيرهم من عذاب في الدنيا كما أصاب الأمم قبلهم، ومن عذاب الآخرة يوم ينادي بعضهم بعضا 4/ 564 تذكيرهم ببعثة يوسف 4/ 564 رجوع فرعون إلى تكبره وتجبره وطلبه من هامان أن يبني له قصرا عاليا يرى منه إله موسى 4/ 564 الرجل المؤمن يدعوهم إلى الاقتداء به ليهديهم إلى الجنة، وبيان حال الدنيا وزوالها والآخرة وخلودها، وأن الجزاء العادل: السيئة بمثلها والحسنة تضاعف بلا حساب 4/ 565 الرجل المؤمن يبين الفرق بين دعوته لهم إلى الإيمان ودعوتهم له للكفر، وأن المصير إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ 4/ 566- 567 تفويض أمره إلى الله وحفظه من مكرهم 4/ 567 أحاط بفرعون سوء العذاب في الدنيا وعذاب القبر بعد الموت 4/ 567

يوم القيامة يدخل فرعون وقومه النار 4/ 567 آتى الله موسى التوراة فاختلف فيه 4/ 597 فرعون يقول لقومه أَلَسْتُ خَيْرًا مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ، ولا يكاد يفصح الكلام 4/ 640- 641لماذا لم يحلّ بأساور من ذهب أو جاء معه الملائكة؟ 4/ 640- 641 فرعون استخف قومه وحملهم على الجهل والسفه فأطاعوه وكانوا خارجين عن طاعة الله فأغرقهم الله جميعا متتابعين 4/ 640- 641 أرسله الله بالمعجزات التسع إلى فرعون وأشراف قومه 4/ 639- 640 كان موقفهم من المعجزات الضحك وكل معجزة أكبر من أختها، فأخذهم الله بالعذاب والنقص في الثمرات، ونادوه بالساحر وطلبوا كشف العذاب لعلهم يهتدون 4/ 639- 640 لما كشف الله عنهم العذاب بدعاء موسى نكثوا عهدهم 4/ 639- 640 فرعون ينادي قومه ويبين لهم ما هو فيه من الملك والتفرد فيه وجريان الأنهار من تحت قصره 4/ 639- 640 أرسل الله موسى رسولا كريما على الله 4/ 658 أمانته على الرسالة ومعه معجزات ظاهرة 4/ 658 لجوء موسى إلى الله من قوم فرعون المجرمين 4/ 658 أمره الله تعالى بأن يسري ببني إسرائيل ليلا لأن فرعون وجنوده يتبعونه 4/ 658 أمره الله موسى أن يترك البحر منفرجا ساكنا بعد أن يضربه بعصاه 4/ 658- 659 غرق فرعون وجنوده 4/ 658- 659 أورث الله ما كان فيهم من نعم لبني إسرائيل 4/ 658- 659 ما بكت عليهم السماء ولا اكترث بهم، وما أمهلهم الله 4/ 658- 659 نجاة بني إسرائيل من العذاب المهين 4/ 659 اختارهم الله عل علم وآتاهم المعجزات لاختبارهم وابتلائهم 4/ 659 آتاه الله التوراة والفهم والفقه والنبوة 5/ 9 رزق الله بني إسرائيل من الطيبات وفضلهم على عالمي زمانهم 5/ 9 آتاهم شرائع واضحات 5/ 9 ما وقع الاختلاف بينهم إلا بعد مجيء العلم، ظلما وعدوانا، والله يحكم بينهم يوم القيامة 5/ 9

13 - داود عليه السلام:

في قصة موسى آية 5/ 108 إرساله إلى فرعون بحجة ظاهرة 5/ 108 إعراض فرعون، واتهامه لموسى بالسحر والجنون 5/ 108 إغراق فرعون وجنوده في البحر 5/ 108 كفروا بالمعجزات كلها فأخذهم الله بالغرق أخذ عزيز مقتدر 5/ 108 أمره بالتوحيد والجهاد وكيف حل العذاب بمن خالفه وآذاه 5/ 262 ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون، ودعاؤها ونجاتها ورفعتها في الجنة 5/ 5305- 306 فرعون صاحب الجنود والخيام 5/ 530- 531 أهلكه الله بالعذاب غرقا بسبب طغيانه وإفساده 5/ 530- 531 نداء الله له: وهو بالوادي المقدس تكليف موسى عليه السلام بالرسالة إلى فرعون لظلمه، وطغيانه، ليتطهر من آثامه، وليرشده إلى عبادة ربه تكذيب فرعون وعصيانه بعد رؤية المعجزات نداؤه، وادعاؤه: أنه رب أعلى في قصة موسى وفرعون عبرة وعظة 5/ 454- 456 13- داود عليه السلام: داود وسليمان يحمدان الله تعالى: لأنه فضّلهما على كثير من عباده المؤمنين 4/ 149- 150 علّمهما الله منطق الطير 4/ 149- 150 ورث سليمان داود 4/ 149- 150 أعطاه الله كتابا مزبورا 3/ 282- 283 فضّل الله داود بسبب إنابته 4/ 361 الجبال تسبّح معه، والحديد ليّن في يديه ليعمل ما يشاء 4/ 361 يضع داود الدروع الكوامل المقدرة التي تجمع بين الخفة والحصانة 4/ 361 أمر الله لآل داود بالشكر 4/ 361 تسلية رسول الله بقصة داود ذي القوة، والرّجاع عن كل ما يكرهه الله إلى ما يحبه 4/ 487 ذلّل الله الجبال مع داود يقدسن وينزهن الله عما لا يليق به في الصباح والمساء 4/ 487 سخّر الله له الطير مجموعة تسبح الله معه 4/ 487 قوينا ملكه وثبتناه 4/ 488- 490

14 - سليمان عليه السلام:

14- سليمان عليه السلام: سخّر الله له الريح الشديدة الهبوب تجري بأمره 3/ 497 سخّر الله له الشياطين يغوصون في البحار 3/ 497 علّمه الله منطق الطير 4/ 150- 155 آتاه الله من كل شيء تدعو الحاجة إليه 4/ 150- 155 جمع له جنوده من الجن والإنس والطير 4/ 150- 155 سماع سليمان عليه السلام للنملة وتبسمه وشكره لله 4/ 150- 155 آتاه الله الحكمة والفصل في القضاء، وقيل: الشهود والأيمان 4/ 488- 490 بعث الله إليه ملكين جبريل وميكائيل لينبهه على التوبة وذلك بصفة خصمين 4/ 488- 490 استغفاره ورجوعه إلى الله 4/ 488- 490 استخلافه في الأرض 4/ 488- 490 سخّر الله معه الجبال يسبحن والطير 3/ 496- 497 علّمه الله صنعة الدروع فألان له الحديد 3/ 496- 497 حكمهما في شأن الزرع حيث انتشرت فيه أغنام القوم 3/ 499- 500 آتاهما الله حكما وعلما 3/ 499- 500 إرساله الهدهد بكتابه إلى بلقيس وقومها 4/ 157- 159 بلقيس تستشير قومها حول كتاب سليمان 4/ 157- 159 بلقيس ترسل هدية لسليمان 4/ 157- 159 سليمان يردّ عليهم هديتهم ويعلمهم أن ما آتاه الله خير، ويهدّدهم بجيش كثيف 4/ 157- 159 سليمان يطلب إحضار عرشها ويغيره لها ليمتحن ذكاءها وليظهر لها قدرته 4/ 160- 162 الذي عنده العلم هو الذي أحضر العرش في لمح البصر 4/ 160- 162 جوابها عند ما سئلت عن عرشها فيه ذكاء وحكمة وحسن تخلص 4/ 160- 162 حضور بلقيس ودخولها قصر سليمان وكشفها عن ساقيها لدخول الصرح وهي تظنه ماء فقيل لها: إنه قصر من زجاج 4/ 163- 164 إسلامها مع قومها 4/ 163- 164 الرياح تسير بالغداة شهرا، وتسير بالعشي كذلك 4/ 363 ألان الله له النحاس 4/ 363 عمل الجن بين يديه ومن يعدل عن الطاعة يذقه الله من عذاب جهنم 4/ 363

15 - إلياس عليه السلام:

الجن يعملون لسليمان الأبنية الرفيعة والقدور الثابتة 4/ 363 حكم الله عليه بالموت 4/ 364- 365 ما دل الجن على موته 4/ 364- 365 الأرضة هي التي أكلت عصاه فسقط وعرفت الجن موته 4/ 364- 365 مدحه الله بالعبودية والرجوع إلى الله 4/ 494- 495 عرض الصافنات الجياد عليه، وقوله: آثرت حب الخيل على ذكر ربي، وهي صلاة العصر حتى غابت الشمس 4/ 494- 495 أمره بإعادتها ثم طفق يضرب سوقها وأعناقها لأنها شغلته عن الصلاة 4/ 494- 495 ابتلاه الله واختبره 4/ 496- 498 إلقاء جسد على كرسيه ورجوعه إلى الله، ودعاؤه أن يهب الله له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده 4/ 497 ذلّل الله له الريح تجري بأمره ليّنة حيث أراد، وذلّل له الشياطين منهم الغواص ومنهم البناء 4/ 497- 498 15- إلياس عليه السلام: كان من المرسلين 4/ 469 16- يونس عليه السلام: هو صاحب الحوت 5/ 330 نداؤه لله وهو مملوء غيظا وكربا 5/ 330 تدارك نعمة الله له ونجاته من بطن الحوت وعصمته 5/ 330 يونس من المرسلين 4/ 472 هروبه إلى الفلك المملوء 4/ 472 كان من المغلوبين في القرعة 4/ 472 ابتلعه الحوت وهو مستحق للوم 4/ 472 لولا تسبيحه لصار بطن الحوت قبرا له، ولكن الله طرحه من بطن الحوت 4/ 472 آمن قوم يونس فكشف الله عنهم العذاب ومتعهم إلى وقت معلوم 5/ 538- 540 أنبت شجرة اليقطين تظلّل عليه 4/ 272- 473 أرسله الله إلى قومه وعددهم مائة ألف أو يزيدون 4/ 272- 473 آمنوا فمتعهم الله في الدنيا إلى انقضاء آجالهم 4/ 272- 473

17 - زكريا ويحيى عليهما السلام:

ذهب ذو النون مغضبا 3/ 499- 503 ظن أن الله لن يضيق عليه فنادى في الظلمات معلنا توبته واعترافه بذنبه 3/ 499- 503 استجابة الله له ونجاته من الغم 3/ 499- 503 17- زكريا ويحيى عليهما السلام: بشارة الله لزكريا بغلام اسمه يحيى 3/ 384- 385 زكريا يتعجب من هذا بسبب كبر سنه 3/ 384- 385 إخباره بالمعجزة الإلهية والقدرة الربانية على الخلق 3/ 384- 385 تحديد الآية التي يعرف بها تحقق المطلوب وهو أن لا يكلم الناس إلا بالإشارة 3/ 384- 385 إجابة دعائه حين سأله الولد، ودعاؤه كان خفيا ليكون أبعد عن الرياء 3/ 381- 382 ضعف عظمه، واشتعل رأسه شيبا، وخوفه من الورثة، وامرأته عاقر 3/ 381- 382 دعاؤه أن لا يتركه وحيدا لا ولد له، واستجاب الله له ووهبه يحيى، وأصلح له زوجه 3/ 503- 504 أمر الله عز وجل يحيى أن يأخذ التوراة بعزيمة واجتهاد، وآتاه الله الحكمة والفهم وهو صغير وآتاه رحمة وطهارة وبركة، وكان يحيى بارا بوالديه، ولم يكن متكبرا ولا عاصيا 3/ 386- 387 18- المسيح عيسى عليه السلام: قصة الحواريين، وإنزال المائدة 2/ 105- 107 محاورة عيسى يوم القيامة لنفي ما أشرك به النصارى 2/ 109 قصة نذر امرأة عمران ما في بطنها محررا 1/ 384 اسم المسيح، ممّا ذا أخذ؟ 1/ 391 معجزات المسيح 1/ 392 رفعه إلى السماء 1/ 395- 396 قصة الاقتراع على كفالة مريم 1/ 389- 390 جعل الله عيسى وأمه معجزة، وآواهما الله إلى مكان مرتفع مستقر، وماء معين 3/ 375 تشبيه خلقه من غير أب بآدم 1/ 398 قوم مريم يعترضون عليها، ويتعجبون من فعلتها، وهي الطاهرة المصونة، أخت هارون، ومن ذرية صالحة

تركت الدفاع لابنها عيسى يتكلم في المهد بقدرة الله، ويبين: أنه عبد الله، وأنّه نبيّ مبارك بار بأمه 3/ 393- 394 جبريل يخبر مريم: أنه رسول من الله، ليهب لها غلاما طاهرا من العذاب، ومريم تتعجب من هذا، وهي الطاهرة التي لم يمسها رجل كانت ولادة عيسى عليه السلام من غير أب معجزة مريم تلد عيسى، وينطقه الله ليدعو أمه إلى الصبر، ويدافع عنها أمام قومها 3/ 389- 390 انفراد مريم واعتزالها عن أهلها مكانا يقع في جهة الشرق 3/ 389 هل هي نبية؟ اتخذت حجابا يسترها من الناس أرسل الله إليها جبريل في صورة رجل مريم تستعيذ منه 3/ 389 خلق الله عيسى من أم دون أب وهو كلمة الحق، والقول الحق الذي فيه يختلفون ويكذبون إعلان المسيح وإقراره: بأن الله ربه ورب الجميع 3/ 395- 396 مريم عليها السلام أحصنت فرجها، فلم يمسها بشر نفخ جبريل في جيبها من روح الله جعلها الله وابنها آية 3/ 504- 505 جعل الله عيسى بن مريم آية للعالمين 3/ 504 جاء عيسى قومه بالبينات الواضحة، والمعجزات الظاهرة وجاءهم بالنبوة والإنجيل، وليبين لهم ما يختلفون فيه، وجاء ليحلّ لهم ما حرموه وابتدعوه كان جواب قومه الاختلاف، فويل للظالمين من عذاب أليم يوم القيامة 4/ 643- 644 ضرب الله بمريم المثل للذين آمنوا 5/ 305- 306 مريم بنت عمران أحصنت فرجها عن الفواحش، وصدقت بكلمات ربها، وكانت من المطيعين 5/ 305- 306 أرسل الله عيسى عليه السلام، وهو من ذرية إبراهيم آتاه الله الإنجيل، وجعل في قلوب الحواريين رَأْفَةً، وَرَحْمَةً، وَرَهْبَانِيَّةً مُبْتَدَعَةً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فما رعوها ولا صانوها وإنما خرجوا بها عن دين عيسى 5/ 213- 216

جاء عيسى قومه بالمعجزات ومصدقا لما بين يديه من التوراة، فقالوا: هذا سحر ظاهر 5/ 263 قال عيسى من أنصاري إلى الله فيما يقرب إلى الله؟ 5/ 265- 266 الحواريون هم أنصار الله، وخلّص أصحاب عيسى عليه السلام 5/ 265- 266

الرسول صلى الله عليه وسلم

الرسول صلّى الله عليه وسلم 1- بشرية الرسول. 2- الرسول مبشر ومنذر وشاهد ومبلغ. 3- أمر الله جلّ جلاله لرسوله صلّى الله عليه وسلم. 4- عموم رسالته وبعض واجباته. 5- تأييد الله له وتسليته. 6- واجب المسلمين نحوه. 7- الرسول لا يطلب أجرا. 8- أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم. 9- موقف المشركين منه والرد عليهم. 10- الإسراء والمعراج. 11- صفاته. 12- نهي الرسول صلّى الله عليه وسلم. 13- مكة المكرمة. 14- أهل المدينة المنورة. 15- الوحي. 16- أهل البيت.

1 - بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم:

1- بشرية الرسول صلّى الله عليه وسلم: هو بشر مثلكم ميزه الله بالوحي 4/ 580 حرصه على المؤمنين ورأفته بهم 4/ 476- 477 الرسول بشر يوحى إليه أن الله واحد 3/ 377- 378 ما أرسل الله قبل محمد صلّى الله عليه وسلم إلا رجالا يأكلون ويمشون 3/ 473- 4/ 79 الرسل بشر يأكلون ويموتون 3/ 473 استحالة أن يكون الرسول ملكا 1/ 116- 117 2- الرسول مبشر ومنذر وشاهد ومبلّغ: أنزل الله عليه القرآن ليبين لهم ما اختلفوا فيه وهدى ورحمة للمؤمنين 2/ 210 نزول القرآن بما وقع لموسى عليه السلام أكبر برهان على صدق محمد صلّى الله عليه وسلم 4/ 202- 203 إنذار قومه ولم يأتهم من قبل من نذير 4/ 202- 203 بدء الوحي ونزول قوله تعالى: يا أيها المدثر 5/ 388- 389 أمره بالتبليغ والإنذار مع التكبير لله والتنزيه عن الشريك وتطهير ثيابه وحفظها من النجاسات وهجر الشرك والأوثان التي توصل للرجز والعذاب 5/ 388- 389 مهمته البلاغ المبين 4/ 55 إرساله للناس جميعا بالإنذار والإبلاغ 4/ 375- 376 هو منذر وهاد إلى الحق والرشاد 3/ 82 أرسله الله شاهدا على أمته ونذيرا لأهل المعاصي 5/ 56- 59 الإيمان بالله ورسوله والتعظيم والتفخيم لرسوله 5/ 56- 59 يأتي به الله شهيدا على الأمم ولهم 3/ 226 إرساله إلى أمته شاهدا يوم القيامة بأعماله 5/ 382 هو نذير وبشير يدعو إلى التوبة والاستغفار ويحذر من العذاب 2/ 546 أرسله الله شاهدا على أمته ومبشرا برحمة الله وداعيا إلى التوحيد، وسراجا يستضاء به في ظلمة الضلالة 4/ 331 هو مبلغ لما ينزله الله عليه من الوحي 4/ 490 3- أمر الله جل جلاله للرسول صلّى الله عليه وسلم: لا تك في شك من شرك قومك وعبادتهم الأصنام كغيرهم من الكفرة، والله

سيوفيهم نصيبهم من العذاب 2/ 599- 600 أمره الله بالاستقامة 2/ 599- 600 الصبر على ما يقوله الكفار، ونسخ ذلك في آية القتال 4/ 487 اصبر يا محمد على أذى المشركين ولا تحفل بإنكارهم البعث، وأفزع إلى ذكر الله والصلاة لتنال عند الله ما ترضاه 3/ 466- 468 لا تطل نظر عينيك إلى ما متعناهم فيه من زينة الحياة وأمر أهلك بالصلاة 3/ 466- 468 دعوته إلى الصبر والاستغفار والتسبيح في الصباح والمساء، والاستعاذة بالله 4/ 570 أمره الله بالنّصب في العبادة إذا فرغ من أعباء الدعوة والجهاد 5/ 562- 565 دعوته إلى الاستقامة على توحيد الله واستغفاره 4/ 580 أمره الله بأن يصدع بالتوحيد، وكفاه الله المستهزئين من أكابر الكفار بتدميرهم 3/ 174- 175 أمر الله بالصبر ووعده بالانتقام من أعدائه المكذبين، في الدنيا أو في الآخرة 4/ 575 أمره بالتذكير، وأنه ليس عليه غير ذلك 5/ 524- 525 أمره الله بالصبر لحكم الله وأن لا يكون كيونس عليه السلام في الغضب 5/ 330 أمره الله بالصبر على كفر قومه وتكذيبهم بالبعث واستبعادهم، وإنكارهم ليوم القيامة والحساب 5/ 346 أمر بالتبرؤ من عبادتهم وما يعبدون 5/ 618- 621 أمر الله له بالصبر ونهيه عن طاعة الكفار والآثمين 5/ 426 أمره الله بالصلاة والتسبيح في أوقات معلومة 5/ 426 أمره الله بالتوحيد ونهاه عن عبادة ما يدعوه المشركون من دون الله 4/ 573 أمره الله أن يسلم، وينقاد لله رب العالمين 4/ 573 أمره الله أن يعبد الله مخلصا وأن يكون أول المسلمين 4/ 521- 522 إعلان خوفه من معصية الله إن أطاع المشركين وأجابهم إلى ما يدعون إليه 4/ 521- 522 خطابه ونداؤه يا أيها المزمل، ومعنى التزمل 5/ 378- 379- 5/ 394 أمره بصلاة قيام الليل ووقت القيام في حقه 5/ 378- 379- 384- 394 أمره بتلاوة القرآن بتدبير وعلى مهل 5/ 378- 379 و 384- 394 أمره بالاستغفار له وللمؤمنين 5/ 43

4 - عموم رسالته وبعض واجباته:

أمره بالدعوة إلى التوحيد والاستقامة وعدم التفرق فأمره بالعدل وترك الحيف 4/ 608 أمره الله أن يأخذ العفو من أخلاق المشركين، والإعراض عن الجاهلين، والاستعاذة بالله إذا أدرك شيئا من الوسوسة 2/ 318- 320 أمره بالعبادة لله وحده وهو رب مكة التي حرمها الله، وأن يكون من المسلمين، وأن يتلو القرآن 4/ 179- 180 البيان للرسول أن ساعات الليل أثقل على المصلي، وأمره بدعاء الله بأسمائه الحسنى والانقطاع للعبادة، وأمره بالصبر على ما يقوله الكفار من السب، وأمره بهجره الكافرين 5/ 380- 384 أمره بالانتظار لما وعده الله من النصر 4/ 664 أمره الله أن يقول لأزواجه وبناته ونساء المؤمنين، أن يغطين وجوههن ورؤوسهن حتى لا يعرفن فيؤذين 4/ 349- 350 أمره الله بالصبر ونهاه أن يستخفّه الذين لا يوقنون 4/ 268 أمره الله: أن دم على التقوى وازدد منها 4/ 300 أمره الله بعدم إطاعة الكافرين والمنافقين 4/ 300 أمره الله باتباع الوحي في كل أموره 4/ 300 أمره الله بالاعتماد على الله وتفويض الأمر له 4/ 300 أمره الله أن يدعو أمته إلى الإسلام بالحكمة والموعظة والحسنة 3/ 244 أمره الله بالصفح الجميل 3/ 170 أمره الله بجهاد الكفار والمنافقين وإقامة الحجة عليهم، وإقامة الحدود على المنافقين مع الشدة والخشونة 2/ 436- 437 أمره الله بأن يدعو الكفار أن ينتهوا عن عنادهم وضلالهم، فيغفر الله لهم ما قد سلف، وأمره بقتالهم حتى لا تكون فتنة 2/ 352 أمره بأن يصبر نفسه مع المؤمنين الضعفاء، وأن لا يصرف نظره عنهم إلى الزعماء والوجهاء من المشركين طمعا في إسلامهم 3/ 335- 336 أمره بالصبر والتسبيح والتحميد لله حين القيام في الليل وآخره، وإعلامه أنه في حفظ الله وعنايته 5/ 123- 124 4- عموم رسالته وبعض واجباته: عموم رسالته للناس جميعا 2/ 290 أرسله الله إلى الناس كافة 3/ 113- 114

5 - تأييد الله له وتسليته:

أرسل الله محمدا إلى أمة العرب وهي أمية لا تحسن القراءة والكتابة 5/ 267- 268- 269 محمد صلّى الله عليه وسلم من جنس العرب ومن جملتهم 5/ 267- 268- 269 مهمته تلاوة القرآن وتطهيرهم من دنس الكفر 5/ 267- 268- 269 أخذ الله منه ومن جميع الأنبياء العهد والميثاق الشديد لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة 4/ 304 جعله الله على منهاج واضح من أمر الدين 5/ 9 نهيه عن اتباع أهواء الجاهلين 5/ 9 أرسله الله ليخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام 5/ 294- 295 ما أرسل الله إلا رجالا قبل محمد صلّى الله عليه وسلم 3/ 198- 199 إنزال القرآن عليه ليبين للناس ما نزل إليهم 3/ 198- 199 أوحى الله إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله 4/ 602 ما أرسله الله إلا رحمة للعالمين 3/ 511- 512 أوحى الله له أن يبلغ قومه وجوب التوحيد 3/ 511- 512 5- تأييد الله له وتسليته: تسليته بما وقع للرسل قبله 2/ 132 تسليته بأن ما يقوله له الكفار قد قيل للرسل من قبله 4/ 595 تسليته ببيان شأن الأمم المتقدمة واتهامهم لرسلهم بالسحر والجنون 5/ 109- 111 تسليته الرسول وأمره بالصبر والتنزيه لله بالتسبيح والتحميد في أوقات مخصوصة 5/ 95- 96 تسليته الرسول صلّى الله عليه وسلم عن تماديهم في الكفر والتكذيب 2/ 551 تسليته عما وقع في قريش من التكذيب وقد وقع في سائر الأمم 3/ 209 تسليته بأن الشيطان يزين للكفار والمشركين أعمالهم 3/ 209 تسليته بالتوكل على الله وأنه على الحق الواضح وأنه لا يسمع الموتى ولا يهدي العمي 4/ 173- 174 تسليته وإعلامه أن الله لا ينزل القرآن عليه ليتعب 3/ 423 تسليته أن القرآن نزل تذكرة لمن يخاف 3/ 423 إخباره بمكر الكفار به في مكة ليثبتوه أو يخرجوه أو يقتلوه وأن تدبيرهم كان بمكر وخفية 2/ 346- 348 شرح الله صدره صلّى الله عليه وسلم 5/ 562- 565

6 - واجب المسلمين نحوه:

حط عنه وزره الذي أثقل له ظهره 5/ 562- 565 رفع ذكره في الدنيا والآخرة 5/ 562- 565 أنزل الله سكينته ووقاره على رسوله وعلى المؤمنين، ولم يَدْخُلْهُمْ مَا دَخَلَ أَهْلَ الْكُفْرِ مِنَ الْحَمِيَّةِ 5/ 64- 65 رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلم بدخول مكة ومعه المسلمين معتمرين وقد تحقق له ذلك 5/ 64- 65 أرسله الله بالهدى والإسلام تسليته وتعزيته عن تكذيب قومه له بأن الرسل جميعا كذّبوا، وأن الله أهلك المكذبين 3/ 544 قسم الله تعالى بمدة حياة محمد صلّى الله عليه وسلم تشريفا له 3/ 166 إتمام النعمة عليه بالمغفرة والفتح والنصر 5/ 53- 54 بشارته بالعودة إلى مكة 4/ 217 تسليته بأنه لا يسمع الصم ولا يهدي العمي ولا يهدي من كان في الضلالة ظاهرا مبالغا 4/ 638 بيان طريقته التي يدعو بها إلى الله تعالى على بصيرة 3/ 69- 71 أوحى الله له القرآن، وأيّده به، وما كان قبله إلا أميا لا يقرأ ولا يكتب 4/ 624- 625 هديه صلّى الله عليه وسلم بالنور والوحي إلى صراط مستقيم 4/ 624- 625 إعلامه أن لكل أمة شريعة خاصة، وعبادة محددة، وقرآنا منزلا 3/ 555- 556 ليس لأي أمة أخرى أن تنازع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شريعته ومنسكه 3/ 555- 556 تأييد الله لهم بالقوة والإخلاص، واصطفاؤهم من الأخيار 4/ 502 6- واجب المسلمين نحوه: أدب الاستئذان من رسول الله 4/ 67- 68 أدب مخاطبته ودعوته 4/ 67- 68 تحذير من يخالف أوامره 4/ 67- 68 احترامه واجب وذلك بترك رفع الصوت والجهر له بالقول 5/ 70- 72 المخلصون الأتقياء هم الذين يخفضون أصواتهم عنده 5/ 72- 73 جفاء بني تميم ونداؤهم لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ وراء الحجرات 5/ 72- 73 تعليمهم أدب الانتظار والخطاب مع رسول الله 5/ 72- 73

7 - الرسول لا يطلب أجرا:

7- الرسول لا يطلب أجرا: لا يطلب على رسالته أجرا ولا نفعا وإنما يطلب المودة في القربى من قومه وعشيرته 4/ 612 دعوته لقومه ليست مشوبة بأجر ولا أطماع 3/ 586 الرسول لا يطلب أجرا 4/ 383- 384 لا يسأل على القرآن أجرا ولا على تبليغ الرسالة 4/ 97 8- أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم: أنواع الأنكحة التي أحلها الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم 4/ 335- 336 الأزواج اللّاتي يؤتيهن مهورهن 4/ 335- 336 ملك اليمين 4/ 335- 336 ما أفاء الله على رسوله 4/ 335- 336 امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها وهو خاص بالنبي صلّى الله عليه وسلم 4/ 335- 336 فوض الله له أمر زوجاته يصنع ما يشاء من تقديم وتأخير 4/ 337- 338 من يأت منهن بعمل ظاهر الفحش يضاعف لها العذاب ومن تطع يأتها الله أجرها مرتين 4/ 318- 319 تميزهن عن بقية النساء 3/ 319 عدم إلانة القول عند مخاطبة الناس صونا لهن من ضعاف النفوس 4/ 319 سؤالهن من وراء ستر ذلك أطهر من الريبة 4/ 343 تحريم الزواج بهن بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 4/ 343 لَا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من محارمهن 4/ 343 القرار في بيوتهن 4/ 320 ترك التبرج 4/ 320 أمرهن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله 4/ 320 أراد الله مما أوصاكم به (أهل البيت) أن يطهركم ويذهب عنكم كل ذنب 4/ 320 وكل إثم تحريم أن يتزوج على نسائه مكافأة لهن، وقيل تحريم اليهوديات والنصرانيات 4/ 337- 338 النهي عن أن يبدل إحدى زوجاته بغيرها بالطلاق أو التبادل 4/ 337- 338 قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزيد بن حارثة: اتق الله وأمسك عليك زوجك،

9 - موقف الكفار والمشركين والرد عليهم:

وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم يخفي في نفسه نكاحها إن طلقها 4/ 327- 328 زواج الرسول بزينب بعد طلاقها لإلغاء عادة التبني وإثبات عدم تحريم الزواج بزوجة المتبنى 4/ 327- 328 تخييرهن بين الحياة الدنيا مع التسريح والطلاق وبين اختيار الله ورسوله والدار الآخرة مع الأجر العظيم للمحسنات منهن 4/ 317- 318 أزواجه أمهات المؤمنين 4/ 301 تحريم ما أحلّ الله له من قرب بعض زوجاته وحلفه على ذلك 5/ 297- 298 و 300- 301 أمره أن يكفر عن يمينه ويرجع عن حلفه 5/ 297- 298 و 300- 301 إسراره إلى بعض زوجاته حديثا فأخبرت به غيرها 5/ 297- 298 و 300- 301 تحذير زوجاته من التعاضد والتعاون في الغيرة، وإفشاء سرّه 5/ 299 الله ينصره، والملائكة تؤيّده عليهن 2/ 301 تخويفهن من الطلاق، وأنّ الله يبدله أزواجا غيرهن، قائمات بفرائض الإسلام، وهن مطيعات 5/ 299- 300 9- موقف الكفار والمشركين والرد عليهم: عصمه الله من الركون إلى الكفار 3/ 296 توعد الله لرسوله لو قارب الركون إلى الكفار بالعذاب المضاعف 3/ 296 كبر عليه إعراض المشركين 2/ 128 طلب الكفار من رسول الله آية 2/ 173- 175 إن أخرجك الكفار من مكة فلن يلبثوا فيها بعدك إلا قليلا، وهي سنة ربانية محققة 3/ 296 الكفار يطلبون المعجزات منه تعنتا مثل أن يخرج لهم من الأرض ينبوعا أو يكون له بستان من نخيل وأعناب وأنهار، أو يسقط السماء عليهم قطعا 3/ 308- 309 طلب الكفار أن يكون الرسول ملكا، والرد عليهم بأن الرسول يكون من جنس المرسل إليهم 3/ 310- 311 و 4/ 239- 241

قارب كفار قريش أن يخدعوك يا محمد عن حكم القرآن لتتقوّل علينا غيره ولو فعلت لاتخذوك صديقا 3/ 296 المشركون يطلبون من الرسول حكما غير الله، والقرآن يرد عليهم بالرفض والإنكار 2/ 176 قول المشركين عن رسول الله (درست) قرأت، فالقرآن بزعمهم مدارسة وإعانة من أهل الكتاب 2/ 170- 172 أمره بقتال الكفار والمنافقين والتشديد عليهم في الدنيا، ومصيرهم في الآخرة إلى جهنم 5/ 304 شهادة المنافقين على صدقه وإيمانهم به وحلفهم على ذلك وكذبهم 5/ 275 شكواه من هجر أمته القرآن 4/ 85 جعل الله لكل نبي أعداء مجرمين 4/ 85 لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِمَّا تُخْبِرُونَهُ بِهِ من الأخبار الباطلة لوقعتم في العنت والشدة 5/ 71 اتهام الرسول بالكذب والجنون لأنه أخبرهم ببعثهم من قبورهم 4/ 359- 360 الإعراض عمن يخوضون في آيات الله بالتكذيب وعدم القعود معهم 2/ 146 تحية اليهود له بما لا يحييه به الله فيقولون «السام عليك» 5/ 224- 225 تعجب الكفار من رسالته وهو بشر مثلهم 5/ 84 أمره الله أن يخوّف المشركين ويحذرهم بالقرآن 3/ 486 المستهزئون من المشركين يسخرون من الرسول صلّى الله عليه وسلم وكذلك الرسل جميعا استهزئ بهم، فأحاط بهم جزاء استهزائهم 3/ 483- 484 قال المشركون عنه: شاعر 3/ 472 طلبوا منه آية كما أرسل المرسلون قبله 3/ 472 اتهام مشركي مكة له صلّى الله عليه وسلم بالجنون 3/ 147 طلبهم منه أن ينزل الملائكة 3/ 147 الرد عليهم بأن الملائكة لا تنزل إلا بالحق والعذاب 3/ 147 الهزء والسخرية منه 4/ 90- 91 استغرابهم من صرفهم عن آلهتهم وإضلالهم عن عبادتها بزعمهم 4/ 90- 91 أمره الله بعدم طاعة الكفار وجهادهم بالقرآن 4/ 94 أمره الله أن يعرض عن الكفار إلى مدة معلومة 4/ 477 نهيه عن الحزن والضيق من إصرار الكفار وعنادهم 4/ 172

اعتراض الكفار على بشرية الرسول وأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق 4/ 73- 74 طلبوا أن يكون معه ملك يعضده ويساعده، وأن يلقى إليه كنز، وأن يكون له بستان يأكل منه 4/ 73- 74 الكفار يطلبون منه المعجزات، وأن يكون له بيت من ذهب، وأن يصعد في السماء، وأن ينزل عليهم كتاب يقرءوه 3/ 307- 308 الرسول يرد بأنه بشر رسول، وادعاء الكفار أنه رجل مسحور 3/ 308 لم تأت شريعة من الشرائع بعبادة الأوثان 4/ 643- 644 ضرب الكفار المثل لمحمد صلّى الله عليه وسلم بعيسى بن مريم عليه السلام، وقالوا أآلهتنا خير أم هو؟ ما أرادوا إلا الجدل والرد عليهم بأنه عبد أكرمه الله بالرسالة وجعله الله معجزة لبني إسرائيل 4/ 643- 644 قول الكفار عنه صلّى الله عليه وسلم إنه ساحر 2/ 481 لا يتبع محمد أهواء الكفار، ولا يعبد ما يعبدون، ولا يملك العذاب الذي يستعجلون به سخرية 2/ 139- 140 ما كان الله ليعذب الكافرين وهو بين أظهرهم 2/ 347 ما به من جنون إن هو إلا نذير مبين 2/ 309- 310 قول المشركين عنه بأنه شاعر مجنون، والرد عليهم بأنه جاء بالحق وصدّق المرسلين قبله 4/ 450 تعزيته عن تكذيب المشركين بأن الرسل قبله كذبوا من أقوامهم 4/ 388- 390 نهيه عن الحزن والتحسر بسبب عناد قومه وصدهم 4/ 388- 390 نهي الله له عن طاعة الكفار المكذبين، ونهيه عن المسامحة والمداراة لهم والملاينة لكبرائهم مهما حلفوا 5/ 320- 323 أمره بالتذكير ونفي الكهانة والجنون عنه صلّى الله عليه وسلم 5/ 119- 121 قول الكفار عنه بأنه شاعر وهم ينتظرون هلاكه بصروف الدهر، والأمر لرسول الله بالصبر والانتظار حتى يتبينوا زيف دعواهم وأحلامهم 5/ 119- 121 نفي الجنون عنه كما ادعى كفار مكة 5/ 474- 477 نهيه عن سبّ المشركين حتى لا يسبّوا الله 2/ 171 إعراض المشركين عن ذلك وقولهم سحر دائم شديد 5/ 145- 149 محاولة الكفار أن يصرفوا رسول الله عما هو عليه من الدعوة إلى الله، واتهامهم له بالجنون 5/ 330- 336

3 - الإسراء والمعراج:

المعرض والكافر عن دعوته يتولى الله حسابه 5/ 524- 525 3- الإسراء والمعراج: كانت معجزة الإسراء فتنة للناس 3/ 285- 286 الإسراء برسول الله لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ليريه الله من العجائب الاختلاف حول الإسراء هل كان بروحه وجسده معا أم بروحه فقط؟ تاريخ الإسراء 3/ 247- 248 و 250 رؤية الله بقلبه 5/ 127- 132 ما رآه الرسول صلّى الله عليه وسلم من خلق جبريل وهو على صورته الحقيقية 5/ 132- 133 ما رآه من آيات ربه الكبرى 5/ 132- 133 علّمه جبريل، وهو شديد القوة والسليم من الآفات 5/ 126- 129 استواء جبريل وهو في الأفق الأعلى 5/ 126- 129 ما رآه رسول الله حق 5/ 126- 129 رأى رسول الله جبريل مرة أخرى عند سدرة المنتهى، ورأى آيات كبيرة في إسرائه ومعراجه، حتى أصبح ما بينه وبين محمد قدر قوسين أو أقل 5/ 126- 129 11- صفاته: صدق الرسول وأمانته قبل البعثة تؤكّد أنه لا يغير أو يبدّل فيما ينزل عليه 2/ 490- 491 لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا لا يعلم الغيب وإنما هو نذير وبشير ليس بملك ولا يملك خزائن الأرض ولا يعلم الغيب 2/ 135 النبي ليس بشاعر 4/ 435- 437 لا يقرأ ولا يكتب 2/ 287 و 4/ 239- 241 12- نهي الرسول صلّى الله عليه وسلم: نهيه عن الافتراء والشك ونهي أمته أيضا 2/ 177 نهيه عن طاعة أكثر أهل الأرض من الكفار لأنهم ضالون مضلون 2/ 177 نهيه عن طرد المؤمنين الضعفاء 2/ 136- 137- 138 نهيه عن الصلاة في مسجد الضّرار 2/ 459- 461

13 - مكة المكرمة:

إعراضه صلّى الله عليه وسلم عن عبد الله بن أم مكتوم وعبوسه في وجهه، واهتمامه بأشراف من قريش كانوا عنده، وعتابه الشديد على ذلك 5/ 462- 468 نهيه أن يدعو مع الله إلها آخر، وهو المنزه عن ذلك تأكيدا على التوحيد 4/ 138- 139 نهيه عن الصلاة على المنافق أو الدعاء له عند قبره 2/ 444 معاتبة الله لرسوله في الصلاة على عبد الله بن أبي والاستغفار له 2/ 444 نهيه عن الافتراء فيما أنزل الله عليه وهو تعريض بغيره صلّى الله عليه وسلم 2/ 538 نهاه الله أن يطمح ببصره إلى زخارف الدنيا 3/ 172 نهاه أن يحزن على الكفار بسبب عنادهم 3/ 172 نهيه عن الضيق والحرج في إبلاغ القرآن للناس 2/ 213- 215 نهيه أن يمن على ربه بما يتحمله مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ، كَالَّذِي يَسْتَكْثِرُ مَا يَتَحَمَّلُهُ بسبب الغير 5/ 390 13- مكة المكرمة: أقسم الله بها وهي البلد الحرام 5/ 538- 539 و 542- 543 حرمتها وإحلالها للرسول ساعة من الزمن 5/ 538- 539 و 542- 543 تسميتها البلد الأمين لأنها حرم آمن 5/ 567 فتح مكة وانتصار الرسول صلّى الله عليه وسلم على قريش وكيف كان فتحها صلحا أو عنوة 5/ 622- 625 14- أهل المدينة المنورة: من صفات أهل المدينة عدم التَّخَلُّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 3/ 472- 473 من صفاتهم عدم الرغبة بأنفسهم عن نفسه 3/ 472- 473 لا يضيع الله تعالى أجرهم 3/ 472- 473 15- الوحي: الوحي ومعناه اللغوي 1/ 620 أنواعه: الإلهام، أو الكلام من وراء حجاب، أو إرسال جبريل 4/ 624 الإلهام إلى النحل 3/ 212

16 - أهل البيت:

16- أهل البيت: ذهب بعض الصحابة أن المراد بأهل البيت زوجاته عليه الصلاة والسلام وذهب البعض إلى أن المراد بأهل البيت علي، وفاطمة، والحسن، والحسين 4/ 321 توسطت طائفة ثالثة فقالت الآية شاملة لزوجات النبي، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين 3/ 323- 324

قصص القرآن

قصص القرآن 1- قصة عاد وثمود. 2- قصة ذي القرنين. 3- قصة سبأ. 4- قصة لقمان. 5- قصة الرجل الذي انسلخ عن الآيات. 6- قصة أصحاب القرية. 7- قصة هاروت وماروت. 8- قصة أصحاب الجنة. 9- قصة الرجل صاحب الجنتين. 10- قصة أصحاب الكهف. 11- قصة البقرة. 12- قصة أصحاب الفيل. 13- قصة أصحاب الأخدود. 14- قصة الذين خرجوا من ديارهم ألوف.

1 - قصة عاد وثمود:

1- قصة عاد وثمود: عاد: استكبارهم، واعتدادهم بالقوة، وكفرهم بآيات الله إرسال الريح الشديدة الصوت والباردة عليهم في أيام مشؤومات أخزاهم الله بعذاب في الدنيا وعذابهم في الآخرة أشد وأخزى 4/ 585- 586 أهلكهم الله بريح لا خير فيها ولا بركة، وكل ما أتت عليه جعلته كالشيء الهالك البالي 5/ 108 تكذيبهم وكفرهم أرسل الله عليهم ريحا باردة في يوم مشؤوم تصرعهم وتقلعهم كأعجاز النخل التي لا رؤوس لها 5/ 150- 151 عاد بن إرم قبيلة ذات قوة وشدة لم يخلق مثلها في الطول والشدة والقوة أهلكها الله فجعلها رميما بسبب طغيانها وإفسادها 5/ 529- 531 هم قوم هود أهلكهم الله بالريح الباردة العاتية، سلطها عليهم ثمانية أيام متتابعة وسبع ليال حتى أهلكتهم، وقطعتهم، وصرعتهم 5/ 534- 537 ثمود: جعلهم الله خلفاء من بعد قوم نوح أرسل الله فيهم رسولا منهم أشراف ثمود كذبوا بالآخرة وكذبوا رسولهم لأنه بشر مثلهم أخذتهم الصيحة فأصبحوا كغثاء السيل 5/ 573- 574 بين الله لهم سبيل النجاة فاستحبوا الكفر على الإيمان أخذتهم صاعقة العذاب والهوان بأعمالهم نجى الله الذين آمنوا منهم 4/ 586 إمهالهم ثلاثة أيام وإهلاكهم بالصاعقة وهم ينظرون عجزهم عن القيام بعد أن صرعوا 5/ 109- 110 تكذيبهم 5/ 151- 154 كفرهم برسولهم لأنه بشر مثلهم 5/ 151- 154 قولهم عنه: إنه كذاب مرح والرد عليهم: بأنهم سيعلمون غدا من هو الكذاب 5/ 151- 154

2 - قصة ذي القرنين:

إرسال الناقة فتنة وامتحانا، وقسمة الماء بينهم وبين الناقة 5/ 151- 154 عقروا الناقة فحل بهم العذاب بالصيحة، وبيان وقت نزول العذاب 5/ 151- 154 هم قوم صالح قطعوا الصخر وبنوا البيوت المنحوتة فيه أهلكهم الله بالعذاب بسبب طغيانهم وإفسادهم 5/ 530 و 533 هم قوم صالح أهلكهم الله بالصيحة 5/ 334 و 337 تكذيبهم بالعذاب قيام أشقى ثمود بعقر الناقة أهلكهم الله وأطبق عليهم العذاب 5/ 547- 548 2- قصة ذي القرنين: الاختلاف فيه من هو؟ 3/ 363 سبب تسميته مهد الله له الأسباب حتى تمكن في الأرض اتبع طريقا تؤدي به إلى مغرب الشمس 3/ 364 وصل مغرب الشمس وجدها تغرب في عين كثيرة الحمأة (الطينة السوداء) وجد عند مغرب الشمس قوما كفارا خيره الله بين قتلهم ودعوتهم إلى الحق 3/ 365- 366 بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لا يسترهم منها شيء 3/ 367- 368 بلغ بين الجبلين وجد بعدهما قوما لا يبينون لغيرهم كلاما قالوا له: إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض عرضوا عليه مالا ليبني لهم سدا يحجبهم عنهم 3/ 369- 370 ذو القرنين يرفض الأجر على بناء السد، ويطلب معونتهم في ذلك صهر الحديد بالنار واستعماله في البناء عجز يأجوج ومأجوج أن يعلوا السد. في الآخرة بجعله الله مدكوكا لاصقا بالأرض 3/ 371- 373

3 - قصة سبأ:

خروج يأجوج ومأجوج يوم القيامة يموج بعضهم في بعض. وينفخ في الصور فيجمعهم الله للحساب 3/ 373- 374 3- قصة سبأ: المراد بسبإ: القبيلة مساكنهم كثيرة ومتعددة من قدرة الله أن جعل لهم جنتين عن يمين وشمال طلب منهم أن يأكلوا من رزق الله وأن يشكروا له 4/ 367 أعرضوا عن الشكر، وكفروا بالله، وكذبوا أنبياءهم أرسل الله عليهم سيل العرم فهدم مساكنهم ودفنها 4/ 367- 368 بدلهم الله بجنتين لا خير فيهما، ذواتي شجر لا ثمر فيها، بل تحمل شوكا جزاؤهم كان جزاء الكفار المعاندين 4/ 368- 370 جعل الله لهم قرى آمنة متقاربة فطلبوا أن يباعد أسفارهم ظلما وعدوانا 4/ 370 مزقهم الله وفرقهم صدق إبليس ظنه عليهم فأغواهم وأطاعوه إلا فريقا منهم 4/ 370- 371 4- قصة لقمان: من هو، عجمي أم عربي؟ آتاه الله الحكمة موعظة لقمان لابنه أن لا يشرك بالله الوصية بالوالدين شكرا وإحسانا طلب منه الشكر لله 4/ 273- 274 علم الله الشامل لكل إساءة وإحسان النهي عن التكبر والخيلاء القصد في المشي وخفض الصوت 4/ 274- 276 5- الرجل الذي انسلخ من آيات الله: آتاه الله الآيات فانسلخ منها لحقه الشيطان وصار قرينا له

6 - قصة أصحاب القرية:

أصبح من الغاوين وأخلد إلى الأرض تشبيهه بالكلب في لهاثه المستمر من هو الرجل الذي انسلخ؟ 2/ 302- 304 6- قصة أصحاب القرية: ما أنزل الله على قوم الرجل المؤمن من جند وإنما أهلكهم بالصيحة فماتوا جميعا 4/ 421 جاءها المرسلون وهم أصحاب عيسى 4/ 418- 419 أرسل عيسى بأمر الله اثنين ثم قواهما بثالث 4/ 418- 419 أصحاب القرية ردوا بأنهم بشر وأنهم تشاءموا منهم 4/ 418- 419 تهديد الرسل بالرجم والعذاب الأليم 4/ 418- 419 الرجل المؤمن جاء مسرعا ينصح باتباع الرسل ويبيّن فساد عبادة الأصنام، وصحة عبادة الله الخالق القادر الرجل المؤمن يعلن إيمانه فيكرمه الله بدخول الجنة 4/ 419- 420 7- قصة هاروت وماروت: 1/ 144 8- قصة أصحاب الجنة: هُمْ قَوْمٌ مِنْ ثَقِيفٍ كَانُوا بِالْيَمَنِ مُسْلِمِينَ حلفهم على قطع الثمر وحرمان المساكين حقهم احتراق جنتهم بأمر الله فصارت كالليل المظلم عتابهم لبعضهم، وندمهم، وعودتهم إلى الله بصدق ورغبة حالهم كحال الكفار وعذاب الآخرة أشد وأعظم 5/ 323- 326 9- قصة الرجل صاحب الجنتين: جعل الله للكافر جنتين من كروم العنب وحولهما النخيل كل من البستانين نضج ثمره وفجر الله بينهما نهرا 3/ 340- 341 الكافر يفخر على المؤمن بكثرة ماله وعزة أتباعه دخوله البستان واعتزازه به، وقوله: إنه لا يبيد، وإنه لا آخرة، وإن كان هناك آخرة فسيجد خيرا من بستانه وأفضل منه 3/ 341- 342 المؤمن ينكر عليه كفره بالله الخالق ويرشده إلى ما يجب أن يقول، ويبين له

10 - قصة أصحاب الكهف:

احتمال هلاك جنته في طرفة عين بقدرة الله وذهاب مائها 3/ 340- 343 فناء بستان الكافر وهلاكه تقليب يديه ندامة وحسرة، لأنه لم يجد معينا ولا ناصرا ضربه الله مثلا لِمَنْ يَتَعَزَّزُ بِالدُّنْيَا وَيَسْتَنْكِفُ عَنْ مُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ 3/ 343- 345 10- قصة أصحاب الكهف: صاروا إلى الكهف وجعلوه مأواهم 3/ 326- 327 دعاؤهم نومهم بقدرة الله سنين طويلة أيقظهم الله امتحانا للمؤمنين والكافرين هم فتية مؤمنون بالله الواحد 3/ 325- 327 الشمس تميل عن كهفهم عند الشروق والغروب وهم في مكان متسع يحسبهم الناظر إليهم أيقاظا وهم نائمون يقلبهم الله يمنة ويسرة كلبهم باسط ذراعيه بفناء الباب الناظر إليهم يخاف ويمتلئ رعبا 3/ 328- 329 بعثهم الله من نومهم ليتساءلوا بينهم كم لبثوا إرسالهم أحدهم إلى المدينة لإحضار الطعام أطلع الله الناس عليهم ليعلموا أن الساعة حق المؤمنون والكفار تنازعوا أمرهم ثم غلب المؤمنون فبنوا عليهم مسجدا 3/ 329- 332 الاختلاف في عددهم النهي عن المراء في ذلك وتفويض الأمر إلى علم الله لبثوا في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا والله أعلم بذلك 3/ 331- 332 و 334 11- قصة ذبح البقرة: قصة ذبح البقرة 1/ 114 12- قصة أصحاب الفيل: مجيئهم لهدم الكعبة وإهلاكهم 5/ 604- 605

13 - قصة أصحاب الأخدود:

13- قصة أصحاب الأخدود: الدعاء عليهم بالقتل واللعن عرضهم المؤمنين على النار المشتعلة في الأخدود الملك وأعوانه حاضرون لم ينكروا على المؤمنين إلا إيمانهم بالله الواحد 5/ 500- 506 14- قصة الذين خرجوا من ديارهم ألوف: قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف خوف الطاعون 1/ 299- 300

الجهاد

الجهاد 1- فضل الجهاد. 2- الأمر بالجهاد لمكانته. 3- حكم القتال في الأشهر الحرم وعند الحرم. 4- جهاد الكفار. 5- الإنفاق للجهاد. 6- غزوة بدر. 7- غزوة أحد. 8- غزوة الأحزاب. 9- صلح الحديبية. 10- بيعة الرضوان. 11- غزوة حنين. 12- غزوة تبوك. 13- الغنائم. 14- السلم بعد القتال. 15- الفيء. 16- الشهداء.

1 - فضل الجهاد والحض عليه:

1- فضل الجهاد والحضّ عليه: القتال في سبيل الله صفوفا متراصة كالبناء 5/ 262 التحريض على الجهاد والقتال 1/ 302 الذين يجاهدون في طلب مرضاة الله 4/ 245 نزول السورة التي أحكم الله فيها فرض الجهاد 5/ 45- 46 موقف المنافقين من فرض الجهاد 5/ 45- 46 فرض الله الجهاد والنفوس تكرهه لما فيه من المشقة وهو خير 1/ 248 2- الأمر بالجهاد لمكانته: الأمر بالقتال حتى لا تكون فتنة 2/ 352 الأمر بإعداد القوة من الرمي ومن رباط الخيل لإرهاب الأعداء 2/ 366- 368 الأمر للرسول صلّى الله عليه وسلم بتحريض المؤمنين على القتال 2/ 369- 371 عشرون صابرون من المؤمنين يغلبون مائتين 2/ 369- 371 الأمر بالنفير 2/ 414- 415 معنى خفافا وثقالا 2/ 414- 415 الأمر بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس 2/ 414- 415 الأمر بالثبات مع ذكر الله، وعدم التنازع لأنه يؤدي إلى الفشل والهزيمة 2/ 359- 361 إباحة القتال لرد العدوان والظلم 3/ 542- 543 إن الله يدافع عن المظلومين وينصرهم 3/ 542- 543 لولا ما شرعه الله من قتال الأعداء لعلوا في الأرض 3/ 542- 543 مشروعية القتال للحفاظ على أماكن العبادة 3/ 542- 543 الأمر للمؤمنين بالجهاد في سبيل الله 1/ 561- 562 النفير الجزئي وبقاء طائفة للعلم والتفقه في الدين 2/ 473- 474 3- حكم القتال في الأشهر الحرم وعند الحرم: أسماء الأشهر الحرم سبب تسميتها بالحرم 2/ 409- 411 تعيينها الامتناع عن قتال المشركين فيها 2/ 384- 386 القتال فيها منسوخ أم محكم؟

4 - جهاد الكفار:

عدد الشهور وأسماؤها وترتيبها من الله تعالى 2/ 409- 410 حكم القتال في الأشهر الحرم 1/ 249- 250- 251 حكم القتال عند الحرم 1/ 220 4- جهاد الكفار: الأمر بقتالهم والمبالغة في قتلهم وأسرهم 2/ 37- 40 الترغيب في قتال الكفار 2/ 412- 413 الترهيب من ترك القتال والوعيد واستبدال قوم آخرين 2/ 412- 413 الأمر بقتال الكفار واستثناء من له عهد أو ميثاق 1/ 572 مَنْ جَاهَدَ الْكُفَّارَ وَجَاهَدَ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الطاعات فإنما يجاهد لنفسه 4/ 223 من فضائل الجهاد: قتل الكفار والاستشهاد والاستبشار بالجنة 2/ 463- 464 أولو الضرر هم أهل الأعذار 1/ 581- 582 5- الإنفاق للجهاد: الحض على الإنفاق 1/ 300- 302 الإنفاق في سبيل الله ويكون واجبا أو مندوبا 1/ 310 نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف 1/ 326 6- غزوة بدر: إخراج الله لرسوله بالحق 2/ 328- 329 بعض الصحابة كرهوا الخروج للحرب ورغبوا في العير 2/ 329- 330 تذكير المهاجرين بأنهم كانوا ضعافا في مكة فأيدهم ونصرهم ببدر 2/ 344- 345 يوم الفرقان 2/ 355- 357 المشركون في العدوة القصوى وأنتم في العدوة الدنيا 2/ 355- 357 العير (ركب أبي سفيان) أسفل منكم 2/ 355- 357 أرى الله رسوله في منامه أن المشركين قلّة 2/ 358- 359 من نعم الله أنه قلل المشركين في أعين المسلمين، وقلّل المسلمين في أعين المشركين 2/ 358- 359 قتلى الكفار يوم بدر ضربتهم الملائكة على وجوههم وأدبارهم 2/ 364 تمثل الشيطان للكفار يوم بدر وقوله لهم إني مجير لَكُمْ، فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وتبرأ، المنافقون يقولون عن المؤمنين غرهم دينهم 2/ 360- 362

7 - غزوة أحد:

تحريم الفرار من الزحف 2/ 335- 336 تهكم الله بالكفار بعد أن طلبوا أن ينصر الله إحدى الطائفتين 2/ 339- 340 رمي الرسول صلّى الله عليه وسلم جيش الكفار بقبضة من حصباء 2/ 336- 338 معنى وما رميت إذ رميت 2/ 336- 337 من نعم الله على أهل بدر غشيهم النعاس أمنة من الله، وأنزل الله عليهم المطر ليطهرهم ويثبت به الأقدام، وأمر الله الملائكة بتثبيتهم، وألقى الرعب في قلوب الكفار 2/ 332- 334 عدد المشركين ألف 2/ 330- 331 استغاثة المسلمين بالله، وإمدادهم بالملائكة 2/ 330- 331 7- غزوة أحد: خُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أحد 1/ 432 سيماء الملائكة في أحد 1/ 435 عقاب المسلمين لأخذهم الفداء يوم بدر 1/ 455- 456 انخذال المنافقين وعودتهم 1/ 456 مصيبة المسلمين في أحد 1/ 454- 455 موقف المنافقين 1/ 454- 455 إصابة رسول الله يوم أحد 1/ 441 إشاعة مقتله 1/ 441 كان يوم أحد بيوم بدر 1/ 444 الأيام دول 1/ 444 عزّاهم الله وسلّاهم 1/ 440 ترك الوهن والحزن 1/ 440 شهداء أحد 1/ 440 رجوع عبد الله بن أبي بالمنافقين 1/ 433 ثبت الله قلوب المؤمنين 1/ 433 8- غزوة الأحزاب: مجيء جنود الأحزاب 4/ 304- 305 إرسال الريح عليهم وإرسال الملائكة 4/ 304- 305

9 - صلح الحديبية:

مجيئهم من أعلى الوادي ومن أسفله 4/ 304- 305 زاغت أبصار بعض المسلمين وبلغت القلوب الحناجر من الخوف وظنوا الظنون المختلفة من النصر والهزيمة 4/ 304- 305 اختبار المؤمنين بالخوف فاضطربوا 4/ 306 المنافقون أهل الشك والريب قالوا: ما وعدنا الله والرسول من النصر والظفر إلا باطلا 4/ 306 طائفة من المنافقين دعت إلى ترك الإقامة في المعسكر والرجوع إلى البيوت 4/ 306 استئذان المنافقون لحماية بيوتهم ليس إلا فرارا 4/ 307- 308 لو دخل عليهم من جميع الجهات ثم سئلوا الشرك والكفر لأتوه مسرعين من غير تردد 4/ 307- 308 نقضهم للعهد في الثبات وعدم الفرار 4/ 307- 308 الفرار لا يفيد، ولا عاصم من أمر الله 4/ 307- 308 المؤمنون عند ما رأوا الأحزاب ازدادوا إيمانا وتصديقا بوعد الله ورسوله في النصر 4/ 312- 313 منهم من استشهد ومنهم من ينتظر وما بدلوا وما غيروا 4/ 312- 313 رد الله الكفار بغيظهم لم ينالوا من المسلمين شيئا 4/ 314 أرسل عليهم ريحا وكفى المؤمنين القتال 4/ 314 أنزل الله يهود بني قريظة من حصونهم وألقى في قلوبهم الرعب والخوف 4/ 315- 316 أورث الله المسلمين ديار يهود بني قريظة 4/ 315- 316 تقتلون الرجال المقاتلين وتأسرون النساء والذرية 4/ 315- 316 9- صلح الحديبية: صلح الحديبية والصلح قد يسمّى فتحا 5/ 53- 55 نصر الله لرسوله وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين 5/ 53- 55 10- بيعة الرضوان: سبب تسميتها 5/ 60- 62 أنزل الله الطمأنينة في قلوبهم وأثابهم فتح خيبر ومغانم كثيرة يأخذونها 5/ 60- 62 انتصار المسلمين 2/ 397- 398

12 - غزوة تبوك:

12- غزوة تبوك: عتاب الرسول صلّى الله عليه وسلم على إذنه للقعود عن الجهاد 2/ 417- 418 نهي المؤمنين عن الاستئذان في القعود 2/ 417- 418 تخلف المنافقين عن رسول الله بسبب بعد المسافة وكثرة العدو 2/ 414- 415 الدعوة إلى النفير والجهاد بالمال والنفس كان في غزوة تبوك بسبب تثاقلهم 2/ 415- 416 تثاقل المجاهدين، والترغيب في النفير خفافا وثقالا 2/ 415- 416 لو كان المنافقون صادقين في الرغبة في الجهاد لأعدوا له عدته 2/ 418- 419 كره الله خروجهم فأقعدهم 2/ 418- 419 تسلية الرسول والمؤمنين عن تخلف المنافقين 2/ 418- 419 سعي المنافقين بالفتنة بين المؤمنين 2/ 419- 420 تدبير الحيل للقعود، وسقوطهم في الفتنة وهي التخلف عن الجهاد 2/ 419- 420 المنافقون ينفقون أموالهم طوعا أو كرها ولا أجر لهم بسبب كفرهم 2/ 421- 423 حلفهم الكاذب، وخبث ضمائرهم، وتربصهم بالمؤمنين 2/ 421- 423 الرد عليهم: بأن ما يصيبهم إلا ما كتب الله لهم 2/ 421 المؤمنون يصيبهم إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة 2/ 421 اعتذار المنافقين بشدة الحر استهزاء وسخرية 2/ 442 فضح مواقف المنافقين 2/ 423 المعذرون هم الذين اعتذروا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخروج إلى تبوك بأعذار كاذبة 2/ 445- 446 أصحاب الأعذار الذين لم يجد الرسول ما يحملهم عليه فخرجوا من عنده يبكون 2/ 447- 448 ذكر أهل الأعذار الصحيحة، وهم الضعفاء والمرضى والفقراء، وهي أعذار مسقطة للجهاد 2/ 446- 447 توبة كعب بن مالك والمتخلفين معه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع 2/ 470- 471 13- الغنائم: حكم الغنيمة وكيف تقسم 2/ 353- 354 معنى الأنفال 2/ 323- 325 الأنفال ثابتة لرسول الله 2/ 323- 325 و 328

14 - السلم بعد القتال:

امْضِ لِأَمْرِكَ فِي الْغَنَائِمِ وَنَفِّلْ مَنْ شِئْتَ 2/ 328 كيفية قسمة خمس الغنيمة 2/ 354- 356- 357 المؤمنون يطيعون الله ورسوله في قسمة الغنائم 2/ 326 14- السلم بعد القتال: الجنوح للسلم وقبول الجزية إذا كان المسلمون في عزة وقوة 2/ 368 من نعم الله على المسلمين التأليف بين قلوبهم وتثبيتهم حتى ينتصروا على أعدائهم 2/ 369 حكم الأسرى 2/ 371- 373 المن والفداء بعد الإثخان 2/ 372- 374 الأمر للرسول أن يقول للأسرى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خيرا 2/ 375 المن أو الفداء للأسرى حتى تنتهي الحرب مع الكفار 5/ 37- 40 الجزية مقدارها وقبول الجزية من أهل الكتاب 2/ 400- 401 15- الفيء: المال الذي لَمْ تَرْكَبُوا لِتَحْصِيلِهِ خَيْلًا وَلَا إِبِلًا وَلَا لقيتم حربا ولا مشقة 5/ 235- 238 تقسيم الفيء عند الشافعي 5/ 235- 238 16- الشهداء: شهداء أحد 1/ 459 فضل الشهداء 1/ 457 و 460 قتل الشهداء في سبيل الله 5/ 38 الشهداء يهديهم الله إِلَى الرُّشْدِ فِي الدُّنْيَا وَيُعْطِيهِمُ الثَّوَابَ فِي الآخرة ويدخلهم الجنة 5/ 38

الأحوال الشخصية

الأحوال الشخصية 1- النكاح. 2- الإنفاق. 3- الرضاع. 4- الطلاق. 5- العدة. 6- الظهار. 7- الإيلاء. 8- الوصية. 9- الفرائض والميراث. 10- العضل.

1 - النكاح:

1- النكاح: المعاشرة بالمعروف 1/ 109- 510 تحريم ما زاد على الأربع 1/ 483 الصّداق واجب على الأزواج للنساء 1/ 485 ما فرض الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي حَقِّ أَزْوَاجِهِمْ مِنْ شَرَائِطِ وحقوق 4/ 336 كله حق مفروض 4/ 636 حُكْمَ الزَّوْجَةِ إِذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ 4/ 333- 334 ليس للرجل عليها من عدة 4/ 333- 334 المتوفى عنها زوجها قبل الدخول تعتد أربعة أشهر وعشرا 4/ 333- 334 معنى النشوز والإعراض 1/ 601 نفي استطاعة العدل 1/ 601- 602 ما يفعله الزوج عند خوف النشوز 1/ 532 الترغيب في النكاح 4/ 33- 34 ما يحل من النكاح 4/ 33- 34 حكم النكاح مباح أو مستحب أو واجب 4/ 33- 34 الزواج سبب لنفي الفقر 4/ 33- 34 إرشاد العاجزين عن النكاح حتى يغنيهم الله 4/ 33- 34 تحليل الصداق للزوج أو للولي إن منحته المرأة عن طيب نفس ورضا 1/ 485 التحكيم بين الزوجين عند خوف الشّقاق 1/ 534- 535 تحريم الجمع بين الأختين 1/ 514- 515 حكم الجمع بين الأختين بملك اليمين 1/ 514- 515 تحريم نكاح زوجة الأب 1/ 509- 510 تحريم المحصنات 1/ 516 المحرمات من النسب والرضاع والصهر 1/ 511- 513 تحريم نكاح المشركات 1/ 257- 258 حكم نكاح الكتابيات 1/ 257- 258 حكم نكاح المتعة 1/ 518 حكم تحريم نكاح المتعة 1/ 524 الْمَنْعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِمَنْ خَافَ عدم العدل بين الزوجات 1/ 483- 484

2 - الإنفاق:

شرطا الزواج من الأمة المسلمة، وحكم الكتابية 1/ 518- 519 الأمر بنكاح المحصنات المؤمنات 2/ 19 المحصنات من الذين أوتوا الكتاب 2/ 19 إباحة الوطء في القبل 1/ 260- 261 إتيان الزوجة في دبرها حرام 1/ 263 حكم وطء الزنا هل يقتضي التحريم 1/ 514 تحريم اللواط 1/ 514 2- الإنفاق: معناه وقدره 1/ 42 الإنفاق في الخير قبل مجيء الموت حيث لا رجعة ولا تأخير 5/ 278- 279 الأمر بالإنفاق وترك البخل 5/ 285- 286 الفائزون هم البعيدون عن الشح 5/ 285- 286 المنفق يقرض الله فيضاعف له أضعافا مضاعفة 5/ 285- 286 من أدب الإنفاق التوسط بين الإمساك والتوسعة 3/ 266 عاقبة التوسع في الإنفاق 3/ 266 الأمر بالإنفاق من مال الله، ولا عذر لمن ترك الإنفاق، ولا يستوي من أنفق قبل فتح مكة ومن أنفق بعد ذلك 5/ 200- 203 الذي ينفق في سبيل الله كالمقرض لله تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها 5/ 200- 203 المتصدقون والمتصدقات والذين أقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه الله لهم ولهم الجنة 5/ 207- 208 النفقة والسكنى واجبة على الزوج للمرأة المعتدة ضمن السعة والطاقة 5/ 292- 293 النفقة على المرأة الحامل حتى تلد، وعلى الزوج نفقة الإرضاع 5/ 292- 293 النهي عن المضارّة في النفقة والسكنى 5/ 292- 293 3- الرضاع: الاتفاق بين الأبوين على فصال الرضيع 1/ 283 جواز الاسترضاع للطفل من غير أمه وتسليم الأجرة للمرضعة بالمعروف 1/ 283- 284 مدته وتمامه 1/ 281- 282 وجوب الرضاع على الأم 1/ 281- 282

4 - الطلاق:

وجوب النفقة على الأب والوارث 1/ 281- 282 الحمل والرضاع ثلاثون شهرا، وأقل الحمل ستة أشهر، ومدة الرضاع سنتان 5/ 22- 24 4- الطلاق: الخلوة توجب العدة والمهر 1/ 293 مقدار المتعة 1/ 292 الطلاق في طهر لم يقع فيه جماع 5/ 277- 288 حفظ وقت العدة (ثلاثة قروء) 5/ 277- 288 النهي من إخراجهن من بيوتهن وقت العدة إن لم يأتين بفاحشة مبينة 5/ 277- 288 النهي عن الإمساك بعد انقضاء العدة للإضرار 1/ 279 حكم طلاق الهازل 1/ 278 الطلاق الرجعي 1/ 273 هل يقع الطلاق ثلاثا؟ 1/ 273 حكم الخلع 1/ 274 تتربّص المطلقة بعد الدخول وغير الحامل ثلاثة قروء 1/ 269 عدّة المختلعة 1/ 277 بعد انقضاء العدة إمساك بمعروف أو مفارقة بإحسان 5/ 288- 292 حكم المطلقة طلقة ثالثة لا تحل لزوجها الأول إلا إذا تزوجت بآخر 1/ 275 الزواج المحلل لا بد أن يكون شرعيا، فيه عقد ووطء 1/ 275 حكم المطلقة المفروض لها غير المدخول بها تستحق نصف المسمى 1/ 289 المطلقة قبل الدخول وفرض المهر لا تستحق إلا المتعة 1/ 290 المتعة الواجبة للمطلقة قبل البناء وفرض المهر 1/ 298 المتعة غير الواجبة لسائر المطلقات 1/ 298 5- العدة: عدة المتوفى عنها زوجها 1/ 284- 285 حكمة مقدارها 1/ 284- 285 وجوب الإحداد على المعتدة عدة الوفاة 1/ 285- 286 معنى الإحداد 1/ 285- 286

6 - الظهار:

اليائسات من المحيض لكبر في السن عدتهن ثلاثة أشهر 5/ 289- 292 المتوفى عنها زوجها عدتها أربعة أشهر وعشرا 5/ 289- 292 المرأة الحامل عدتها حتى تلد 5/ 289- 292 جواز التعرض للمعتدة بالخطبة كناية لا تصريحا 1/ 287- 288 النهي عن العقد حتى تنقضي العدة 1/ 287- 288 أمثلة عن الكناية بالخطبة للمعتدة 1/ 288 6- الظهار: معنى الظهار 5/ 218- 221 إلغاء عادة الظهار كما كان في الجاهلية وإيجاد حكم للظهار في الإسلام، وعود المظاهر كفارته 5/ 218- 221 لَا تَكُونُ امْرَأَةُ الْمُظَاهِرِ أُمَّهُ حَتَّى يَكُونَ له أمّان، كما لا يكون له قلبان 4/ 300- 301 الظهار قول بالفم ولا تأثير له 4/ 300- 301 7- الإيلاء: معناه، وتوقيته بأربعة أشهر دفعا للضرار على الزوجة 1/ 267- 269 الإيلاء في الجاهلية 1/ 268- 269 الفيء عند الإيلاء بالجماع، وعليه كفارة 1/ 268- 269 8- الوصية: الوصايا التي جمعت خير الدنيا والآخرة 1/ 475 حكمها 1/ 204- 206 وجوبها عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ 1/ 204- 206 الوصية بالثلث، ومن الذي يوصي؟ وما المبلغ الذي يتركه حتى يوصي؟ 1/ 204- 206 مقدارها الثلث 1/ 503 كتابتها والإشهاد عليها في السفر 2/ 98- 100 كتابتها والإشهاد عليها من غير المسلمين في السفر 2/ 101- 103 الخطأ في الوصية 1/ 206 9- الفرائض والميراث: تعلم علم الفرائض 5/ 503

10 - العضل:

أولو الأرحام والقرابات بعضهم أولى ببعض في الميراث 4/ 302 الكلالة ومعناها 1/ 499- 500 إرث الأبوين 1/ 498 الحكمة في تقديم الوصية على الدّين في الآية 1/ 498 المسألة الحمارية 1/ 501 النهي عن الإضرار في الوصية والدّين 1/ 501 الإضرار في الوصية من الكبائر 1/ 502 النهي عن إرث النساء كرها كما تفعل الجاهلية 1/ 508 ميراث العصبة وميراث الموالي 1/ 530- 531 الحكمة من تفضيل الرجل على المرأة في الميراث 1/ 530- 531- 532 إرث الإخوة لأم 1/ 500- 501 الاستفتاء عن الكلالة 1/ 626 الفتوى عليها من الله 1/ 627 إرث الجد والجدّة 1/ 498 أهمية علم الفرائض 1/ 496 إرث الأولاد ذكورا وإناثا 1/ 496- 497 أحكام الميراث 1/ 493 إفراد النساء لإلغاء حكم الجاهلية في حرمانهن 1/ 493 إرث الزوج والزوجة 1/ 499 الرّضخ من التركة للقرابة ممن لا يرث 1/ 495 10- العضل: إبطال عضل المرأة عن الزواج 1/ 507 نفي الظلم عن النساء 1/ 509 تحريم العضل من الأزواج والأولياء 1/ 279

العلم

العلم 1- علم الله وشموله. 2- العلم القرآني. 3- قيمة العلم. 4- العلم والعلماء.

1 - علم الله وشموله:

1- علم الله وشموله: أحاط علم الله بجميع المعلومات 4/ 600 علمه بالسر والجهر 5/ 312 علمه الشامل بالإنسان الذي خلقه وصوره 5/ 312 علم وقت الساعة 4/ 597 علم ما تخرج أوعية النباتات من ثمار 4/ 597 ما تحمل من أنثى ولا تضع حملها إلا بعلم الله 4/ 597 شهادة الله على الإنسان بما يعمل وعلمه الشامل بذلك 2/ 518- 519 لا يغيب عن علم الله مثقال ذرة 2/ 518- 519 علم الله بالسر والعلن وبما تخفيه الصدور 2/ 547 علم الله بما يكون من حمل ووضع، وما يطول عمر أحد ولا ينقص إلا في اللوح المحفوظ 4/ 392 علم الله تعالى في خلق آدم 1/ 75 يعلم ما يدخل فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ من السماء 4/ 358 علم الله بما في البر والبحر 2/ 140- 141 ما تسقط من ورقة إلا يعلمها 2/ 140- 141 ولا تسقط حبة ولا رطب ولا يابس إلا بعلمه 2/ 140- 141 مدى سعة علم الله وشموله بالنسبة لعلم البشر 4/ 279- 280 لو كانت الأشجار كلها أقلاما لكلمات الله والبحار مدادا لنفدت كلها دون أن تنفد كلمات الله 4/ 279- 280 علمه تعالى محيط بما في السموات والأرض لا يخفى عليه شيء 5/ 223 يعلم ما يسر ويجهر به الناس قلوا أو كثروا 5/ 223 يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وما تزداد 3/ 82- 83 عالم الغيب والشهادة 3/ 82- 83 يعلم ما يسر الإنسان وما يجهر به 3/ 82- 83 يعلم من هو مستتر بالليل وذاهب بالنهار 3/ 82- 83 علم الله بمن حاد عن الحق، وأعرض عنه، وبمن اهتدى، فقبل الحق، وأقبل عليه، وعمل به 5/ 135 استئثار الله تعالى بعلم الغيب 5/ 372- 375

2 - العلم القرآني:

أعلم الله رسوله من الغيب ما أوحى إليه به 5/ 376 يعلم ما تخفيه الصدور ويعلم ما في السموات والأرض 4/ 173 عالم الغيب ويعلم مضمرات الصدور 4/ 407 2- العلم القرآني: تعليم أحكام القرآن 1/ 15 معرفة المكي والمدني 1/ 15 فضل التفسير 1/ 16 3- قيمة العلم: تعليم الخط، وتعليم الإنسان ما لم يعلم 5/ 570- 573 النهي عن اتباع ما لا تعلم 3/ 271- 272 سؤال الإنسان عن سمعه وبصره وفؤاده 3/ 271- 272 الباعث لمن علم أن يعمل 1/ 407 أعظم العمل بالعلم تعليمه 1/ 407 4- العلم والعلماء: العلماء يخشون الله 4/ 399- 403 رفع مكانة العلماء في الدنيا والآخرة دَرَجَاتٍ عَالِيَةٍ فِي الْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ في الآخرة 5/ 226- 228 العلماء الذين لا يعملون بعلمهم 1/ 92 يقول العلماء يوم القيامة: إنّ الخزي والسوء على الكافرين 3/ 192- 193

الحدود

الحدود 1- حدود الله. 2- القتل العمد وشبه العمد. 3- حد القتل الخطأ. 4- حد الزنا. 5- العفو. 6- إقامة الحدود. 7- القضاء ودوره في إقامة الحدود.

1 - حدود الله:

1- حدود الله: المحافظة على حدود الله وعدم تجاوزها بالتهاون والمخالفة 5/ 288 حدود الله ومحارمه 1/ 215 2- القتل العمد وشبه العمد: حكم القتل عمدا 1/ 575 معنى العمد 1/ 575 القتل شبه العمد ثابت في السنة 1/ 575- 576 هل للقاتل العمد من توبة؟ 3/ 82- 83 شروط توبة القاتل المتعمد 3/ 82- 83 حكم مَنْ قَتَلَ كَافِرًا بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إله إلا الله 1/ 579 3- حدّ القتل الخطأ: المؤمن لا يقتل مؤمنا إلا خطأ 1/ 574 القتل الخطأ هو عدم القصد 1/ 574 كفارة القتل الخطأ 1/ 574- 578 4- حد الزنا: عقوبة الزنا 1/ 504 حكم الزوجة إذا زنت 1/ 507 إيذاء الزناة منسوخ بالجلد 1/ 506 جواز مخالعة الزوجة إذا لم تأت بفاحشة 1/ 508 5- العفو: الترغيب في العفو 2/ 40 العفو عن الجاني، وطريقة أخذ الدية 1/ 202 العفو عن الدية أو بعضها 1/ 202 حكم قتل القاتل بعد أخذ الدية 1/ 202 6- إقامة الحدود: تَهْوِيلُ أَمْرِ الْقَتْلِ وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ فِي النُّفُوسِ 2/ 40

7 - القضاء ودوره في إقامة الحدود:

النفس بالنفس، والعين بالعين، والجروح قصاص 2/ 53 المماثلة في العقوبة 3/ 245- 246 الصبر وترك العقوبة خير 3/ 245- 246 السّارق يأخذ المال خفية 2/ 46- 47 قطع يد السارق من الرسغ 2/ 46- 47 شروط إقامة حد السرقة 2/ 46- 47 القطع لا يسقط بالتوبة 2/ 46- 47 كيفية القصاص في العين والأنف والسن 2/ 54 كيفية القصاص في الجروح 2/ 54 في القصاص حياة لما فيه من الردع عن القتل 1/ 203 سفك الدماء فساد في الأرض 2/ 39 حكم القتل عدوانا وظلما 2/ 39 عقوبة المحاربين 2/ 42- 43 من يستحق اسم المحاربة 2/ 41- 42 حكم المحاربين من أهل الإسلام 2/ 40- 41 معنى المحاربة والفساد في الأرض 2/ 40- 41 7- القضاء ودوره في إقامة الحدود: السلطان ولي من حارب 2/ 43 إذا رفعت الحدود إلى الحاكم وجبت وامتنع إسقاطها 2/ 47 الحر يقتل بالحر 1/ 202- 203 العبد بالعبد، وحكم قتل المسلم بالكافر، وحكم قتل الذكر بالأنثى 1/ 202- 203 كل حرمة يجرى فيها القصاص 1/ 221 أمور القصاص مقصورة على الحكام 1/ 221 تحكيم القضاة 1/ 558 شروط القاضي 1/ 559

المعاملات

المعاملات 1- العقود. 2- البيع. 3- القرض. 4- الدّين. 5- الرهن. 6- الشهادة. 7- اليتامى واليتيم.

1 - العقود:

1- العقود: معنى العقود 2/ 6 الوفاء بالعقود 2/ 6 2- البيع: اشتراط التراضي 1/ 526- 527 العدل في الكيل والميزان 2/ 202 3- القرض: معناه اللغوي والشرعي 1/ 300 4- الدّين: معناه 1/ 344 حكم الأمر بكتابته 1/ 344 5- الرهن: الرهن في السفر 1/ 348 من شروطه الإيجاب والقبول والقبض 1/ 350 6- الشهادة: أداؤها بالقسط ولو على النفس والأقربين 1/ 604 الوعيد لمن لم يأت بالشهادة كما يجب 1/ 604 إقامة الشهادة وأداؤها بالحق والصدق وخالصة لله 5/ 288- 289 حكم الشهادة في الدين والبيع واجبة وقيل مندوبة 1/ 345 الشهداء ممن ترضون المرأتان في الشهادة برجل 1/ 346 لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ إِلَّا مَعَ الرَّجُلِ إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن 1/ 346 7- اليتامى واليتم: الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى 1/ 488- 489 تحريم أكل أموال اليتامى 1/ 254- 255 جواز مخالطة اليتامى 1/ 256

تحريم القرب من مالهم إلا بالتي هي أحسن 2/ 202 دفع أموالهم إذا بلغوا سن الرشد 2/ 202 حكم غلبة الظن في التقصير في العدل لليتيمة إن تزوجها 1/ 482 ما هو الأكل بالمعروف من مال اليتيم؟ 1/ 491 الأمر بالإشهاد عند تسليمهم أموالهم 1/ 492 القيام لهم بالقسط نكاح يتامى النساء 1/ 600 وعظ أوصياء اليتامى أن يفعلوا معهم كما يحبون أن يفعلوا بأولادهم 1/ 493 إعطاء اليتامى أموالهم النهي عن صنع الجاهلية في أموال اليتامى 1/ 481

الحلال والحرام من الأطعمة والأيمان

الحلال والحرام من الأطعمة والأيمان 1- الحلال والحرام من الأطعمة. 2- الصيد. 3- الذبائح. 4- المحرمات. 5- الأنعام. 6- الأيمان.

1 - الحلال والحرام من الأطعمة:

1- الحلال والحرام من الأطعمة: الحلال مِنَ الْمَطَاعِمِ إِجْمَالًا وَمِنَ الصَّيْدِ وَمِنْ طَعَامِ أهل الكتاب ومن نسائهم 2/ 16 الذي يريد بأعماله ومكسبه ثواب الآخرة فإن الله يضاعف له 4/ 611 الذي يريد بأعماله وكسبه ثواب الدنيا ومتاعها يؤتيه الله منها ما قسم له وليس له نصيب من الآخرة 4/ 611 لا يستوي الخبيث والطيب 2/ 92 الكفار يحللون ويحرمون بمجرد الهوى والتشهي، والله لم يأذن لهم بذلك فالله هو المحلل وهو المحرم 2/ 517- 520 تحريم الفواحش والبغي بغير الحق 2/ 229 القول على الله من التحليل والتحريم ما لم ينزل به سلطانا 2/ 229 الأكل والشرب من غير إسراف 2/ 228 النهي عن تحريم الطيبات، والنهي عن التبتل ولبس الصوف مع توفر القطن 2/ 80 حكم أكل الميتة 1/ 195 2- الصيد: تحريم صيد البر حالة الإحرام 2/ 90 صيد البحر وطعامه حلال لكل مسلم وللمحرمين بالحج والعمرة 2/ 89- 90 كفارة الصائد عمدا أو خطأ أو ناسيا 2/ 91 الصيد بالكلاب المعلمة والطيور 2/ 16- 17 الابتداء بتحريم الصيد مع الإحرام وفي الحرم 2/ 88 كفّارة قتل الصيد 2/ 88- 89 حلّ صيد البحر وميتته 1/ 195 3- الذبائح: ترك التسمية نسيانا أو عمدا 2/ 179- 180 الأكل ممّا ذكر اسم الله عليه 2/ 178 تفصيل المحرمات، واستثناء حالة الاضطرار 2/ 178 ضلال الكفار في تحريم بعض الأنعام 2/ 178 الإنكار على المشركين في الجاهلية تحريم بعضها وتحليل بعضها، وكل ما حرموه حلال 2/ 195- 196

4 - المحرمات:

بيان تناقضهم في التحريم والتحليل 2/ 195- 196 تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه 2/ 179 حكم ما أهلّ به لغير الله 1/ 196 المحرمات من الأنعام في القرآن والسنة 2/ 196 إلغاء ما كان عليه أهل الجاهلية 2/ 196 تحريم بعض الأنعام، تحريم ظهورها، تحريم ما في بطونها 2/ 190- 191 4- المحرمات: حكم الاضطرار إلى أكل المحرمات 1/ 196- 197 معنى الباغي والعادي 1/ 196- 197 المحرمات في كتاب الله من المطاعم 2/ 11- 12- 13 حكم المضطر 2/ 14 و 3/ 241- 242 الميتة والدم ولحم الخنزير 3/ 241- 242 الله هو المحلل والمحرم 3/ 241- 242 عدم قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن 2/ 202 حرم الله الإشراك بالله وقتل الأولاد والزنا والقتل 2/ 201 تحريم لحم الخنزير وتحريم شحمه 1/ 196 5- الأنعام: الامتنان على العباد بخلق الأنعام 2/ 195- 196 أحلّها الله، وحرم ما ذكر في سورة المائدة 3/ 536 إذا سقطت الإبل بعد الذبح على جنوبها فكلوا منها وأطعموا السائل والفقير والقانع الذي لا يسأل 3/ 537- 539 سخرها الله لتشكروه، وينال الله منها التقوى والإخلاص 3/ 537- 539 الإبل جعلها الله من مناسك الحج وجعل فيها منافع دنيوية ودينية ذكر الله عليها وهي للنحر لأنها تذبح قائمة معقولة قد صفت قوائمها 3/ 537- 538 منافع الأنعام قبل النحر 3/ 537- 538 نحرها عند البيت وما يليق بالحرم 3/ 537- 538 لكل أمة عبادة وطاعة في ذبح القرابين، ليذكروا الله وحده ويجعلوا نسلها خالصا له 3/ 537- 538

6 - الأيمان:

6- الأيمان: النهي عن نقض الأيمان 3/ 229- 232 تشبيه من ينقض أيمانه بالتي تنقض غزلها 3/ 229- 232 النهي عن اتخاذ الأيمان للمكر والخديعة 3/ 229- 232 اليمين المنعقدة 2/ 82 اليمين الغموس 2/ 82 كفارة اليمين المنعقدة 2/ 82- 83- 84 النهي عن جعل الحلف سببا في الامتناع عن فعل الخير 1/ 263 النهي عن كثرة الحلف 1/ 265 اليمين اللغو 1/ 264- 265 أيمان اللغو لا مؤاخذة عليها 2/ 81 الحلف برب الكعبة 1/ 61

المؤمنون

المؤمنون 1- المؤمن. 2- المؤمنون. 3- الأبرار. 4- الرّبانيون. 5- المفلحون. 6- أولياء الله. 7- المتقون. 8- عباد الرحمن. 9- المسلمون. 10- الأمة. 11- الصفات العامة للمؤمنين: آ- الاستقامة. ب- الإسلام. ج- العدل. د- الطاعة. هـ- التوبة. والشفاعة. 12- الهجرة والمهاجرون.

1 - المؤمن:

1- المؤمن: المؤمن عمله طيب، كالبلد الطيب، ثمرها طيب 2/ 245- 246 المؤمن أفلح وتطهر وحافظ على الصلوات الخمس 5/ 516- 518- 519 المؤمن يصبر على الأذية في الله 4/ 224 المؤمن يعطى كتابه بيمينه، وينقلب إلى أهله وعشيرته مسرورا 5/ 493- 496 المؤمن يعطى كتابه بيمينه، ويتفاخر بكتابه وبإيمانه ويقينه 5/ 339- 340 نتيجة المؤمن الجنة والحياة المرضية الخالدة 5/ 339- 340 2- المؤمنون: أمرهم بوقاية أنفسهم وأهليهم وأولادهم من النار 5/ 302- 303 أمرهم بالتوبة النصوح التي لا عودة بعدها إلى الذنب 5/ 302- 303 أمرهم بالطاعة لله ورسوله وعدم التولي 2/ 340- 341 أن لا يكونوا كالكفار الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون 2/ 340- 341 اتقوا الكفر والمعاصي 4/ 663- 664 في مقام أمين لا يخافون 4/ 663- 664 في جنات وعيون، يلبسون من حرير رقيق وغليظ 4/ 663- 664 يتقابلون فيها، ينظر بعضهم إلى بعضهم 4/ 663- 664 تزويجهم بالحور العين 4/ 663- 664 أمرهم بالتجاوز عمن لَا يَرْجُونَ وَقَائِعَ اللَّهِ بِأَعْدَائِهِ، أَيْ: لَا يخافونها 5/ 7- 8 أمرهم بالتقوى وتجديد الإيمان بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 5/ 214 يعطيهم بسبب إيمانهم نصيبين من رحمته ويجعل لهم نورا ومغفرة 5/ 214 أمرهم بالتقوى، وتنبيههم إلى قرب الساعة، حتى يقدموا لأنفسهم الأعمال الصالحة، وأن لا يتركوا أمر الله، وأن لا ينسوا أحكامه 5/ 244- 245 نهيهم عن موالاة الكفار بأي وجه من الوجوه 5/ 250- 251- 252 كتابة حاطب بن أبي بلتعة للمشركين بخروج النبي صلّى الله عليه وسلم إلى مكة 5/ 250- 252 أمرهم بالصلاة، والإنفاق سرا وعلانية قبل يوم القيامة، حيث لا بيع ولا خلال 3/ 131- 132 أمرهم بالاستمرار على الإيمان والتوحيد، والإنفاق من مال الله الذي جعلهم خلفاءه فيه، ولهم أجر كبير 5/ 200- 201 أمرهم بالاستجابة لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم 2/ 341- 342

من صفاتهم:

اتقاء الفتنة التي قد تصيب الصالح والطالح 2/ 341- 342 أمرهم بالجهاد والصلاة وفعل الخيرات والتقوى 3/ 558 أمرهم بالتقوى والقول الحق الصادق فإن هم فعلوا أصلح الله لهم أعمالهم وغفر لهم ذنوبهم 4/ 353 عدم قطع أمر دون الله ورسوله وترك التعجل به 5/ 69- 72 عدم رفع الصوت عند رسول الله لأنه يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام 5/ 69- 72 تحذيرهم من فتنة الأزواج والأولاد والأموال 5/ 284- 285 إرشادهم إلى العفو والصلح 5/ 284- 285 دعوتهم إلى السمع والطاعة والإنفاق في سبيل الله 5/ 284- 285 نهيهم عن الاستهزاء والسخرية واللمز، وهو عيب بعضهم لبعض 5/ 75- 76 و 77- 78 نهيهم عن أن يلقب بعضهم بعضا، لأن في ذلك خروج عن طاعة الله وعن الإيمان 5/ 75- 76 و 77- 78 النهي عن مجرد التهمة بالظن الآثم التي لا سبب لها 5/ 75- 76 و 77- 78 نهي المؤمنين عن الانشغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله 5/ 278- 279 ألم يحن لهم أن ترق قلوبهم وتخشع لذكر الله وما نزل من القرآن 5/ 206- 207 نهيهم عن أن يسلكوا سبيل اليهود والنصارى، طال عليهم الأمد بينهم وبين أنبيائهم، فحرفوا، وبدلوا، فقست قلوبهم 5/ 206- 207 إن الله يدافع عنهم ويدفع غوائل المشركين 3/ 542 زادتهم آيات القرآن إيمانا وهدى 2/ 475 المفلحون فائزون عند الله في الدنيا والآخرة، يخضعون لحكم الله بألسنتهم وأفعالهم 4/ 53- 54 هم المفلحون الفائزون عند الله في الدنيا والآخرة 4/ 53- 54 من صفاتهم: 1- الخوف والخشية من الله 3/ 580- 581 2- التصديق بدلائل مخلوقات الله الكونية 3/ 580- 581 3- ترك الشرك 3/ 580- 581 4- يعطوك وهم خائفون من عدم القبول 3/ 580- 581 ونتيجة لما سبق من الصفات فهم سابقون بالخيرات 3/ 580- 581 من صفات المؤمنين:

الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ، وَالْفَزَعِ مِنْهُ عِنْدَ ذِكْرِهِ 2/ 326 التوكل على الله 2/ 326 يقيمون الصلاة 2/ 326 إذا تليت عليهم آيات الله زادتهم إيمانا 2/ 326 يخافون ربهم في السر والخلوة 5/ 312 لهم مغفرة وأجر كبير في الجنة 5/ 312 لا يتصفون بالهلع والجزع 5/ 350- 352 يحافظون على الصلاة، ولا يصرفهم عنها صارف 5/ 350- 352 يؤدون الزكاة، ويؤمنون باليوم الآخر، ويخافون عذاب ربهم 5/ 350- 352 لا يزنون، ويؤدون الأمانات إلى أهلها، ولا يكتمون الشهادة، وهم في الجنة مكرمون منعمون 5/ 350- 352 المؤمنون هم الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح 5/ 501 لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وهو الفوز العظيم 5/ 501 الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير سبب يوجب الأذية، فقد احتملوا بهتانا وإثما واضحا 4/ 348 التقوى مع الإيمان سبب في ثبات القلوب، وثقوب البصائر وحسن الهداية 2/ 346 من أوصاف المؤمنين: التائبون، العابدون، الحامدون، السائحون 2/ 464- 465 من صفات المؤمنين: يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصدقون بالآخرة 4/ 145 حال الأتقياء: في جنات ونعيم، يتلذذون بفواكه الجنة الخالدة، ووقاهم الله من عذاب جهنم، متكئين على سرر مصفوفة ومتقابلة، يزوجهم الله بالحور العين 5/ 115- 116 المؤمنون بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤدون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، ورحمة الله وجنته ثواب لهم 2/ 434- 435 المؤمنون مفلحون فائزون، وظافرون عند الله تعالى وصفاتهم: الخشوع في الصلاة، وإخراج الزكاة، وحفظ الفروج، وهم أمناء وأوفياء، ويحافظون على الصلاة 3/ 562- 563 المؤمنون يرثون الفردوس 3/ 562- 563

تجارة المؤمنين الرابحة هي: الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس 5/ 264- 266 إن أدى المؤمنون التجارة الرابحة، غفر الله ذنوبهم، ونصرهم على عدوهم في الدنيا، وأدخلهم جنات النعيم في الآخرة 5/ 264- 266 أمر الله المؤمنين أن يكونوا أنصار الله، ينصرون دينه 5/ 264- 266 المؤمنون يعادون من عادى الله ورسوله، ولو كانوا أقاربهم، ويحبون ويوالون المؤمنين، ولو كانوا أباعد 5/ 230- 231 المؤمنون الذي يعادون من عادى الله ويحبون المؤمنين كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بنصره، ويدخلهم جناته، وهم حزب الله، وهم المفلحون 5/ 230- 231 يتميز المؤمنون في الآخرة عن المفسدين في الأرض، كما يتميز المتقون عن الفجار 4/ 493 المؤمنون هم خير البرية، ودخولهم جنات خالدة 5/ 580 المؤمنون بالله هم الصديقون، ولهم الأجر والنور الموعودان لهم 5/ 208- 209 المؤمنون هم الذين آمنوا بالله ورسوله، ولم يشكوا في إيمانهم، والذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في طاعة الله، ولإعلاء كلمة الله. وأولئك هم الصادقون 5/ 80 المؤمنون هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات 3/ 336 للمؤمنين جنات عدن 3/ 336 المؤمنون يحلّون في الجنة بزينة الملوك، ويتنعمون على الأسرة 3/ 336 المؤمنون هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويهديهم ربهم، وتجري من تحتهم الأنهار، ودعاؤهم التسبيح، وتحيتهم السلام، وآخر دعائهم: الحمد لله 2/ 485- 486 تحية المؤمنين يوم يلقون الله السلام 4/ 331 مبايعة المؤمنات لرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ: لا يَسْرِقْنَ، وَلَا يَزْنِينَ، وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ، وَلَا يأتين ببهتان ... إلخ 5/ 257- 258 أمر الله الرسول صلّى الله عليه وسلم بمبايعة النساء والاستغفار لهنّ 5/ 257- 258 المؤمنون في الجنة يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه 4/ 664 المؤمنون في الجنة آمنون من الموت والوصب 4/ 664 حفظ الله المؤمنين في الآخرة من عذاب النار 4/ 664

ما يناله المؤمنون في الجنة هو الفوز العظيم 4/ 664 المؤمنون يسعى الضياء بين أيديهم وبأيمانهم على الصراط 5/ 204- 205 الملائكة تبشر المؤمنين بالجنات، والخلود، والفوز العظيم 5/ 204- 205 المنافقون يطلبون من المؤمنين على الصراط الانتظار ليقتبسوا من نورهم، فيتهكم المؤمنون منهم، ويقولون لهم: ارجعوا إلى الموضع الذي أخذنا منه النور 5/ 204- 205 التخاطب بين المنافقين- أهل النار، الذين فتنوا وارتابوا- والمؤمنين أهل الجنة الذين صبروا 5/ 204- 206 المؤمنون يدخلون الجنة، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أساور من ذهب، ولباسهم فيها حرير 3/ 527- 528 المؤمنون في الجنة يهدون إلى الطيب من القول 3/ 527- 528 المؤمنون والمؤمنات يدخلهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار، ويكفر سيئاتهم فلا يعذبهم، وهذا فوز عظيم لهم 5/ 54 يتعاطى المؤمنون في الجنة خمرا، شرابا، لا باطل فيها ولا إثم كما هو في خمر الدنيا، ويطوف عليهم بالخدمة غلمان كاللؤلؤ المستور بالصدف في الحسن والبهاء 5/ 117- 118 من أهل الجنة على الخصوص قوم آمنوا، وأكرمهم الله بإيمان أولادهم وأولاد أولادهم، ما نقصهم الله أعمالهم، يسأل بعضهم بعضا، يسرون بما حصل لهم من نعيم الجنة، يمدّهم الله ويزيدهم من فضله ومما تشتهيه أنفسهم من الفواكه واللحوم وغيرها 5/ 117- 119 المؤمنون هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وآمنوا بما نزله الله على محمد، وخصه به لشرفه ومكانته 5/ 36 مغفرة الله للمؤمنين وإصلاح شأنهم 5/ 36 المؤمنون الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ 4/ 271 المؤمنون خالدون في الجنة وعد الله حقا 4/ 271 المؤمنون العاملون والمهاجرون لهم في الجنة غرف ينزلون فيها، تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، ومن صفاتهم الصبر والتوكل 4/ 242- 243 من صفات المؤمنين الصبر والتوكل 4/ 242- 243 ليس المؤمن كالفاسق عند الله 4/ 293

المؤمنون لهم جنات معدة لهم، يأوون إليها 4/ 293 للمؤمنين في الجنة غرف ودرجات كاملة في بهجتها ورونقها 4/ 524 المؤمنون في روضة الجنة يسرون 4/ 251 للمؤمنين ثِمَارُ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا مُعَدًّا لَهُمْ، مُبَالَغَةً في إكرامهم، وخالدين في الجنة لا يطلبون عنها تحولا 3/ 375 وعد الله المؤمنين بالاستخلاف إن جمعوا مع الإيمان العمل الصالح، كما وعدهم بتثبيت دينهم الذي ارتضاه لهم، وتبديل خوفهم أمنا 4/ 55- 56 المؤمنون مبعدون عن النار، لا يسمعون حركتها، ولا حركة أهلها 3/ 508- 509 المؤمنون في الجنة يتمتعون بما اشتهت أنفسهم، خالدين 3/ 508- 509 المؤمنون إذا وعظوا بآيات الله سقطوا على وجوههم ساجدين ونزهوا الله عما لا يليق بهم 4/ 292- 293 المؤمنون ترتفع جنوبهم عن المضاجع للصلاة والدعاء 4/ 292- 293 المؤمنون ينفقون في سبيل الله من أموالهم التي رزقهم الله 4/ 292- 293 يساق المؤمنون إلى الجنة جماعات، وتفتح لهم أبوابها 4/ 548 خزنة الجنة يرحبون بالمؤمنين بالتحيات والسلام، ويعلمونهم بالخلود، فيحمد المؤمنون الله على ذلك 4/ 548 المؤمنون يحمدون الله على ما أعلمهم به خزنة الجنة من أنهم خالدون فيها 4/ 548 المؤمنون هم أصحاب الجنة، وهم فيها في شغل متفكهون، متنعمون، معهم أزواجهم، على الأرائك متكئون، لهم فاكهة وكل ما يطلبون، تحيتهم من ربهم السلام، وحياتهم سلام وأمان 4/ 431- 432 المؤمنون هم الذين صدقوا، وعملوا الصالحات، فلهم أجرهم عند ربهم، وهم الذين يفوضون إلى الله أمورهم، ويجتنبون كبائر الذنوب، ويتجاوزون عمن أغضبهم، والذين استجابوا لله فيما دعاهم إليه، وأقاموا الصلاة، وهم يتشاورون فيما بينهم، ويتصدقون 4/ 619- 620 تقريع المؤمنين وتوبيخهم على قولهم من الخير ما لا يفعلون، وذمهم على ذلك 5/ 261- 262 وجوه المؤمنين يوم القيامة ناعمة حسنة، وتنظر إلى ربها وخالقها 5/ 407- 409 وجوه المؤمنين يوم القيامة ذات نعمة وبهجة، لأنها أعطيت من الأجر ما أرضاها- إنه الجنة ونعيمها- 5/ 522 المؤمنون الأتقياء في جنات وعيون، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين، وقليلا من

3 - الأبرار:

الليل ما ينامون، ويستغفرون وقت السحر، ويجعلون على أنفسهم في أموالهم حقا للسائل والمحروم 5/ 101- 104 المؤمنون الأتقياء في جنات وأنهار في مجلس حق عند إله قادر مقتدر سبحانه وتعالى 5/ 156 المؤمنون أدخلوا جنات تجري من تحتها الأنهار بإذن ربهم، تحيتهم فيها سلام 3/ 125- 126 خص الله المؤمنين بالذكر لشرفهم 5/ 641 الذين آمنوا سيجعل الله لهم في قلوب عباده حبا 3/ 419 المؤمنون يضحكون من الكفار يوم القيامة 5/ 489 منهم سابق بالخيرات (التقي) ومنهم مقتصد (المؤمن) ومنهم ظالم لنفسه.. وهؤلاء يدخلون الجنة ويحلّون فيها. 4/ 400- 401 3- الأبرار: الأبرار في نعيم الجنة 5/ 480 كتابهم في عليين، وهو كتاب مسطور ومختوم، يشهده الملائكة المقربون 5/ 488- 489- 490 هم في نعيم وعلى السرر ينظرون ووجوههم تدل على أنهم من أهل النعمة 5/ 488- 489- 490 يشربون من خمر مختوم بالمسك 5/ 488- 489- 490 أهل الطاعة في الجنة يشربون من كأس يخالطها الكافور وتختم بالمسك 5/ 418- 419- 421 هذا الشرب من عين يشرب بها عباد الله ويجرونها حيث شاؤوا 5/ 418- 419- 421 يوفون بالنذر ويخافون يوم القيامة 5/ 418- 419- 421 يطعمون الأيتام والمساكين والأسرى لوجه الله 5/ 418- 419- 421 حفظ الله الأبرار من شر يوم القيامة وجزاهم دخول الجنة، وألبسهم الحرير، يتكئون في الجنة على السرر لا يرون حر الشمس ولا برد الزمهرير، ظلال الجنة قريبة منهم وثمارها مذللة ومسخرة لمتناوليها، يدور عليهم الخدم إذا أرادوا الشراب، يسقون كأسا من الخمر ممزوجا بالزنجبيل، يطوف عليهم ولدان لا يهرمون ولا يتغيرون 4/ 421- 426 نعيم الأبرار في الجنة لا يوصف، لباسهم فيها من سندس وإستبرق، ويحلون فيها أساور من فضة، ويشربون شرابا لا نجاسة فيها، كل هذا النعيم جزاء لأعمالهم في الدنيا، وكان عملهم في الدنيا مشكورا 5/ 424- 426

4 - الربانيون:

4- الربانيون: الربانيون، معناها: النسبة إلى الرّبّ، وهم عالمون ومتعلمون 1/ 407 الربانيون حلماء، حكماء، علماء 1/ 408 5- المفلحون: معنى الفلاح 1/ 44 6- أولياء الله: لا خوف عليهم ولا حزن، صفاتهم الإيمان والتقوى، لهم البشرى في الدنيا والآخرة 2/ 519- 521 هم القوم الذين يحبهم الله ويحبونه 2/ 61 7- المتقون: يحشرهم الله يوم القيامة راكبين مكرمين 3/ 416 في ظلال الجنان وعيونها، يأكلون ويشربون، وجزاؤهم العظيم جزاء المحسنين 5/ 435 8- عباد الرحمن: يمشون على الأرض بسكينة ووقار، ولا يجهلون ولا يسافهون أهل السفه، ويبيتون في صلاة وعبادة، ويدعون أن يصرف الله عنهم عذاب جهنم، ويتوسطون في الإنفاق بين الإسراف والتقتير 4/ 99- 101 عباد الرحمن إذا ذكروا بالقرآن أكبوا على آياته سامعين مبصرين، ويدعون الله أن يهبهم أزواجا صالحين وذرية صالحة تقر عيونهم، وجزاؤهم الجنة، يحيون فيها بعضهم بالسلام 4/ 104- 105 عباد الرحمن لا يدعون مع الله أحدا، وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا يشهدون الزور، وإذا مرّوا باللغو أعرضوا عنه 4/ 102- 103 9- المسلمون: نهيهم عن كثرة الأسئلة 2/ 92- 93- 95 النهي عن طرد المؤمنين 2/ 136 10- الأمة: الأمة المسلمة دينها دين إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم سمى هذه الأمة،

11 - الصفات العامة للمؤمنين:

والرسول صلّى الله عليه وسلم يشهد عليها، وهي تشهد على باقي الأمم 3/ 558- 559 لكل أمة أجل حيث يجازيهم بما يستحقون 2/ 511- 512 الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة 2/ 130- 131 لكل أمة أجل معلوم في العذاب، والموت، والقدر 2/ 231 صفات الأمة القائمة: يتلون آيات الله، ويؤمنون بالله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر 1/ 428- 429 الأمة المسلمة خير أمة أخرجت للناس 1/ 427 الأمة القائمة هي المهتدية 1/ 430 الأمة الصالحة يهدون بالحق وبه يعدلون 2/ 308 من حكمة الله أنه جعل بعض الأمم أكثر عددا وأوفر مالا 3/ 230- 231 لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة متفقة على الحق 2/ 232 دخول أمم الكفار مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ، كُلَّمَا دَخَلَتْ أمة لعنت أختها 2/ 232 11- الصفات العامة للمؤمنين: آ- الاستقامة: المؤمنون الذين استقاموا على التوحيد والعمل بأحكام الشريعة لا خوف عليهم من أي مكروه ولا يحزنون من فوات محبوب، أولئك أصحاب الجنة التي هي دار الخلود 5/ 21 الذين استقاموا بعد التوحيد تتنزل عليهم الملائكة من عند الله بالبشرى والتثبيت والإعانة في الدنيا والآخرة 4/ 590 ب- الإسلام: المسلمون والمسلمات، والمؤمنون والمؤمنات، أعدّ الله لهم أجرا عظيما على طاعتهم من القنوت، وَالصِّدْقِ، وَالصَّبْرِ، وَالْخُشُوعِ، وَالتَّصَدُّقِ، وَالصَّوْمِ، وَالْعَفَافِ، وَالذِّكْرِ 4/ 325 ج- العدل: الأمر بالعدل 5/ 354 الله يحب العادلين 5/ 354 الأمر بعدم التجاوز في الميزان، وترك الظلم فيه 5/ 159 إقامة الوزن بالعدل وأن لا ينقص الميزان 5/ 159

د - الطاعة:

د- الطاعة: طاعة رسول الله وتحكيمه 1/ 558- 559 طاعة أولي الأمر 1/ 556 طاعة الأمراء في المعروف 1/ 557 هـ- التوبة: هي مجرد عقد القلب، ولا يشترط إطلاع الناس 1/ 105- 106 الله يقبلها من عباده ويعفو عن سيئات من تاب 4/ 613 والشفاعة: شفاعة الناس لبعضهم البعض 1/ 569- 570 12- المهاجرون والمهاجرات: المهاجرون: عند الهجرة إلى المدينة أمر بالدعاء حين الخروج من مكة والدخول إلى المدينة 3/ 301 الترغيب في الهجرة 1/ 583 غفران الله للمهاجرين الذين عذّبهم الكفار 3/ 238- 239 وجوب الهجرة من أرض الشرك 1/ 582- 583 عتاب الملائكة للمستضعفين بترك الهجرة 1/ 582- 583 لا هجرة بعد الفتح 1/ 584 الذين هاجروا في الله من بعد ظلمهم ليبوئنهم الله مباءة حسنة في الدنيا والآخرة 3/ 197- 198 اتصاف المهاجرين بالصبر والتوكل 3/ 197- 198 المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة 2/ 375- 377 المهاجرون الذين هاجروا وقتلوا أو ماتوا حال الهجرة ليرزقنهم الله نعيم الجنة، وهو المدخل الذي يرضونه مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر على قلب بشر 3/ 551- 552 المهاجرون والأنصار السابقون منهم رضي الله عنهم ورضوا عنه 2/ 452- 456 أخرجوا من ديارهم يطلبون الرزق ونصره الله ورسوله، وهم الكاملون في الصدق الراسخون فيه 5/ 239- 242

المهاجرات:

المهاجرات: الأمر بامتحانهن، وذلك بأن يستحلفن بالله ما خرجن إلا حبا لله ورسوله عدم إرجاعهن إلى الكفار إن ثبت إيمانهن حكم الزواج بهن وحكم مهورهن، ومهور المرتدات 5/ 256- 260

الكفار والمشركون والمنافقون

الكفار والمشركون والمنافقون 1- الكفر. 2- الكافر. 3- الكفار. 4- المشركون. 5- المنافقون. 6- الأعراب وموقفهم. 7- الكفار المشركون. 8- متفرقات.

1 - الكفر:

1- الكفر: الكفر بالله: حكم المكره وقلبه مطمئن بالإيمان 3/ 237 عقوبة الكافر الذي اعتقد الكفر وطابت به نفسه 3/ 239 الكفر: معناه 1/ 46 الكفر ببعض الرسل كالكفر بالله وبجميع الرسل 1/ 613 أسباب الكفر: 1- عدم تدبر القرآن 2- إنكار إرسال الرسل 3- تجاهل القوم معرفتهم بأمانة رسولهم 4- قولهم: إن الرسول مجنون 3/ 584- 585 2- الكافر: يطلب الرجوع إلى الدنيا لعله يعمل صالحا، الرب يرد عليه رادعا زاجرا بأنه لا رجعة ومن أمامهم وبين أيديهم برزخ إلى يوم القيامة 3/ 588- 592 عمله خبيث كالأرض السَّبَخَةِ الْمَالِحَةِ الَّتِي لَا تَخْرُجُ مِنْهَا الْبَرَكَةُ 2/ 246 يحشره الله يوم القيامة أعمى لأنه أعرض عن ذكر الله ونسي آياته، فالجزاء من جنس العمل 3/ 464- 465 لا يحب الله كل خوان كفور 3/ 542 لا يرضى الله لعباده المؤمنين الكفر 4/ 518 من صفات الكافر: يكذّب بالدين يدفع اليتيم عن حقه لا يحض نفسه ولا غيره على إطعام المسكين المحتاج 5/ 610 الكافر اتخذ دينه ما يهواه، أضل عن الثواب، وطبع على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غطاء، ولا هداية له بعد إضلال الله 5/ 10- 11 تكذيب الكافر بالرسالة، وتركه للصلاة، ذهابه إلى أهله بتثاقل وتكبر، ووليه الويل والهلاك 5/ 410- 411 الكافر ينهى عن الصلاة، وتكذيبه وإعراضه، وإن أصر على كفره ولم ينزجر سيؤخذ بناصيته يوم القيامة ويجر إلى النار 5/ 571- 573

3 - الكفار:

خطاب الكافر وسؤاله عما غره وخدعه عن ربه وخالقه الذي أوجده، وعدّله في أحسن تقويم 5/ 479 غر الكافر جهله 5/ 481 تذكير الكافر بشدة الحال عند نزول الموت، وإذا بلغت الروح التراقي فلا فائدة من راق يرقي، واليقين عندئذ بالفراق والموت، وتتابع الشدائد، وتأكد المصير والمرجع إلى الله 5/ 410- 411 يتمنى الكافر أن يفتدي من عذاب يوم القيامة بأعز الناس عليه من أبنائه، وزوجه، وأخيه، وعشيرته، والناس جميعا 5/ 346- 347 يعطى الكافر كتابه بشماله، ويتمنى أن لا يأخذ كتابه، وأن يجهل حسابه، وأمر الله للملائكة أن تقيده بسلسلة عظيمة وأن يدخل إلى النار بسبب كفره وسوء أفعاله 5/ 340- 341 يعطى الكافر كتابه وراء ظهره ويدخل النار، وقد كان في الدنيا مسرورا وظن أن لا رجوع ولا حساب 5/ 493- 497 لعن الإنسان الكافر المفرط في الكفر، وغفلته عن بداية خلقه وتكبره مع مهانة منشئه ومخرجه، متابعة القدرة الإلهية في خلقه، وموته، وبعثه، وحسابه، وجزائه 5/ 464- 465 3- الكفار: رؤساء الكفار: يجادلون ويخاصمون في الله بغير علم مع إنكار البعث والساعة واتباع الشيطان 5/ 517- 518 البعض من الكفار يجادل اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ منير 3/ 517- 518 صفة رؤساء الكفار الكبر، ولهم من الله الخزي في الدنيا وعذاب الحريق في الآخرة 3/ 517- 518 كفار قريش: إنذارهم لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله من غير علم 3/ 322 بدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم جهنم، وهي دار البوار، وجعلوا لله أندادا 3/ 130- 131 و 133 كفار مكة: جعل الله لهم مكة حرما آمنا والناس يتخطفون من حولهم 4/ 245

الفجار (الكفار) :

استحقاقهم العذاب بسبب صدهم عن المسجد الحرام 2/ 349 ما كانوا أولياء للكعبة 2/ 350 صفة صلاتهم عند الكعبة التصفيق والصفير مع العري 2/ 351 الفجار (الكفار) : كتابهم في سجين وهو كتاب مسطور ومختوم تكذيبهم بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ فاجر جائر تكذيبهم بالقرآن بسبب ما غطى قلوبهم من المعاصي والكفر حجبهم عن رؤية ربهم 5/ 484- 486 نهاية الفجار جهنم يلزمونها مقاسين لوهجها وحرها 5/ 480 الكفار المكذبون: أمرهم تقريعا بالانطلاق إلى العذاب الذي كانوا يكذبون به 5/ 433- 436 هم في دخان جهنم، لَا يُظِلُّ مِنَ الْحَرِّ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهب، كل شرارة منه كالقصر في عظمها وهي تشبه الإبل الصفراء 5/ 433- 436 منعهم من الكلام وجمعهم مع جميع المكذبين، لا حيلة لهم في جهنم 5/ 435- 436 الويل للمشركين المجرمين في حياتهم الدنيا، لأنهم لا يصلون ولا يصدقون بالقرآن 5/ 435- 436 ضلالهم ومكابرتهم في طلب وقوع العذاب بهم إن كان الإسلام دين الحق 2/ 347 ينفقون أموالهم ثم تكون عليهم حسرة 2/ 350 ضرب الله مثلا لعنادهم وكفرهم ومكرهم بركوبهم البحر، وتعرضهم للخطر، ثم اللجوء إلى الله، ثم الإعراض عنه بعد نجاتهم ونكوصهم إلى شركهم وإعراضهم، وتقرير الله: أن بغيهم على أنفسهم 2/ 494- 496 صم عن سماع الحق وعمي عن رؤيته 2/ 509 خسران من كذب بلقاء الله 2/ 510 من قبائح الكفار النسيء، والكبيسة، والتلاعب في التحليل والتحريم في الأشهر الحرم، يحلونه عاما ويحرمونه عاما 2/ 409- 412 هم شر الدواب بكفرهم 2/ 364 لا عهد لهم بل ديدنهم نقض العهود 2/ 365

الملائكة تضرب أدبارهم ووجوههم عند الموت أو يوم القيامة بما كسبت أيديهم 2/ 362- 363 ظلموا أنفسهم بعبادة الأصنام وعدم التغيير 2/ 363 لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء إذا ماتوا 2/ 233 لا يدخلون الجنة أبدا 2/ 234 تعليق دخولهم الجنة بمستحيل (وهو دخول الجمل في ثقب الإبرة) 2/ 234 و 236 تهديدهم بنزول الملائكة بالعذاب بعد إقامة الحجة وإنزال القرآن 2/ 206- 207 جاهلون في إيثارهم آلهتهم على الله 2/ 187- 188 جعلوا لله من حرثهم ودوابهم نصيبا 2/ 189 احتجاجهم على شركهم أنه بمشيئة الله، والرد عليهم: بأنهم لا علم لهم إلا مجرد الوهم والتخرص 2/ 199- 200 استمتاعهم بالجن واستمتاع الجن بهم 2/ 183 وصف حالهم في بعدهم عن الإسلام وضيق صدورهم به 2/ 183 يريدون أن يكون منهم أنبياء ورسل 2/ 181 طلبهم أن يكون الرسول ملكا والرد عليهم 2/ 116- 118 حجة المشركين يوم القيامة 2/ 124 وقوفهم على النار 2/ 125 الوعيد على عدم الإيمان باليوم الآخر بالعذاب من حقه أن يتأخر عن الدنيا 2/ 487 يتركهم الله يتحيرون في تطاولهم وطغيانهم 2/ 489 لا يرجون لقاء الله ولا يؤمنون باليوم الآخر 2/ 485 رضوا بالحياة الدنيا وغفلوا عن آيات الله فمأواهم النار 2/ 486 تزيين الشيطان للكفار قتل أولادهم خوفا من العيلة 1/ 289 و 2/ 188- 189 يجادلون بالباطل، ويتخذون آيات القرآن لعبا وباطلا 3/ 352 جعل الله على قلوبهم أغطية وعلى آذانهم صمما 3/ 353 تهديدهم بالخسف والعذاب وهم خائفون ومن حيث لا يشعرون 3/ 200- 201 حوارهم مع الرسل 3/ 116- 117 حوارهم مع الرسل وتهديدهم لهم بالإخراج من أرضهم 3/ 119 لو فتح الله عليهم بابا من السماء يصعدون فيه لقالوا أبصارنا مغلقة بل نحن مسحورون 3/ 148- 150

ما ينتظرهم من عذاب جهنم وما فيها من الصديد 3/ 120- 121 أعمالهم يوم القيامة كالرماد لا يقدرون عليها ولا يجدون لها أثرا 3/ 122 لا يؤذن لهم يوم القيامة فيعتذرون، ولا يسترضون 3/ 225 هم وآلهتهم حطب جهنم، ولهم في النار زفير ولكنهم لا يسمعون بعضهم لشدة الهول 3/ 508 احتجاجهم بأنهم أفضل حالا في الدنيا من المؤمنين، وبيان أن الله أهلك من كان أثرى منهم وأغنى 3/ 411- 412 يصدون عن السبيل ويصدون الناس عن الحج إلى المسجد الحرام 3/ 530 يَعْلَمُونَ ظَاهِرَ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وهم عن أمور الآخرة غافلون 4/ 247 كفرهم بلقاء الله في الآخرة 4/ 247 يطبع الله على قلوبهم لأنهم لا يعلمون 4/ 268 فزعهم عند نزول الموت، ويوم القيامة لا مهرب لهم، ويؤخذون من قبورهم، وعندها يؤمنون، ولا إيمان لهم، ولا يقبل منهم 4/ 384- 385 كفرهم في الدنيا ورجمهم بالغيب، وحال الله بينهم وبين ما يشتهون 4/ 385- 386 سخريتهم من الآيات، ولا يتعظون بموعظة، وقولهم عن القرآن سحر 4/ 446 ينكرون البعث 4/ 446 استبعادهم البعث بعد أن يمزقوا ويصيروا ترابا 4/ 359 نفوا إتيان الساعة بوجه من الوجوه، والقسم بإتيانها وبعثهم من قبورهم 4/ 358 لعنهم الله في الدنيا وأعد لهم في الآخرة نارا سعيرا خالدين فيها، لا حافظ لهم ولا ناصر ينصرهم 4/ 351 تبرؤهم من أسيادهم وزعمائهم وقادتهم، وطلبهم أن يضاعف لهم العذاب 4/ 352 إذا تليت عليهم آيات القرآن قالوا عن النبي بأنه رجل يريد أن يبعدهم عن أسلافهم وأصنامهم 4/ 381 ادعاؤهم أنّ ما جاء به محمد سحر وكذب مختلق 4/ 381 أضمروا الندامة على كفرهم لما رأوا العذاب 4/ 377 جعل الله القيود في أعناقهم 4/ 377 لا نصير لهم ولا مخرج من النار 4/ 407 لا يزيدهم كفرهم عند الله إلا غضبا وبغضا، ولا يزيدهم إلا خسارة ونقصا، وهلاكا 4/ 407

جزاؤهم نار جهنم لا يموتون فيها، ولا يخفف عنهم العذاب، ويبدل الله جلودهم كلما نضجت، ويصيحون ويستغيثون، ويطلبون الخروج من النار 4/ 406 يوم القيامة ينطق الله أعضاءهم لتشهد عليهم 4/ 434 منحهم الله الحواس فما أحسنوا رعايتها 4/ 434 اعتزلوا اليوم أيها الكفار المجرمون عن الصالحين 4/ 433 التهكم منهم بمقاساة حر النار التي كانوا بها يكذبون 4/ 433 أمرهم الله أن لا يعبدوا الشيطان الذي أضل وأغوى خلقا كثيرا قبلهم فما أطاعوا 4/ 433 تأخذهم صيحة إسرافيل وهم يختصمون في بيعهم وشرائهم، ولا يستطيعون أن يوصوا، ولا يستطيعون أن يرجعوا إلى الدنيا 4/ 428- 429 اشمئزازهم من ذكر الله، واستبشارهم بذكر آلهتهم 4/ 536 الكفار في عزة عن قبول الحق وتكبر وتجبر 4/ 482- 483 الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل من قبل، ونداؤهم الذي لم يفدهم حين نزول العذاب 4/ 482- 483 تعجب الكفار من مجيء الرسول منذرا وقالوا عن معجزاته: سحر وعنه: ساحر يجعل الآلهة إلها واحدا 4/ 482- 483 الأشراف منهم يطلبون الصبر والثبات على عبادة الأصنام 4/ 483 يقولون: إن هذا شيء يريده محمد بآلهتنا، وهو اختلاق لم تسمع به من قبل 4/ 484 تعجبهم من تخصيص الرسول بالذكر 4/ 484 الرد عليهم ببيان عجزهم وهزيمتهم وهلاك المكذبين 4/ 485 أهلك الله جميع المكذبين بالرسل 4/ 486- 487 ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا النفخة الكائنة عند قيام الساعة والتي لا رجعة بعدها ولا مصرف عنها 4/ 486- 487 استعجالهم بالعذاب في الحياة الدنيا 4/ 486- 487 جعل الله في أعناقهم قيودا وأغلالا تمنعهم من الإيمان والإنفاق فهم مقحمون 4/ 414 إنذار الكفار وعدمه سواء 4/ 415 خسران أنفسهم وأهليهم 4/ 223 لهم في النار أطباق من فوقهم ومن تحتهم 4/ 223 الكفار هم المجرمون، وفي عذاب جهنم خالدون، ولا يخفف عنهم العذاب،

الكفار:

وهم آيسون من النجاة 4/ 647 ما ظلمهم الله ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم 4/ 647 نداؤهم على مالك خازن النار والرد عليهم بأنهم في العذاب مقيمون 4/ 647 طلبوا إنزال الملائكة لإخبارهم بصدق محمد 4/ 81 استكبارهم وعتوهم 4/ 82 يوم القيامة يرون الملائكة، لا بشرى يومئذ لهم، ويقولون: حجرا محجورا 4/ 82 الوعيد للكفار: بأن أعمالهم سيجعلها الله هباء منثورا 4/ 82 يتبعون أهواءهم، ولا أحد أضل ممن يتبع هواه 4/ 205 إنكارهم البعث بعد أن يصيروا ترابا 4/ 172 أعلنوا أن هذا الوعيد تكرر لآبائهم وما هو إلا أحاديث وأكاذيب 4/ 172 يلجئون إلى الله إذا خافوا الغرق ويعودون للكفر عند النجاة 4/ 244 الله يفصل يوم القيامة بين الكفار والمؤمنين 4/ 296 تذكيرهم بما أهلك الله من قبلهم من أهل القرون 4/ 497 وصف الكفار بالمجرمين 4/ 291 يطأطئون رؤوسهم حياء وندما يوم القيامة 4/ 291 طلب الكفار أن يرجعوا إلى الدنيا بعد أن صدقوا وزالت شكوكهم 4/ 291 رد الله على الكفار: ذوقوا بسبب ترككم لما أمرتكم عذاب جهنم الخالد 4/ 292 إنكارهم بعثهم بعد موتهم وضلالهم في الأرض، وكفرهم بلقاء الله 4/ 289 بعثهم بعد موتهم وضلالهم في الأرض، وكفرهم بلقاء الله 4/ 289 نهيه صلّى الله عليه وسلم عن أن يحزن على الكفار 4/ 278 ينبؤهم الله بأعمالهم، ويمتعهم الله في الدنيا قليلا ثم يلجئهم إلى عذاب ثقيل 4/ 279 التقريع لكفار مكة لاتخاذهم الملائكة بنات الله، وهم يكرهون البنات ويرغبون في الذكور 4/ 474- 475 الكفار: يجادلون في الله بغير علم يقلدون ما كان عليهم آباؤهم يستجيبون للشيطان مع أنه يدعوهم إلى عذاب جهنم 4/ 278 أعمالهم كالسراب الخداع لا يجدون منها شيئا، ولا تفيدهم شيئا، وهي تشبه الظلمات في بحر عميق فوقه أمواج وسحب 4/ 46- 47

لا يصدقون بالبعث 4/ 145 يزين الله لهم أعمالهم السيئة فيرونها حسنة فهم يترددون فيها لهم في الآخرة سوء العذاب وهم الأخسرون 4/ 145 استعجالهم بالعذاب 4/ 240 تنادي عليهم الملائكة في النار: بغض الله إياكم في الدنيا أشدّ من بغضكم أنفسكم اليوم اعترافهم بإماتة الله لهم مرتين، وإحيائهم مرتين يتساءلون هل بالإمكان خروجهم من النار؟ 4/ 554- 555 سوق الكفار إلى جهنم جماعات فتح أبواب النار للكفار ليدخلوها 4/ 546 يخاصم الكفار في دفع آيات الله، وبالباطل لإزالة الحق، وهم أصحاب النار 4/ 552 الكفار هم الذين كذبوا بالقرآن، يدخلون إلى جهنم والأغلال في أعناقهم، ويسحبون في الحميم المتناهي في الحر 4/ 552 تسأل الملائكة الكفار عن آلهتهم وأصنامهم التي عبدوها من دون الله 4/ 574 نهي بعض الكفار الناس عن سماع القرآن، واللغو فيه 4/ 589 طلبهم أن يروا من أضلهم من الجن والإنس 4/ 590 الكفار في شك من البعث 4/ 600 ليس للكفار كتاب قبل القرآن يحتجون به ويتمسكون به إنهم مقلدون لآبائهم وأجدادهم في عبادتهم للأصنام المترفون في كل أمة يقتدون بالآباء، ويقلدون تقليدا أعمى، ولو جاءهم الرسول بأهدى وأفضل 4/ 631 و 632 يأس الكفار من رحمة الله، ولهم عذاب أليم 4/ 229 الكفار المنكرون للبعث يقولون: أنرد في قبورنا أحياء بعد أن صرنا عظاما نخرة بالية إنها إذا لخسارة فادحة، ورجعة خاسرة 5/ 452- 453 أعد الله للكفار سلاسل وقيودا وأغلالا ونارا تتسعر 5/ 417 وجوه الكفار يوم القيامة كالحة متغيرة تنتظر الشر والهلاك 5/ 408 كفرهم بالبعث، وتسميتهم الملائكة بنات الله، واتباعهم الظنّ 5/ 134- 135 بيان عناد الكفار، وكشف باطلهم بأن الله هو الخالق لهم، وعجزهم عن خلق أنفسهم، أو خلق السموات والأرض، أو امتلاك خزائن أرزاق العباد

ومفاتيح الرحمة وعجزهم عن معرفة علم الغيب. هم الممكور بهم المجزيون بكيدهم 5/ 121- 122 عرض الكفار على النار وتوبيخهم لما أذهبوا من طيباتهم واستمتاعهم بها في الحياة الدنيا 5/ 21 يوم القيامة يجازيهم الله بالعذاب والذل والهوان 5/ 26 لهم من الله أشد العذاب 5/ 7 ضلال الكفار في إنكار البعث وإنكار الحياة بعد الموت 5/ 11- 12 اعتقاد الكفار بأن مرور الأيام تهلكهم (الدهريون) وحججهم الواهية في إنكار الآخرة 5/ 11- 12 إسراع الكفار في الجلوس إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتركهم العمل بما يأمرهم به 5/ 351 التهكم من طمعهم في دخول الجنة والرد عليهم في تكبرهم وطغيانهم 5/ 352 رد اعتذار الكفار عند دخول النار لقطع أطماعهم وآمالهم في النجاة 5/ 302 تكذيبهم بالجزاء والإسلام 5/ 479 إعراضهم عن التذكرة وتشبيههم بالحمر النافرة الهاربة من الرماة 5/ 400- 401 تماديهم في العناد واللجاج والغرور 5/ 314 افتراؤهم الكذب على الله 5/ 263 لا يهديهم الله لظلمهم 5/ 263 أرادوا إبطال القرآن وتكذيبه، والله مظهره، ومعلي شأنه 5/ 264 لو تميز الكفار عن المؤمنين في مكة لعذبهم الله بالقتل 5/ 64 في قلوبهم أنفة الجاهلية من الإقرار برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم 5/ 64 كفار مكة منعوا المسلمين عام الحديبية من الطواف، وكان الهدي محبوسا فمنعوه أن يبلغ محله 5/ 63 من صفات الكفار: عدم إكرام اليتيم، وعدم إطعام المسكين، وأكل مال اليتيم، وحب المال كثيرا 5/ 534- 537 ضحكهم من المؤمنين وتعييرهم بالإسلام، واتهامهم بالضلال 5/ 488- 489 رجوعهم إلى أهلهم متلذذين بما هم فيه من سخرية، وضحك المؤمنين منهم يوم القيامة 5/ 489 وقوع الجزاء بهم يوم القيامة وضحك المؤمنين منهم يكذب الكفار بالقرآن ويجعلون هذا التكذيب شكر رزقهم 5/ 194- 197

توعدهم بعد الموت بالعذاب وبيان عجزهم في رد الروح إلى الحلقوم بعد خروجها منه 5/ 194- 197 تكذيب الكفار واتباع أهوائهم رغم ما جاءهم من الأخبار عن الأمم الماضية ما فيه انتهاؤهم وازدجارهم عن الشر 5/ 146 زعم الكفار أنهم لن يبعثوا، والتأكيد على بعثهم وحسابهم يوم القيامة 5/ 282 يحبون الدار الدنيا ويتركون يوما شديدا عسيرا 5/ 427 الله خلق الكفار وقوى خلقهم ولو شاء لأهلكهم 5/ 428 كفار قريش صدوا أنفسهم وغيرهم 5/ 35 أبطل الله أعمالهم وجعلها ضائعة 5/ 36 الكفار يعاندون الله ورسوله ويحادونه 5/ 222- 223 أذلهم الله في الدنيا وأخزاهم ولهم عذاب مهين في الآخرة، ويبعثهم الله من قبورهم وينبئهم بما عملوا، أحصاه الله لهم، ونسوه 5/ 222- 223 الذين كفروا وكذبوا بآيات الله هم أصحاب النار 5/ 208 توعد الله الكفار المكذبين بالهلاك، ودفعهم إلى النار دفعا، وتبكيتهم لما قالوا في الدنيا: إن ما جاء به محمد سحر 5/ 115 الانحطاط والعثار للكفار 5/ 39 أضل الله أعمالهم وأحبطها، لكراهيتهم ما أنزل الله على رسوله 5/ 39 تذكيرهم ليعتبروا بما وقع للأمم الكافرة 5/ 39 التبرؤ من عبادتهم ومما يعبدون 5/ 618- 621 أمر الكفار بالإيمان والإنفاق وتقريعهم على ترك ذلك 5/ 200- 201 المبطلون من الكفار قديما وحاضرا 3/ 191- 192 أرسل الله الرياح فأتت على بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فوقهم 3/ 191- 192 هزيمة الكفار يوم بدر 5/ 155- 156 إعراض الكفار عما خرفوا به في القرآن، وضلالهم في عبادة ما لا يسمع ولا يعقل 5/ 16- 18 شمول الكفار والمنافقين وأهل الكتاب والمطعمين من المشركين يوم بدر 5/ 49- 50 الكفار صدوا أنفسهم وغيرهم عن الإسلام وعادوا الرسول بعد ما تبينوا صدقه، فلن يضروا الله شيئا وسيبطل أعمالهم 5/ 49- 50 الكافرون اختصموا وكفروا، يقضي الله بهم إلى النار، ويقطع لهم ثيابا من

4 - المشركون:

نار، ويصب من فوق رؤوسهم الزيت المغلي، ولهم مقامع من حديد يضربون بها 5/ 527- 528 4- المشركون: الأمر بقتالهم إن نقضوا العهد 2/ 389 و 391 لا أيمان لهم 2/ 390 عدم الركون إلى المشركين 2/ 603 هم نجس، منعهم من الاقتراب من المسجد الحرام 2/ 399- 400 هل يمنع كل مشرك من دخول المساجد 2/ 399- 400 كيف يكون لهم عهد؟ 2/ 387- 388 الوفاء بعهد من عاهدتم عند المسجد الحرام (قريش) ما داموا مستقيمين على العهد 2/ 387- 388 لو غلبوا لا يرقبون من مؤمن عهدا ولا ذمة 2/ 387- 388 الوفاء بعهدهم بشرط أن لا ينقضوه وأن لا يظاهروا على المسلمين أحدا 2/ 384- 385 ينقضي العهد بانتهاء الأشهر الحرم 2/ 386 التبرؤ من المشركين، وإمهالهم أربعة أشهر 2/ 379- 380 انتهاء عهدهم، وقتالهم، ومنعهم من الحج والطواف بالبيت بعد تبليغهم مطلع سورة براءة 2/ 381 بيان ضلال المشركين في عبادة الشركاء الذين لا يسمعون، ولا يتكلمون ولا أنفسهم ينصرون 2/ 316- 317 احتجاج المشركين بالقدر سخرية 3/ 195 المشرك في جهنم ملوم مدحور 3/ 274 أنكر المشركون النبوة طالبين من الرسول إنزال ملك عليهم 3/ 195- 196 رد الله عليهم بالوعيد، وإنزال الملائكة بالعذاب 3/ 197 يقرنهم الله مع بعضهم ومع شياطينهم في القيود 3/ 142 قمصانهم في جهنم من قطران. والنار تغشى وجوههم 3/ 143 خزاعة وكنانة من العرب يقولون الملائكة بنات الله، وكراهيتهم البنات 3/ 206- 208 وأد البنات 3/ 208 يتخلى الشركاء عن أتباعهم يوم القيامة، ويجعل الله بينهم حاجزا، ويرون النار، ولن يجدوا عنها مهربا 3/ 350- 351

توبيخ المشركين وتقريعهم على عبادة الأصنام كاللات والعزى ومناة 5/ 130- 132 الاستهزاء من جعلهم الآلهة إناثا وبنات لله مع حبهم للذكور 5/ 132 تكذيب الأمم قبلهم برسلهم 5/ 86 تخويف المشركين في مكة مما اتفق للقرون الماضية 5/ 94 أقوالهم المتناقضة والمختلفة في محمد صلّى الله عليه وسلم 5/ 99 المكذبون فيما ادعوه على محمد صلّى الله عليه وسلم من الكهانة والسحر 5/ 100 غفلتهم وجهلهم عن أمور الآخرة 5/ 100 يكذبون بيوم الدين ويتساءلون عنه مكذبين 5/ 100 عرضهم على النار وتعذيبهم، وكانوا في الدنيا كذبوا بها واستعجلوا العذاب 5/ 100 تخصيص بعضهم بالذم وتقريعه بجهله للغيب، وما في صحف موسى- التوراة- من العذاب والانتقام منه ومن عمله 5/ 136- 137 ضرب الله لهم مثلا: هل لهم شركاء من ما ملكت أيمانهم فيما رزقهم الله؟ فكيف إذن يجعلون لله شركاء وأندادا؟! 4/ 257- 258 إنكارهم البعث وعدم اعترافهم إلا بالموتة الأولى وعدم الانتشار بعدها 4/ 660 إقرارهم بأن الله خالق للسموات والأرض، ويعبدون غيره 4/ 627 ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بالبعث 4/ 622 يسأل المشركون عن إمكان الرجعة إلى الدنيا 4/ 622 يعرض المشركون على جهنم أذلاء ينظرون إليها من طرف ذليل 4/ 622 خسروا أنفسهم وأهلهم 4/ 622 هم في عذاب دائم لا ينقطع 4/ 622 تبكيتهم وتوبيخهم: بأن الله ذلل لهم ما في السموات وما في الأرض وأتم عليهم نعمه الظاهرة والباطنة 4/ 277 اعترافهم بأن الله خالقهم ومع ذلك يصرفون عن عبادته 4/ 650 وصفهم: بأنهم جاهلون، وأنهم سوف يعلمون 4/ 651 قالوا إن ندخل في دينك يا محمد يتخطفنا العرب من أرضنا، يرد الله على المشركين بأن الله مكن لهم حرما آمنا، تجبى إليه الأرزاق والثمرات 4/ 206- 207 يعذب الله في الدنيا والآخرة المشركين والمشركات 5/ 54 حكم ومصير أولاد المشركين يوم القيامة 3/ 258- 259

5 - المنافقون:

5- المنافقون: يعيب المنافقون على رسول الله في الصدقات، إن أعطوا رضوا وإن منعوا سخطوا 2/ 424- 425 قال المنافقون بحقّ محمد صلّى الله عليه وسلم: هو أذن، فردّ الله عليهم: بأنه أذن خير، وتوعد بالعذاب الأليم كلّ من يؤذي رسول الله، وبيّن لهم خطر معاداة الله ورسوله، وفضح أهواءهم واستهزاءهم 2/ 428- 431 المنافقون بعضهم من بعض ذكورا وإناثا ومن صفاتهم: يحلفون كاذبين ينهون عن المعروف بخلاء أشحاء 2/ 432- 433 مشابهة المنافقين لغيرهم من الكفار والمنافقين 2/ 434 المنافقون يظلمون أنفسهم، وعذابهم محقق 2/ 434 قولهم كلمة الكفر 2/ 436 همّ المنافقون بقتل الرسول ومبايعة عبد الله بن أبي بالملك 2/ 436 إن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يعرضوا فلهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة 2/ 437 نقضهم العهود في الاستقامة والصلاح والإنفاق 2/ 438 أعقبهم الله نفاقا متمكنا في قلوبهم بسبب إخلافهم مع الله، والله يعلم سرهم ونجواهم 2/ 439 يعيب المنافقون على المسلمين تطوعهم بالصدقات، ويسخرون من المؤمنين والمصدقين، وسخرية الله منهم جزاء على عملهم 2/ 439- 440 ليسوا أهلا للاستغفار، واستغفار الرسول لهم وعدمه سواء، وإن استغفر لهم سبعين مرة لن يغفر الله لهم، والسبب في ذلك هو كفرهم بالله ورسوله 2/ 441 فرح المشركين بالتخلف عن رسول الله والقعود عن الجهاد بالمال والنفس، وقالوا: لا تنفروا في الحر، والرد عليهم بأن نار جهنم أشد حرا 2/ 442- 443 منع المتخلفين من الخروج إلى الجهاد بعد تخلفهم أول مرة عقوبة لهم 2/ 442 تخلف المنافقين عن الجهاد لا يضر 2/ 445 المنافقون خارج المدينة هم الأعراب، وهم أشد كفرا ونفاقا، يتربصون بالمسلمين الدوائر، ويعتبرون ما ينفقونه في سبيل الله خسارة 2/ 457 من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق وثبتوا عليه 2/ 452- 453

اعتذارهم الباطل وكشف الله تعالى أخبارهم وسترهم 2/ 446 إنهم رجس، وأيمانهم كاذبة، ومأواهم جهنم 2/ 450 يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولون ويعرضون 4/ 52 يعرضون عن حكم الله ورسوله إلا إذا كان في صالحهم 4/ 53 في قلوبهم مرض وهم ظالمون 4/ 53 المنافقون الذين اتخذوا مسجد الضرار، أرادوا الكفر، والتفريق بين المؤمنين، والإضرار بالمؤمنين 2/ 458- 459- 461 الإعداد لحرب الله ورسوله 2/ 458- 459 و 461 آيات الله تزيد المنافقين كفرا ورجسا 2/ 475 موقفهم المتردد من الخروج إلى الجهاد 4/ 55 طاعتهم ولو أقسموا عليها معروفة بالتلون 4/ 55 الْمُنَافِقُ إِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ رَجَعَ عَنِ الدين فكفر 4/ 224 الله قادر على تمييز نفاقهم بعلمه 4/ 224 ولا يأتون الحرب، وهم أشحة وبخلاء في الخير، وإذا جاء الخوف تدور أعينهم جبنا وإذا ذهب الخوف أغلظوا للمسلمين القول 4/ 310- 311 إرجاف المنافقين بذكر الأخبار الكاذبة لتوهين جانب المسلمين 4/ 350 تسليط الرسول عليهم إن أصروا على موقفهم، بقتلهم وأخذهم 4/ 351 سنة الله في الأمم الماضية لعن المنافقين 4/ 351 استماعهم للرسول صلّى الله عليه وسلم واستهزاؤهم بما قاله بعد خروجهم 5/ 42 ختم الله على قلوبهم، فاتبعوا أهواءهم ورغباتهم 5/ 44 ارتدادهم إلى الكفر بعد الإيمان 5/ 47 طاعتهم للمشركين في بعض أمورهم 5/ 47 يعذب الله المنافقين في الدنيا والآخرة 5/ 54 تولي المنافقين اليهود، ونصرهم، وهم ليسوا من المؤمنين ولا من اليهود 5/ 229- 230 يحلفون على الكذب وجعلوا من إيمانهم بلسانهم وقاية وحماية لهم 5/ 229- 230 يبعدون عن دين الله بسبب تثبيطهم، وأعد الله لهم العذاب المهين 5/ 230 لا تفيدهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا 5/ 231 المنافقون هم أصحاب النار لا تفيدهم أيمانهم ولا كذبهم يوم القيامة، وهم حزب الشيطان 5/ 231

6 - الأعراب وموقفهم:

حلف المنافقون لإخوانهم من أهل الكتاب أنهم معهم وسيخرجون معهم في حال طردهم من المدينة 5/ 242- 243 كذبهم في حلفهم وقعودهم عن نصرة أهل الكتاب، ويرهبون المؤمنين 5/ 245 حضور المنافقين مجلس رسول الله، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه 5/ 274- 275 حلفهم: أنّ محمدا رسول الله، والله يشهد أنهم لا يعتقدون ذلك، وعلمه تعالى ببواطنهم 5/ 274- 275 صدوا بنفاقهم عن سبيل الله 5/ 275 ختم الله على قلوب المنافقين هيئاتهم ومناظرهم تدل على نضارة ورونق ظاهري فصاحة أقوالهم كأنهم خشب مسندة في عدم العلم والفهم، وهم جبناء رعاديد إعراضهم واستكبارهم 5/ 275- 278 المنافقون تتوفاهم الملائكة ضاربين وجوههم وأدبارهم، فيموتون على أشنع حال سيخرج الله يوم القيامة أضغان المنافقين وأحقادهم من صدورهم ويظهرها لو أراد الله لجعل للمنافقين علامة يعرفون بها، وتركهم يعرفون من فحوى كلامهم ومغزاه 5/ 47- 48 6- الأعراب وموقفهم: الأعراب أشد كفرا ونفاقا، ويعتبرون ما أنفقوا خسارة، ويتربصون بالمسلمين الدوائر 2/ 450- 452 منهم المؤمنون الذين ينفقون في سبيل الله ويعتبرون ذلك قربات 2/ 451- 452 الذين تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين خروجه إلى الحديبية، اعتذروا بمشاغل الأموال والأهل 5/ 57- 58 ظنهم أن العدو يستأصل المؤمنين فلا يرجع منهم أحد إلى أهله 5/ 57- 58 المخلفون طلبوا أن يخرجوا إلى خيبر ونهي الرسول لهم بأمر الله من الخروج 5/ 57- 58 بنو أسلم أظهروا الإسلام خوفا وادعوا الإيمان، فأمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالرد عليهم وإفهامهم أن الإيمان تصديق وعمل 5/ 79- 82 المخلفون سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس وقوة، يقاتلونهم أو يسلمون، وجزاؤهم الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة إن أطاعوا 5/ 60- 62

7 - الكفار المشركون:

7- الكفار المشركون: يوقفهم الله يوم القيامة ويفرق بينهم وبين ما عبدوا في الدنيا من شركاء، فيتبرأ الشركاء منهم ومن عبادتهم، ويشهدون الله على ذلك 2/ 500 الحجج الدامغة لهم مِنْ أَحْوَالِ الرِّزْقِ، وَالْحَوَاسِّ، وَالْمَوْتِ، وَالْحَيَاةِ، وَالِابْتِدَاءِ، والإعادة، والإرشاد، والهدى 2/ 504- 507 يعبدون مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ الآلهة شفعاؤنا 2/ 492- 493 من مخازيهم: أنهم طَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية (معجزة) ولم يعتبروا بما جاء به عنادا ومكرا 2/ 493 أمر الله رسوله أن يتوعدهم بانتظار قضاء الله فيهم 2/ 494 مكرهم بآيات الله بعد نزول رحمة الله عليهم 2/ 494 القرآن يرد عليهم على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلم عند ما طلبوا تغيير القرآن وتبديله، وهذا افتراء على الله 2/ 491 الافتراء على الله ظلم لا مثيل له، وإجرام لا فلاح بعده 2/ 492 ثباتهم على الكفر، وعنادهم حتى تأتيهم البينة 5/ 577 استمرار الكفار المشركون على عبادة الأوثان بعد مجيء البينة، ودخولهم النار وخلودهم فيها بكفرهم، وهم شر الخلق 5/ 577- 588 8- متفرقات: حكم لعن كافر معيّن، جواز لعن الكفار وعدم جواز لعن العاصي 1/ 187 جواز الجهر بالسوء كمن ظلم 1/ 612 خداع المنافقين وتذبذبهم 1/ 611 مرض المنافقين في فساد عقيدتهم وشكهم 1/ 49- 50 سنة المنافقين 1/ 51 المعنى اللغوي للسفهاء 1/ 168 و 174 مصير المنافقين في الدرك الأسفل من النار 1/ 611 بشارة المنافقين بالعذاب الأليم 1/ 606 نهي أهل البدع قد يزيدهم وقوعا في الباطل 2/ 171- 172 يسوق الله المجرمين إلى النار عطاشا 3/ 416 الشاك في دينه: يعبد الله على شك وقلق في دينه، فإن أصابه خير اطمأن، وإن أصابه ابتلاء

الإفك:

ارتد ورجع إلى الكفر خاسرا الدنيا والآخرة ويدعو من دون الله ويعبد مالا يضره ولا ينفعه 3/ 522- 523 قتل الأولاد خشية الفاقة من عادة بعض المشركين العرب في الجاهلية 2/ 203- 204 كراهية المشركين للأنثى وكيف يسود وجه أحدهم عند ما يبشر بها 4/ 629 لا يجحد بآيات الله إلا كل غدار كفور 4/ 282 التحذير من مخالفة أحكام الله، وقد حاسب الله أهل كثير من القرى، وعذبهم بسبب عتوهم وعصيانهم 5/ 594 الإفك: معناه الذين جاءوا به واتهموا عائشة هو خير لما تضمنه من براءة عائشة لكل من شارك فيه نصيبه من الحد والإثم الَّذِي تَوَلَّى كِبْرُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ 4/ 14- 15 الذين يحبون انتشار الفاحشة في المجتمع الإسلامي لهم من الله عذاب أليم في الدنيا والآخرة موقف المؤمنين من الإفك خطورة الإفاضة فيه والقول باللسان من غير علم النصح بعدم العودة إلى مثل ذلك الذي يتهم الآخرين بالفاحشة يطالب بأربعة شهود على ما يدّعي 4/ 17- 18

يوم القيامة

يوم القيامة 1- الساعة. 2- البعث. 3- الحشر. 4- يوم القيامة. 5- الآخرة. 6- اليوم الآخر. 7- متفرقات.

1 - الساعة:

1- الساعة: اليهود- وقيل قريش- يسألون عن وقتها لا تأتي إلا غفلة علمها عند الله يسألون رسول الله كأنه مستقص ومستكثر للسؤال عنها 2/ 311- 314 كذّب بها الكفار، وأعد الله لمن كذب بها جهنم تستعر، ولها تغيظ وزفير 4/ 75- 76 السؤال عنها، والإشارة إلى قربها 3/ 351 إنكار الكفار لوقوعها، والقسم بأنها آتية 4/ 358 تأتي بغتة فتحير الكفار ولا يستطيعون ردها 3/ 384 و 5/ 43 زلزلة الساعة شيء عظيم 3/ 516- 517 يوم ترونها تنشغل كل مرضعة عن رضيعها وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ كأنهم سكارى 3/ 516- 517 لا شك في مجيء الساعة 4/ 570 يوم تقوم الساعة يخسر المكذبون والكافرون 5/ 12 لا شك في وقوعها 5/ 14 قول الكفار: أي شيء هي؟ كفرا وتكبرا وعنادا 5/ 14 جاءت ووقعت أماراتها وعلاماتها، ومنها: بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم 5/ 44 اقتراب الساعة 5/ 142 لا يقدر على كشف وقت الساعة إلا الله 5/ 142 اقتراب الساعة بعد انشقاق القمر 5/ 144 و 149 موعد عذاب الكفار الأخروي وعذاب الساعة أعظم وأفظع 5/ 155 السؤال عن وقوعها وقيامها 5/ 459- 461 لا يعلمها إلا الله 5/ 459- 461 الرسول صلّى الله عليه وسلم ليس في شيء من علمها وذكراها إنما مهمته إنذار من يخشاها 4/ 649 و 5/ 459- 461 بعد وقوع الساعة يرى الناس أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا قليلا 5/ 459- 461 لا أحد يسأل عن الساعة إلا الله 4/ 597 الذين يخاصمون فيها مخاصمة شك وريبة هم في ضلال كبير عن الحق 4/ 609 تأتي الساعة بغتة والناس لا يشعرون 4/ 644

2 - البعث:

2- البعث: أصله: الإثارة 1/ 104 قدرة الله على البعث 2/ 113- 114 تكذيب الكفار بالبعث لعدم تصورهم له بعد أن يصيروا ترابا 3/ 81 الرد على منكري البعث بأن الله خَلْقَهُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مضغة، وهو الذي يقر في الأرحام ما يشاء، ثم الولادة والبلوغ والحياة والموت 3/ 517- 518 إقامة الحجة على منكري البعث بالأرض الهامدة التي تنبت الزرع بعد نزول المطر 3/ 519 إزالة الجبال من أماكنها، وتسييرها كالسحاب عند البعث 3/ 347 3- يوم القيامة: تفتح السماء وتشققها بالغيوم والسحب ينزّل الله فيه الملائكة الملك يومئذ لله ذلك يوم عسير على الكفار يعض الظالم على يديه ندما وحسرة 4/ 84- 85 حين تقوم الساعة تنقطع حجة الكفار المجرمين 4/ 251- 252 يتفرق المشركون عن آلهتهم فلا شافع لهم 4/ 251- 252 الاستدلال على البعث بالشجر الأخضر يقدح منه النار 4/ 440- 441 قدرة الله في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ- وَهُمَا فِي غَايَةِ الْعِظَمِ- قادرة على خلق الناس من جديد، وإنما شأنه أن يقول للشيء كن فيكون بيده سبحانه ملكوت كل شيء، وإليه يرجع الناس للحساب 4/ 440- 441 يوم القيامة تسود وجوه الكفار المكذبين 4/ 541 استبعاد الكفار للرجعة بعد الموت 5/ 84- 85 الرد عليهم بأن الله قادر على بعثهم وهو يعلم ما تنقص الأرض منهم وعنده كتاب حفيظ بأسمائهم 5/ 84- 85 يوم القيامة يحشر المشركون وما يعبدون من دونه 4/ 78 يدعو الله يوم القيامة كل أناس بإمامهم

في يوم القيامة:

كل من يعطى كتابه بيمينه يقرؤه ولا يظلم شيئا من كان في الدنيا فاقد البصيرة فهو كذلك في الآخرة 3/ 294- 295 يعرض الله جهنم للكافرين حتى يشاهدوها بأبصارهم تهديدهم بما اتخذوا من عباد الله شركاء هم الأخسرون أعمالا في الآخرة، بكفرهم ونفاقهم لا وزن لهم يوم القيامة ولا قيمة 3/ 373- 374 اقتراب القيامة للحساب، والناس في غفلة. وقد كانوا يأتيهم القرآن، فيستمعون له وهم يلعبون، وقلوبهم لاهية 3/ 470- 471 يقضي الله ويفصل بين المؤمنين، واليهود، والصابئين، والنصارى، والمجوس، والمشركين، فيدخل المؤمنين الجنة، والكافرين، وأشباههم النار 3/ 525- 526 تنقطع الأنساب يوم القيامة ولا يسأل بعضهم بعضا من ثقلت موزوناته وأعماله فهو الفائز من خفت موزوناته وأعماله فهو الخاسر 3/ 591- 596 يوم القيامة كألف سنة مما يعد الناس في الدنيا 3/ 547 في يوم القيامة: يحشر الله من كل أمة جماعة، وهو حشر العذاب بعد الحشر الكلي لجميع الناس 4/ 177- 179 تقريرهم: أنهم كذبوا وظلموا 4/ 177- 179 ينفخ في الصور فيخاف ويجيب ويسرع كل من في السماوات والأرض 4/ 177- 179 الجبال تسير سيرا حثيثا كسير السحاب 4/ 177- 179 يوم القيامة تفتت الجبال فتصبح كالغبار المتفرق 4/ 177- 179 مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا، وَمَنْ جاء بالسيئة فكبّت وجوههم في النار 4/ 177- 179 يوم القيامة يصنف الناس أصنافا ثلاثة: أصحاب الميمنة (إلى الجنة) ، أصحاب المشأمة (إلى النار) السابقون السابقون وهم المقربون (في جنات النعيم) 4/ 177- 179 في يوم القيامة يتفرق الناس، أَهْلَ الْجَنَّةِ يَصِيرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ يصيرون إلى النار 4/ 264 يوم القيامة لا ينفع الذين ظلموا اعتذارهم ولا يدعون إلى إزالة عتبهم 4/ 267 يوم القيامة هو يوم الفتح 4/ 298

من أحوال القيامة:

يوم القيامة لا ينفع الكفار إيمانهم، ولا يمهلون 4/ 298 سؤال المشركين عن قيام الساعة، وإخبارهم أنه ميعاد مضروب لا يتأخرون عنه ولا يتقدمون 4/ 376 دعاء الكفار بالويل على أنفسهم، لما عاينوه هو يوم الفصل (الحكم والقضاء) يحشر الظالمون المشركون وأزواجهم 4/ 448 خروج الناس من قبورهم للحساب وبروزهم بلا ساتر الملك يومئذ لله خالصا بلا منازع العدل الإلهي التام ونفي الظلم 4/ 556 جمع أعداء الله إلى النار، حيث يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا عند ما يصلون إلى النار تشهد عليهم حواسهم بما كانوا يعملون من معاصي. عتابهم لجلودهم، ورد الجلود: بأن الله أنطقها 4/ 586- 587 هو يوم الفصل بين الحق والباطل وهو ميقاتهم أجمعين يوم لا ينفع قريب قريبا ولا يدفع عنه شيئا 4/ 661 في يوم القيامة كل أمة مجتمعة متميزة عن غيرها، وتدعى إلى كتابها المنزل عليها. هو يوم الجزاء حيث يقرأ الناس صحف أعمالهم الناطقة بالحق 5/ 12- 13 من أحوال القيامة: نداء إسرافيل (وهو الصيحة) الخروج من القبور بعد تشقق القبور مسرعين مجيبين المنادي 5/ 95- 97 القسم بجبل الطور والكتاب المسطور، والبيت المعمور، والسماء، والبحر المسجور: أن عذاب الله واقع لا محالة 5/ 114- 115 تتحرك السماء، وتزول الجبال عن أماكنها، وتسير عن مواضعها 5/ 116- 117 الداعي يدعوهم يوم القيامة إلى أمر فظيع 5/ 146- 147 خروجهم من القبور خاشعين أذلاء مسرعين 5/ 146- 147 اعتراف الكفار بأنه يوم عسير 5/ 146- 147 علامات يوم القيامة 2/ 207- 208 انشقاق السماء يوم القيامة ونزول الملائكة لا يسأل الإنس والجن عن ذنوبهم بل يعرفون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام إلى النار 5/ 165- 166

الواقعة (القيامة) كائنة لا محالة وهي (واقعة) لقرب وقوعها لا يكون تكذيب عند وقوعها تخفض أقواما في عذاب الله وترفع أقواما في طاعة الله 5/ 176- 177 يوم القيامة هو يوم التغابن ويوم الجمع 5/ 282- 283 تساؤل الكفار عن وقت يوم القيامة اسوداد وجوههم لما رأوه، وتوبيخهم على إنكاره 5/ 315- 316 انكشاف الساق وظهور شدة الأمر سجود الخلق كلهم وعدم استطاعة الكفار والمنافقين ذلك وهم أذلاء صاغرون 5/ 328- 331 من أسماء يوم القيامة: الحاقة معنى الحاقة من أسماء يوم القيامة القارعة 5/ 333- 334 وقوع يوم القيامة النفخة الأولى في الصور دك الأرض والجبال وانشقاق السماء نزول الملائكة، وحملة العرش يومئذ ثمانية عرض البشر للحساب ظاهرين بأعمالهم 5/ 336- 338 السؤال عن العذاب الواقع في يوم القيامة ولا يدفع العذاب الواقع فيه أحد تعرج الملائكة فيه إلى الله مقداره خمسون ألف سنة 5/ 344- 345 يوم القيامة تكون السماء كالنحاس المذاب، والجبال كالصوف المصبوغ، شدة أهواله، واهتمام كلّ إنسان بشأنه ولا يسأل أحد نصرته 5/ 346- 349 خروج الناس يوم القيامة من الأجداث مسرعين أبصار الكفار لا ترتفع، وتغشاهم ذلة شديدة 5/ 353- 354 يوم القيامة تهتز الأرض والجبال وتصبح رملا سائلا تشيب رؤوس الأطفال من هوله وشدته وتنفطر السماء وتتشقق من عظمته وشدة أهواله 5/ 382- 383 النفخ في الصور يوم القيامة وهو يوم هائل وعسير يلقى الناس فيه عاقبة أمرهم 5/ 390- 391 القسم بيوم القيامة السؤال عن يوم القيامة سؤال استبعاد

عند وقوع الموت بعد النفخة الأولى وذهب ضوء الشمس والقمر يعلم الإنسان أن لا مفر من الله 5/ 402- 405 يوم القيامة تنظر وجوه المؤمنين إلى ربها الكفار محرومون من هذا النظر ووجوههم كالحة متغيرة 5/ 406- 409 القسم بالرياح أو بالملائكة على وقوع يوم القيامة من علامات يوم القيامة ذهاب ضوء النجوم، واقتلاع الجبال، وجعل وقت للفصل والقضاء بين الرسل وبين أممهم 5/ 406- 409 يوم الفصل، والهلاك فيه للمكذبين 5/ 431- 432 يوم القيامة هو يوم الفصل، هو مجمع وميعاد الأولين والآخرين النفخة الأولى تسبق البعث، وإتيان الناس زمرا زمرا انفتاح السماء لنزول الملائكة تفصيل أحكام يوم الفصل ونتائجه 5/ 439- 444 يوم القيامة هو اليوم الحق والعمل الخير يقرب من الله والعمل الشرير يبعد عنه العذاب في الآخرة قريب كل إنسان يُشَاهَدُ مَا قَدَّمَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ الكافر يتمنى أن يصبح ترابا لما يشاهده من العذاب 5/ 446- 447 يتقدم يوم القيامة ويسبقه نفخة الصور الأولى وهي الراجفة، ثم نفخة الصور الثانية وهي الرادفة القلوب خائفة وجلة، والأبصار ذليلة خاضعة 5/ 451- 452 تجيء قبل يوم القيامة مباشرة الدَّاهِيَةُ الْعُظْمَى الَّتِي تَطِمُّ عَلَى سَائِرِ الطَّامَّاتِ، وهي النفخة الثانية في الصور 5/ 457- 460 يتذكر الإنسان ما فيه ما عمل 5/ 457- 460 إبراز جهنم للطغاة، وهي مأواهم، والجنة مأوى من خاف مقام ربه 5/ 457- 460 يوم القيامة ينسف الله الجبال حتى تصبح أرضا مستوية تخشع الأصوات لله فلا تسمع إلا صوتا خفيا الشفاعة لا تنفع يوم القيامة إلا لمن أذن الله له بها 3/ 458- 460 يسبق يوم القيامة الصيحة الشديدة التي تصم الآذان انشغال كلّ إنسان بنفسه وفراره من أهله وأقاربه وجوه المؤمنين مشرقة مضيئة ووجوه الكفار سوداء كالحة 5/ 466- 468

يوم القيامة تَجْمَعُ الشَّمْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تُلَفُّ فيرمى بها تتهافت النجوم وتتناثر، وتقتلع الجبال، والنوق الحاملة في شهرها العاشر تركت هملا من غير راع 5/ 469- 470 يوم القيامة تجمع الدواب المتوحشة للقصاص سجر البحار وتزويج النفوس الصالحة في الجنة سؤال الموءودة عن الذنب الذي فعلته حتى قتلت دفنا بالتراب حية نشر الصحف يوم القيامة ومعرفة كل إنسان مصيره إلى الجنة أو إلى النار 5/ 470- 475 انشقاق السماء، وتساقط الكواكب، وتفجير البحار، وإخراج القبور ما في بطونها علم كل نفس بما قدمت وأخرت من عمل 5/ 478- 481 انشقاق السماء طاعة لله وحق عليها أن تطيع تبسط الأرض كما يبسط الأديم يوم القيامة ويخرج ما فيها من الأموات 5/ 491- 492 القسم بيوم القيامة وأنه موعود والشاهد والمشهود فيه 5/ 499 و 503- 504 من أسماء يوم القيامة الغاشية وجوه الكفار فيه ذليلة خاضعة عاملة عملا شاقا متعبا، تصلى نارا حامية، وتسقى من ماء متناه في الحر، وطعامهم الشوك الذي لا يسمن ولا يفيد من جوع 5/ 520- 521 يوم القيامة تدق الأرض وتكسر يجيء أمر الله وقضاؤه نزول الملائكة وحضورهم صفوفا الإتيان بجهنم، وتذكر الإنسان واتعاظه وندمه 5/ 535- 540 يوم القيامة هو يوم الجزاء والحساب تفخيم شأنه الأمر والحكم فيه لله ولا يملك شيئا من الأمر غيره 5/ 480- 481 قيام الناس جميعا للحساب والجزاء في يوم القيامة 5/ 483- 484 تحرّك الأرض واضطرابها عند قيام الساعة وإخراجها ما في جوفها من الأموات تعجب الإنسان مما جرى لها الله تعالى أوحى لها خروج الناس متفرقين وانقسامهم حسب أعمالهم 5/ 582- 585

4 - الحشر:

نثر ما في القبور يوم القيامة تمييز ما في الصدور من خير وشر 5/ 589- 590 من أسماء يوم القيامة القارعة يومها يكون الناس كالفراش المنتشر من ثقلت موازينه فمصيره إلى الجنة من رجحت سيئاته وخفت حسناته فمصيره إلى النار 5/ 592- 594 4- الحشر: يجمع الله جميع الناس فلا يترك منهم أحدا يعرض الناس جميعا مصفوفين حفاة، عراة، غرلا توضع الكتب في أيدي أصحابها كل كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها 3/ 348- 349 يقع الإحياء والبعث من القبور بصيحة واحدة، وهي النفخة الثانية في الصور الناس بعدها يخرجون إلى ظهر الأرض 5/ 452- 453 و 456 التساؤل عن البعث والاختلاف فيه اختلاف الكفار في كيفية البعث سيعلم الكفار الحقيقة عند البعث 5/ 437- 439 يكون الحشر بعد نفخة الصور الثانية يحشر الله المجرمين عميا ويسألون بعضهم بصوت منخفض كم لبثتم في قبوركم؟ أفضلهم قولا يقول: ما لبثتم إلا يوما واحدا 3/ 457- 458 5- الآخرة: من أراد بعمله الآخرة وسعى لها فهؤلاء نتيجتهم الفلاح والجنة والقبول 3/ 260- 262 6- اليوم الآخر: التخويف للكفار من اليوم الآخر 2/ 135 مجيء الناس فرادى يوم القيامة 2/ 161- 162 الوزن والموازين ووزن صحائف الأعمال 2/ 217 الوزن الحق والعدل فيه- وزن الصحائف 2/ 216

7 - متفرقات:

الوزن والميزان للصحائف والحسنات 2/ 220- 221 إخراج الموتى من قبورهم أحياء كإخراج الثمرات من الأرض بعد المطر 2/ 244- 246 من عمل صالحا وهو يرجو ثواب الله يوم القيامة فليكن موحدا حتى يجد ثمرة ذلك 3/ 378- 379 الدعوة إلى الخوف من اليوم الآخر حيث لا يغني الوالد عن ولده ولا المولود عن والده 4/ 282 النفخ في الصور يسبق يوم الحساب وهو اليوم الموعود كل نفس تأتي للحساب معها سائق يسوقها وشاهد يشهد لها أو عليها أقوال السلف في الشاهد والسائق كشف الغطاء عن المشركين ليروا أعمالهم وصحفهم 5/ 90- 91 في اليوم الآخر الحساب والثواب والعقاب كائن لا محالة 5/ 99 7- متفرقات: الموت: كُلُّ نَفْسٍ مِنَ النُّفُوسِ وَاجِدَةٌ مَرَارَةَ الْمَوْتِ 2/ 242 نزول شدته وغمرته خوف الإنسان وفراره منه 5/ 89- 90 لا شماتة فيه، كل البشر كتب عليهم الموت، حتى الرسل 3/ 481 الأجل: معناه الموت ويوم القيامة 2/ 113 الأجل محدد، والعمر لا يطول ولا ينقص 2/ 232- 233 القبر: سؤال الميت في قبره يثبت الله الذين آمنوا عند سؤالهم في قبورهم 3/ 130 ثبوت عذاب القبر- الحياة البرزخية 1/ 184- 185 الدخان: من أشراط الساعة شموله وإحاطته بالناس، ودعاؤهم لكشفه، فهو عذاب أليم 4/ 454- 456 الصور: النفخ فيه النفخة الأولى والثانية 4/ 545 نفخ إسرافيل فيه النفخة الأولى النفخة الثانية التي تبعث الخلق من أجداثهم 4/ 428- 429

الجنة

الجنّة 1- صفاتها. 2- مكانتها. 3- موجوداتها. 4- سكانها السابقون. 5- سكانها الأتقياء. 6- أصحاب الجنة. 7- أصحاب اليمين. 8- المخلصون. 9- أهل الأعراف. 10- الخائفون.

1 - صفاتها:

1- صفاتها: ثمار الجنة وأنهارها 1/ 65- 66 تقريبها يوم القيامة إلى المتقين 5/ 471 الجنة في الآخرة هي أفضل وأدوم من الحياة الدنيا، وثبوت هذا في صحف إبراهيم وموسى 5/ 517- 518 من تمام نعيمها حديث أهلها بعضهم مع بعض وسؤالهم عن أحوالهم اطلاع أهلها على أهل النار خلود أهل الجنة في الجنة 4/ 454- 455 الترغيب بها، وأنها دار السلام، والله يدعو إليها يهدي الله إليها من يشاء في الجنة للذين أحسنوا الحسنى وزيادة 2/ 498- 499 2- مكانتها: الجنة عالية، ولا يسمع فيها كلام باطل 5/ 522- 523 الجنة مرتفعة المكان. وثمارها قريبة 5/ 339- 340 وعد الله بالجنة عباده ممن تاب وآمن وعمل صالحا لا يظلمون فيها لا يسمعون فيها كلاما فارغا وإنما سلام بعضهم لبعض 3/ 403 خروج بعض العصاة من النار إلى الجنة، والكفار لا يخرجون من النار 2/ 45- 46 لا حزن في الجنة مطلقا، وهي دار الإقامة الأبدية 4/ 402- 403 عرض الجنة كعرض السماوات والأرض وقد أعدّها الله وهيّأها للمؤمنين 5/ 210 3- موجودات الجنة: محاسن الجنة، وبيان ما فيها 5/ 41- 42 فيها أنهار من ماء لم تتغير رائحته ولم يفسد 5/ 41- 42 وأنهار الجنة من لبن لم يحمض، وأنهار من خمر لذيذ طيب، وأنهار من عسل 5/ 41- 42 فيها عين جارية، وأكواب موضوعة بين أيدي أهلها، ووسائد مصفوف بعضها إلى بعض، وطنافس كثيرة 5/ 525 الإنسان الذي يخاف موقف ربه للحساب جنتان: جنة عدن، وجنة النعيم ذواتا أغصان، فيهما عينان تجريان

4 - سكانها السابقون:

وفيهما من كل فاكهة نوعان اتكاء أهلهما على فرش بطائنها الحرير 5/ 168- 169 يطاف على أهلها بقصاع من ذهب وأكواب فيها ما تشتهيه الأنفس وتلتذ به الأعين عند رؤيته 5/ 168- 169 الخلود فيها والفاكهة الكثيرة 4/ 645- 646 في الجنات خيرات حسان كأنهن الياقوت والمرجان حور محبوسات في الخيام- والحوراء شديدة البياض والسواد في العين في آن واحد- لم يطأهن، ولم يغشهن الإنس والجان متكئين على بسط خضراء وزرابي وطنافس موشاة من دون تينك الجنتين الموصوفتين سابقا جنتان أخريان فيهما فواكه متنوعة، وفيهما عينان تجريان خضراوتان تميلان إلى السواد من شدة الاخضرار فيهما عينان تفوران بالماء 5/ 170- 175 4- سكانها السابقون: السابقون في الإيمان والعمل جماعة من الأولين (من الأمم السابقة) وقليل من الآخرين (مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هم في الجنة على سرر منسوجة ويطوف على خدمتهم غلمان لا يهرمون أبدا ويطوفون عليهم بأباريق وكأس من خمر جار لا يتفرقون عنها ولا يسكرون متكئين ومتقابلين 5/ 170- 175 ولهم فيها فاكهة كثيرة وحور عين 5/ 179- 180 السابقون جزاؤهم الجنة بأعمالهم وكسبهم لا يسمعون في الجنة لغوا، ولا يؤثم بعضهم بعضا، بل يقال: سلاما سلاما 5/ 180- 182 السابقون لهم الراحة في الدنيا والاستراحة من أحوالها بعد الموت 5/ 194- 197 5- سكانها الأتقياء: الأتقياء لهم مع الذكر الجميل في الدنيا حسن المرجع في الآخرة 4/ 503 للأتقياء جنات خالدة، أبوابها مفتحة وفواكه كثيرة عندهم في الجنة نساء متحدات في السن لا تنظر إحداهن لغير زوجها 4/ 503 المتقون هم أهل الجنة

6 - أصحاب الجنة:

يدخلونها بسلام آمنين ينزع الله من صدورهم العداوة والحقد 3/ 161 للمتقين الفوز والظفر وجنات فيها بساتين وكروم أعناب ولهم في الجنة نساء كواعب وكأس ممتلئة ومتتابعة لا يسمعون فيها كلاما باطلا، ولا يكذب بعضهم بعضا الجنة جزاؤهم عطاء من الله 5/ 445- 446 و 448 تقريب الجنة للمتقين وتزيينها في قلوبهم أعد الله الجنة لكل رجاع إلى الله بالتوبة الخلود في الجنة وما تشتهيه النفوس 5/ 92- 94 6- أصحاب الجنة: خلودهم من نعم الله عليهم: نزع ما في قلوبهم من الحقد، وعدم الحسد ورثوا الجنة بأعمالهم 2/ 234- 235 ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، ويقرّعونهم 2/ 236 أهل الجنة هم أصحاب الميمنة كانوا في الدنيا يتواصون بالصبر والرحمة فيما بينهم 5/ 542 أصحاب الجنة لا يلحق وجوههم غبار وهم فيها خالدون 2/ 499 أصحابها خير منزلا وأفضل مقيلا (موضع القيلولة) 2/ 82- 83 في الجنة النساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن لم يطأهن ولم يغشهن إنس ولا جان قبل أزواجهن في الجنة يشبهن في الصفاء الياقوت والمرجان جزاء من أحسن في الدنيا الإحسان له في الآخرة 5/ 169- 170 7- أصحاب اليمين: أهل الجنة هم أهل اليمين في جنات ونعيم، ويتساءلون عن مصير الكفار 5/ 399- 401 أصحاب اليمين لهم في الجنة فرش مرفوع بعضها فوق بعض، ونساء أنشأهن الله خلقا جديدا آخر فجعلهن متحببات إلى أزواجهن وهن أزواج أمثال وأشكال

8 - المخلصون:

وهم جماعة من الأولين (الأمم السابقة) وجماعة من الآخرين (أمة محمد صلّى الله عليه وسلم) 5/ 183- 184 تفخيم وتعظيم أصحاب اليمين. هم في الجنة في سدر لا شوك له وطلح متراكب، وظلّ دائم باق، وماء منصب يجري دائما، وفاكهة كثيرة لا تنقطع في وقت، ولا تمتنع على طالبها 5/ 183- 184 8- المخلصون: المخلصون في عبادتهم وطاعتهم لهم الجنة يكرمون فيها ويرزقون، وهم على الأسرة متقابلين وجها لوجه، ويطاف عليهم في الجنة بكأس من خمر الجنة لا تغتال عقولهم ولا يسكرون، وعندهم الحور العين 4/ 450- 451 9- أهل الأعراف: حوار أهل الأعراف مع أهل النار نداؤهم لرجال يعرفونهم بسيماهم 2/ 237 يعرفون الناس بسيماهم 2/ 238 الأعراف سور بين الجنة والنار هو الشيء المشرف الأعراف جبال بين الجنة والنار من هم أهل الأعراف؟ 2/ 238- 239 معنى الأعراف اختلاف العلماء في أصحاب الأعراف من هم 2/ 236- 237 نداؤهم لأصحاب الجنة وطمعهم في دخول الجنة صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار دعاؤهم أن لا يجعلهم الله مع القوم الظالمين 2/ 237 10- الخائفون: الجنة مأوى الخائفين لمقام ربهم يوم القيامة 5/ 459 لست ترى في أصحاب اليمين إلا السلامة التي تحب 5/ 195- 197 يمدّ الله المؤمنين في الجنة، ويزيدهم من الفواكه واللحم مما تشتهيه أنفسهم 5/ 117- 119

يطوف على أهل الجنة غلمان كاللؤلؤ المستور بالصدف في الحسن والبهاء 5/ 117- 118 يتعاطى المؤمنون في الجنة خمرا، شرابا، لا باطل فيها، ولا إثم كما هو في خمر الدنيا 5/ 117- 118 يضرب حجاب بين الجنة والنار، وله باب، باطنه من جهة الجنة، وفيه النعيم والرحمة، وظاهره من جهة النار، وفيه العذاب 5/ 204- 206

النار

النار 1- أسماء النار. 2- التحذير منها. 3- موجودات النار. 4- أحوال أهل النار. 5- العذاب. 6- الفاسقون. 7- الطّغاة المكذبون. 8- أصحاب الشمال.

1 - أسماء النار:

1- أسماء النار: من أسمائها: الحطمة 5/ 602- 603 من أسمائها: لظى 5/ 347- 348 هي سقر لَا تُبْقِي لَهُمْ لَحْمًا وَلَا تَذْرُ لَهُمْ عظما 5/ 393- 394 ذات لهب 5/ 627 2- التحذير منها: هي مأوى الطغاة والمتجاوزين لحدود الله 5/ 459 هي حامية، وفيها عين متناهية في الحر وطعام أهلها الشوك 5/ 521- 522 النار مغيرة لأهلها ومسودة لوجوههم وأبدانهم 5/ 393- 394 خزنة النار من الملائكة تسعة عشر 5/ 393- 394 تبري اللحم والجلد عن العظم 5/ 347- 348 تدعو وتهلك من أدبر عن الحق وجمع المال 5/ 347- 348 النار موقدة بأمر الله ويخلص حرّها إلى القلوب 5/ 602- 603 إطباقها وإغلاقها وأهلها موثقون في عمد ممدودة 5/ 602- 603 جهنم للكفار محبس ومرصاد، ومرجع يرجعون إليه ماكثين فيها ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع لا يذوق أهل النار فيها إلا ماء حارا وصديدا جزاء لأعمالهم إذ كانوا لا يؤمنون بالآخرة 5/ 442- 444 رؤية النار في الآخرة عيانا ومشاهدة 5/ 596- 597 الخلود فيها، ومعنى: ما دامت السماوات والأرض 2/ 595- 598 إيقادها لأعداء الله إيقادا شديدا 5/ 471 التحذير من النار لأنها تتوقد وتتوهج 5/ 552- 554 لا يدخل النار إلا الشقي الذي كذب بالحق وأعرض عنه، ويجنبها الكامل في التقوى 5/ 252- 554 امتلاؤها وسعتها واستزادتها 5/ 92 3- موجودات النار: وقود النار الناس والحجارة 5/ 302

4 - أحوال أهل النار:

على النار خزنة من الملائكة الغلاظ الشداد الذين لا يعصون ربهم، ويفعلون ما يؤمرون 5/ 302 طعام النار شر الطعام من ضريع شراب أهل النار من غسلين وهو صديد أهلها 5/ 341 في جهنم النار تتوقد وفيها الأغلال: والطعام الذي لا يسوغ في الحلق، والعذاب 5/ 381- 382 للنار سبعة أبواب، ولكل باب قدر معلوم من الناس يدخلون منه 3/ 159- 160 في النار شجرة الزقوم التي جعلها الله امتحانا للكافرين الذين كفروا بوجودها، تنبت في قعر جهنم وثمرها مثل رؤوس الشياطين يأكل أهل النار، من شجرة الزقوم ويملؤون بطونهم 4/ 456- 457 طعام الأثيم الكثير الإثم كالزيت المغلي يغلي كغلي الحميم 4/ 662 الشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقوم 3/ 286- 288 الأثيم طعام من شجرة الزقوم 4/ 662- 663 جره من حقّ عليه العذاب إلى وسط جهنم وصب الماء الشديد الحرارة فوق رأسه، والتهكم منه: بأنه في جهنم عزيز وكريم 4/ 662- 663 4- أحوال أهل النار: أهل النار في العذاب الأليم الدائم، ويسقون الماء المغلي الذي يقطع أمعاءهم 5/ 42 الذين كسبوا السيئات يجازيهم الله بسيئاتهم، ويغشاهم هوان، ولا عاصم لهم، ووجوههم مظلمة، وخالدون في النار 2/ 499 النار معدة للكفار 5/ 310- 311 وإذا طرحوا فيها سمعوا لها أصواتا منكرة وهي تغلي 5/ 310- 311 وتكاد تنقطع من تغيظها على الكفار 5/ 310- 311 سؤال الخزنة لهم واعترافهم بذنوبهم، فبعدا لهم 5/ 310 و 311 أهل النار يتخاصمون والضعفاء يتحاجّون مع الكبراء مخاطبتهم لخزنة جهنم 5/ 567- 568 تخاصم أهل النار من أتباع وأسياد 4/ 508 يقال للكفار هذه جهنم، وقد أخذت الملائكة بنواصيهم وأقدامهم ويحترقون في جهنم ويصب الماء الحار على وجوههم 5/ 166- 167 أهل النار هم أصحاب الشمال وقد كفروا بآيات الله، عليهم نار مطبقة مغلقة 5/ 542

5 - العذاب:

الكافرون في سقر، ويعترفون بأعمالهم التي أدخلتهم النار وأهمها ترك الصلاة، ولا تنفعهم الشفاعة، ولا يخرجون من النار 2/ 399- 401 ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة طالبين مواساتهم بالماء والطعام 2/ 239 الجنة حرام على الكافرين 2/ 241 5- العذاب: قد يكون العذاب رجزا ينزل من السماء 3/ 233 لو يؤاخذ الله الناس بذنوبهم ما ترك على الأرض من كافر ومن رحمة الله تأجيل العذاب ليوم القيامة 3/ 207- 209 يأتي عذاب الله والناس في نومهم وغفلتهم، واستعجال الكفار للعذاب، ولهم عذاب الخلد بكفرهم وعنادهم 2/ 513- 514 يعذب الله الظلمة والمستكبرين وهم: عاد، وثمود، قارون، وفرعون، وهامان 4/ 234 أخذ الله الظالمين والمستكبرين وأهلكهم بالغرق، أو الصيحة، أو الخسف 4/ 234 6- الفاسقون: منزلهم النار كلما أرادوا الخروج أعيدوا فيها تقول خزنة جهنم للفاسقين- إغاظة لهم- ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ 4/ 293- 294 تأكيد تعذيبهم بمصائب الدنيا وبعذاب الآخرة انتقاما منهم 4/ 293- 294 7- الطغاة المكذبون: لهم شر منقلب، ويدخلون جهنم، ويحترقون فيها وما يذوقون فيها من ماء حار وقيح صديد، ولهم عذاب آخر أجناس وأنواع 4/ 505- 506 8- أصحاب الشمال: هم المكذبون بالبعث الضالون عن الحق، ونزلهم في الآخرة: الماء المغلي الحار، وتحريق في جهنم 5/ 195- 197 هم في النار في ريح حارة وظل من دخان أسود حار، لا كغيره من الظلال، فهو لا بارد ولا كريم كانوا في الدنيا منعمين وكان يصرون على الإثم العظيم

إنكارهم البعث هم وآباؤهم الأقدمون 5/ 184- 187 الأولون والآخرون من أصحاب الشمال مجموعون يوم القيامة للحساب 5/ 185- 187 الضالون عن الحق، والمكذبون للرسل الجميع يأكلون من شجر الزقوم، وهو كريه الشكل والطعم، فيملئون منه البطون من شدة الجوع، ثم يشربون عليه كشرب الإبل العطاش التي لا ترتوي، هذا نزلهم يوم الجزاء 5/ 185- 187

الملائكة

الملائكة 1- صفات الملائكة. 2- أعمال الملائكة. أ- حفظ أعمال الإنسان. ب- حمل العرش. ج- نسخ الكتب. د- قسمة الأمور. هـ- نزع الأرواح. 3- رؤساء الملائكة. 4- خزنة جهنم. 5- الملائكة في اعتقاد الكفار.

1 - صفات الملائكة:

1- صفات الملائكة: معنى الملائكة لغة 1/ 74 هم جنود الله في السماوات والأرض 5/ 54 هي المرسلات، يعصفون بالرياح وينشرونها نشرا، ويأتون بِمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ، ويلقون الوحي إلى الأنبياء للإعذار والإنذار 5/ 429- 433 هي الصافات، والزاجرات، والتاليات ذكرا 4/ 443 تفضيل الله لهم على جميع الخلق 2/ 222 هم كرام وأتقياء ومطيعون لربهم 5/ 464 2- أعمال الملائكة: أ- حفظ عمل الإنسان: الحفظة يكتبون أعمال الناس 4/ 648 الحفظة الذي يكتبون عمل بني آدم 5/ 480 الحفظة يحفظون على الإنسان عمله 5/ 508 ب- حمل العرش: يحيطون بالعرش ويحدقون به وهم يسبحون ويحمدون 4/ 549 حملة العرش ودعاؤهم للمؤمنين التائبين بالمغفرة ودخول الجنة والوقاية من السيئات 4/ 553 ج- نسخ الكتب وتسبيح الله: استنساخهم أعمال بني آدم 5/ 15 نسخهم الكتب من اللوح المحفوظ 5/ 464 تسبيحهم بحمد ربهم واستغفارهم لمن في الأرض 4/ 603 د- قسمة الأمور وإطاعة أمر الله: من وظائف الملائكة: قسمة الأمور 5/ 98 هم عباد الله مكرمون، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى 3/ 482 لا يتكبرون عن عبادة الله ولا يعيون وهم في تسبيح دائم 3/ 477 يسبقون بالوحي إلى الأنبياء، ويدبرون ما أمروا بتدبيره 5/ 456 هـ- نزع الأرواح: الملائكة تنزع أرواح العباد

3 - رؤساء الملائكة:

تنشط النفوس وتخرجها من الأجساد تسبح في الأبدان لإخراج الروح 5/ 450- 456 3- رؤساء الملائكة: جبريل روح القدس 1/ 129- 130 جبريل وميكائيل منزلتهما وفضلهما 1/ 137 لا يتنزلون ومنهم جبريل إلا بأمر الله 3/ 406 اصطفاء الرسل من الملائكة كجبريل وإسرافيل 3/ 558 يقوم جبريل يوم القيامة والملائكة صفوف وهم لا يتكلمون 5/ 446- 448 ملك الموت وأعوانه وسؤال الكفار عن ضلالهم 2/ 231 يتوفى ملك الموت الناس بأمر الله، ثم إلى الله مرجعهم للحساب 4/ 289 4- خزنة جهنم: زبانية جهنم غلاظ شداد 5/ 572- 573 خزنة جهنم من الملائكة وعدتهم تسعة عشر جعل الله عددهم اختبارا وابتلاء، ويزداد أهل الكتاب والمؤمنون إيمانا 5/ 396- 397 استغراب الكفار والمنافقين لهذا العدد 5/ 398 خزنة جهنم تؤمر بجر الأثيم إلى وسط جهنم ويصبّ الماء الشديد الحرارة فوق رأسه، وقولهم له تهكما: أنت العزيز الكريم 4/ 662- 663 5- الملائكة في اعتقاد الكفار: الملائكة بنات الله، فرد الله عليهم بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول ولا يعصون أوامره 3/ 478 المشركون يسمون الملائكة بنات الله 5/ 134 توبيخ المشركين وتقريعهم على جعلهم الملائكة بنات الله 4/ 629- 630 الملائكة عباد الرحمن 4/ 629- 630 لو أراد الله لأهلك الكافرين وجعل مكانهم ملائكة في الأرض 4/ 643

الإنسان

الإنسان 1- خلق الإنسان. 2- دعاء الإنسان. 3- نعم الله على الإنسان، وموقفه من النّعم. 4- تكريم الله للإنسان. 5- دعوة الإنسان للتدبّر والتفكر. 6- الإنسان البارّ. 7- الإنسان العاق. 8- الإنسان الكافر. 9- النفس. 10- الناس. 11- الشعراء. 12- الصحابة.

1 - خلق الإنسان:

1- خلق الإنسان: خلق الله الإنسان من طين، ثم جعله نطفة في الرحم، وأحال النطفة إلى علقة، ثم خلق العلقة قطعة لحم غير مخلقة، ثم تصلبت بقدرة الله عظما، ثم كسا الله العظم لحما، وأنشأه إنسانا فيه الروح والحواس، ثم الموت والبعث 3/ 566- 569 خلق الله الإنسان من نطفة ضعيفة مهينة، فإذا هو خصيم شديد الخصومة، وضرب الإنسان الكافر مثلا لاستبعاد البعث وإنكاره بالعظم البالي كيف يعود من جديد وقد صار ترابا؟! 4/ 439- 440 خلق الله له في أحد أطواره من علق خلق آدم من طين يابس كالفخار 5/ 161- 162 خلق الله الإنسان مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قوة ثم ضعفا (أطوارا) 4/ 267 خلقه حريصا وجزعا 5/ 349- 350 خلقه من بني مدفوق مصبوب، وخروج المني من صلب الرجل ومن ترائب المرأة 5/ 508- 511 خلقكم ابتداء مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أَخْرَجَهَا مِنْ ظهر آدم، ثم جعلكم أزواجا ذكورا وإناثا 4/ 392 كان قطرة من مني تراق في الرحم خلقه الله وسواه ونفخ فيه الروح وجعل منه ذكرا وأنثى الرب الخالق لهذا الإنسان قادر على إحياء الموتى للحساب والجزاء 5/ 411- 412 خلقه في استواء واعتدال، ورده بعد الهرم إلى أرذل العمر أو النار 5/ 567- 568 الامتنان بخلقه وتعليمه البيان الذي يكون به التفاهم 5/ 158 القسم بالشفق والليل إذا اجتمع والقمر إذا تكامل ليركبنّ الإنسان حالا بعد حال، نطفة، ثم علقة، ثم مضغة 5/ 495- 497 بنيته وخلقته من العجلة 3/ 483 من الناس من يعمّر حتى يصل إلى أرذل العمر 3/ 517- 518 2- دعاء الإنسان: لجوء الإنسان إلى الله بالدعاء إذا مسه الضر وإعراضه إذا انكشف عنه هذه الحال تشمل أهل الإيمان وأهل الكفر 2/ 487- 491

3 - نعم الله على الإنسان، وموقفه من النعم:

لا يمل الإنسان من دعاء الخير وإن أصابه الشر فيؤوس قنوط الكافر لا يؤمن بالساعة إن أذاقه الله رحمة بعد شر نسبه إلى نفسه 4/ 598 دعاؤه في حالة الضر وإعراضه في حالة اليسر بسبب كفره 3/ 291 دعاؤه عند المصيبة والضرر، وإذا أعطاه الله نعمة امتحانا له ادعاها لنفسه، ولعلمه، ولقوته. وقد قالها إبليس من قبل 4/ 537- 538 يدعو ربه مستغيثا، راجعا إليه في حالة الضرر والمرض، وينسى ربه في حالة الرخاء، وربما جاوز ذلك إلى الشرك 4/ 519 بعده عن الله في حالة النعمة ويأسه وقنوطه إذا مسه الشر كلّ إنسان يعمل على ما يشاكله أخلاقه 3/ 303 الإعراض عن النعمة، واللجوء والدعاء عند المصيبة 4/ 599 3- نعم الله على الإنسان، وموقفه من النعم: من نعم الله على الإنسان: السكن في البيوت في المدن، في الخيام وهي بيوت البادية أثاث البيوت ظلال الأشياء الأكنان في الجبال الثياب 3/ 222- 224 مراتب عمر الإنسان أربعة: النشوء- الشباب- الكهولة- الشيخوخة فضل الله بعض الناس على بعض بالرزق جعل الله للناس من أنفسهم أزواجا، وجعل لهم بنين وحفدة 3/ 215- 217 طغيان الإنسان إن رأى نفسه مستغنيا رجوعه إلى الله، وحسابه على طغيانه واستغنائه 5/ 571 جزعه إن أصابه شر، ومنعه إن أصابه خير المصلون الموحدون لا يتصفون بالجزع والهلع 5/ 349- 350 قدره الله على بعثه وإعادته بعد موته 5/ 508- 511 استثناء المؤمنين العاملين من الرد إلى جهنم 5/ 567- 568 جوارحه تشهد عليه بما عمل 5/ 406

4 - 5 - كرمه الخالق ودعاه للتفكر:

إذا أعطاه الله صحة وغنى فرح، وإن يصبه بلاء وشدة بما قدمت يداه من الذنوب فإنه كثير الكفر والجحود 4/ 623 عدم مؤاخذته بجناية غيره، واختصاص المهتدي بهدايته والضالّ بضلاله 3/ 256 ليس للإنسان إلا أجر سعيه وجزاء عمله، وإن هذا العمل سيكشف له ويعرض عليه ويجزاه 5/ 137- 139 يبعث الله جميع أجزاء الإنسان وخص العظام لأنها قالب الخلق 5/ 403- 404 وقدرة الله على تسوية بنانه مع لطافتها وصغرها 5/ 403- 404 يريد الإنسان أن يقدم فجوره فيقدم الذنب ويؤخر التوبة 5/ 403- 404 العذاب لا يكون إلا بعد الإعذار وإقامة الحجة بإرسال الرسل 3/ 256 الإنسان أكثر شيء جدالا ومحاججة 3/ 351 كفر بعض الأفراد بالنعم، وشهوده على جحوده، وحبه الشديد للمال، وعلم الله بأفعاله، وقدرته على حسابه 5/ 588- 591 4- 5- كرّمه الخالق ودعاه للتفكر: قد أتى على الإنسان وقت كان فيه جسدا ترابا لا يذكر خلقه الله من نطفة أخلاط وأراد ابتلاءه فمنحه السمع والبصر بين الله الطريق إلى السعادة والشقاء 5/ 415- 420 كل إنسان مرتهن بعمله 5/ 118 لن يترك الإنسان هملا بلا أمر ولا نهي ولا حساب ولا عقاب 5/ 411- 412 كدحه مع الجهد والسعي الشاق إلى ربه بعمله ليلقى الجزاء العادل 5/ 493- 496 تكريم الإنسان، وخلق الله له ما يحمله في البر والبحر، ورزقه من الطيبات، وفضله على كثير ممن خلق 3/ 292- 293 أمره بالنظر إلى طعامه، وشرابه، وشق الأرض، والزرع، والإنبات فيها من الزروع والحدائق، ليهتدي إلى الله ويعبده وحده 5/ 465- 466 و 468 علمه الخط وما لم يعلم 5/ 570 6- الإنسان البار: إذا بلغ استحكام قوته وعقله في الأربعين من عمره ألهمه الله شكره وأن يعمل صالحا وأن يصلح ذريته. هذا الإنسان ومن هو على شاكلته يتقبل الله أعمالهم ويدخلهم الجنة 5/ 22- 23

7 - الإنسان العاق لوالديه:

7- الإنسان العاق لوالديه: قوله لهما: أف تهكمه بهما: أنه يبعث بعد الموت استغاثتهما، ودعاؤهما له بالإيمان رده عليهما: بأن ما يقولانه أساطير وخرافات هذا وأمثاله وجب عليهم العذاب والخسران 5/ 25 8- الإنسان الكافر: اختبار الله له عند ابتلائه بالإنعام يقول: ربي أكرمني وعند ابتلائه بتضييق الرزق يقول: ربي أهانني وَهَذِهِ صِفَةُ الْكَافِرِ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ 5/ 533- 534 خلقه الله في مكابدة ومشقة 5/ 539- 540 ظنه: أن لا يقدر عليه أحد، وأن الله لا يراه، فينفق المال في غير طاعة الله خلق الله له الحواس، واللسان، والشفتين، وهداه طريق الخير والشر 5/ 539- 540 استحق دخول النار بعمله واختياره، فلا أعتق، ولا أطعم اليتيم القريب، أو المسكين الفقير، ولا آمن 5/ 540- 544 يأسه بعد انتزاع النعمة، وفرحه بالنعم وافتخاره 2/ 551 يوم القيامة لا قوة ولا ناصر له من الله 5/ 510- 511 9- النفس: النفس اللّوامة، القسم بها 5/ 403 النفس المطمئنة المؤمنة أمرها بالرجوع إلى ربها راضية بالثواب مرضية في جنته 5/ 536- 537 كل نفس عليها حافظ من الملائكة 5/ 508 كل نفس مأخوذة بعملها، ومرتهنة به 5/ 399- 401 خلق النفس، تعريفها حالها، وما فيها من الحسن والقبح 5/ 547- 549 فاز من طهر نفسه وخسر من أضلها وأغواها 10- الناس: كانوا أمة واحدة ثم اختلفوا

11 - الشعراء:

القضاء والحكم بين الناس يوم القيامة بدأ الاختلاف حين قتل أحد ابني آدم أخاه 2/ 492- 493 إذا أذاقهم الله رحمة فرحوا بها وإذا أصابتهم شدة بكسبهم وعملهم إذا هم يقنطون 4/ 259- 260 الفرح إنّما يكون بفضل الله الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده 4/ 259- 260 11- الشعراء: يتبعهم ويجاريهم الضالون عن الحق 4/ 140- 143 ويخوضون في كل فن من فنون الكذب، يقولون ما لا يفعلون، ويستثنى من هؤلاء الشعراء المؤمنون الذين ينتصرون ممن ظلمهم 4/ 140- 143 12- الصحابة: هم مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلاظ على الكفار، رحماء بينهم، يطلبون ثواب الله، وتظهر علامتهم في جباههم من السجود 5/ 66- 68 يكونون في الابتداء قلّة ثم يزدادون ويكثرون، الله كثرهم وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين، وعدهم الله بالمغفرة والأجر العظيم 5/ 66- 68

الجن وإبليس والشيطان

الجن وإبليس والشيطان 1- إيمان الجن. 2- خلق الجن. 3- تحدّي الجن. 4- أصل إبليس. 5- رفض إبليس السجود. 6- إغواء بني آدم. 7- طلبه إمهاله ليوم القيامة. 8- تعريف الشيطان. 9- عمل الشيطان.

1 - إيمان الجن:

1- إيمان الجن: حضور وفد من الْجِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستماعهم القرآن، وإيمانهم، وإنذارهم لقومهم 5/ 30- 34 استماع جماعة من الْجِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإيمانهم وتبرؤهم من الشرك بعد سماعهم القرآن، وتسفيه أقوال عصاتهم ومشركيهم 5/ 361- 368 2- خلق الجن وأنواع الجن: خلق جنس الجن من لهب خالص وصاف من نار 5/ 161- 162 منهم المسلمون ومنهم الظالمون الكافرون المسلمون قصدوا طريق الحق والكفار أصبحوا لجهنم حطبا 5/ 369- 371 ازدحامهم على الاستماع مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 5/ 371 الْمُطِيعَ مِنَ الْجِنِّ فِي الْجَنَّةِ وَالْعَاصِي فِي النار 2/ 186 3- تحدي الجن: تحدي الله لهم أن يخرجوا من أقطار السموات والأرض معنى هذا التحدي وهل هو في الآخرة أم في الدنيا الخروج من أقطار السموات والأرض ببينة وعلم العجز التام أمام عذاب الله بما يرسله من لهب ونحاس 5/ 165 استعاذة العرب بالجن فزادوهم سفها وطغيانا طلبهم خبر السماء فوجدوها قد ملئت بالملائكة لحراستها ومنع استراق السمع حراسة السماء بعد بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم 5/ 366- 568 جعل الكفار بين الجن وبين الله نسبا الجن يعلمون أن الكفار يحضرهم الله ويعذبهم 4/ 475 4- أصل إبليس: معنى إبليس وأصله 1/ 79 كان من الجن، وخرج عن طاعة ربه 3/ 349- 350 إبليس أبو الجان خلقه الله من نار السموم 5/ 157

5 - رفض إبليس السجود والرد عليه:

5- رفض إبليس السجود والرد عليه: رفض إبليس السجود لآدم فأخرجه الله من الجنة وجعله من المبعدين، وأن عليه اللعنة إلى يوم الدين 3/ 158 رفض السجود لآدم لأنه خلق من طين توعده بالاستيلاء على ذرية آدم بالإغواء والإضلال 3/ 287 امتناعه عن السجود لأنه أفضل من آدم في رأيه 2/ 208 استكباره عن السجود لآدم علوه بحجة أنه مخلوق من نار طرده من الجنة وإنظاره إلى يوم الحساب إقسامه على إغواء بني آدم التهديد من الله تعالى بملء جهنم به وبمن اتبعه من البشر 4/ 512- 513 6- إغواء بني آدم: طريقته في إغواء بني آدم 2/ 221 7- طلب إبليس إمهاله: طلبه الإمهال إلى يوم القيامة إغواؤه لبني آدم واستثناء عباد الله المخلصين 3/ 158- 159 إمهاله إلى يوم القيامة قسمه أن يغوي بني آدم طريقة إغوائه للناس: يأتيهم من جميع الجهات 2/ 219 أمهله الله إلى يوم القيامة وجزاؤه مع أتباعه جهنم جزاء وافرا مشاركته لأتباعه في أموالهم وأولادهم أما عباد الله المؤمنون فليس لإبليس عليهم من قوة ولا حجة 3/ 289- 290 8- طرد إبليس: طرده من الجنة وجعله من الصاغرين 2/ 218 طرده مذموما مدحورا من الجنة أو السماء، ووعيده بالنار هو ومن تبعه من الناس 2/ 219- 220

9 - تعريف الشيطان:

9- تعريف الشيطان: هو الوسواس الخناس معنى الوسوسة والخنس 5/ 641- 643 وسوسة الشيطان 2/ 221 الشيطان هو الغرور والخدّاع الذي يغر الخلق ويخدعهم عن ربهم 4/ 282 10- عمل الشيطان: خطوات الشيطان 1/ 194 سخريته ممن وعدهم وأخلفهم طلبه منهم أن يلوموا أنفسهم كفره بما أشركوه به في الدنيا 3/ 124- 125 تتنزل الشياطين على كل كذاب كثير الكذب يسترقون السمع وأكثرهم كاذبون 4/ 139 طلب الشيطان من الإنسان أن يكفر ثم تخليه عنه وتبرؤه منه 5/ 244 نهي المؤمنين أن يصدهم الشيطان عن اتباع محمد لأنه عدو ظاهر العداوة 4/ 644 هيأ الله للكفار قرناء من الشياطين يزينون لهم أمور الدنيا وشهواتها 4/ 589 الشيطان يفتن بني آدم يراكم وقبيله من حيث لا ترونهم رؤيته ممكنة أم لا؟ 2/ 225 حفظ الله السماء بالكواكب من استماع كل شيطان متمرد، ورمي الشياطين بالشهب فتدحرهم ولهم في الآخرة عذاب دائم 4/ 444- 445

أهل الكتاب

أهل الكتاب 1- كفر أهل الكتاب. 2- تعنّت وتكبر أهل الكتاب. 3- كتم الحقيقة. 4- عمل أهل الكتاب. 5- تهديد اليهود وتوعّدهم. 6- تجبّر وتكبّر اليهود. 7- موقف اليهود من الرسل والمسلمين. 8- شدّة حقدهم. 9- حبّهم للمال. 10- توعّد الحق لهم. 11- تعريف النصارى. 12- كفر النصارى وادعاؤهم.

1 - كفر أهل الكتاب والرد عليهم:

1- كفر أهل الكتاب والرد عليهم: كفرهم ادعاؤهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ردّ الله عليهم بأنهم بشر مما خلق 2/ 29 إنذارهم لأنهم قالوا: اتخذوا الله ولدا، من غير علم أصلا 3/ 322 غلوهم في عيسى الإفراط والتفريط 1/ 622- 623 إصرارهم على الكفر حتى تأتيهم البينة استمرارهم على الكفر وتفرقهم بعد بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم دخولهم النار وخلودهم فيها هم شر الخلق 5/ 577- 581 قولهم: إن الله اتخذ ولدا وهو قول عظيم تكاد تتفطر السماء وتنشق الأرض وتنهدّ الجبال من هوله وجسامته 3/ 417- 418 2- تعنّت أهل الكتاب: فرقوا الإيمان بين الرسل 1/ 614 ترك جدالهم إلا من أفرط منهم في المجادلة وظلم أن نقول لهم: آمنا بالقرآن والتوراة والإنجيل، وإلهنا واحد ونحن له مسلمون 4/ 236- 238 يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بالحق 2/ 176- 177 3- كتمان أهل الكتاب للحقيقة: لعنهم وغيرهم بسبب كتم الحق 1/ 187 عقوبة اليهود بالنار لأنهم كتموا ما أنزل الله 1/ 197 ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل 2/ 27 بعض فضائحهم 2/ 73 لَا يَمُوتُ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إِلَّا وَقَدْ آمن بالمسيح 1/ 616 4- شناعة عملهم وقولهم: بيان إفراط النصارى في تأليه المسيح، وتفريط اليهود في تكذيبه 2/ 103- 104 يخاصمون في دين الله بعد استجابة الناس له

5 - تهديد اليهود وتوعدهم:

حجتهم لا ثبات لها كالشيء الذي يزول 4/ 609 فرقوا دينهم وكانوا شيعا وأحزابا 2/ 208- 309 و 4/ 259 تفرق أهل الكتاب 4/ 608 اليهود أول أمة نزل عليهم الوعيد في قتل الأنفس 2/ 39 5- تهديد اليهود وتوعدهم: تذكيرهم بنعم الله حيث جعل منهم أنبياء وملوك أمرهم بدخول الأرض المقدسة 2/ 31- 32 غضب الله عليهم ضرب الذلة عليهم 1/ 426 ما حرم الله عليهم من البقر والغنم شحومها والحوايا وما اختلط بعظم عقوبة لهم على ظلمهم 2/ 197- 199 لعنهم على ألسنة الأنبياء 2/ 75- 76 تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2/ 75- 76 موالاة الكفار 2/ 75- 76 بسبب ظلمهم حرم الله عليهم الطيبات 1/ 618 تهديدهم بالعقوبة للمرة الثالثة إن عادوا إلى ما لا ينبغي 2/ 252- 254 إنكارهم ما أنزل الله على الرسل من كتب 2/ 158- 161 6- تجبر وتكبر اليهود: تحريفهم لتوراة 1/ 548 اللي بألسنتهم 1/ 550 قولهم على مريم بهتانا التبجّح بقتل المسيح، وهم إنما قتلوا شبهه 1/ 615- 617 أميون لا يعلمون التوراة إلا أماني كاذبة 1/ 122- 123 اعتداؤهم في السبت وانقسامهم في ذلك، وتعنتهم وتكلفهم 1/ 113- 114 عنادهم وتمنيهم الموت 1/ 134- 135 عادتهم في التعنّت والعجرفة 1/ 107 قلوبهم غلف وإيمانهم قليل عنادهم وعجرفتهم 1/ 131

7 - موقف اليهود من الرسل ومن المسلمين والرد عليهم:

7- موقف اليهود من الرسل ومن المسلمين والرد عليهم: تلبيسهم على المسلمين أمر دينهم، بالإيمان وجه النهار والكفر آخره 1/ 403 أمر الرسول بقتلهم لغدرهم، ونقضهم العهد 2/ 365- 367 النهي عن اتخاذهم بطانة 1/ 431 نفاقهم وحقدهم 1/ 432 تفضيلهم الكفار على المسلمين حسدا 1/ 552 قولهم: عزير ابن الله يشبهون قول الكفار 2/ 402- 403 و 405 لا يقاتلون المسلمين إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ جدر لجبنهم وحرصهم على الحياة 5/ 243 تظنهم جميعا، وقلوبهم متفرقة 5/ 244 كتمانهم شأن محمد خيانة في الدين 1/ 403 استهزاؤهم من المسلمين في صلاتهم 2/ 62 و 64 بعضهم آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام، وقد آمنوا بالقرآن، ومن قبله كانوا منقادين لله، فالله يعطيهم أجرهم مرتين بسبب صبرهم ودفعهم بالحسنة السيئة، وإنفاقهم أموالهم في الطاعات، وإعراضهم عن اللغو في الكلام 4/ 205- 206 جنوح بني قريظة للسلم 2/ 368- 369 8- شدة حقدهم: تعدد مساوئ اليهود، ومنها: شدة عداوتهم 2/ 77 قولهم: إنّ الله فقير وهم أغنياء 1/ 466 سؤالهم أن يروا الله جهرة 1/ 614 سمّاعون للكذب، ويحرفون الكلام 2/ 48 من تحريفهم ليّ ألسنتهم بالقرآن 1/ 407 تحريم كل ذي ظفر- ليس بمنفرج الأصابع مثل البعير والنعامة- عليهم 2/ 197- 199 ضرب الله لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا بالحمار الذي لا يدري ما يحمل على ظهره 5/ 268- 269 زعمهم الباطل بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وبيان كذبهم، وكشف زيفهم، لأنهم يحبون الحياة ويكرهون الموت 5/ 270

9 - حب اليهود للمال:

9- حب اليهود للمال: خيانتهم في المال، واستباحتهم أموال العرب 1/ 404- 406 بخلهم في بيان الحق للناس، وبخلهم في الإنفاق 1/ 464 بخلهم، وقولهم إن الله بخيل 2/ 66- 67 ذم الله لهم على بخلهم وأمرهم الناس بالبخل 1/ 539 كل الطعام كان حلا لهم إلا ما حرم إسرائيل على نفسه 1/ 413- 417 10- توعد الحق لهم: أورثهم الله التوراة فيها هدى وذكرى لأصحاب العقول 4/ 569 كيف ضرب الله عليهم المسكنة والذل من واقعهم التاريخي 1/ 109 خزيهم وذلهم وهوانهم 1/ 128 إجلاء بني النضير عن المدينة بعد غدرهم خروجهم من الحصون وتخريبهم لبيوتهم كان آخر إجلاء لأهل الكتاب في زمن عمر رضي الله عنه تركهم للطاعة وميلهم للكفار ونقضهم للعهد أموالهم كانت فيئا 5/ 232- 237 أسكن الله بني إسرائيل مكانا محمودا ورزقهم من الطيبات لم يقع منهم الخلاف إلا بعد أن علموا أحكام التوراة الله يحكم بينهم يوم القيامة 2/ 537 الوصايا العشر التي في التوراة 2/ 203 أمانيهم الكاذبة وإبطالها 1/ 598 قضاء الله في اليهود أنهم سيفسدون في الأرض مرتين في المرة الأولى بعث الله عليهم عبادا أولى بأس وفي المرة الثانية تسوء وجوههم وتظهر فيها الكآبة، ويسلط الله عليهم قوما يدخلون عليهم المسجد ويدمرون كل شيء 3/ 251- 254 11- النصارى: نصارى: معناه اللغوي واشتقاقه 1/ 110- 111 النصارى أقرب مودة للمؤمنين 2/ 77 و 79 فيضان أعينهم من الدمع إذا سمعوا القرآن 2/ 78

12 - كفر النصارى وادعاؤهم:

12- كفر النصارى وادعاؤهم: كفرهم: بادعاء الألوهية لعيسى وادعاء التثليث 2/ 73- 74 المسيح عليه السلام لا يملك النفع ولا الضر لنفسه ولا لغيره 2/ 75 أمروا بترك الغلو 2/ 75 اتخذ النصارى أحبارهم، ورهبانهم، والمسيح بن مريم، أربابا من دون الله 2/ 403- 406 قول النصارى: المسيح ابن الله 2/ 402- 403 يشابهون قول الكفار 2/ 402- 403 كثير من الأحبار والرهبان يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون الناس عن الإسلام 2/ 404 اختلافهم في أناجيلهم في عيسى 1/ 623- 624 حاصل ما في الأناجيل من سيرة عيسى 1/ 624

الأوامر والمستحبات

الأوامر والمستحبات 1- صلة الرحم. 2- الشكر لله. 3- الحمد. 4- الإحسان. 5- العمل الصالح. 6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 7- الصبر. 8- الحق. 9- التقوى. 10- الأمانة. 11- العدل. 12- السلام. 13- العهد. 14- الصلح. 15- السلم. 16- الأدب. 17- الحياء. 18- الأخوة. 19- المساواة. 20- الاستئذان. 21- غض البصر. 22- الطاعة. 23- التوبة. 24- بر الوالدين.

1 - صلة الرحم:

1- صلة الرحم: معنى صلة الرحم 2/ 93- 95 معنى الأرحام 1/ 481 صلة الرحم واجبة 1/ 481 2- الشكر لله: من يشكر الله فإنما يشكر لنفسه لأن النفع يرجع إليه 4/ 273- 274 الشكر للوالدين بعد شكر الله 4/ 273- 274 معناه اللغوي 1/ 101 تأذّن الله تعالى: الزيادة لمن شكر والعذاب الشديد لمن كفر 3/ 115 3- الحمد: اختصاص جميع أفراد الحمد بالله 4/ 357 له الحمد في الدنيا وفي الآخرة 4/ 357 4- الإحسان: أمر الله به 3/ 226- 227 معناه 3/ 226- 227 الإحسان إلى الوالدين 1/ 535 الإحسان إلى اليتامى والجيران 1/ 536 5- العمل الصالح: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فالعقاب عليه لا على غيره 4/ 597 تَرْغِيبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ وتعميم الوعد من الله بالأجر والثواب والحياة الطيبة 3/ 232- 233 عمل كل طائفة من إساءة أو إحسان لعامله لا يتجاوزه 5/ 8 مجازاة كل بعمله يوم القيامة 5/ 8 الفرق بين محاسن الأعمال ومساوئها 4/ 591 دفع السيئة بأحسن ما يمكن من الحسنات 4/ 591

6 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وجوبه 1/ 423- 425 معنى: عليكم أنفسكم 2/ 96- 97 تحذير العلماء من تركه، والاكتفاء بالكف عن المعاصي 2/ 64 7- الصبر: معناه اللغوي وشموله 1/ 92- 93 8- الحق: يقذف الله بالحق وهو الوحي على الباطل فيقضي عليه ويلغيه 4/ 383- 384 9- التقوى: معنى التقوى، ومن هم المتقون؟ 1/ 39- 40 معناها 1/ 422 من يتق الله- بفعل أوامره واجتناب نواهيه- ينصره ويرزقه 5/ 289- 291 10- الأمانة: معناها 4/ 355- 356 التزام الإنسان بها ليعذب الله العاصي ويثيب المطيع 4/ 355- 356 الأمر بتأدية الأمانات إلى أصحابها 1/ 555 11- العدل: أمر الله به 3/ 226 12- السلام: من آداب الدخول إلى البيوت السلام على الأهل 4/ 63 وجوب ردّ التحيّة 1/ 569 حكم الابتداء بالسلام 1/ 570 13- العهد: الأمر بالوفاء به 1/ 570

14 - الصلح:

14- الصلح: على المسلمين إذا اقتتل فريقان منهم أن يسعوا بالصلح بينهم، وأن يدعوهم لحكم الله، فإن بغت إحدى الطائفتين على الأخرى، كان على المسلمين قتالها حتى ترجع إلى أمر الله 5/ 74 و 77 وجوب الصلح بين المؤمنين لأنهم إخوة في الإيمان والدين 5/ 74 و 77 15- السلم: النهي عن الوهن، والبدء بدعوة الكفار إلى الصلح 5/ 50- 51 16- الأدب: أمر الله بحسن الأدب في المجلس، ومنه التفسح، والنهوض 5/ 225- 228 17- الحياء: محال على الله 1/ 67 18- الأخوة: المؤمنون إخوة في أصل الإيمان 5/ 74- 75 الإصلاح بين الأخوة واجب ويجلب الرحمة والمغفرة 5/ 74- 75 19- المساواة: خلق الله البشر من آدم وحواء فهم متساوون لاتصالهم بنسب واحد 5/ 79- 81 خلقهم الله شعوبا وقبائل للتعاون لا للتفاخر 5/ 79- 81 التفاضل بين الناس بالتقوى والعمل الصالح 5/ 79- 81 20- الاستئذان: استئذان الأطفال إذا بلغوا الحلم 4/ 60- 61 استئذان الخدم والعبيد ثلاث مرات: من قبل صلاة الفجر حين تضعون ثيابكم من الظهيرة من بعد صلاة العشاء 4/ 59- 60 ليس على النساء المسنّات إثم أن يضعن ثيابهن الخارجية مع العفة وترك الزينة 4/ 61 استئذان المؤمنين مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كانوا معه

من آداب الاستئذان:

الرسول صلّى الله عليه وسلم يأذن لمن يشاء 4/ 67- 68 من آداب الاستئذان: الاستئناس، وهو الاستئذان. السلام. الرجوع إن لم يجد أحدا، وإن قيل له: ارجع 4/ 23- 24 لا إثم في دخول بيوت غير مسكونة 4/ 23- 24 21- غضّ البصر: الأمر بغضّ البصر للمؤمنين والمؤمنات عما يحرم 4/ 26- 28 يعفى للناظر أول نظرة من غير قصد 4/ 26- 28 الأمر بحفظ الفروج 4/ 26- 28 عدم إبداء الزينة إلا على المحارم 4/ 26- 28 الضرب بالخمر على الجيوب 4/ 26- 28 22- الطاعة: الأمر بطاعة الله ورسوله 5/ 283 من يطع الله ورسوله طاعة صادقة لا ينقص من عمله شيئا 5/ 80 23- التوبة: معناها 1/ 82 توبة آدم 1/ 82 حكم توبة الزنديق 2/ 437 من يظلم نفسه ثم يستغفر الله 1/ 592 قبول التوبة من جميع الذنوب 1/ 592 24- بر الوالدين: الوصية بالإحسان بهما 5/ 22- 24 حمل الأم ووضعها تأكيد لوجوب الإحسان إليها 5/ 22- 24 الوصية بالإحسان إليهما 4/ 223 لا طاعة لهما في الإشراك بالله 4/ 223 الإحسان إليهما والشكر إليهما والطاعة لهما إلا في الإشراك بالله إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق 4/ 274- 276

الإحسان إليهما وبخاصة في الكبر 3/ 261 النهي عن الإساءة إليهما بالكلام 3/ 262 كفالتهما وضمّهما 3/ 263 الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة 3/ 264

الزواجر والمنهيات

الزواجر والمنهيّات 1- الكبر. 2- الكذب. 3- شهادة الزور. 4- الحسد. 5- الظلم. 6- المكر. 7- القتل. 8- الربا. 9- التبذير. 10- البخل. 11- الشح. 12- التكاثر. 13- الكنز. 14- الرشوة. 15- القذف. 16- الغيبة. 17- الخمر. 18- الميسر. 19- الزنا. 20- الرفث. 21- قتل الأولاد. 22- الفسق. 23- الترف. 24- الفاحشة. 25- السحر. 26- الفتنة. 27- الخداع. 28- الظن. 29- الفساد. 30- التجسّس. 31- التعصّب. 32- السوء. 33- اللهو. 34- التقليد. 35- الحلف. 36- النجوى. 37- المداهنة. 38- الاختلاف.

1 - الكبر:

1- الكبر: لا يحب الله كل مختال متكبر فخور 5/ 211 جزاء المتكبرين عن الإيمان في نار جهنم 3/ 193 النهي عن المرح والتكبر في المشي، التهكم بالمتكبر بأنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا 5/ 273- 275 2- الكذب: الكذب على البريء بهتان عظيم وإثم كبير 1/ 592- 593 الأفّاك كثير الكذب، إن علم شيئا من آيات الله اتخذها سخرية، يكذب بآيات الله استكبارا وكأنه لم يسمعها، بشارته بالعذاب المهين والأليم يوم القيامة 5/ 6- 7 3- شهادة الزور: النهي عنها 3/ 536 وتشمل الشرك وتحليل بعض الأنعام وتحريم بعضها 3/ 536 4- الحسد: الحسد الحرام 1/ 530 الغبطة 1/ 530 تمني زوال النعمة عن الغير، والاستعاذة منه ومن النفاثات (الساحرات) 5/ 639- 640 5- الظلم: الله لا يظلم ولا يعذب أحدا إلا بذنبه 4/ 597 أشد الظلم الكذب على الله بادعاء الشفعاء والشركاء 2/ 556- 557 الظالمون يستحقون اللعن 2/ 556- 557 تحذير الظالم 1/ 612 التهديد الشديد للظلمة لمصيرهم وانقلابهم للحساب والجزاء عند الله 4/ 140- 141 الله تعالى ليس بغافل عن الظالمين وإنما يؤخر عذابهم 3/ 137- 138 طلبهم أن يؤخر الله عذابهم، وبيان مكرهم وكيدهم 3/ 140- 141 الله لا يحب الظالمين 4/ 620

6 - المكر:

العقوبة على الظلمة الذين يظلمون الناس بغير الحق، ولهم عذاب أليم في الآخرة 4/ 620 الوعيد الشديد لكل ظالم بالعذاب 4/ 79 الظلمة يتولى بعضهم بعضا بكسبهم 2/ 185 الظالمون يتبعون أهواءهم 4/ 258 الظالمون في ضلال 4/ 271 لا أحد أظلم ممن يعرض عن آيات الله 4/ 294 يعذب الله المترفين الظالمين بعملهم 2/ 605- 607 الله لا يهلك القرى ظالما 2/ 605- 607 للظالمين عند ربهم عذاب أليم 4/ 611 الظالمون مشفقون وخائفون مما عملوا وهو واقع بهم 4/ 611 أعد الله وهيأ للظالمين نارا أحاط بهم سورها وسياجها 3/ 336 يغيث الله الظالمين بالماء كالزيت المغلي في جهنم 3/ 336 الشرك أعظم الظلم وأعد الله للظالمين العذاب 5/ 427- 428 عدم الركون للظلمة وبخاصة الحكام الظلمة 2/ 601- 603 6- المكر: مكر الكفار 4/ 408 لَا تَنْزِلُ عَاقِبَةُ السُّوءِ إِلَّا بِمَنْ أَسَاءَ ومكر 4/ 408 لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون 2/ 260 7- القتل: النهي عن قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق 3/ 268- 269 نهي ولي المقتول عن مجاوزة الحد في القصاص 3/ 268- 269 8- الربا: أكل الربا والعمل به من الكبائر 1/ 341 تعظيم ذنب الربا 1/ 340 معناه اللغوي والشرعي 1/ 338 ربا الجاهلية 1/ 339 عقوبة آكل الربا 1/ 339

9 - التبذير:

من كان مقيما على الربا ولم ينزع منه استتيب فإن أصر ضربت عنقه 3/ 343 ما آتيتم من مال ليزيد ويزكو في أموال الناس لا يبارك الله فيه ولا يزكو 4/ 262 ربا الجاهلية أضعاف مضاعفة 1/ 437 كفر من استحل الربا 1/ 437 ربا ثقيف في الجاهلية 1/ 438 معناه اللغوي والشرعي 1/ 338 ربا الجاهلية 1/ 338 عقوبة آكل الربا 1/ 339 9- التبذير: النهي عنه تحريما وهو الإنفاق المذموم والإنفاق الحرام 3/ 265 المبذرون إخوان الشياطين في كفرهم بالنعمة 3/ 265 10- البخل: ذم البخل وأهله 1/ 538 الله غني عن البخلاء 5/ 511 هم بخلاء في أنفسهم ويأمرون غيرهم بالبخل 5/ 211 11- الشح: هو أشد من البخل 5/ 240 الفلاح مترتب على عدم شح النفس 5/ 240 12- التكاثر: بالأموال والأولاد والتفاخر بكثرتها حتى أدرككم الموت 5/ 595- 598 الزجر والردع عن التكاثر 5/ 595- 598 13- الكنز: عقوبة الكنز للمال في جهنم 2/ 407- 408 الجزاء من جنس العمل 2/ 407- 408 14- الرشوة: الرشوة هي السحت 2/ 51- 52

15 - القذف:

15- القذف: حكم المحصنين من الرجال والمحصنات من النساء واحد في حد القذف، والقاذف ملعون في الدنيا والآخرة وله حد القذف في الدنيا، وعذاب جهنم في الآخرة 4/ 26- 27 تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم يوم القيامة 4/ 27 القذف للزوجة واتهامها بالزنا حكم الملاعنة 4/ 13 الملاعنة بين الزوجين أن يشهد أربع شهادات إنه من الصادقين، والخامسة أن عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين 4/ 13 يدفع الحد عن المرأة أن شهدت أربع شهادات إنه كاذب، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ صادقا 4/ 13 من قذف زوجته ولم يأت بأربعة شهداء فحده ثمانون جلدة 4/ 10- 12 كيف يتوب القاذف 4/ 12 لا تقبل شهادة القاذف إلا إذا تاب وأصلح 4/ 12 16- الغيبة: تحريم الغيبة وهي ذكر الرجل بما يكرهه 5/ 76- 78 تمثيل الغيبة بأكل الميتة 5/ 76- 78 ذم الغيبة والنميمة وشمولهما للهمز واللمز والإفساد 5/ 320 الهلاك في النار لكل همزة لمزة 5/ 601- 602 الهمزة الذي يغتاب الرجل في وجهه 5/ 601- 602 اللمزة الذي يغتاب الرجل من خلفه 5/ 601- 602 17- الخمر: سبب تحريمها 1/ 545- 546 و 2/ 86 النهي عن القرب من الصلاة في حالة السكر 1/ 540 معناها اللغوي 1/ 252 إثمها ومنافعها 1/ 253- 255 تأكيد تحريمها من وجوه 2/ 84 التدرج في تحريمها 2/ 85- 86 التشديد في تحريمها 2/ 85

18 - الميسر:

انعقاد الإجماع 2/ 85 المفاسد الدنيوية 2/ 85 وقت التحريم 2/ 86 السكر ما يسكر من الخمر ويستخرج من النخيل والعنب 3/ 212- 213 18- الميسر: تأكيد تحريمها من وجوه 4/ 84 الميسر هو القمار 2/ 86 معناه اللغوي 1/ 252 إثمه ومنافعه 1/ 253 سهام الميسر 1/ 255- 256 كيفية الميسر في الجاهلية 1/ 255- 256 الميسر هو الشطرنج 2/ 87 الميسر هو النرد 2/ 87 الميسر هو كل ما ألهى عن ذكر الله فهو ميسر 2/ 87 الميسر هو النردشير 2/ 87 19- الزنا: النهي عنه ووصفه بالقبح المجاوز للحد 3/ 267 حد الزاني غير المحصن 4/ 7 الحكمة من تقديم المرأة في قوله تعالى الزانية والزاني 4/ 7 حضور جماعة المسلمين إقامة الحد زيادة في التنكيل 4/ 7 تشنيع الزنا والتشنيع على أهله وأنه حرام على المؤمنين 4/ 7 حكم تزوج الرجل بامرأة زنى هو بها 4/ 7- 8 تحريم نكاح الزواني 4/ 7- 8 20- الرفث: معناه الجماع وقيل التكلم بالقبيح 1/ 214- 216 21- قتل الأولاد: النهي عن قتل الأولاد خوف الفقر 3/ 265

22 - الفسق:

22- الفسق: معناه لغة وشرعا 1/ 68 هل الفاسق مؤمن أو كافر 1/ 68 23- الترف: نتيجة الترف الهلاك والدمار 3/ 257- 258 المترفون والرؤساء أول المكذبين بالرسل 4/ 378- 379 افتخارهم بكثرة الأموال والأولاد 4/ 378- 379 الأموال والأولاد لا تقربهم من الله إذا لم يؤمنوا 4/ 379 24- الفاحشة: معناها اللغوي والشرعي 1/ 193 تحريم الفواحش الظاهر والباطن منها 2/ 229 طواف الكفار بالبيت عراة 2/ 227 الله لم يأمر بمعصية ولا رضيها 2/ 227 تعريف الفاحشة 2/ 226 تعم الفاحشة كل ما قبح من الذنوب، والنهي عن فعلها 2/ 226 25- السحر: معناه وحقيقته 1/ 139- 140 تأثيره في القلوب 1/ 141 لا يؤثر إلا فيما أذن الله بتأثيره فيه 1/ 141 26- الفتنة: الفتنة أشد من القتل 1/ 219- 220 المؤمن قد يبتلى في ماله ونفسه لتمييز الكاذب من الصادق 4/ 222 27- الخداع: مخادعة المنافقين لله وخداعه لهم 1/ 48 28- الظن: النهي عنه لأنه اتهام من غير سبب 5/ 76

29 - الفساد:

بعض الظن إثم 5/ 76 29- الفساد: فساد المنافقين وآثاره 1/ 50- 51 ظهوره في البر والبحر بسبب أعمال بني آدم 4/ 263 الفساد جزاء وعقاب لبعض أعمال الناس 4/ 263 30- التجسس: النهي عنه وهو البحث عن معايب الناس 5/ 76- 78 31- التعصب: ما يصيب المتعصب من عمى وصمم عن رؤية الحق 2/ 277 32- السوء: معناه اللغوي 1/ 193 33- اللهو: لهو الحديث: الغناء بعض الناس يشتري هذا اللهو ليصرف غيره عن ذكر الله ويتخذ آيات الله سخرية، كأن في أذنيه صمم عن سماع الحق والخير، له عذاب أليم عند الله 4/ 270- 272 34- التقليد: خطره على الأمة المسلمة 2/ 403- 404 الدعوة إلى الأخذ بالكتاب والسنة 2/ 403- 404 خطر التعصب المذهبي 2/ 403- 404 التحذير من التقليد الأعمى للمذاهب وترك اتباع الرسول 2/ 226 أخذ محض آراء الرجال وترك كتاب الله وسنة رسوله مع العقل 2/ 226 الزجر عن التقليد في المذاهب المخالفة للحق 2/ 226 ما يقع لأسراء التقليد 1/ 607 أئمة المذاهب برءاء من هذا التعصب 1/ 607 قبح التقليد 1/ 193- 194 الزجر عن التقليد 4/ 352

35 - الحلف:

35- الحلف: ذم الإكثار من الحلف 5/ 320- 323 النهي عن الحلف على ترك الإحسان إلى الأقارب المستحقين 4/ 26 الأمر بالعفو والصلح والإنفاق والتكفير عن اليمين لأن الله يحب العفو والمغفرة 2/ 26 36- النجوى: معناها، وعلم الله بها 5/ 223- 225 نهي اليهود والمنافقين عن النجوى لأنها معصية 5/ 223- 225 أمر المؤمنين بالتناجي بالخير والتقوى والصلاح 5/ 223- 225 النجوى بالإثم من الشيطان لا من غيره 5/ 223- 225 37- المداهنة: دهان أهل البدع 1/ 158 38- الاختلاف: النهي عن الاختلاف في الأصول 1/ 423 جوازه في الفروع 1/ 423

الزهد والتوبة

الزهد والتوبة 1- الرزق. 2- الطيبات. 3- الدنيا والآخرة. 4- التوبة.

1 - الرزق:

1- الرزق: يوسعه الله ويبسطه لمن يشاء، ويضيقه على من يشاء 4/ 606 يرزق الله العباد كيف يشاء 4/ 611 يوسعه لمن يشاء ويقبضه عمن يشاء 4/ 538 معنى الرزق 1/ 42 لو وسع الله لعباده الرزق لبغوا في الأرض، ولكنه ينزل الرزق لعباده بتقدير على حسب مشيئته 4/ 613 الله يرزق كل دابة الله يوسع في الرزق ويضيق حسب علمه وحكمته 4/ 243 قد يبسطه الله للكافر ويقتره على المؤمن ابتلاء 3/ 96- 97 2- الطيبات: اللباس يستر العورات لباس التقوى خير 2/ 225 الزينة والطيبات حلال من غير إسراف ولا مخيلة الطيبات للمؤمنين في الدنيا ويشاركهم فيها الكفار الطيبات خالصة للمؤمنين يوم القيامة الأمر بالزينة عند الحضور إلى المساجد للصلاة والطواف المال والبنون زينة الحياة الدنيا 3/ 345 أحل الله الزينة وجميع الطيبات من غير سرف ولا مخيلة 2/ 230 خلق الله من جنس الأنعام إناثا 4/ 604 الأنعام خلقها الله للركوب ومنها للأكل الأنعام هي من آيات الله 5/ 576 الأنعام هي: الإبل، والبقر والغنم ومن منافعها: فيها دفء، ومنها تأكلون، وزينة، وتحمل أثقالكم في السفر، وتركبونها 3/ 179- 181 3- الدنيا والآخرة: الدنيا دار لهو ولعب، والآخرة هي الدار الخالدة 4/ 244 بيان حقارة الدنيا، وأنها لعب، ولهو، وتفاخر، وتكاثر في الأموال والأولاد 5/ 210

4 - التوبة:

تمثيل الدنيا بالزرع الأخضر الذي يجف ويصبح حطاما متكسرا 5/ 210 الحياة الدنيا متاع الغرور لمن لم يعمل للآخرة 5/ 210 إيثار الدنيا وتحصيل منافعها، والاهتمام الزائد بها 5/ 517- 518 ثبوت هذا في صحف إبراهيم وموسى 5/ 517- 518 النهي عن الاغترار بالدنيا 4/ 282 من كان يريد الحياة الدنيا العاجلة عجل الله فيها ما يشاء لمن يريد وعاقبته جهنم 3/ 259- 260 و 263 ضرب الله مثلا للحياة الدنيا الزائلة الفانية بالنبات الذي يتكسر وتذهب به الرياح بعد اخضراره ونضجه 3/ 345 بيان حال الدنيا، وسرعة انقضائها 2/ 497- 501 تشبيه زوال الدنيا بما عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ فِي زَوَالِ رونقه وذهاب بهجته 2/ 497- 498 و 501 4- التوبة: التوبة الصادقة النصوح 5/ 302- 303 التوبة: هي مجرد عقد القلب، ولا يشترط اطّلاع الناس عليها 1/ 105- 106 بابها مفتوح 1/ 576 واجبة على المؤمنين 1/ 505 هل التوبة واجبة على الله؟ 1/ 505

مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن 1- الأرض. 2- السكينة. 3- السيئة. 4- السّلوى. 5- السّلم. 6- الختم. 7- الضعفاء. 8- الحرج. 9- الحديد. 10- النّعم. 11- الرياح. 12- الهجرة. 13- الهلال. 14- الوزر. 15- الولاية. 16- يأجوج ومأجوج. 17- اليسر والتيسير. 18- التراب. 19- الأسماء. 20- الطاعون. 21- العرب. 22- العمر. 23- الوسيلة. 24- الماعون. 25- المجادلة. 26- المصائب. 27- المطر. 28- المعاد. 29- الموالاة. 30- المن. 31- النحل. 32- الفرج. 33- فرعون. 34- الفيل. 35- القانت. 36- القرابة والقربى. 37- قريش. 38- الكعبة. 39- الكلمة الطيبة. 40- الكهانة والتنجيم. 41- المباهلة. 42- البحيرة. 43- البدعة. 44- الرأي. 45- الرؤيا. 46- الروح. 47- الضعفاء والكبراء. 48- الطاعون. 49- النعيم. 50- الجماعة. 51- الدعوة إلى الله. 52- الدابة. 53- الشرع. 54- الصابئون. 55- الطمس. 56- الطين. 57- العالم. 58- العسل. 59- العصا. 60- العقوبة. 61- العنكبوت. 62- العين. 63- الفاسق. 64- الفترة. 65- الفتنة. 66- الردة. 67- الخصاء. 68- الأهواء. 69- السمع. 4 70- الحق. 71- التابوت. 72- الأمة. 73- الأسباط. 74- الأموال. 75- أهل البدع. 76- الأنصار. 77- الاعتبار. 78- الأخذ بالظاهر. 79- التبني. 80- آل فرعون. 81- أكاذيب القصاص 82- إسرائيل. 83- الأساطير. 84- الآيات. 85- الحياة والموت. 86- السماء. 87- الوزن والكيل. 88- الولي. 89- النجوم. 90- الرياح. 91- العهد. 92- السائبة والحام.

1 - الأرض:

1- الأرض: خلقها متقدم على السماء ودخولها متأخر 1/ 72 بسطها كالفراش 5/ 109 خلق الله الأرض ضامة للأحياء على ظهرها، وللأموات في باطنها جعل فيها جبالا طوالا وجعل فيها ماء عذبا 5/ 432 2- السكينة: معناها اللغوي 1/ 306 ما ورد عن بني إسرائيل، ورد المؤلف عليهم 1/ 306- 307 3- السيئة: الْعَدْلَ فِي الِانْتِصَارِ هُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وجزاء السيئة بمثلها جائز 4/ 620 4- السّلوى: معناها وما هو؟ 1/ 103- 105 5- السّلم: وهو السلف المضمون إلى أجل مسمّى 1/ 349 6- الختم: كيفية الختم على القلوب والآذان والأبصار 1/ 47 7- الضعفاء: طلب الكفار طرد الضعفاء من المسلمين 2/ 138 8- الحرج: ما جعل الله في دين الإسلام من حرج ومشقة التكليف ضمن حدود الاستطاعة 3/ 558- 559 9- الحديد: خلقه الله فيه قوة تتخذ منه آلات للحرب، وفيه منافع للناس 5/ 213 10- النعم: عاقبة كفران النّعم الجوع والخوف

11 - الرياح:

عبادة الله تقتضي شكر نعمه 3/ 240- 241 11- الرياح: تصريفها حكم سبها الفرق بين الريح والرياح 1/ 190 12- الهجرة: الذين هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا 3/ 202 13- الهلال: معناه متى يطلق على القمر؟ الحكمة من زيادة الهلال ونقصانه 1/ 218 14- الوزر: لا تحمل نفس إثم غيرها، بل كل نفس تحمل وزرها، وَإِنْ تَدْعُ نَفْسٌ مُثْقَلَةٌ بِالذُّنُوبِ نَفْسًا أُخْرَى إلى حمل شيء من ذنوبها لا تحمل شَيْئًا وَلَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً لَهَا فِي النَّسَبِ 4/ 396 15- الولاية: قطعها بين المؤمنين والكافرين 2/ 395- 396 16- يأجوج ومأجوج: فتح السد الذي عليهم خروجهم من كل أكمة ومرتفع 3/ 505- 506 17- اليسر والتيسير: مقصد من مقاصد الرب في جميع أمور الدين 1/ 210 18- التراب: تحريم أكله، وينتفع به 1/ 72

19 - الأسماء:

19- الأسماء: معنى الأسماء التي علمها لآدم 1/ 77- 78 الاسم غير المسمى 1/ 21 20- الطاغوت: الذين يجتنبون عبادته لهم الثواب الجزيل وهو الجنة 4/ 523 معناه: الشيطان وكل ما عبد من دون الله 1/ 316- 317 21- العرب: كانوا يطوفون بالبيت عراة 2/ 225 لم يكن لهم كتب يدرسونها، ولم يرسل الله لهم قبل محمد من نذير 4/ 382 22- العمر: أسباب تطويل العمر وأسباب تقصيره 3/ 392- 393 و 395 من الناس من يطيل الله عمره ويغير خلقه ويجعله على عكس ما كان من القوة والطراوة 4/ 435 23- الوسيلة: معناها: القربة، ودرجة في الجنة 2/ 45 الوسيلة إلى الله تكون بالعمل الصالح 3/ 284 24- الماعون: الهلاك لمن يمنع الماعون، وهو ما يتعاوره الناس بينهم 5/ 611- 612 الهلاك لمانع الزكاة 5/ 611- 612 25- المجادلة: هي خولة بنت ثعلبة سمع الله جدالها لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في زوجها الذي ظاهرها وهي تشتكي إلى الله 5/ 217- 218 26- المصائب: هي الجوائح والكوارث، وهي مكتوبة في اللوح المحفوظ 5/ 210- 211

27 - المطر:

اختبار الناس بها بما آتاهم حتى لا يفرحوا ولا يحزنوا على ما فاتهم 5/ 212 المصيبة: الصبر والاسترجاع عند المصيبة 1/ 185 27- المطر: من أين ينزل المطر؟ 1/ 61 28- المعاد: شبهة الكفارة جفاف العظام وتناثرها 3/ 280 الرد عليهم بأن الله قادر على إعادتهم لأنه هو الفاطر المبدع 3/ 281 29- الموالاة: ختم الله بها سورة الأنفال ليعلم كل فريق وليه المهاجرون والأنصار أولياء بعض وأولو الأرحام بعضهم أولى بعض 2/ 375- 377 30- المنّ: معناه، وما هو؟ 1/ 103- 105 31- النحل: إلهامها أن تصنع بيوتها في الجبال وفي الشجر والعرائش، وأن تأكل من الثمرات لتصنع العسل 3/ 213- 214 32- الفرح: بفضل ورحمة من الله يكون الفرح لا بحطام الدنيا 2/ 516 33- فرعون: هو اسم، وهل له تفسير؟ 1/ 98 34- الفيل: أصحاب الفيل جاءوا لهدم الكعبة 5/ 604- 606 تضليل مكرهم وإرسال الطيور عليهم ترميهم بحجارة من نار حتى أفنتهم وجعلتهم كورق الزرع المأكول 5/ 604- 606

35 - القانت:

35- القانت: هو العابد الطائع الساجد القائم الذي يخاف الله ويرجوه 4/ 520 36- القرابة: الأمر بالإنفاق عليهم بما تبلغ إليه القدرة في حالة الإعراض عنهم لفقد رزق فليلن القول وليعتذر بالوعد الحسن 3/ 264- 265 القربى: هم بنو هاشم وبنو المطلب 2/ 354 37- قريش: امتنان الله على قريش لخروجهم للتجارة صيفا وشتاء دون أن يغار عليهم أمرهم بعبادة رب الكعبة الذي أطعمهم وآمنهم 5/ 608- 609 38- الكعبة: أول بيت وضع للناس للعبادة أول من بناها فضلها 1/ 415 39- الكلمة: الكلمة الطيبة ومثلها والكلمة الخبيثة ومثلها 3/ 127- 129 40- الكهانة والتنجيم: دفع أباطيل الكهان والمنجمين 2/ 140 41- المباهلة: هي الملاعنة 1/ 399- 400 42- البحيرة: معناها، وحكم الجاهلية فيها 2/ 94 معنى البحيرة والسائبة والوصيلة والحام 2/ 95 43- البدعة: خطر المبتدعين في الدين 1/ 179 خطر المبتدعين على من كَانَ غَيْرَ رَاسِخِ الْقَدَمِ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ والسنة 2/ 146

44 - الرأي:

عدم الجلوس مع المبتدعة لأنهم يحرفون كلام الله 2/ 146 44- الرأي: فساده ورده 1/ 75- 76 الترخيص للمجتهد بالرأي عند عدم الدليل 3/ 272 45- الرؤيا الصالحة: هي البشرى في الحياة الدنيا 2/ 521 46- الروح: السؤال عن حقيقة الروح الروح من جنس ما استأثر الله بعلمه أقوال المختلفين في الروح 3/ 303- 304 47- الضعفاء والكبراء: يبرزون لله جميعا يوم القيامة 3/ 122- 126 الحوار بينهم، وندم الأتباع، وخيبة أملهم في كبرائهم وقادتهم 3/ 122- 126 48- الطاعون: النهي عن الفرار من الطاعون 1/ 301 49- النعيم: معناه 5/ 597 السؤال عنه يوم القيامة 5/ 597 50- الجماعة: الفرقة الناجية، والنهي عن الفرقة 1/ 425 أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَاهُمْ عَنْ الِاخْتِلَافِ والفرقة 2/ 149 51- الدعوة إلى الله: الداعي إلى الحق الناهي عن الباطل إذا خشي ما هو أشد من انتهاك المحرمات فإنه لا تأثير إلا بالسيف 2/ 171

52 - الدابة:

52- الدابة: خروجها، وكلامها موضع خروجها 4/ 174- 176 53- الشرع: شرع من قبلنا هل يلزمنا؟ 2/ 53 54- الصابئون: معناها اللغوي 1/ 112 55- الطمس: معنى طمس الأعين والوجوه 1/ 549- 550 56- الطين: تحريم أكله 1/ 72 57- العالم: معنى العالم 1/ 96- 97 58- العسل: مختلف ألوانه 3/ 213- 214 فيه شفاء للناس 59- العصا: فوائدها ومنافعها 3/ 430- 432 60- العقوبة: المماثلة في رد العقوبة، والاعتداء على الظالم 3/ 551 61- العنكبوت: تشبيه الذين اتخذوا أولياء من دون الله بالعنكبوت وبيته. أضعف البيوت بيت العنكبوت 4/ 235

62 - العين:

62- العين: إنكار المعتزلة لتأثير العين العين حق كما ثبت في الأحاديث الصحيحة 3/ 49 63- الفاسق: التثبت من خبره حتى لا يقع خطأ بسبب الجهل وعدم العلم 5/ 71- 73 64- الفترة: معناها مدة انقطاع الرسل قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم 2/ 30- 31 65- الفتنة: اتقاء الفتنة التي قد تصيب الصالح والطالح 2/ 342 العذاب قد يصيب من لم يباشر أسبابه لأن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر 2/ 241 66- الردة: معناها حكمها إحباط العمل 1/ 250 67- الخصاء: الترخيص به في البهائم 1/ 596 خصاء بني آدم حرام 1/ 596 68- الأهواء: النهي عن مجالسة أهل الأهواء 2/ 150 69- السمع: الأمر بالسماع معناه: الطاعة والقبول 1/ 133- 134 70- الحق: الرسول والقرآن حق من عند الله 3/ 585

71 - التابوت:

الكفار يكرهون الحق، ولو أصبح الحق تابعا لأهوائهم لفسد الكون 3/ 585 71- التابوت: ما فيه من بقية مما ترك آل موسى 1/ 307 معناه 1/ 303 ما يحتويه التابوت 1/ 304- 306 72- الأمة: ظهور الأمة الإسلامية إلى يوم القيامة 1/ 397 73- الأسباط: معناه واشتقاقه 1/ 170 74- الأموال: الأموال والأولاد فتنة للمؤمنين 2/ 344- 345 75- أهل البدع: موقفهم من الأدلة وما يظهر في وجوههم من سطوة وبطش تعصبا لبدعهم وأهوائهم 3/ 556 76- الأنصار: حبهم لمن هاجر وإيثارهم لهم ولو كان بهم للمال حاجة وفقر 5/ 239 و 241 77- الاعتبار: السير في الأرض للنظر والاعتبار بعاقبة الأمم السابقة التي كفرت، وأخذهم الله بذنوبهم 4/ 559 78- الميزان: الأخذ بالظاهر وعدم التأويل في الوزن والميزان 2/ 216- 217 79- التبني: يجب نسب الموالي للآباء ودعاؤهم لآبائهم وإن لم نعلم آباءهم فإخواننا في الدين 4/ 301

80 - آل فرعون:

80- آل فرعون: عذّبهم الله بذنوبهم وتكذيبهم بآيات الله أغرقهم فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ 2/ 363 81- أكاذيب القصاص: تكذيب قصة عوج بن عنق وكل ما يشبهها واستبعادها من كتب التفسير 2/ 33 82- إسرائيل: معناه وضبطه 1/ 87 83- التهلكة: معناها اقتحام الرجل في الحرب ترك النفقة في سبيل مخافة الفقر الإقامة في الأموال وترك الغزو 1/ 222- 223 83- الأساطير: قول الكفار عن القرآن أساطير 2/ 123- 125 84- الآيات: يرسلها الله تخويفا للناس 3/ 285 85- الحياة والموت: كم مرة أحيا الله الناس، وكم مرة أماتهم؟ 1/ 70- 71 86- السماء: إحكام رفعها بقوة 5/ 109 وصف السماوات وكيف بدأ خلقها 1/ 73- 74 87- الوزن والكيل: الوفاء بالوزن والكيل لما فيه من الخير وحسن العاقبة 3/ 271 الهلاك للمطففين في الكيل والميزان معنى المطففين

88 - الولي:

تهويل ما فعلوه وتجاهلهم سؤالهم يوم القيامة عما فعلوه 5/ 482- 486 88- الولي: اتخاذ المنافقين واليهود أولياء 2/ 60- 61 النهي عن اتخاذ اليهود والأنصار أولياء 2/ 57- 58 المؤمنون وليهم الله ورسوله والمؤمنون 2/ 59 الوعد لمن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا بالغلبة والنصر 2/ 60 89- النجوم: من فوائدها ومنافعها الاهتداء بها في الليل وحفظا من كل شيطان مارد ورجوما للشياطين 2/ 632 النهي عن النظر إليها إذا كان لغير الاهتداء والتفكير والاعتبار فوائدها مراعاتها المطلوبة النهي عن النظر إليها 2/ 166 90- الرياح: إرسالها متتابعة، شديدة الهبوب، وتنشر السحاب نشرا 5/ 429- 430 و 433 91- العهد: الوفاء بالعهد والسؤال عنه يوم القيامة 3/ 271 92- السائبة والحام: معناها- حكم الجاهلية فيها 2/ 93- 94

§1/1